المقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله، فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"تسليماً كثيراً. وبعد:
فقد كانت المرأة قبل الإسلام مهانة عند العرب وغيرهم، حيث كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، فكان الواحد منهم إذا بشر بالأنثى ضاقت به الأرض بما رحبت، وساءت حاله، وأظلم وجهه، وأصابه الغم والكئابة، وتجرع الغيظ من سوء ما بشر به.
فكان بين أمرين: إما أن يبقيها، ويربيها على هوان وعار وكره على إمساكها.
وإما أن يئدها بأن يحفر لها في الأرض حفرة، فيدفنها فيها حية. والعياذ بالله.
قال الله تعالى حكاية عن حالهم قبل الإسلام:
[وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَت. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (الشمس:8_9).
وقال سبحانه في سورة النحل رقم 58_59:
[وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ].
وقال جل وعلا في سورة الزخرف رقم 17:
[وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ].
ولما جاء الإسلام ببعثة الله تعالى البشيرَ النذيرَ، نبينا محمداً"، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى أكرم المرأة، ورفع قدرها وشأنها، وحفظ لها حقوقها وكرامتها، وحرس شرفها وعفتها وفضيلتها أماً وجدة وبنتاً وأختاً وخالة، وعمة، وجارة.
وأثاب من عالها ورباها وأدبها أدباً حسناً الجنة، ووعده بأن تكون له ستراً من النار.(1/1)
إلا وللأسف الشديد أن الجاهلية نحو المرأة عادت منذ قرنين ونصف تقريباً بلباس آخر، ألا وهو الانحراف عن الآداب الإسلامية، والتعاليم الربانية، والأخلاق النبوية، إلى جاهلية التبرج والسفور، وهدم الشرف والعفاف والفضيلة، وهتك الحرمات والاختلاط بالرجال الأجانب بلا حياء من الله، ولا حياء من الناس.
فأصبحت مرذولة مبتذلة بين جياع الذئاب، لا تقدر على رد لامس، ولا ولي لها ولا حارس.
وهذا من المصائب العظمى، والطوام الكبرى، والقواصم التي تُميت الغيرةَ على المحارم وتضعف المسلمين، وتهدم الدين وتنسي الله والدار الآخرة.
ولما رأى الغيورون من علماء المسلمين ما حل بالمسلمين من هذه الكوارث والنكبات، بادروا ببذل النصائح للمسلمين عامتهم وولاة أمرهم، يحذرونهم من مغبتها، وشرورها وأن لا يخدعوا بما أُلبست من زخارف الشبه والتلبيس والتدليس، ويحثونهم على وجوب التمسك بالدين والعض عليه بالنواجذ، وعدم الانجراف لهذه المبادئ الهدامة والجهالات الطامة، والتي يريد معتنقوها القضاء على دين محمد الخليل عليه أفضل الصلاة والتسليم.
فاستعملوا أنواع البيان بالتحذير من هذا الداء الوبيل، وعلة العليل.
فمنهم المبين بلسانه، ومنهم المبين بقلمه، ومنهم المبين بلسانه وقلمه معاً، ومنهم من أفرد هذا الموضوع بمؤلف خاص، وتتابعت المؤلفات في ذلك حتى بلغ ما وقفت عليه منها ما يقارب ثلاثمائة مؤلف.
إلا أنه رغم هذا كله لا زال تيار الجهالة ينخر في جسم الأمة الإسلامية، ويسري بسرعة سريان النار في الهشيم، وأنذار الخطر قد وصل النهاية.
والناس أمام هذه الأعاصير والتيارات أقسام:
1_ قسم همج رعاع أتباع كل ناعق، لا يبالون بما أصيبوا في دينهم، لا هم لأحدهم إلا مأكله ومشربه، ولسان حالهم يصدق عليه المثل الشعبي:
=خل الدرعى ترعى+ و =خل الجحر لبو طويلة+ و =يشقى بها من يبقى بها+.(1/2)
2_ وقسم يتقطع أسىً وأسفاً وحزناً وغماً مما يراه ويشاهده من تبرج النساء وسفورهن، واختلاطهن بالرجال الأجانب في مجامعهم وأسواقهم، وأعمالهم.
3_ وقسم متعالم يدعو إلى التبرج والسفور، يحب من أعماق قلبه أن يضارع المسلمون الكفارَ بكل ما كانوا عليه من الرذائل والفساد، والانحلال والانحطاط الخلقي، وإطلاق المرأة من القيود الإسلامية.
فتراه يجادل بالباطل ليدحض الحق، فتارة تجده يقول مبرراً لدعواه: وجه المرأة ليس بعورة، فيجوز كشفه عند الجمهور، وتارة يقول: فيه خلاف، والمسائل الخلافية لا إنكار فيها، وأخرى يحتج لدعواه بأحاديث صحيحة غير صريحة وبأحاديث باطلة لا تصح ولا تصلح للاحتجاج.
وحين رأيت الأمر وصل إلى هذه الحال المزرية أحببت الإطلاع على أقوال أهل العلم، وأدلتهم، ولما نظرت ما ورد في ذلك من آراء وأقوال وأدلة. وعند التحقيق والتدقيق، وتحري الصواب وجدت تبرج النساء، وسفورهن عن وجوههن بين الرجال الأجانب، واختلاطهن بهم منكراً من القول وزوراً، وأن القول بمنعه، وحظره هو الصحيح، بل الصواب الذي لا يجوز غيره؛ وذلك لتظاهر أدلة الكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار الصحيح على منعه.
وسميته: =الاستيعاب فيما قيل في الحجاب+.
وتتميماً للفائدة أضفت إليه ما ورد من الأحاديث في فضل تربية البنات، وثواب من عالهن، والأحاديث الواردة في عدم تزويجهن إلا برضاهن، بالاستئمار، والاستئذان.
والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه مصيباً لشرعه، نافعاً لي ولمن بلغه من المسلمين، إنه سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سار على نهجه.
وكتبه فريح بن صالح البهلال
في 30/7/1425هـ
فصل في تاريخ بداية السفور والتبرج
اعلم _هداك الله الصراط المستقيم_ أنه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب ستر وجوه النساء عن الرجال الأجانب، وتحريم خروجهن سافرات الوجوه أمام الرجال، واختلاطهن بهم.(1/3)
ابتداءً من نزول آيات الحجاب على نبينا محمد"إلى أن خيم الاستعمار الأوربي على بعض دول الإسلام في أوائل القرن الثالث عشر هجري تقريباً، ففرض على هذه المستعمرات تقاليده وعاداته السيئة من التبرج والسفور، وترك الحجاب، فاستجاب له القوم، فترك النساء الحجاب، وخرجن سافرات الوجوه بين الرجال الأجانب، واختلطن بهم في مجتمعاتهم وأسواقهم وأعمالهم ومدارسهم.
يقول العلامة أبو الأعلى المودودي عليه رحمة الله في بداية سفور النساء عن وجوههن، وتبرجهن، وأسباب تخليهن عن الحجاب في كتابه =الحجاب+ ص38:
=في أواخر القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر، فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي، وبينا المسلمون في هجود الكرى، لم يستيقظوا بعدُ كل اليقظة، جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر، حتى شرّق العالم الإسلامي وغرب، وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيداً للغرب الأوربي، وخولاً له. والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه، ورهبة باسه ونجدته... إلى أن قال ص40:(1/4)
=وأصبح المسلمون بانفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام القداماء بين التحقير أو التعيير من وقائع التاريخ الإسلامي، وأحكام الشرع الإلهي، وآثار الكتاب والسنة، وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السُّبَّة عن أنفسهم... أعترض أهل الغرب على ما عندهم من الجهاد. فقال: هؤلاء: ما لنا وللجهاد يا سادة: إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية، واعترضوا على الرق. فقال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلاً. وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات. فجاء هؤلاء ينسخون آيات القرآن، ويحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال: أولئك: لا بد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي الحياة، فوافقهم هؤلاء بقولهم: هذا هو الذي يعلمه ديننا أيضاً، وطعن القوم في قوانين الزواج والطلاق في الإسلام. فقامت طائفة من المسلمين تعالجها بالإصلاح والتعديل. ولما عابوا الإسلام بأنه عدو للفنون الجميلة استدرك هؤلاء قائلين: لا، بل ما زال الإسلام مذ كان يشرف على الرقص والموسيقى والتصوير ونحت التماثيل. ثم قال ص41:
نشوء مسألة الحجاب:(1/5)
=كان هذا الدور أخبث الأدوار وأخزاها في تاريخ المسلمين، ففي هذا العصر نشأت مسألة الحجاب،.. نشأت هذه المسألة في المسلمين؛ لكون الغرب قد نظر إلى الحجاب والنقاب والحرم بعين المقت والازدراء، وصوره أقبح تصوير، وأشنعه فيما كتب ونشر، وعَدَّ =حبس(1) المرأة+ من أبرز عيوب الإسلام، وأنَّى كان للمسلمين أن يغضوا على هذه النقيصة التي أخذها الغرب عليهم فيما أخذ. ففعلوا في هذه المسألة _الحجاب_ مثل ما فعلوا أيضاً في مسائل الجهاد والرق وتعدد الزوجات وما شاكلها من المسائل، فعمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما، وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها، لعلهم يجدون في أثنائها ومطاويها ما يعينهم على غسل هذا العار الذميم عن أنفسهم، فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدي وجهها ويديها، وتخرج كذلك من بيتها لحوائجها، ويعلم منها أيضاً أن المرأة يجوز أن تشهد الحروب لسقي المجاهدين، ومداواة المرضى.
ثم وجدوا في تلك الأقوال إذناً بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة، وجلوسها للتعلم والتعليم، فكفاهم هذا القدر من المعلومات؛ لأن يَدَّعوا أن الإسلام قد أعطى المرأة حرية مطلقة، وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء. اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين المحافظين، ويخلو من أحكامه القرآن والحديث، وإنما القرآن، والسنة يعلمان الحياء والخفر على سبيل التعليم الخلقي، وليس فيهما قانون أو ضابط يقيد حركة المرأة، وتنقلها بقيد ما+... إلى أن قال ص43:
__________
(1) لو عبر عن الحبس بلفظ =لزوم المرأة+ لكان أولى.(1/6)
=وذلك أن رجال الإصلاح من المسلمين لما رأو المرأة الأوربية، وما هي عليه من زينة وتَجَمُّل وحرية في الحركة والجولة ونشاط زائد في الاجتماع الغربي.. لما رأو كل هذا بعيون مسحورة وعقول مندهشة تَمنَّوا بدافع الطبيعة أن يجدوا مثل ذلك في نسائهم أيضاً حتى يجاري تمدُّنُهم تمدُّنَ الغرب. ثم أثرت فيهم النظريات الجديدة من حرية المرأة وتعليم الإناث، ومساواة الصنفين... التي كانت تنصبُّ عليهم كالوابل المدرار بلغة قوية منطقية، وفي طبع أنيق جذاب، حتى أماتت هذه الكتب والمنشورات الغربية بقوة دعايتُها ملكةَ النقد والجرحَ فيهم، فاستقر في سويداء قلوبهم أنه لا بد لكل من يرغب أن يُعَدَّ من =المستنيرين الجُدُد+، ويدفع عن نفسه تهمة =الرجعية (الدتيانوسية) أن يؤمن بتلك النظريات إيمانه بالغيب، ويؤيدها، ويحامي عنها فيما يكتب، ويخطب، ثم يروجها في الحياة العملية حسب ما أتي من همة، وجرءة.
كان هؤلاء تكاد تسوح بهم الأرض من فرط الخجل حينما يرون الغربيين يتهكمون بنسائهم المتنقبات المستورات في اللباس العادي، وينبذونهن بـ=الجنائز المكفنة المتحركة+ وإلى متى، يا ترى يطيق القوم الصبر على هذه الوخزات؟!.. لذلك استعدوا آخر الأمر_ بالرضا أو بالكره_ لأن يقوموا فيدفعوا عن أنفسهم هذا العار المخزي+ اهـ.
يوضح هذا الفصل الآتي:
فصل في ضرر الابتعاث(1/7)
وقد آزر الاستعمارَ الغربيَ لبلاد المسلمين الابتعاث للطلاب، والطالبات في بلاد الكفر والإلحاد للدراسة، فنشأ عنه دعاة السفور في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، الذين وقفوا حياتهم وجدوا واجتهدوا في هدم الإسلام، وذلك أنهم رضعوا ألبان الغرب والشرق، فغسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر، وترعرعوا في كنف الإلحاد والعلمنة، فنسوا الله والدار الآخرة، فلما رجعوا إلى بلادهم، وقد أشربوا بقلوبهم أخلاق العَلْمانية والملاحدة، وقد حملوا معهم الشهادات التي تخولهم تسنم أعلى المراتب في دولهم، واعتلوا المناصب العالية، وترأسوا على أكبر الدوائر الحكومية من مؤسسات ووزارات بدأوا يخططون ويدرسون كيفية تنفيذ ما علق في أذهانهم من الأفكار المسمومة والعقائد الهدامة وقد عرفوا البوابة والجسر الذين يلجون منهما لهدم الإسلام، وهو خلع حياء نساء المسلمين بكشف وجوههن ومشاركتهن للرجال الأجانب في أعمالهم خارج بيوتهن متبرجات سافرات الوجوه متمردات على تعاليم الإسلام.
هدفهم من ذلك أن تكون المرأة سلعة ومتعة كلصاقة الذباب، يضعون صورها في إعلانات السينما وأدوات الزينة والتجميل، والعطور وعلى أغلفة الكتب، والمجلات، ويوظفونها في مكاتب التجارة، والسياحة، والفنادق؛ لتجذب لهم الزبائن كما تجذب اللصاقةُ الذبابَ، ولهذا يقال: =السفور مطية الفجور+.
ولا أخالك تصدقني في هذه الدعوى حتى يبلغك شيء من عبارات أسيادهم الماسونين، والكفرة الملاحدة والعلمانيين ويبلغك من عباراتهم هم في الدعوة إلى السفور والانحلال الخلقي، والانحطاط المدمر.
فإذا رأيت أن تتحقق من ذلك فأمثل لك بعدة أمثلة من عبارات القوم، فأقول: قال غلاستون رئيس وزراء انكلترا المتعصب: =لا نقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويغطى به القرآن، وإتيان المسكرات والمخدرات، وإتيان الفواحش، والمنكرات، فتختل قوى الإسلام+(1).
__________
(1) المرأة ومكانتها في الإسلام لأحمد الحصين ص12.(1/8)
وفي رواية قال بعد أن وقف في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البرلماني _وقد أمسك بيمينه القرآن المجيد، وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً:
=إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولا بد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر:
أولهما: هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق، وقال: وهذه الكعبة+(1).
وقال أيضاً: =ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان+(2).
وقال محمد طلعت حرب باشا في كتابه =المرأة والحجاب+:
=إن رفع الحجاب، والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا من قديم الزمان لغاية في النفس، يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا بالعالم الإسلامي+(3).
وقال الحاكم الفرنسي في الجزائر بعد مرور مائة سنة على استعمار الجزائر:
=إنا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل هذا القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم+ اهـ(4)
وقامت فرنسا _من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر _بتجربة عملية، فتم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً.
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود، هيأت لهن حفلة تخرج رائعة، دعي إليها الوزراء، والمفكرون والصحافيون..
ولما ابتدأت الحفلة، فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات، يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري.. فثارت ثائرة الصحف الفرنسية، وتساءلت: =ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟!+.
__________
(1) عودة الحجاب للمقدم (1/51).
(2) عودة الحجاب (1/51).
(3) المرأة ومكانتها في الإسلام ص232.
(4) عودة الحجاب (1/50).(1/9)
أجاب =لا كوست+ وزير المستعمرات الفرنسي: =وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!+(1).
وقال بوله الماسوني سنة 1879م: =تأكدوا تماماً أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة، فتمشي في صفوفنا+(2).
وقال أصحاب مؤتمر بولونيا سنة 1899م: =يجب علينا أن نكسب المرأة، فأيُّ يوم تمد إلينا يدها نفوز بالمرام+ اهـ(3).
وقال الرئيس =بورقيبة+: لا بد أن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا، ونخلصها من قيود الدين+
وقال راغبون في كتابه =رسوم إدخال النساء في الماسونية+: إن العفة المطلقة مرذولة عند الماسونيين والماسونيات؛ لأنها ضد ميل الطبيعة، ومن ثم تبطل كونها فضيلة+(4).
الماسونية
الماسونية هي القوة الخفية التي تدير زمام العالم من الناحية السياسية والعسكرية والثقافية، وهي من أخبث ما ابتدعته اليهودية العالمية بمعاونة الاستعمار الخبيث، والماسونية جمعية سرية مخربة إرهابية ذات مناهج وأعراض وطقوس.
ورموز الماسون تتكون من كلمتين فرنسيتين =فرانك+ ومعناها الصادق أو الحر =وماسون+ ومعناها البناء.
وعلى هذا يطلقون عليها اسم =جمعيات البناءين الأحرار+ أو بناءون صادقون، أو البناية الحرة.
ودين الماسونية: ليس لها دين إنما هي إلحادية تحارب الأديان، وهي تراه عدوها الأول وسرطانها، وتخاف منه أشد الخوف، وتريد أن تقضي عليه بأي وسيلة.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا×:
=هؤلاء الماسون رأوا من الحكمة ألا يفرقوا بين الأديان في الدخول في جمعيتهم بدعوى أنها لا تمس الأديان، وإن كانت غايتها هدم جميع الأديان+ اهـ(5).
صلة الحركة النسائية بالاستعمار
يقول الشيخ الحصين في =المرأة ومكانتها في الإسلام+ ص231:
__________
(1) عودة الحجاب (1/133).
(2) المرأة ومكانتها في الإسلام ص225.
(3) المرأة ومكانتها في الإسلام ص225.
(4) المرأة ومكانتها في الإسلام ص225_226.
(5) المرأة ومكانتها في الإسلام ص219_220_222.(1/10)
=منذ أن احتل الإنجليز مصر، وهم يعملون على أضعافها بشتى الوسائل. تارة بمحاربة اللغة العربية، وأخرى بنشر الآفات الاجتماعية الهدامة، وثالثة بخلق الأحزاب السياسية التي تفرق كلمة الأمة، ورابعة بزلزلة دعائم النظام الإسلامي بمهاجمة أوضاعه المتينة في تكوين الأسرة، وما يتصل بها من أحوال شخصية.
وهكذا.. كانت الدعوة إلى هتك الحجاب.. وتقييد الطلاق، وتعدد الزوجات هي إحدى النغمات التي عني المستعمر بترديدها كوسيلة لإضعاف قوة المسلمين، والقضاء على سر تفوقهم وشدة بأسهم أو بمعنى أصح للقضاء على البقية الباقية من الآداب والتقاليد، التي تربطهم بالإسلام، وتكفل لهم الوقاية من الفناء في عدوهم، والاندماج الكلي في حضارته، والتشبه التام بعاداته وآدابه+اهـ.(1/11)
=إن بداية السفور والتبرج الجاهلي الذي عليه جل نساء المؤمنين اليوم في ديار المسلمين إنما بدأ من =كشف الوجه+ بإزالة البرقع والنقاب عنه حتى بات وأصبح، وأضحى، وظل وأمسى من المعلوم بالضرورة أن من كشفت من الفتيات عن وجهها اليوم ستكشف غداً حتماً عن رأسها وصدرها وساقيها وحتى عن فخذيها، ولا يجادل في هذا، أو لا يسلمه إلا مغرور مخدوع أو مضلِّل مُغَرَر مخادع يعمل لحساب الماسونية العالمية التي جعلت من أهدافها القضاء على الإسلام عقيدة وبيتاً ومجتمعاً ودولة. وبناءً على هذا، فإن اليد التي تحاول أن تحسر الحجاب عن وجه فتياتنا اليوم ينبغي الضرب عليها، وأن اللسان الذي يدعو فتياتنا إلى نزع الحجاب بإسقاط ملاءتها ينبغي أن يقطع... إنهم اليوم لا يطلبون منك أكثر من كشف وجهك، وبحجة أن كشف الوجه مختلف فيه بين أهل العلم في كونه الزينة التي يجب أن تخفيها المسلمة، أو من غير الزينة مما لا يجب عليها اخفاؤها، غير أنهم يعلمون علم اليقين بحكم التجارب الطويلة العديدة أنك يوم تكشفين عن وجهك، ويذهب ماؤه، وحياؤه ستكشفين لهم عما عدا ذلك+. قاله أبو بكر الجزائري (1).
عبارات دعاة السفور، أذناب الاستعمار والابتعاث المنحوس الذين تربوا في أحضان الغرب والشرق
البذرة الأولى:
=إن المتتبع لتاريخ ما يسمى بحركة =تحرير المرأة+ في مصر، يجد أن جذور هذه الحركة تمتد إلى عهد محمد علي باشا والي مصر، حينما بعث المبعوثين إلى فرنسا؛ ليتلقوا هناك الخبرات والمهارات الفنية، ثم يحملوها معهم إلى مصر، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل رجع المبعوثون من فرنسا حاملين تيارات فكرية مادية دخيلة على دينهم بعد أن بهرتهم رهبانية العلم المادي، وتعبدهم سلطان العقل. لقد عاد أولئك المبعوثون، يحتلون مراكز الصدارة والتوجيه في مختلف الميادين السياسية والتربوية+(2).
__________
(1) انظر الردود الخمسة الجلية لأحمد محمود الديب ص20.
(2) عودة الحجاب (1/15).(1/12)
ومن النماذج لذلك ما يلي:
1_ مرقس فهمي المحامي، ففي سنة 1894م ظهر أول كتاب في مصر يتضمن أول حملة على النظام الإسلامي، ويدعو إلى التحرر منه. هذا الكتاب هو: =المرأة في الشرق+ لمؤلفه مرقس فهمي المحامي، وقد دعا فيه لأول مرة في تاريخ البلاد إلى ما يأتي:
أ_ القضاء على الحجاب الإسلامي.
ب_ إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
جـ _ تقييد الطلاق، ووجوب وقوعه أمام القاضي.
د_ منع الزواج بأكثر من واحدة.
هـ _ إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط+(1).
2_ قاسم أمين هو غربي الثقافة، فرنسي الهوى، جاهلي النزعة، ولم يكن مصلحاً إسلامياً، ولا رائداً من رواد الخير. هذا الداعية من دعاة السفور يقول في كتابه: =المرأة الجديدة+: =فقد صح أن الحجاب هو عادة، لا يليق استعمالها في عصرنا سواء كان من الأصول أو لم يكن+(2) ولا يستغرب عليه مثل هذا القول؛ لأنه قد نال شهادة الحقوق من فرنسا+(3).
3_ رفاعة الطهطاوي الذي هو أول من أثار قضية =تحرير المرأة+ في القرن التاسع عشر الميلادي، فقد بدأ إثر عودته من فرنسا يمهد للتبرج والاختلاط، وينفي أن يكون ذلك داعياً للفساد، وكان معجباً بمراقصة الرجال للنساء، معتبراً ذلك فناً من الفنون، غير خارج عن قوانين الحياء+(4).
4_ سعد زغلول لعب دوراً بارزاً في سفور المرأة بوقوفه إلى جانب قاسم أمين ومناصرته له، ومشاركته العملية في الأفكار التي أودعها كتاب =المرأة الجديدة+ وتشجيعه على احتمال ما لقيه من معارضة، وقد أرغم زوجته =صفية+ على إلقاء حجابها، كما نزع بيده الآثمة حجاب هدى شعراوي عن وجهها+(5).
__________
(1) المرأة ومكانتها في الإسلام للحصين ص232، وعودة الحجاب (1/16) وحجاب المسلمة للبرازي (2/403).
(2) عودة الحجاب (1/34) والمرأة ومكانتها في الإسلام ص210.
(3) المرجع السابق ص209.
(4) حجاب المسلمة (2/403)، وعودة الحجاب (1/15_16).
(5) حجاب المسلمة (2/462).(1/13)
وكان يقول: =المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع، ومن حقها أن ترفع الحجاب اليوم+(1).
ولما تولى سعد زغلول زعامة الشعب عام 1919م اشترط على النساء اللواتي يحضرن لسماع خطبه أن يزحن النقاب عما سمح الله به من وجوههن، وكانت هذه أول مرحلة عملية للسفور.
وقد نفت بريطانيا صديقها سعد زغلول، وجماعته إلى جزيرة =سيل+ فترةً، ثم أعادته؛ لتوليه رئاسة الوزارة، وتوقع معه معاهدة.. فقفل راجعاً إلى مصر، وهيء الجو لاستقباله في الإسكندرية، وأعد سرادق كبير للرجال، وآخر للنساء المحجبات وأقيمت الزينات في كل مكان، ونزل سعد من الباخرة، في استقبال حافل وهتافات وأخذ طريقه إلى سرادق النساء دون سرادق الرجال، فلما دخل على النساء المحجبات استقبلته =هدى شعراوي+ بحجابها.. فمد يده يا ويله فنزع الحجاب عن وجهها، تبعاً لخطة معينة وهو يضحك... فصفقت هدى... وصفقت النساء لهذا الهتك المشين... ونزعن الحجاب. ومن ذلك اليوم أسفرت المرأة المصرية، استجابة لرجل الوطنية سعد، وأصبح الحجاب نشازاً في حياة المسلمة المصرية..+(2).
5_ الشيخ محمد الغزالي يقول في كتابه =ضوء على تفكيرنا الديني في مطلع القرن الخامس عشر الهجري+ =وأذكر أني كنت ألقي محاضرة في اليوم العالمي للمرأة، فلما قلت: إن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة.. حدثت ضدي مظاهرة صاخبة، وسمعت طالباً يقول لزميله: =كنا نحسن الظن بهذا الرجل، فإذا هو شر من قاسم أمين! ولست ولله الحمد والمنة _مفرطاً في ديني، ولكني مشفق على حاضره ومستقبله من الجهال والقاصرين.. لا سيما إذا واتتهم فرص فتحدثوا عنه، وتكلموا باسمه.. إلى أن قال:
__________
(1) عودة الحجاب (1/42).
(2) عودة الحجاب (1/43).(1/14)
=ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله"أن وجه المرأة عورة يجب أن تستر... إن ناساً غلبهم الهوى الجنسي هم الذين شرعوا هذه التقاليد بعدما تعسفوا في شرح الآي بتفاسير مرفوضة، تفاسير لم يقل بها واحد من الأئمة الأربعة الذين انتشر فقههم في طول البلاد وعرضها.
وقد دهشت، لأن عالماً من =شنقيط+ وهو مالكي المذهب وقف في المسجد النبوي يقول أثناء إلقاء درس له: =مالك بن أنس يقول: إن وجه المرأة ليس بعورة... وأنا أخالف مالك بن أنس. ثم قال الغزالي معلقاً: =قلت: ليس مالك وحده الذي يقول ذلك، بل سائر الأئمة الأربعة إلا رواية واهية! عن أحمد تخالف المقرر من مذهبه، كما حكى ذلك ابن قدامة الحنبلي.
والشيخ الشنقيطي غفر الله له حين يخالف أو يوافق ما يقدم ولا يؤخر، وذكرت قول الشاعر:
يقولون: هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟+(1)
قلت هذا القول من الغزالي منكر وزور؛ لمخالفته لكتاب الله وسنة رسوله"والاعتبار والاتفاق عند أهل العلم. على وجوب تغطية وجوه نساء المؤمنين وتحريم سفورهن، واختلاطهن بالرجال الأجانب.
_ هدى شعراوي التي كانت أول امرأة مصرية مسلمة تتمرد علانية على أحكام الله فتخلع الحجاب، وتنشط في تكوين =لاتحاد النسائي المصري+ الذي يدعو إلى منع تعدد الزوجات وتقييد الطلاق وإلغاء بيت الطاعة+(2).
وهدى شعراوي هذه هي بنت محمد سلطان باشا. وقد انتسبت إلى زوجها علي شعراوي باشا على عادة الغربيين، فصارت تدعى =هدى شعراوي+(3)
وهي رفيقة =صفية زغلول+ ابنة مصطفى فهمي. تلقفتها جماعات تحرير المرأة في =روما+ و =أمستردام+ و =مرسيليا+ و =استانبول+ و =باريس+ و =برلين+ و =بروكسل+ و =بودابست+ و=كوبنهاجن+ و=جنيف+ و =حيدر أباد+ و =نيودلهي+؛ لتقود حركة =تحطيم المرأة المسلمة في مصر+..
__________
(1) عودة الحجاب (1/127).
(2) حجاب المسلمة للبرازي (2/404).
(3) حجاب المسلمة (1/479).(1/15)
وقد وجَّهّ الغرب الدعوة إلى هدى شعراوي للمشاركة في المؤتمر النسائي الدولي الذي عقد في =روما+ في شهر آذار _مارس عام 1923م، فحضرته هي و =سيزا نبراوي+ ومُنِحَتْ عضويته في العام نفسه؛ لأنها كانت على ثقة فرنسية أوربية رشحتها لقيادة الحركة النسائية في مصر.
ولما عادت من =روما+ فما كادت تطل على الإسكندرية حتى ألقت حجابها، ودخلت مصر مع سكرتيرتها =سيزا نبراوي+ سافرة عما أمر الله بستره... وتقول: =رفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي =سيزا نبراوي+ وقرأنا الفاتحة!!! ولما ألقتا حجابهما داستاه بأقدامهما فور وصولهما من مؤتمر النساء الدولي الذي عقد بروما+(1).
وبعد هذه الخطوة الآثمة التي أقدمت عليها =هدى شعراوي+ بنزعها الحجاب ووطئه بقدميها كونت =الاتحاد النسائي المصري+ عام 1923م(2).
وبعد عشرين عاماً من تكوين هذا الاتحاد استطاع بالنفوذ الأجنبي وبأذناب الاستعمار أن يمهد لعقد ما يسمى بـ =المؤتمر النسائي العربي+ سنة 1944م =وقد حضرت مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة، واتخذت فيها القرارات =المعتادة+ وفي مقدمتها:
أ_ تقييد الطلاق.
ب_ وتعدد الزوجات.
جـ _ والمساواة التامة مع الرجال في كل الحقوق والواجبات.
ليس ذلك فحسب، بل قرر المؤتمر المطالبة بحذف نون النسوة من قاموس اللغة العربية+(3)
__________
(1) حجاب المسلمة (2/482).
(2) حجاب المسلمة (2/482).
(3) حجاب المسلمة (2/485).(1/16)
هذه هي =هدى شعراوي+ التي تبوأت مكانة عالية في الحركة النسائية العالمية، فأصبحت وكيلة =الاتحاد النسائي الدولي+ بعد أن تلقفتها جماعات =تحرير المرأة+ المنتشرة في دول أوروبا، وخاصة في باريس وبرلين، وبروكسل، التابعة للمحافل الماسونية، ومنظمات الصهيونية العالمية التي يديرها شياطين اليهود من وراء ستار، مستهدفين وفق مخططاتهم التلمودية إحداث ضجة حول ما يسمى ب_ =حقوق المرأة السياسية+، واشتراكها في المجالس النيابية والوزارية ومساواتها بالرجل؛ لضرب شبكات العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصري المسلم، ودفعه إلى طريق الانهيار.
هذه هي المرأة التي صنعت منها محافل الصهيونية والصليبية الدولية زعيمةً لأخطر حركة في بلادنا تهدد سلام المجتمع وأمن البيت+ اهـ(1).
ويضارع هدى شعراوي سكرتيرتها =سيزا نبراوي+ في كل هذا العمل المنكر(2).
_ أمينة السعيد التي تأثرت بالمستغرب المأفون =طه حسين+ أشد التأثر، وراحت تهاجم المحجبات، وتزدري بالحجاب، وتتطاول على قانون الأحوال الشخصية، وتحرض النساء على النشوز والفتيات على الانحلال+(3).
_ نوال السعداوي التي تزعم أن الحجاب استعباد للمرأة، وإذلال لها، وتطالب بانتساب الإنسان لأمه لا لأبيه؛ لأن الأبوة _على زعمها_ مشكوك فيها دائماً!!!+(4).
_ الأميرة =نازلي فاضل+ زعيمة حزب السفور، وقد اهتم والدها =مصطفى فاضل باشا+ بتربيتها، فدرست على أيدي مجموعة من الأساتذة الأوربيين، وكانت تتقن =الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية إلى جانب العربية، فأفسحت لها الصالونات الأوروبية في مجالسها، والتقت من خلالها بكبار رجال السياسة.
وبعد عودتها إلى مصر نقلت معها فكرة الصالونات المختلطة.
__________
(1) حجاب المسلمة (2/487).
(2) حجاب المسلمة (2/489_490).
(3) حجاب المسلمة (2/404).
(4) حجاب المسلمة (2/404).(1/17)
وقد وجدت دعوة =تحرير المرأة+ في مصر نواتها الأولى من النساء حين عادت إلى مصر بعد الاحتلال، ووثقت روابط ودها مع =اللورد كرومر+، وفتحت ناديها لشخصيات مشهورة من رجال السياسة، والوزراء وكبار القوم، كما أفسحت المجال للأفغاني وتلاميذه أمثال =محمد عبده+ و =سعد زغلول+ و =فتحي زغلول+ و =محمد إبراهيم المويلحي+، و =أديب إسحاق+ و =سعيد البستاني+ و =محمد بيرم+ و =اللقاني+ و =قاسم أمين+ حيث كانت هي الوحيدة في =مصر+ التي تختلط بالرجال، وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك؛ ليكون مركزاً تَبُثُّ منه الدعوة إلى =التغريب+ عامة، وإلى ما يسمونه =تحرير المرأة+ على وجه الخصوص، فكانت بذلك أول امرأة تجالس الرجال سافرة...
وهكذا كان تكوين هذا الصالون بمثابة إيجاد المركز الضروري لتعبية أذناب الاحتلال وتنظيم جهودهم ضد الآداب والتقاليد الإسلامية+اهـ(1).
وكرومر الذي وثقت روابط ودها معه يقول:
=جئت؛ لأمحو ثلاثة:القرآن، والكعبة،والأزهر+(2).
وهو الذي يقول: =إن الإسلام فاشل كنظام اجتماعي، فقد وضعت قوانينه لتناسب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، ويعدد =كرومر+ ما يزعمه من معايب الإسلام، فيقول: =بأنه حرم المرأة من كل حقوقها، ويعتبرها أحط من الرجال، ويستطرد بالحديث عن عيوب الإسلام وتفضيل الدين المسيحي عليه... وأعلن =كرومر+ أن المسلم غير المتخلق بأخلاق أوربة لا يصلح لحكم مصر، كما أكد أن المستقبل الوزاري سيكون للمصريين المتربين تربية مصرية.
__________
(1) حجاب المسلمة (2/409_410_411).
(2) عودة الحجاب (1/52).(1/18)
جاء هذا التصريح بمناسبة تعيين وزير مصري له شهرة في مصر، وبعد تعيينه ولما له من مكانة مرموقة في نفوس المصريين أراد مجموعة من النسوة أن يجتمعن به لأمر من الأمور بواسطة شقيقته، فدخل عليهن، وبهت إذ فوجئ بأنهن يسدلن الحجاب على وجوههن فرفض الدخول والاجتماع بهن إلا أن يكشف وجوههن، فأبين ذلك، ولم يحصل الاجتماع وكانت هذه أول ظاهرة من ظواهر الشر تأتي على يد تلميذ من تلاميذ مدرسة كرومر+(1).
هذه بعض النماذج التي مارسها شر البرية المستعمرون، وأذنابهم في نزع حجاب نساء المسلمين في =مصر العربية+ أكبر بلد من بلاد المسلمين. وقد حققوا ما أرادوا.
وهذا من أكبر المصائب التي أصابت المسلمين أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، فإن لله وإنا إليه راجعون.
تركيا _ وأما ما فعله دعاة السفور من العلمانيين وأذناب الاستعمار في تركيا،فإليك نموذجاً منه: =شرع مصطفى كمال أتاتورك عليه من الله ما يستحق قانونه لنزع حجاب المرأة، وراقب تنفيذه، وعاقب مخالفيه، وشنق معارضيه، وقام عام 1925م بإجبار تركيا بأكملها _وليس المرأة فقط_ على هجر الإسلام كلية حتى الحرف الذي تكتب به اللغة التركية متشابهاً مع لغة القرآن. أما نزع حجاب المرأة التركية فقد تم بالإرهاب، والإهانة في الطرقات حين كان البوليس يقوم بنزع حجاب المرأة التركية بالقوة. وهكذا كان نزع الحجاب خطوة ضمن خطة عَلمانية شاملة؛ لإزالة كل أثر للإسلام في تركيا مركز الخلافة العثمانية، وألزموا التركي المسلم بلبس القبعة، وأرغموه أن يكتب من الشمال، وفصلوا الدين عن الدولة، وانتزعوا العربية من التركية، وألغوا العيدين، واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد، وعطلوا الصلاة في مسجد أيا صوفيا، وأسكتوا المؤذنين، وأبعدوا المصلين، فلا يمرون عليه إلا باكين مستعبرين وحولوه إلى متحف وبيت للأوثان، وطمست منه آيات القرآن، وأظهرت فيه الصور والأوثان.
__________
(1) المرأة ومكانتها للحصين ص207_208.(1/19)
وكان أتاتورك وأشياعه قد نقلوا أُمَّتَهُمُ المروعة المشدوهة على المدرعات إلى الشاطئ الأوربي، ثم أحرقوا من ورائها سفائن طارق+اهـ(1).
وقال فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد حفظه الله في كتابه =حراس الفضيلة ص172:
=هكذا صارت البداية المشئومة للسفور في هذه الأمة بنزع الحجاب عن الوجه _وهي مبسوطة موثقة في كتاب =المؤامرة على المرأة المسلمة+ للأستاذ أحمد فرج، وفي كتاب =عودة الحجاب (ج/1) للشيخ محمد بن أحمد إسماعيل، ثم أخذت تدب في العالم الإسلامي في ظرف سنوات قلائل، كالنار الموقدة في الهشيم، حتى صدرت القوانين الملزمة بالسفور، =ففي تركيا+ أصدر الملحد أتاتورك قانوناً بنزع الحجاب سنة 1920م وفي إيران أصدر الرافضي =رضا بهلوي+ قانوناً بنزع الحجاب سنة 1926م، وفي =أفغانستان+ أصدر محمد أمان قراراً بإلغاء الحجاب، وفي =ألبانيا+ أصدر أحمد زوغوا قانوناً بإلغاء الحجاب، وفي تونس أصدر بو رقيبة الهالك سنة 1421هـ قانوناً بمنع الحجاب وتجريم تعدد الزوجات، ومن فعل فيعاقب بالسجن سنةً وغرامةٍ مالية؟!!
ولذا قال العلامة الشاعر العراقي محمد بهجت الأثري المتوفى سنة 1416هـ×
أبو رقيبة لا امتدت له رقبة لم يتق الله يوماً لا ولا رَقَبَهْ
__________
(1) عودة الحجاب (1/103_104).(1/20)
وكان متولي كبرها هو وآخرون منهم المدعو: الطاهر الحداد المولود سنة 1317هـ الهالك سنة 1353هـ حين ألف كتابه=امرأتنا في الشريعة والمجتمع+ بين عام 1920_1930م يدعو فيه إلى تحرير المرأة. وقيل: بل هو من تأليف النصراني/ الأب سلام، تَحَمَّلَهُ الطاهرُ الحداد، وفي آخره: أثار اثني عشر سؤالاً أجاب عليها عدد من المفتين، وقد حكم عليه مفتيا المالكية بالمروق من الدين... وقد ركزت الصحافة على ما نشر ما في الكتاب من الطوام، ومازالوا كذلك حتى تحولت تونس إلى =جسم مريض+ بالسفور والحسور، وتجد تفاصيل هذه المعركة الإلحادية على =الحجاب+ و =العفة+ في كتاب لا يفرح به في نحو أربعمائة صفحة فإنا لله وإنا إليه راجعون(1).
وفي العراق تولى كبر هذه القضية أي المناداة بنزع الحجاب رجلان هما الزهاوي والرُّصافي نعوذ بالله من حالهما.
وانظر خبر اليوم الحزين في نزع الحجاب في =الجزائر+ كما في كتاب =التغريب والسياسة، والاقتصاد+ ص33_139+ في ثلاثة ماي عام 1958م قصة نزع الحجاب، قصة تتقطع منها النفس حَسَرَاتٍ، ذلك أنه سُخِّر خطيب جمعة بالنداء في خطبته إلى نزع الحجاب، ففعل المبتلى، وبعدها قامت فتاة جزائرية، فنادت بمكبر الصوت بخلع الحجاب، فخلعت حجابها، ورمت به، وتبعها فتيات منظمات لهذا الغرض نزعن الحجاب، فصفق المُسَخَّرون، ومثله حصل في مدينة =وهران+ ومثله حصل في مدينة =الجزائر+ العاصمة.
والصحافة من وراء هذا إشاعة وتأييداً.
وفي المغرب الأقصى وفي الشام بأقسامه الأربعة: لبنان وسوريا والأردن وفلسطين انتشر السفور والتبرج والتهتك والإباحية على أيدي دعاة البعث تارة، والقومية تارة أخرى(2).
ويذكر الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته (5/225) من قبائح المستعمرين لبلاد الشام من الهدم للإسلام والمسلمين، فيقول:
__________
(1) انظر حراسة الفضيلة لبكر بن عبدالله أبو زيد ص174 مع الهامش.
(2) انظر حراسة الفضيلة لبكر بن عبدالله أبو زيد ص175.(1/21)
=بل كنا نقحم فيه لهب النار، النار التي أشعلها الفرنسيون في دورنا ومساكننا، ونخوض فيه برك الدم الذي أساله الفرنسيون من عروقنا، نطأ فيه على أجساد الشهداء من أبنائنا وإخواننا لا نمشي على وقع الطبول العسكرية والمزامير، بل على أصوات الأمهات الثاكلات أو بكاء الأولاد الذين أودت بآبائهم وأمهاتهم قنابل المتحضرين الذين انتدبوا علينا؛ ليلقنونا دروس الحضارة؛ فإذا هي ثلاثة دروس: درس في الإلحاد، ودرس في الفساد، ودرس في تخريب البلاد ونهب ثروات العباد... وكانت النصرانيات واليهوديات من أهل الشام يلبسن قبل الحرب الأولى الملاءات الساترات كالمسلمات، وكل ما عندهن أنهن يكشفن الوجوه، ويمشين سافرات أذكر ذلك وأنا صغير، وجاءت مرة وكيلة ثانوية البنات المدرسة سافرة، فأغلقت دمشق كلها حوانيتها، وخرج أهلها محتجين متظاهرين حتى روعوا الحكومة، فأمرتها بالحجاب، وأوقعت عليها العقاب، مع أنها لم تكشف إلا وجهها، ومع أن أباها كان وزيراً وعالماً جليلاً، وكان أستاذاً لنا.
ومرت الأيام، وجئت هذه المدرسة ألقي فيها دروساً إضافية، وأنا قاضي دمشق سنة 1949م، وكان يدرس فيها شيخنا الشيخ محمد بهجت البيطار، فسمعت مرة صوتاً من ساحة المدرسة، فتلفت أنظر من النافذة، فرأيت مشهداً ما كنت أتصور أن يكون في ملهى، فضلاً عن مدرسة، وهو أن طالبات أحد الفصول وكلهن كبيرات بالغات قد استلقين على ظهورهن في درس الرياضة، ورفعن أرجلهن حتى بدت أفخاذهن عن آخرها+
إلى أن قال ص238:
=كان أن دمشق التي عرفناها تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة، شهدت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، تهتز نهودهن في صدورهن تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة، وشهدت بنتاً جميلة زينت بأبهى الحلل وألبست لباس عروس وركبت السيارة المكشوفة وسط الشباب... قالوا: إنها رمز الوحدة العربية+
إلى أن قال ص239:(1/22)
=فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر إذا ظننتم ذلك من دواعي التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون... الخ+
ولزاماً عليك أيها الغيور المسلم أن تقرأ من ذكريات علي الطنطاوي (6/10_11_12_13)
ثمرة هذه النقول
لقد أكثرت عليك أيها المسلم الكريم من النقول من مخازي المستعمر وأذنابه، الذين بذلوا حياتهم وجهدهم، وما يقدرون عليه من الصد عن سبيل الله، سالكين أعظم وسيلة لهدمه، ألا وهي إخراج المرأة المسلمة من نور الإسلام إلى ظلمة الجهل والضلال، وإخراجها من نور التستر بالحجاب إلى ظلمة السفور والدعارة، والعار والدمار، والرذيلة.
وغرضي من ذلك إيضاح وبيان: أن نساء المسلمين لم تزل متحجبات عن الرجال الأجانب إلى أن أجبرن من قبل المذكورين بنزع حجابهن. وأنه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب ستر وجوه نساء المسلمين، وإنما هو أمر حادث أحدثه المستعمرون في بلاد المسلمين، والمتربون بأحضانهم في أوائل القرن الثالث عشر هجري تقريباً.
ولما كان ستر بدن المرأة المسلمة كله فرض، فرضه الله ورسوله، واتفق عليه علماء الإسلام، واقتضاه الاعتبار الصحيح، وصار ضرورة من ضرورات الدين، وأن التملص منه، والدعوة إلى السفور إرضاءً للكفار وأذنابهم، وإغضاباً لله صار القول بالسفور والدعوة إليه، وإلزام المسلمة به من المنكر الفاحش والخطأ الفادح، والجهل القبيح، الذي لا يقره الشرع الصريح، ولا العقل الصحيح.(1/23)
ولما جعل المستعمرون وأذنابهم ينادون به، ويطالبون، بل ويجبرون النساء به تصدى لهم أهل العلم الناصحون لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم بالإنكار والرد على هذا الخطب الجلل، وعلة العلل، وهدم ملة الملل بجميع وسائل وأنواع البيان والبلاغ، من خطب، ومحاضرات، وتذكير، ومواعظ، ووسائل إعلام من مقروء، ومسموع، ومرئي، ومناصحة، وكتابة، بل لقد أفرد إنكاره بمؤلفات، لا تحصى كثرة، وقد بلغني منها ما يقارب مائتين وثمانين مؤلفاً كلها قد تظاهرت، وتضافرت على التحذير والإنذار من هذا الوباء الهدام، والمنكرات الطوام، والذي استفحل أمره حتى لم يسلم منه ساكن الضراب والآكام، وذلك لسرعة سريانه بالمسلمين وهم راقدون نيام، إلا من مَنَّ الله عليه من العلماء الأعلام، الذين لا يخافون لومة اللوام حين رأوا أن هذا المنكر الفاحش قد بلغ هذا المبلغ من أمة الإسلام، سارعوا بإفراده بالمؤلفات إعذاراً وإنذاراً، ولعل من المناسب أن أذكر هنا ما بلغني منها، فأقول: هاك ما تيسر منها:
1- أحكام النساء تأليف أبي عبدالله مصطفى بن العدوي.
2- إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب تأليف الشيخ صفي الرحمن المباركفوري.
3- التحقيق والإيضاح لحكم حجاب المرأة المسلمة تأليف الشيخ أحمد بن عبدالرزاق الدويش.
4- الحجاب لأبي الأعلى المودودي.
5- الحجاب تأليف مصطفى بن العدوي.
6- حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين للدكتور محمد فؤاد البرازي.
7- حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ابن تيمية.
8- الحجاب والسفور إملاء سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز.
9- حراسة الفضيلة للإمام العلامة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد.
10- اللباب في فريضة النقاب جمع وإعداد أبي مصعب فريد بن أمين الهنداوي.
11- الحجاب والسفور تأليف أحمد عبدالغفور عطار.(1/24)
12- رسالة الخليج في منع الاختلاط وما ينجم عنه من مساوئ الأخلاق للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود.
13- رسالتان بالمرأة: 1- حكم الإسلام في توظيف المرأة 2- ما ذا تريدون من المرأة.
تأليف الشيخ أحمد بن عبدالعزيز الحصين.
14- رفع الجُنَّة أمام جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة لأبي محمد عبدالقادر ابن حبيب السندي.
15- زي المرأة في المجتمع للدكتور محسن عبدالحميد.
16- الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور تأليف الإمام العلامة الشيخ حمود ابن عبدالله التويجري.
17- عودة الحجاب جمع وترتيب أحمد بن محمد بن إسماعيل المقدم =3 أجزاء+.
18- فتح الغفور بتضعيف حديث السفور تأليف خالد بن علي بن محمد العنبري.
19- المرأة المسلمة لوهبي سليمان غاوجي الألباني.
20- المرأة والحجاب لمحمد طلعت حرب باشا.
21- قيادة المرأة للسيارة وموقف العلماء منها جواب لسماحة الشيخين ابن باز وابن عثيمين.
22- المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي.
23- لباس التقوى والتحديات المعاصرة للمرأة المسلمة/ تأليف د. عيادة بن أيوب الكبيسي.
24- المؤامرة على المرأة المسلمة للأستاذ أحمد فرج.
25- الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار للمحامي محمد عطية خميس.
26- مسئولية المرأة المسلمة تأليف عبدالله بن جارالله بن إبراهيم الجارالله.
27- مسألة السفور والحجاب لصافي ناز محمد كاظم.
28- المرأة ومكانتها في الإسلام لأحمد بن عبدالعزيز الحصين.
29- فصل الخطاب في المرأة والحجاب لأبي بكر جابر الجزائري.
30- معركة الحجاب والسفور في النقاب جمع وترتيب أحمد محمد الديب.
31- معركة الحجاب والسفور =مختصر الجزء الأول من عودة الحجاب+ اختصار محمد أحمد إسماعيل.
32- مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله، وحكم الاختلاط في التعليم، وخطورة تعليم النساء للأولاد/ تأليف سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
33- مكانك تحمدي/ تأليف أحمد محمد جمال.(1/25)
34- يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي.
35- نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة تأليف عبدالعزيز بن خلف بن عبدالله آل عبدالله.
36- تأملات في المرأة والمجتمع لمحمد المجذوب.
37- الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية لمحمد فهمي عبدالوهاب.
38- الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين.
39- إلى الفتاة السعودية والمسئولين تأليف أبي بكر الجزائري.
40- المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم للدكتور عمر سليمان الأشقر.
41- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور لزينب بنت يوسف فواز العاملي.
42- الأخوات المسلمات.
43- الخنجر المسموم لأنور الجندي.
44- قولي في المرأة ومقارنته بأقوال مقلدة الغرب للشيخ مصطفى صبري.
45- حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء لمصطفى كامل.
46- الإسلام والمرأة في رأي محمد عبده لمحمد عمارة.
47- حصوننا مهددة من داخلها للدكتور محمد محمد حسين.
48- صون المكرمات برعاية البنات لمؤلفه جاسم الفهيد الدوسري.
49- إعداد المرأة المسلمة للدكتور محمد علي نمر.
50- المرأة العصرية وصفاتها المنافية للإسلام لمحمد الزمزمي الغماري.
51- حقوق المرأة في الإسلام –من رسائل الجزائري.
52- الإسلام وتيارات الجاهلية لآدم عبدالله الألوري.
53- حجاب المرأة: العفة والأمانة والحياء تأليف السيد عبدالله جمال الدين أفندي.
54- التبرج والاحتساب عليه لعبيد بن عبدالعزيز بن عبيد السلمي.
55- التبرج للسيدة نعمت صدقي.
56- حجاب المرأة المسلمة للشيخ أنور الكشميري.
57- اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية.
58- رسالة الحجاب في الكتاب والسنة لعبدالقادر بن حبيب الله السندي.
59- مسألة السفور والحجاب لأبي هشام عبدالله الأنصاري.
60- مجلة الجامعة السلفية لأبي هشام عبدالله الأنصاري.
61- الرد القوي على الرافعي والمجهول وابن علوي لفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري.(1/26)
62- إلى كل فتاة تؤمن بالله للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
63- حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة لمكية نواب مرزا.
64- إلى كل أب غيور للدكتور عبدالله ناصح علوان.
65- الإعلام بأخطاء كتاب الحلال والحرام في الإسلام لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان.
66- المرأة في القرآن الكريم للشيخ أمين أحسن الإصلاحي.
67- الحجاب وعمل المرأة للأستاذ عطية صقر.
68- تبرج الحجاب للأستاذ محمد حسان.
69- حقوق المرأة في الإسلام لأبي بكر الجزائري.
70- تحريم الخلوة بالأجنبية والاختلاط المستهتر للدكتور محمد لطفي الصباغ.
71- خطر التبرج والاختلاط للأستاذ عبدالباقي صقر.
72- فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب للأستاذ درويش مصطفى حسن.
73- الرسالة الأمنية في اللباس والزينة للأستاذ درويش مصطفى حسن.
74- المرأة المسلمة =ضمن سبع رسائل للمرأة المسلمة للشيخ حسن البنا+.
75- ماذا عن المرأة للدكتور نور الدين عتر.
76- أوقفوا هذا السرطان للدكتور سيف الدين البستاني.
77- المرأة العفيفة في جاهليتها وإسلامها لعبدالله العفيفي.
78- حقوق المرأة في الإسلام لمحمد رشيد رضا.
79- حقوق النساء في الإسلام لمحمد رشيد رضا.
80- المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية للشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي.
81- نقد مساواة المرأة بالرجل لسماحة الشيخ عبدالله بن محمد الحميد ملحق بـ=هدية الناسك+.
82- رجال اختلف فيهم الرأي للأستاذ محمد فريد وجدي.
83- فتاوى سماحة مفتي الديار السعودية فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ التي بلغت ما يزيد على عشرين فتوى تنص على وجوب تحريم السفور ووجوب ستر بدن المرأة كله بما فيه الوجه والكفان.
84- محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
85- تربية المرأة والحجاب لمحمد طلعت حرب.
86- جريدة =اللواء+ لمصطفى كامل.
87- حقوق المرأة في الإسلام لمحمد بن عبدالله عرفة.(1/27)
88- حجاب المرأة ولباسها من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المجلد السابع عشر كاملاً.
89- زينة المرأة المسلمة لفضيلة الشيخ عبدالله بن صالح الفوزان.
90- كشف النقاب للشيخ سعيد الجابي.
91- المرأة المسلمة لمفتي باكستان الشيخ محمد شفيع الحنفي.
92- فصل الخطاب في المرأة والحجاب لطلعت حرب.
فصل
في ذكر الأدلة على فرضية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وتحريم خروجهن سافرات الوجوه، وتبرجهن بالزينة، واختلاطهن بالرجال
اعلم أخي الكريم، يا من ترجو الله والدار الآخرة أنها ثبتت الأدلة على فرضية احتجاب نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب، وتحريم خروجهن سافرات الوجوه، وتبرجهن بالزينة، واختلاطهن بالرجال من كتاب ربك سبحانه، وسنة نبيك محمد"، وإجماع علماء المسلمين، والاعتبار الصحيح والقياس المطرد، ومن تجربة من ذاق مرارة التبرج والسفور، واختلاط النساء بالرجال.
وإليك البيان والله المستعان وعليه التكلان:
الأول: الأدلة من القرآن العظيم. قال الله تعالى:
[وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31).(1/28)
ووجه الدليل من الآية الكريمة يتجلى لك من وجوه:
1_ أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه؛ لأن كشفه سبب للنظر إليها، وتأمل محاسنها، والتلذذ بذلك وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الحديث: =والعينان تزنيان، وزناهما النظر+ إلى أن قال: =والفرج يصدق ذلك أو يكذبه+. فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأموراً به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد+.(1)
2_ النهي عن إبداء الزينة في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا].
فهو نهي عام عن إبداء كل ما هو زينة إلا ما ظهر من الزينة كظاهر لباسهن أو ظهر من غير قصد ولا تعمد.
قال سماحة الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية عبدالعزيز بن عبدالله بن باز× =هذا يدل على النهي عن جميع الإبداء لشيء من الزينة إلا ما استثني وهو ملابسها الظاهرة، وما خرج بدون قصد، ويدل على ذلك التأكيد منه سبحانه وتعالى بتكريره النهي عن إبداء الزينة في نفس الآية+.
قلت: يعني بالنهي المكرر قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن..الخ
قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب ص15_16_17:
=هذه أول آية في النظم القرآني من بين الآيات الثلاث المشار إليها، وهي أمر المؤمنات بإخفاء كل نوع من الزينة سواء كانت الزينة الخلقية مثل الوجه والعينين والأنف والشفتين والشعر والخدين والأذنين والصدغين أو ما شاكلها من جسد المرأة وأعضائها أو كانت الزينة المكتسبة مثل السوار والخاتم والخضاب والكحل والفتخ والقلب والدملج والقرط والخلاخل والإكليل والقلادة والثوب وغير ذلك مما يزيد الجمال ويزخرف الوجه والأعضاء.
__________
(1) انظر رسالة الحجاب لفضيلة الشيخ ابن عثيمين ص8.(1/29)
إن هذه الآية الكريمة تأمر نساء المؤمنين بإخفاء كل من هذه الزِّيَنِ بدون استثناء فهي لا تستثني منها زينة من زينة إلا =ما ظهر منها+، و=ما ظهر منها+ مبهم لم يفسره الكتاب والسنة، بل إبقاءه على إبهامه، وإنما رُوِي في ذلك أقوال من الصحابة والتابعين ولا شك أن هذه الأقوال لو صحت واتفقت لكانت رافعة للإبهام والنزاع معاً، ولكنها اضطربت وتخالفت فاستحقت أن نتركها عملاً بقوله تعالى: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] (النساء:59) وإذا تركنا هذه الأقوال عاد ذلك الإبهام، وبقي كما كان، وستعلم أن بقاءه خير وأرفق بالأمة.
والذي يجمل بنا حول تلك الأقوال هو أن نبحث أولاً عن معنى هذه الآية في ضوء نصوص أخرى، مراعياً لغة العرب التي نزل بها القرآن، وقواعدها التي يستقيم بها الكلام، حتى يتبين لنا ما هو أقرب إلى الصواب، وأشبه بالقبول، فأقول مستعيناً بالله العلي العظيم:
إن الله تعالى حينما نهى عن إبداء الزينة أسند الفعل إلى النساء، وجاء به متعدياً على مفعوله الذي هو الزينة حيث قال: [ولا يبدين زينتهن].
ولكنه لما أورد الاستثناء غَيَّرَ التعبيرَ، فجاء بالفعل اللازم بدل المتعدي، ولم يسنده إلى النساء بل أسنده إلى الزينة نفسها حيث قال: [إلا ما ظهر منها] ولم يقل: [إلا ما أظهرن منها]، وهذا يعني أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة كلها مطلقاً، وليس لها الخيار في إبداء شيء منها لإطلاق قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن] نعم إنها إذا التزمت بالإخفاء، وتقيدت به ثم ظهر من زينتها شيء من غير أن تُقصِّر وتُفرط في الإخفاء، ومن غير أن تقصد وتتعمد الإبداء، فإنها لا تعاقب على ذلك، ولا تؤاخذ به عند الله تعالى؛ لقوله: [إلا ما ظهر منها].
هذا يفهم من سياق هذه الآية وهو الذي يقتضيه نظم الكلام.(1/30)
قال الثعالبي: =ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وتجهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غالبها، فظهر بحكم ضرورةِ حركةٍ فيما لابد منه، أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه+(1)
ولمزيد الإيضاح نقول: إن الزينة نوعان:
نوع يمكن إخفاؤها، فالمرأة مأمورة بإخفاء هذا النوع من الزينة سواءً كان الوجه، والكفان أو الكحل والخاتم والسواران أو غير ذلك، وأنها لو قَصَّرَتْ في إخفاء هذا النوع من الزينة، وكشفتها للناس عمداً؛ فإنها تؤاخذ على ذلك.
ونوع آخر من الزينة لا يمكن إخفاؤها، أو يمكن إخفاؤها، ولكنها تنكشف من غير أن تتعمد المرأة كشفها أو من غير أن تشعر بانكشافها، أو تعتري حاجة أو مصلحة تلجئ المرأة إلى إبدائها، فكأن المرأة لم تباشر الكشف، ولم تتعمده، بل الحاجة أو المصلحة هي التي كشفت الزينة، فهذا النوع من الزينة لا تؤاخذ المرأة على كشفها أو انكشافها، ولا تعاقب عليه. وهذا النوع هو المراد بقوله تعالى: [ما ظهر منها]. فقوله تعالى [إلا ما ظهر منها] في حد قوله تعالى [لا يكلف الله نفساً إلا وسعها].
ولما كان هذا النوع من الزينة يختلف باختلاف الظروف والحاجات والمصالح، ولا يمكن تحديدها بحد معين بحيث لا يقبل الزيادة والنقصان والتعديل والاختلاف تركها الله تعالى ورسوله" على إبهامها تيسيراً لهذه الأمة، واجتناباً عن التضييق عليها.
ومن أمثلة هذا النوع: الثياب الظاهرة، وما ينكشف من أعضاء المرأة لأجل تيار الهواء أو لسبب آخر من غير قصد منها، وكذا المخطوبة ينظر إليها الخاطب قبل النكاح، والمريضة تكشف بعض أعضائها أمام الطبيب لغرض التداوي، وما إلى ذلك.
قال النيشابوري في غرائب القرآن:
فإن كان هناك غرض، ولا شهوة، ولا فتنة فذاك. والغرض أمور:
منها: أن يريد نكاح امرأة، فينظر إلى وجهها وكفيها..
__________
(1) تفسير الثعالبي المعروف بجواهر الإحسان في تفسير القرآن (3/117).(1/31)
ومنها: إذا أراد شراء جارية، فله أن ينظر إليها ما ليس بعورة منها.
ومنها: أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة.
ومنها: أن ينظر إليها عند تحمل الشهادة، ولا ينظر إلى غير الوجه؛ لأن المعرفة تحصل به.
ومها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة، كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون؛ لأنه محل ضرورة، وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل شهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور، قال": =العينان تزنيان+ وقيل: مكتوب في التوراة: =النظر يزرع الشهوة في القلب، ورب شهوة أحدثت حزناً طويلاً+.
ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق، فله أن ينظر على بدنها؛ ليخلصها+(1).
فمثل هذه الظروف والأحوال التي تلتجئ فيها المرأة إلى كشف أعضائها المأمورة بسترها إجماعاً لا عتاب عليها في كشفها؛ لأن كل ذلك مما ظهر من زينتها من غير أن تبديها بخيارها.
ومن هنا يظهر أن تحديد [ما ظهر منها] في الوجه والكفين أو الخاتم والسوارين أو الكحل والخضاب، وأمثالها ليس بصحيح، بل الصحيح هو تركه على إبهامه وعمومه، وأنه شامل لجميع جسد المرأة حسب الحاجة والظروف، وأن الذين حددوه بمقدار قد وقعوا في التفريط، ولكنهم بجنب هذا التفريط وقعوا في الإفراط أيضاً؛ فإنهم أطلقوا هذا السراح بدون زمام، ولا خطام، حيث أباحوا لها أن تبدي هذا القدر مطلقاً سواء دعت الحاجة إلى كشفها أم لا، ومع أن الله لم يطلق لهن السراح، ولم يخبرهن في إبداء شيء من الزينة، وإنما عفا عنهن [ما ظهر منها] بنفسها.
__________
(1) غرائب القرآن للنيشابوري المطبوع على هامش تفسير ابن جرير (18/76).(1/32)
وإذا تحقق معنى هذه الآية، فليكن على ذكر من القارئ الكريم أن قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن] مضارع في معنى النهي، والنهي يكون للتحريم، وإذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، فالآية صريحة في أن إبداء الزينة حرام على المرأة، فهي دليل على وجوب الحجاب، وأن الوجه والكفين داخلان فيه+اهـ.
3_ قوله تعالى: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن].
هذا الأمر صريح في ضرب الخمار من الرأس إلى الصدر؛ لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلاً وشرعاً وعرفاً، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة، ولا بمفهومهما، واستثناء بعضهم له، وزعمهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي، ومدفوع بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين أوضحهما علماء الأصول ومصطلح الحديث:
إحداهما: أن حجة الإثبات مقدمة على حجة النفي.
والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح. ولما كان الله سبحانه وتعالى يعلم ما في المرأة من وسائل الفتنة المتعددة للرجل أمرها بستر هذه الوسائل حتى لا تكون سبباً للفتنة، فيطمع بها الذي في قلبه مرض+ اهـ أفاده سماحة الشيخ ابن باز(1).
قال صفي الرحمن المباركفوري في مسألة السفور والحجاب ص20:
=ومن الطرائف: أن بعضهم استدل بقوله تعالى: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] على أن الوجه ليس بداخل في الحجاب؛ لأن الله تعالى لم يأمر فيه بستره؟!
أقول: نعم، إن الله لم يأمر فيه بستر الوجه، ولكنه كذلك لم يأمر بستر الرأس والعنق والعضدين وغيرهما أيضاً، فهل يجوز لها كشف هذه الأعضاء؟! فما هو جوابكم؟ فهو جوابنا+اهـ.
وقال العلامة الناصح عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله في النظرات ص44:
__________
(1) انظر مجموع فتاويه ومقالاته المتنوعة (5/277).(1/33)
=قد أمر الله تعالى المرأة بعدم إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر منها عن غير قصد الفتنة، ثم أراد جل ذكره أن يعلمها كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها، فقال: [وليضربن بخمرهن] يعني من الرأس وأعالي الوجه [على جيوبهن] يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى، والصدر من تحته، وما بين ذلك من الرقبة، وما حولها، لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية.
فمن استثنى شيئاً من تلك المنطقة المحرمة بنص القرآن العزيز، فعليه الدليل الذي يخصص هذا ويحدد المستثنى، وهكذا غير ممكن قطعاً؛ لأنه يحتاج إلى نص صريح من القرآن العزيز أو من السنة المطهرة، وأنَّى لأولئك الذين قد استثنوا الوجه من تلك المنطقة بالأمور الظنية أن يأتوا بالدليل القطعي؟+اهـ.
وقال الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين×في رسالة الحجاب ص8:
=فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغِدْفَةِ، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها إما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس؛ فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع =الجمال والفتنة+؛ فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظراً ذا أهمية، ولذلك إذا قالوا: فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه، فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلباً وخبراً، فإذا كان كذلك، فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر، والنحر، ثم ترخص في كشف الوجه؟!+اهـ.(1/34)
4_ قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ].
قال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن (3/1369):
=فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزاً في نفسه لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوتَ الخلخال، فيثير دواعي الشهوة منهم إليهن+اهـ.
وقال العلامة أبو السعود في =إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم+ (4/111):
=وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينها من المبالغة في الزجر عن إبداء مواضعها ما لا يخفى+اهـ.
الحاصل: أن الله اللطيف بعباده المؤمنين بين في هذه الآية للمؤمنات أحكاماً إن أخذن بها حفظن فروجهن ودينهن وكرامتهن وشرفهن، وإن هن خالفن ذلك عرضن أنفسهن لعقاب الله تعالى.
فقد جاء في الآية:
1_ أن الله سبحانه وتعالى _أمرهن بحفظ فروجهن، وأمرهن بفعل كل ما يكون فيه حفظ له وذلك مثل:
2_ أمر الله لهن بغض البصر، 3_ ونهيه لهن عن إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها من غير قصد ولا تعمد.
4_ ونهيه لهن أيضاً عن إبداء زينتهن إلا للأزواج وما عطف عليهم في الآية.
5_ وأمرهن بضرب خمرهن على جيوبهن.
6_ ومنعهن من إبداء زينتهن لأصحاب الإربة من الرجال، وهم من كان عندهم شهوة الجماع، ولو كانوا من التابعين لأهل البيت.
7_ ومنعهن من إبدائها للأطفال الذين يظهرون على عورات النساء.
8_ ونهاهن عن ضرب الأرجل؛ لئلا يعلم الرجال ما يخفين من الزينة سداً لذريعة تحرك الشهوة عندهم.
9_ وأجاز لهن إبداء الزينة للأطفال الذين لم يبلغوا سِنَّ الظهور على عوراتهن.(1/35)
10_ وأجاز لهن إبداءها للتابعين لأهل البيت الذين لا حاجة لهم في النساء، وليس عندهم شهوة جماع، ولا تحصل منهم بحال من الأحوال.
11_ وأبان لهن أن الزينة من العورة بدليل أنه سبحانه أذن لهن أن يبدين زينتهن للطفل الذين لم يظهروا على عوراتهن، فأطلق =الزينة+ على =العورات+.
وبهذا اتضح أن وجه المرأة عورة وزينة، بل هو أعظم زينة فيها.
إذا تقرر هذا، فيتحتم على المؤمنات حفظ فروجهن بستر أبدانهن ووجوههن عن الرجال الأجانب، واجتناب مخالطتهم... حماية لها وحفظاً وتشريفاً، فقد بدأها الله سبحانه في هذه الآية بأعلى ما فيها وأفضله، وهو الرأس، وختمها بأسفل ما فيها وأدناه وهي الأرجل، فيؤخذ من هذا أن المرأة عورة حرام عليها أن يظهر من بدنها أي شيء يراه الرجال الأجانب منها حتى ما وضعته على سبيل التجمل سواء في ذلك ما كان ظاهراً أو خفياً من الرأس حتى القدم+.
ثانياً: قوله تعالى: [ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (النور: 60).
قال الإمام علامة القصيم عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره (5/445):
القواعد اللاتي قعدن عن الاستمتاع والشهوة [اللاتي لا يرجون نكاحاً] أي لا يطمعن في النكاح، ولا يطمع فيهن، وذلك لكونها عجوزاً، لا تُشتهى، ولا تَشتهي أو دميمة ا لخلقة لا تُشتهى، فليس عليهن جناح أي حرج وإثم [أن يضعن ثيابهن] أي الثياب الظاهرة، كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن وجوههن؛ لأمن المحذور منها، وعليها+.
وقال العلامة المودودي في تفسير سورة النور ص225:(1/36)
قد اتفق الفقهاء والمفسرون أن المراد بالثياب في هذه الآية =الجلابيب+ التي كان قد أمر أن تخفى بها الزينة في آية [يدنين عليهن من جلابيبهن] من سورة الأحزاب.
وقال الإمام العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في رسالة الحجاب ص11:
=وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى نفى الجناح وهو الإثم عن القواعد وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً؛ لعدم رغبة الرجال بهن؛ لكبر سنهن. نفى الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع الثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالباً كالوجه والكفين فالثياب المذكورة المرخص لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابقة التي تستر جميع البدن، وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة.
ومن قوله تعالى: [غير متبرجات بزينة] دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أنها تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها، وتطلع الرجال لها ومدحهم إياه ونحو ذلك، ومن سوى هذه نادرة والنادر لا حكم له+اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في دقائق التفسير (4/429):
=فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها، فلا تلقي عليها جلبابها، ولا تحتجب، وإن كانت مستثناة من الحرائر؛ لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم؛ لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب ووجب غض البصر عنها ومنها+اهـ.(1/37)
ثالثاً: قوله _جل وعلا_: [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] (الأحزاب:32_33).
قال ابن عطية في =المحرر الوجيز+ (13/71):
=فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي"بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل الجاهلية الأولى... إلى أن قال ص72:
=والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لَحِقْنَها، فأمرن بالنُّقْلَةِ عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، فكان أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد مَرَّ اسم الجاهلية على تلك المدة قبيل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري: =سمعت أبي في الجاهلية يقول+اهـ.
وقال أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/5261):
=معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي"فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم بيوتهن، والإنكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي"بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى، فقال: [ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى].
وحقيقة التبرج: إظهار ما سَتْرُهُ أحسنُ... إلى أن قال:(1/38)
=وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المِشْيَة على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها، فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج، فليكن على تبذل، وتستر تام. والله الموفق+اهـ.
قلت: دلالة الآية على تحريم السفور، ووجوب الاحتجاب يظهر لك من معنى =التبرج+ في اللغة، فإلى ذلك المعنى:
قال الجوهري في الصحاح (1/299): =والتبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال+.
وقال ابن الأثير في النهاية (1/113):
التبرج: إظهار الزينة للناس الأجانب وهو المذموم، فأما للزوج فلا+اهـ.
وقال ابن منظور في لسان العرب (1/243):
=والتبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، وتبرجت المرأة: أظهرت وجهها، وإذا أبدت المرأة محاسن جيدها ووجهها، قيل: =تبرجت+.
_ نقل عن أبي إسحاق أنه قال في قوله _عز وجل_: [غير متبرجات بزينة]:
والتبرج: إظهار الزينة، وما يُسْتَدْعَى به شهوة الرجل، وقيل: إنهن كن يتكسرن في مشيهن، ويتبخترن+.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن (3/1401):
=من التبرج أن تلبس المرأة ثوباً رقيقاً يصفها، وهو المراد بقوله" في الحديث الصحيح: =رُبَّ نساء كاسيات عاريات، مائلات، مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها+ وإنما جعلهن كاسيات؛ لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بعاريات؛ لأن الثوب إذا رَقَّ يكشفهن، وذلك حرام+اهـ.
وذكر الألوسي القراءات في =وقرن+ في روح المعاني (22/6) ثم قال:
=والمراد على جميع القراءات: أمرهن _رضي الله عنهن_ بملازمة البيوت، وهو أمر مطلوب من سائر النساء+ اهـ.
وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوى في روح البيان (7/170):
=والمعنى الزمن يا نساء النبي بيوتكن، واثبتن في مساكنكن، والخطاب _وإن كان لنساء النبي"_ فقد دخل فيه غيرهن+(1)
وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره (22/6):
__________
(1) انظر عودة الحجاب للمقدم (3/256).(1/39)
=أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء+(1).
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز×:
=نهى سبحانه في هذه الآية نساء النبي الكريم"أمهات المؤمنين وهن من خير النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال وهو تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمرهن بلزوم البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة؛ لما في ذلك من الفساد العظيم، والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا، وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى بالتحذير والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة _عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن+.
ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله _سبحانه_ في هذه الآية: [وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]؛ فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي"وغيرهن+(2).
=حرم الله إظهار الزينة _كما تقدم_ على الإطلاق، واستثنى من ذلك اثني عشر محلاً+
قلت: يعني المذكورين في هذه الآية.
وقال العلامة المودودي×في تفسير سورة النور ص161:
=في هذه الآية يوضح الله تعالى معنى الحكم الذي قد سلف ذكره في قوله: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] أي لا يجوز للمرأة المسلمة أن تظهر زينتها تعمداً أو تهاوناً لمن سوى هؤلاء المذكورين في هذه الآية، غير أن ما ظهر من زينتها بنفسه أي بدون قصد منها أو كان إخفاؤه لا يمكن لها، فلا مؤاخذة لها عليه من الله تعالى+.
5_ قوله تعالى: [أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ]
__________
(1) المرجع السابق (3/257).
(2) الحجاب والسفور ص1069.(1/40)
=فيه التصريح بأن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تظهر زينتها لرجل من غير محارمها وملك يمينها إلا أن يكون متصفاً بصفتين:
أولاً: أن يكون تابعاً كالخادم والأجير الذي ليس بكفء لها.
وثانياً: أن يكون من غير أولي الإربة _والمراد بالإربة الاشتهاء للنساء_ أي يكون من حيث سنه أو عجزه الجسدي أو ضعفه العقلي أو فقره ومسكنته أو خدمته، وتبعته لصاحب البيت، لا يجد في نفسه ما يحمله على أن ينظر إلى زوجته أو بنته أو أخته أو أمه بنظر غير طاهر أو يخطر بباله شيء من سوء الدخيلة نحوهن.
ثم قال:
=ولعمر الحق إن كل من يقرأ هذا الحكم بنية الطاعة، لا بنية أن ينال لنفسه سبيلاً إلى الفرار من الطاعة، لا يلبث أن يعرف لأول وهلة أن هؤلاء الخدام والغلمان المكتملين شباباً في البيوت أو المطاعم والمقاهي والفنادق لا يشملهم هذا التعريف للتابعين غير أولي الإربة بحال من الأحوال+(1).
6_ قوله سبحانه: [وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ]
وهذا الحكم ما حده النبي"عند صوت الحلي فقط، بل أخذ منه قاعدة كلية هي أن كل فعل من أفعال المرأة إذا كان يثير حواس الرجال ومشاعرهم _لا بصرَهم أو سمعَهم فقط_ ينافي الغاية التي لأجلها نهي النساء عن إظهار زينتهن+ أفاده المودودي(2).
وقال شمس الدين ابن القيم في إعلام الموقعين (3/137) في =منع ما يؤدي إلى الحرام+: =قوله تعالى: [وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ]
فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزاً في نفسه؛ لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجالصوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن+اهـ.
وقال العلامة المودودي _عليه رحمة الله_ في الحجاب ص312_313:
__________
(1) انظر تفسير سورة النور للمودودي ص168.
(2) انظر تفسير سورة النور للمودودي ص170.(1/41)
=وللتبرج معنيان: أحدهما: إظهار الزينة والمحاسن، والآخر: التبختر والاختيال والتثني والتأود في المشي، وكلا هذين المعنيين مراد في هذه الآية، وذلك أن النساء في الجاهلية الأولى كنساء هذه الجاهلية الجديدة كن يخرجن في أجود زينتهن ويمشين مشية من الدلال، تكاد لا تقع فيها أقدامهن على الأرض، بل على قلب من ينظر إليهن ويقول التابعي والمفسر الشهير قتادة بن دعامة:
=كانت لهن مشية تكسُّر وتغنُّج، فنهاهن الله عن ذلك+.
ولتصور كيفيتها لا تحتاج إلى بيان تاريخي، بل اشهد مجلساً تحضره أوانس من الطراز العصري الأوربي، تتمثل لك مشية التبرج الذي اعتادته نساء الجاهلية الأولى، فهي هي التي ينهى عنها الإسلام، ويقول: إن مقام المرأة ومستقرها هو البيت، وما وضعت عنهن واجبات خارج البيت إلا ليلازمن البيوت بالسكينة والوقار ويقمن بواجبات الحياة العائلية.
أما إن كان بهن حاجة إلى الخروج، فيجوز لهن أن يخرجن من البيت بشرط أن يراعين جانب العفة والحياء، فلا يكون في لباسهن بريق أو زخرفة أو جاذبية تجذب إليهن الأنظار ولا في نفوسهن من حرص على إظهار زينتهن، فيكشفن تارة عن وجوههن، وأخرى عن أيديهن، ولا في مشيهن شيء يستهوي القلوب، ولا يلبسن كذلك من الحلي ما يحلو وسواسه في المسامع، ولا يرفعن أصواتهن بقصد أن يسمعها الناس. نعم يجوز لهن التكلم في حاجتهن، ولكن يجب أن لا يكون في كلامهن لين وخضوع ولا في لهجتهن عذوبة وتشويق. كل هذه الضوابط والحدود إن راعتها النساء جاز لهن أن يخرجن لحوائجهن+اهـ.
وقال أحمد محمد جمال في كتابه =مكانك تحمدي ص136:
=إن الآيات الواردة في سورة الأحزاب الموجه إلى نساء النبي"بالقرار في البيوت وعدم التبرج وعدم تليين الخطاب للرجال منعاً لطمعهم فيهن، ليست خاصة بهن، ولا يقول ذلك فقيه ولا عاقل، بل ولا مؤمن بالله ورسوله، وذلك لأن آية أخرى من سورة الأحزاب نفسها تقول:
[(1/42)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ] (الأحزاب:21)
فالاقتداء برسول الله وبنسائه في مكارم الأخلاق ومطالب الحياء والتعفف واجب على كل مؤمن، وكل مؤمنة بالله واليوم الآخر، بل جاء الأمر صريحاً بالمساواة فيما يجب أن تتحلى به المرأة المسلمة سواء أكانت زوجة النبي أم امرأة من عامة الناس في قوله عز وجل من سورة الأحزاب نفسها: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ] (الأحزاب:59).
والقرآن هنا يعلل وجوب هذا الحجاب والاستحياء بدلالتهما على شخصيات المحجبات المستحييات بأنهن من الكرائم أو الحرائر والعفائف فلا يتجرأ عليهن سفيه او وقح بالإيذاء قولاً أو فعلاً.
ثانياً: هل يكون مسلماً ومؤمناً بالله واليوم الآخر.. من يأبى أن يقتدي هو بالرسول، ونساؤه بنسائه في الحياء والعفة وعامة مكارم الأخلاق؟ وهل مكارم الأخلاق التي يقول الرسول نفسه إنما بعثث ليتممها من خواص الرسول ونسائه، وكيف نأبى لنسائنا ذهاباً لرجسهن، وتطهيراً لقلوبهن؟. وهو ما علل الله به أمره لنساء الرسول بالحجاب والقرار في البيوت في قوله عز وجل [إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراَ] (الأحزاب:33).
وقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن أم سلمة قالت: =لما نزلت آية الحجاب خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها+ لسترهن وجوههن بفضول أرديتهن.
ثالثاً: إن قوله تعالى: [يا نساء النبي لستن كأحد من النساء] (الأحزاب:32)، لا يعني أن لهن أخلاقاً غير أخلاق النساء الأخريات، أو أن ما يطلب منهن من حياء وتعفف وحجاب.. لا يطاق من غيرهن..(1/43)
وإنما يعني أنهن في مكان القدوة لأنهن زوجات الرسول الذي بعث ليدعو الناس إلى مكارم الأخلاق، فيجب أن يلتزم أهله قبل الناس جميعاً بكل ما يدعو إليه.. وهو ما يجب على أهل كل حاكم وإمام وقائد ورئيس، ليعرف الناس صدقه ويثقوا بسلوكه ويستيقنوا نجاح دعوته.
ومن هنا كان عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الثاني يجمع أهله وأولاده وأقرباءه ويقول لهم: =لا يأتيني احد منكم بذنب إلا أضعفت له العقوبة.. فإن الناس ينظرون إليكم كما تنظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا+.
أي أنكم مكان القدوة لغيركم، ومناط المدح أو الذم، وحافز الجرأة للسفهاء على المخالفة والعصيان.
الدليل الرابع: آية الحجاب وهي
قوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] (الأحزاب:53).
قال ابن جرير في جامع البيان تحقيق التركي (19/166):
=وإذا سألتم أزواج رسول الله"، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً [فاسألوهن من وراء حجاب] يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن [ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن] يقول الله تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب _أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل+اهـ.
وقال أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن (3/482):
=باب ذكر حجاب النساء.. ثم قال: =قد تضمن(1) حَظْرَ رؤية أزواج النبي"وبَيَّنَ به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن؛ لأن نَظَرَ بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب.
__________
(1) يعني سؤالهن من وراء حجاب.(1/44)
قوله تعالى: [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ] يعني بما بين في هذه الآية من إيجاب الاستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه.
وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي"وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره؛ إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته+اهـ.
وقد نص كثير من المفسرين لهذه الآية بعمومها لسائر نساء المؤمنين وليست بخاصة بأزواج النبي"رضي الله عنهن. ونص كثير منهم بأنها عورة كالقاضي ابن العربي، وابي عبدالله القرطبي والشوكاني والشنقيطي وابن كثير والنسفي والبروسوي والسيوطي وحسنين محمد مخلوف، ومحمد أديب كلكل، وسعيد الجابي، ووهبي سليمان غاوجي الألباني وأبي هشام عبدالله الأنصاري وغيرهم وقد ذكرت كلام أكثرهم في ذكر مذاهبهم عند ذكر مذاهب أئمتهم، فلا نطيل بإعادته هنا.
وقال سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن باز×في الحجاب والسفور ص10:
=فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، وقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها، وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة، وأن التحجب طهارة وسلامة+اهـ.
وقال صفي الرحمن في إبراز الحق والصواب ص20:
=لا شك أن ضمير جمع النسوة في الموضعين من الآية يرجع إلى أمهات المؤمنين ولكن هذا لا يقتضي اختصاص الحجاب بهن؛ لأن التخصيص بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم، وإنما رجع الضمير إليهن؛ لأنهن المذكورات في السياق، ولأنهن الأسوة والقدوة لنساء المسلمين في جميع نواحي الحياة.
أما الدليل هنا على عدم الاختصاص فمن وجوه:
الأول: تقرر في أصول الشريعة أن خطاب الواحد يعم حكمه الأمة حتى يرد دليل على تخصيصه بالمخاطب، وليس هنا أي دليل على تخصيص حكم هذا الحجاب بأمهات المؤمنين كما ستعرف.(1/45)
الثاني: أن سياق الآية هو العموم _وإن كان المورد خاصاً_؛ لأن قوله تعالى: [لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ] ليس معناه: أنهم يدخلون بيوت غير النبي من غير أن يؤذن لهم، وكذلك قوله تعالى: [إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ] ليس معناه أنهم لا يتأدبون بهذه الآداب ولا يراعونها إلا مع النبي".
فإذا كان سياق الآية هو العموم، فكيف يجوز لنا أن نرفض ذلك العموم في جزء من آداب هذه الآية، ونقول بغير دليل: إنه مختص بالنبي"وأزواجه؟! بينما جاء ذكر النبي" في هذه الآية؛ لأجل أن ما عرض له هو المورد والسبب في نزولها ولأجل أنه" هو القدوة للمسلمين، لا لأجل أن هذه الآداب مختصة به".
الثالث: أن الله تعالى بين حكمة الحجاب وعلته، فقال: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] وهذه العلة عامة؛ إذ ليس أحد من المسلمين يقول: إن غير أزواج النبي" لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وعموم علة الحجاب وحكمته دليل على عموم حكم الحجاب لجميع نساء المسلمين.
الرابع: دليل الأولوية، وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوباً وأعظمهن قدراً في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلباً لأطهرية قلوب الطرفين، فغيرهن من النساء أولى بذلك.
الخامس: أن آية إدناء الجلباب تتمة وتفسير لآية الحجاب، وتلك الآية عامة لنساء المؤمنين نصاً، فلابد وأن تكون آية الحجاب كذلك؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً+.
السادس: أن نساء المسلمين التزمن بالحجاب بعد نزول هذه الآية، كما التزمت به أمهات المؤمنين، وسنسرد بعض النصوص بهذا الصدد+اهـ.
ثم أورد النصوص ص28_46 فارجع إليها إن شئت.(1/46)
ومن ثم قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6/592): =فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة (فهو) غاش لأمة محمد"مريض القلب كما ترى+اهـ .
الدليل الخامس: قوله سبحانه وتعالى:
[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] (الأحزاب:59).
قد أجمع المفسرون لآية الحجاب هذه على أن معنى إدناء الجلابيب على النساء المذكورات فيها هو تغطية وجوههن؛ لئلا يعرفن، وقد ذكرت أكثر كلامهم في مذاهب أئمتهم، فلا نطيل بإعادته هنا. إلا أنه من المناسب جداً أن نذكر كلاماً للشيخ صفي الدين المباركفوري في مسألة السفور والحجاب ص27 لجودته غفر الله له وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً حيث يقول في هذه الآية:
=هذه الآية تتمة وتفسير لآية الحجاب، وذلك؛ لأن آية الحجاب مسوقة لبيان أحكام البيوت، فإنه تعالى بدأ خطابه فيها بقوله:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ]، وفي هذا السياق أمر بالحجاب بقوله: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] فعرفوا من هذا أنهم لا يجوز لهم أن يدخلوا بيوته أو يقفوا على الباب حينما يحتاجون إلى طلب متاع بل لابد من أن يطلبوه من وراء شيء يسمى حجاباً كالجدار أو مصراعي الباب أو الستر الذي أرخي عليه، ومن هنا نشأ سؤال آخر، وهو أنهم ماذا يفعلون أو ما ذا تفعل نساؤهم إذا خرجن من البيوت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وبهذا تم أمر الحجاب في حالتي الخروج والاستقرار في البيوت.(1/47)
وهذه الآية الكريمة تستدعي التأمل وإدارة الفكر من وجوه:
الأول: أن الله تعالى لم يقل =يتجلببن+ ومعلوم أن الإدناء ليس هو عين التجلبب، بل لابد من الإتيان بقدر زائد عليه يصح أن يطلق عليه كلمة =الإدناء+.
الثاني: أن الإدناء لا يطلق على لبس الثياب ولا يتعدى بـ =على+، بل يتعدى =باللام+ و=من+ و =إلى+. إذن فتعديته هنا بـ =على+ لتضمينه معنى آخر، وهو الإرخاء.
والإرخاء يكون من فوق، فالمعنى: يرخين شيئاً من جلابيبهن من فوق رؤوسهن على وجوههن. أما قولنا: =على وجوههن+ فلأن الحجاب إذا أرخي لا بد وأن يقع على عضو، ومعلوم بالبداهة أن ذلك العضو لا يكون إلا الوجه. وأما أن يكون على الجبهة فقط فمعلوم أن هذا القدر القليل من عطف الثوب لا يسمى إرخاءً، ويؤيد هذا المعنى _أي أن المراد بالإدناء هو الإرخاء لا مجرد التجلبب_ أيضاً أن الله تعالى ذكر كلمة =مِنْ+ التبعيضية قبل الجلابيب، فمقتضاه أن الإدناء يكون بجزء من الجلباب مع أن التجلبب يطلق على مجموع هيئة لبسه.
الثالث: أن ضمير النسوة في يدنين يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي"، وإلى بناته، وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجباً على أزواجه"، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه في حق طائفة من هذه الطوائف الثلاث التي يرجع إليهن ضمير الفاعل فكيف لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين ممن يرجع إليهن نفس ذلك الضمير من نفس ذلك الفعل؟! إنْ هذا إلا تحكم وتناقض.(1/48)
الرابع: أن الله أمر أمهات المؤمنين بالتستر الكامل في آية الحجاب، ولم يستثن عضواً من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس من غير أن يشمل الوجه والكفين لكان كلامه تعالى عبثاً في حق أمهات المؤمنين؛ إذ من العجائب أن يؤمر أولاً بالتستر الكامل حتى الوجه والكفين ثم يؤمر بتغطية الرأس فقط مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة، ويا ليت شعري أي حاجة مَسَّتْ إلى الأمر بستر الرأس بعد الأمر بستر جميع الأعضاء:
الخامس: أن أساليب الرواة، وإن اختلفت في بيان سبب نزول هذه الآية لكنهم متفقون على أن من أهداف هذا الأمر تمييز الحرائر من الإماء بالزي، فعلينا أن نرجع في معرفة ذلك إلى تقاليد العرب في ذلك الزمان وقبله، وقد دلت أشعار الجاهلية أن بعض الحرائر، والشريفات كن يسترن وجوههن في زمن الجاهلية أيضاً، وحجاب الوجوه هذا وإن لم يكن عاماً وفاشياً في عامتهم إلا أنه كان يعد هو الزي الفارق بين الحرة والأمة، وهاك بعض أشعارهم، وما يفهم منها في هذا المجال. قال امرؤ القيس في معلقته:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
فسمى =الحرة+ بيضة الخدر.
وقال النابغة الذبياني في =متجردة+ امرأة النعمان بن المنذر ملك الحيرة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد(1)
وهذا يعني أنها كانت تحتجب عن أعين الأجانب حتى إنها اتقت باليد حين سقط خمارها.
وقال عمرو بن معد يكرب يحكي احتدام معركة من معاركه التي خاضها قبل الإسلام:
وبدت عيس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى(2)
أي أنها التحأت لشدة الحرب إلى كشف وجهها فظهرت كالبدر، ومعناه أنها كانت تحتجب في عامة أحوالها.
وقال ربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير:
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار
__________
(1) الأغاني، ترجمة النابغة الذبياني.
(2) ديوان الحماسة.(1/49)
قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم حين برزن للنظار(1)
وقال سبرة بن عمرو الفقعسي يعير أعداءه:
ونسوتكم في الروع باد وجوهها ... يخلن إماءاً والإماء حرائر(2)
وهذا الشعر الأخير صريح في أن ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرة والأمة في زمن الجاهلية.
وبعد معرفة هذا القدر من تقاليد نساء الجاهلية يسهل علينا فهم معنى هذه الآية وأن الله تعالى أمر المؤمنات بالتزام الزي الذي كان قد تقرر عندهم أنه زي الحرة وليس بزي الأمة، وقد عرفنا أن ذلك الزي كان هو ستر الوجه بالجلباب.
السادس: أن الروايات التي رويت في بيان سبب نزول هذه الآية إما ساكتة عن بيان الزي الفارق بين الحرة والأمة، وإما صريحة جازمة فيه، فالرواية التي فيها التصريح ببيان الزي هي ما رواه ابن سعد، عن محمد بن كعب القرضي، قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين، يؤذيهن، فإذا قيل له: قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن. تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين. يقول: ذلك أحرى أن يعرفن+(3)...
إلى أن قال: فالروايات التي بينت سبب النزول أفادت أيضاً أن الفرق بين الحرة والأمة إنما كان بستر الوجه وكشفه.
السابع: أنا لو سلمنا على سبيل التنزل أن مجرد ستر الرأس يكفي لتميز الحرة من الأمة، فلا شك أن ستر الوجه مع ستر الرأس أولى في إعطاء هذا التمييز، وفي تأدية هذا الغرض، فسبب النزول لا يقتضي نفي ستر الوجه، ولا ينافي وجوبه.
__________
(1) ديوان الحماسة.
(2) ديوان الحماسة.
(3) الطبقات الكبرى (8/176_177).(1/50)
الثامن: أن سبب النزول ينص على أن الله تعالى درأ بأمر إدناء الجلباب مفسدة من المفاسد، وهي التعرض للنساء، ولكن هناك مفاسد أخرى أكبر منها، وذلك أن المرأة، ولو كانت فاجرة إذا تعرض لها أحد في الطريق بالتغزل وأمثاله تثور فيها الحمية والغيرة، وتستشيط غضباً إلا التي ترامت في وقاحتها وفجورها إلى النهاية.
وقلما يظفر الرجل بجدوى في مطلوبه بمثل هذا التعرض، ولا يجتني من عمله هذا إلا شوك الذل والهوان، ولكن إذا خرجت المرأة سافرة الوجه، فلا غرو أن يلتقي نظرها بنظر أحد من الرجال، ومعلوم أن التقاء النظرين يحدث انجذاباً في القلبين قلما يصبر أحدهما عن الآخر، ويقع كل منهما فريسة لصاحبه بسهولة تامة ولذلك ورد =أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم+(1).
وقال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال آخر:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وقال آخر وقد ذكر كل المراحل التي تحصل لأجل النظر:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
وقال الزمخشري: النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه(2).
ثم إن المرأة إذا خرجت سافرة الوجه، ويراها رجل، فربما يأخذه الغرام بها، وتتحرك لها كوامن شهواته، فيأخذ طريق الاحتيال بها؛ ليوقعها في حبائل شهواته ويتخذها خدناً من أخدانه، ومَنْ جَدَّ في غرض يخترع له سبلاً وطرقاً.
وليست هذه المفاسد متخيلة مفروضة، بل قد ابتُلي بها المجتمع البشري في العالم كله، إلا ما رحم ربي. فالهرج والمرج من خطف النساء وهتك أعراضهن كرهاً حتى سفك دمائهن في كثير من الأحيان هو ما نراه ونسمعه صباح مساء وليل ونهار، فضلاً عما يقع من تراضي الطرفين من الفواحش والخبائث، ولا شك أن مصدره هو السفور والتحرر في اختلاط الرجال والنساء.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (5/57).
(2) الكشاف (3/61).(1/51)
أقول: إذا كانت هناك مفاسد أخرى بجنب المفسدة التي نزلت لدرئها الآية الكريمة، فهل من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يتطرق إليه المجتمع بفضل السفور، هل من حكمته أن يدرأ مفسدة واحدة صغيرة ويترك مفاسد أخرى كبيرة مفتحة الأبواب، لا يدرؤها، مع أنها من قبيلها أو أشد منها؟ فالصحيح أن مفسدة واحدة صغيرة وهي التعرض للنساء في الطرقات لما ظهرت واقتضت أمراً من أوامر الله يسد به بابها أمر الله بأمر يكفي لسد هذه المفسدة ولسد أبواب المفاسد الأخرى التي هي أكبر من أختها، فأمر بستر الرأس والوجه حتى ينقطع السبيل تماماً، وليت شعري كيف عرفوا أن سبب النزول يوجب قصر الحكم على مقتضاه، ويمنع الزيادة عليه.
ولعل قائلاً يقول: إن الأمر إذا كان كذلك فلم لم ينبه الله تعالى على تلك الأغراض النبيلة التي تكمن وراء هذا الأمر؟ ولم اقتصر على الإشارة إلى غرض واحد فقط؟
فأقول: إنه قد أشار إلى تلك الأغراض في آية الحجاب بقوله: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] فلم يحتج إلى الإعادة، ويالها من كلمة جامعة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من أغراض هذا الباب إلا أحصتها، ثم إن قوله تعالى: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ] يشير إلى هذه الأغراض أيضاً. قال الرازي:
=قيل: يعرفن أنهن حرائر، فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: إنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أن تكشف عورتها+(1).
__________
(1) التفسير الكبير للرازي (6/799).(1/52)
التاسع: أن أعمال أمهات المؤمنين وأعمال نساء المسلمين ترشدنا إلى ما هو الصحيح في معنى إدناء الجلباب؛ لأن الخطاب كان موجهاً إليهن مباشرة، وكان الله مهيمناً عليهن والرسول قيماً ورقيباً على أعمالهن، فلا نحسب أن الرسول"أقر الصحابة والصحابيات على التزام عمل لم يوجبه الله مع أنه كان قد جاء لرفع الأواصر والأغلال والحرج والمشقة والغلو، وكان عزيزاً عليه ما عنتوا وقد أعطت الروايات عن أعمالهن تفصيلاً لا يحوم حوله شك ولا ريب بأنهن كن يسترن الوجوه إيماناً بكتاب الله وتصديقاً بتنزيله، وستأتي تلك الروايات.
العاشر: أن مَنْ تصدى من الصحابة والتابعين وعلماء أهل التأويل لتفسير =إدناء الجلباب+ فسره بستر الوجه إلا بعض أقوال شاذة، وهاك شيئاً من تلك النصوص:
1_قال ابن عباس حبر الأمة ومفسرها =ت68هـ+ في بيان معنى هذه الآية:
=أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة+(1)
2_ وقال محمد بن سيرين سألت عَبِيدة السلماني (ت72هـ) عن قول الله عز وجل:
[يدنين عليهن من جلابيبهن] فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.
وفي لفظ:
=فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريباً من حاجبه، أو على الحاجب+، ثم ساق الروايات التي وعد بها. ومنه:
قول الواحدي: =ت468هـ+: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة+اهـ،.باختصار.
الدليل السادس
قال الله تعالى:
[لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً] (الأحزاب:55)
__________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن ودويه/ تفسير ابن كثير (5/516) والفتح للشوكاني (4/307).(1/53)
فنفى الجناح عنهن في ترك الحجاب في هؤلاء المذكورين من الأقارب.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (3/486):
=لما أمر الله تبارك وتعالى النساء بالحجاب بَيَّنَ أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ]اهـ.
وجه الدليل هو:
أنه لما نفى الجناح عن هؤلاء المذكورين في عدم الاحتجاب عنهم، وذلك لأنهم غير أجانب منهن _بقي الجناح في حق غيرهم إذا لم يحتجبن عنهم، وهم الأجانب.
قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4619):
=فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له أو لمن هي محرمة عليه على التأييد، فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها+اهـ.
الأدلة من السنة على فرضية الحجاب وتحريم السفور
أما الأدلة من السنة على فرضية احتجاب النساء، وتحريم سفورهن عن وجوههن بين الرجال الأجانب، فكثيرة جداً، قد بلغت فيما وقفت عليه منها ما يقارب أربعين حديثاً. وهاك ما تيسر منها:
1_ حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_:
=لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين+
رواه أحمد والبخاري وأهل السنن إلا ابن ماجه وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى ووجه الدليل منه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية×بقوله:(1/54)
=وهذا مما يدل على النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمْنَ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن+اهـ(1)
وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (4/56):
=قوله في حديث ابن عمر: =لا تنتقب المرأة+ وذلك لأن ستر وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها+.
وقال صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق ص50 رقم7:
=وهذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب والأمر بإدناء الجلباب، وأن النقاب كان قد صار ديدن النساء بحيث لم يكنَّ يخرجنْ إلا به. وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها؛ وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب لباساً مستقلاً، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها، والنبي"لم ينه عن تغطية وجوه المحرمات، وإنما النهي عن النقاب ونحوه وعن القفازين فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×:
=وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها كبدن الرجل، وذلك أن المرأة كلها عورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل، ويلبس الإزار+اهـ(2). وقال الشيخ محمد أديب كلكل في =فقه النظر+ ص50 تعليقاً على هذا الحديث: =وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامَّة. فنهين عنه في الإحرام+اهـ(3).
2_ حديث عبدالله بن مسعود÷
=المرأة عورة+
أخرجه الترمذي في الجامع (3/476) رقم 1173، وابن خزيمة في الصحيح (3/93) رقم 1685 وابن حبان في الصحيح (12/413) رقم 5599، والبزار في البحر الزخار (5/427) رقم 2061
__________
(1) انظر حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ص14.
(2) انظر حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ص14.
(3) انظر اللباب في فرضية النقاب ص115.(1/55)
من طرق عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن قتادة، عن مورق العجلي، عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود، عن النبي"قال:
=المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها+.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي تحفة الأحوذي (4/337) رقم 1183:
=هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/179)، والزيلعي في نصب الراية (1/298):
=وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، غريب+.
وهو كذلك في تحقيق بشار لجامع الترمذي (2/463) رقم 1173، وكذلك قال العراقي في المغني (2/65) وقال الألباني في إرواء الغليل (1/303): صحيح، ورمز لصحته السيوطي كما في الجامع الصغير (2/550) رقم 9193 ورواه أبو داود في سننه (1/383) رقم 569، والبزار في مسنده (5/426) رقم 2060، والحاكم في المستدرك (1/209) والبيهقي (3/131).
من طريق عمرو بن عاصم، حدثنا همام به.. لكن بلفظ:
=صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها، أفضل من صلاتها في بيتها+.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد احتجا جميعاً بالمورق ابن مشمرج العجلي. وأقره الذهبي.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10/132) رقم 10115، والأوسط (9/43) رقم 8092،
وابن عدي في الكامل (3/1259).
من طريق أبي حاتم سويد بن إبراهيم الجحدري الحناط، عن قتادة، عن مورق العجلي، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، عن النبي"قال: ..فذكره
وسقط عند ابن عدي =مورق العجلي+.
قال ابن عدي بعد أن أورده في ترجمة سويد:
=ولسويد غير ما ذكرت من الحديث عن قتادة، وعن غيره، بعضها مستقيمة، وبعضها لا يتابعه أحد عليها، وإنما يخلط على قتادة يأتي بأحاديث عنه لا يأتي بها أحد عنه غيره، وهو إلى الضعف أقرب+اهـ,
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/135): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثوقون+(1/56)
قلت: سويد قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ، له أغلاط، وقد أفحش ابن حبان فيه القول+.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/94) رقم 1687
عن طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مورق العجلي، عن أبي الأحوص، عن عبدالله عن النبي"بمثله.
وقال: =وإنما قلت: =ولا هل سمع قتادة هذا الخبر، عن أبي الأحوص؛ لأنه أسقط مورقاً من الإسناد. وهمام وسعيد بن بشير أدخلا في الإسناد مورقاً.
وإنما شككت أيضاً في صحته؛ لأني لا أقف على سماع قتادة هذا الخبر من مورق+.
قلت: وأدخل مورقاً سويد كما تقدم. ولهذا قال الطبراني في الأوسط (9/43) رقم 8092:
=لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا سويد أبو حاتم وهمام وسعيد بن بشير. تفرد به عن همام عمرو بن عاصم الكلابي، وتفرد به عن سعيدٍ أبو الجماهر+.
ورواه ابن خزيمة في صحيحه (3/93) رقم 1686، وابن حبان في صحيحه (12/412) رقم 5598، والبزار في البحر الزاخار (5/428) رقم 2062، وأبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/451) رقم 4565
من طريق المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، عن النبي"قال:
=المرأة عورة؛ وأنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وإنها لا تكون إلى وجه الله أقرب منها في قعر بيتها+.
فسقط عنده مورق.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (3/420) رقم 2903 من طريق معتمر أيضاً وذكر بهذا السند عدة متون ثم قال:
وبه رقم 2911 عن قتادة، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، عن رسول الله" قال: =المرأة عورة... الحديث.
قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/188):
رواه الطبراني في الأوسط/ ورجاله رجال الصحيح+.
وقال الهيثمي في المجمع (4/314):
رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح+اهـ.
وجاء موقوفاً من طريق الحجاج بن المنهال، ثنا أبو هلال، عن حميد بن هلال، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، قال:(1/57)
=إن المرأة عورة، وأنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، فتقول: ما رآني أحد إلا أعجبته، وأقرب ما تكون إلى الله إذا كانت في قعر بيتها+.
أخرجه الطبراني في الكبير (9/341) رقم 9481
إسناده حسن. رجاله ثقات، ما خلا أبا هلال وهو محمد بن سليم الراسبي صدوق فيه لين. قاله الحافظ في التقريب. وأبو الأحوص هو عوف بن مالك الجشمي أحد الثقات.
وأخرجه الطبراني أيضاً في الكبير (9/208) رقم 8914، وص341 رقم 9480 موقوفاً من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، قال:
=إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها، وما بها من بأس، فيستشرف لها الشيطان فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضاً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها+.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/35): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات+
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/189): إسناده حسن.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/420):
حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن (أبي)(1) الأحوص، قال: قال عبدالله:
=احبسوا النساء في البيوت؛ فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. أبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي الكوفي ثقة متقن صاحب حديث. والسبيعي معروف. وأبو الأحوص هو عوف بن مالك الجشمي الكوفي أحد الثقات.
وجاء في العلل للدارقطني (5/314) رقم 905:
=وسئل عن حديث أبي الأحوص، عن عبدالله، عن النبي": =المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.. الحديث؟
فقال: يرويه قتادة، واختلف عنه، فرواه همام وسعيد بن بشير، وسويد بن إبراهيم عن قتادة، عن مورق العجلي، عن أبي الأحوص، عن عبدالله، عن النبي".
__________
(1) سقطت الكنية خطأ من بعض النساخ.(1/58)
ورواه سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي الأحوص. لم يذكر بينهما مورقاً، ورفعه أيضاً+.
ورواه حميد بن هلال عن أبي الأحوص، عن عبدالله موقوفاً+.
ورواه أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص. واختلف عنه، فرفعه عمرو بن عاصم، عن شعبة، عن أبي إسحاق. ووقفه غيره من أصحاب شعبة
وكذلك رواه إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق موقوفاً.
والموقوف هو الصحيح من حديث أبي إسحاق وحميد بن هلال، ورفعه صحيح من حديث قتادة+اهـ.
وقال الطبراني في الأوسط (2/163) رقم 2890، وفي نسخة الطحان (3/422) رقم 2911 حدثنا إبراهيم، أخبرنا عاصم بن النضر، أنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن قتادة، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، عن رسول الله"قال:
=المرأة عورة، وإنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وأنها لا تكون أقرب إلى الله منها في قعر بيتها+
قال الهيثمي في المجمع (4/314): رجاله رجال الصحيح.
معنى =استشرفها الشيطان+
قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/190): =أي ينتصب ويرفع بصره إليها، ويهم بها؛ لأنها تعاطت سبباً من أسباب تسلطه عليها وهو خروجها من بيتها+.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/337) رقم 1183 في ذلك:
=أي زينها في نظر الرجال، وقيل أي نظر إليها ليغويها ويغوي بها. والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء. وبسط الكف فوق الحاجب. والمعنى: أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها، فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها، ويغوي غيرها بها؛ ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه+اهـ.
ونقل المناوي في فيض القدير (6/266) رقم 9193 عن الطيبي أنه قال:
=والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع وأطمع؛ لأنها حبائله، وأعظم فخوخه. وأصل الاستشراف: وضع الكف فوق الحاجب ورفع الرأس للنظر+اهـ.(1/59)
قال ابن قدامة في المغني (2/329): =والخبر المروي في أن المرأة عورة بالاجماع+اهـ.
ومعنى كونها عورة
قال المناوي في فيض القدير (6/266) رقم 9193:
=المرأة عورة+ أي هي موصوفة بهذه الصفة. ومن هذه صفته فحقه أن يستر. والمعنى أنه يستقبح تبرزها وظهورها للرجل. والعورة سوءة الإنسان، وكل ما يستحيى منه. كنَّى بها عن وجوب الاستتار في حقها.
قال ابن الكمال: =فلا حاجة إلى أن يقال: هو خبر بمعنى الأمر. قال في الصحاح: =العورة كل خلل يتخوف منه. وقال القاضي: =العورة كل ما يستحى من إظهاره، وأصلها من العار وهو المذمَّة+اهـ.
وبحديث ابن مسعود هذا أخذ الإمام أحمد/ وقال: =المرأة كلها عورة حتى ظفرها+.
3_ حديث عائشة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله" محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+
أخرجه أحمد في المسند (6/30) ومسائل أبي داود للإمام أحمد ص110، وابن خزيمة في صحيحه (4/204) رقم 2691، وأبو داود في سننه (2/416) رقم 1833، والبيهقي في السنن (5/48) والمعرفة (7/142) رقم 9604 من طريق هشيم، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها... فذكره
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (المفقود ص307) وابن ماجه (2/979) رقم 2935، والدار قطني في السنن (2/295) رقم 262
من طريق محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد به.
وأخرجه ابن ماجه (2/979) رقم 2935، وابن خزيمة في صحيحه (4/204) رقم 2691
من طريق عبدالله بن إدريس، عن يزيد بن أبي يزيد، عن مجاهد به
ورواه ابن الجارود في المنتقى (ص111) رقم 418
من طريق جرير، عن يزيد به وزاد: =وقالت: =تلبس المحرمة ما شاءت إلا البرقع+.
قال البيهقي:
=وكذلك رواه أبو عوانة ومحمد بن فضيل وعلي بن عاصم، عن يزيد بن أبي زياد، وخالفهم ابن عيينة فيما روي عنه عن يزيد، فقال: عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة+ اهـ.(1/60)
وقال الدار قطني بعد روايته له من طريق محمد بن فضيل:
=خالفه ابن عيينة. =ثنا يعقوب بن إبراهيم البزار، نا بشر بن مطر، نا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة:
=كنا نكون مع رسول الله"، ونحن محرمات، فيمر بنا الراكب، فتسدل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها+.
قلت: مخالفة سفيان بن عيينة لمحمد بن فضيل ليست علة قادحة في السند؛ فقد اتفق على روايته عن يزيد، عن مجاهد، عن عائشة ستة رواة من تلاميذ يزيد، وهم كما رأيت_:
جرير بن عبدالحميد، وهشيم بن بشير، وعبدالله بن إدريس، وأبو عوانة، وعلي بن عاصم، وسادسهم محمد بن فضيل.
وأعل السند بأن مجاهداً لم يسمع من عائشة. قال العلائي في جامع التحصيل ص273 رقم736
=قال يحيى القطان وشعبة، ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي: مجاهد لم يسمع من عائشة+.
قال العلائي مجيباً على ذلك:
=قلت: وحديثه عنها في الصحيحين، وقد صرح في غير حديث بسماعه منها. وقال أبو زرعة العراقي في تحفة التحصيل ص295:
=قلت في العلل لابن المديني: إن مجاهداً سمع من عائشة وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن السائب+.
قلت: الصواب قول من قال: إنه سمع منها؛ فقد أدرك من حياتها سبعاً وثلاثين سنة؛ وذلك أنه ولد سنة إحدى وعشرين من الهجرة، ووفاة عائشة _رضي الله عنها_ سنة ثمان وخمسين من الهجرة النبوية، فإذا طرحنا إحدى وعشرين سنة من ثمان وخمسين سنة بقي سبع وثلاثون سنة. وعلى هذا فعلة الحديث هي يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي، فقد وهاه كثير من أهل العلم، منهم شعبة وأحمد، وابن معين وعبدالله بن المبارك وأبو زرعة الرازي والجوزجاني وابن عدي ذكر ذلك الحافظ المزي في تهذيب الكمال (32/139).
وأجيب عن ذلك بما يلي:
قال ابو عبيد الآجري _كما في سؤلاته لأبي داود (1/303) رقم 493:
=سمعت أبا داود يقول: يزيد بن أبي زياد ثبت، لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إليَّ منه+.(1/61)
وقال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (32/140): قال البخاري في اللباس من صحيحه عقيب حديث عاصم بن كليب، عن أبي بردة، قلنا لعلي: =ما القَسِّيَّةُ؟ وقال جرير: عن يزيد في حديثه: =القَسِّيَّةُ ثياب مضلعة... الحديث وروى له في كتاب =رفع اليدين في الصلاة+ وفي الأدب، وروى مسلم مقروناً بغيره، واحتج به الباقون+.
طريق آخر يقوي هذا الحديث:
قال أبو داود في مسائله لأحمدص109:
=حدثنا أحمد، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: قالت عائشة _رضي الله عنها_: =تسدل المحرمة جلبابها من فوق راسها على وجهها+
ورواه من هذا الطريق سعيد بن منصور كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر (3/406) وعمدة القارئ للعيني (9/166)
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
قال الحافظ في تلخيص الحبير (2/272): =وروى ابن أبي خيثمة من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أمه قالت: كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية، فقلت لها: يا أم المؤمنين، هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة، فرفعت عائشة خمارها من صدرها، فغطت به وجهها+.
وقال ابن عبدالبر في الاستذكار (11/48) رقم 15374:
=وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أخبرتني أمي وأختي أنهما دخلتا على عائشة أم المؤمنين، فسألتاها:
=كيف تخمر المرأة وجهها؟ فأخذت أسفل خمارها، فغطت به وجهها، وعليها درج مدرج، وخمار حبشي+اهـ.
4_ حديث فاطمة بنت المنذر
روى الإمام مالك في الموطأ (2/328) رقم 16/ من كتاب الحج/باب تخمير المحرم وجهه:
عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت:
=كنا نخمر وجوهنا، ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+.
ومن طريق هشام به
أخرجه ابن خزيمة في الصحيح (4/203) رقم 2690، والحاكم في المستدرك (1/454)
5_ حديث أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنهما_ وهو الحديث المتقدم إلا أن فاطمة بنت المنذر روته عن أسماء عند ابن خزيمة والحاكم بلفظ:(1/62)
عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنهما_ قالت:
=كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك _زاد الحاكم: =في الإحرام+
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين =وأقره الذهبي.
إسناده: صحيح، رجاله ثقة
قال صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق ص49:
=وهذا الحديث أيضاً صريح في شمول الحجاب للوجوه، ويفيد أن تغطية الوجوه كان هو المقصود بأمر الحجاب، وحكم هذا الحديث عام لجميع نساء المؤمنين؛ لأن المراد بضمائر جمع المتكلم ليست أمهات المؤمنين فحسب كما يزعمه الزاعمون، والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها هي التي روت هذا الحديث وهي التي كانت تفتي بأن المرأة المحرمة تسدل جلبابها من فوق رأسها على وجهها، وقد روى مالك في الموطأ ما يفيد أن تغطية الوجوه في الإحرام كانت عامة في النساء، لا في زمن الصحابة فقط، بل فيما بعدهم أيضاً، فقد روى عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا+اهـ.
6_ حديث عائشة أيضاُ بلفظ:
=يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] شققن مروطهن، فاختمرن به.
أخرجه البخاري في الصحيح (6/13) كتاب التفسير _باب =وليضربن بخمرهن على جيوبهن+
وفي لفظ:
=لما نزلت هذه الآية =وليضربن بخمرهن على جيوبهن+ أخذن أزرهن، فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها+
أخرجه البخاري أيضاً (6/13)
قال الحافظ في فتح الباري (8/490): =قوله: =مروطهن+ جمع مرط وهو الإزار وفي الرواية الثانية: =أزرهن+ وزاد =شققنها من قبل الحواشي+.
قوله: =فاختمرن+ أي غطين وجوههن، وصفة ذلك: أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع، قال الفراء:(1/63)
كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار والخمار للمرأة كالعمامة للرجل... وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك، عن إبراهيم بن نافع بلفظ: =أخذ النساء+.
وأخرجه الحاكم من طريق زيد بن الحباب، عن إبراهيم بن نافع بلفظ =أخذ نساء الأنصار+ ولابن أبي حاتم من طريق عبدالله بن عثمان بن خثيم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه: =ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن+ فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فيها،ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها+ فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان+
ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك+اهـ.
وقال العلامة الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (6/594):
=وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن+ أي سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله في قوله تعالى [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] المقتضي ستر وجوههن، وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال، وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت _عائشة رضي الله عنها_ على تلك النساء بمسارعتهن، لامتثال أوامر الله في كتابه. ومعلوم أنهن ما فهمن من ستر الوجوه من قوله [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] إلا من النبي"لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن. والله جل وعلا يقول: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ]، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن...+(1/64)
ومعنى: =معتجرات+ مختمرات، كما جاء في رواية البخاري المذكورة آنفاً، فترى عائشة _رضي الله عنها_ مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل. وهو دليل واضح على أن فَهْمَهُنَّ لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمانٌ بتنزيله كما ترى، فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح _كما تقدم_ عن البخاري. وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين، كما ترى+اهـ.
7_حديث الإفك، تقول عائشة _رضي الله عنها_:
=وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي.. الحديث.
أخرجه البخاري في الصحيح (6/6) كتاب التفسير _باب =لولا إذ سمعتموه..الخ
قال الحافظ في الفتح (8/463):
=قوله =فخمرت+ أي غطيت =وجهي بجلبابي+ أي الثوب الذي كان عليها.. وفي رواية أبي أويس =فاسترجع، وأعظم مكاني _أي حين رآني وحدي_ وقد كان يعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فسألني عن أمري، فسترت وجهي بجلبابي، وأخبرته بأمري+
وقال صفي الرحمن في إبراز الحق ص49:
=ومعنى هذا أنه لو لم يكن رآها قبل الحجاب لم يكن ليعرفها برؤيتها. فهذا الحديث نص في شمول الحجاب للوجه، ويفيد أن الحجاب يمنع الرائي من معرفة المرأة بوجهها لكون الوجه مستوراً تمام الستر+اهـ.(1/65)
8_ عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله لا تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأتْ راجعة ورسول الله" في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْقٌ، فدخلتْ، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العَرْقَ في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذِن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن+.
أخرجه البخاري في الصحيح (6/26) كتاب التفسير _باب قوله: [لا تدخلوا بيوت النبي.. الخ
قال صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق ص48:
=ومقتضي هذا أن سودة لولا طول قدها لخفيت على الناس، وأن عمر لم يكن عرفها لكونها كاشفة الوجه، بل لطول قدها ولأجل هيئتها التي تميزها عن غيرها، وفي هذا الحديث (ما) يدل على أن عمر لم يكن يحب أن تعرف أشخاص أمهات المؤمنين، ولو كان الحجاب مختصاً بهن لكان أول دليل على أشخاصهن، وأول فارق وأعظم هيئة تميزهن عن غيرهن، ولعرفهن كل أحد، وعرف أعيانهن في معظم الأحوال+اهـ.
9_ حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله"أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض، فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قالت: قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: =لتلبسها أختها من جلبابها+.
أخرجه البخاري في الصحيح (1/93) كتاب الصلاة _باب وجوب الصلاة في الثياب ومسلم في الصحيح (2/605) رقم 890
هذا أحد ألفاظ مسلم.
وفي لفظ له: =أمرنا _تعني النبي" أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين+.
ولفظ البخاري:
=قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها+.
قال الإمام الحافظ زين الدين أبو الفرج ابن رجب في فتح الباري (2/351) رقم 351:(1/66)
=الجلباب: قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: هو الرداء، ومعنى ذلك: أنه للمرأة كالرداء للرجل يستر أعلاها إلا أنه يقنعها فوق رأسها، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه، وقد فسر عَبيدَة السلماني قول الله عز وجل [يدنين عليهن من جلابيبهن] بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها. وهكذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كان قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرأة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله عز وجل [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها]. ثم أمرت بستر وجهها وكفيها... إلى أن قال:
فصارت المرأة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب؛ فلهذا سئل النبي" لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأة منا ليس لها جلباب، فقال: =لتلبسها صاحبتها من جلبابها+ يعني: تعيرها جلباباً تخرج فيه... إلى أن قال:
=فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس لا للصلاة، ويدل عليه: أن الأمر بالخروج دخل فيه الحيض وغيرهن، وقد تكون فاقدة الجلباب حائضاً، فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال، وليس من باب أخذ الزينة للصلاة فإن الحرة تصلي في بيتها بغير جلباب بغير خلاف+اهـ باختصار.
10_ حديث أبي هريرة÷قال: قال رسول الله":
=صنفان من أهل النار، لم أرهما. قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا+.
أخرجه الإمام مسلم في الصحيح (3/1680) رقم 2128
قال الإمام النووي في شرح مسلم (14/110):
=هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان، وفيه ذم هذين الصنفين.(1/67)
قيل: معناه: كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل معناه: تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه؛ إظهاراً بحالها ونحوه. وقيل معناه: تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما مائلات فقيل: معناه: عن طاعة الله، وما يلزمهن حفظه مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم. وقيل: مائلات: يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن. وقيل مائلات: يمشطن المشطة المائلة، وهي مشطة البغايا، مميلات، يمشطن غيرهن تلك المشطة، ومعنى =رؤوسهن كأسنمة البخت+ أن يكبرنها، ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها+اهـ.
وبهذا التفسير للحديث فسره الإمام الذهبي في كتابه الكبائر/ الكبيرة الثالثة والثلاثون: تشبه المرأة بالرجال وتشبه الرجال بالنساء ص130، إلا أنه لم يذكر كلمة: =إظهاراً بحالها+.
والذي يظهر لي أن الصواب فيها: =إظهاراً لجمالها+. وهو الذي صرح به المناوي في فيض القدير (4/209) رقم 5045، والنووي نفسه في كتاب الجنة _باب النار يدخلها الجبارون (17/191) رقم 2128، فقالا: =إظهاراً لجمالها+. وبهذا اتضح أن لفظ =بحالها+ محرفة.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/386) رقم 2128:
=نساء كاسيات، عاريات.. الخ:
=فيها ثلاثة أوجه: أحدها: كاسيات من نعم الله تعالى عاريات من الشكر.
الثاني: كاسيات: يكشفن بعض جسدهن، ويسبلن الخُمر من ورائهن، فتنكشف صدورهن، فهن كاسيات بمنزلة العاريات، إذا كان لا يستر لباسُهُن جميعَ أجسادهن.
والثالث: يلبسن ثياباً رقاقاً يصف ما تحتها، فهن كاسيات في ظاهر الأمر، عاريات في الحقيقة.
وقوله: =مائلات مميلات+ أي زائفات عن استعمال طاعة الله تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج+اهـ.(1/68)
11_ حديث أم سلمة رضي الله عنها انها كانت عند رسول الله"وميمونة، قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب(1) فقال النبي":
=احتجبا منه، فقلنا: أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ فقال النبي": =أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟+.
أخرجه أبو داود في السنة (4/361) رقم 4112، والترمذي في الجامع (5/102) رقم 2778، وأحمد في المسند (6/296) رقم 26537، والطحاوي في مشكل الآثار (1/266) رقم 289، وابن حبان في صحيحه (12/387) رقم 5575، والخطيب البغدادي في تاريخه (3/17) وأبو يعلى في مسنده (12/353) رقم 6922، والطبراني في الكبير (23/302) رقم 678، والبيهقي في الكبرى (7/91)
من طريق عبدالله بن المبارك، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني نبهان مولى أم سلمة، أن أم سلمة حدثته، أنها كانت.. الحديث
وأخرجه النسائي في الكبرى (8/292) رقم 9197، وابن حبان في صحيحه (12/389) رقم 5576 والخطيب البغدادي في تاريخه (3/17) والطحاوي في مشكل الآثار (1/265) رقم 288
من طريق عبدالله بن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب به.
وقال النسائي: ما نعلم أحداً روى عن نبهان غير الزهري.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: الحديث في سنده نبهان المذكور، نقل ابن قدامة في المغني (6/564) عن أحمد أنه قال:
__________
(1) فرض الحجاب في السنة الخامسة من هجرة النبي"، فكل ما حدث قبل السنة الخامسة من خروج النساء واختلاطهن بالرجال منسوخ بما بعده، فعلى الباحث أن يكون على دراية تامة بموضوع الناسخ والمنسوخ/ انظر كتاب =الدين والمرأة ص222، وانظر حسن الأسوة ص203. أفاد هذا الدكتور عيادة بن أيوب الكبيسي ص48 في كتابه =لباس التقوى+.(1/69)
=نبهان روى حديثين عجيبين _يعني هذا الحديث، وحديث: =إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه+، وكأنه أشار إلى ضعف حديثه إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول. وقال ابن عبدالبر: نبهان مجهول لا يعرف إلا براوية الزهري عنه هذا الحديث، وحديث فاطمة صحيح، فالحجة به لازمة، ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص لأزواج النبي"كذلك قال أحمد وأبو داود، قال الأثرم: قلت لأبي عبدالله: كأن حديث نبهان لأزواج النبي"خاصة، وحديث فاطمة لسائر الناس؟ قال: نعم، وإن قدر التعارض فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى منه الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال+اهـ.
ولكن الحافظ ابن حجر قَوَّى سند هذا الحديث، فقال في الفتح (9/337):
=وحجة من منع حديث أم سلمة، الحديث المشهور: =أفعمياوان أنتما+ وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري، عن نبهان مولى أم سلمة، عنها وإسناده قوي، وأكثر ما عُلِّلَ به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان, وليست بعلة قادحة؛ فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.
والجمع بين الحديثين: احتمال تقدم الواقعة، أو أن يكون في قصة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يُمنَع النساءُ من رؤيته؛ لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعله كان منه شيء ينكشف، ولا يشعر به، ويقوي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين وبهذا احتج الغزالي على الجواز، فقال:
=لسنا نقول أن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج+اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم (10/97):(1/70)
=وهذا الحديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: هو حديث حسن+، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة، وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم، فليس فيه إذن لها في النظر إليه، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها، وهي مأمورة بغض بصرها، فيمكنها الاحتراز عن ا لنظر بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك+اهـ.
قلت: وقصة فاطمة بنت قيس هذه: أن زوجها أبا عمرو طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله"، فذكرت ذلك له؟ فقال: =ليس لكِ عليه نفقة فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: =تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك... الحديث
رواه مسلم (2/1114) رقم 1480
قال النووي في شرح مسلم (10/96):
=ومعنى هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد إليها لصلاحها، فرأى النبي"أن على فاطمة من الاعتداد عنده حرجاً من أنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنه لا يبصرها، ولا يتردد إلى بيته من يتردد إلى بيت أم شريك. وقد احتج بعض الناس بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها. وهذا قول ضعيف، بل الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها؛ لقوله تعالى: [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن]، ولأن الفتنة مشتركة، وكما يخاف الافتتان بها، تخاف الافتتان به+.
12_ الرخصة للخطاب أن ينظر إلى مخطوباتهم عند إرادة الزواج.
جاءت الأحاديث الكثيرة الدالة على أنه يباح للرجل أن ينظر إلى المرأة التي يطمع الزواج بها. ومن هذه الأحاديث ما يلي:
أ_ عن أبي هريرة÷قال:(1/71)
=خطب رجل امرأة، فقال _يعني النبي":
=انظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً+.
أخرجه أحمد في المسند (2/286) رقم 7842، والحميدي في مسنده ص494 رقم 1172 وسعيد بن منصور في سننه (1/147) رقم 523، ومسلم في الصحيح (2/1040) رقم 1424 والنسائي في المجتبى (6/77).
قال الحميدي: يعني =صغراً+
ب_ وعن المغيرة بن شعبة÷قال: أتيت النبي"، فذكرت له امرأة أخطبها، قال: اذهب، فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، قال: فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها، وخبرتهما بقول النبي" فكأنما كرها ذلك، فسمعْت ذلك المرأة وهي تقول: إن كان رسول الله"أمرك بذلك أن تنظر، وإلا فإني أنشدك، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، فذكر من موافقتها+.
رواه عبدالرزاق في المصنف (6/156) رقم 10335
من طريق سفيان الثوري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن بكر بن عبدالله المزني أن المغيرة بن شعبة قال: فذكره.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد في المسند (4/244) رقم 18137.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/355)، وسعيد بن منصور في سننه (1/145) رقم 517، وأحمد في المسند (4/246) رقم 1815، وابن الجارود في المنتقى ص170 رقم 675، والبغوي في شرح السنة (9/16) رقم 2247، والطحاوي في معاني الآثار (3/14)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/84) وأبو عوانة في مسنده (3/18) رقم 4036 والدارقطني في السنن (3/252) رقم 31
من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير.
وأخرجه الدارمي في سننه (ص530)
من طريق قبيصة، ثنا سفيان، عن عاصم به
ومن طريق سفيان الثوري أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/146) رقم 518، والطحاوي في معاني الآثار (3/14)،
ورواه سعيد بن منصور في سننه (1/145) رقم 516، والطبراني في الكبير (20/424) رقم 1055، والدارقطني في سننه (3/252) رقم 31، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7/344)، والبيهقي في الكبرى (7/85)
من طريق أبي شهاب عبدربه بن نافع الحناط(1/72)
ورواه الترمذي في الجامع (3/397) رقم 1056
من طريق ابن أبي زائدة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة
ورواه النسائي في المجتبى (6/69)
من طريق حفص بن غياث
وأخرجه الطبراني في الكبير (20/434) رقم 1056
من طريق عبدالواحد بن زياد.
وأخرجه الطبراني أيضاً (20/434) رقم 1053
من طريق جرير بن حازم
ورواه الطبراني أيضاً (20/434) رقم 1054
من طريق السكن بن إسماعيل الأصم الأنصاري
ثمانيتهم عن عاصم بن سليمان الأحول، عن بكر بن عبدالله المزني، عن المغيرة بن شعبة به.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقال أبو عوانة: وفي سماع بكر من المغيرة نظر.
وأثبت سماعه منه الدارقطني في العلل (7/139) رقم 1260، فقال:
=ومدار الحديث على بكر بن عبدالله المزني. قيل له: سمع من المغيرة؟ قال؟ نعم+.
وأخرجه عبدالرزاق (6/156) رقم 10335
من طريق معمر، عن ثابت البناني، بكر بن عبدالله المزني، أن المغيرة بن شعبة به.
ومن طريقه أخرجه ابن ماجه (1/600) رقم 1866، والدارقطني في السنن (3/253) رقم 33، والطبراني في الكبير (20/433) رقم 1052
وجاء من طريق عبدالرزاق أيضاً من وجه آخر
أخرجه عبد بن حميد في المنتخب (3/126) رقم 1252، وابن حبان في صحيحه (6/351) رقم 4043، وابن الجارود في المنتقى ص170 رقم 676، وابن ماجه في سننه (1/599) رقم 1865، والدارقطني في السنن (3/253) رقم 32، والحاكم في المستدرك (2/165) والبيهقي في الكبرى (7/84)
عن معمر بن راشد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك _رضي الله عنهما_ به
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/75) رقم 1865:
هذا إسناد صحيح. رجاله ثقات+.
وقال الدارقطني: الصواب: =عن ثابت، عن بكر المزني+.
وقال في العلل (7/139) رقم 1260:
=ورواه عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، أن المغيرة خطب امرأة فقال له النبي"...+، وهذا وهم، وإنما رواه ثابت عن بكر مرسلاً(1/73)
ورواه عبدالرزاق أيضاً عن سفيان الثوري، عن حميد، عن أنس. وإنما رواه حميد عن بكر، ومدار الحديث على بكر بن عبدالله المزني+.
قال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (28/309):
=وقال الغلابي:... ومعمر عن ثابت ضعيف_اهـ.
ونقل مثل ذلك الحافظ الذهبي في الميزان (4/154) رقم 8682. هذا لفظ عبدالرزاق ولفظ سعيد بن منصور:
=فقالت المرأة: إني أُحَرِّجُ عليك إن كان رسول الله"لم يأمرك أن تنظر إليَّ، وإن كان رسول الله"أمرك أن تنظر لما نظرتَ، ورفعت السِّجْف، فنظرت إليها، فتزوجتها، فما نزلت مني امرأة قط بمنزلتها، وقد تزوجت سبعين امرأة أو بضعة وسبعين+
قلت: السِّجْفُ: هو الستر. قاله ابن الأثير في النهاية (2/343).
ج_ وعن جابر بن عبدالله _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله":
=لا جناح على أحدكم إذا أراد أن يخطب المرأة أن يغترها، فينظر إليها، فإن رضي نكح، وإن سخط ترك+.
رواه عبدالرزاق في المصنف (6/157) رقم 10337، والإمام أحمد في المسند (3/360) رقم 14869، والحاكم في المستدرك (2/165) والبيهقي في الكبرى (7/84) والطحاوي في معاني الآثار (3/14)
من طريق داود بن الحصين، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر بن عبدالله به.
هذا لفظ عبدالرزاق ولفظ الحاكم:
=إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل+. فخطبت امرأة من بني سليم، فكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها+.
وقال: هذا حديث صحيح، على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
ورواه أحمد (3/334) رقم 14586، وأبو داود في السنن (2/565) رقم 2082 وابن أبي شيبة (4/355)
من طريق عبدالواحد بن زياد، ثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عبدالرحمن بن سعد بن معاذ، عن جابر، قال: قال رسول الله":(1/74)
=إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل+. قال: فخطبت جارية من بني سلمة، فكنت أختبئ لها تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها+.
قال ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (4/428) رقم 2007:
=لا يصح.. فإن واقداً هذا لا تعرف حاله. والمذكور المعروف إنما هو واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ أبو عبدالله الأنصاري الأشهلي.. وهو مدني ثقة.
قلت: لعل الصواب في =واقد بن عبدالرحمن+ أنه هو ابن عمرو بن سعد بن معاذ المتقدم لأمور:
أحدها: أن مخرج الحديث واحد، وقد نسبه إلى عمرو اثنان: وهما يحيى بن العلاء عند عبدالرزاق والآخر محمد بن إسحاق عند أحمد والحاكم والبيهقي والطحاوي
وهذا معروف وثقه أهل العلم.
ثانيها: أن =واقد بن عبدالرحمن+ غير معروف عندهم مع أن السند واحد؛ ولهذا قال الحافظ الذهبي في الميزان (4/330) رقم 9330:
=واقد بن عبدالرحمن (د) بن سعد بن معاذ، عن جابر في النظر إلى المخطوبة، تفرد عنه داود بن الحصين، فلا يدرى من ذا إلا أن يكون =واقد بن عمرو (م،د،س) بن سعد بن معاذ فهو ثقة.
وقال في الكاشف (3/205) رقم 6139:
=واقد بن عبدالرحمن بن سعد بن معاذ، عن جابر، وعنه داود بن الحصين وابن إسحاق ثقة. ورمز له: (د).
ثم قال بعده رقم 6140:
=واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر وأنس، وعنه يحيى بن سعيد و محمد بن عمرو ثقة مات سنة 120هـ ورمز له: م، د، س، ق+.
وقال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (30/412) رقم 6668 في ترجمة واقد بن عبدالرحمن:
=إن لم يكن ابن عم واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، فإنه هو+اهـ.
قال الحافظ في الفتح (9/181):
=وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: =إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر(1/75)
=وأخرج أبو داود والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: =إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل+، وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة، وصححه ابن حبان والحاكم، وأخرجه أحمد وابن ماجه، ومن حديث أبي حميد أخرجه أحمد والبزار+.
قلت: حديث أبي حميد وهو الساعدي أخرجه أحمد في المسند (5/424) رقم 23602، 23603، والطحاوي في معاني الآثار (3/14)، والطبراني في الأوسط (1/498) رقم 915
من طريق زهير بن معاوية، حدثنا عبدالله بن عيسى، حدثني موسى بن عبدالله بن يزيد، عن أبي حميد أو حميدة _الشك من زهير_ قال: قال رسول الله":
=إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخِطبة، وإن كانت لا تعلم+
وأخرجه البزار في مسنده (9/165) رقم 3714
من طريق قيس، عن عبدالله بن عيسى، عن موسى بن عبدالله، عن أبي حميد÷قال: قال رسول الله":
=لا حرج أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أ يتزوجها من حيث لا تعلم+.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبدالله بن عيسى إلا زهير، ولا يروى عن أبي حميد الساعدي إلا بهذا الإسناد+.
وقال الهيثمي في المجمع (4/276): رواه أحمد إلا أن زهيراً شك فقال:
=عن أبي حميد، أو أبي حميدة+ والبزار من غير شك _والطبراني في الأوسط، والكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح+اهـ.
قلت: وهو كما قال إسناده صحيح. رجاله ثقات لا مطعن فيهم.
وجه الدليل من حديث جابر هذا على تحريم السفور، وعلى فرضية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، قال صفي الرحمن في إبراز الحق ص51 من وجوه:
=الأول: قوله": =لا جناح أن يغترها، فينظر إليها+ فهو يفيد أن النظر إلى المرأة لم يكن يمكن وهي منتبهة بوجود الرجل، وأن النظر إليها مع غرتها لا يجوز، بل فيه جناح إلا إذا كان لمثل هذه الأغراض المشروعة.
الثاني قوله": =فإن استطاع أن ينظر+ أو =فقدر أن يرى+الخ(1/76)
يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلاً في ذلك الزمان، ل كان يحتاج إلى حيل وتصرفات. ولو كانت النساء يخرجن سافرات الوجوه لم يكن لاشتراط الاستطاعة والقدرة معنى.
الثالث: ما فعله جابر من الاختباء تحت أصول النخل دليل على أن النساء لم يَكُنَّ يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في مأمن من نظر الرجال+اهـ.
وقال صفي الرحمن أيضاً ص52 في دلالة حديث المغيرة بن شعبة÷ على أن نساء الصحابة _رضي الله عنهن_ كن متسترات الوجوه:
=وهذه القصة أيضاً تدل على أن النساء كُنَّ قائمات بالتستر بحيث لم يكن الرجل يقدر على أن يراهن إلا بالحيل والتصرفات، أو إلا إذا سمحن له بالرؤية، ولو كن يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدين، مكتحلات العينين، مخضوبات الكفين _كما زعم بذلك الزاعمون، وأفتى به المفتون_ لم يكن الرجال يحتاجون إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن+اهـ.
وقال العلامة الإمام حمود التويجري في الصارم المشهور ص202:
=وفي هذه الأحاديث أيضاً بيان ما كان عليه نساء الصحابة _رضي الله عنهم_ من المبالغة في التستر من الرجال؛ ولهذا لم يتمكن جابر، ومحمد بن مسلمة _رضي الله عنهما_ من النظر إلى المخطوبة إلا من طريق الاختباء والاغتفال، وكذلك المغيرة لم يتمكن من النظر إلى مخطوبته إلا بعد إذنها له في النظر إليها+
فليتأمل ذلك المفتون بسفور النساء، وتكشفهن بين الرجال الأجانب، وليتقوا الله في أمورهم عامة، وفي نسائهم خاصة، وليعلموا أنهم مسئولون عنهن يوم القيامة، وليحذروا أن يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115)
13_ النهي عن إبداء وصف المرأة للرجال
عن عبدالله بن مسعود÷قال: قال النبي":
=لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها+(1/77)
أخرجه أحمد في المسند (1/380_387_460)، وأبو داود (2/610) رقم 2150 والترمذي (5/109) رقم 2792، والبغوي في شرح السنة (9/19) رقم 2249، وابن حبان في صحيحه (9/468) رقم 4160، والبخاري في الصحيح (6/160) رقم 10419 وأخرجه مسلم في الصحيح (1/266) رقم 338 باب تحريم النظر إلى العورات.
ولفظه:
=لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد+.
قال الإمام حمود التويجري في الصارم ص203:
=وفي نهيه"المرأة أن تباشر المرأة، فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها دليل على مشروعية احتجاب النساء من الرجال الأجانب، وأنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحو ذلك؛ ولهذا قال: =كأنه ينظر إليها+ فدل على أن نظر الرجال إلى الأجنبيات ممتنع في الغالب من أجل احتجابهن عنهم، ولو كان السفور جائزاً لما كان الرجال يحتاجون إلى أن تنعت لهم الأجنبيات من النساء، بل كانوا يستغنون بنظرهم إليهن، كما هو معروف في البلدان التي قد فشا فيها التبرج والسفور+اهـ.
قلت: وبهذا اتضح لذي عينين أن النساء في عهد النبوة كن محتجبات، غير سافرات الوجوه، وما ذلك إلا لأنهن عورات، كما صح بذلك الحديث عن النبي"أنه قال: =المرأة عورة+ كما تقدم من حديث ابن مسعود÷ وبناءً على هذا قال أهل العلم بحظر النظر إلى النساء. قال الإمام النووي×في شرح حديث مسلم هذا (4/30): =باب تحريم النظر إلى العورات+ ثم ساق الحديث ثم قال: =وأما أحكام الباب ففيه تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة.(1/78)
وهذا لا خلاف فيه وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع. ونبه"بنظر الرجل إلى عورة الرجل على نظره إلى عورة المرأة وذلك بالتحريم أولى. وهذا التحريم في حق غير الأزواج والسادة. أما الزوجان فلكل واحد منها النظر إلى عورة صاحبه جميعها ... إلى أن قال:
وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها، فكذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها. وقال بعض أصحابنا: لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة، وليس هذا القول بشيء+اهـ.
14_ امتناع عائشة أم المؤمنين _رضي الله عنها_ من إدخال أفلح أخي أبي القُعَيس عليها، بعد ما استأذن عليها واحتجابها منه
قال الإمام البخاري×في الصحيح (6/126) رقم 5103: باب لبن الفحل حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن أفلح أخا أبي القُعَيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، فأبَيْتُ أن آذن له، فلما جاء رسول الله"أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له+.
قال الحافظ في الفتح (9/152) في فوائد هذا الحديث:
=وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب، ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه+.
وقال العيني في فوائد الحديث في عمدة القارى (20/98):
=قوله: =بعد أن نزل الحجاب+ فيه أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالإجماع، وما ورد من بروز النساء فإنما كان قبل نزول الحجاب، وكانت قصة أفلح مع عائشة بعد نزول الحجاب، كما صرح به هنا+اهـ.(1/79)
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في حظر سفور المسلمة عن وجهها وفرض احتجابها عن الرجال الأجانب، والتي قد بلغت في معناها حد التواتر، وقد سرد منها فضيلة الشيخ حمود التويجري في كتابه الصارم المشهور ص881_207 ما يقارب ثلاثين حديثاً، قد تظاهرت دلالتها وتضافرت على فرضية احتجاب وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب.
وأما الدليل من الإجماع على تحريم التبرج والسفور، وفرضية القول باحتجاب نساء المسلمين عن الرجال الأجانب فقد نقله عنهم ما ينيف على أربعين نفساً من أئمة أهل العلم، ما بين ناقل، وناقل عن غيره مقرراً له، وهاك ما وقفت عليه من النقول عنهم:
ذكر إجماع العلماء واتفاقهم على وجوب ستر وجوه النساء عند حضرة الرجال الأجانب
اعلم أنه نسب لابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه فسر قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] بالوجه والكفين. قال ابن كثير في تفسيره (3/274): وهذا هو المشهور عند الجمهور+./ قلت: وفيه نظر، وذلك لما يلي:
قال محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ في أضواء البيان (6/198) معقباً على هذا القول المنسوب للجمهور قال:
=توجد في الآية قرنية تدل على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب: هي ما تتزين به المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرنية على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه+.
وقال أيضاً (6/586) في وجوب ستر الوجه:
=ومن الأدلة على ذلك أيضاً هو ما قدمنا في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى إلا ما ظهر منها: الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير =إلا ما ظهر منها+ بالوجه والكفين+اهـ.(1/80)
وقد تتبع فضيلة الشيخ عبدالقادر بن حبيب الله السندي في رسالة الحجاب له ص21_26 طرق ما نسب إلى ابن عباس من التفسير بالوجه والكفين في الآية المذكورة، فرأى أنها أسانيد واهية لا تقوم بها حجة. ثم قال:
=وبذلك يمكن أن يقال: إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبدالله بن عباس _رضي الله عنهما_/ نقلاً من عودة الحجاب للمقدم (3/263_266)
قلت: وسبرت أسانيد ما ورد عن ابن عباس في ذلك، فوجدتها كما قال السندي، فلم يصح منها شيء _كما ستراه إن شاء الله في بابه، والذي ثبت عنه بالأسانيد الصحيحة: هو القول بوجوب احتجاب نساء المؤمنين _كما سيأتي أيضاً _إن شاء الله_
قال العلامة الشوكاني في فتح القدير (4/304): =قال الواحدي: =قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذىً+اهـ.
قلت: وهو كما قال الواحدي. فكل من وقفت عليه من المفسرين لآية الحجاب من سورة الأحزاب فسرها بذلك أو نحوه، وهو قول عبدالله بن مسعود وغيره، وبه قال ابن عباس _رضي الله عنهم_.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن أئمة علماء المسلمين قد اتقوا، وأجمعوا على فرض حجب نساء المؤمنين بستر أبدانهن ووجوههن من الرجال الأجانب، إجماعاً نقلياً بفرضية حجبهن، وعملياً بتوارث الحجاب في وجوههن وأبدانهن، وإليك البيان:
الأول: النقل عن أهل العلم الاتفاق على فرض احتجاب نساء المؤمنين إذا كن بحضرة الرجال الأجانب.
1_ قال الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318هـ:
=وأجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهه، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمره إلا ما وري عن فاطمة بنت المنذر، قالت: كنا نُخَمِّرُ وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر _تعني جدتها+اهـ(1).
__________
(1) عزاه إليه الحافظ في الفتح (3/406).(1/81)
2_ وقال الحافظ الإمام ابن عبدالبر المتوفى سنة 463هـ في التمهيد (15/108):
=وأجمعوا أن إحرامها في وجهها دون رأسها، وأنها تُخَمِّرُ رأسها، وتستر شعرها وهي محرمة، وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها وهي محرمة إلا ما ذكر عن أسماء. روى مالك عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت: =كنا نُخَمِّرُ وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ.
ولفظه في الاستذكار (11/28) رقم 15257:
=وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستر به عن نظر الرجال إليها+اهـ.
3_ وقال الوزير ابن هبيرة المتوفى سنة 560هـ في الإفصاح (1/284) في محظورات الإحرام:
=والمرأة في ذلك كالرجل، وتنفرد عنه بأنها يجوز لها لبس القميص والخف والسراويل والخمار، وأنها لا تكشف رأسها، بل تكشف وجهها، وقد رخص لها أن تسدل عليه مع الحاجة ما لا يقع على بشرتها... فهذه محظورات الإحرام المجمع عليها+اهـ.
4_ وقال الإمام ابن رشد الحفيد المتوفى سنة 595هـ في بداية المجتهد (1/336):
=وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستر به من نظر الرجال إليها، كنحو ما روي عن عائشة، أنها قالت:
=كنا مع رسول الله"، ونحن محرمون، فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قِبَلِ رؤوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه، ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت:
=كنا نخمر وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ.(1/82)
5_ وقال شيخ الحنابلة الموفق ابن قدامة المتوفى سنة 620هـ في المغني (5/154) رقم 590 في قول الخرقي: =المرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها+، قال:
=فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، روي ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافاً؛ وذلك لما روي عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله"، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ رواه أبو داود والأثرم، ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم ستره على الإطلاق كالعورة+.
6_ وقال أبو الحسن بن القطان المتوفى سنة 628هـ في الإقناع (1/262) رقم 1458:
=وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستر به عن نظر الرجال إليها+اهـ.
7_ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ في مجموع الفتاوى (26/112):
=أما المرأة؛ فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستر بها، وتستظل بالمحمل، ولكن نهاها النبي"أن تنتقب أو تلبس القفازين والقفازان غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافى سترتها عن الوجه لا بعود، ولا بيد ولا غير ذلك.
وقال شيخ الإسلام أيضاً في حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة ص7:
=وبالجملة، فقد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت وحينئذٍ فتصلي في بيتها، وإن بدا وجهها ويداها وقدماها+اهـ.
8_ وقال شمس الدين الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 752هـ في كتابه بدائع الفوائد (3/141):(1/83)
=قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء، وأسافله بالإزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يزاد على موجب النص، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً؟ فأي نص اقتضى هذا؟! أو مفهوم، أو عموم أو قياس أو مصلحة، بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب، والبرقع، وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفازين وأما سترهما بالكم، وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب، فلم ينه عنه البتة+.
9_ وقال الإمام العلامة شمس الدين أبو عبدالله محمد بن مفلح المتوفى سنة 763هـ في كتابه الفروع (3/450):
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره وفاقاً للثلاثة.
قال ابن المنذر: كراهية البرقع ثابتة عن سعيد وابن عمر وابن عباس وعائشة، ولا نعلم أحداً خالف فيه... إلى أن قال:
=ويجوز لها أن تسدل على الوجه لحاجة وفاقاً؛ لقول عائشة: =كان الركبان يمرون بنا.. الحديث. وعن فاطمة بنت المنذر، قالت: =كنا نُخَمِّرُ وجوهنا، ونحن محرمات.. الحديث... إلى أن قال:
=وحكم المرأة كالرجل في جميع ما سبق إلا في لبس المخيط وتظليل المحمل بالإجماع؛ لما سبق من حديث ابن عمر، ولحاجة الستر+اهـ باختصار.
10_ وقال ابن مفلح أيضاً (5/155):
=ويحرم النظر بشهوة، ومن استحله كفر إجماعاً قاله شيخنا، ونصه:
=وخوفها+ واختاره شيخنا+اهـ.
11_ وحكى الإمام العلامة أحمد بن حسين بن رسلان الشافعي المتوفى سنة 844هـ:
اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق+/ نقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار (6/130).
12_ وقال الإمام العلامة يوسف بن عبدالهادي الشهير بابن المَبْرَد المتوفى سنة 909هـ في مغني ذوي الأفهام ص65:
=والمرأة إحرامها في وجهها. يحرم تغطيته، ويجوز لها أن تسدل عليه عند الحاجة.(1/84)
وقال أيضاً في المرجع السابق ص120هـ: =ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت+ يعني بالاتفاق عند الأئمة الأربعة؛ لأنه ساق هذا الحكم بالفعل المضارع. وقد قال في مقدمة كتابه هذا: =وما اتفق عليه الأئمة الأربعة بـ =صيغة المضارع+ أي أنه يرمز لاتفاقهم بهذه الصيغة.
13_ وقال الإمام المحدث الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ في فتح الباري (4/54) عند قوله: =ولا تنتقب المرأة المحرمة+:
=أي لا تستر وجهها _كما تقدم_ واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية، ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين+اهـ.
وتقدم نقله الإجماع عن ابن المنذر محتجاً به مقرراً له.
14_ وقال الإمام العلامة الحافظ بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني المتوفى سنة 855هـ في عمدة القارئ (9/166):
=وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال+ قاله محتجاً به مقرراً له.
15_ وقال الإمام العلامة الفقيه محمد بن شهاب الدين أحمد بن أحمد الشافعي الصغير المتوفى سنة 1004هـ في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (6/187) قال:
=في كشف وجه المرأة وكفيها والنظر إلى ذلك عند الشافعية ثلاث حالات:
الأولى: أن يخاف الفتنة، أو ما يدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدماته، فالنظر والكشف في هذه الحالة حرام بالإجماع، كما قاله الإمام.
الحالة الثانية: أن ينظر إليها بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد، وأمن الفتنة فيحرم مطلقاً، وعلى المرأة ستر وجهها وكفيها من رؤوس الأصابع إلى المعصم ظهراً وبطناً.
الحالة الثالثة: أن تنتفي الفتنة، وتؤمن الشهوة، ففي هذه الحالة قولان:(1/85)
لا يجوز ولو من غير مشتهاة، أو خوف فتنة على الصحيح، وهو قول النووي ×في المنهاج، والإصطخري وأبي علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم. ووَجَّهَهُ الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم] واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحول أي بشهوة أو بغير شهوة كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية+اهـ(1)
16_ وقال الإمام العلامة أبو عبدالله محمد بن عبدالباقي بن يوسف المالكي الشهير بالزرقاني المتوفى سنة 1122هـ في شرح الموطأ (2/234) في حديث فاطمة بنت المنذر، أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+
قال في قولها =كنا نخمر+: نغطي =وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+ جدتها، وجدة زوجها، زاد في رواية =فلا تنكره علينا+؛ لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها أو ينظر لها بقصد لذة. قال ابن المنذر: =أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستر به عن نظر الرجال، ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر فذكر ما هنا ثم قال: =ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله"إذا مُرَّ بنا سدلنا الثوب على وجوهنا، ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعناه+اهـ.
17_ وقال الإمام شيخ الإسلام العلامة محمد بن عبدالوهاب المتوفى سنة 1206هـ في مختصر الإنصاف (1/296) في إحرام المرأة:
__________
(1) وانظر عودة الحجاب (3/426).(1/86)
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه، فيحمل على السدل، فلا يكون فيه اختلاف؛ فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريباً منها سدلت الثوب من فوق رأسها، لا نعلم فيه خلافاً، قال أحمد: =إنما لها أن تسدل النقاب من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل ولا بأس للمرأة أن تطوف منتقبة إذا لم تكن محرمة، وكرهه عطاء، ثم رجع؛ لما بلغه أن عائشة تفعله. قال ابن المنذر:
=أجمعوا على أنها ممنوعة مما يمنع منه الرجل إلا بعض اللباس، وأن لها لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف+اهـ.
18_ وقال الإمام العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ في نيل الأوطار (6/128):
=وقال ابن المظفر في البيان: إنه يحرم النظر إلى الأجنبية مع الشهوة اتفاقاً+.
ثم حكى في ص130 عن ابن رسلان أنه قال:
=اتفق المسلمون على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق+اهـ.
وقال أيضاً في نيل الأوطار (5/5) في حديث =لا تنتقب المرأة+:
=واختلف العلماء في لبس النقاب، فمنعه الجمهور، وأجازته الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية، وهو مردود بنص الحديث. قال في الفتح: =ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين+اهـ.
19_ وحكى العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في عون المعبود (11/109) رقم 4098 عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق+ مقرراً له ومحتجاً به، عند خوف الفتنة.
20_ وقال العلامة السهارنفوري المتوفى سنة1346هـ، في بذل المجهود (16/431):(1/87)
=والمراد أن المرأة إذا بلغت لا يجوز لها أن تُظْهِرَ للأجانب إلا ما تحتاج إلى إظهاره للحاجة: إلى معاملة أو شهادة إلا الوجه والكفين، وهذا عند أمن الفتنة، وأما عند الخوف من الفتنة فلا، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره+اهـ.
21_ وقال العلامة الفقيه عبيدالله المباركفوري في مرعاة المفاتيح (9/343) بعد الكلام على حديث عائشة وأسماء في تغطية الوجه في الإحرام بحضرة الأجانب:
=وهذا كله يدل على اتفاق العلماء على وجوب كشف وجهها، وعلى أن لها أن تسدل الثوب وترخيه من فوق رأسها على وجهها للتستر عن أعين الناس، كما يدل عليه حديث عائشة المذكور، وعليه يحمل ما روي عن فاطمة بنت المنذر وأسماء بنت أبي بكر+اهـ.
22_ وقال الإمام عز الدين الشيخ أحمد البيانوني في كتاب الفتن
=قول الأئمة: عند عدم الفتنة إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر لجماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة+... إلى أن قال:
=فثبت المطلوب وهو ستر الوجه عند خوف الفتنة، والفتنة واقعة لا محالة لا يشك في ذلك إلا مكابر، ومنكر للحقائق والواقع، وعليه اتفاق الأئمة _ رضوان الله عليهم أجمعين _؛ لأن الفتنة أمرها محقق، لا تحتاج إلى إيراد حجة، أو إقامة برهان أو تقديم دليل، ولا يمتري في ذلك إلا كل من ينكر الشمس في رابعة النهار+اهـ(1)
23_ وقال الإمام بن المنذر في الإجماع ص44 رقم 151:
=وأجمعوا على أن للمرأة المحرمة لبس القميص والدرع والسراويل والخمر والخفاف+
__________
(1) انظر اللباب في فرضية النقاب لفريد بن أمين الهنداوي ص139_140.(1/88)
قلت: الشاهد منه: حكاية الإجماع على أن للمحرمة لبس الخمر. ولبس الخمر للنساء هو تغطية وجوههن. فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك أنها قالت: =فخمرت وجهي+ أي غطيت وجهي بجلبابي. قاله الحافظ ابن حجر(1)
وقال في قوله تعالى [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] وقول عائشة: =شققن مروطهن، فاختمرن بها+ قال الحافظ: =أي غطين وجوههن+(2).
وقال العيني في قول عائشة المذكور: =فاختمرن بها+:
=أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها+(3).
24_ وقال أبو عمر بن عبدالبر في كتابه =الكافي في فقه أهل المدينة+ (1/388):
=والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها، وكفيها، ولا بأس بسدل ثوبها على وجهها؛ لتستره من غيرها..+.
فقد قال في مقدمته: =اعتمدت فيه على علم أهل المدينة، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبدالله مالك بن أنس×؛ لما صح له من جمع مذاهب أسلافه من أهل بلده مع حسن الاختيار، وضبط الآثار، فأتيت فيه بما لا يسع جهله لمن أحب أن يَسِمَ بالعلم نفسَه، واقتطعته من كتب المالكيين ومذهب المدنيين، واقتصرت على الأصح علماً، والأوثق نقلاً+اهـ.
قلت: يعني بذلك أن ما أورده في هذا الكتاب من الأحكام هو الأصح عند علماء أهل المدينة من المالكية وغيرهم.
25_ وقال أبو الأعلى المودودي في الحجاب ص303:
=النقاب: وكل من تأمل كلمات الآية يعني آية سورة الأحزاب رقم59 وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي"لم ير في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب+اهـ.
26_ وقال الإمام العلامة الكبير بكر أبو زيد في حراسة الفضيلة ص37:
__________
(1) انظر فتح الباري (8/463).
(2) فتح الباري (8/490).
(3) عمدة القاري (20/217).(1/89)
=واتفق المسلمون على عدم خروج نساء المؤمنين أما الرجال إلا متحجبات، غير سافرات الوجه، ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة+اهـ.
27_ وقال الدكتور محمد فؤاد البرازي في حجاب المسلمة (1/215) في حكم ستر وجه المرأة وكفيها:
=فانعقدت خناصر المذاهب الأربعة على وجوب سترهما وحُرْمَةِ كشفهما، لذا نقل الإمام النووي والتقي الحصني، والخطيب الشربيني وغيرهم عن الإمام الجويني إمام الحرمين اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه+اهـ.
28_ ونقل البرازي (1/207) عن الشيخ محمد بن عبدالله الجرادي أنه قال:
=بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها بدون استثناء شيء منه أصلاً..
ثم قال: =ويجب عليها أن تستتر عنه. هذا هو المعتمد، ونقل القاضي عياض المالكي عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة/ وعلى الرجال غض البصر عنها. وقيل: وهذا لا ينافي ما حكاه الإمام من اتفاق المسلمين على منع النساء بأن يخرجن سافرات الوجوه. أي كاشفاتها؛ لأن منعهن من ذلك ليس لوجوب الستر عليهن، بل لأن فيه مصلحة عامة بسد باب الفتنة+اهـ.
29_ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية فيما عزاه إليه أحمد محمد جمال اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه؛ لأن النظر مظنة الفتنة+(1).
30_ وقال الشيخ إبراهيم بن محمد الضويان في منار السبيل (1/318) باب محظورات الإحرام:
=فإن احتاجت لتغطيته يعني وجهها لمرور الرجال قريباً منها سدلت الثوب من فوق رأسها،/ لا نعلم فيه خلافاً+اهـ.
31_ وقال فضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري: وقد حكى النووي× =الإجماع على تحريم نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل+(2) قاله مقرراً له وسيأتي قريباً إن شاء الله.
__________
(1) انظر مكانك تحمدي ص34 وحجاب المسلمة للبرازي (1/233).
(2) انظر الصارم المشهور للتويجري ص42.(1/90)
32_ وقال الإمام العلامة الرباني عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله في كتابه النظرات ص55 بعد أن ساق طائفة من أقوال أهل العلم في وجوب الحجاب وتحريم السفور قال:
=فيؤخذ من هذا كله أن علماء الإسلام قد أجمعوا على أن المرأة يجب عليها كشف وجهها في الإحرام، وأجمعوا على أن لها ستره عند حضور الرجال، فحيث كان ستر الوجه في الإحرام واجباً فستره في غيره أوجب، وكانت أسماء رضي الله عنها تستر وجهها مطلقاً، أي ولم تلتزم بالسدل الذي رويت صفته عن عائشة+اهـ.
وقال في ص103 بعد أن ذكر الأدلة وأقوال أهل العلم في وجوب الحجاب:
=إذا تبين هذا، فاعلم أن علماء الإسلام الأعلام متفقون كما سيأتي على أن المرأة كلها عورة حينما تبرز للرجل غير المحرم+اهـ.
33_ وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي في كتابه =النظر في أحكام النظر بحاسة البصر ص184:
=رأيت أبا عمر بن عبدالبر حكى ما أنصه بلفظ تبرياً من عهدته، قال:
=وأجمعوا أن الأمة ليس منها عورة إلا ما من الرجل، والعلماء مجمعون على أن الله عز وجل لم يرد بما أمر به النساء من الاحتجاب، وأن =يدنين عليهن من جلابيبهن+ الإماء، وإنما أراد من ذلك الحرائر+ هكذا قال+اهـ.
34_ وقال العيني في عمدة القاري (20/98) في فوائد حديث عائشة: =أن أفلح أخا أبا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن أنزل الحجاب.. الحديث:
=فيه أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالاجماع+اهـ.
35_ وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في رسالته: =إلى كل فتاة تؤمن بالله+ ص45:(1/91)
=وهكذا فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة، ومن يرى منهم أنه غير عورة كالحنفية والمالكية(1)_ أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان من حولها من ينظر إليها بشهوة، ومن الذي يستطيع أن يزعم بأن الفتنة مأمونة اليوم، وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة+(2).
36_ وحكى النووي في روضة الطالبين (7/21) عن إمام الحرمين الجويني أبي المعالي أنه حكى اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة وهو محرك الشهوة فاللائق بمحاسن الشريعة سد الباب فيه، والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية.. الخ
37_ وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية في كتابه =مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/231):
=وقد أجمع علماء السلف على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها، وأنه عورة يجب عليها ستره إلا من ذي محرم+اهـ.
38_ وجاء في حاشية ابن عابدين (2/488) في كتاب الحج =وتستر وجهها عن الأجانب بإسدال شيء متجاف لا يمس الوجه، وحكى الإجماع عليه+.
39_وقال سماحة مفتي باكستان الشيخ محمد شفيع الحنفي في =المرأة المسلمة+ ص202:
=وبالجملة فقد اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأمة على أنه لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى منه العجائز، لقوله تعالى: [والقواعد من النساء].
40_ وقال الإمام المجتهد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير في الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم" (1/202):
=وأجمعوا على وجوب الحجاب للنساء+.
__________
(1) ثبت عند الحنفية والمالكية أن وجه المرأة عورة كما يأتي في ذكر مذاهبهم.
(2) انظر عودة الحجاب للمقدم (3/408).(1/92)
41_ ونقل الإمام النووي في شرح مسلم (4/30) أن نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع... إلى أن قال: وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها+اهـ.
42_ وقال العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري في تعليقه على الروض المربع (1/484):
= ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيد..الخ.
43_ وقال الحافظ أبو بكر محمد بن عبدالله بن أحمد بن حبيب العامري في كتابه =أحكام النظر إلى المحرمات وما فيه من الخطر والآفات، والرد على من استباح حله وادعى العصمة من الفتن+ص260:
=إن الذي أجمعت عليه الأمة واتفقت على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، وهم: من ليس بينهم رحم من النسب، ولا محرم من سبب كالرضاع وغيره فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض... فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين، لا يباح بدعوى زهد وصلاح ولا توهم عدم آفة ترفع عنهم الجناح إلا في أحوال نادرة من ضرورة أو حاجة... فما سوى ذلك محرم سواء كان عن شهوة أو عن غيرها+ اهـ باختصار.
وقال في المرجع نفسه ص287:
=ثم قد اتفقت علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقد تحريمه وفَعَلَهُ، وأقر عليه ورضي به فقد فسق، لا يسمع له قول ولا تقبل له شهادة فضلاً عن أن تظن به زهادة أو عبادة، بل يرتكب محظوراً محرماً، فاسق به مجرم بارتكابه معاصي لا تحصى+ اهـ.
وقال أيضاً في المصدر نفسه ص285:(1/93)
=وبعد هذا التقرير والبيان من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع أئمة الإسلام لا يجوز لوالي ناحية ولا سلطان أن يقر المدَّعِيَ من هذا مذهبَ الفقر والتصوف مع جهله التام أن يستغوي بناموسه وتلبيسه الشباب من السوادية للأغنام، وبعض النسوان بالاجتماع في مجلسٍ، واختلاط بينهم+ اهـ.
44_ وذكر الإمام الصنعاني في كتابه =منحة الغفار على ضوء النهار+ (4/2012،2011) إجماع المسلمين على تحريم التبرج.
45_ وقال ولي الدين أبو زرعة العراقي في طرح التثريب (5/46):
=قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرأة المحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف اهـ .
فدل النهي عن الانتقاب على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه ويمسه دون ما إذا كان متجافياً عنه. وهذا قول الأئمة الأربعة، وبه قال الجمهور+اهـ .
تنبيه مهم
من المعلوم المحقق أن خروج المرأة كاشفة لوجهها بين الرجال الأجانب ذريعة قوية للاختلاط بهم والخلوة والأسفار، وهو محرم؛ بالنص والإجماع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
=لايخلون رجل بامرأة، ولا تسافر إلا ومعها ذو محرم+ متفق عليه.
وأما الإجماع، فإليك نماذج منه:
46_ قال النووي في شرح مسلم:
=في هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية، والدخول عليها، وهذان الأمران مجمع عليهما+.
47_ وقال الحافظ في الفتح (4/17) رقم 1862: =فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع+.
48_ وقال أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في المفهم (5/500):
=وبالجملة فالخلوة بالأجنبية حرام بالاتفاق+.
49_ وقال الشوكاني في نيل الأوطار (6/127):
والخلوة بالأجنبية مجمع على تحريمها، كما حكى ذلك الحافظ في الفتح، وعلى التحريم ما في الحديث من كون الشيطان ثالثهما، وحضوره يوقعهما في المعصية+اهـ .
اعتراض وجوابه
فإن قيل: قال القاضي عياض في كتابه =إكمال المعلم+ (7/57) رقم 2170 من كتاب السلام / باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان:(1/94)
=فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره+؟
أجيب بأن القاضي × انفرد من بين العلماء بنقل هذا الحكم الذي غاير فيه بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيرهن من المؤمنات في حكم (الحجاب).
حيث نقل أن حجب الوجه والكفين مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهن من المؤمنات بلا خلاف!.
وهذا النقل فيه نظر ظاهر؛ لأنه مخالف كل المخالفة لأدلة الكتاب والسنة والأجماع والقياس على أن فرض الحجاب بالصفة المذكورة عام لكل نساء المؤمنين، ولس خاصاً بأزواج الني صلى الله عليه وسلم دون غيرهن كما تقدم بسطه في مواضعه.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لا خلاف _ في الحقيقة والواقع _ في فرضية الحجاب على نساء المسلمين، وأن فرضه ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهن من المؤمنات.
وأن من قال: إن فرضه خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقول مجانب للصواب، لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه؛ لأن القائل به قد تعلق بالخلاف المذكور، وجعل هذا الخلاف الشاذ حاكماً على الأدلة الشرعية، وهذا خلاف المقطوع به عند المسلمين جميعاً من أن أقوال الناس هي التي توزن _ صحة وبطلاناً _ بميزان الحكم الشرعي، وليس الحكم الإسلامي الشرعي هو الذي يوزن بخلاف العلماء ومذاهبهم ووقائع احوالهم وصدق القائل:
لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الخلق تعرف أهله
ثانياً: الإجماع العملي أي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين بالتزامهن بالحجاب في وجوههن، وأبدانهن عن نظر الرجال الأجانب من عصر الصحابة _رضي الله عنهم_، فمن بعدهم.(1/95)
فقد روى الإمام البخاري في الصحيح (2/215) في كتاب جزاء الصيد/ باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة/ والنسائي في المجتبي (5/133) في كتاب المناسك/ باب النهي عن أن تنتقب المرأة الحرام/ والترمذي في الجامع (3/195) رقم 833/ كتاب الحج/ باب فيما لا يجوز للمحرم لبسه/ ومالك في الموطأ ص328/كتاب الحج/ باب تخمير المحرم وجهه
عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عن النبي"أنه قال:
=لا تلبسوا القميص.. الحديث وفيه: =ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين+.
وجه الدليل من الحديث على استمرار احتجاب نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب هو أنه لما كان المعتاد عندهن لبس النقاب والقفازين في غير حال الإحرام، ولما كان الإحرام يتطلب منهن حالاً أخرى من اللباس نهينا عن لباس النقاب والقفازين فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×في حجاب المرأة المسلمة ص17:
=وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين. وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن+.
وقال فضيلة الشيخ حمود التويجري في الصارم المشهور ص258:
=فإلى هؤلاء الإخوان وغيرهم نسوق الكلمة الآتية:
=ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة، وقد كان ذلك معهوداً في زمنه"، كما يشير إليه" بقوله: =لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفاز+ وقال:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة النور:
=وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن+اهـ.
وقال العلامة المودودي في كتابه =الحجاب+ ص302 بعد أن أورد أقوال المفسرين لآية الأحزاب: [يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن.. الآية] قال:(1/96)
=ويتضح من هذه الأقوال جميعاً أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن الهجري حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي قد فهمناه من كلماتها. وإذا رجعنا بعد ذلك (إلى) الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضاً أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الآحاديث أن النبي"قال:
=المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين+. وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تَعَوَّدْنَ الانتقاب ولبس القفازين عامة، فنهين عنه في الإحرام، ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تعرض الوجوه في موسم الحج عرضاً... فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي"وعامة المسلمات كن يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضاً+اهـ باختصار.
_ وقال صفي الرحمن المباركفوري في كتابه =إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب+ ص53 في قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها]:
=المقصود أن فيها الدلالة على أن ستر جميع الجسد كان قد صار ديدن نساء الصحابة والتابعين ونساء المسلمين+ مستدلاً بآيات الحجاب، وذلك أنها لما نزلت امتثلت الصحابيات لها، فشققن مروطهن وغطين وجوههن، وجعلن النقاب جزءاً مستقلاً أو لباساً منفرداً من بقية ألبستهن، حتى صار ديدن نساء العرب، ونساء المسلمين كافة، لا في زمن الرسول"والصحابة والتابعين فقط، بل حكى الشوكاني عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق+اهـ.
_ وثبت عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نُخَمِّرُ وجوهنا ونحن محرمات، مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+ رضي الله عن الجميع.
أخرجه مالك في الموطأ (ص328) كتاب الحج/ باب تخمير المحرم وجهه
من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر به.(1/97)
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (4/203) رقم 2690
من طريق إبراهيم بن حميد، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك+.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/454)
من طريق علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام+.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي
قلت: وهو كما قال إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.
قال صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب ص49:
=وقد روى مالك في الموطأ ما يفيد أن تغطية الوجوه في الإحرام كانت عامة في النساء، لا في زمن الصحابة فقط، بل فيما بعدهم أيضاً، فقد روى عن فاطمة بنت المنذر، قالت: =كنا نُخَمِّرُ وجوهنا، ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق، فلا تنكره علينا+.
_ ومما يدل دلالة جلية على التزام نساء المؤمنين حجاب وجوههن عن الرجال الأجانب ما جاءت به السنة من رفع الجناح والحرج عن من يريد من الخطاب الزواجَ أن ينظر إلى مخطوبته.
فقد روى مسلم في الصحيح (2/1040) رقم 1424/ والبيهقي في السنن الكبرى (7/84) وابن حبان في صحيحه (9/349) رقم 4041، وسعيد بن منصور في سننه (1/147) رقم 523 أن أبا هريرة÷قال: كنت عند رسول الله"، فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار. فقال له رسول الله": =أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: =فاذهب، فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً+. أي صغراً أو زرقة.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله":
=لا جناح على أحدكم إذا أراد أن يخطب المرأة أن يغترها، فينظر إليها، فإن رضي نكح، وإن سخط ترك+.(1/98)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/355) وأبو داود في السنن (2/565) رقم 2082، وعبدالرزاق في المصنف (6/157) رقم 10337، والحاكم في المستدرك (2/165)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/84) وابن حزم في المحلى (11/220)
من طريق داود بن حصين، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن جابر به.
هذا السند عند عبدالرزاق والحاكم والبيهقي
وعند أبي شيبة وأبي داود، وابن حزم رووه
من طريق داود بن حصين عن واقد بن عبدالرحمن _يعني ابن سعد به
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
قلت سنده عند عبدالرزاق والحاكم والبيهقي صحيح، رجاله ثقات.
هذا لفظ عبدالرزاق
ولفظ أبي داود: =فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها+.
ولفظ الحاكم والبيهقي: = فكنت أتخبأ لها في أصول النخل.. الخ
ولفظ ابن أبي شيبة، وابن حزم: =فكنت أتخبأ تحت الكرب، حتى نظرت منها.. الخ
وفيه: =فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل+
وعن سهل بن أبي حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد امرأة ببصره. فقلت: تنظر إليها، وأنت من أصحاب رسول الله"؟! فقال: إني سمعت رسول الله"يقول:
=إذا ألقى الله في قلب امرئ خِطبة لامرأة، فلا بأس أن ينظر إليها+.
أخرجه أحمد في المسند (3/493)، و (4/225)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/356) وابن ماجه في السنن (1/599) رقم 1864، وعبدالرزاق في المصنف (6/158) رقم 10338 والبيهقي في الكبرى (7/85)، وسعيد بن منصور في سننه (1/146) رقم 519
من طريق الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أب حثمة، عن عمه سهل بن أبي حثمة، قال:.. فذكره إلا أن البيهقي قال في روايته: عن الحجاج، عن ابن أبي مليكة.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/13).
من طريق الحجاج بن أرطاة أيضاً، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة، عن عمه سليمان بن أبي حثمة(1)، قال: رأيت محمد بن مسلمة.. الحديث
__________
(1) هكذا جاء في الأصل: والصواب: =عن عمه سهل بن أبي حثمة..الخ.(1/99)
وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص164 رقم 1186
من طريق الحجاج أيضاً، عن محمد بن أبي سهل، عن أبيه(1) قال: رأيت محمد بن مسلمة يطالع امرأة من فوق إجار، ينظر إليها..الخ
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (9/349) رقم 4042
من طريق محمد بن خازم، عن سهل بن محمد بن أبي حثمة، عن عمه سليمان بن أبي حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ابنة الضحاك على إنجار من أناجير المدينة، يبصرها..الخ
هكذا خالف محمد بن خازم الحجاج بن أرطاة، فجعل سهلاً يروي عن سليمان.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/434)
من طريق إبراهيم بن صرمة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة، عن عمه سهل بن أبي حثمة، قال: كنت جالساً مع محمد بن مسلمة، فمرت ابنة الضحاك بن خليفة، فجعل يطاردها ببصره..الخ
قال الحاكم: هذا حديث غريب. وإبراهيم بن صرمة ليس من شرط هذا الكتاب.
وقال الذهبي: قلت: ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ.
وقال البيهقي: هذا الحديث إسناده مختلف فيه، ومداره على الحجاج بن أرطاة.
وقال البوصير في مصباح الزجاجة (2/74) رقم 1864:
=هذا إسناد فيه حجاج وهو ابن أرطاة الكوفي ضعيف ومدلس، وقد رواه بالعنعنة، ورواه البيهقي في الكبرى من طريق عبد ربه بن نافع، عن الحجاج، عن ابن أبي مليكة، عن محمد بن سليمان به. وقال: هذا حديث إسناده مختلف فيه ومداره على الحجاج بن أرطاة. قلت: لم ينفرد به حجاج بن أرطاة، فقد رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى، عن أبي خيثمة، عن ابي حازم، عن سهل بن محمد بن أبي حثمة، عن عمه سليمان بن أبي حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة فذكره+اهـ.
قال صفي الرحمن المباركفوري في إبراز الحق والصواب ص51:
__________
(1) هكذا قال: =عن أبيه+ والصواب: =عن عمه+.(1/100)
=ومعنى يغترها+ يستفيد من غِرتها أي غفلتها بأن يراها من حيث لا تشعر، وقد جاء ذلك مفسراً في نفس الحديث من عمل جابر... قال: =فكنت أتخبأ لها في أصول النخل، وفي رواية: =فكنت أتخبأ تحت الكَرَب حتى رأيت _نظرت_ منها بعض ما دعاني إلى نكاحها+.
قال: وفي هذا الحديث دليل من وجوه:
الأول: قوله": =لا جناح على أحدكم إذا أراد أن يخطب المرأة أن يغترها، فينظر إليها+ فهو يفيد أن النظر إلى المرأة لم يكن يمكن وهي منتبهة بوجود الرجل، وأن النظر إليها مع غرتها لا يجوز بل فيه جناح إلا إذا كان لمثل هذه الأغراض المشروعة.
الثاني: قوله": =فإن استطاع أن ينظر+ أو =فقدر أن يرى+.. الخ يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلاً في ذلك الزمان، بل كان يحتاج إلى حيل وتصرفات، ولو كان النساء يخرجن سافرات الوجوه لم يكن لاشتراط الاستطاعة والقدرة معنى.
الثالث: ما فعله جابر من الاختباء تحت أصول النخل دليل على النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في مأمن من نظر الرجال+اهـ باختصار.
وقال في حديث محمد بن مسلمة ص52:
=والأناجير جمع أنجار، وهو السطح الذي لم يحجر او ليس حواليه ما يرد الساقط.
وهذه القصة مثل قصة جابر÷في الدلالة على المطلوب مع مزيد الدلالة على أن النظر إلى الأجنبية كان من أسباب التعجب والاستنكار عند أوائل هذه الأمة+اهـ. إلى أن قال:
=وهذه القصة أيضاً تدل على أن النساء كن قائمات بالتستر بحيث لم يكن الرجل يقدر على أن يراهن إلا بالحيل والتصرفات أو إلا إذا سمحن له بالرؤية ولو كن يخرجن سافرات الوجوه كاشفات الخدين مكتحلات العينين مخضوبات الكفين كما زعم بذلك الزاعمون، وأفتى به المفتون لم يكن الرجال يحتاجون إلى تجشم هذه المشاق في رؤيتهن+اهـ بتصرف.
_ وقال البرازي في حجاب المسلمة ص190 في الاعتبارات المتعددة التي درج عليها المسلمون في ستر وجوه نسائهم:(1/101)
=ورابعها: تعامل المسلمات على ستر وجوههن من أول يوم فرض الحجاب فيه إلى الوقت الذي دالت فيه دولة الإسلام، وضعف الوازع الديني في نفوس المسلمين، وبدأ نساؤهم السفور بكشف الوجوه.
ومما يدل على هذا التعامل في ستر الوجه:
ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح، عن عاصم الأحول، قال: =كنا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الجلباب هكذا: =وتنقبت به+ فنقول لها: رحمكِ الله قال تعالى: [والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة] (النور:60) هو الجلباب.
قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: [وأن يستعففن خير لهن] فنقول: هو إثبات الجلباب+(1)
_ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (15/372):
=وإنما ضرب الحجاب على النساء؛ لئلا ترى وجوههن، وأيديهن. والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي"، وخلفائه أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز.. إلى أن قال ص373:
=بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء+اهـ.
_ وحكى الحافظ ابن حجر في الفتح (9/337):
=استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال... إلى أن قال:
=إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات+
_ وبمثله حكاه العيني في عمدة القاري (20/217)
_ وقال الحافظ أيضاً (9/324):
=ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب+اهـ.
_ وقال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين (2/53) في آداب المعاشرة عند قول ابن عمر: =قال رسول الله": =لا تمنعوا إماء الله مساجد الله+ فقال بعض ولده: =بلى والله لنمنعهن+ فضربه وغضب عليه. وقال: تسمعني أقول: قال رسول الله":
__________
(1) انظر سنن البيهقي (7/93).(1/102)
=لا تمنعوا+ وتقول: =بلى+، وإنما استجرأ على المخالفة؛ لعلمه بتغير الزمان، وإنما غضب عليه؛ لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهراً من غير إظهار العذر، وكذلك كان رسول الله"قد أذن لهن في الأعياد خاصة أن يخرجن، ولكن لا يخرجن إلا برضا أزواجهن. والخروج الآن مباح للمرأة العفيفة برضا زوجها، ولكن القعود أسلم، وينبغي ألا تخرج إلا لمهم؛ فإن الخروج للنظارات، والأمور التي ليست مهمة تقدح في المروءة، وربما تفضي إلى الفساد، فإذا خرجت، فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم يزل الرجال على ممر الأزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن متنقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لاُمروا بالتنقب، أو منعن من الخروج إلا لضرورة+اهـ.
_ وقال أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (8/117) في قول البخاري: =باب نظر المرأة إلى الحبش+:
=واستدل به على جواز رؤية المرأة إلى الرجل الأجنبي دون العكس، ويدل له: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار متنقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء... إلى أن قال: =وبهذا احتج الغزالي، فقال: =لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة... الخ.
_ وحكى الإمام الحافظ محمد بن عبدالرحمن المباركفوري المتوفى سنة 1353هـ في تحفة الأحوذي (8/62): =استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار متنقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء+اهـ
وبعد أن فَنَّدَ مصطفى بن العدوي في رسالته: =الحجاب+ ص6_7 شبه القائلين بالسفور قال:(1/103)
=لم يبق أمامهم إلا الإقرار بأن ستر جميع بدن المرأة بما في ذلك وجهها وكفيه هو الحال الذي كان على عهد النبي"، وكانت عليه النساء الصحابيات في عهده، و في هؤلاء الأسوة الحسنة فهم خير الناس، كما قال النبي": =خير الناس قرني+اهـ.
وجاء في ترجمة عبيد بن عمير المكي التابعي عند العجلي في الثقات (2/118) رقم 1184، قول العجلي: تابعي ثقة، وكان قاص أهل مكة في زمانه وهو من كبار التابعين، وكان بليغاً فصيحاً، كان ابن عمر يجلس إليه، ويقول: لله در أبي قتادة ماذا يأتي به. قال:
ويروى عن مجاهد، قال: نفخر على التابعين بأربعة: قارئنا عبدالله بن السائب، ومفتينا ابن عباس، ومؤذننا أبو محذورة، وقاصنا عبيد بن عمير يعني أهل مكة قال العجلي:(1/104)
=حدثني أبي عبدالله، قال: كانت امرأة جميلة بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، فقالت لزوجها: أتُرى يَرى أحدٌ هذا الوجه، ولا يفتتن به؟! قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فأذن لي فيه فلأفتتنه. قال: قد أذنت لك، قال قأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، قال: فأسفرت عن مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله! فقالت: إني قد فتنت بك، فانظر في أمري. قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقت نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت. قال: فلو أدخلت في قبرك، فأجلست للمسائلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم، ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أردت المرور على الصراط، ولا تدرين تنجين أم لا تنجين؟ كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين، كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة كان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: اتق الله يا أمة الله، فقد أنعم الله عليك، وأحسن إليك.
قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون.
فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة.. قال: وكان زوجها يقول: ملي ولعبيد بن عمير؟ أفسد علي زوجتي، كنت كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة+.
وقال العلامة أحمد بن عبدالرحمن البناء الساعاتي في بلوغ الأماني (11/215) في حديث عائشة: =كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله"محرمات، فإذا حاذوا بنا اسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها.. الحديث:(1/105)
=والمعنى أنهن كن يسترن وجوههن إذا مر عليهن الرجال بجلابيبهن+ جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة إذا خرجت لحاجة، فإذا أبعدوا عنهن كشفن وجوههن+.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفي سنة 224هـ _838م في غريب الحديث:
=والذي عليه العمل عندنا في هذا قول عبدالله بن مسعود، قال:
حدثناه عبدالرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله قال:
هي الثياب. قال أبو عبيد _يعني أن لا يبدين من زينتهن إلا الثياب+اهـ.
وقال محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 745هـ في البحر المحيط (7/240):
في تفسير قوله تعالى: [يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن.. الآية:
=أمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن، ويهبن، فلا يطمع فيهن... إلى أن قال:
=وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة+اهـ.
وقال الدكتور مصطفى السباعي في القلائد من فرائد الفوائد ص149_150:
قال أبو بكر بن عبدالله بن أيبك الدواداري في كنز الدرر وهو يتحدث عن أسر التتار للأمير حسام الدين المجيري، ما جرى بينه وبين ملك التتار =غازان+ بعد أسره.
قال غازان للمجيري: ما تقول في نسائنا ونسائكم؟ قال: فعلمت أنه يريد التأكيد في قتلي، فتشاهدت في نفسي، وأخلصت النية في لقاء الله عز وجل، وقلت: يحفظ الله =القآن+ لقب ملك التتار أنت ملك الشرق، ويقبح أن تذكر النساء في هذه المجلس إن نساءنا يستحين من الله تعالى ومن الناس، ويسترن وجوههن، ونساؤكم أنتم أخبر بهن وبحالهن+اهـ باختصار.
وقال محمد جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل (8/308) في قوله تعالى:
[يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن...]:
=أي يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال، إذا زل عن وجه المرأة:(1/106)
أدني ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هُجِّيْراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة... فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن، ويُهبن، فلا يطمع فيهن طامع... إلى أن قال:
=وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: [يدنين عليهن من جلابيبهن] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها+ اهـ باختصار.
وقال الموزعي الشافعي في =تيسير البيان لأحكام القرآن+ (2/1001):
=لم يزل عمل الناس على هذا قديماً وحديثاً في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها، ولا يتسامحون للشابة، ويرونه عورة ومنكراً، وقد تبين لك وجه الجمع بين الآيتين، ووجه الغلط لمن أباح النظر إلى وجه المرأة لغير حاجة، والسلف والأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلى في عورة الصلاة.
فقال الشافعي ومالك: =ما عدا الوجه والكفين+ وزاد أبو حنيفة =والقدمين+. وما أظن أحداً منهم يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة.
ولا يبيح للشاب أن ينظر إليها لغير حاجة+اهـ.
وقال ابن الجوزي في المنتظم (12/402) في حوادث سنة 286هـ:
=ومن الحوادث العجيبة فيها:(1/107)
ما أخبرنا عبدالرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا عبدالله محمد بن أحمد بن موسى القاضي يقول: حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين هجرية، فتقدمت امرأة، فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر. فقال القاضي: شهودك؟ قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظروا إلى المرأة؛ ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد، وقال للمرأة: قومي! فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك، وهي مسفرة؛ لتصح عندهم معرفتها. فقال: الزوج: فإني أشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الذي تدعيه، ولا يسفر عن وجهها. فأخبرت المرأة بما كان من زوجها، فقالت: فإني أشهد القاضي أني قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة! فقال القاضي: =يكتب هذا في مكارم الأخلاق+اهـ.
وقد أورد هذه الحادثة الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (11/81) عن ابن الجوزي، فقال ما لفظه:
=قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة، ثم روى بسنده أن امرأة تقدمت إلى قاضي =الري+ فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت منه، وأنه إنما أقرَّ؛ ليصون وجهها عن النظر: هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة+اهـ.(1/108)
الحاصل: أن الغرض من كثر هذه النقول عن أهل العلم في هذه المسألة المهمة؛ ليتضح، ويتبين ماراج عند بعض الناس من احتجاب وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب أن فيه خلافاً بينهم، بل وشاع عند بعضهم أن القول بالسفور هو مذهب الجمهور؛ لهذا أكثرت من النقول؛ ليعرف المسلم أنه في الحقيقة والواقع لا خلاف في المسألة؛ بل اتفق أئمة المسلمين، بل وكافتهم على حجب وجوه النساء وتحريم السفور والتبرج، وذلك لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها. وهذا الاتفاق والاجماع نوضحه فيما يلي:
الأول: ثبوت اتفاق المذاهب الأربعة عليه ثبوتاً لا مرية فيه البتة كما سيأتي.
الثاني: اتفاق علماء التفسير ومنهم ابن عباس على أن المراد من آية الحجاب في سورة الأحزاب هو ستر وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب./ وقد سلف. وأما ما نقله بعض المفسرين عن ابن عباس أنه فسر =ما ظهر منها+ من سورة النور بالوجه والكفين، فلم يصح عنه إسناده.
الثالث: أنه نَقَلَ اتفاق أهل العلم وإجماعهم على تحريم السفور ووجوب تغطية وجوه النساء ما يقارب أربعين نفساً من أئمة المسلمين _كما مرَّ، وهاك أسماء من وقفت عليه منهم:(1/109)
1_ الإمام ابن المنذر 2_ ابن رشد 3_ ابن عبدالبر 4_ ابن قدامة 5_ الوزير ابن هبيرة 6_ شيخ الإسلام ابن تيمية 7_ ابن قيم الجوزية 8_ أبو الحسن بن القطان 9_ ابن مفلح 10_ ابن رسلان 11_ ابن المَبْرَد 12_ الحافظ ابن حجر 13_ بدر الدين العيني 14_ محمد بن شهاب الشافعي الصغير 15_ إمام الحرمين الجويني 16_ الزرقاني 17_ محمد بن عبدالوهاب 18_ الشوكاني 19_ أبو الطيب شمس الحق 20_ عبيدالله المباركفوري 21_ أبو الأعلى المودودي 22_ بكر أبو زيد 23_ عز الدين البيانوني 24_ محمد بن عبدالله الجرادي 25_ محمد فؤاد البرازي 26_ إبراهيم بن محمد الضويان 27_ النووي 28_ عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله 29_ محمد أديب كلكل 30_ محمد أولي بن المنذر الأنصاري 31_ الإمام العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير اليماني.
الرابع: ثبوت العمل المتوارث عند نساء المؤمنين باحتجابهن عن الرجال الأجانب منذ نزل فرض الحجاب إلى اليوم، نقله الثقات الأثبات من أئمة المسلمين، وإليك طائفة من أسمائهم:
1_ شيخ الإسلام ابن تيمية 2_ فاطمة بنت المنذر زوج هشام بن عروة
3_ الحافظ ابن حجر 4_ العيني 5_ أبو حامد الغزالي
6_ أبو العباس القسطلاني 7_ أحمد بن عبدالله بن صالح العجلي
8_ أبو عبيد القاسم بن سلام 9_ محمد بن يوسف أبو حيان
10_ ابن الجوزي 11_ جمال الدين القاسمي 12_ مصطفى السباعي
13_ حمود التويجري 14_ بكر بن عبدالله أبو زيد
15_ محمد بن عبدالرحمن المباركفوري 16_ الشوكاني
17_ مصطفى بن العدوي 18_ أحمد بن عبدالرحمن البناء الساعاتي
19_ صفي الرحمن المباركفوري 20_ البرازي
21_ أحاديث رفع الجناح عن نظر الخطيب لمخطوبته.
22_ أبو زرعة العراقي 23_ الموزعي
اتفاق فقهاء المذاهب الأربعة على فرضية ستر وجوه المؤمنات عن الرجال الأجانب، وتحريم خروجهن سافرات الوجوه بين الأجانب(1/110)
اعلم وفقك الله أن الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد قد اتفق النقل عنهم على القول بستر وجوه نساء المسلمين عن الرجال الأجانب، وعدم جواز خروجهن سافرات الوجوه أمامهم، وإنما وقع الخلاف بينهم في علة المنع.
فبعضهم: يرى أنها خوف الفتنة، وبعضهم يرى أنها كون الوجه عورة. وهو خلاف لفظي؛ لأن الكل متفقون على فرضية حجب وجوه النساء إذا برزن أمام الرجال الأجانب.
ثم اعلم أيها المسلم الكريم وفقني الله وإياك للصواب والسداد أنه لا خلاف بينهم البتة في حقيقة الأمر في هذه المسألة لوجهين:
أحدهما: ثبوت الاجماع القولي والعملي كما تقدم على فرضية احتجاب نساء المسلمين عن الرجال الأجانب. والأئمة الأربعة المذكورون داخلون في الإجماع بلا ريب؛ لأنهم هم أئمة المذاهب.
ثانيهما: ثبوت النقل الخاص عنهم وعن أتباعهم في هذا الموضوع كما ستعرفه قريباً إن شاء الله تعالى فيما يأتي.
وأما ما نقل عنهم من خلاف في =وجه المرأة+ هل هو عورة أم ليس بعورة الذي أخطأ في فهمه كثير من الناس، فإنما يعنون به حالة خاصة من أحوال المرأة، وهذه الحال هي حالها في الصلاة فقط، وثمرة الخلاف في ذلك معرفة حكم ما إذا قيل: إن وجه المرأة عورة، فيجب عليها ستره حال الصلاة، وإذا قيل إنه ليس بعورة، فليس عليها ستره فيها، وهذا هو الصحيح.
وأما أن هذا الخلاف يطرد في باب النظر، فلا؛ لأنهم نصوا وصرحوا بمرادهم _كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ولا يجوز تقويلهم ما لم يقولوه ولا تحميلهم ما لم يتحملوه.(1/111)
وقبل أن أورد أقوال أئمة المذاهب، وأتباعهم في هذه المسألة أود أن أؤكد أنه ليس في المسألة خلاف بين علماء المسلمين(1) وإنما الخلاف في الحقيقة إنما هو بين المسلمين وبين أعدائهم، وذلك ابتداء من استعمارهم لبلاد المسلمين، وتلقفه عنهم تلامذتهم وأذنابهم، فهم الذين أحدثوا =ان فيه خلافاً بين العلماء+ ثم إنهم تعلقوا بشبه لا تسمن ولا تغني من جوع، وأخذوا يلوون صحيح، وصريح أدلة الوحيين من الكتاب والسنة على حسب مراد أسيادهم!!
=وقد علق الدكتور محمد محمد حسين على هذا المنهج اللئيم بقوله:
__________
(1) نعم هناك خلاف شاذ في المسألة تمسك به دعاة السفور وأذناب الاستعمار، وحاولوا ولا زالوا يحاولون ثبوته ليدفعوا به ما ثبت من أدلة الشرع في وجوب الاحتجاب وتحريم السفور والتبرج والاختلاط.(1/112)
=أحب أن أسأل الذين يحاولون أن يسوغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بمزاعم يتحايلون على إلصاقها بالدين ونصوصه، أحب ان أسأل سؤالاً حاسماً يفرق بين الحق والباطل، هل تعلمون أحداً من المسلمين قد دعا قبل اليوم بدعوتكم؟ فإذا كان ذلك لم يحدث من قبل، فهل تستطيعون أن تزعموا أن صحابة رسول الله"، ورضي الله عنهم وفقهاء المسلمين قد غفلوا جميعاً عن فهم نصوص دينهم حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطين الجن والإنس في باريس من أمثال =قاسم أمين+، فانتكس تفكيرهم بين معاهدها ومباذلها، حين لم يعتصموا من دين الله بحبل متين، ولم يأووا بهديه إلى ركن شديد، يذود عنهم كل شيطان مريد، وذلك حين بُعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعاتها، فضلوا الطريق، وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به، جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن؛ ليخرجوا للناس حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء والمفسرين، ويضربوا بإجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة، والقرون المتطاولة =عُرض الحائط+، أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال الانجليزي، وتزعم فريق من المتفرنجين الذين عرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل، هو وحده دليلاً كافياً على أنها طارئة علينا من الغرب تقليداً لمذهب أهله المبتدعين في دينهم بأهوائهم وأهواء رؤسائهم، والخارجين على نصرانيتهم وكتابها+اهـ(1).
وقد ألف =قاسم أمين+ كتابين: =المرأة الجديدة+ و =تحرير المرأة+ موضوعهما دعوة المرأة المسلمة إلى التبرج والسفور ونبذ الحجاب. وحصل له ردود فعل عنيفة من علماء المسلمين.
فقد نقل أحمد بن محمد المقدم ما قيل من ردود الفعل نحو كتابه =تحرير المرأة+، فقال:
__________
(1) انظر عودة الحجاب لمحمد أحمد المقدم (1/25).(1/113)
=تجلت ردود الفعل في موجة عارمة من المعارضة، كان أكثرها مقالاتٍ صحفية، وقد اتهمه المعارضون بالهذيان، وهاجمه علماء الدين هجوماً عنيفاً وحكم الفقهاء بأنه خرق في الإسلام، ومروق من الدين، وعدها الكثيرون ضرباً من المبالغة في تقليد الغربيين، واتهمه آخرون بالجناية على الدين والوطن، وأنه يرمي إلى قلب الهيئة الاجتماعية المصرية، وممالأة الانجليز على ضياع البلاد، وأنه ينفذ أمنية من أمانيّ الأمم الصليبية التي تريد بها هدم الإسلام، وتقويض الآداب والأخلاق، واتهموا من يعضد هذه الدعوة بأنه ليس من المسلمين+اهـ(1).
وأما موقف محمد طلعت حرب فقد ألف كتابه =تربية المرأة والحجاب+ رد فيه على =قاسم أمين+، استنكر عليه دعوته، ودافع عن الحجاب، وكان مما قاله:
=إن رفع الحجاب والاختلاط، كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربا بالعالم الإسلامي+.
وقال أيضاً في نفس الكتاب: =إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق، ولا في =مصر+ وحدها إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل.. بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق+اهـ(2).
وقال مصطفى كامل في =قاسم أمين+ وأفكاره:
__________
(1) المرجع السابق (1/29).
(2) المرجع السابق (1/29).(1/114)
=كان للكتاب دوي شديد في الأوساط الوطنية؛ لأنه كان بمثابة تَحَدٍّ صريح للرأي الإسلامي العام، وهجوم سافر ضد الإسلام؛ لذلك لم يكن عجباً أن يقف الحزب الوطني المصري، أو بمعنى آخر أن يقف مصطفى كامل من هذه الحركة موقف المقاومة والعناد؛ إذ تحسس وراءها الأصابع البريطانية، فربط بين هذه الحركة التي يديرها ذلك النادي الذي جمع أذناب الاستعمار وبين الانجليز على أنها وسيلة من وسائله المتلونة في القضاء على مقومات الأمة، فسارع على مقاومة هذه الحركة الخائنة، وتحذير الأمة منها، فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور ذلك الكتاب في الخامس من شعبان سنة 1317هـ الموافق الثامن عشر من سبتمبر 1899م حيث قال:
=إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوربية؛ فإن في ذلك خطراً كبيراً على مستقبل الأمة، فنحن مصريون، ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمة مدنية خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله. فالحجاب في الشرق عصمة، وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم الصحيح، وأن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة... هو تعليم الدين+اهـ(1).
وقد بلغ مصطفى كامل الاهتمام بمقاومة هذه الحركة المسمومة إلى الحد الذي جعله يفتح صدر صحيفته =اللوى+ منذ أول ظهورها سنة 1900م لكل طاعن على =قاسم أمين+ وأفكاره، فكانت اللوى كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل+ خصماً لدوداً لقاسم أمين وافكاره وكانت ميداناً لأشد المطاعن عليه+اهـ(2).
__________
(1) نفسه (1/29_30).
(2) نفسه.(1/115)
=لم يلبث مؤلف =تحرير المرأة+ حين واجه هذه المعارضة التي أحرجته كثيراً أن =اسفر+ عن وجهه الحقيقي، وخلع عنه ثوب الحياء، وقناع التدين، وكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة في كتاب ظهر في العام التالي، وهو كتاب =المرأة الجديدة+ الذي بدأ فيه أثر الحضارة الغربية واضحاً، فالتزم فيه مناهج البحث الأوربية الحديثة، التي ترفض كل المُسلَّمات والعقائد السابقة، سواء منها ما جاء من طريق الدين وما جاء من غير طريقه، ولا تقبل إلا ما يقوم عليه دليل من التجربة أو الواقع على حسب المنهج الذي يسلكه باحثوا الاجتماع الأوربيون.. ويقول: =إن التشريح الفسيولوجي والتجربة في البلاد التي منحت المرأة حريتها، قد أثبتت أن المرأة مساوية للرجل في الملكات+... إلى أن قال:
=فقد صح أن الحجاب هو عادة لا يليق استعمالها في عصرنا+ ثم يستطرد =عدو المرأة المسلمة قائلاً: =نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى+، ويقول: =.. والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها؛ لأنه ميل إلى التدني والتقهقر، هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له من دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها إذا أتى هذا الحين _ونرجوا أن لا يكون بعيداً_ انجلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أن من المستحيل أن يتم اصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية الحديثة... هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوربيين، ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية+اهـ باختصار(1).
__________
(1) عودة الحجاب (1/13_34_35).(1/116)
=وتصدى مصطفى كامل من جديد =لقاسم أمين+ وكتب في =اللوى+ بتاريخ 9/2/1901م معلقاً على كتاب =المرأة الجديدة+ قائلاً:
=أخرجه أخيراً قاسم أمين؛ ليدعم به أمر كتابه الأول، ويفتح به آفاقاً جديدة؛ لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم+.
وحكى مصطفى كامل: كيف أن سلطان ملديفي لما بلغه خبر الكتاب، وسئل عن رأيه في هذا الاتجاهات؟ قال:
=أما تعليم النساء المسلمات، فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين، ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغراء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء كان معولاً لهدم أركان الإسلام، وفأساً لفتح القبور لأبنائه ودسهم فيها وهم أحياء، أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي، وأما المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله عز وجل في كتابه: [الرجال قوامون على النساء].
فنسأل الله السلامة+(1).
ومن هذه النقول ظهر جلياً أنه لا خلاف في مسألة الحجاب والسفور بين العلماء، وأنما الخلاف في الحقيقة بين =خير البرية+ وبين دعاة السفور الذين جعلوا المرأة مطية للفجور شعروا أو بدون شعور.
إذا تقرر هذا، فإليك أقوال أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم بنصوصها وحروفها؛ تطلعك على اتفاقهم على فرضية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وعلى تحريم خروجهن سافرات الوجوه بينهم:
قول الحنفية في الحجاب والسفور
قال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في روايته موطأ مالك ص146 رقم 425/ في باب ما يكره للمحرم أن يلبس من الثياب:
=ولا ينبغي للمرأة أن تنتقب، فإن أرادت أن تغطي وجهها فلتسدل الثوب سدلاً من فوق خمارها على وجهها، وتجافيه عن وجهها. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا+.
وجاء في اللباب في فريضة النقاب ص139 لأبي مصعب الهنداوي:
=عند الحنفية _كما في الهدية العلائية: =وينظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة، وتمنع الشابة من كشف وجهها خوف الفتنة+.
__________
(1) المصدر نفسه (1/35_36).(1/117)
قال الشيخ عز الدين البيانوني×في كتابه الفتن:
=قول الأئمة عند عدم خوف الفتنة إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل. وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة+.
وجاء أيضاً في الهدية العلائية: =والنظر إلى ملاءة الأجنبية بشهوة حرام، أما بدونها فلا بأس، ولو إلى جسدها المستور بثياب لا تصف، ولا يظهر حجمها+اهـ.
قلت: البعض يخاف من لفظة: =عند خوف الفتنة+ مستدلين أن معنى هذا أنه عند عدم خوف الفتنة يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، وهذا من غريب وعجيب الاستدلالات؛ فإن الله جل وعز عندما أوجب على المرأة، وفرض عليها ستر وجهها إنما كان ذلك منعاً وسداً لباب الفتنة الذي يترتب على كشف الوجه الذي هو موضع الفتنة، بل هو الفتنة بكل سِحْرِها، فلا يتصور إطلاقاً، وهذا أمحل المحال أن تؤمن الفتنة عند جماهير الناس قاطبة، كيف ذلك والله أوجب على المرأة ستر الوجه، بل فرضه على أمهات المؤمنين زوجات النبي"، وذلك زمن الصحابة _ رضي الله تعالى عنهم _ الذين هم خير من أقَلَّتْهُمُ الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، فما القول فيمن دونهم علماً وورعاً وخوفاً وإنابة، وخشية لله تعالى. فثبت المطلوب وهو ستر الوجه عند خوف الفتنة، والفتنة واقعة لا محالة، لا يشك في ذلك إلا مكابر، ومنكر للحقائق والواقع. وعليه اتفاق الأئمة _ رضوان الله عليهم أجمعين _؛ لأن الفتنة أمرها محقق لا تحتاج إلى إراد حجة، أو إقامة برهان أو تقديم دليل، ولا يمتري في ذلك إلا كل من ينكر الشمس في رابعة النهار+.
نقلاً من كتاب =الفتن+ للشيخ أحمد عز الدين البيانوني×، نقلاً عن كتاب =فقه النظر+ للشيخ محمد أديب كلكل+اهـ.
وجاء في مجمع الأنهر _ وهو من أعظم كتب المذهب الحنفي_:(1/118)
=وفي المنتقى تمنع الشابة عن كشف وجهها؛ لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض؛ لغلبة الفساد. وعن عائشة _ رضي الله عنها _: =جميع بدن الحرة عورة إلا إحدى عينيها فحسب؛ لاندفاع الضرورة+اهـ.
وقال أيضاً عند الكلام عن أحوال النساء في الحج:
=وفي شرح الطحاوي: =الأولى كشف وجهها، لكن في النهاية: =أن السدل أوجب ودلت المسألة على أن المرأة لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة+اهـ.
وجاء في درر المنتقى/ حاشية مجمع الأنهر:
=ولو سدلت على وجهها أي حال إحرامها شيئاً وجافته جاز، بل ندب، وقيل: بل واجب+اهـ.
قلت: تأمل قول صاحب المجمع: =وفي زماننا المنع واجب، بل فرض، وتأمل ما جاء في شرح الطحاوي: =ودلت المسألة على أن المرأة لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة+.
والضرورة كالشهادة والمرض... الخ وهي تقدر بقدرها، كما هو معروف عند الأصوليين+.
ثم جاء في درر المنتقى: =ولو سدلت على وجهها... وقيل: بل واجب+.
وهذا هو المشهور في المذهب، والمعتبر من الأقوال في حكاية الخلاف، وأقوال المذاهب هو القول الصحيح الراجح في المذهب.
قال في حاشية الدرديز: =والفتوى إنما تكون بالقول المشهور أو الراجح من المذهب، وأما القول الشاذ والمرجوح فلا يفتى بهما، ولا يجوز العمل بهما+اهـ.
وما قرره علماء المذهب الحنفي من وجوب، بل فرضية ستر الوجه هو الموافق للقرآن العزيز والسنة المطهرة، وفهم الصحابة والتابعين لدين الله، أما الشغب والاعتماد على الأقوال الضعيفة في المذهب فلا يصح مطلقاً+.
قال أخونا الكريم محمد بن أحمد بن إسماعيل في رسالته القيمة =تحريم حلق اللحى+:
=ولا شك أن اعتماد الأقوال الضعيفة في المذاهب رغم مخالفتها للدليل الصحيح احتجاجاً بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه مطلقاً، لا شك أن هذا يفتح باب شر وفتنة على المسلمين يتعسر إغلاقه.
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر+اهـ.(1/119)
قلت: وقال عمر بن محمد السنامي في =نصاب الاحتساب+ ص132:
=الحرة تمنع من كشف الوجه والكف والقدم، فيما يقع عليه نظر الأجنبي؛ لأنها لا تأمن عن شهوة بعض الناظرين إليها إلا إذا كانت عجوزاً، فيجوز النظر إلى وجهها، ويحل مصافحتها إذا أمن الشهوة+اهـ.
وقال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/486) في قوله تعالى: [يدنين عليهن من جلابيبهن]: في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع أهل الريب فيهن+.
وقال في قوله تعالى:
[وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب] (3/483):
=وهذا الحكم _وإن نزل خاصاً في النبي"وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره؛ إذ كنا مأمورين باتباعه، والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته+.
وقال أبو السعود في تفسيره (4/433) لآية الأحزاب:
[يدنين عليهن من جلابيبهن]: الجلباب ثوب أوسع من الخمار، ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله على صدرها. وقيل: هي الملحفة، وكل (ما) يتستر به. أي يغطين بها وجوههن، وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي. و =من+ للتبعيض؛ لما مَرَّ من أن المعهود التلفع ببعضها، وإرخاء بعضها.
وعن السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين+اهـ.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (2/186):
=ولا بأس أن تغطي المرأة سائر جسدها وهي محرمة بما شاءت من الثياب المخيطة، وغيرها، وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطي وجهها. أما ستر سائر بدنها؛ فلأن بدنها عورة، وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر، فدعت الضرورة إلى لبس المخيط وأما كشف وجهها، فلما روينا عن النبي"أنه قال:(1/120)
=إحرام المرأة في وجهها+، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله"فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا رفعناه+. فدل الحديث على أنه ليس للمرأة أن تغطي وجهها، وأنها لو سدلت على وجهها شيئاً، وجافته عنه لا بأس بذلك، ولأنها إذا جافته عن وجهها صار كما لو جلست في قبة أو استترت بفسطاط+.
وقال شمس الدين السرخسي المتوفى سنة 490هـ في المبسوط (10/152):
=وجرى في مجلسه"يوم: =ما خير ما للرجال من النساء، وما خير ما للنساء من الرجال+ فلما رجع علي÷إلى بيته أخبر فاطمة رضي الله عنها بذلك، فقالت: =خير ما للرجال من النساء أن لا يراهن، وخير ما للنساء من الرجال أن لا يرينهن+ فلما أخبر رسول الله"بذلك. قال: =هي بضعة مني+. فدل على أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها، ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة، وعامة محاسنها في وجهها، فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء+اهـ.
وقال السهارنفوري المتوفى سنة 1346هـ في بذل المجهود (16/431):
=والمراد أن المرأة إذا بلغت لا يجوز لها أن تُظْهِرَ للأجانب إلا ما تحتاج إلى إظهاره للحاجة إلى معاملة، أو شهادة إلا الوجه والكفين، وهذا عند أمن الفتنة، وأما عند الخوف من الفتنة فلا، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساد وظهوره+.
وقال العلامة أبو الطيب شمس الحق آبادي في عون المعبود (11/109):
=أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما كثرة الفساق، قاله ابن رسلان+اهـ.
وقال محمود الألوسي في روحي المعاني (11/89):(1/121)
=وقال ابو حيان: =نساء المؤمنين+ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح+اهـ. وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة، فلا يجب ستره، ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمنت الشهوة مطلقاً، وإلا فيحرم.
وقال القهستاني: =منع النظر من الشابة في زماننا، ولو بلا شهوة+اهـ.
وقال الزمخشري في الكشاف (3/543):
=ومعنى [يدنين عليهن من جلابيبهن] يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن، وأعطافهن. يقال: إذا زال الثوب عن وجه المرأة _أدني ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار (فصل بين الحرة والأمة) وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: [ذلك أدنى أن يعرفن] أي أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين ما يكرهن+اهـ.
ونقل المقدم في عودة الحجاب ص420:
=وجاء في الدر المختار: =يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة ليسمعها أجنبي، أو كشفت وجهها لغير محرم+اهـ.
وجاء فيه أيضاً كذلك قول الطحاوي:
=وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه، وإن امن الشهوة؛ لأنه أغلظ+اهـ.
وقال ابن عابدين في شرحه:
=والمعنى: تمنع من الكشف؛ لخوف أن يرى الرجال وجهها، فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة+اهـ./ حاشية ابن عابدين (3/261).
ونقل ابن عابدين عن صاحب المحيط قوله:(1/122)
=... ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة؛ لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة+اهـ.
وقال الإمام محمد أنور الكشميري ثم الديوبندي×:
=ومنها أي آيات الحجاب: [ولا يبدين زينتهن] قيل: الزينة هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها؛ لسوء حال الناس...=إلى أن قال: =ومنها_: [وقرن في بيوتكن].. الخ والخطاب فيها، وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام+اهـ.
وقال العلامة بن نجيم المتوفى سنة سبعين وتسعمائة×:
=وفي فتاوى قاضيخان:
=ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة+اهـ.
وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان، ووجود الأجانب واجب عليها+.
وقال أيضاً:
=قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة+.
وقال بدر الدين العيني في عمدة القاري (20/217):
=استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار متنقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا تراهم النساء+.
وقال أيضاً (19/92) في قوله تعالى: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] وقول عائشة:
=يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله، وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن، فاختمرن بها+ قال:
=مروطهن جمع مِرط بكسر الميم وهو الإزار، قوله: =فاختمرن بها+: أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها+اهـ.
وقال العيني أيضاً (10/199) في قوله":
=ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين+: ومعنى: =لا تنتقب+ لا تستر وجهها، واختلفوا في ذلك، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية، وهو رواية عن الشافعية والمالكية+اهـ، يعني: لبس النقاب(1).
وقال أيضاً (9/166):
__________
(1) انظر النظرات في حجاب المرأة المسلمة لابن خلف ص57، ونيل الأوطار للشوكاني (5/5).(1/123)
=وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها تسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، قالت: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما تعني جدتها. قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة، قالت: =كنا مع رسول الله" إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزوا رفعنا+اهـ.
ونقل المقدم في عودة الحجاب (3/291) عن الإمام عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي أنه قال في مدارك التنزيل وحقائق التأويل (3/79) في قوله تعالى:
[يدنين عليهن من جلابيبهن]: يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك، و =من+ للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها+اهـ.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: [ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن] (3/226):
=وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها؛ ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى؛ ليعلم أنها ذات خلخالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ، وأبلغ+اهـ.
وقال أبو سعود في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (4/110_111):
[(1/124)
ولا يبدين زينتهن] كالحلي وغيرها، مما يتزين به، وفيه من المبالغة في النهي عن إبداء مواضعها ما لا يخفى.. إلى أن قال في قوله: [ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن] =أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن، فيعلم أنهن ذوات الخلخال؛ فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن، ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينها من المبالغة في الزجر عن إبداء مواضعها ما لا يخفى+اهـ.
وقال في آية الإدناء (4/433):
[يدنين عليهن من جلابيبهن] أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي+اهـ.
_ وجاء في حاشية ابن عابدين (2/488) في كتاب الحج: =وتستر وجهها عن الأجانب بإسدال شيء متجاف لا يمس الوجه، وحكي الإجماع عليه+.
_ وجاء في موضع آخر (2/528) نقله عن علماء الحنفية وجوب ستر المرأة وجهها، وهي محرمة إذا كانت بحضرة رجال أجانب+.
ونص الإسبيجاني والمرغيناني والموصلي على أن وجه المرأة داخل الصلاة ليس بعورة، وأنه عورة خارجها، ورجح في شرح المنية أن الوجه عورة مطلقاً.
وقد أجاز الحنفية لبس النقاب للمحرمة مع النهي عنه(1).
وقال العلامة محمد أديب كلكل في كتابه فقه النظر:
=والظاهر من الآية: أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ومواضعها، وموضع الزينة الغالبة =الوجه والكفان+ وهما محلا الفتنة والجمال، فوجب سترهما بمقتضى النهي:
[ولا يبدين زينتهن]اهـ(2).
وقال البيانوني في رسالته =الفتن+ ص207:
=وقال الجرداني×: =وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها: جميع بدنها، بدون استثناء شيء منه أصلاً، ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة، ويجب أن تستتر عنه. هذا هو المعتمد+اهـ.
وقال العيني في عمدة القاري (20/98):
__________
(1) انظر عمدة القارئ (10/199)، ونيل الأوطار (5/5)، وفتح الباري (4 /54)
(2) انظر اللباب في فرضية النقاب لفريد الهنداوي ص148.(1/125)
=قوله: =بعد أن نزل الحجاب+ فيه: أنه لايجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالإجماع+اهـ .
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/190) في وصف أهل سجستان:
=إنهم فرس، وليس بينهم من المذاهب غير الحنفية من الفقهاء إلا قليل نادر، ولا تخرج لهم امرأة من المنزل أبداً، وإن أرادت زيارة أهلها فبالليل+ اهـ .
مذهب المالكية في الحجاب والسفور
جاء في الموطأ/ كتاب الحج/ باب تخمير المحرم وجهه ص327
عن نافع، أن عبدالله بن عمر كان يقول: =لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين+.
وقال: عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات. ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار (11/46) رقم 15355: نقلاً من كتاب ابن القاسم _يعني بواسطة أسئلة سحنون له:
=قلت: وكذلك المرأة إذا غطت وجهها؟ قال نعم، إلا أن مالكاً كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها فوق رأسها على وجهها إذا أرادت ستراً، وإن كانت لا تريد ستراً، فلا تسدل+... إلى أن قال ص48 رقم 15374:
=وروى ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أخبرتني أمي وأختي أنهما دخلتا على عائشة أم المؤمنين، فسألتاها: كيف تخمر المرأة وجهها؟ فأخذت أسفل خمارها، فغطت به وجهها، وعليها درج مدرج وخمار حبشي+.
وقال أيضاً (11/28) رقم 15257 والتمهيد (15/108):
=وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال إليها.(1/126)
ولم يجز لها تغطية وجهها وهي محرمة إلا ما ذكرنا عن أسماء، وروى مالك عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ. هذا لفظ الاستذكار، ولفظ التمهيد: =وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال إليها..الخ
وقال سحنون في المدونة الكبرى (1/344) لعبدالرحمن بن القاسم:
=قلت: وكذلك إذا غطت وجهها؟ قال: نعم، إلا أن مالكاً كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها _إذا أرادت ستراً، فإن كانت لا تريد ستراً، فلا تسدل... قلت: فهل كان يأمرها مالك إذا سدلت رداءها أن تجافيه عن وجهها؟ قال: ما علمت أنه كان يأمرها بذلك.
قلت: وإن أصاب وجهها الرداء؟ قال: ما علمت أن مالكاً ينهى عن أن يصيب الرداء وجهها إذا أسدلته+اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/109) في مسألة النظر إلى وجه المرأة لغير شهوة؟ فذكر المذاهب في ذلك ثم قال:
=وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها وهو قول مالك+اهـ.
وقال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن (3/1579): في قوله تعالى: [وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب]. قال:
=وهذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة: بدنها وصورتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ ويعرض عندها...
إلى أن قال في قوله: [ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن]: المعنى أن ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته+اهـ.
وقال أيضاً ص1586:(1/127)
=اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة، عمادها أنه الثوب الذي يستر به البدن، لكنهم نَوَّعوه ههنا، فقد قيل: إنه الرداء، وقيل: إنه القناع... [يدنين عليهن] قيل: معناه: تغطي به رأسها فوق خمارها. وقيل: تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى... والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه، واستقرت معرفته، وجاءت هذه الزيادة عليه، واقترنت به القرينة التي بعده، وهي مما تبينه: وهو قوله: [ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين]. والظاهر: أن ذلك يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار+اهـ.
وقال في موضع آخر (3/1368):
=قوله: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها]: الزينة على قسمين: خِلْقِيَّة ومكتسبة، فالخِلْقِيَّة وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع، وطرق العلوم، وحسن ترتيب محالِّها في الرأس... الخ+. إلى أن قال:
=قوله: [ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن] قال: حرم الله إظهار الزينة كما تقدم على الإطلاق، واستثنى من ذلك اثنى عشر محلاً... الخ+.
وقال القاضي أبو محمد بن عطية في المحرر (11/295) في آية سورة النور والمتوفى سنة 546هـ: =وحفظ الفروج يعم الفواحش وستر العورة، وما دون ذلك مما فيه حفظ، وأمر الله تعالى بأن لا يبدين زينتهن للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، فاختلف الناس في قدر ذلك، فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة: هو الثياب، وقال سعيد بن جبير: الوجه والثياب، وقال سعيد بن جبير أيضاً:
وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب.
وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة: هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس... إلى أن قال:(1/128)
ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غالبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه. فغالب الأمر أن الوجه بما فيه، والكفين يكثر منهما الظهور وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن بالحسنة الوجه أن تستره إلا من ذي حرمة محرمة، ويحتمل لفظ الآية أن الظاهر من الزينة لها أن تبديه، ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط ومراعاة فساد الناس، فلا يظن أن يباح للناس من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه. والله الموفق للصواب برحمته+اهـ.
وقال أبو حيان محمد بن يوسف المتوفى سنة 745هـ في البحر المحيط (7/240) في آية سورة الأحزاب:
=كان دأب الجاهلية أن تَخْرُجَ الحرةُ والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة _فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن، ويُهَبْنْ، فلا يطمع فيهن+.
وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء، ومعارضتهن، ومراودتهن، فنزلت.
قيل: والجلابيب: الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل. وقال ابن جبير: المقانع، وقيل: الملاحف، وقيل: الجلباب: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها. وقيل: كل ما تستتر به من كساء أو غيره، قال أبو زيد: =تجلببت من سواد الليل جلباباً+. وقيل: الجلباب: أكبر من الخمار، وقال عكرمة: =تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى+ وقال عبيدة السلماني حين سئل عن ذلك؟ فقال: =أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها، وقال السدي: =تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين+اهـ.
وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة.. إلى أن قال:(1/129)
والظاهر أن قوله: =ونساء المؤمنين+ يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح+.
و =من+ في =من جلابيبهن+ للتبعيض. و =عليهن+ شامل لجميع أجسادهن، أو =عليهن+ على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه، [ذلك أدنى أن يعرفن] لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن ولا يَلْقَيْنَ بما يكرهن؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر، والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة؛ فإنها مطموع فيها+اهـ.
ونقل أبو عبدالله أيضاً في الجامع (6/5309) كلام ابن العربي المتقدم آنفاً مقرراً له.
وقال أيضاً ص5325:
=الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع. والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن+.
... إلى أن قال:
=وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء+اهـ.
وقال أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/5260_5261) في آية الأحزاب [وقرن في بيوتكن.. الخ]:(1/130)
معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي"فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي"بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأَعْلَمَ أنه فعل الجاهلية الأولى، فقال: [ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى]. وقد تقدم معنى التبرج في =النور+ وحقيقته: إظهار ما سَتْرُه أحسن+... ثم ذكر خلاف الناس في الجاهلية الأولى وحَسَّنَ قول من قال: إنها ما قبل الإسلام، فقال: قلت: وهذا قول حسن، ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب وأن التنعم وإظهار المحاسن للرجال إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً. وذلك يشمل الأقوال كلها، ويعمها، فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج، فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق+اهـ.
وقال العلامة محمد بن أحمد بن جَزي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (3/144):
=كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب؛ ليسترن بذلك وجوههن+اهـ.
وقال الإمام الحبر العالم الرباني أبو محمد عبدالله بن محمد الأندلسي القحطاني في النونية القحطانية:
لا تخل بامرأة لديك بريبة ... لو كنت في النساك مثل بناني
إن الرجال الناظرين إلى النساء ... مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها ... أكلت بلا عوض ولا أثمان
لا تقبلن من النساء مودة ... فقلوبهن سريعة الميلان
لا تتركن أحداً بأهلك خالياً ... فعلى النساء تقاتل الأخوان
واغضض جفونك عن ملاحظة النساء ... ومحاسن الأحداث والصبياني
وقال الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي (5/117) في باب كراهية أن تسافر المرأة وحدها+:(1/131)
=في هذا الباب أن النساء لحم على وضم إلا ما ذُبَّ عنه. كل أحد يشتهيهن، وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام. فحض الله عليهن بالحجاب، وقطع الكلام وتحريم الكلام، ومباعدة الأشباح إلا مع ذي الحجاج الذي يستبيحها(1) وهو الزوج، والذي يمنع استيفائها(2) بكل حال، وهم أولو المحرمية، وما لم يكن بد من تصرفهن أذن لهن فيه على شريطة أن يكون معهن من هو(3) من لحمهن، ونزع(4) عنهن من ذي المحارم لهن، وذلك في باب المخافة وهو السفر والخلوة ومعدن الوحدة+اهـ.
وقال الإمام العلامة الزرقاني في شرح الموطأ (2/234) رقم 734 في حديث فاطمة بنت المنذر: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات.. الخ:
=يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو ينظر لها بقصد لذة، قال ابن المنذر: =أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر... فذكر ما هنا، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله" إذا مَرَّ بنا... سدلنا الثوب على وجوهنا، ونحن محرمات، فإذا جاوزونا رفعناه+اهـ.
وقال الإمام الباجي في المنتقى (2/200) في حديث فاطمة بنت المنذر المذكور:
=وإنما يجوز أن يخمرنا وجوههن على ما ذكرنا بأن تسدل ثوباً على وجهها، تريد الستر، ولا يجوز أن تسدله لِحَرٍ أو لبَرْدٍ، فإن فعلت ذلك فعليها الفدية+اهـ.
وقال قبل هذا:
__________
(1) في الأصل يستحبها.
(2) هكذا ولم يظهر لي معناها.
(3) في الأصل: =من هن+.
(4) هكذا جاء =ونزع+ ولم يظهر المعنى.(1/132)
=قوله: لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين+ يقتضي تعلق الإحرام في اللباس بوجهها وكفيها، وذلك أن جميع بدن المرأة عورة إلا الوجه والكفين، ولذلك يجب عليها ستر جميع جسدها في الصلاة وغيرها، ولا تعلق للإحرام بالعورة. إذا ثبت ذلك فعلى المرأة أن لا تُلبس مواضع الإحرام منها مخيطاً يختص به، والذي يختص بالوجه من المخيط النقاب والبرقع، والذي يختص بالكفين القفازان، فوجب على المرأة أن تعريهما من ذلك، ويستحب لها أن تعريهما من غير ذلك من اللباس، فإن أدخلت يديها في قميصها فلا شيء عليها؛ لأن ذلك لا يختص بها ولا سبيل إلى الاحتراز منه، وبالله التوفيق+اهـ.
وقال في عورة الصلاة (1/251) باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار:
=فأما الأمة، فقد روى ابن حبيب عن أصبغ: تستر الأمة في الصلاة ما يستر الرجل، وعورتها من السرة إلى الركبتين. وقال ابن القاسم: تستر المرأة في الصلاة جميع جسدها. وجه قول أصبغ: أن ما لا يكون منها عورة خارج الصلاة؛ فإنه لا يكون منها عورة في الصلاة كالوجه والكفين. ووجه الرواية الثانية: أنها امرأة فكانت مأمورة بتغطية جميع جسدها في الصلاة كالحرة، والفرق بينها وبين الرجل أنها مأمورة بتغطية جسدها إذا برزت؛ لأن النظر فيه يفتن بخلاف الرجل+اهـ.
وقال أبو عمر بن عبدالبر في الكافي (1/388):
=والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها وكفيها، ولا باس بسدل ثوبها على وجهها؛ لتستره من غيرها، ولتسدله من فوق رأسها، ولا ترفعه من تحت ذقنها، ولا تشده على رأسها بإبرة ولا غيرها+اهـ.
وقال أبو الوليد بن رشد في بداية المجتهد (1/336):(1/133)
=وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وان لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله"ونحن محرمون، فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رؤوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه، ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ.
وقال محمد أولي بن المنذر الأنصاري في إرشاد المسترشد في تهذيب مذاهب أئمة الهدى في الفقه وأدلته (2/61) باب محظورات الإحرام:
=وكذلك المرأة لا تغطي وجهها، ولا كفيها إلا عند ملاقاة الرجال الأجانب لحديث عائشة، لكنها تحاول أن لا يمس وجهها+اهـ.
وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (2/135_137) كتاب الصلاة/ باب ما جاء في الصلاة في الثوب الواحد+:
=واعلموا أن هذا باب لم يتقنه أبو عيسى، وأتقنه أبو داود، وقرره بأحاديثه، وأكمله البخاري في شرحه وبسطه، وقد أشار أبو عيسى إلى شيء من حال المرأة، فأدخل بعد هذا في غير موضعه حديث عائشة" =لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار+.
وهو حديث حسن، ومعنى قوله: =حائض+ من بلغت الحيض، كما يقال: =محرم+ و =متهم+ و =منجد+ لمن دخل الحرم وتهامة ونجداً. وفقهه: وجوب ستر جميع جسد المرأة؛ فإنها عورة+اهـ.
وقال في العارضة أيضاً (4/56): =المسألة الرابعة عشرة+: قوله في حديث ابن عمر =ولا تنتقب المرأة+ وذلك لأن ستر وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لا صق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها+اهـ.
وجاء في جواهر الإكليل (1/41) للآبي:
=أن ابن مرزوق نص على أن مشهور المذهب وجوب ستر الوجه والكفين إن خشيت فتنة من نظر أجنبي إليها+اهـ.
وقال الإمام أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4619):(1/134)
=فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي إلا لمن تحل له أو لمن هي محرمة عليه على التأييد+
_ وقد حقق العالم الرباني والإمام الكبير الشنقيطي في أضواء البيان (6/592) أن القرآن دل على وجوب احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب.. ثم قال: =فمن يحاول منع نساء المسلمين _ كالدعاة للسفور والتبرج، والاختلاط اليوم _ بأمهات المؤمنين في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة فهو غاش لأمة محمد"، مريض القلب، كما ترى!+اهـ.
وقال أبو عمر بن عبدالبر في التمهيد (6/365): وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة؟!+.
مذهب الإمام الشافعي في الاحتجاب والتبرج والسفور
قال الإمام الشافعي×في الأم في سترة الصلاة (1/109):
=وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل بدنها ما عدا كفها ووجها+اهـ.
وقال في عورة النظر في الأم (2/162):
=وتفارق المرأة الرجل، فيكون إحرامها في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة، ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها، أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها، حتى تغطي وجهها متجافياً كالستر على وجهها، ولا يكون لها أن تنتقب+اهـ.
وجاء في مختصر المزني مع شرحه للماوردي (4/92) كتاب الحج باب الإحرام والتلبية:
=والمرأة في ذلك كالرجل إلا ما أمرت من الستر، وأستر لها أن تخفض صوتها بالتلبية، وأن لها أن تلبس القميص والقباء والدرع والسراويل والخمار والخفين والقفازين، وإحرامها في وجهها، فلا تخمره، وتسدلُ عليه الثوب، وتجافيه عنه+اهـ.
وجاء أيضاً في عورة الصلاة (2/162) أنها تخالف الرجل في عمل الصلاة في ثلاثة أشياء:(1/135)
==أحدها: كثافة جلبابهن، والزيادة في لبس ما هو أستر لها من لبس السراويل وخمار وقميص، وإزار، واعتماد لبس ما جفا من الثياب؛ لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ] (الأحزاب: 59).اهـ.
وقال النووي في المجموع شرح المهذب (3/159) في عورة الصلاة:
=وأما عورة الحرة فجميع بدنها إلا الوجه والكفين إلى الكوعين+اهـ.
وقال في عورة النظر (7/240) في كتاب الحج:
=قال أصحابنا =ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة كحر أو برد أو خوف فتنة ونحوها، أم لغير حاجة+اهـ.
وقال الغزالي في الإحياء (2/53): =فإذا خرجت، فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقب أو منعن من الخروج إلا لضرورة+اهـ.
وجاء في الحجاب والسفور في الكتاب والسنة لأبي مصعب فريد الهنداوي ص143:
=نص النووي×في المنهاج على حرمة كشف وجه المرأة وكفيها، وإن انتفت الفتنة، وأمنت الشهوة _وهو قول أيضاً الاصطخري والطبري، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والروياني وغيرهم+اهـ.
وقال العلامة تقي السبكي×:
=إن الأقرب إلى صنع الأصحاب: أن وجهها وكفيها عورة في النظر، لا في الصلاة+.
وقال البلقيني×:
=والفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقاً، وهو الراجح+اهـ.(1/136)
وقال السيوطي في تفسيره آية الأحزاب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] من تفسير الجلالين:
=جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة+اهـ.
وقال المباركفوري في عون المعبود (11/106):
=قال السيوطي: هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن+اهـ.
وقال أحمد بن حسين بن حسن أبو العباس الرملي الشافعي المعروف بـ =ابن رسلان+:
_ فيما نقله عن الشوكاني في نيل الأوطار (6/130) في حديث عائشة: =إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا.. الحديث...
قال الشوكاني: =فيه دليل لمن قال: إنه يجوز نظر الأجنبية+ قال ابن رسلان:
=وهذا عند أمن الفتنة، مما تدعوا الشهوة إليه من جماع أو ما دونه. أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق+اهـ.
قلت: حديث عائشة هذا ضعيف بل منكر لا يصلح للاحتجاج ولا للاستدلال.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر ص129_131:
=الكبيرة الثالثة والثلاثون: تشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء. قال: =ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة: إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ من تحت =النقاب+ وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات، والأزر والحرير والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام، وتطويلها على غير ذلك إذا خرجت، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة.
وهذه الأفعال التي غلبت على أكثر النساء. قال عنهن النبي":
=اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، وقال":(1/137)
=ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء+. فنسأل الله أن يقينا فتنتهن، وأن يصلحهن وإيانا بمنه وكرمه+اهـ.
وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيتمي المتوفى سنة 974هـ/ في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/543):
=الكبيرة الثالثة والأربعون، والرابعة والأربعون بعد المائتين:
=نظر الأجنبية بشهوة مع خوف فتنة، ولمسها كذلك، وكذا الخلوة بها بأن لم يكن معهما محرم لأحدهما يحتشمه، ولو امرأة كذلك ولا زوج لتلك الأجنبية... إلى أن قال ص5:
=ومن ثم حَرَّمَ أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة، ولو مع يدها بناءً على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه، لأنهما عورة في النظر من المرأة، ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة. وكذلك يحرم سائر ما انفصل منها؛ لأن رؤية البعض ربما جَرَّ إلى رؤية الكل، فكان اللائق حرمة نظره مطلقاً أيضاً، وكما يحرم ذلك على الرجل للمرأة كذلك يحرم عليها أن ترى شيئاً منه ولو بلا شهوة، ولا خوف فتنة+.
وقال شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي الشافعي الصغير في نهاية المحتاج (6/187):
=في كشف وجه المرأة وكفيها والنظر إلى ذلك _عند الشافعية_ ثلاث حالات:
الأولى: أن يخاف الفتنة، أو ما يدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدماته. فالنظر، والكشف في هذه الحالة حرام بالإجماع، كما قاله الإمام.
الحالة الثانية: أن ينظر إليها بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد، وأمن الفتنة، فيحرم مطلقاً، وعلى المرأة ستر وجهها وكفيها من رؤوس الأصابع إلى المعصم ظهراً وبطناً+.
الحالة الثالثة: أن تنتفي الفتنة، وتؤمن الشهوة ففي هذه الحالة قولان:(1/138)
1_ لا يجوز، ولو من غير مشتهاة أو خوف فتنة على الصحيح، وهو قول النووي×في المنهاج، والاصطخري وأبي علي الطبري واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ إبو إسحاق الشيرازي، والروياني وغيرهم، وَوَجَّهَهُ الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة، ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] (النور: 30)، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال. أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية+اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/406):
=وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال.
ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، قالت: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر+ تعني جدتها_ قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله"إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا، ونحن محرمات، فإذا جاوزونا رفعناه+ انتهى. وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها، وفي إسناده ضعف+اهـ.
وقال في الفتح أيضاً (4/54) في المحرمة:
=ومعنى =قوله: =ولا تنتقب+ أي لا تستر وجهها _كما تقدم_ واختلف العلماء في ذلك، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية، ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين+اهـ.
وقال أيضاً (8/463) في حديث عائشة في قصة الإفك: =فخمرت+ أي غطيت =وجهي بجلبابي+ أي الثوب الذي كان عليها+اهـ.(1/139)
وقال أيضاً (8/490) في حديث عائشة لما نزلت آية الحجاب: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] شققن مروطهن فاختمرن بها+: أي غطين وجوههن، وصفة ذلك: أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع+ قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرت بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل+اهـ.
وقال أيضاً (10/48) في تعريف الخَمرْ من حديث: =خمروا آنيتكم+:
=ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها+اهـ.
وقال أيضاً (9/337) في الجمع بين حديث نبهان: =أفعمياوان أنتما.. الخ وبين حديث نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد يوم العيد، فقال:
=والجمع بين الحديثين: احتمال تقدم الواقعة، أو أن يكون في قصة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النساء من رؤيته؛ لكن ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به، ويقوي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال. ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز، فقال: =لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فتنة فلا؛ إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب، أو منعن من الخروج+اهـ.
وقال أيضاً (9/326) في حديث المخنث في وَصْفِه ابنةَ غيلان:
=ويستفاد منه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن، وهذا الحديث أصل في إبعاد من يستراب به في أمر من الأمور+اهـ.
وقال أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني في إرشاد الساري (8/117) في حديث عائشة حين كانت تنظر إلى الحبشة:(1/140)
=واستدل به على جواز رؤية المرأة إلى الأجنبي دون العكس، ويدل له استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار متنقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهن(1) النساء، فدل على اختلاف الحكم بين الفريقين، وبهذا احتج الغزالي للجواز، فقال: =لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم تكن فلا؛ إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج+اهـ.
وقال أيضاً (3/311) في لباس المحرمة:
=فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر مخيطاً كان أو غيره إلا وجهها؛ فإنها حرام، وكذا ستر الكفين بقفازين أو أحدهما بأحدهما؛ لأن القفازين ملبوس عضو ليس بعورة فأشبه خف الرجل ويجوز سترهما بغيرهما ككم وخرقة لفتها عليهما للحاجة إليه، ومشقة الاحتراز عنه. نعم يعفى عما تستر من الوجه احتياطاً للرأس؛ إذ لا يمكن استيعاب ستره إلا بستر قدر يسير مما يليه من الوجه، والمحافظة على ستره بكماله؛ لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف القدر من الوجه، ويؤخذ من هذا التعليل أن الأمة لا تستر ذلك؛ لأن رأسها ليس بعورة، ولكن قال في المجموع:
=ما ذكر في إحرام المرأة ولبسها، لم يفرقوا فيه بين الحرة والأمة وهو المذهب.
وللمرأة أن ترخي على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة أو نحوها، فإن أصاب الثوب وجهها بلا اختيار فرفعته فوراً، فلا فدية، وإلا وجبت مع الإثم+اهـ.
وقال الإمام النووي في المسائل المنثورة ص126 باب كشف وجه المسلمة: لا يجوز كشف وجه المرأة المسلمة ليهودية ولا نصرانية مستدلاً بآية النور، فقال في جواب سؤال هذا نصه:
__________
(1) لو كانت العبارة هكذا: =لئلا تراهم النساء+ لكان أصوب.(1/141)
=هل يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهودية أو نصرانية وغيرهما من الكافرات؟ وهل في ذلك خلاف في مذهب الإمام الشافعي، وما دليله؟
الجواب: لا يجوز لها ذلك إلا أن تكون الكافرة مملوكة لها. هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي÷ودليله: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] إلى قوله: [أَوْ نِسَائِهِنَّ] أي نساء المسلمات. فبقيت الكافرات على النهي المذكور في أول الآية. وقد كتب سيدنا عمر بن الخطاب÷إلى أبي عبيدة بن الجراح÷ وهو بالشام يأمره أن ينهى المسلمات عن ذلك والله أعلم+.
قال المحشي لهذا الكتاب معلقاً على ذلك:
=قال الإمام الشرقاوي على التحرير (1/173):
=وعورة الحرة خارج الصلاة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها، فجميع بدنها حتى الوجه والكفين.
ولو عند أمن الفتنة، ولو رقيقة، فيحرم عليه أن ينظر إلى شيء من بدنها، ولو قلامة ظفر منفصلة منها، وبالنسبة للرجال المحارم والنساء مطلقاً غير الكافرات، وكذا في الخلوة فما بين سرتها وركبتها. أما بالنسبة للنساء الكافرات فما عدا ما يبدوا عند المهنة+اهـ.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة في الصحيح (4/203): باب إباحة تغطية المحرمة وجهها من الرجال بذكر خبر مجمل أحسبه غير مفسر... ثم ساقه بالسند إلى فاطمة بنت المنذر عن أسماء... قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك.
ثم قال: باب ذكر الخبر المفسر لهذه اللفظة التي حسبتها مجملة، والدليل على أن للمحرمة تغطية وجهها من غير النقاب، ولا إمساس الثوب؛ إذ الخمار الذي تستر به وجهها...
بل تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها أو تستر وجهها بيدها أو بكمها، أو ببعض ثيابها مجافية يدها عن وجهها+ ثم قال:
=في زجر النبي"المحرمة عن الانتقاب دلالة على أن ليس للمحرمة تغطية وجهها بإمساس الثوب وجهها+.(1/142)
وقال الحاكم في المستدرك (1/454): تغطية الوجه للمحرمة+.. ثم أورد حديث فاطمة بنت المنذر، عن أسماء: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام.. الخ
وقال النووي في المجموع شرح المهذيب (7/231):
=فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت على وجهها شيئاً، لا يباشر الوجه؛ لما روت عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله"محرمات؛ فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+.
وقال أبو الحسن الماوردي في الحاوي الكبير (9/33):
=مسألة قال الشافعي: =وإذا أراد أن يتزوج المرأة فليس له أن ينظر إليها حاسرة وينظر إلى وجهها وكفيها، وهي متغطية بإذنها، وبغير إذنها+، وهو في الأم (8/264).
وذكره ابن القيم في تهذيب السنن (3/225) رقم 1998. قلت والحاسرة: هي التي تضع خمارها ودرعها.(1/143)
وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] أي لا يُظْهِرْنَ شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود كالرداء والثياب _يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقال الأعمش: =عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]، قال: وجهها وكفيها والخاتم، وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك، وهذا يحتمل أن يكون تفسير للزينة التي نهين عن إبدائها كما قال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبدالله قال في قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ]: الزينة القرط والدملوج والخلخال والقلادة، وفي رواية عنه: بهذا الإسناد قال:
الزينة: زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري: لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس، فلا يبدو منها إلا الخواتم. وقال مالك: عن الزهري [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]: الخاتم والخلخال.
ويحتمل: أن ابن عباس ومن تبعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين. وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه.. ثم ساقه بسنده أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي"وعليها ثياب رقاق... الحديث+اهـ.
قلت: وهو حديث منكر لا يجوز الاحتجاج به ولا الاستئناس به، ولهذا نقل ابن كثير عن أبي داود وأبي حاتم أنه مرسل. خالد بن مدرك لم يسمع من عائشة.(1/144)
ثم قال ابن كثير في قوله: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]: يعني المقانع. وتقدم أنه فسر المقانع آنفاً بأنها التي تجلل ثيابها. يوضح هذا أنه قال في آية الأحزاب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ... الآية:
=والجلباب هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود وعَبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم. قال الجوهري: =الجلباب: الملحفة. قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها:
تمشي النسور إليه وهي لا هية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
وقال البغوي في معالم التنزيل (3/544) في [مِنْ جَلابِيبِهِنَّ]: جمع جلباب وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة؛ ليعلم أنهن حرائر+اهـ.
تعريف الجلباب
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/424):
قوله: =من جلبابها+، قيل: المراد به الجنس أي تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه. وقيل: المراد: تشركها معها في لبس الثوب الذي عليها، وهذا ينبني على تفسير الجلباب _وهو بكسر الجيم وسكون اللام، وبموحدتين بينهما ألف. قيل: هو _1_ المقنعة، 2_ أو الخمار، 3_ أو أعرض منه، 4_ وقيل: الثوب الواسع يكون دون الرداء، 5_ وقيل: الإزار، 6_ وقيل: الملحفة، 7_ وقيل: الملاءة، 8_ وقيل: القميص+.
وقال ابن حزم في المحلى (3/280):
=وهذا أمر بلبسهن الجلابيب للصلاة، والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله": هو ما غطى جميع الجسم، لا بعضه، فصح ما قلناه نصاً+اهـ.
وقال مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري في جامع الأصول (6/152) رقم 4263/ الفرع التاسع في خروج النساء إلى العيد+:(1/145)
=الجلباب الملحفة، والإزار الذي تتغطى به المرأة+اهـ.
وقال في النهاية (1/283): والجلباب: الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، وجمعه جلابيب+.
ونقل المقدم في عودة الحجاب (3/222) عن أنور الكشميري أنه قال:
=والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم+ اهـ، وقال الشيخ إبراهيم الشوري والشيخ الشيباوي: =والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها، ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك+اهـ.
وقال العلامة الشيخ عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله في النظرات ص48:
=قال العلماء: الجلابيب جمع جلباب، وهو الذي تشتمل به المرأة فوق الدرع والخمار، والمفهوم من الجلباب أنه لا ينحصر باسمٍ، ولا بجنسٍ، ولا بلونٍ، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه زال الحرج في وصفه ومسماه+اهـ.
ونقل المقدم (3/190) عن القرطبي أنه قال: =والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن+.
وأما الإمام القاضي ناصر الدين عبدالله بن عمر البيضاوي الشافعي فإنه قال في تفسيره أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/252): [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] يغطين وجوههن، وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة+اهـ.
وقال أيضاً (2/121) في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن موضعها لمن لا يحل أن تبدي له [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم؛ فإن في سترها حرجاً.
وقيل: المراد بالزينة مواضعها على حذف مضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينة، والمستثنى: هو الوجه والكفان؛ لأنها ليست بعورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر؛ فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر على شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة+اهـ.(1/146)
وقال الشهاب في شرحه: =ومذهب الشافعي×كما في الروضة وغيرها: أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقاً. وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفهما+.
وقال أيضاً: [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] أي بلا إظهار كأن كشفته الريح، والاستثناء عن الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو المؤاخذة به في دار الجزاء، وفي حكمه ما لزم إظهاره؛ لتحمل شهادة ومعالجة طبيب+.
وقال أيضاً: =قوله: وقيل المراد بالزينة مواضعها+ وفي نسخة =مواقعها+ وهو بمعناه، وهذا ما ارتضاه الزمخشري وهو على مذهب أبي حنيفة×وجعله كناية عما ذكر كتقى الجيب، وهو مجاز من ذكر الحال، وإرادة المحل. وقيل: إنه بتقدير مضاف _كما ذكره المصنف×_.
وفي الانتصاف: قوله: [وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ] الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، ولو حمل على ما ذكر لزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع التزين، وهو باطل؛ لأن بدن الحرة جميعه عورة _يعني عند الشافعي ومالك_ وأما إبداء الزينة وحدها فلا خلاف في جوازه؛ إذ لا يحرم نظر سوار امرأة يباع في يد رجل+اهـ.
ثم ذكر المرجع لذلك بقوله :=عناية القاضي، وكفاية الراضي (6/373).
وقال الإمام الكيا الهراس محمد الطبري في أحكام القرآن (4/345) في قوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ... الآية:
=الجلباب الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن، ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك+.
وقال الإمام العلامة محمد بن أحمد جلال الدين المحلِّي الشافعي في تفسيره المكمل بتفسير الجلال السيوطي والمسمى: =تفسير الجلالين+ ص559 في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] قال:(1/147)
=جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة+. [ذَلِكَ أَدْنَى] أقرب إلى [أَنْ يُعْرَفْنَ].
ونقل أبو الطيب محمد شمس الحق آبادي في عون المعبود (11/106) عن السيوطي أنه قال:
=هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن+اهـ.
وقال المقدم في عودة الحجاب (3/199):
وقال الإمام الخطيب الشربيني×في تفسيره السراج المنير (3/271):
[يُدْنِينَ] يقربن [عَلَيْهِنَّ] أي على وجوههن، وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً+.
وقال أيضاً في نفس المرجع:
=قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي في الصلاة لا يطمع فيها أن تكشف عورتها، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن+اهـ.
وقال معين الدين الإيجي في جامع البيان ص173:
=الجلباب رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل _يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأبدانهن+.
قلت: وقد كان النساء في عصر الصحابة والتابعين يحادثن الرجال ويعلمنهم العلم ولم يروهن يعني أنهن محجوبات الأشخاص عنهم. قال الإمام الحافظ الذهبي في السير (7/38) في إنكار هشام بن عروة رواية محمد بن إسحاق من امرأته فاطمة بنت المنذر، وأنه لم يرها قط.
=قلت: هشام صادق في يمينه، فما رآها، ولا زعم الرجل أنه رآها، بل ذكر أنها حدثته.
وقد سمعنا من عدة نسوة، وما رأيتهن، وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة وما رأوا لها صورة أبداً+اهـ.
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ص410_414 في أحكام الأنثى:
=ومنها: المرأة في العورة لها أحوال: حالة مع الزوج ولا عورة بينهما... وحالة مع الأجانب وعورتها كل البدن حتى الوجه والكفين في الأصح، وحالة مع المحارم والنساء وعورتها ما بين السرة والركبة، وحالة في الصلاة وعورتها كل البدن إلا الوجه والكفين+اهـ.(1/148)
وقال الحافظ في الفتح (12/245) كتاب الديات _ باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له:
=ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته ونحو ذلك+اهـ.
وقال الموزعي الشافعي في تيسير البيان لأحكام القرآن (2/1001):
لم يزل عمل الناس على هذا قديماً وحديثاً في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها ولا يتسامحون للشابة ويرونه عورة ومنكراً، وقد تبين لك وجه الجمع بين الآيتين، ووجه الغلط لمن أباح النظر على وجه المرأة لغير حاجة. والسلف والأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة، فقال الشافعي ومالك: ما عدا الوجه والكفين وزاد أبو حنيفة القدمين وما أظن أحداً منهم يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة ولا يبيح للشاب أن ينظر إليها لغير حاجة .
وقال الخطابي في حديث عقبة بن عامر، أنه سأل النبي"عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة؟ فقال:
=مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام+ رواه أبو داود (3/596) رقم 3293 قال الخطابي:
=أما أمره إياها بالاختمار، فلأن النذر لم ينعقد فيه؛ لان ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار... الخ.
ونقل ابن حجر×عن الزيادي وأقره عليه: أن عورة المرأة أمام الأجنبي جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد+(1).
وقال صاحب النهاية: =تعين ستر المرأة وجهها وهي محرمة حيث كان طريقاً لدفع مُحَرَّم+(2).
وقال الشرقاوي في حاشيته على تحفة الطلاب (1/174):
=وعورة الحرة خارج الصلاة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها حتى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة+.
وجاء في تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي بشرح المنهاج مع حواشي الشرواني والعبادي (7/202، 203) ما معناه:
__________
(1) انظر حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المنهاج(2/112).
(2) تحفة المحتاج (2/112) و (4/165).(1/149)
=ويباح النظر للوجه فقط لمعاملة وشهادة... والنظر لغير ذلك مفسق على ما قاله الماوردي، وقضيته أنه كبيرة، لكن في عدهم للصغائر ما يخالفه، وتكلف الكشف للتحمل والأداء، فإن امتنعت أمرت امرأة أو نحوها بكشفها.
قال السبكي:
=وعند نكاحها لا بد أن يعرفها الشاهدان بالنسب أو بكشف وجهها، لأن التحمل عند النكاح منزل منزلة الأداء، وفي ذلك بسط ذكرته في الفتاوى، ويأتي بعضه، ولو عرفها الشاهدان في النقاب لم يحتج للكشف.
فعليه يحرم الكشف حينئذ؛ إذ لا حاجة إليه+اهـ بتصرف.
مذهب الحنابلة في الحجاب والسفور
مذهب الإمام أحمد×أن المرأة كلها عورة حتى ظفرها ثبت ذلك عنه بأسانيد صحيحة، منها ما يلي:
جاء في أحكام النساء للإمام أحمد برواية =أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد أبي بكر الخلال البغدادي الحنبلي×قول الإمام أحمد:
1_ =كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها+.
رواه أبو بكر الخلال في أحكام النساء ص31 رقم 13_15
من طريق منصور بن الوليد، أن جعفر بن محمد حدثهم، قال: سمعت أبا عبدالله يقول.. فذكره، إسناده صحيح. منصور بن الوليد هو النيسابوري لم أقف له على ترجمة إلا أن الخلال اعتمده كثيراً في نقل الروايات عن أحمد. وأما جعفر بن محمد فهو النسائي الشقراني أو الشعراني أبو محمد. قال الخلال: رفيع القدر، ثقة جليل ورع، انظر طبقات الحنابلة (1/336) رقم 150.
ورواه الخلال أيضاً في أحكام النساء ص31 رقم 14.
من طريق محمد بن علي، والحسن بن عبدالوهاب، أن محمد بن أبي حرب حدثهم، قال:
قلت لأبي عبدالله: =البيع تأتيه المرأة، فينظر على كفها ووجها؟ قال: إن كانت عجوزاً. وإن كانت ممن تحركه يغضض طرفه، وقال:
=كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها+ز(1/150)
إسناده صحيح، رجاله ثقات. الحسن بن عبدالوهاب هو أبو محمد بن أبي العنبر. قال الخطيب في تاريخ بغداد (7/339) رقم 3856: كان ثقة ديناً مشهوراً+. وأما قرينه محمد بن علي فهو ابن محمود الوراق _كما في الوقوف والترجل للخلال نفسه ص19 رقم1، ولم أقف له على ترجمة، لكنه أكثر الرواية عنه.
ومحمد بن أبي حرب هو ابن النقيب الجرجائي. قال الخلال _كما في طبقات الحنابلة (2/2/395) رقم 472:
ورع، يعالج الصبر، جليل القدر، كان أحمد يكاتبه، ويعرف قدره، ويسأل عن أخباره+.
ورواه الخلال في أحكام أهل الملل ص383 رقم1081، وأحكام النساء ص31 رقم16 من طريق موسى بن سهل، قال أخبرني محمد بن أحمد الأسدي، قال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، عن إسماعيل بن سعيد أن أبا عبدالله قال:
=الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة _يعني المرأة_ حتى الظفر+ ولا نقول في نساء أهل الذمة شيئاً+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. موسى بن سهل هو الرملي ابو عمران. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/146) رقم 660: صدوق ثقة، سئل أبي عنه؟ فقال: صدوق.
وأما الأسدي، فلم أقف له على ترجمة، ولكن الخلال اعتمده كثيراً في رواياته عن أحمد. وإبراهيم بن يعقوب فهو الجرجائي أبو إسحاق الدمشقي، ثقة حافظ أحد أئمة الجرح والتعديل. وإسماعيل بن سعيد هو أبو إسحاق الطبري الكسائي الشالَنْجي.
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/174): أنا الحسن بن علي الآملي _فيما كتب إلى_ قال: سألت أحمد بن حنبل عن إسماعيل بن سعيد الكسائي؟ فقال: رحم الله أبا إسحاق كان من الإسلام بمكان، كان من أهل العلم والفضل+اهـ. قال الحسن بن علي: =كان أوثق من كتبت عنه إلا أقل ذاك+اهـ.
وقال في أحكام النساء ص32 رقم18:
أخبرني أحمد بن محمد بن مطر، قال: حدثنا أبو طالب، أنه سمع أبا عبدالله يقول:(1/151)
=ظفر المرأة عورة، وإذا خرجت، فلا يبين منها لا يدها، ولا ظفرها، ولا خفها؛ فإن الخف يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل أكُفَّها(1) إلى عند يدها، حتى إذا خرجت يدها لا يبين منها شيء+.
إسناده حسن. رجاله ثقات. أحمد بن مطر هو أبو العباس. قال أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (5/98) رقم 2498: كان ثقة. وأبو طالب هو عصمة بن أبي عاصم العكبري.
قال الخلال _كما في طبقات الحنابلة (2/174) رقم339: كان صالحاً، صحب أبا عبدالله قديماً إلى أن مات، وروى عنه مسائل كثيرة جياداً+اهـ.
أو هو أحمد بن حميد أبو طالب المشكاني المُتَخَصِّصُ بصحبة الإمام أحمد _كما في طبقات الحنابلة (1/81) رقم13، الذي روى عن أحمد مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه، ويعظمه... وكان رجلاً صالحاً فقيراً صبوراً على الفقر. وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (4/122) رقم 1792، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/48) رقم37، وسكتا عليه.
ولكن جاء في أحكام أهل الملل ص216 رقم611 ما نصه:
=حدثني أحمد بن مطر، قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو طالب الساساني، أنه سأل أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، عن مسلمين ونصارى غرقوا كيف يصلى عليهم ولا يعرفون؟
فقال:: =لا بد من الصلاة عليهم، ويتولى ذلك المسلمون+اهـ.
وقال الخلال في أحكام النساء ص32 رقم21:
أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار، قال: حدثنا العباس بن محمد الخلال، أن أبا عبدالله قال في نساء السواد المسلمات يبدو منهن شعرٌ أو صدرٌ. قال:
=لا إذا كانت مسلمة. المرأة كلها عورة حتى ظفرها+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. أحمد بن الحسن هو أبو عبدالله الصوفي. قال الخطيب في تاريخ بغداد (4/82): كان ثقة، وقال الدار قطني _كما في طبقات الحنابلة (1/76) رقم10: ثقة+.
__________
(1) هكذا في الأصل. وجاء في الفروع لابن مفلح (1/601) و (5/154): =أن تجعل لكمها زراً عند يدها+.(1/152)
والعباس بن محمد. قال فيه الخلال في طبقات الحنابلة (2/163): كان أبو عبدالله يعتد به وكان رجلاً له قدر وعلم وعارضة.
فهاهم خمسة من أصحاب الإمام أحمد: جعفر بن محمد الشقراني النسائي أبو محمد، ومحمد بن أبي حرب النقيب الجرجائي، وإسماعيل بن سعيد أبو إسحاق الطبري الكسائي الشالَنجي، وأبو طالب، والعباس بن محمد بن موسى الخلال _كما ترى_ قد تواطأت رواياتهم عن الإمام أحمد×أنه أخبر جازماً بأن المرأة عورة حتى ظفرها.
وروى عنه ابنه صالح أنها إذا أحرمت بالحج أو العمرة أنها تسدل الثوب على وجهها إذا مَرَّ بها الرجال، ومثله نقل ابن هانئ.
فقد جاء في مسائل ابن هانئ (1/157) رقم787 ما نصه:
=سألت أبا عبدالله عن المرأة المحرمة تسدل ثوبها على وجهها؟ قال: =تسدله على وجهها إذا لقيت الرفاق، فإذا جاوزت الرفاق كشفت عن وجهها، ولا تغطيه عمداً+.
وجاء في مسائل صالح لأبيه (1/310) رقم261:
=وسألته عمن قال: =إحرام المرأة المحرمة في وجهها+ ما معناه؟ كأنها لا تجنب الزينة إلا في وجهها أو كيف؟ قال: =لا تخمر وجهها، ولا تنتقب، والسدل ليس به بأس، تسدل على وجهها+.
وفي رواية (2/236) رقم824 قال: =تسدل على وجهها شيئاً رقيقاً+.
بل جاء عن الإمام أحمد أنها إذا كانت في الصلاة لا يرى منها شيء. قال أبو داود السجستاني صاحب السنن في مسائله للإمام أحمد ص40:
=قلت لأحمد: المرأة إذا صلت ما يرى منها؟ قال: =لا يرى منها ولا ظفرها، تغطي كل شيء منها.
=قلت لأحمد: امرأة صلت وساعدها مكشوفة؟ قلت: تعيد(1)؟ قال: =نعم+.
وقال ابن المنذر في الأوسط (5/70): =(ث 2404): وقال بعضهم على المرأة إذا صلت أن تغطي كل شيء منها، قال أحمد بن حنبل في المرأة تصلي وبعض شعرها مكشوف أو بعض ساقها أو بعض ساعدها: =لا يعجبني+ قيل: فإن كانت صلت؟ قال: =إذا كان شيئاً يسيراً فأرجو.
__________
(1) في الأصل: (قال: تعيد، قال: نعم) ولعل الصواب ما أثبته.(1/153)
وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: =كل شيء من المرأة عورة، حتى ظفرها+.
وقال العلامة الإمام ابن مفلح في الفروع (1/601):
=قال أحمد: =ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: =ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئاً، ولا خفها؛ فإنه يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل لكمها زراً عند يدها+. اختار القاضي قول من قال: =المراد بما ظهر من الزينة الثياب؛ لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي، أو ببعضها؛ فإنها الخفية، قال: =وقد نص عليه أحمد، فقال: =الزينة الظاهرة الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر+اهـ.
وقال في (5/154) من الفروع:
=عن أبي طالب، نقل عن الإمام أحمد، أنه قال: =ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء، ولا خفها؛ فإنه يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل لكمها زراً عند يدها، ولا يبين منها شيء+اهـ.
وقال أبو الفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي في زاد المسير (5/377) في قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن] أي لا يظهرنها لغير محرم. وزينتهن على ضربين خفية كالسوارين والقرطين والدُملج والقلائد ونحو ذلك. وظاهرة وهي المشار إليها بقوله: [إلا ما ظهر منها] وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر قال: هي الرداء.
والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه.
والثالث: الكحل والخاتم رواهما سعيد بن منصور عن ابن عباس.
والرابع: القلبان، وهما السواران والخاتم والكحل. قاله المسور بن مخرمة.
والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد.
والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن.
والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى:(1/154)
=والقول الأول أشبه، وقد نص عليه أحمد، فقال: =الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها، أو يشهد عليها؛ فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن+اهـ.
وقال الخرقي _كما في شرح ابن قدامة في المغني (5/154) له:
=والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها+.
قال ابن قدامة: =وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه، لا نعلم في هذا خلافاً إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة. ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة، فلا يكون اختلافاً. قال ابن المنذر: وكراهة البرقع ثابت عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة، ولا نعلم أحداً خالف فيه، وقد روى البخاري وغيره أن النبي"قال: =لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين+. فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، روي ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافاً؛ وذلك لما روي عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت:
=كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله"، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+.
رواه أبو داود والأثرم، ولأن بالمرأة حاجة على ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق، كالعورة، وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، فإن أصابها، ثم زال، أو أزالته بسرعة، فلا شيء عليها، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي، ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة وإن لم ترفعه مع القدرة افتدت؛ لأنها استدامت الستر+.(1/155)
ولم أر هذا الشرط عن أحمد، ولا هو في الخبر، مع أن الظاهر خلافه؛ فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطاً لَبُيِّنَ، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَدُّ لستر الوجه. قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل+. كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها+اهـ.
وأما شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية _قدس الله روحه_ فقال: إن المرأة عورة، وأنه يجب عليها ستر وجهها عند الرجال الأجانب بالاتفاق، ويجوز لها كشفه بالصلاة إذا لم يرها الرجال، وإذا لم تلتزم بستره عن الأجانب فإنها تعاقب.
وخذ نماذج من عباراته في ذلك إذ يقول في المجموع من فتاويه (26/112):
=وأما المرأة؛ فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي"أن تنتقب أو تلبس القفازين. والقفازان غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه، فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود، ولا بيد، ولا غير ذلك؛ فإن النبي" سَوَّى بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه.
وأزواجه"كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي"أنه قال: =إحرام المرأة في وجهها+، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي"نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين، كما نهى المحرم أن يلبس القميص، والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى من النقاب، فلهذا ينهى عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه؛ فإنه كالنقاب+اهـ.
وقال في المجموع (22/109) ايضاً:(1/156)
=والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود، ومن وافقه: هي الثياب. وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم. وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية. فقيل: يجوز لغير شهوة إلى وجهها، ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك.(1)
وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر غليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله _عز وجل_ آية الحجاب بقوله: [يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن] حُجِبَ النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر، ومنع النساء أن ينظرن. ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها+.
__________
(1) تقدم أنه لا نزاع بين الفقهاء في ذلك بل هم متفقون على تحريم النظر إلى الأجنبية، وممن نقل الاتفاق شيخ الإسلام نفسه فقال في حجاب المرأة ص26: =وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك _يعني الأمرد_ كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة+.(1/157)
فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته، ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن. و=الجلباب+ هي الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: =أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب: كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب إلا الثياب الظاهرة.
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين+اهـ.
قلت: تفسير ابن عباس هذا لم يصح عنه، وإنما الذي صح عنه هو القول بستر الوجه كما في تفسيره لسورة الأحزاب.
وقال× (24/382):
=وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز، وعلى وليِّ الأمرِ، الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره+اهـ.
وقال قدس الله روحه في (22/109):
=فصل في =اللباس في الصلاة+ وهو أخذ الزينة عند كل مسجد الذي يسميه الفقهاء:
=باب ستر العورة في الصلاة+، فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يُستَرُ في الصلاة هو الذي يُستَرُ عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأَخَذَ ما يُستَرُ في الصلاة من قوله: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن] ثم قال: [ولا يبدين زينتهن] يعني الباطنة [إلا لبعولتهن] الآية. فقال: يجوز لها في أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة+... ففنَّد هذا الظن، ثم قال ص113:(1/158)
=فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عرياناً ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عرياناً، ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع... إلى أن قال ص114:
وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال النبي": =لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار+. وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء ولا لغيرهم.
وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين _بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب. وأما ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوى، فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة، قالت: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] قالت: =الفتخ+ حلق من فضة تكون في أصابع الرجلين+ رواه ابن أبي حاتم. فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولاً، كما يظهرن الوجه واليدين، كن يرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها، ولم يكن يمشين في خفاف، وأحذية، وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم، وأم سلمة قالت: =تصلي المرأة في ثوب سابغ يغطي قدميها+ فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم.
وبالجملة قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت، وحينئذٍ فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كن يمشين أولاً قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً، ولا عكساً+... إلى أن قال:(1/159)
=ولهذا أمرت المرأة أن تختمر في الصلاة، وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تنه عن إبدائه للنساء، ولا لذوي المحارم+... إلى أن قال: =وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه.
فعلم أن وجهها كبدن الرجل، ويديها، وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها ويديها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل، ويلبس الإزار. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال شيخ الإسلام أيضاً (15/371):
= وقال تعالى: [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم] الآية إلى قوله: [وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون]، فأمر الله سبحانه الرجال والنساء بالغض من البصر وحفظ الفرج، كما أمرهم جميعاً بالتوبة، وأمر النساء خصوصاً بالاستتار، وأن لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، ومن استثناه الله تعالى في الآية فما ظهر من الزينة هو الثياب الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائها إذا لم يكن في ذلك محذور آخر؛ فإن هذا لابد من إبدائها... إلى أن قال:
وأمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب؛ لئلا يعرفن، ولا يؤذين، وهذا دليل على القول الأول يعني قول ابن مسعود وغيره وقد ذكر عَبِيَدةُ السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن؛ لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح: =أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين+ وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمْنَ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن، وقد نهى الله تعالى عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو غيره، فقال:
[(1/160)
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن] وقال: [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] فلما نزل ذلك عمد نساء المؤمنين إلى خمرهن فشققنهن، وأرخينها على أعناقهن. و =الجيب+ هو شق في طول القميص، فإذا ضربت المرأة بالخمار على الجيب سترت عنقها، وأمرت بعد ذلك أن ترخي من جلبابها، والإرخاء إنما يكون إذا خرجت من البيت، فأما إذا كانت في البيت فلا تؤمر بذلك، وقد ثبت في الصحيح: =أن النبي" لما دخل بصفية قال أصحابه: إن أرخى عليها الجلباب فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يضرب عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه، فضرب عليها الحجاب+.
وإنما ضرب الحجاب على النساء؛ لئلا ترى وجوههن وأيديهن... إلى أن قال:
=وقال الله تعالى: [والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن].
فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها، فلا تلقي عليها جلبابها، ولا تحتجب، وإن كانت مستثناة من الحرائر؛ لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم؛ لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة.(1/161)
وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها، وتحتجب، ووجب غض البصر عنها، ومنها. وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن، وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر. والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد فلم يجعل عليهن احتجاباً، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم؛ لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يُسْتَثْنَى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها، وإبداء زينتها... إلى أن قال ص377:
=وهذه المواضع التي أمر الله تعالى بالاحتجاب فيها مظنة الفتنة، ولهذا قال تعالى: [ذلك أزكى لهم] فقد تحصل الزكاة والطهارة بدون ذلك، لكن هذا أزكى، وإن كان النظر، والبروز قد انتفى فيه الزكاة والطهارة بدون ذلك، لكن هذا أزكى، وإذا كان النظر، والبروز قد انتفى فيه الزكاة والطهارة؛ لما يوجد في ذلك من شهوة القلب واللذة بالنظر كان ترك النظر والاحتجاب أولى بالوجوب، ولا زكاة بدون حفظ الفرج من الفاحشة؛ لأن حفظه يتضمن حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن المباشرة، ومس الغير له وكشفه للغير، ونظر الغير إليه، فعليه أن يحفظ فرجه عن نظر الغير ومسه+اهـ باختصار.
وقال علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي في الإنصاف (1/452) في عورة الصلاة:
=قوله: =والحرة كلها عورة حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه+: الصحيح من المذهب أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعاً، وعنه: الوجه عورة أيضاً قال الزركشي:
أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة+.(1/162)
وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة. قال الشيخ تقي الدين:
=والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه+.
وقال الشيخ منصور البهوتي في كشاف القناع (1/309):
=لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره.
قال جمع: وكفيها، واختاره المجد وجزم به في العمدة والوجيز، لقوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها+ رواه البيهقي وفيه ضعف وخالفهما ابن مسعود. وهما أي الكفان والوجه من الحرة البالغة عورة خارجها+ أي الصلاة، باعتبار النظر كبقية بدنها؛ لما تقدم من قوله": =المرأة عورة+.
وقال الحافظ الإمام زين الدين أبو الفرج بن رجب في فتح الباري (2/346) باب وجوب الصلاة بالثياب+.(1/163)
=والجلباب قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: هو الرداء، ومعنى ذلك أنه للمرأة كالرداء للرجل، يستر أعلاها إلا أنه يقنعها فوق رأسها، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه، وقد فسر عَبِيْدةُ السلماني قول الله عز وجل: [يدنين عليهم من جلابيبهن] بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرأة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله عز وجل: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها]. ثم أمرت بستر وجهها وكفيها... فصارت المرأة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب، فلهذا سئل النبي"لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأة منا ليس لها جلباب؟ فقال: =لتلبسها صاحبتها من جلبابها+ يعني تعيرها جلباباً تخرج فيه. وإذا علم هذا المعنى ففي إدخال هذا الحديث في باب اللباس في الصلاة نظر؛ فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس، لا للصلاة، ويدل عليه أن الأمر بالخروج دخل فيه الحُيَّضُ وغيرهن، وقد تكون فاقدة الجلباب حائضاً. فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال، وليس من باب أخذ الزينة للصلاة؛ فإن الحرة تصلي في بيتها بغير جلباب، بغير خلاف، وإنما تؤمر بالخمار كما روي عن عائشة، عن النبي"أنه قال: =لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار. خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه... وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم: أن المرأة إذا أدركت، فصلت، وشيء من شعرها مكشوف، لا تجوز صلاتها+.
وقال ابن المنذر: =أجمع أهل العلم على أن على المرأة الحرة البالغة أن تخمر رأسها إذا صلت، وأنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة. قال: وأجمعوا: أن لها أن تصلي، وهي مكشوفة الوجه... وقال: أحمد: إذا صلت تغطي كل شيء منها، ولا يرى منها شيء ولا ظفرها.(1/164)
وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها.
قلت: قد تقدم أن كشف وجهها في الصلاة جائز بالإجماع+ إلى أن قال:
=وهذا يدل على أن أخذ المرأة الجلباب في صلاة العيدين ليس هو لأجل الصلاة؛ بل هو للخروج بين الرجال، ولو كانت المرأة حائضاًَ لا تصلي، فإنها لا تخرج بدون جلباب+اهـ باختصار.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في مختصر الإنصاف والشرح الكبير (1/296):
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته، لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه، فيحمل على السدل، فلا يكون فيه اختلاف، فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريباً منها سدلت الثوب من فوق رأسها، لا نعلم فيه خلافاً، قال أحمد: =إنما لها أن تسدل النقاب من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، ولا بأس للمرأة أن تطوف منتقبة إذا لم تكن محرمة وكرهه عطاء، ثم رجع لما بلغه أن عائشة تفعله. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها ممنوعة مما يمنع منه الرجل إلا بعض اللباس، وأن لها لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف+اهـ.
وقال العلامة الإمام العالم الرباني عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسير آية النور (5/410):
[ولا يبدين زينتهن] كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن كله من الزينة، ولما كانت الثياب الظاهرة لا بد لها منها قال: [إلا ما ظهر منها] أي الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها+.. إلى أن قال في قوله:
[وليضربن بخمرهن على جيوبهن]: وهذا لكمال الاستتار، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها يدخل فيها جميع البدن كما ذكرنا+اهـ.
وقال في آية الأحزاب (6/247):(1/165)
=هذه الآية هي التي تسمى آية الحجاب، فأمر الله نبيه أن يأمر النساء عموماً، ويبدأ بزوجاته وبناته؛ لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر لغيره ينبغي أن يبدأ بأهله قبل غيرهم _كما قال تعالى: [يا أيهل الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً]: [أن يدنين عليهن من جلابيبهن] وهي التي تكون فوق الثياب من ملحفة وخمار، ورداء ونحوه، أي يغطين بها وجوههن وصدورهن. ثم ذكر حكمة ذلك، فقال: [ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين] دل على وجود أذية إن لم يحتجبن. وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من في قلبه مرض، فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظن أنهن إماء، فتهاون بهن من يريد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن+.
وقال ابن قدامة في الكافي (2/354) في المرأة المحرمة:
=فأما المرأة المحرمة، فلها لبس المخيط كله إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه... إلى أن قال:
=وإن احتاجت إلى سترة سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله" محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على رأسها.. الخ+.
وقال الزركشي في شرحه مختصر الخرقي (3/140):
=إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذاراً من رؤؤية الرجال سدلت على وجهها ثوباً أو نحوه+ ثم استدل بحديث عائشة آنف الذكر.
وقال تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي في منتهى الإرادات (2/114):
=والمرأة إحرامها في وجهها، فتسدل لحاجة+اهـ.
وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي في السلسبيل (2/684): =فائدة+ نظر الرجل إلى المرأة على سبعة أضرب.. فذكرها ومنها _قال:
السادس: النظر للشهادة أو للمعاملة، فيجوز إلى الوجه خاصة إذا دعت الحاجة إلى ذلك+.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/141):
=فائدة+
سئل ابن عقيل عن كشف المرأة وجهها في الإحرام، مع كثرة النساء اليوم أهو أولى أم التغطية مع الفداء، وقد قالت عائشة رضي الله عنها:(1/166)
=لو علم رسول الله"ما أحدث النساء لمنعهن المساجد؟!+.
فأجاب بأن الكشف شعار إحرامها، ورفع حكم ثبت شرعاً بحوادث البدع لا يجوز؛ لأنه يكون نسخاً بالحوادث، ويفضي إلى رفع الشرع رأساً.
وأما قول عائشة، فإنها ردت الأمر إلى صاحب الشرع، فقالت:
=لو رأى لمنع، ولم تمنع هي.
وقد جبذ عمر السترة عن الأمة. وقال: =لا تشبهين بالحرائر+.
ومعلوم أن فيهن من تفتن، لكنه لما وضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فرقاً.
فما ظنك بكشفٍ وضع بين النسك والإحلال؟ وقد ندب الشرع إلى النظر إلى المرأة قبل النكاح، وأجاز للشهود النظر، فليس ببدع أن يأمرها بالكشف، ويأمر الرجال بالغض؛ ليكون للابتلاء، كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام، ونهى عنه.
قلت: سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام؛ فإن النبي"لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء النهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل. ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة، لا تستر البتة. بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار، مع ان مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد.
وكيف يزاد على موجب النص، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً؟! فأي نص اقتضى هذا؟! أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة؟! بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدر النقاب والبرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز، وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه البتة.(1/167)
ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرم؛ لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السلف: =إحرام المرأة في وجهها إنما أراد به هذا المعنى أي لا يلزمها اجتناب اللباس، كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل، ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه، فقوله ليس بحجة، ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين.
وقد قالت أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها: =كنا إذا مَرَّ بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها.
ولم تكن إحداهن تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب، كما قال بعض الفقهاء، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة، ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملاً ولا فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهراً مشهوراً بينهن يعرفه الخاص والعام.
ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها. والله الموفق والهادي+اهـ.
وقال في تهذيب السنن (2/350) رقم1749/ باب ما يلبس المحرم:
=وأما نهيه"في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب، وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، ولا يحرم ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين؛ فإن النبي"سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصل على قدرهما، وهما القفازان. فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه وليس عن النبي"حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب وهو كالنهي عن القفازين، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وهذا واضح بحمد الله.(1/168)
وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة. وقالت عائشة:
=كانت الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله"، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ ذكره أبو داود واشتراط المجافاة عن الوجه _ كما ذكره القاضي عياض وغيره _ ضعيف، لا أصل له دليلاً ولا مذهباً. قال صاحب المغني: =ولم أر هذا لشرط _ يعني المجافاة _ عن أحمد ولا هو في الخبر، مع أن الظاهر خلافه؛ فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطاً لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَدَّ لستر الوجه.
قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول: عن النقاب من أسفل على وجهها+ تم كلامه+(1).
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المروي عن النبي" أنه قال:
=إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها+ فجعل وجه المرأة كرأس الرجل. وهذا يدل على وجوب كشفه؟+.
قيل: هذا الحديث لا أصل له، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمد عليها، ولا يعرف له إسناد، ولا تقوم به حجة، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها، وأنه يحرم عليها فيه ما أعد للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه لا مطلق الستر كاليدين. والله أعلم.
وقال في حديث رقم 1750 ص351 من الجزء المذكور:
__________
(1) انظر قول صاحب المغني هذا في المغني (5/154_155).(1/169)
=تحريم لبس القفازين قول عبدالله بن عمر وعطاء وطاووس ومجاهد وإبراهيم ومالك والإمام أحمد والشافعي في _أحد قوليه_ وإسحاق بن راهويه، وتذكر الرخصة عن علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص، وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي _في القول الآخر_ ونهي المرأة عن لبسهما ثابت في الصحيح كنهي الرجل عن لبس القميص والعمائم، وكلاهما في حديث واحد، وعن راو واحد، وكنهي المرأة عن النقاب وهو في الحديث نفسه، وسنة رسول الله"أولى بالإتباع، وهي حجة على من خالفها وليس قول من خالفها حجة عليها+.
وقال البهوتي في الروض المربع (1/497) في عورة الصلاة:
وكل الحرة البالغة عورة إلا وجهها في الصلاة، فليس بعورة في الصلاة+. قال المحشي عبدالرحمن ابن قاسم معلقاً على ذلك:
=قال الشارح _يعني ابن قدامة_ بلا خلاف نعلمه، وقال القاضي: إجماعاً، والمراد: حيث لا يراها أجنبي. وقال جمع: =وكفيها+ وهو مذهب مالك والشافعي؛ لقوله تعالى: [إلا ما ظهر منها] قال ابن عباس وغيره: وجهها وكفيها، واختار المجد والشيخ وغيرهما: =وقدميها+ وجزم به في العمدة وهو مذهب أبي حنيفة وصوبه في الإنصاف، وما عدا ذلك عورة بالإجماع. وأما خارج الصلاة فعورة باعتبار النظر كبقية بدنها، وهو مذهب مالك والشافعي للخبر. قال الشيخ _يعني ابن تيمية_: =والتحقيق أن الوجه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر؛ إذ لم يجز النظر إليه وصوبه في الإنصاف+اهـ.
_ وقال ابن القيم في عدم الفرق بين الحرة والأمة في عموم الأدلة الشرعية للحرة والأمة في ستر الوجه:(1/170)
=فصل الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة. وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حرم الله هذا وأباح هذا؟! والله سبحانه إنما قال: [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم]، ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر على الأمة حرم عليه بلا ريب، وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب وأما الإماء، فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟! فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: =إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالباً كالبطن والظهر والساق، فظن أن ما يظهر غالباً حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر؛ فإن العورة عورتان عورة في النظر، وعورة في الصلاة. فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، والله أعلم+اهـ.(1)
وقال×: =ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال؛ فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان+ قاله في روضة المحبين ص84 الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقاتها.
وقال مجد الدين أبو البركات في المحرر (1/42) في عورة الصلاة:
=وكل الحرة عورة سوى الوجه، وفي كفيها روايتان+.
وقال في عورة النظر في باب محظورات الإحرام (1/239):
=وإحرام المرأة في وجهها، فلا تستره بنقاب ولا غيره، فإن سدلت عليه ما لم يباشره جاز+اهـ.
وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة (2/268) في عورة الصلاة في وجه الحرة البالغة:
__________
(1) إعلام الموقعين (2/80).(1/171)
=والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه+.
وقال أبو إسحاق بن مفلح في المبدع (3/168):
=فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها جاز أن تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها+.
الدليل من الاعتبار الصحيح والقياس المطرد على تحريم السفور والتبرج، والقول بفرضية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب
يقول سماحة الشيخ العلامة الإمام محمد بن صالح العثيمين×في رسالة الحجاب ص22:
=الدليل الحادي عشر: الاعتبار الصحيح والقياس المطرد الذي جاءت به الشريعة الكاملة. وهو إقرار المصالح ووسائلها والحث عليها، وإنكار المفاسد ووسائلها والزجر عنها، فكل ما كانت مصلحته خالصة أو راجحة على مفسدته فهو مأمور به أمر إيجاب أو أمر استحباب.
وكل ما كانت مفسدته خالصة أو راجحة على مصلحته فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه.
وإذا تأملنا السفور وكشف المرأة وجهها للرجال الأجانب وجدناه يشتمل على مفاسد كثيرة، وإن قدر فيه مصلحة فهي يسيرة منغمرة في جانب المفاسد. فمن مفاسده:
1_ الفتنة؛ فإن المرأة تفتن نفسها بفعل ما يُجَمِّل وجهها، ويبهيه، ويظهره بالمظهر الفاتن. وهذا من أكبر دواعي الشر والفساد.
2_ زوال الحياء عن المرأة الذي هو من الإيمان ومن مقتضيات فطرتها، فقد كانت المرأة مضرب المثل في الحياء =أحيا من العذراء في خدرها+. وزوال الحياء عن المرأة نقص في إيمانها، وخروج عن الفطرة التي خلقت عليها.
3_ افتتان الرجال بها لا سيما إذا كانت جميلة، وحصل منها تملق وضحك ومداعبة في كثير من السافرات، وقد قيل: =نظرة، فسلام، فموعد، فلقاء+.
والشيطان يجري من آدم مجرى الدم، فكم من كلام وضحك وفرح أوجب تعلق قلب الرجل بالمرأة، وقلب المرأة بالرجل، فحصل بذلك من الشر ما لا يمكن دفعه نسأل الله السلامة.(1/172)
4_ اختلاط الرجال بالنساء، فإن المرأة إذا رأت نفسها مساوية للرجل في كشف الوجه، والتجول سافرة لم يحصل منها حياء ولا خجل من مزاحمة، وفي ذلك فتنة وفساد عريض، وقد =خرج النبي"ذات يوم من المسجد، وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي": =استأخرن؛ فإنه ليس لكنَّ أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق+.
فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق به من لصوقها+(1) رواه ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ]اهـ.
قلت: ذكر الشيخ محمد بن العثيمين×من مفاسد السفور أربعة أشياء: الفتنة، والافتتان، وزوال الحياء، والاختلاط، وسأبسط الكلام على هذه المفاسد بما يوضحها للمسلم الغيور على دينه؛ ليحذرها، ويُحَذّرَ منها، فأقول:
ثبت في مسند أحمد (5/200) رقم 21746 وصحيح البخاري (6/124) وصحيح مسلم (4/2097) رقم 2740، 2741، وجامع الترمذي (5/103) رقم 2780، والنسائي في الكبرى (5/364) رقم 9153 عن أسامة بن زيد أنه قال: قال رسول الله":
=ما تركت في الناس بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء+.
وفي لفظ لابن ماجة: (2/1325) رقم 3998:
=ما أدع بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء+.
وعن أبي سعيد الخدري÷، عن النبي":
=إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء+. رواه أحمد في المسند (19، 22، 46، 61، 84)، والإمام مسلم (4/2098) رقم 2742، وجاء عند أحمد (3/46).
=ثنا عبدالصمد، ثنا المستمر بن الريان الأيادي، ثنا أبو نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله" ذكر الدنيا، فقال:
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن (5/422) رقم 5272 بإسناد ضعيف.(1/173)
=إن الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها، واتقوا النساء.. ثم ذكر نسوة ثلاثاً من بني إسرائيل: امرأتين طويلتين تعرفان، وامرأة قصيرة لا تعرف، فاتخذت رِجْلَين من خشب، وصاغت خاتماً، فحشته من أطيب المسك، وجعلت له غلقاً فإذا مرت بالملأ أو بالمجلس، قالت به، ففتحته، ففاح ريحه+. قال المستمر بخنصره اليسرى، فأشخصها دون أصابعه الثلاث شيئاً، وقبض الثلاثة+.
تعريف الفتنة: قال الجوهري في الصحاح (6/2175_2176):
=الفتنة: الامتحان، والاختبار، تقول: فتنت الذهب إذا أدخلته النار؛ لتنظر جودته+. وفتنة المرأة إذا دَلَّهَتْه، وأفتنته أيضاً، وأنشد أبو عبيدة لأعشى همدان:
لئن فتنتني، فهي بالأمس أَفْتَنَتْ ... سعيداً، فأمسى قد قَلا كل مسلمٍ
وألقى مصابيح القراءة واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المُتَمَّمِ
قال الحافظ في الفتح (9/138):
=وفي الحديث: أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد لهذا قوله تعالى:
[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ] فجعلهن من حب الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك... وقد قال بعض الحكماء: =النساء شر كلهن، وأشر ما فيهن عدم الاستغناء عنهن، ومع أنهن ناقصات عقل ودين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين+اهـ.
قلت: وكيف يسلم من الفتنة، وكيف تتقى إذا خرجت سافرة عن وجهها بين الرجال الأجانب، ينظرون إليها وتنظر إليهم؟!
قال الإمام ابن القيم×في روضة المحبين ص113:
=ففتنة النظر أصل كل فتنة، كمل ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد _رضي الله عنهما_ أن النبي"قال:
=ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء+.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري÷عن النبي"قال:
=اتقوا الدنيا واتقوا النساء+، وفي مسند محمد بن إسحاق السرّاج من حديث علي بن ابي طالب÷عن النبي"قال:
=أخوف ما أخاف على أمتي النساء والخمر+.(1/174)
وقال ابن عباس _رضي الله عنهما_: =لم يكفر ممن كفر ممن مضى إلا من قبل النساء، وكفر من بقي من قبل النساء+...
إلى أن قال:
=والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه، كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر اهـ
وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (2/1271) في آية آل عمران المذكورة:
=قوله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ..]: بدأ بهن لكثرة تشوُّف النفوس إليهن؛ لأنهن حبائل الشيطان، وفتنة الرجال، قال رسول الله":
=ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء+ أخرجه البخاري ومسلم، ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء+اهـ.
وقال المناوي في فيض القدير (5/436) رقم 7871 بعد شرحه لحديث أسامة:
=وكان سعيد بن المسيب يقول، وقد أتت عليه ثمانون سنة منها خمسون يصلي فيها الصبح بوضوء العشاء، وهو قائم على قدميه يصلي:
=ما شيء أخوف عندي عليّ من النساء+. وقيل: إن إبليس لما خلقت المرأة قال:
أنت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي بك، فلا أخطئ أبداً+.
قلت: فيا سبحان الله! كيف تؤمن الفتنة، وكيف تتقى من المرأة التي وصفت بأنها حبالة الشيطان، وأنها نصف جنده، وموضع سره، وسهمه الذي يرمي به، ولا يخطئ أبداً؟!!
أم كيف تتقى الفتنة منها سافرة متبرجة بين الرجال الأجانب، وقد أطلق عليها القرآن العظيم =زينة+ و =شهوة محبوبة+ كما في قوله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ]؟!!!(1/175)
أم كيف تتقى الفتنة بها ومنها، وقد صح عن رسول الله"انه سماها =عورة+ كما في حديث عبدالله بن مسعود المتقدم، وأنها إذا خرجت استشرفها الشيطان وقال لها: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك+؟!!!
فهذا حق ساطع، لا يمتري به إلا من كان قلبه في غطاء عن ذكر الله، فهو أعمى لا يبصر الشمس في رابعة النهار، ومصداق ذلك في قوله تعالى:
[فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46). وكما قال الإمام ابن القيم في نونيته:
والحق شمس والعيون نواظر ... لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثل ما ... تعمى _ وأعظم _ هذه العينان(1)
وأما يجلبه السفور من اختلاط النساء بالرجال فقد حكم فيه ربنا _عز وجل_ الخالق للمرأة، والخالق لما جبلت عليه من الفتنة والزينة المحبوبة، العليم الخبير بما يحفظها، ويصون كرامتها ويحمي عرضها إذ يقول: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..]
قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/ 5261) في هذه الآية:
=معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيوت، وإن كان الخطاب لنساء النبي"فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة+ وتقدم.
وكفى بهذا الحكم الرباني كفيلاً، وحصناً حصيناً لمن يريد وجه الله والدار الآخرة.
وحكم عليها نبيها"الذي هو بها رؤوف رحيم، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، حكم عليها بما فيه رشدها وصلاحها، وحمايتها، فقال عليه الصلاة والسلام:
=المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها+. وتقدم
__________
(1) نونية ابن القيم بشرح محمد خليل هراس ص806.(1/176)
فهذا هدي الله تعالى، وهدي نبيه"بأن تلتزم المسلمة بيتها، فتقوم بشئونه، وتربي أولادها، وتعبد ربها مصونة مكرمة، فإن أبت الامتثال لله ولرسوله، فقد عصت ربها ونبيها، وعرضت نفسها للفتنة، ففتنت وافتتنت وصارت سلعة رخيصة بين الذئاب الضارية ما بين خطف واغتصاب، وهتك أعراض، فضاعت وأضاعت، وهلكت وأهلكت.
وعلى هذا؛ =فإن من العقل والحكمة والمنطق إلا تعيش المرأة تلك اللحظة الحاسمة إلا في جوها الطاهر المشروع.. وإلا فكيف نلقي ورقة في اللهب ثم نرجو ألا تحترق؟ وكيف ندني عود الكبريت من البنزين أو الغاز ثم نرجو ألا يشتعل؟ وكيف نأتي بالسحر والعطر، ونداء الطبيعة، وإغراء الفطرة إلى الرجل.. ثم نقول له: كن حجراً من جانب الصخر جلمداً+اهـ(1).
وقول الشيخ×إن السفور، وكشف الوجه للرجال الأجانب يشتمل على مفاسد كثيرة، وذكر منها =زوال الحياء عن المرأة+.
قلت: وهذا أمر مُسَلَّم لا يرتاب فيه عاقل، وهاك بعض البراهين الموضحة لذلك:
عن أبي مسعور البدري÷قال: قال رسول الله":
=إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح، فاصنع ما شئت+. رواه أحمد في المسند (4/121_122) والبخاري (4/152) من كتاب الأنبياء، و (7/100) من كتاب الأدب.
قال النووي في الأربعين النووية ص56 مجموعة الحديث النجدية:
=قوله": إذا لم تستح، فاصنع ما شئت+ معناه إذا أردت فعل شيء. فإن كان مما لا تستحي من فعله من الله ولا من الناس، فافعله وإلا فلا.
__________
(1) انظر مكانك تحمدي ص171.(1/177)
وعلى هذا الحديث يدور مدار الإسلام كله، وعلى هذا يكون قوله": =فاصنع ما شئت+ أمر إباحة؛ لأن الفعل إذا لم يكن منهياً عنه شرعاً كان مباحاً ومنهم من فسر الحديث: بأنك إذا كنت لا تستحيي من الله تعالى ولا تراقبه، فأعط نفسك مناها، وافعل ما تشاء، فيكون الأمر فيه للتهديد لا للإباحة، ويكون كقوله: =اعملوا ما شئتم+، وكقوله تعالى: [وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ] (الإسراء: 64).
وقد وجّه هذا المعنى الحافظ في الفتح (10/523) رقم 6120 فقال:
=وتوجيه ذلك: أن المأمور به الواجب والمندوب يستحى من تركه، والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحى من فعله، وأما المباح فالحياء من فعله جائز، وكذا من تركهـ فتضمن الحديث الأحكام الخمسة، وقيل: أمر تهديد.. ومعناه: إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت؛ فإن الله مجازيك عليه, وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء، وقيل: هو أمر بمعنى الخبر أي من لا يستحي يصنع ما أراد+اهـ.
وقال أيضاً (6/523):
=قوله: =من كلام النبوة+ أي مما اتفق عليه الأنبياء أي أنه مما ندب إليه الأنبياء ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم؛ لأنه أمرٌ أطبقت عليه العقول+اهـ.
والحياء جعله النبي"من الإيمان، كما في الصحيحين عن ابن عمر، أن النبي"مَرَّ على رجل من الأنصار وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي _كأنه يقول: قد أَضَرَّ بك. فقال رسول الله":
=دعه؛ فإن الحياء من الإيمان+(1).
وعن أبي هريرة÷، عن النبي":
قال: =الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان+. رواه البخاري في الصحيح (1/8) رقم9، ومسلم في الصحيح (1/63) رقم35.
وعن عمران بن حصين÷عن النبي" قال:
=الحياء لا يأتي إلا بخير+.
رواه البخاري في الصحيح (7/100) رقم6117، ومسلم في الصحيح (1/64) رقم37، وفي رواية مسلم:
=الحياء خير كله+ قال: أو قال: =الحياء كله خير+.
__________
(1) انظر صحيح البخاري (1/11) رقم 24 و (7/100) رقم 6118، ومسلم (1/63) رقم 36.(1/178)
وعن أبي هريرة÷قال: قال رسول الله":
=الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار+.
أخرجه أحمد في المسند (2/501)، والترمذي في الجامع (4/365) رقم 2009، وابن حبان في الصحيح (2/373) رقم 608، والحاكم في المستدرك (1/52) وابن أبي شيبة في المصنف (11/33) رقم10441
من طرق، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: على شرط مسلم، واقره الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (5/73): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
قلت: وتابع محمد بن عمرو سعيد بن هلال عند ابن حبان (2/374) رقم609.
تعريف الحياء
هذا الحياء الذي هذا شأنه وهذه منزلته من الدين الإسلامي ما هو تعريفه؟
_ جاء عن عبدالله بن مسعود÷أنه قال: قال رسول الله":
=استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: إنا لنستحي يا رسول الله؟ قال: ليس ذاك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما حوى، وليحفظ البطن وما وعى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء+.
أخرجه أحمد في المسند (1/387) وابن أبي شيبة في المصنف (13/223) رقم16167، والترمذي في الجامع (4/637) رقم2458، والحاكم في المستدرك (4/323) من طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمداني، عن عبدالله بن مسعود به.
قال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد+.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وقال الذهبي في الميزان (2/306) رقم3848 في ترجمة الصباح هذا:
=رفع حديثين، هما من قول عبدالله. قال ابن حبان يروي الموضوعات، وقد ذكره ابن أبي حاتم، فقال: روى عنه أبان بن إسحاق الاسدي، ولم يزد، ولا تعرض بجرح ولا تعديل+اهـ.(1/179)
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (5/76): =وتكلم فيه لرفعه هذا الحديث، وقالوا: الصواب: =عن ابن مسعود موقوف، ورواه الطبراني مرفوعاً من حديث عائشة. والله أعلم+اهـ.
ونقل الحافظ في الفتح (1/74) كتاب الإيمان/ باب الحياء من الإيمان عن ابن قتيبة أنه قال: =معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان. فسمي إيماناً كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه.
وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجازٌ، والظاهر: أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان+.
وقال بعضهم: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره أعم من أن يكون شرعياً أو عقلياً أو عرفياً.
وقد قال بعض السلف: =خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك+.
وقال الحافظ ايضاً (1/52) رقم9:
=الحياء بالمد، وهو في اللغة: تغير، وانكسار، يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ولهذا جاء في الحديث الآخر: =الحياء خير كله+.
فإن قيل: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تَخَلُّقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب، وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة، وحاجزاً عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير؛ لأن ذلك ليس شرعاً.
فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟ أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشُّعَب؛ إذا لحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، وينزجر، والله الموفق+اهـ.
إذا تقرر هذا، فكيف أن المسلمة وصلت بها الحال إلى أن تزيل هذا الوصل العظيم عن نفسها، الذي كان غريزة وسجية وفطرة، قد فطر الله عليها النساء؟!!(1/180)
أم كيف ترضى أن تخلع هذا الوصف الجميل الذي هو مما تمدح به النساء، ويثنى عليهن بالتحلي به، وذلك أن الاتصاف بالحياء والتخلق به كان مضرب المثل المشهور، فيقال: =زيد أشد حياءً من العذراء في خدرها+.
ومن الأدلة على صحة حسن التحلي بالحياء، وأنه خلق عظيم في الإسلام، ومقام رفيع فيه كون النبي"يوسف به، وأنه مغروز في النساء.
فعن أبي سعيد الخدري÷أنه قال:
=كان النبي"أشد حياء من العذراء في خدرها+.
رواه أحمد في المسند (3/71_79_88_92) والبخاري في الصحيح (6/167) من كتاب المناب _باب صفة النبي" رقم3562 و (7/196_100) من كتاب الأدب_ باب الحياء رقم 6102، 6119 ومسلم في الصحيح (4/1809) رقم 2320/ باب كثرة حيائه" من كتاب الفضائل، وابن ماجه (2/1399) رقم4180.
أم كيف ساغ لعقلاء المسلمين أن يقروا نساءهم على خلع جلباب =الحياء+ الذي جاءت الأخبار بمدح لابسه، والثناء عليه، وأنه من الإيمان، وشعبة منه، وجاءت الأخبار بذم وتهديد من خلعه، ونقص إيمانه: =إذا لم تستح فاصنع ما شئت+.
وروي عن أنس بن مالك، أنه قال: قال رسول الله":
=من خلع جلباب الحياء فلا غيبة له+ وفي رواية =من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له+.
رواه البيهقي في الكبرى (10/210) وابن عدي في الكامل (1/377).
وقال البهقي: ليس بالقوي+ وزاد المناوي في فيض القدير (6/87) رقم8525 أن البيهقي قال: =وإن صح حمل على فاسق معلن بفسقه+اهـ.
الحاصل: أن أدلة الشرع الأربعة: كتاب الله _سبحانه_ وسنة رسوله"واتفاق وإجماع علماء المسلمين والقياس المطرد والاعتبار الصحيح قد تواطأت، وتظاهرت، وتضافرت دلالتها على فرضية احتجاب النساء المؤمنات عن الرجال الأجانب، وتحريم خروجهن سافرات الوجوه بين الرجال الأجانب، واختلاطهن بهم، وأنه لا خلاف بين أهل العلم في ذلك في الحقيقة ونفس الأمر كما تقدم بسط ذلك موضحاً في مواضعه.(1/181)
والحكمة في فرض احتجاب نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب: هي ما ذكرها الله سبحانه في قوله: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] وأدنى أن يعرفن فلا يؤذين+.
وفي ذلك حماية للمجتمع والمرأة من الافتتان بها، والحيلولة دون تلوث المجتمع الإسلامي بالفواحش، والمنكرات.
فإن قيل: قد نقل بعض أهل العلم القول بجواز كشف وجه المرأة بحضرة الرجال الأجانب؟
أجيب: نعم قد نقل ذلك عن بعضهم استدلالاً من كون وجه المرأة ليس بعورة في صلاتها، وفي إحرامها في الحج والعمرة، ففهم من ذلك أنه ليس بعورة مطلقاً، وهذا فهم خاطئ، وغلط فاحش لأمرين:
أحدهما: ثبوت الإجماع، والاتفاق _كما تقدم_ على خطر خروج النساء سافرات الوجوه بين الرجال الأجانب.
ثانيهما: أن أهل العلم فرقوا بين عورة المرأة في صلاتها وبين عورتها في باب النظر.
فقالوا بالإجماع: تصح صلاتها مكشوفة الوجه، أي فليس تغطية وجهها شرطاً في صحة صلاتها، فصلاتها صحيحة مع كشف وجهها ومع تغطيته، ويحرم عليها كشفه في باب النظر، وممن نقل التفريق من أهل العلم: الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن العربي، والسبكي، والأمير الصنعاني، والعلامة الشوكاني وعبدالقادر الشيباني، والحجاوي، والبهوتي وصديق حسن خان، والبيضاوي، والبيانوني وغيرهم، انظر =فصل في أقوال الأئمة من أهل العلم بالحديث والفقه+.
تراجع مجربي اختلاط الرجال بالنساء
ومن الأدلة على فرضية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب تراجع مجربيه، بعدما تجرعوا غصص وويلات التبرج والسفور، وما نجم عنه، اختلاط النساء بالرجال في أعمالهم، وخلوتهم بهن من المفاسد المدمرة للأخلاق والحياء، وضياع الأولاد المنذر بالخطر المحدق بالفرد والمجتمع.(1/182)
قد كتب كثير من كتابهم ومفكريهم يوصي وينادي بلزوم المرأة حجابها وبيتها وعشها تربي أولادها، وتقوم بشئون بيتها، وتمنع من الخروج منه سافرة متبرجة حفاظاً لكرامتها وعرضها. وهاك بعض النقول عنهم في ذلك:
=وقال محمد رشيد رضا حدثني الأمير إشكيب أرسلان في جنيف سويسرة عن طلعت باشا التركي أن =عظيم الألمان+ لما زار الآستانة في أثناء الحرب، ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات عذله على ذلك وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوربا وتعجز عن تلافيها. وقال له: =إن لكم وقاية من ذلك كله، ألا وهو الدين الإسلامي، أفتزيلونها بأيديكم+اهـ(1).
و =جدير بالذكر الإشارة إلى أن النساء اللواتي قضى عليهن الزمان بمغادرة المنزل وراء الكسب، غلب عليهن الأسى والندامة لهذا المصير، وأكبر دليل على ذلك:
الاستفتاء الذي قام به معهد =غالوب+ في أمريكا بصدد تعيين رأي الكاسبات في العمل، وإذا هو ينشر الخلاصة الآتية:
=إن المرأة متعبة الآن، ويفضل 65% من نساء أمريكا العودة إلى منازلهن، كانت المرأة تتوهم أنها بلغت أمنية العمل، أما اليوم، وقد أدمت عثرات الطريق قدمها، واستنزفت الجهود قواها، فإنها تود الرجوع إلى عشها، والتفرغ لاحتضان فراخها+(2).
وقال الفيلسوف الألماني =شوبنهور+:
=اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب، ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة، ولا تنسوا أنكم سَتَرْثَوْنَ معي للفضيلة والعفة والأدب، وإذا مت، فقولوا: أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة+(3).
__________
(1) انظر الصارم المشهور للتويجري ص82.
(2) المرأة بين الفقه والقانون للسباعي ص259.
(3) المرأة بين الفقه والقانون ص266.(1/183)
=وجاء في تلغراف من روما أن اللجنة التي عهد إليها مراقبة ملابس الحشمة للنساء قررت أن يكون الفستان مزدوجاً، وأن لا يكون شفافاً ولا لاصقاً بالجسم، ولا قصيراً جداً، ويجب أن تغطي الأكمامُ الأكواعَ، ويجب أن يكون طول فستان الفتاة إلى الركبتين، وأن يصل فستان المتزوجات والأوانس على ما تحت الركبة بكثير، ويحظر عليهن الجوارب الشفافة أو التي يكون لونها محاكياً للون الجسم+(1).
=والفتاة الأوربية حرة في كل تصرفاتها، إنها تدفع لأسرتها إيجار غرفتها وثمن طعامها وغسل ملابسها، أعرف فتاة تدفع لأمها 20 سنتيماً على كل مكالمة تليفونية لها في المنزل!! وهي تحمل مفتاحاً للشقة+اهـ(2).
وقالت الكاتبة الأمريكية =هيلين استانسبري+ لما زارت القاهرة عام 1382هـ
=إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول، وإن هذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم احترام الأب، والأم، بل تحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسر في أوربا، وأمريكا، ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة _وأقصد ما تحت سن العشرين_ هذه القيود صالحة ونافعة، لهذا انصح بأن تمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم. امنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا.
ثم قالت: امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين؛ فقد عانينا منه في أمريكا الكثير.
__________
(1) المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي ص266.
(2) المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي ص266.(1/184)
لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملأون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات للمخدرات.
إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي هدد الأسر وزلزل القيم والأخلاق. فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث تخالط الشبان وترقص وتشرب الخمر والسجائر، بل وتتعاطى المخدرات باسم المدينة، والحرية والإباحية.
والعجيب في أوروبا وأمريكا أن الفتاة الصغيرة تحت العشرين تلعب وتلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والدها ومدرسها والمشرفين عليها، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق، وتتزوج في دقائق، وتطلق بعد ساعات، ولا يكلفها هذا أكثر من إمضاء ليلة أو بضع ليال وعشرين قرشاً وعريس.
وبعده الطلاق، وربما الزواج، فالطلاق مرة أخرى+اهـ بتصرف(1).
وقالت الكاتبة الانجليزية =اللادي كوك+ في جريدة =الايكو+:
=إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة+.
ثم قالت: =أما آن لنا أن نبحث عما يخفف _إذا لم نقل: عما يزيل_ هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقاً تمنع قتل ألوف الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذين أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب.
__________
(1) الصارم المشهور للتويجري ص82_83_84.(1/185)
يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ونحوها ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد؛ لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت، وكثير من السيدات المعرضات للأنظار، ولولا أن الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان... وهذه غاية الهبوط بالمدنية+(1).
وقال =بيرون+ في كتابه =الرسائل والجرائد (2/399):
=لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة يقبلها العقل، ولعلمت أن الحالة الحاضرة _حالة المرأة_ لم تكن غير بقية من همجية القرون الوسطى _عند الغربيين_ حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة، ولرأيت معي وجوب اشتغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسين غذائها وملبسها فيه وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير، وتعليمها الدين، وإبعادها عن الشعر والسياسة، وعن قراءة كل كتاب يبحث في غير الدين والطباخة+.(2)
ونقل الناصح الأديب العلامة أحمد محمد جمال في كتابه =مكانك تحمدي+ ص118 عن الأمير شارلز ولي عهد بريطانيا أنه قال في مجلة =البيت السعيد+:
=إن هؤلاء النساء اللائي يطالبن بالمساواة مع الرجال أعتقد أنهن يردن أن يصبحن رجالاً، ناسيات أن تنشئة النسل أعظم مهمة يقمن بها+.
__________
(1) المرأة بين الفقه والقانون لممصطفى السباعي ص191 نقلاً من مجلة المنار لرشيد رضا ص486.
(2) المصدر السابق.(1/186)
هذا الكلام يقوله ولي عهد لإمبراطورية أوربية كبرى تشكل قوة المرأة العاملة فيه نصف مجموع سكانها ومواطنيها... ووصلت المرأة فيها إلى مركز الوزارة وأصبحت إحداهن زعيمة لحزب المحافظين هناك، ورئيسة للوزراء+.
وللشيخ العلامة أحمد محمد جمال×في كتابه =مكانك تحمدي ص81 كلام نفيس جداً في مضار التبرج والسفور، والاختلاط رأيت من الأولى إثباته هنا بحروفه؛ لعظيم فائدته. فقال تحت عنوان =المرأة دراسات ودروس+:
=المرأة هناك متعة وسلعة! إن معظم شبابنا اليوم منصرفون عن الدراسات أو المطالعات في التاريخ الإسلامي في كل مجالاته تشريعاً وتعليماً واجتماعاً وسلوكاً، وهم يموتون حباً في قراءة الجديد عن الحضارة الغربية المزعومة والثقافة المسمومة. أما الإسلام فعليه _في نظرهم_ ألف سلام..
ومن أجل ذلك أجدني حيران مرة، ويائساً مرة أخرى.. إذا قيل لي: تحدث عن أمجاد الإسلام، وأراني أرد على العقل: أتريدني أن أقرأ الزبور على أهل القبور؟ أم تريدني أن أصرخ في واد، أو أنفخ في رماد؟ دعني _يا صاح_ فإن القوم، وبخاصة _فيما يمس المرأة_ يصعقون من كلمة تقال عن الإسلام وما كرمها به من حقوق وفضائل، وما خصها به من رسالة الأمومة وشرف الزوجية.
إنهم يريدون المرأة متعة وسلعة، ويدعونها إلى السفور؛ ليسهل بها الفجور، وقد سهل.. ونيل منها ما نيل باسم التعليم وباسم أنها نصف المجتمع، ولا بد بزعمهم أن تعمل كما يعمل الرجل، ولا بد في رأيهم لكي تتعلم وتعمل من أن تتكشف بأكثر مما يتكشف الرجل.. وقد تكشفت المرأة فعلاً، وهتكت عن نفسها وجسدها ستر الحياء والمروءة وخادنت الرجال، واستقبلتهم في دار زوجها في غيبته، واستقبلوها في دورهم في غيبة زوجاتهم باسم الزمالة والصداقة. وكان ما كان.. كما يحدث في الطبيعة بين سالب وموجب، ولا مفر من عمل الطبيعة الغالب، وكذبوا، ويكذبون، حين يزعمون الصداقة والزمالة ويدعون الحرية والمساواة.(1/187)
وتحضرني كلمة قالها =بلزاك+: إن الذي يمنح المرأة الصداقة البريئة كمن يمنح شخصاً يموت من الظماء رغيفاً من الخبز+. ومعنى كلمة =بلزاك+: أن الصداقة البريئة بين الرجل والمرأة مستحيلة، وأن الطبيعة غلابة قاهرة.
بهذه المقدمة أريد أن أقول: إن المسلمين بتأثير دعاية الغرب واستعماره الفكري والثقافي للعقلية العربية والإسلامية _خرجوا بالمرأة عما يفرضه العقل البصير، وعما تفرضه العظات الماثلة من تجارب من سبقهم في إخراج نسائهم عن طبيعتهن، والزج بهن في أسوأ المسالك وأوبأ المهالك..
ولما كان الإسلام هو دين الطبيعة.. يمضي بأحكامه وآدابه وفقاً لإمداداتها، وضبطاً لانفجاراتها وانحرافاتها.. فقد خرجوا بالمرأة المسلمة عن الإسلام.
ولو أبقوا لها طبيعتها لأبقوا لها إسلامها، وأبقوا لها معه الصيانة والأمانة، وجنبوها هذا الخلل والزلل الذي تعيش فيه.
هذه هي صورة المرأة المسلمة اليوم في المجتمعات العربية على الأخص متعة، وسلعة، بعد أن كانت بالأمس شخصية مكرمة محترمة.. مصونة مقدسة.. يتورع أبوها أو زوجها أو ابنها عن ذكر اسمها في مجتمعات الرجال _أدباً وحياءً، وهي اليوم يكشف أبوها أو زوجها أو أخوها عن جسمها التماساً للإعجاب المفسد، وتعريضاً بها للانتهاب المهين.
وكانت بالأمس تربى على الفضيلة وعلى آداب دينها وتقاليد عروبتها _تقاليد الآباء والحياء_ وتلبس الطويل الساتر من الثياب، وهي اليوم تقع في شباك الرجل،أو توقع الرجل في شباكها، وكيف تتجرأ على مغازلته بجسدها المهتوك، وكيف تحفظ قصائد الغرام وعبارات الهيام؛ لتلَقَّاه بها وتغمره فيها.
ألست ترى _يا صاح_ كيف تحولت أغاني اليوم من غَزَل الرجال في النساء إلى غَزَل النساء في الرجال: دعوات، وهتافات صريحة، وجريئة ترسلها أصوات المغنيات إلى الرجل تناديه: =أنا هنا.. أو تقول له: أنا أجري وراك من الباب للشباك..(1/188)
أو تصيح: أنا بنت 16 سنة هو الكلام في الحُبِّ حرام؟.. أو تتنهد: الواد أبو عيون كحيلة كان فايت من هنا آه كان فايت من هنا+.. إلى آخر ما نسمعه رغماً عنا في بيوتنا أو بيوت جيراننا، بل في الشوارع، وفي السيارات التي نركبها من أصوات نسائية داعرة فاجرة تثير الغرائز والشهوات، وتفتك بالمروءة، وتهتك ستار الحياء وتدفع بالشباب إلى تلبية الدعوات والاستجابة للإغراءات، وهو بعد ذلك غير ملوم.
وإلا فمن يلوم الجائع أن يسرق طعاماً شهياً مبذولاً.. لا حارس عليه؟ وما يمنع البترول أن يشتعل إذا أوقدت إلى جواره عود الثقاب؟.
ومع ذلك تصرح الصحف والإذاعات: فسد الشباب، وخلعت البنات الحجاب وهي التي أفسدت الشباب، وأخرجت الفتيات عن حيائها وإبائها بمقالاتها الداعرة وأغنياتها الفاجرة.
وإذا كانت المرأة الغربية هي جريمة القرن العشرين الميلادي، فإن المرأة المسلمة وبخاصة العربية في طريقها لأن تكون =جريمة+ القرن الخامس عشر الهجري..
والذين يرتكبون هذه الجريمة الشنيعة هم الرجال الذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
المرأة هناك:
يزعم بعض كتابنا.. وتنشر بعض صحفنا ومجلاتنا: أن الجهل بشئون الغريزة الجنسية هو المشكلة الأولى وراء حوادث الطلاق المتعددة، فليس عندنا تربية جنسية سليمة لماذا؟ لأننا شرقيون محافظون، بل لأننا لم نتطور بعد.. وربما لأننا نخاف إدخال التربية الجنسية في برامج التعليم حتى لا تثور اللحى والعمائم!
لنقف هنا ملياً، نتأمل مدى ما بلغناه نحن الشرقيين من غفلة وبلادة بحيث لا نتعظ بمصير سادتنا وكبرائنا الغربيين!
أليس عجيباً ومؤسفاً في وقت: أن يرجع الغربيون الذين اتخذناهم قدوة في كثير من معارفهم ومتارفهم عن نظرياتهم الخاطئة بعد أن شربوا تجاربها المرة، ونظل نحن نقاسي التجربة، وندعوا إلى نفس النظرية، ونتهم أنفسنا بأننا ما زلنا شرقيين محافظين، وأننا لم نتطور بعد، وأننا نخاف ثورة العمائم واللحى!(1/189)
لقد نشرت مجلة الجيل المصرية أن فتاة أمريكية تحدثت إلى رئيس تحريرها أنها مصممة على اللحاق بزميلها العراقي الذي كان يطلب العلم في أمريكا، ثم سافر إلى بلاده على موعد معها بالزواج منها، ثم قالت الفتاة الأمريكية له: =أنتم أفضل ألف مرة من الشبان الأمريكيين، ولكن الشبان الأمريكيين ينظرون إلى الفتاة نظرة عابثة لاهية، فهم يمضون أيامهم بلا روح وبلا عاطفة حقيقية، وقد يخافون المرأة عندما تصبح زوجة لأحدهم، ولكنهم لا يحملون في أعماقهم التقدير الذي تحملونه وتحسونه نحو زوجاتكم+(1).
ولن نقف طويلاً عند كلامها الصريح إلا كلمة موجزة نريد أن نتدبرها، ونتحدث حولها وهي قولها: =إن شبابنا ينظرون إلى الفتاة نظرة عابثة لاهية.
فقد انتقلت إلينا في الشرق عدوى هذه النظرة العابثة اللاهية إلى الفتاة، فالفتاة لم تعد في كثير من البلاد الشرقية كنصف يكمل نصفه الآخر، ولم تعد كرفيق في رحلة الحياة الشاقة أو شريك في حمل متاعب العيش أو معين على إنجاب الذرية الصالحة النافعة للوطن والأمة والدولة.
وإنما أصبحت المرأة في أكثر بلاد الشرق _بحكم العدوى الوافدة من الغرب_ وهم أعداؤها في الواقع _ كل مذهب.. يدبرون لها المهاوي والمزالق والمهالك باسم الحرية والمساواة والكرامة.
أصبحت المرأة في بلاد الغرب، وفي كثير من بلاد الشرق بفعل العدوى الغربية متعة، وسلعة، فهي متعة لمشاهدي الأفلام السينمائية، والتلفازية، وقراء الصحف والمجلات، وهواة الصور العارية، حيث تحتل المرأة وقصصها الغرامية وجسدها العاري، وأنوثتها المبتذلة، ومغامراتها الغرامية وزلاتها الخلقية مكان الصدارة من هذه الأفلام، والمجلات، والصور الاستغلالية التجارية.
__________
(1) الجيل، إبريل 1962م.(1/190)
وهي متعة لمنظمي مسابقات الجمال التي تكشف فيها الفتيات باديات الصدور والظهور، ولأصحاب المتاجر ومعارض الأزياء، حيث تشترى المرأة أو تستأجر لقضاء الغرض الجنسي، أو للإعلان عن البضائع والسلع والترغيب في الشراء والاقتناء.
وفي أمريكا تألفت لجنة للبحث عن جرائم الأحداث من الجنسين، فتبين لها أن فتيات الجامعات الأمريكية اتخذن من الصور العارية والأفلام والكتب المخلة بالآداب تجارة رابحة كما اعترفت بعض الشاهدات أنها كانت وزوجها يزاولان هذه التجارة، ويبعثان الصور العارية بطريق البريد على هواتها، وأن فتيات جامعات كاليفورنيا كن يَتَقَدَّمْنَ بالمئات؛ لالتقاط صورهن وهن عاريات..
وهذه هي الكرامة المزعومة التي يدعي أنصار المرأة المفترون أنها محرومة منها في الشرق، وأنه يجب أن تتساوى مع أختها الغربية في هذا الحق المكذوب.
ولعله مما يلفت النظر، وينم عن الخطر: أن الجمعية النسائية في الهند طلبت من الغرفة التجارية، وأصحاب المتاجر والحوانيت أن يكفوا عن استغلال مظهر المرأة وجسدها وصورها العارية في مختلف الأوضاع على البضائع، والمنتجات؛ لأن ذلك يخدش كرامتها، ويذل مركزها الأدبي والاجتماعي.
وفي جنوب أفريقيا احتجت إحدى الجمعيات النسوية على عرض ملابس المرأة الداخلية في فترينات المحال التجارية بطرق مثيرة؛ لأن ذلك يخدش مشاعرها، ويحط من كرامتها، ويستوقف أنظار المارة في الشوارع والطرقات؛ ليتأملوا بخيالهم الفاجر مفاتن المرأة، ومواطن الشهوة منها.
وأما =البغاء+ الذي وفد مع الاستعمار الغربي إلى الشرق فهي أول المعاول وأقواها في هدم كرامة المرأة، وكانت غاية الاستعمار الغربي من وراء إقراره رسمياً في البلاد التي احتلتها أن يفسح المجال أمام الرجال؛ ليلهوا بالنساء، وينغمسوا في الالتذاذ بأجسادهن الحرام حتى ينشغلوا عن مقاومته، ومكافحته وإخراجه من أوطانهم، وقد كان له ما أراد.(1/191)
ومن العجيب المؤسف أن يلغى =البغاء+ الرسمي في بعض البلاد العربية والإسلامية في عام 1949م فيهب كاتب صحفي معروف، ومعه أذنابه وأتباعه، لينادي بأعلى صوته: =أعيدوا =البغاء+!.
ويزعم أن =البغاء+ الرسمي المرخص به من قبل الدولة أسلم عاقبة من =البغاء+ السري، فالأول يضمن الثقة بسلامة =البغايا+ من الأمراض السارية، ولا كذلك الثاني الذي يباشر في الزوايا والظلمات..
وقد تناسى الكاتب الصحفي العربي(1) أن هناك شيئاً أهم من الأمراض السارية في =البغايا السريات+، هو إعطاء القدوة العملية الجريئة للناس بإقرار =البغايا العلني+ تحت سمع الدولة وبصرها، وبترخيص منها به، وإشراف منها عليه...وما يقترن بذلك من إذلال كرامة المرأة وجعلها سلعة تباع وتشترى، بل أقل من سلعة، فالسلعة لا يقذف بها مقتنيا بعد دقائق معدودة، كما يقذف الرجل بالمرأة =البغي+ بعد أن يقضي منها وطره الدنيء، وتتداولها بعد ذلك أيدٍ أثيمة واحدة بعد الأخرى، كما تجاهل الكاتب ما نزل به القرآن الكريم في شأن هذه الجريمة الكبرى من قوله تعالى: [وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] (الإسراء: 32) ولماذا كان الزنا فاحشة وساء سبيلاً؟ لأنه يذل كرامة المرأة، ويشوه مروءة الرجل، ويفسد الآداب ويخلط الأنساب.
وهنا يحق لي أن أعيد ما أسلفته من قول بأننا نحن الشرقيين مغفلون بلداء، لا نتعظ بغيرنا حتى ولو كان هذا الغير أستاذنا الذي تعلمنا منه، وقلدناه، وسرنا على دربه.
__________
(1) الأستاذ محمد التابعي _ الصحفي المصري المعروف.(1/192)
فقد قامت قيامة بعض الهيئات الاجتماعية والأخلاقية والصحفية في بعض البلاد الغربية على =البغاء+ الرسمي وأنكرته، ووصفته بأنه أعلى درجات الإهانة للمرأة وأول وسائل الفساد الأخلاقي للشباب، وتردد نبأ من =مدريد+ أن مجلس الوزراء الأسباني وافق على قانون بتحريم =البغاء+ وسحب تراخيص =البغاء+ وقفل بيوت الدعارة في أسبانيا(1).
إن في ذلك لعبرة لأمثال هذا الصحفي العربي الذين مازالوا يمسكون بتقاليد الغرب التي بدأ الغرب يتحلل منها لفسادها.. وعبرة كذلك لبعض البلاد العربية التي ما زال =البغاء+ العلني والسري.. يجري فيها على قدم وساق+.
ويقول أيضاً ص93:
=إن الذين يدعون أن اختلاط الجنسين في تلمذة أو عمل أو أي نشاط اجتماعي أو سياسي، أو حتى عسكري يبطل ما تفيض به طبيعة كل منهما من عواطف وهواتف نحو الآخر، يكابرون في حقيقة ملموسة، وينكرون واقعاً منظوراً..
نشرت جريدة عربية: أن قيادة جيش التحرير أصدرت قراراً بوقف التدريب العسكري النسوي، وهو قرارٌ سارٌّ؛ لأنه أوقف مهزلة كانت بطلاتها بعض المتطوعات اللاتي قلبن الجد إلى هزل، ولم يقدرن المسئولية كمواطنات مجندات في هذه الظروف العصبية!
? لا.. إنهن _في رأيي_ مظلومات لم يقلبن الجد هزلاً، ولم يفتهن تقدير المسئولية الوطنية كمجندات يتدربن على الحرب.
? ولكن من يقول للجائع ظل في المطبخ العامر بالأطايب دون أن تأكل؟
? ومن يقول للظمآن أقم على شاطئ المنهل العذب دون أن تشرب؟
? ومن يقول للعاري: أنظر على معارض الألبسة والأغطية دون أن تكتسي؟
? ومن يستطيع أن يكتم فم المتثائب، ويختم على أنف العاطس؟
__________
(1) كان ذلك عام 1959م.(1/193)
تلك _بلا ريب_ مستحيلات فوق طاقة البشر.. وكذلك شأن الأنثى مع الذكر. هي أنثى مهما استرجلت وهو جمل مهما استنوق، والعواطف والهواتف في أجسادهما تشدهما شطراً إلى شطر، مهما كان الجو الذي يسودهما مفعماً بجد أو هزل، وبفرح أو ترح، وإنما يخفف من ذلك الشد أو يستره الحياء والدين، وقليل من الناس في زماننا الحيي المتدين+.
وقال في ص97:
=واذكر هنا استصراخ أحد ا لطلاب في الجامعة المصرية(1) إذ قال: =إن الاختلاط شر وبلاء مستطير يعود على الأمة بالضرر الكبير، ولست ألوم شبابنا، وإنما ألوم الذين أباحوا الاختلاط، وجهلوا أو تجاهلوا النذير النبوي: إنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، كما نسوا أو تناسوا المثل القائل:
=كيف يجاور السمن النار ولا يسيح؟!. ثم نادى المسكين: رحمة بأعصابنا؛ فإننا بشر!+. وماذا بعد أن جاور السمن النار؟ كما عبر الطالب المصري آنفاً+.
وقال في ص170_171 بصدد ذكر مضار الاختلاط:
=وإذن، فإن من العقل والحكمة والمنطق ألا تعيش المرأة تلك اللحظة الحاسمة إلا في جوها الطاهر المشروع.. وإلا فكيف نلقي ورقة في اللهب ثم نرجو ألا تحترق؟ وكيف ندني عود الكبريت من البنزين أو الغاز ثم نرجو ألا يشتعل؟! وكيف نأتي بالسحر والعطر، ونداء الطبيعة، وإغراء الفطرة إلى الرجل.. ثم نقول له: كن حجراً من جانب الصخر جلمداً كما يقول الشاعر القديم؟!+.
إلى غير ذلك من أمثلة كوارث التبرج والسفور والاختلاط الواقعة، وهي وقائع مدمرة، ومصائب محزنة، مخزية، وطوام فاضحة وواضحة، وفواحش منكرة، سوغها استجابة النساء وأشباه النساء لنداء دعاة الفساد والإفساد محاكاة لإخوانهم من سفهاء الإفرنج ومن حذوهم.
وقال أحمد محمد جمال في كتابه =مكانك تحمدي+ ص117 أيضاً تحت عنوان: =تراجعات السابقين+:
__________
(1) عن مجلة = آخر ساعة+ يناير 1954م.(1/194)
في الفقرة السابقة روينا بالحرف الواحد _يعني ما ذكره من تمني المرأة الرجوع إلى بيتها، أماً تقوم برعاية أولادها_ كما كانت المرأة بالأمس المحافظة على أنوثتها وحيائها..
ما قرره ذو الخبرة من كبار الكتاب والصحافيين العرب، وما أكدته أيضاً تقارير، وتحقيقات المؤسسات الأوربية والأمريكية عن ضرورة عودة المرأة إلى بيتها وزوجها وأولادها.. ليعود إلى الأسرة المحرومة المظلومة ظلها البار والكريم ووفاقها الودود، وشملها الجميع. قال:
ومن غرائب الأفكار، وشواذها أمام تراجعات السابقين إلى تلك التطورات الاجتماعية والنادمين عليها: أن يكتب بعضنا في صحيفة يومية منادياً بإنشاء دور للحضانة؛ لأن المرأة السعودية سوف يأتي دورها للعمل من أجل وطنها، ولابد في هذه الحالة القادمة التي نرجو أن تكون حياة سعيدة ومزدهرة يسعد الجميع بخيراتها!!
ثم يضيف من قبيل الاحتجاج، أو الاستدلال على صحة ما يدعو إليه: =إن الأمم الواعية تهتم بالطفل حتى وهو في بطن أمه... ثم تنشئ له الحضانة؛ لتتفرغ الأمهات لأداء أعمالهن، وواجباتهن.. لأن المرأة _عندنا وهي نصف المجتمع_ لابد أن تشارك في بناء وطنها، وهي أصبر على العمل.. وأقدر على حسن الإنتاج من الرجل.. وأمة لا تشارك المرأة فيها، رجالها أمة قد عطلت أكثر من نصف قواها، وأضاعت على نفسها فرصاً من الرقي والتقدم لا يمكن أن تعوض+اهـ(1).
قال الشيخ أحمد محمد جمال ص118 مجيباً لهذا الصحفي وأمثاله:
=سنقدم لهؤلاء النسائيين مزيداً من تراجعات السابقين قبلنا عن أخطائهم في إخراج نسائهم عن الحدود الطبيعية والاجتماعية التي حددها لهم الخالق العليم الخبير+.
__________
(1) انظر صحيفة الجزيرة 3/4/1396هـ(1/195)
ثم أخذ يورد تراجعاتهم بكتابة أيديهم، وبصحفهم ومجلاتهم. ومع ذلك يتطاول هذا الصحفي ينادي ويدعو إلى تطبيق فعل تراجع عنه الكفار وأعلنوا فشله بعد أن مضغوه وعلكوه، ولفظوه ولكنه لما كان يحمل هَمَّ دينه والنصح لأمته لم يقصر، في حق أمته حيث أخرج لها زبالة فكره العفن يكتب وينادي بإخراج نساء المؤمنين ذوات الخدور إلى التبرج والسفور وما يؤدي إليه من فعل الفواحش والفجور، ونسي أو تناسا وقوفه بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يقول الدكتور مصطفى السباعي×في كتابه =المرأة بين الفقه والقانون+ ص196 بعد أن أورد ما كتبه الغرب والشرق من الاعتراف بما شاهدوه وعاينوه تحت عنوان =الخطر القريب+:
=من هذا كله يتبين لنا أن الخطر الذي يحدق اليوم بالحضارة الغربية، كما أحدق من قبل بالحضارتين: اليونانية والرومانية نتيجة تبرج المرأة، واختلاطها الفاحش بالرجال سيحدق بنا أيضاً مع فارق واضح، وهو أن هذه الحضارات التي كان تبرج المرأة مرضاً من أمراضها القاضية عليها قد بلغ أصحابها ذروة الحضارة عندهم بينما يحدق بنا الخطر، ونحن في أول طريق النهوض والتقدم.
ومن العجيب أن يريد لنا بعض الناس أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا، وأن نساير الغربيين في أمر بدأوا يعلنون أنه سيقضي على حضارتهم.
وليس للأمة مصلحة في استجلاب هذا الخطر إلى بيوتها وأُسَرِها، وهي هانئة تنعم بالاستقرار والتماسك، وجو الحب والثقة، الأمر الذي لا يعرفه الغربيون بعد أن تفشت فيهم تلك الأمراض، بل بدأوا يحنون إليه، ويعلنون عن أسفهم للحرمان منه+اهـ.(1/196)
وأضيف، فأقول لهذا وأمثاله ممن تهمهم العناية بنساء المؤمنين أن يقرأوا _قبل أن يطالبوا بمشاركة المرأة للرجال_ ما كتبه كتاب =الأمم الواعية، أصحاب الرقي والتقدم_ على حد زعم هذا الصحفي _ من تراجعاتهم عن مشاركة المرأة الرجال، وذلك لما تجرعوه، وقاسَوْه من العلقم والحنظل، والويلات والعنت والهلاك، فقد أفصحوا بما كتبوا وصرحوا بأن المرأة لما شاركت الرجال فيما يخصهم من الأعمال، وأعطيت كامل حريتها من السفور والتبرج والاختلاط بالرجال الأجانب _بلا حسيب ولا رقيب_ أدى ذلك إلى أنها افتتنت بنفسها، وفتنت الرجال، وهلكت، وأهلكت الرجال، وأصبح نصف الرجال عاطلاً بلا عمل؛ لإيثار النساء به، وتقديمهن به على الرجال، ومن نتائج مشاركتها للرجال في الأعمال أن الواقع أثبت أنه قصد به أن تكون وسيلة يتوصل بها إلى إفساد نساء المؤمنين، ومجتمعاتهم؛ وذلك أن المرأة المشاركة للرجال ضاعت، وأضاعت رعاية أولادها وزوجها، وبيتها، وفسدت، وأفسدت الرجال، وركبت ما هب ودب من المنكرات، والفواحش، وأصبحت متعة وسلعة لكل ساقط، ولاقط، وحينئذٍ ضاع حياؤها، وأنوثتها، وكرامتها، ودينها، وكان عاقبة أمرها خسراً.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه قد تقرر في الأصول الفقهية الشرعية أن الوسائل لها أحكام الغايات، وقد ثبت واتضح وضوحاً جلياً أن الغاية والهدف والقصد من المطالبة بمشاركة المرأة الرجال في أعمالهم منكر فاحش، وظلم عظيم وخسارة الخسران، وعار ونار، لا يقره شرع، ولا مؤمن بالله واليوم الآخر، فيجب على ولي الأمر عدم الاستجابة لمثل طلبه، ويجب عليه معاقبته بما يردعه وأمثاله.
يقول علامة المعقول والمنقول شمس الدين الإمام ابن القيم×في كتابه =الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية ص280:
=ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفُرَج ومجامع الرجال.(1/197)
قال مالك×: =أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، وأرى أن لا يترك للمرأة الشابة تجلس إلى الصناع، فأما المرأة المتجالَّة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود، ولا يتهم من تقعد عنده، فإني لا أرى بذلك بأساً+اهـ.
فالإمام مسئول عن ذلك، والفتنة به عظيمة. قال":
=ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء+. وفي حديث آخر، أنه قال للنساء :
=لكُنَّ حافات الطريق+.
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكنَّ بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك.
وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة _إذا تجملت، وتزينت وخرخت_ ثيابها بحبر ونحوه؛ فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب. وهذا من أدنى عقوبتهن المالية.
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك.
وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب÷النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق.
فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
وقال الخلال في جامعه: =أخبرني محمد بن يحيى الكحال: أنه قال لأبي عبدالله:
=أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: =صِحْ به. وقد أخبر النبي":
=أن المرأة إذا تطيبت، وخرجت من بيتها فهي زانية+.
ويمنع المرأة إذا أصابت بخوراً أن تشهد عشاء الآخرة في المسجد، فقد قال النبي":
=المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان+.
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة.(1/198)
ولما اختلط البغايا بعسكر موسى، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم بيوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفاسير.
فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية _قبل الدين_ لكانوا أشد شيء منعاً لذلك. قال عبدالله بن مسعود÷:
=إذا ظهر الزنا في قرية أذن الله بهلاكها+.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا عبدالرحمن بن زيد العمي عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله":
=ما طفف قوم كيلاً، ولا بخسوا ميزاناً إلا منعهم الله _عز وجل_ القطر. ولا ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم+.
فصل في أقوال الأئمة من أهل العلم بالحديث والفقه في وجوب ستر وجه المرأة المسلمة من الرجال الأجانب وتحريم السفور
1_ قال الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الحسني الصنعاني المعروف بالأمير المتوفى سنة 1182هـ/في سبل السلام (1/383) رقم 194/ في عورة الصلاة:
=يباح كشف وجهها، حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها، بحيث لا يراه أجنبي+... فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها، فكلها عورة، كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة عورتها بالنظر إلى الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس (هذا) محله؛ إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام هنا في الأول، والثاني يأتي محله+اهـ.
وقال في سبل السلام (2/501) رقم673 أيضاً في باب النظر:(1/199)
=والذي يحرم عليها في الأحاديث الانتقاب أي لبس النقاب، كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين، فيحرم عليها النقاب، ومثله البرقع _وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه؛ لأنه الذي ورد به النص، كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقاً، فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب. ومن قال: إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى بشيء، فلا دليل معه، ويحرم عليها لبس القفازين، ولبس ما يمسه ورس أو زعفران+اهـ.
وقال في حاشيته على شرح عمدة الأحكام (3/476) بعدما ذكر الحديث: =لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين+ قال: =قوله: بوجهها وكفيها+ أقول: =فلا يلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا لأن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهم، فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين+
وقال الشيخ صديق حسن خان عند كلامه على شروط الصلاة في فتح العلام (1/97):
=ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراه أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة.
وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها، فكلها عورة+اهـ.
وقال الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني في السيل الجرار (1/161) في عورة الصلاة:
=قوله: =من الحرة غير الوجه والكفين+، أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليه ستره من الرجال، ولا يجوز لهم النظر إليه، وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم+اهـ.
وقال في باب النظر في المصدر نفسه (2/180):
=وأما تغطية وجه المرأة، فلما روي أن إحرام المرأة في وجهها+ ولكنه لم يثبت من وجه يصح للاحتجاج... إلى أن قال بعد إيراد حديث عائشة: =كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله"محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ قال:(1/200)
=وليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههن كان لأجل الإحرام، بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه. وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه؛ فإن معناه معنى ما ذكرناه، فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به، والأصل الجواز حتى يرد الدليل على المنع+اهـ.
وقال في نيل الأوطار (5/7) في حديث عائشة المذكور:
=واستدل بهذا الحديث على انه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها، لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره مطلقاً كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافياً عن وجهها، بحيث لا يصيب البشرة. هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه؛ لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة فلو كان التجافي شرطاً لبينه"+اهـ.
وقال أيضاً (5/5) في لبس النقاب للمحرمة:
=واختلف العلماء في لبس النقاب، فمنعه الجمهور، وأجازته الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية، وهو مردود بنص الحديث، قال في الفتح: =ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين+.
قلت: يعني أن العلماء قد اتفقوا على منع ستر الوجه واليدين بالنقاب والقفازين ولم يختلفوا في تغطية وجهها بغير النقاب واليدين بغير القفازين من الثياب، والجلابيب ونحوهما.
وقال أيضاً (6/130) في حديث عائشة: =أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله" وعليها ثياب رقاق.. الحديث:
=قوله: =إلا هذا وهذا+ فيه دليل لمن قال: إنه يجوز نظر الأجنبية. قال ابن رسلان: =هذا عند أمن الفتنة مما تدعوا الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق+اهـ.(1/201)
وقال العالم الفاضل والحاكم العادل صديق حسن خان أيضاً في حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة ص89:
=باب ما نزل في ثياب الحرائر والإماء وتميزهن بها. قال الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] (الأحزاب: 59) جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال الجوهري: الجلباب: الملحفة، وقال الشهاب: إزار واسع يلتحف به، وقيل القناع، وقيل: هو كل ثوب يستر جميع بدن المرأة من كساء وغيره، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية، أنها قالت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال: لتلبسها أختها من جلبابها+.
قال الواحدي: قال المفسرون: =يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن بأذى، وبه قال ابن عباس... وقال المبرد: =يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن+اهـ.
وقال ابن العربي في القبس (1/323) من كتاب الصلاة _ باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد: =وأما المرأة، فكلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها+.
وقال في أحكام القرآن (3/1579):
=والمرأة كلها عورة بدنها وصورتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها+.
وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4621):
=الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والخضاب، ومنه قوله تعالى: [خُذُوا زِينَتَكُمْ].
_ وقال عبدالله بن المبارك البوصي معلقاً على إجماعات ابن عبدالبر التي جمعها هو قال في (2/897) بعد سياقه الإجماع على تغطية وجه المرأة، قال: الخلاصة:(1/202)
=ثبوت الإجماع وصحته على جواز تغطية المرأة المحرمة لوجهها _إذا كانت بحضرة رجال_ وإنما حكاه ابن عبدالبر مع بداهته ووضوحه حتى لا يتصور أن منعها من تغطية وجهها حال الإحرام عام حتى ولو كانت بحضرة رجال، بل تغطيته واجبة بلا إشكال. والله أعلم+اهـ.
_ وقال ابن حزم في المحلى (3/280):
=هذا أمر بلبسهن الجلابيب للصلاة، والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله": هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، فصح ما قلناه نصاً+.
وقال الشيخ عبدالقادر بن عمر الشيباني× في نيل المآرب بشرح دليل الطالب (1/39):
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها+ والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها+(1).
وقال أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي في الإقناع (1/134):
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها. قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها+(2).
وقال الإمام ابن العربي المالكي في عارضة الأحذوي (4/56):
=المسألة الرابعة عشرة+ قوله: في حديث ابن عمر: =ولا تنتقب المرأة، وذلك؛ لأن ستر وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج؛ فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها+اهـ.
وقال العلامة تقي الدين السبكي الشافعي:
=إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة+(3).
__________
(1) عودة الحجاب للمقدم (3/431).
(2) انظر فريضة النقاب للهنداوي ص143.
(3) المرجع السابق ص143.(1/203)
وذكر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود في رسالته: =الأخلاق الحميدة+: =إن في كتاب الله لأعظم مزدجر عن عمل كل منكر، يقول الله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] فأمر الله نساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن. والجلباب يشبه الرداء أو العباءة، تغطي به جميع جسمها إلا ما تبصر به الطريق من فتح عينها ونحوه وهو من شأن الحرائر بحيث يعرفن بالتستر، فيحترمن، وهذا نص قاطع في وجوب ستر المرأة جميع جسمها حتى وجهها+(1).
وقال الشيخ المجاهد الإمام العلامة أبو الأعلى المودودي في رسالة الحجاب ص303 تحت عنوان: =النقاب+:
__________
(1) المرجع السابق (151).(1/204)
=وكل من تأمل كلمات الآية يعني آية الأحزاب: =يدنين عليهن من جلابيبهن+ وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي"لم يُر في الأمر مجالاً للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب، وما زال العمل جارياً عليه منذ عهد النبي"إلى هذا اليوم، وأن النقاب مما قد اقترحه القرآن نفسه من حيث حقيقته ومعناه وإن لم يصطلح عليه لفظاً، وكانت نساء المسلمين قد اتخذنه جزءاً من لباسهن لخارج البيت بمرأى من الذات النبوية التي نزل عليها القرآن، وكان يسمى نقاباً في ذلك العهد أيضاً. نعم هو النقاب (veil) الذي تَعُدُّهُ أوربة غاية في الشناعة والقبح، ويكاد الضمير الغربي يختنق حتى من تصوره، ويعتبره الغربيون عنوان الظلم وسيما الوحشية وضيق الفكر، وهو أول ما يعقد عليه الخنصر إذا ذكرت أمة شرقية بالجهالة والتخلف في طريق التمدن، وأما إذا وصفت أمة في الشرق بكونها سائرة في طريق الحضارة، والتمدن فأول ما يذكر من شواهده بكل تبجح، وافتخار هو كون النقاب قد زال عن هذه الأمة أو كاد! ويا لخزيكم يا أصحابنا المتجددين المستغربين إذا تبين لكم أن هذا الشيء لم يخترع بعد زمان النبي" بل نسج بردته القرآن نفسه وروجه النبي"في أمته في حياته.(1/205)
على أن شعوركم بهذا الخزي وإطراقكم بالندامة والخجل ليس بنفاعكم شيئاً؛ لأن النعامة إن أخفت رأسها في التراب لرؤية الصائد، فإنه لا يطرد عنها الصائد، ولا ينفي وجوده، كذلك إن أشتحم بوجوهكم عن الحقيقة لم تبطل به الحقيقة الثابتة، ولم تمح آية القرآن، وإن حاولتم أن تكتموا هذه الوصمة _كما ترونها_ في تمدنكم من وراء حجب التأويل لم تزيدوها إلا وضوحاً وجلاءً، وإذا كنتم قد قررتم أن هذا النقاب عارٌ على أنفسكم وشنار بعد إيمانكم بوحي الغرب، فليس إلى غسله عن أنفسكم من سبيل غير أن تعلنوا براءتكم من الدين الإسلامي الذي يأمر بالأشياء السمجة البغيضة كلبس النقاب وإسدال الخمار وستر الوجوه... الخ كلامه×.
وقال الشيخ محمد أديب كلكل في كتابه فقه النظر:
=والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ومواضعها. وموضع الزينة الغالبة: =الوجه والكفان+ وهما محلا الفتنة والجمال، فوجب سترهما بمقتضى النهي [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ]اهـ(1).
وجاء في نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن بسام (2/502) في لباس المرأة المحرمة:
=ويحرم على المرأة أيضاً البرقع والنقاب، وإحرام المرأة في وجهها، فلا تغطيه، وإنما تضع الثوب فوق رأسها وتسدله على وجهها لحاجة كمرور الرجال قريباً+.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم×في أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني في كتابه =إعلام الموقعين+ (1/220_222):
=وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك؛ ليعتبر به غيره، فنقول:... ثم أخذ يمثل لذلك، ومن ما مثل به قوله:
__________
(1) اللباب في فريضة النقاب للهنداوي ص148.(1/206)
=ومن ذلك أن النبي"قال: =لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين+ يعني في الإحرام، فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها، ولا أمرها بكشفه البتة، ونساؤه"أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان، فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن، وروى وكيع عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، قالت: سألت عائشة: ما تلبس المحرمة؟ فقالت: =ولا تنتقب، ولا تلتثم، وتسدل الثوب على وجهها+.
فجاوزت طائفة ذلك، ومنعتها من تغطية وجهها جملة. قالوا: إذا سدلت على وجهها، فلا تدع الثوب يمس وجهها، فإن مسه افتدت، ولا دليل على هذا البتة، وقياس قول هؤلاء أنها إذا غطت يدها افتدت؛ فإن النبي"سوى بينهما في النهي، وجعلهما كبدن المحرم، فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين. هذا للبدن، وهذا للوجه، وهذا لليدين، ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها؛ لئلا تعرف، ويفتتن بصورتها؟!+اهـ.
وقال الإمام العلامة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز×في الحجاب والسفور ص14 عند تقريره فرضية احتجاب المؤمنات قال:
=ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من النساء والفتنة، وقد تقدم في قوله تعالى: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] ولم يستثن شيئاً، وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها، والتعويل عليها، وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي"وغيرهن من نساء المؤمنين، وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك، وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين، أحدهما: كونهن لا يرجون النكاح، والثاني: عدم التبرج بالزينة، وسبق الكلام على ذلك، وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة، وبرهان قاطع على تحريم سفور النساء، وتبرجهن+اهـ.(1/207)
وقال الإمام العلامة سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين×في رسالة الحجاب ص6:
=اعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه كتاب ربك تعالى وسنة نبيك محمد"والاعتبار الصحيح والقياس المطرد+اهـ.
وقال الإمام العلامة الناصح المجتهد أبو بكر الجزائري في رسالته =فصل الخطاب في المرأة والحجاب ص216:
=إن الحجاب _وإن كان مشروعاً في جملة وسائل من جملتها الحيلولة دون تلوث المجتمع الإسلامي بالفواحش_ فإنه واجب على المرأة المسلمة وجوباً عينياً لا يسعها تركه بحال ما دامت لم تقعد عن الحيض والحمل والنكاح، وهذه أدلة هذا الوجوب صريحة واضحة، لا تقبل الرد والتأويل...+ ثم ساق الأدلة من القرآن بتوجيه واضح وبيان ناصع على صراحة تحريم كشف وجوه المؤمنات بحضرة الرجال الأجانب+.
_ وقال الإمام العلامة الناصح لدينه وعامة المسلمين عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله في كتابه النظرات ص103في إظهار المرأة من زينتها:
=ويحرم عليها إخراج شيء من بدنها، وما عليها من أنواع الزينة مطلقاً إلا ما ظهر من ذلك كله في حالة الاضطرار أو عن غير قصد متعمد، وهذا التحريم جاء لدرء الفتنة وكل شيء في المرأة وجب ستره، فإنه يعد عورة مطلقاً، أما ما استثناه البعض كالوجه والكفين، فهذا استثناء غير وارد بالكتاب والسنة والإجماع، ولم يرد لهم أيُ مستمسك صحيح تطمئن له نفس المؤمن _كما مر ذكره_ والبر ما اطمئنت إليه النفس+اهـ.
وقال الدكتور مصطفى السباعي في كتابه =المرأة بين الفقه والقانون+ ص204:
=يجب منع التبرج وإبداء ما حرم الله إبداؤه من جسمها وزينتها، ويجب وضع القوانين التي تحقق ذلك ومعاقبة من تصر على إبداء معالم فتنتها للرجال بعقوبات متناسبة مع وضع المرأة ونفسيتها+اهـ.
وقال فضيلة الشيخ الإمام العلامة حمود بن عبدالله التويجري×في كتابه =الصارم المشهور ص10:(1/208)
=والتبرج حرام لما فيه من التشبه بأهل الجاهلية الأولى وبنساء الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى... إلى أن قال ص11_267:
=والتبرج هو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الأجانب.. إلى أن قال ص266:
=وما ذكره النووي وابن رسلان من اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، وهذا يقتضي أن ستر المرأة لوجهها عن نظر الرجال الأجانب واجب، لا مستحب+اهـ.
_ وهو العمل المفتى به في المملكة العربية السعودية، ومن ذلك السؤال الآتي:
س: ما حكم تغطية المرأة وجهها وكفيها، لا سيما إذا كانت ذات جمال؟
ج: النساء مأمورات بستر أبدانهن إذا كن بحضرة الرجال الأجانب، ومن ذلك الوجه والكفان، ويدل على ذلك الكتاب والسنة..(1) ثم ذكروا الأدلة في ذلك.
_ وقال أبو عمر بن عبدالبر في التمهيد (6/365):
=وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة+اهـ.
وقال في الاستذكار (5/444) رقم 7692:
=وأما النظر لشهوة إلى غير حليلةٍ أو ملكِ يمين مع التأمل فمحظور غير مباح+.
_ وقال الشيخ أنور الكشميري: =والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم+(2).
_ وقال العلامة أبو هشام عبدالله الأنصاري في تفسير آية الإدناء، وقد ضمنه بحثه القيم: =إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب الذي نشرته مجلة =الجامعة السلفية+ بالهند الذي كتبه رداً على مقال فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي×بعنوان: =الإسفار عن الحق في مسألة السفور والحجاب+:
__________
(1) انظر حجاب المرأة ولباسها (17/141) رقم 667.
(2) انظر عودة الحجاب (3/222).(1/209)
=الضمير في =يدنين+ يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي"وإلى بناته وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجباً على أزواجه"، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة منها؛ فلم لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين؟!+(1).
وقال أيضاً في الرد على ما زعمه الدكتور الهلالي في قوله: أقوال العلماء السابقة لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين:
=لا يَغُرَنَّ أحداً إجماع العلماء أو شبه إجماعهم على إخراج الوجه والكفين عن العورة، فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر بالحجاب؛ لأنه أزكى، وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين فلا شك أنهم أو كثير منهم تناقضوا أنفسهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول: إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض، وفضيلة الدكتور ينقل عن بعضهم التصريح بأن الوجه والكفين ليسا بعورة، والتصريح بأن سترهما واجب، وأن سبب الوجوب هو خوف الفتنة+(2).
وقال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني خطيب جامع العثمانية بحلب في كتابه الفتن ص210 بعد أن ساق الأدلة على وجوب التستر ومنع السفور قال:
=فأنت ترى من صراحة هذه النصوص ما هدف إليه الإسلام من صيانة الرجال من فتنة النساء، وصيانة النساء وتكريمهن.
فقد أمر الإسلام المرأة بالقرار في البيت وبالحجاب إذا خرجت لحاجة، وحرم عليها الضرب بالأرجل لإسماع الرجال صوت الخلاخل فيها+اهـ.
وقال الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في عودة الحجاب (3/38):
=ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب: فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرارهن في البيت هو الأصل الأصيل في دائرة عملهن. قال":
__________
(1) انظر عودة الحجاب (3/212).
(2) عودة الحجاب (3/219_232).(1/210)
=والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، وما عداه استثناء، ثم إن هي خرجت تخرج محجوبة، لا تخالط الرجال، وبشروط أخرى جماعها حمايتها، وحماية المجتمع من الافتتان بها+اهـ.
وقال البيانوني في رسالته الفتن ص207:
=وقال الجرداني×: =وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها: جميع بدنها بدون استثناء شيء منه أصلاً، ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة، ويجب أن تستتر عنه. هذا هو المعتمد+اهـ.
_ وعن عائشة _رضي الله عنها_ أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة، بعد أن نزل الحجاب، فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول الله"أخبرته بالذي صنعت، فأمرني أن آذن له+.
رواه البخاري _كما في فتح الباري (9/150)/ كتاب النكاح/ باب لبن الفحل رقم 5103_ قال الحافظ في الفتح (9/152): =وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب+.
وقال العيني في عمدة القارئ (20/98) فيما يستفاد من الحديث المذكور:
=فيه أن لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالإجماع+اهـ.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/80):
=والعورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك+.
وقال الألوسي في روح المعاني (9/141) في آية النور رقم 31:(1/211)
=ومذهب الشافعي عليه الرحمة _كما في الزواجر_ أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة، ولو أمة _على الأصح_ وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة: =عورة الأمة ولو مبعضة، ومكاتبة وأم ولد كعورة رجل ما بين السرة والركبة في الأصح، وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين، وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة؛ لأن ذلك مظنة الفتنة، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل، وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل+ اهـ.
وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة؛ لأن رؤية البعض ربما جر رؤية الكل، فكان اللائق حرمة نظره أيضاً، بل قال: =حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة، ولو من يدها، وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة، وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أَجِلَّتِهم =ما ظهر+ بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلاً على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة، فدل ذلك على أنه ليس كل ما حرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقاً في غاية البعد، فتأمل.
واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل بعمومها: =الوجه والكفين+ والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بَعْدُ، يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] من الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى: أن ما ظهر منهما من غير إظهار، كأن كشفته الريح مثلاً، فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة، ومعالجة طبيب+اهـ.(1/212)
وسئل سماحة الشيخ ابن باز: هل يجوز للمرأة أن تحتجب من دون أن تغطي وجهها إذا سافرت للخارج؟
فأجاب: =يجب على المرأة أن تحتجب عن الأجانب في الداخل والخارج، لقوله سبحانه: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] (الأحزاب: 53) وهذه الآية الكريمة تَعُمُّ الوجه وغيره، والوجه هو عنوان المرأة وأعظم زينتها، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] (الأحزاب: 59) وقال سبحانه: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ...] (النور: 31).
وهذه الآيات تدل على وجوب الحجاب في الداخل والخارج، وعن المسلمين والكفار، ولا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتساهل في هذا الأمر؛ لما في ذلك من المعصية لله ولرسوله؛ ولأن ذلك يفضي إلى الفتنة بها في الداخل والخارج+اهـ(1).
وقال الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر في رسالة الخليج في منع الإختلاط وما ينجم عنه من مساوئ الأخلاق ص24 في آية الإدناء =فأمر الله نساء نبيه ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهن من جلابيبهن. والجلباب يشبه الرداء أو العباءة، تغطي به جميع جسمها إلا ما تبصر به الطريق من فتح عينها ونحوه وهو من شأن الحرائر بحيث يعرفن بالتستر، فيحترمن. وهذا نص قاطع في وجوب ستر الحرة جميع جسمها حتى وجهها+اهـ.
وقال الشيخ عبدالله بن جارالله بن إبراهيم الجارالله في كتابه =مسئولية المرأة المسلمة ص45_46:
__________
(1) فتاوى المرأة ص167.(1/213)
=سفور وجه المرأة وكشفه للرجال غير جائز؛ لأن الوجه يجمع كل المحاسن وهو أكثر الأعضاء فتنة وإغراء، وكل البلاء والخطر في كشف الوجه.. إلى أن قال:
=فالحجاب ضرورة، وفريضة لا مفر منها، وهو حماية للرجل والمرأة جميعاً، وكشف الوجه سبب كارثة الأخلاق، وفوضى الجنس. وفُرِضَ الحجابُ على المسلمة ليكون حاجزاً بينهما وبيم الأجنبي إذا اضطرت إلى مغادرة بيتها، فوضع الإسلام لها شروطاً وآداباً لهذا الاضطرار، وفي حماية المرأة وصونها بالحجاب حماية للمجتمع كله.
والحجاب أمر الله به في كتابه، وعلى لسان رسوله"، وعليه عمل أمهات المؤمنين والمؤمنات في القرون المفضلة إلى عصرنا الحاضر، والمرأة كلها عورة من هامتها إلى أخمص قدميها، ويجب عليها أن تستر عن الرجال جميع بدنها.
ومن المخالفات التي ارتكبها أكثر النساء خروجهن سافرات غير متحجبات يفتن الرجال، ويَفْتَتِنَّ بهم، والسفور مخالفة لأمر الله وأمر رسوله"+اهـ.
وقال الشيخ خالد بن علي بن محمد العنبري في فتح الغفور ص6:
=والحق الذي لا يُبْتَغَى عنه حولاً(1): وجوب تغطية جميع بدن المرأة بما في ذلك الوجه والكفان، والأمر الذي لا اختلاف فيه أن ذلك هو الأحرى والأكمل والأقرب للتقوى. والثابت أن دعاة السفور في بدايات هذا القرن قد استفرغوا جهدهم من أجل أن تكشف المرأة المسلمة عن وجهها فقط، وكما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني من شهداء القرن التاسع: =لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب+اهـ.
وقال الشيخ منصور البهوتي في الروض المربع (1/497): =وكل الحرة البالغة عورة إلا وجهها فليس عورة في الصلاة+. قال العلامة الشيخ عبدالرحمن بن قاسم في حاشيته معلقاً على ذلك:
__________
(1) هكذا قال: =حِوَلاً+ ولعل الصواب: حِوَلٌ+؛ لأنه نائب فاعل. والله أعلم.(1/214)
=قال الشارح(1): بلا خلاف نعلمه، وقال القاضي: إجماعاً، والمراد حيث لا يراها أجنبي+اهـ.
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى (7/100) رقم 828:
=مسألة: ولا بأس أن يغطي الرجل وجهه بما هو متلحف به أو بغير ذلك، ولا كراهة في ذلك، ولا بأس أن تسدل المرأة من على رأسها على وجهها. أما المرأة فلأن رسول الله"إنما نهاها عن النقاب، ولا يسمى السدل نقاباً+اهـ.
وقال العالمة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري في حاشيته على الروض المربع (1/140):
=قوله: =إلا وجهها فليس عورة في الصلاة+ وأما خارجها فكلها عورة حتى وجهها بالنسبة إلى الرجل والخنثى+اهـ.
وقال في المحرمة (1/484):
=قوله: =في وجهها.. الخ+ ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق وإن كان يمسه، فالصحيح أن يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيد، ولا غير ذلك؛ فإن النبي"سوى بين وجهها ويدها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه...+الخ.
ونقل العنقري في حاشيته أيضاً (3/64) عن القاضي أنه قال: =ويباح له النظر إليهما _يعني الوجه والكفين_ مع الكراهة إذا أمن الفتنة، ونظر بغير شهوة+. ثم ذكر أن الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب _رحمهم الله تعالى_ قال:
=قلت: =وفي هذا ما لا يخفى على متأمل عرف أصول الشرع ومقاصده، وأنه أتى بما فيه صلاح الخلق في الدنيا والآخرة، فكيف يطلقونه على النظر، ويجرؤون الفساق على مقاصدهم، لا سيما في هذه الأزمنة؛ فإن الفاسق ينظر إلى ما يشتهي لا سيما إذا كان المنظور إليه مثله، ويدعي مع ذلك أنه ينظر بلا شهوة، فالصواب: حسم المادة وسد الذريعة، ولذلك قال النبي"لما سئل عن نظر الفجأة: =اصرف بصرك؛ فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية+اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (2/268) في المحرمة وغير المحرمة:
__________
(1) يعني شارح متن الخرقي في الفقه الحنبلي وهو ابن قدامة.(1/215)
=فأما في غير الإحرام، فلا بأس أن تطوف منتقبة نص عليه، فإن احتاجت إلى ستر الوجه مثل أن يمر بها الرجال، وتخاف أن يروا وجهها، فإنها ترسل من فوق رأسها على وجهها ثوباً نص عليه+اهـ.
وترجم الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في السنن (2/416) رقم1833 لحديث عائشة: =كان الركبان يمرون بنا... الحديث+ بقوله:
=باب في المحرمة تغطي وجهها+.. ثم أورده تحت هذه الترجمة.
قال الخطابي معلقاً على ذلك: =فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها، فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء، ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع. وممن قال بأن المرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها:
عطاء ومالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق، وهو قول محمد بن الحسن، وقد علق الشافعي القول فيه+اهـ.
قلت: لم تمنع المرأة من تغطية وجهها بغير النقاب، ولا من تغطية يديها بغير القفازين؛ بالنص والإجماع.
وترجمه الإمام الحافظ أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه في سننه (2/979 رقم 2935 بقوله: =باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها+.
وجاء في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (16/55_69):
=وقال الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من المخلصين:
=الذين يخدعون المرأة المسلمة بالشعارات الزائفة والأساليب البراقة الكاذبة من حرية وتقدم وكفاح وممارسة حقوق في الحياة ويخيلون لها أنها رجل في جميع الميادين، يريدون إيقاعها في المآسي التالية:
1_ أن تكون ملعونة في كتاب الله وعلى لسان رسوله"؛ لتشبهها بالرجال في كل شيء.
2_ القضاء على حيائها اللائق بشرفها ومروءتها وإنسانيتها.
3_ تعريض جمالها؛ لأن يكون مرتعاً لعيون الخائنين يتمتعون به مجاناً على سبيل الخيانة والمكر على حساب الدين والشرف والفضيلة من وراء اسم التقدم والحرية وربما آلت بها تلك المخالطة إلى أشياء أخرى غير لائقة.(1/216)
4_ تعريضها لأن تكون خراجة ولاجة تزاول الأعمال الشاقة كالأمة بعد أن كانت درة مصونة في صدف بيتها محجبة...الخ
وقال الشيخ عبدالله بن سليمان بن حميد كما في الدرر السنية (16/73):
=إن المرأة عورة، وتعليمها على الصفة التي يريدها المفكرون والباحثون _كما زعم الكاتب_ مصدر انحطاط الأمة وسقوطها في الهاوية، وهل مصيبة على المسلمين أعظم من تمرد المرأة؟ وخروجها عن تعاليم دينها وآداب شرعها وعوائد قومها وإباحة السفور لها؟!
وهل غزا الأجانب البلاد المجاورة إلا بسقوط الأخلاق، وبتعليم المرأة حصل التبرج وبتعليمها مزقت الحجاب، وكشفت عن الساق والفخذ والرأس والصدر..الخ
_ وقال الإمام شمس الدين ابن القيم×في الطرق الحكمية ص280 في وجوب انكار المنكر، وتقدم بلفظ:
=فصل: ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفُرَج ومجامع الرجال.
قال مالك×أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم.
وأرى أن لا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع، فأما المرأة المتجالَّة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود، ولا يتهم من تقعد عنده، فإني لا أرى بذلك بأساً+اهـ.
فالإمام مسئول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، قال": =ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء+، وفي حديث آخر: أنه قال للنساء:
=لَكُنَّ حافات الطريق+.
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات، متجملات، ومنعنهن من الثياب التي يَكُنَّ بها كاسيات، عاريات، كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرق، ومنع الرجال من ذلك.
وإن أرى ولي الأمر أن يفسد على المرأة _إذا تجملت وتزينت وخرجت_ ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص بذلك بعض الفقهاء، وأصاب، وهذا من أدنى عقوبتهن المالية.
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية. والله سائل ولي الأمر عن ذلك.(1/217)
وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب÷النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق. فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيى الكحال: أنه قال لأبي عبدالله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: =صِحْ به+ وقد أخبر النبي": =أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية+.
ويمنع المرأة إذا أصابت بخوراً أن تشهد عشاء الآخرة في المسجد، فقد قال":
= المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان+.
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر. وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما إنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.
واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة.
ولما اختلط البغايا بعسكر موسى، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم بيوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفاسير.
فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية _قبل الدين_ لكانوا أشد شيء منعاً لذلك. قال عبدالله بن مسعود÷:
=إذا ظهر الزنا في قرية أذن الله بهلاكها+.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا عبدالرحمن بن زيد العمي عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله":
=ما طفف قوم كيلاً، ولا بخسوا ميزاناً إلا منعهم الله _عز وجل_ القطر. ولا ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم+.
قلت: إسناده ضعيف. عبدالرحمن بن زيد العَمِّي وأبوه لا يحتج بهما.(1/218)
وقال أبو زرعة العراقي في طرح التثريب (3/260) في فوائد حديث أبي هريرة: =لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء+، قال:
=الخامسة: =قوله=حتى يمر بقبر الرجل+: الظاهر أن ذكر الرجل في الموضعين خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له فالمرأة في ذلك كالرجل، ويُحْتَمَلُ أنه إنما حصل هذا التمني للرجال خاصة؛ فإنهم الذين يبتلون بالشدائد والمحن، ويظهر فيهم ثمرة الفتن بخلاف النساء؛ فإنهن محجوبات في الأغلب لا يصلين نار الفتن قال الشاعر:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول+.
وقال أيضاً (5/446) في حديث: =ولا تنتقب المرأة+
=قال ابن المنذر: =أجمع أهل العلم على أن للمرأة المحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف+اهـ. فدل النهي عن الانتقاب على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه، ويمسه دون ما إذا كان متجافياً عنه، وهذا قول الأئمة الأربعة، وبه قال الجمهور+اهـ.
وقال أيضاً (7/41):
=وقد حكى النووي وغيره الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية، وإباحتها بالمحارم، والمحرم هي كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد+اهـ.
_ وقطع سماحة الشيخ عبدالله بن حميد×في فتاويه رقم 230، 239، 240، 243، 245، 247، 250 بتحريم كشف وجوه النساء بحضرة الرجال الأجانب والاختلاط بهم وحلف على ذلك وكذا قال بتحريم النظر إليهن والخلوة بهن، وقال: إن هذه المذكورات لا تجوز، ولا يقرها دين ولا مروءة ولا شرع.
وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة والشئون الإسلامية في فتاواه ورسائله جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبدالرحمن بن قاسم (2/153) رقم477:(1/219)
=الحرة البالغة عورة في الصلاة إلا وجهها فليس بعورة، بل والمشروع أن تصلي كاشفة وجهها، ولو صلت مغطية صحت الصلاة، لكنها تركت الأولى، وهذا بالنسبة إلى انفرادها عن أجنبي، ففرق بين عورتها في النظر وعورتها في الصلاة، فعورتها في الصلاة يخرج الوجه، وفي غيرها يكون منها؛ فإن السفور محرم في الطواف والصلاة وغير ذلك، وإنما حرم لما يسببه من الفتنة، والمحاسنُ الداعيةُ إلى الشهوة وإلى مسبباتها هي الوجه. وإن كان النظر إلى محل الجماع من ناحية داعٍ، وكل شيء من محاسن المرأة، لكن في الوجه خصوصية من نوع آخر.
الحاصل: أن المخدوعين بالسفور فتحوا باباً كبيراً إلى السفور، وإن كان قاله من قاله من الأئمة فهو مجتهد وهم مثابون على اجتهادهم، ومعذورون، لكن الحق اتباع الحق مع من كان+(1).
وقال أيضاً في (10/18_55) رقم2637، 2638، 2639، 2640، 2641، 2642، 2643، 2644، 2645، 2646، 2647، 2648، 2649، 2650، 2651، 2652، 2653، 2654، 2655:
ما ملخصه:
_ أن السفور منكر، لا يجوز، لمخالفته لما اتفق عليه المحققون من علماء الإسلام من وجوب إخفاء الزينة، ومنها الوجه واليدان، وهو عمل المسلمين في عهد النبي"وصحابته وفي عهد خلفائه الراشدين والسلف الصالح _رضوان الله عليهم_، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأئمة ومن بعدهم كثيرة معروفة.
__________
(1) قلت مسألة سفور النساء عن وجوههن بحضرة الرجال الأجانب، واختلاطهن بهم محرم باتفاق الأئمة لم يخالف فيه منهم أحد، بل هو قول كافة أهل العلم، فقد نقل الاتفاق والإجماع على ذلك ما يزيد على أرعين نفساً من أهل العلم.(1/220)
_ والمرأة عورة، والعورة يجب سترها كلها، ولا يجوز كشف شيء منها، وحكى ابن المنذر الإجماع على أن المرأة المحرمة تغطي رأسها، وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال الأجانب، وحكى ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه. ثم أورد الأدلة من الكتاب والسنة وتوجيهها، وأقوال أهل العلم في ذلك.
_ وقال: والاختلاط لا إشكال في تحريمه؛ لأنه في الحقيقة يؤدي إلى فتنة، ولهذا منعه الشارع حسماً لمادة الفساد.
_ وقد رَفَعَ لسمو رئيس مجلس الوزراء رسالة يبين له فيها مضار السفور والاختلاط وجاء فيها: =والذي يتعين في مثل هذا غيرةً لله، ولدينه، وقياماً لواجب الرعية التي ولا كم الله عليها هو العمل على حسم أسباب الفساد، وتدهور الأخلاق بمنع أولئك النساء من الخروج سافرات متبرجات. والمعروف أن الأجنبي، لا يسمح له بدخول البلاد إلا بعد أخذ التعهد عليه بالخضوع لتعاليم البلاد المعمول بها فيها، وأملنا وطيد في أن تولوا هذا الأمر الخطير ما يستحقه من العناية والاهتمام التام+اهـ.
_ رجوع قاسم أمين عن آرائه في الدعوة إلى سفور النساء.
يقول محمد أحمد المقدم في عودة الحجاب القسم الأول ص38 معركة الحجاب والسفور:
=هل رجع قاسم أمين عن آرائه؟
= يذكر بعض الباحثين أن قاسم أمين عدل عن رأيه في عام 1906م، بعد أن تبين له أنه ضل الطريق، وذلك ضمن حديث له إلى صحيفة =الظاهر+ التي كان يصدرها =محمد أبو شادي+ المحامي، أعلن فيه رجوعه عن رأيه، كما أعلن فيه أنه كان مخطئاً في الدعوة إلى تحرير المرأة.
وهذا نص عبارته:(1/221)
=قال قاسم أمين: =لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك، بل الإفرنج في تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم، ومآدبهم وولائمهم... ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية؛ لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي، واستنفر الناس إلى معارضتي+.
فإذا صح هذا =فهل يكون لدى دعاة تحرير المرأة من الشجاعة في إعلان هذا التحول؟! حيث قد اعترف قاسم أمين نفسه بعد ذلك بأنه قد أدرك خطر هذه الدعوة بما اختبره من أخلاق الناس+اهـ.
وقال المقدم أيضاً في المصدر السابق ص40:
=قال الأستاذ محمد فريد معلقاً على دعوة =قاسم أمين+: إن دعوة =قاسم أمين+ قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مريعاً في مبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض، وهَرَبِ الشابات من دور أهلهن+اهـ.
وقال الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود كما في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (14/403) في نصيحة له بالتمسك بالكتاب والسنة، والتحذير من البدع والمنكرات، ومنها قوله:
=وأقبح من ذلك في الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وترقيتهن وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها حتى نبذوا وظائفهن الأساسية من تدبير المنزل وتربية الطفل وتوجيه الناشئة _التي هي فلذة أكبادهن، وأمل المستقبل_ إلى ما فيه حب الدين والوطن ومكارم الأخلاق.
ونسوا واجباتهن الخلقية من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة ودخولهن في بؤرات الفساد والرذائل وادعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن، فلا _والله_ ليس هذا من التمدن في شرعنا وعرفنا وعاداتنا.(1/222)
ولا يرضى هذا أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، أو إسلام، أو مروءة، أن يرى زوجته، أو أحداً من عائلته، أو المنتسبين للخير في هذا الموقف المخزي، هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار، ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من عربيته؛ فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين، الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها.
إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف والتجبر من أمر النساء؛ فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقاً يتمتعن بها لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدنة.
وإذا اتبعنا تعاليمه _كما يجب_ فلا تجد في تقاليدنا الإسلامية، وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا، ولا يمنع من تقدمنا في مضمار الحياة والرقي _إذا وجهنا المرأة في وظائفها الأساسية، وهذا ما يعترف به كثير من الأوربيين من أرباب الحصافة والإنصاف.
ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب، واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين وسمعناهم يشكون مُرَّ الشكوى من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم من جراء المفاسد، وهم يُقَدِّرُون لنا تمسكنا بديننا وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم العالية التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلامة ويودون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب والدمار والحروب الجائرة.
وهؤلاء نوابغ كتابهم، ومفكروهم قد علموا حق العلم هذه الهوة الساحقة، التي أمامهم، المنقادون لها بحكم الحالة الراهنة، وهم لا يفتئون في تنبيهم شعوبهم بالكتب والنشرات والجرائد على عدم الاندفاع في هذه الطريق التي يعتقدونها سبب الدمار، وسبب الخراب.(1/223)
إني لأعجب أكبر العجب ممن يدعي النور والعلم وحب الرقي من هذه الشبيبة التي ترى بأعينها، وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي الحائق بغيرنا من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا، وعاداتنا الإسلامية العربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيفي الذي جاء به نبينا محمد"رحمة وهدى لنا ولسائر البشر.
فالواجب على كل مسلم وعربي فخور بدينه معتز بعربيته أن لا يخالف مبادئه الدينية وما أمره الله تعالى بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده، ووطنه.
فالرقي الحقيقي، هو بصدق العزيمة، والعمل الصحيح والسير على الأخلاق الكريمة والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين والسمت العربي والمروءة، وليس بالتقليد الأعمى، وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده الذين أتوا بأعاظم الأمور باتباعهم أوامر الشريعة التي تحت عبادة الله وحده، وإخلاص النية في العمل... إلى أن قال:
إني أرى من واجبي بصفتي مسلماً، وبحسب عربيتي، وإخلاصي لأبناء قومي أن أقوم بهذه النصائح لمن ولاني المولى أمرهم، مقتدياً في عملي هذا بالنبي"الذي أرجو أن أكون تبعاً له في أقوالي وأعمالي، وفي محياي ومماتي صابراً على ما تقوله الناس، من الانتقادات غير مبالٍ لها ولا وجل منها، كما قيل:
إذا كان الذي بيني وبين الله عامر ... فعسى الذي بيني وبين الناس خراب(1)
.. إلى أن قال:
__________
(1) لعل صحة البيت: =فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب+(1/224)
=كما أنني أعاهد الله: بأنني سأقوم _إن شاء الله_ بما أوجبه الله، وأن أسعى بإلزام من أطاعني بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله"وأُساعد على ذلك، كما أني سأمنع كل من يخالف كتاب الله وسنة رسوله، ومذهب أهل السلف الصالح بيدي ولساني وقلبي على قدر الاستطاعة، وأسأل الله التوفيق والعناية والتيسير لي ولأخواني المسلمين عامتهم وخاصتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم/ سنة 1356هـ.+ اهـ باختصار.
وقال سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء/ فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ في حكم خروج النساء من بيوتهن سافرات الوجوه، واختلاطهن بالرجال الأجانب، غير ملتزمات بالحجاب الشرعي، وما نشر لهن من صور في الصحف كاشفات الوجوه: أن هذا عمل منكر، وظاهر التحريم بالكتاب والسنة والإجماع، وأوصي عموم المسلمين بالحذر واليقظة وعدم الانسياق وراء هذه الدعايات الهدامة للدين والأخلاق.
قال ذلك في بيان له أصدره بمناسبة ما حدث في منتدى =جدة+ الإقتصادي/ من اختلاط النساء بالرجال في ذلك المنتدى سافرات الوجوه، والذي نشرته الصحف، ومنها صحيفة =الجزيرة+ يوم الأربعاء 29 من ذي القعدة عام1424هـ.
وقال أحمد بن محمد المقدم في عودة الحجاب القسم الأول =معركة الحجاب والسفور+ (1/29_30):(1/225)
=لم يكن عجباً أن يقف مصطفى كامل من حركة تحرير المرأة موقف المقاومة والعناد، إذ تحسس وراءها الأصابع البريطانية فربط بين هذه الحركة التي يديرها ذلك النادي الذي جمع أذناب الاستعمار، وبين الانكليز على أنها وسيلة من وسائله المتلونة في القضاء على مقومات الأمة. فسارع إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة، وتحذير الأمة منها، فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور ذلك الكتاب _يعني كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين_ في الخامس من شعبان سنة 1317هـ الموافق الثامن عشر من سبتمبر حيث قال:
=إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوربية؛ فإن في ذلك خطراً كبيراً على مستقبل الأمة، فنحن مصريون، ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمة مدنية خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله. فالحجاب في الشرق عصمة، وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم الصحيح، وأن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة... هو تعليم الدين+اهـ.
وقد بلغ مصطفى كامل الاهتمام بمقاومة هذه الحركة المسمومة إلى الحد الذي جعله يفتح صدر صحيفته =اللوى+ منذ أول ظهورها سنة 1900م لكل طاعن على =قاسم أمين+ وأفكاره، فكانت اللوى كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل+ خصماً لدوداً لقاسم أمين وافكاره وكانت ميداناً لأشد المطاعن عليه+اهـ.
وقال العلامة أحمد محمد جمال في كتابه =مكانك تحمدي+ ص34:
=وذكر الإمام ابن تيمية اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه؛ لأن النظر مظنة الفتنة _كما جاء في نيل الأوطار_ شرح المنتقى_ الاتفاق على منع خروجهن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق.. إلى أن قال في قول عائشة _رضي الله عنها_: =ولو رأى رسول الله"من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد+ قال:(1/226)
=وإذا كان ذلك في أفضل القرون، وقريباً من عهد النبوة الأفضل والأمثل، فكيف بزماننا الذي ضعف فيه الوازع الديني، وقل فيه الحياء، وتعددت فيه الوسائل والمظاهر التي تساعد على الاختلاط، والافتتان؟!
إن وجوب الحجاب يكون إِذَنْ ألزم وأحزم لمنع الفساد الخلقي، كما يكون أكرم وأسلم للمرأة المسلمة من التبذل والضياع+اهـ.
وقال ابن القيم×في روضة المحبين ص84 في تقريره أن من دواعي المحبة الجمال: =وقد يكون الجمال مُوَفَّراً لكنه ناقص الشعور به، فتضعف محبته لذلك فلو كشف له حقيقته لأَسَرَ قلبَه، ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال؛ فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن، فيقع الافتتان، ولهذا شرع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة+اهـ.
_ وقال سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد في نقد مساواة المرأة بالرجل في الأعمال ص158:
=فمن ساوى بين الرجل والمرأة فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الإعوجاج+.
وسئل الشيخ الحافظ الواعظ محمد بن عبدالله بن أحمد بن حبيب العامري البغدادي عن النظر الذي أمر المؤمنون فيه بغض الأبصار وبيان ما حرم الكتاب والسنة.. الخ
فأجاب بقوله:
=إن الذي أجمعت عليه الأمة واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض+.
وقال الشيخ محمد علي الصابوني في تفسيره =صفوة التفاسير(2/537) في تفسير عبيدة السلماني لقوله تعالى [يدنين عليهن من جلابيبهن] بأنه غطى وجهه ورأسه، وأبرز إحدى عينيه قال:
هذا نص صريح في وجوب ستر الوجه وغيره من الروايات الصحيحة والصريحة بوجوب ستر المرأة للوجه، فأين أقوال السلف الصالح وأئمة علماء التفسير الأجلاء من أقوال أدعياء العلم في هذا العصر والزمان الذين يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها أمام الأجانب+!!!
وقال الصابوني أيضاً في كتابه =روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن+ (2/182):(1/227)
=بدعة كشف الوجه: ظهرت في هذه الأيام الحديثة دعوة تطويرية جديدة تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي،وأن الوجه ليس بعورة، دعوة تجديدية من أناس يريدون أن يظهروا بمظهرالأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها، ويبعثوا فيها روح التضحية والإيمان والكفاح.
دعوة جديدة وبدعة حديثة من أناس يَدَّعُون العلم، ويزعمون الاجتهاد، ويرون أن يثبتوا بآرائهم العصرية الحديثة أنهم أهل لأن ينافسوا الأئمة المجتهدين، وأن يجتهدوا في الدين، كما اجتهد أئمة المذاهب، ويكون لهم أنصار وأتباع.
لقد لاقت هذه الدعوة =بدعة كشف الوجه+ رواجاً بين صفوف كثير من الشباب وخاصة منهم العصريين، لا لأنها دعوة حق، ولكنها تلبي داعي الهوى، والهوى محبب إلى النفس، وتسير مع الشهوة، والشهوة كامنة في كل إنسان، فلا عجب إذاً أن نرى ونسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة، ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها =حكم الإسلام+ و =شرع الله المنير+.
يقولون: إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله _عز وجل_ به المسلمات في كتابه العزيز، وأنهم يريدون أن يتخلصوا من الإثم بكتمهم العلم: [إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى.. الخ] دعاواهم الطويلة العريضة، ولست أدري أي إثم يتخلصون منه، وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها، وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى، ويتبجح بالدعارة والفجور؟!+ إلى أن قال:
فهل يعقل أن يأمر الإسلام _أي المرأة_ أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟!!
وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر: الوجه أم القدم؟(1/228)
يا هؤلاء كونوا عقلاء، ولا تلبسوا على الناس أمر الدين، فغذا كان الإسلام لا يبيح للمرأة أن تدق برجلها الأرض؛ لئلا يسمع صوت الخلخال، وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها، فهل يسمح لها أن تكشف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة، ومكمن الخطر؟+اهـ.
وقال أيضاًفي المصدر السابق (2/351):
=الحكم الثالث: هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي" أم هو عام؟
فأجاب: =الأمر بعدم الاختلاط بالنساء وبسؤالهم من وراء حجاب ليس قاصراً على أزواج الرسول"، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين فإذا كان نساء الرسول" لا يجوز الاختلاط بهن ولا النظر إليهن مع أنهن =أمهات المؤمنين+ يحرم الزواج بهن، ولا يجوز سؤالهن إلا من وراء حجاب، فلا شك أن الاختلاط بغيرهن من النساء أو التحدث إليهن بدون حجاب يكون من باب أولى؛ لأن الفتنة بالنساء محققة، ثم إن أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول" بل هو عام لجميع نساء المؤمنين بدليل قوله تعالى في آخر السورة [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ...] فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟!
وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول" حتى يزعم بعض المضلين أن الحجاب مفروض على نساء الرسول" خاصة، دون سائر النساء؟
وقال علي بن عطية بن الحسن الهيتي الحموي الشافعي في كتابه =عرائس الغرر وغرائس الفكر في أحكام النظر ص308:
=وكما يحرم النظر إلى بدن الأجنبية، وما اشتمل عليه من شعر وبشر وظفر ووجه، وكف أو غير ذلك _على المفتى به_ بشهوة وغيرها، خاف الفتنة أو أمن فكذلك يحرم النظر إلى شعرها المنفصل وأعضائها وأجزائها حتى إلى قلامة ظفرها في الحمام وغيره.
وكذلك يحرم المَسُّ والخلوة بها من غير زوج ولا ذي محرم، ولو كانت متحجبة؛ لأن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم... على أن قال ص130:(1/229)
=فيجب على المرأة _على الأصح المفتى به_ الاحتجاب والتستر في جميع أعضائها من وجه ويد وساق وقدم، ولا يغتر المغتر بما عليه عادة نساء البر من كشف سوقهن، وإبداء أرجلهن ووجوههن وأكفهن عند التردد في الأشغال ومباشرة الأعمال من ماء وغيره؛ فإن ذلك كله فسق وضلال، بل عليها حتماً أن تواري أعضاءها لا سيما الساق والقدم بسروال أو خف أة نحوهما، وإلا فستجد غداً هي وزوجها ووليها غب ذلك وتبعته يوم القيامة من العذاب الأليم والخزي المقيم إلا أن يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك ويرجعوا عن مخالفتهم الموقعة في المهالك+اهـ.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم (4/448):
=والمرأة فتنة ممنوع الانفراد بها؛ لما جلبت عليه نفوس من الشهوة فيهن، وسلط عليهم من الشيطان بواسطهن، ولأنهن لحم على وَضَم إلا ما ذُبَّ عنه، وعورة مضطرة إلى صيانة وحفظ وذي غيرة يحميها ويصونها، وطبع الله في ذوي المحارم من الغيرة على محارمهن، والذب عنهن ما يؤمن عليهن في السفر معهن ما يخشى+اهـ.
اعتراض وجوابه
فإن قيل: يجوز النظر إلى وجه المرأة؛ لأنه من الزينة الظاهرة، بدليل ما رواه سليمان بن مهران الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه قال في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: =وجهها وكفيها+.
قلت: هذا التفسير المعزو لابن عباس رواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (8/2574) رقم14398: حدثنا الأشج، ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: =وجهها وكفاها، والخاتم+.
قيل هذا التفسير المعزو لابن عباس ضعيف جداً، لوجوه:
الأول: أن الراوي له الأعمش، عن سعيد، والأعمش لم يسمع من سعيد إلا أربعة أحاديث قاله إمام الجرح والتعديل علي بن عبدالله المديني.
فقد جاء في جامع التحصيل للعلائي ص189 رقم258، ما نصه:(1/230)
=وقال ابن المديني: إنما سمع الأعمش من سعيد بن جبير أربعة أحاديث. قال:
=قال: صلى بنا ابن عباس على طنفسة(1)+ و =حديث أبي موسى: =ما أحد أصبر على أذى من الله+ و =وقول ابن عباس: الوتر بسبع أو خمس+ و =قول سعيد بن جبير: =ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر+. وهذا التفسير ليس منها.
وذكر هذا القول بحروفه أبو زرعة في تحفة التحصيل ص136.
الثاني: أن هذا التفسير معروف من رواية أبي عبدالله مسلم بن كيسان الملائي الأعور.
فقد أخرج البيهقي في الكبرى (2/85) و (7/225)
من طريق جعفر بن عون، وابن جرير في جامع البيان من طريق مروان بن معاوية كلاهما عن مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... الآية] قال: الكحل والخاتم+.
الثالث: أن سليمان الأعمش مشهور بالتدليس، وهو ممن يروي عن مسلم بن كيسان هذا.
وإذا ثبت أنه لم يسمع من سعيد إلا الأحاديث الأربعة المذكورة، وأن المعروف عند أهل العلم أن هذا التفسير أنه مما يرويه الملائي عن سعيد، فقد اتضح أنه مما دلسه الأعمش بإسقاط =مسلم الملائي+ من السند.
ومسلم هذا ضعيف جداً.
قال البخاري _كما في العلل الكبير للترمذي (2/968)_: ضعيف الحديث، ذاهب، لا أروي عنه+.
وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين ص228 رقم534: متروك الحديث+.
وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (6/2308):
=كتب إلي محمد بن الحسن، ثنا عمرو بن علي، قال: كان يحيى وعبدالرحمن لا يحدثان عن مسلم الأعور _وهو مسلم أبو عبدالله_ وكان شعبة وسفيان يحدثان عنه، وهو منكر الحديث جداً+.
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (4/106) رقم8506: قال الفلاس: متروك الحديث.
وقال المزي في تهذيب الكمال (27/534): قال النسائي: ليس بثقة.
وقال المزي أيضاً: وقال النسائي _في موضع آخر_ وعلي بن الحسين بن الجنيد: متروك.
__________
(1) الطنفسة: هي البساط، والنمرق في الرجل/ المعجم الوسيط ص568.(1/231)
وذكره ابن حبان في المجروحين (3/8) وقال: اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، فجعل يأتي بما لا أصل له عن الثقات، فاختلط حديثه ولم يتميز، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين+.
الوجه الرابع: أنه جاء عن ابن عباس أنه فسر الزينة المذكورة بالوجه وكحل العينين التي تَظْهَرُ في البيوت.
أخرج ذلك البيهقي في السنن الكبرى (7/94) وابن جرير في جامع البيان (9/305) رقم25967 من طريق أبي صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث، ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: الزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم. فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها+.
هذا لفظ ابن جرير، والبيهقي إلا أنه قال: =تظهره في بيتها لمن دخل عليها+.
ومن طريق أبي صالح أيضاً أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8/2576) رقم14409، وابن عبدالبر في التمهيد (16/230) والبيهقي (7/94) وابن جرير في جامع البيان (9/307) رقم25982
قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ] قال: =لا تبدي خلاخلها ومعضدتها ونحرها وشعرها إلا لزوجها+.
هذا لفظ ابن أبي حاتم.
ولفظ البيهقي: =والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها+.
ولفظ ابن عبدالبر: =قال الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها وخصرها وجيدها وشعرها، فإنها لا تبيد ذلك إلا لزوجها+.
قلت: يعني ابن عباس بهذه المذكورات ما تبديه لمحارمها.
إسناده حسن. إلا أنه منقطع. علي بن أبي طلحة صدوق حسن الحديث إلا أنه لم يسمع من ابن عباس ولم يدركه. وقيل: إن الواسطة بينهما مجاهد بن جبر التابعي الكبير.
قاله الحافظ المزي في تهذيب الكمال (20/490).(1/232)
الوجه الخامس: أنه ثبت عن ابن عباس أن المرأة المحرمة تغطي وجهها. قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد ص108_110: باب ما تلبس المرأة في إحرامها... ثم قال:
حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن روح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء: أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال:
=تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به، قال روح _في حديثه_ قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي: =ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها.
إسناده صحيح، رجاله ثقات، لا مطعن فيهم. ابن جريج قد صرح بالإخبار.
وصرح في آية الأحزاب في تفسيره للإدناء بأنه تغطية وجوه نساء المؤمنين.
فروى ابن جرير في جامع البيان (10/332) رقم28647
من طريق أبي صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: = قوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ].
أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة+.
إسناده حسن.
قال ابن جرير قبل إيراد هذا التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به. فقال بعضهم:
هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن، فلا يبدين منهن إلا عيناً واحدة. ثم قال:
ذكر من قال ذلك، فأورد هذا التفسير المذكور عن ابن عباس.
وقال البغوي في معالم التنزيل (3/544):
[مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] جمع جلباب وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة؛ ليعلم أنهن حرائر+اهـ.
وقال السيوطي في الدر المنثور (6/659):(1/233)
= وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في هذه الآية، قال: =أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة+
وبهذا تعلم أن ما قيل: أن ابن عباس فسر =ما ظهر من الزينة _ بالوجه والكفين قول مرجوح أو باطل. والعلم عند الله.
يؤيد هذا قول سعيد بن جبير _ فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3155) رقم17789 في قوله تعالى: [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] قال: =يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت به رأسها ونحرها+.
والجلباب قد فسره البغوي آنفاً بأنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار.
يقول الإمام العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد _حفظه الله تعالى_:
=الجلباب+ جمعه جلابيب، وهو كساء كثيف تشتمل به المرأة من رأسها إلى قدميها، ساتر لجميع بدنها وما عليه من ثياب وزينة+.
ويقال له: =الملاءة، والملحفة والرداء والدثار والكساء، وهو المسمى =العباءة+ التي تلبسها نساء الجزيرة العربية.
وصفة لبسها: أن تضعها فوق رأسها ضاربة على خمارها وعلى جميع بدنها، وزينتها حتى تستر قدميها+اهـ.
فإن قيل: روت عائشة أم المؤمنين _رضي الله عنها_ أن أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنها_ دخلت على النبي"، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا+ وأشار إلى وجه وكفيه+.
وهذا يدل على أن الوجه والكفين يجوز كشفهما للأجانب ويباح النظر إليهما؟
قيل هذا الحديث أخرجه أبو داود في السنن (4/357) رقم 4104، والبيهقي في الكبرى (2/226) و (7/86) وفي الآداب ص315 رقم832، وابن عدي في الكامل (3/1209) والطبراني في مسند الشاميين (4/64) رقم2739(1/234)
من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك عن عائشة به.
درجة هذا الحديث عند أهل العلم
قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير، وقال مرة فيه:
=عن خالد بن دريك، عن أم سلمة+ بدل =عائشة+.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/488) رقم1463: سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دُريك، عن عائشة، أن أسماء دخلت على النبي"، وعليها ثياب شامية رقاق، فأعرض عنها النبي"، وقال:=
=إن المرأة إذا حاضت لم يصلح أن يرى عنها إلا هذه+ وأشار بيده إلى كفه ووجهه+ قال أبي: هذا وهم، إنما هو قتادة عن خالد بن دريك، أن عائشة. مرسل+اهـ.
وقال أبو داود: هذا مرسل. خالد بن دريك لم يدرك عائشة _رضي الله عنها_.
وقال المنذري في مختصر السنن (6/58) رقم3945:
وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبدالرحمن البصري نزيل دمشق مولى بني نصر، وقد تكلم فيه غير واحد، وذكر الحافظ أبو أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم رواه عن قتادة، غير سعيد بن بشير، وقال مرة فيه: عن خالد بن دريك، عن أم =سلمة+ بدل =عائشة+.
وقال الحافظ المزي في تحفة الأشراف (11/392) رقم 16062: خالد بن دريك العسقلاني، عن عائشة، ولم يدركها+.
وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3/43) رقم1244:
=وقد أعله أبو داود بالانقطاع، وقال: إن خالد بن دريك لم يدرك عائشة، ورواه في المراسيل من حديث هشام، عن قتادة مرسلاً، لم يذكر خالداً ولا عائشة. تفرد سعيد بن بشير _وفيه مقال_ عن قتادة بذكر خالد فيه.
وجزم أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد في كتابه =النقد البناء لحديث أسماء ص34 بأن رواية سعيد بن بشير هذه عن قتادة منكرة من ضمن مناكيره الكثيرة عن قتادة، والتي أنكرها عليه الأئمة بل ضعفوه من أجلها كما قال ابن نمير =... يروي عن قتادة المنكرات+ وكما قال الساجي: =حدث عن قتادة بمناكير+. إلى أن قال:(1/235)
=لأنه ضعيف في نفسه، وقد تفرد، لا سيما؛ وأنه تفرد عن إمام مكثر يُجمعُ حديثه، له أصحاب حفاظ، ثقات يحفظون حديثه، ويجمعونه، فكونه _على ضعفه_ يتفرد بالحديث عن قتادة _في جلالته وكثرة أصحابه المتقنين لحديثه_ ولا يتابعه عليه أحد من أصحابه الثقات الحفاظ مثل سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي وشعبة، ليؤكد ذلك أن هذا الحديث برواية سعيد بن بشير لا أصل له من حديث قتادة، ولا تلفظ به قط+اهـ.
لكن نرى الحافظ البهقي قال بعد إخراجه:
=مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة _رضي الله عنهم_ في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة. فصار القول بذلك قوياً+اهـ.
ولما ذكر الإمام الموفق ابن قدامة في المغني (9/503) أن مذهب الإمام أحمد أنه يصحح صلاة المرأة التي لم تحض مكشوفة الرأس قال: =واحتج أحمد بهذا الحديث، وتخصيص الحائض بهذا التحديد دليل على إباحة أكثر من ذلك في حق غيرها+.
قلت: أما احتجاج الإمام أحمد×بهذا الحديث على صحة صلاة من لم تبلغ سن الحيض من النساء مكشوفة الرأس، فيمكن أن يجاب عنه بأنه ينسب إليه العمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب غيره(1) ولأن عورة من لم تحض أخف من عورة من بلغت سن الحيض. والله أعلم.
وأما قول البهقي: إن هذا المرسل تقوى بما مضى من الصحابة..الخ/ أجيب بأنه ليس قوياً؛ لأن المرسل الضعيف، وقول الصحابي الذي يتقوى به معارض بقول من مضى من الصحابة أيضاً، كقول ابن مسعود وغيره(2).
قال أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد في جواب من قوى هذا الحديث بالطرق في كتابه القيم =النقد البناء لحديث أسماء ص124+:
=ولكن المرسل الذي بين أيدينا لم تحقق فيه ولا فيما جاءه من عواضدَ الشرائطُ التي ذكرها الأئمة للاحتجاج به، فلم نقوِّه، ولم نحتج به لهذه العلة.
__________
(1) انظر أصول مذهب الإمام أحمد دراسة الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي ص303.
(2) انظر فتح الغفور للعنبري ص25.(1/236)
وبياناً لذلك؛ أقول: إن الأئمة الذين ذهبوا إلى إمكان تقوية المرسل، قد اشترطوا في ذلك شروطاً، فلم يطلقوا هذا الأصل بدون قيد أو شرط.
وقد نظرنا في هذه الشروط، فوجدنا بعضها يتعلق بالحديث المرسل الذي يراد تقويته وبعضها يتعلق بتلك العواضد، وتلك المقويات التي يتقوى بها هذا المرسل إذا ما انضمت إليه.
وقد نظرنا في هذه الشروط _ بنوعيها _ فوجدناها غير متحققة في حديثنا هذا، لا في المرسل الذي يراد تقويته، ولا في تلك العواضد التي يراد تقويةُ هذا المرسل بها، فَمَنَعَنَا ذلك من إعمال هذا الأصل؛ لعدم توفر شروطه+اهـ.
وتعقب ابنُ التركماني في الجوهر النقي (7/86) البيهقي في ذلك فقال:
=وسكت عنه، وفي سنده الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، والوليد مدلس، وابن بشير. قال يحيى: ليس بشيء، زاد ابن نمير: منكر الحديث، وضعفه النسائي، وقال ابن حبان: فاحش الخطأ، ورواه ابن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة، وذكر البهيقي في كتاب الصلاة في باب عورة الحرة، عن أبي داود أن الحديث مرسل، وأن ابن دريك لم يدرك عائشة+اهـ.
قلت: الحديث لا يصح؛ لضعف إسناده، ونكارة متنه.
أما السند فأعل بعلل، منها: أن فيه الوليد بن مسلم وهو القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي الثقة لكنه كثير التدليس والتسوية، قاله الحافظ في التقريب.
وقال بعضهم: والمشهور بالتدليس لا يقبل المعنعن من حديثه(1)، فليس بعيداً أن يدلس الوليد ههنا تدليس التسوية، فيسقط ضعيفاً بين سعيد بن بشير وبين قتادة+(2). لكن قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه منهج المتقدمين في التدليس ص99:
=تدليسه خاص بروايته عن الأوزاعي فقط؛ إذ لم يذكر أحد من الأئمة أنه يدلس عن غيره+.
ومنها: أن في السند سعيد بن بشير الأزدي مولاهم أبو عبدالرحمن الشامي ضعيف قاله الحافظ في التقريب.
__________
(1) انظر كشف النقاب لصالح العصيمي ص17.
(2) انظر فتح الغفور للعنبري ص10.(1/237)
قلت: بل ضعيف جداً في روايته عن قتادة، وخذ ما قاله الأئمة في ذلك:
قال العقيلي في الضعفاء الكبير (2/100) رقم563:
حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري يقول: سعيد بن بشير مولى بني نصر، عن قتادة، روى عنه الوليد بن مسلم يتكلمون في حفظه.
ونقل بسنده عن أبي خليد أنه قال: كان حاطب ليل.
ونقل أيضاً بسنده عن الإمام أحمد ومحمد بن المثنى وعمرو بن علي أنهم قالوا: حدث عنه عبدالرحمن _ يعنون ابن مهدي _ ثم تركه.
ونقل عن يحيى بن معين أنه قال: ليس بشيء.
وزاد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/7) رقم20:
أن الميموني قال: رأيت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يضعف أمره. وأن يحيى بن معين قال: ليس بشيء. وقال: سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: سمعت ابن نمير يقول: سعيد بن بشير منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات.
وقال أيضاً: نا أبو زرعة الدمشقي، قال: سألت دحيماً ما كان قول من أدركت في سعيد بن بشير؟ فقال: يوثقونه، وكان حافظاً+.
وقال ابن حبان في المجروحين (1/315): كان رديء الحفظ، فاحش الغلط، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه+.
وقال أبو يوسف يعقوب بن سفيان البسوي في المعرفة والتاريخ (2/124):
=سألت أبا مسهر، عن سعيد بن بشير؟ قال: لم يكن في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث+.
وقال مغلطاي في الإكمال (5/264) رقم1910:
=وقال الساجي: حدث عن قتادة بمناكير، يتكلمون في حفظه.
وقال الآجري في سؤالاته لأبي داود (1/370) رقم682:
=سمعت أبا داود يقول: سعيد بن بشير ضعيف الحديث+.
وقال في (2/251) في المصدر السابق: قال أبو داود: =كانوا تركوه. اتهموه بالقدر، وكان أبو الجماهر يرفع عنه القدر+.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في تاريخه ص49 رقم44 في ذكر أصحاب قتادة:
=قلت: فسعيد بن بشير؟ فقال: ضعيف+ يعني في قتادة.(1/238)
وفي تاريخ ابن محرز (1/192) قال: وسمعت يحيى _ وسئل عن سعيد بن بشير يروي عن قتادة؟ فقال يحيى _ وأنا أسمع _ دمشقي، ليس حديثه بكل ذاك. قيل ليحيى بن معين: أين سمع من قتادة؟ بالبصرة؟. قال: فأين؟ ثم قال يحيى بن معين: عنده أحاديث غرائب عن قتادة، ثم قال يحيى بن معين:
إنما هو هشام _ يعني الدستوائي _ وشعبة وسعيد _ يعني ابن أبي عروبة _ وشيبان _ ابن عبدالرحمن _ أي أن هؤلاء الأربعة هم الأئمة الأثبات في قتادة+(1).
وقال النسائي في الضعفاء والمتروكين ص126 رقم282: ضعيف.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة في الجرح والتعديل ص157 رقم223 في سؤالاته لعلي بن عبدالله بن المديني:
= سألت علياً عن سعيد بن بشير؟ فقال: كان ضعيفاً+.
وقال أبو الحسن بن القطان في =النظر في أحكام النظر بحاسة البصر ص167 رقم101:
=هذا حديث ضعيف؛ لأن سعيد بن بشير يضعف برواية المنكرات عن قتادة، وإن كان قد شهد له سبعة بالصدق، وابن عيينة بالحفظ، ولكنهم مع ذلك يضعفونه. وخالد بن دريك لم يدرك عائشة. قاله أبو داود، فالحديث منقطع، وهو رجل شامي عسقلاني مشهور، يروي عن ابن محيريز. قال أبو حاتم لا بأس به.
وروى هذا الحديث موسى بن أيوب، عن الوليد بإسناده، وقال فيه:
=عليها ثياب شامية رقاق، فأعرض عنها+.
ذكره أحمد بن عدي، وقال: =لا أعلم يرويه، عن قتادة غير سعيد بن بشير وقال فيه مرة: =عن خالد بن دريك، عن أم سلمة+ بدل =عن عائشة+ فهذه زيادة علة الاضطراب، وذكره أبو داود في المراسيل+اهـ.
وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (21/25) بسنده عن محمد بن محمد الحاكم الكبير أنه قال: أبو عبدالرحمن سعيد بن بشير، عن قتادة بن دعامة ومطر بن طهمان ليس بالقوي عندهم+اهـ.
__________
(1) وانظر منهج الإمام أبي عبدالرحمن النسائي (4/1810) حاشية.(1/239)
قلت: ومن هذه النقول عن أئمة هذا الشأن في حال سعيد بن بشير التي قد اتفقت في الجملة على أن سعيد بن بشير متروك الحديث؛ لروايته المنكرات عن قتادة، يتحقق أن حديث عائشة منكر؛ لتفرد سعيد بروايته عن قتادة وحاله ما ذكر.
ولأنه لم يتابعه على رفعه أحد من أصحاب قتادة الكبار، وغيرهم.
قال طارق بن عوض الله أبو معاذ في النقد البناء ص36:
=قد ظهر جلياً أنها رواية منكرة أو شاذة، والمنكر والشاذ لا ينظر فيهما، ولا يعتبر بهما+اهـ.
يؤيد هذا ما وقع في سنده من الاضطراب الذي ذكره أبو أحمد بن عدي، وأقره عليه المنذري وابن القطان، وابن التركماني وغيرهم من كونه رواه سعيد بن بشير عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة، عن رسول الله"، وتارة رواه قتادة، عن خالد بن دريك، عن أم سلمة عن رسول الله".
ومن علل حديث سعيد بن بشير أن فيه لفظة منكرة، وهي وصف عائشة لأختها أسماء بأن عليها ثياباً رقاقاً حين دخولها على رسول الله". وهذا ممتنع؛ لأن سِنَّ أسماء حين ذاك سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة _ كما نص على ذلك الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين في رسالة الحجاب ص32. والثياب الرقاق تصف ما سوى الوجه والكفين كما هو معلوم.
ومن العلل التي أعل بها هذا الحديث:
عنعنة قتادة بن دعامة؛ لأنه معروف بالتدليس. قال شعبة: كان قتادة إذا جاء ما سمع قال: =حدثنا+، وإذا جاء ما لم يسمع قال: =قال+.
على أن قتادة إذا لم يصرح بالسماع أتى بأشياء كالريح، قال الشعبي: قتادة حاطب ليل_ يعني إذا لم يصرح بالسماع.
قال الذهبي: هو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك+(1).
قلت: لكن حقق بعض العلماء أنه مشهور بالإرسال لا بالتدليس(2).
وعلى هذا فليست عنعنته هنا بعلة والله أعلم.
__________
(1) قاله خالد بن علي بن محمد العنبري في فتح الغفور ص12.
(2) انظر منهج المتقدمين في التدليس للشيخ ناصر الفهد ص82.(1/240)
وأعل أيضاً بالانقطاع؛ لأن خالد بن دريك لم يدرك عائشة، كما قاله أبو داود والمزي والعلائي وغيرهم.
ومن الأدلة الواضحة على بطلان ونكارة حديث السفور هذا مخالفته لما ثبت عن عائشة نفسها أنها كانت تصف للمحرمات كيفية لبس الجلباب بأن يسدلنه على وجوههن، وهن ممنوعات من النقاب حال الإحرام، وذلك فيما رواه الإمام أحمد في مسائل أبي داود له ص109 باب ما تلبس المرأة في إحرامها. قال:
حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، قال، قالت عائشة _ رضي الله عنها _: =تسدل المحرمة جلبابها من فوق رأسها على وجهها+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
ورواه سعيد بن منصور _ كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر (3/406) وعمدة القارئ للعيني (9/166) _ قال:
حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: =تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها+.
قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (2/272):
=وروى ابن أبي خيثمة من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أمه، قالت: كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية، فقلت لها: يا أم المؤمنين، هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة، ففرعت عائشة خمارها من صدرها، فغطت به وجهها+.
وقال ابن عبدالبر في الاستذكار (11/48) رقم 15374:
=وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أخبرتني أمي، وأختي، أنهما دخلتا على عائشة أم المؤمنين، فسألتاها: كيف تخمر المرأة وجهها؟ فأخذت أسفل خمارها، فغطت به وجهها، وعليها درج مدرج، وخمار حبشي+.
قلت: والذي في تاريخ ابن أبي خيثمة (1/92) رقم33، قال ابن أبي خيثمة:
=حدثنا محمد بن يزيد، قال، نا أبو بكر بن عياش، قال: نا إسماعيل بن أبي خالد، عن أخته، قالت: دخلت على عائشة، وعليها خمار أسود ودرع ورداء، وقد أدنت الخمار على وجهها. فقالت امرأة: أتفعلين هذا وأنت محرمة؟ فقالت: وما بأس بذاك+.
وقال ابن أبي خيثمة أيضاً (1/92) رقم35:(1/241)
=حدثنا سعيد بن يحيى، قال: نا أبي، قال: نا إسماعيل بن أبي خالد، عن أمه، قالت: دخلنا على عائشة أم المؤمنين يوم التروية، وقد نفلت نفلها إلى منىً، والناس يسلمون، وعليها درع ورداء وخمار أسود، فقلت لها: يا أم المؤمنين، على المرأة منا أن تغطي وجهها وهي محرمة؟ فرفعت عائشة خمارها من صدرها، فغطت به وجهها حتى وضعته على رأسها+.
إسناده حسن. سعيد بن يحيى هو ابن سعيد بن أبان الأموي أبو عثمان ثقة، وأبوه يحيى بن سعيد بن أبان ثقة.
وأما أم إسماعيل بن أبي خالد فلم أقف لها على ترجمة.
وأما أخته فاسمها سكينة، سماها يعقوب النسوي في تاريخه (2/229).
فكيف يصح أن تروي عائشة عن رسول الله"أنه يقول لأسماء أختها: =إن المرأة إذا بلغت المحيض لم ير منها إلا هذا وهذا+ وأشار إلى وجهه وكفيه.؟! وتخبر به الناس، ثم هي تخالفه، فتستر وجهها عن الرجال وتأمر وتفتي النساء أن يسدلن الحجاب على وجوههن حال الإحرام مع ثبوت منعهن من النقاب وهن محرمات؟!(1/242)
وجاء عن أسماء بنت أبي بكر بسند فيه مقال ما يبطل هذا الحديث جملة وهو أنها تمنع لبس الثياب الرقاق بعد ما عميت، وذلك فيما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/252) قال: أخبرنا إسماعيل بن عبدالله بن أبي أويس، حدثني أبي، عن هشام ابن عروة، أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مرويّة، وقوهيَّة رقاق، عتاق بعد ما كف بصرها. قال فلمستها بيدها، ثم قالت: أفّ! =ردوا عليه كسوته+ قال: فشق ذلك عليه وقال: =يا أمة، إنه لا يَشِفُّ. قالت: =إنها إن لم تَشِفَّ، فإنها تَصِفُ+ قال: فاشترى لها ثياباً مرويّة، وقوهيّة، فقبلتها. وقالت: =مثل هذا فاكسني+(1).
ومن الأدلة الساطعة على بطلان ونكارة حديث السفور هذا ما ثبت عن أسماء بنت أبي بكر نفسها أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، فقد روى الإمام مالك في الموطأ (2/328) من كتاب النكاح/ باب تخمير المحرم وجهه، وابن خزيمة في صحيحه (4/203) رقم2690، والحاكم في المستدرك (1/454).
من طريق هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت:
=كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+.
هذا لفظ الإمام مالك.
ولفظ ابن خزيمة والحاكم: =عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر _ رضي الله عنها _ قالت:
= كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك _ زاد الحاكم: =في الإحرام+.
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي.
__________
(1) رجال سنده: إسماعيل هو ابن عبدالله بن عبدالله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبدالله بن أبي أويس المدني/ صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه قاله الحافظ في التقريب. وأبوه أبو أويس عبدالله بن عبدالله المدني صدوق يهم قاله الحافظ في التقريب أيضاً.(1/243)
قلت: وهو كما قالا: إسناده صحيح، رجاله ثقات. فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوج هشام بن عروة ثقة. ولو كان عندها شيء عن الرسول" في جواز سفور المرأة عن وجهها بحضرة الأجانب ما غطت وجهها في الإحرام، ولا غيره.
أضف إلى هذا أن هذا الحديث رواه ثقتان عن قتادة، أن رسول الله" قال: =إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها، ويداها إلى المفصل+.
أخرجه أبو داود في المراسيل ص310 رقم437
قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام، عن قتادة به.
وقال ابن جرير في جامع البيان في تأويل القرآن (9/305) رقم25968:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: المسكتان والخاتم والمكحل، قال قتادة: وبلغني أن النبي"قال: =لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج يدها إلا هاهنا، وقبض نصف الذراع+.
وهو عند عبدالرزاق في التفسير (2/56) بهذا السند واللفظ إلا أنه قال:
=وقبض على نصف الذراع+.
فهشام هو الدستوائي الإمام الثقة الحافظ، ومعمر هو ابن راشد الإمام الثقة المشهور الحافظ قد خالفا سعيد بن بشير، حيث روياه عن قتادة، وقد رواه قتادة معضلاً، ليس فيه خالد بن دريك، ولا عائشة.
وهذا المعضل فيه نكارة أيضاً حيث إن لفظ الدستوائي:
=إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل+
ولفظ حديث معمر:
=لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُخرج يدها إلا إلى ها هنا وقبض نصف الذراع+اهـ.
فإن قيل: جاء عن أسماء بنت عميس _ رضي الله عنهما _ أنها قالت:(1/244)
دخل رسول الله"على عائشة بنت أبي بكر، وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله"قام فخرج. فقالت لها عائشة _ رضي الله عنها _: تَنَحِّيْ، فقد رأى رسول الله"أمراً كرهه، فتنحت، فدخل رسول الله"، فسألته عائشة _ رضي الله عنها _ لم قام؟ قال:
= أو لم تري إلى هيئتها؟! إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا+ وأخذ بكفيه، فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبدُ من كفه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبدُ إلا وجهه+.
أخرجه البيهقي في الكبرى (7/86)، والطبراني في الأوسط (9/179) رقم8389 والكبير (24/143) رقم378
من طريق عبدالله بن لهيعة، عن عياض بن عبدالله، أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري، يخبر عن أبيه _ أظنه _ عن أسماء بنت عميس، أنها قالت... الخ، هذا لفظ البيهقي.
ولفظ الطبراني في الأوسط: =عبيد بن رفاعة، عن أمه، عن أسماء..الخ وفيه:
=ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هكذا، وأخذ بكميه، فغطى بهما كفيه، حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه+.
وفي الكبير: = وعليها ثياب سابغة واسعة الأكمة.. الخ.
وفيه: = وأخذ كميه، فغطى بهما ظهر كفيه.. الخ.
قيل: هذا حديث منكر لم يصلح للاحتجاج، لوجوه:
الأول: أنه ضعف رواته. فقال البيهقي: إسناده ضعيف.
وقال الطبراني في الأوسط:
= لا يروي عن أسماء بنت عميس إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة+.
قلت: يعني أن تفرده لا يحتمل لضعفه.
والثاني: أن عياض بن عبدالله نقل العقيلي في الضعفاء الكبير (3/350) رقم1382 عن الإمام البخاري أنه قال فيه:
= عياض بن عبدالله بن سعد الفهري منكر الحديث+.
الثالث: الاختلاف في ألفاظه _ كما تقدم _ واضطراب سنده.
وقد نقد العلامة أبو معاذ في كتابه =النقد البناء لرواية عبدالله بن لهيعة لهذا الحديث، وأطال النفس فيها وأجاد وأفاد، ثم قال ص105:(1/245)
= وكون مسند ابن لهيعة أضعف من مرسل خالد بن دريك مما لا يشك فيه باحثٌ ناقدٌ فاهمٌ لهذا العلم عالمٌ بأصوله+اهـ.
وقال أبو معاذ ص15 كلمة الفصل في هذا الحديث بلفظ:
=واعلم يا أخي الكريم _ علمك الله الخير _ أن ما كتبته حول هذا الحديث من بحوث، وتحقيقات، ليست هي بنتَ الساعة ولا عفو الخاطر، وإنما هي نتيجة دراسة موسعة لهذا الحديث وطرقه مع الاطلاع على أقوال العلماء فيه من المتقدمين والمتأخرين، ومعرفةٍ بما خطته يراع أشهر العلماء المعاصرين.
وهذه البحوث والتحقيقات نتيجة اطلاع ومعرفة بمناهج الأئمة العارفين بالرجال والعلل، كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد بن حنبل وابن المديني وغيرهما، ومن جاء بعدهما من أئمة هذا الشأن كالبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والنسائي والدارقطني وابن عدي وغيرهم من الأئمة الكبار. ومن تبعهم وسلك سبيلهم ونسج على منوالهم ممن جاء بعدهم من المبرزين من العلماء المتأخرين كالذهبي وابن حجر وابن رجب وابن عبدالهادي وغيرهم _رحمهم الله جميعاً، ورضي عنهم أجمعين.
وقد يكون من نافلة القول أن أذكر هنا أني تأرجحتُ في الحكم على هذا الحديث أكثر من مرة حتى استقر الأمر بعد تلك الدراسة الموسعة مع توخي طريق الإنصاف والبعد عن طريق الاعتساف إلى أن زاد عندي وضوحاً ضعف الحديث وعدم صلاحيته للحجة، وانجابت تلك الغياية، ولاحت بدائع، واستثيرت عجائب، وفلجت حجة ضَعفِهِ، وثلجت النفس بها، وانزاح ما كان يختلجني من الشبه، بحيث لو عرض ذلك على من ذهب إلى تقوية الحديث ووقف على النقض الوارد عليه لم يسعه إلا الإقرار به، والإذعان له _ إن شاء الله تعالى _ وهذا مانرجوه+اهـ.
شبهة وجوابها
عن قيس بن أبي حازم، قال: دخلت مع أبي على أبي بكر _ وكان رجلاً خفيف اللحم أبيض، فرأيت يدي أسماء موشومة+.
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/283) والطبراني في الكبير (24/131) رقم359 وابن أبي خيثمة في تاريخه (3/51) رقم3785، 3789.(1/246)
من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: فذكره.
هذا لفظ ابن سعد. ولفظ ابن أبي خيثمة:
=فرأيت أسماء بيضاء موشومة الذراعين، ورأيت أبا بكر أبيضاً نحيفاً+.
ولفظ الطبراني:
=عن قيس بن أبي حازم، قال: دخلنا على أبي بكر÷في مرضه، فرأينا امرأة بيضاء موشومة اليدين، تذب عنه، وهي أسماء بنت عميس+.
قال الهيثمي في المجمع (5/170): رجاله رجال الصحيح.
وقال الحافظ في فتح الباري (10/376):
=أخرج الطبري بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: =دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق÷، فرأيت يد أسماء موشومة+(1).
قال دعاة السفور: هذا الأثر يدل على أن أسماء كانت كاشفة لوجهها حال دخول قيس بن أبي حازم مع أبيه عليها؛ إذ لو كانت ساترة لوجهها ما عرف بياضها.
وأجيب بأنه لا يدل على أنها كانت كاشفة لوجهها في تلك الحادثة من وجوه:
الأول: أن الحديث ليس فيه ذكر أنهما رأيا وجه أسماء البتة، ولا يجوز أن يحمل ما لا يتحمله. فقد يعرف البياض من رؤية اليدين أو نحو ذلك مما يظهر ضرورة.
والثاني: أن إسلام أسماء قديم، وقد هاجرت إلى الحبشة والمدينة فهي من المهاجرات الأول. وقد قالت عائشة _ رضي الله عنها _: =يرحم الله نساء المهاجرات الأُول، لما أنزل الله _ عز وجل _ [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] شققن مروطهن فاختمرن بها+(2).
قال الحافظ في الفتح (8/490): أي غطين وجوههن+.
وقال العيني في عمدة القارئ (15/348): أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها+.
ومن شبه دعاة السفور والتبرج
__________
(1) قال أهل اللغة: الوَشْم بفتح، فسكون: أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتي يسيل الدم ثم يحشى بنورة أو غيرها فيخضر+ قاله الحافظ في الفتح (10/372).
(2) أخرجه البخاري في الصحيح (3/13) وغيره.(1/247)
تعلقهم بحديث جابر بن عبدالله _ رضي الله عنهما _ في شهوده صلاة العيد مع رسول الله"، وحضوره موعظة الرسول"للنساء في تلك الحادثة ووصفه للمرأة التي خاطبت الرسول" بأنها سفعاء الخدين. قالوا: وهذا الوصف يدل على أنها كانت كاشفة الوجه؛ إذ لو كانت ساترة له ما علم وصفها بذلك.
قلت حديث جابر÷الوارد في ذلك جاء بلفظ:
= عن جابر بن عبدالله، قال: شهدت الصلاة مع النبي"في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخُطبة بغير أذان ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متوكئاً على بلال فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكرهم، وحثهم على طاعته، ثم مضى إلى النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن، وحمد الله وأثنى عليه، وحثهن على طاعته، ثم قال: =تصدقن؛ فإن أكثركن حطب جهنم+ فقالت امرأة من سفلة الناس سفعاء الخدين: لم يا رسول الله؟ قال: =لأنكن تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير+. فجعلن ينزعن حليهن، وقلائدهن وقرطهن، وخواتيمهن، يقذفن به في ثوب بلال، يتصدقن به+.
أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/318) رقم14420، ومسلم في الصحيح (2/603) رقم 4_855 والنسائي في المجتبى (3/186) والكبرى (1/549) رقم1784، 9255، وعشرة النساء ص202 رقم377، والدارمي ص377، والبيهقي في الكبرى (3/296، 300) وابن خزيمة في الصحيح (2/357) رقم1460، وأبو نعيم في الحلية (3/324).
من طرق عن عبدالملك بن أبي سليمان، قال: نا عطاء بن أبي رباح، عن جابر به.
هذا لفظ أحمد، والنسائي والدارمي، والبيهقي وأبي نعيم.
ولفظ مسلم: =فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين+.
وكذلك مثله لفظ ابن خزيمة.
قال أبو نعيم: هذا حديث صحيح متفق عليه من حديث عطاء.. الخ.
قلت: هذا الحديث لا حجة فيه على جواز كشف وجوه النساء بحضرة الرجال الأجانب من وجوه:(1/248)
الأول: أنه ليس فيه ما يدل على أن النبي"رآها كاشفة عن وجهها وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث: أن جابراً رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصداً، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه"رآها سافرة، وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك+. أفاده الإمام الشنقيطي(1).
الوجه الثاني: مما يدل على أن جابراً _ رضي الله عنهما _ قد انفرد برؤية وجه المرأة التي خاطبت النبي": أن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري _رضي الله عنهم_ رووا خُطبة النبي", وموعظته للنساء ولم يذكر واحد منهم ما ذكره جابر÷من سفور تلك المرأة وصفة خديها أفاده الإمام حمود التويجري(2).
= ولم يقل أحد ممن روى القصة المذكورة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور+(3).
الوجه الثالث: أنه جاء في الحديث وصف المرأة: = أنها من سِطَةِ النساء+.
وفسر بعض العلماء السطة بالعدل الخيار، وبعضهم فسره بالجلوس وسط القوم أي توسطهم بالجلوس.
قال الإمام الشنقيطي: = وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابراً ذكر سفعة خديها؛ ليشير أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها؛ لأن سفعة الخدين قبح في النساء. قال النووي: أي فيها تغير وسواد+.
وقال الجوهري في صحاحه: = والسفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة: سفعاء لما في عنقها من السفعة. قال حميد بن ثور:
من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما
__________
(1) أضواء البيان (6/598).
(2) الصارم المشهور ص220.
(3) أضواء البيان (6/598).(1/249)
قال مقيده _ عفا الله عنه وغفر له _: السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب: أنها سواد وتغير في الوجه من مرض أو مصيبة أو سفر شديد...
والمقصود أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه، وبعض أهل العلم يقول: إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها، لها حكم القواعد التي لا يرجون نكاحاً+(1).
قلت: ويؤيد هذا أن جابراً وصفها بأنها =من سفلة النساء، كما في رواية أحمد، والنسائي والدارمي والبيهقي وأبي نعيم.
قال السندي في حاشيته على النسائي: =من سَفِلَة النساء+: بفتح السين وكسر الفاء، الساقطة من الناس+.
وقال ابن الأثير في النهاية (2/376):
=سفل+ في حديث صلاة العيد =فقالت امرأة من سَفِلَة النساء+ السَفِلة بفتح السين وكسر الفاء السُّقاط من الناس، والسفالة النذالة. يقال: هو من السَّفِلة، ولا يقال:
هو سَفِلة. والعامة تقول: رجل سِفْلة الناس، فينقل كسرة الفاء إلى السين+.
وعلى هذا التفسير تكون المرأة التي خاطبت الرسول"من سفلة الناس وسُقَّاطهم، فلا تجيد ستر وجهها عن الرجال، ولا تتحفظ كما يتحفظ غيرها من العاقلات، فصادف أن لحظها جابر، دون غيره من الصحابة.
وعلى أي حال فلا حجة فيه لدعاة السفور والتبرج البتة.
يوضح هذا حديث عبدالله بن مسعود"والذي جاء فيه وصفها أنها ليست من عِلْيَة النساء أو من أعقلهن+.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده (1/436) رقم4151، والطيالسي في مسنده ص50 رقم384 والشاشي في مسنده (2/295) رقم871، وأبو يعلى (9/187) رقم5284، وابن حبان (8/115) رقم3323 من طريق شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن ذر، عن وائل بن مهانة، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله"للنساء:
=تصدقن؛ فإنكن أكثر أهل النار+ فقالت امرأة ليست من عِلْيَة النساء أو من أعقلهن: يا رسول الله، فيم؟ أو لم أو بم؟ قال: =إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير+.
__________
(1) أضواء البيان (6/599).(1/250)
وفي رواية عن أحمد (1/436) رقم4152، قال:
=ثنا بهز، ثنا شعبة، حدثني الحكم، عن ذر، عن وائل بن مهانة من تيم الرباب من أصحاب عبدالله، عن عبدالله، قال: قال رسول الله"للنساء:
=تصدقن؛ فإنكن أكثر أهل النار+. فقالت امرأة ليست من عِلْيَة النساء: فيمَ، وبم، ولم.. فذكر الحديث.
هذا لفظ أحمد والطيالسي والشاشي.
ولفظ أبي يعلى: =ليست من عِلْيَة النساء+ ولفظ ابن حبان مثله.
وأخرجه أحمد (1/423) رقم4019، وأبو يعلى في مسنده (9/49_77) رقم5112_5144 والنسائي في الكبرى (5/398) رقم9257، وفي عشرة النساء ص203 رقم379، والحاكم في المستدرك (2/190) و (4/603) والحميدي في مسنده (1/51) رقم92، وابن عبدالبر في التمهيد (3/325) من طريق منصور، عن ذر، عن وائل بن مهانة، عن عبدالله بن مسعود به.
وقد اتفقت ألفاظهم على أنها: =ليست من عِلْيَة النساء+
ومن طريق منصور به أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/110) وأحمد في المسند (1/376) رقم3569 ، ورواه الإمام أحمد (1/425) رقم4037، من طريق الأعمش، عن ذر، عن وائل بن مهانة، عن عبدالله، قال: قال رسول الله":
=يا معشر النساء... وفيه: =فقامت امرأة ليست من عِلْيَة النساء+.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وفي رواية قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
وقال أحمد شاكر في شرح المسند (6/48) رقم4019،3569:
إسناده صحيح.
قلت: لعل إسناده حسن. لأن وائل بن مهانة وهو التيمي تيم الرباب من أصحاب عبدالله بن مسعود _ كما تقدم عند أحمد في رواية =بهز+ تعريفُه بهذا. وقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/495)، وقال أحمد شاكر: تابعي ثقة رقم3569
وقال الحافظ الذهبي في الكاشف (3/206) رقم6147: وثق.
الحاصل:
أنه اجتمع في هذه المرأة أوصاف تقتضي عدم التزامها بالحجاب، وهذه الأوصاف كونها:
1_ من سفلة النساء، أي من سُقَّاطهن.(1/251)
2_ أنها سعفاء الخدين، وهذا يكون غالباً فيمن تقاعدت عن النكاح، فليس عليها حرج أن تضع ثيابها من غير تبرج.
3_ ليست من عِلْيَة النساء، أي ليست شريفة ولا رفيعة.
4_ ليست من أعقل النساء. أي في عقلها نقص.
قال إسماعيل بن حماد الجوهري في صحاحه (6/2435):
=وفلان من عِلْيَة الناس. وهو جمع رجل عليٍّ، أي شريف رفيع+اهـ.
فإذا كانت المرأة بهذه المنزلة من الأوصاف، فقد تتساهل بحجابها، ولا تلتزم به كالتزام الشريفات العاقلات.
5_ أنه ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن أم عطية، قالت: =أمرنا أن نخرج الحيُض يوم العيد وذوات الخدور، يشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيُض المصلى، فقالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب، قال: =تلبسها صاحبتها من جلبابها+(1).
قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (2/346):
=الجلباب قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: هو الرداء، ومعنى ذلك: أنه للمرأة كالرداء للرجل، يستر أعلاها إلا أنه يقنعها فوق رأسها، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه.
وقد فسر عَبِيدة السلماني قول الله _ عز وجل _ [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] بأنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها. وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويُرى من المرأة وجهها وكفاها، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] ثم أمرت بستر وجهها وكفيها، وكان الأمر بذلك مختصاً بالحرائر دون الإماء... فصارت الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب، فلهذا سئل النبي"لما أمر النساء بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأة منا ليس لها جلباب، فقال:
= لتبسها صاحبتها من جلبابها+ يعني تعيرها جلباباً تخرج فيه...
__________
(1) صحيح البخاري (1/93) كتاب الصلاة _ باب وجوب الصلاة في الثياب.(1/252)
فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس لا للصلاة، ويدل عليه: أن الأمر بالخروج دخل فيه الحُيض وغيرهن، وقد تكون فاقدةُ الجلباب حائضاً، فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال، وليس من باب أخذ الزينة للصلاة... ولو كانت المرأة حائضاً لا تصلي، فإنها لا تخرج بدون جلباب+اهـ باختصار.
وعرف ابن رجب الجلباب في موضع آخر من فتح الباري (2/141) بقوله:
=والعواتق جمع عاتق، وهي المرأة البكر البالغ التي لم تتزوج، والجلباب هي الملاءة المغطية للبدن كله، تلبس فوق الثياب، وتسميها العامة الإزار+اهـ.
فهذه أم عطية _ رضي الله عنها_ تخبر عن النبي"أنه أمر الحُيض، والأبكار من النساء بشهود صلاة العيد مع المسلمين، ولما كان مستقراً عندها أن النساء لا يخرجن سافرات الوجوه بحضرة الرجال، وأنه لابد من ستر وجوههن عنهم، وليس كل واحدة تملك جلباباً تستتر به قالت لرسول الله": إنك أمرت النساء بشهود صلاة العيد مع جماعة المسلمين وليس كل امرأة يتيسر لها ما تتجلبب به عن الرجال أجابها بقوله مقرراً لها على قولها: لتعيرها صاحبتها من جلبابها، ولم يقل: يجوز لها الخروج إلى ذلك سافرة الوجه.
6_ هب أن هذه المرأة المذكورة كانت سافرة عن وجهها في ذلك الوقت فإنه يجب حملها على ما كان قبل نزول الحجاب، لأنهن كن قبل نزوله يخرجن إلى مجامع الرجال سافرات الوجوه وبعد نزوله حجبن وجوههن عنهم في حال الخروج كما تقرر عند أهل العلم، يؤيده أن صلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة، وآية الحجاب من سورة الأحزاب نزلت سنة ثلاث من الهجرة. قال الحافظ في الفتح (8/462):
=فإن الحجاب كان في قول أبي عبيدة وطائفة في ذي القعدة سنة ثلاث، وعند آخرين فيها سنة أربع، وصححه الدمياطي،ـ وقيل سنة خمس+اهـ(1).
__________
(1) انظر حجاب المسلمة للبرازي (1/162).(1/253)
7_ احتمال أن تكون المرأة من الإماء؛ لوصفها بسعفاء الخدين وكونها من سفلة النساء، وليست من علية النساء، ولا من أعقلهن وقد فسر أهل اللغة السفع في الخدين أنه تغير وسواد. والإماء قد يغتفر في حقهن ما لا يغتفر في حق الحرائر. والعلم عند الله.(1)
ومن شبه دعاة التبرج والسفور نظر الفضل للخثعمية
روى الإمام مالك في الموطأ (1/359) رقم97، والبخاري في الصحيح (2/218)، ومسلم في الصحيح (2/973) رقم1334، والنسائي في المجتبى (5/118) وأحمد في المسند (1/359)، كلهم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبدالله بن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: كان الفضل رديف النبي"، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبي" يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: =نعم+ وذلك في حجة الوداع+.
وفي رواية للبخاري (7/126) في كتاب الاستئذان:
=وكان الفضل رجلاً وضيئاً، فوقف النبي"للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله"، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي" والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخاً كبير لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: =نعم+.
وفي رواية عند النسائي (5/119) والإمام أحمد (1/251، 213، وأبي يعلى (12/97) رقم6731 وصفت المرأة بأنها حسناء.
وفي رواية عند أحمد (1/211) رقم1805 بسند منقطع: عن الحكم بن عتيبة، عن ابن عباس وصفت بأنها جميلة.
وفي رواية لأحمد (1/75) رقم562، والترمذي في الجامع (3/232) رقم185
جاء وصفها بأنها جارية شابة+.
__________
(1) انظر أحكام النساء للعدوي ص55.(1/254)
قالوا: كون هذه المرأة وصفت بأنها جارية _ شابة _ حسناء _ جميلة _ وضيئة يدل على أنها كانت كاشفة لوجهها إذ لا تعرف تلك الأوصاف إلا بسفورها عن وجهها، ولم ينقل أن النبي"أمرها بالاحتجاب.
وأجيب بأن الاستدلال بهذا الحديث على الدعوى المذكورة ضعيف جداً، وذلك من وجوه:
الأول: من جهة إنكار الرسول"على الفضل بن عباس نظره إلى المرأة وذلك مثل قول الفضل: =فجعلت أنظر إليها، فتناول رسول الله"بوجهي يصرفني عنها+. كما عند أحمد (1/213) رقم1823
ومثل قوله: =فكنت أنظر إليها، فنظر إليَّ النبي"، فقلب وجهي عن وجهها، ثم أعدت النظر، فقلب وجهي عن وجهها، حتى فعل ذلك ثلاثاً وأنا لا أنتهي+ كما عند أحمد (1/211) رقم1805 بسند منقطع.
وكقوله: =فأخذ رسول"الفضل فحول وجهه من الشق الآخر+.
رواه أحمد (1/251) رقم2266.
وفي رواية:
=فجعل رسول الله"يصرف وجهي عنها+ كما عند أحمد (1/213) رقم1828
وعند أحمد أيضاً (1/356) رقم3350
=أن النبي"رأى الفضل بن عباس يلاحظ امرأة عشية عرفة، فقال:
هكذا بيده على عين الغلام+.
وفي أخرى عند أحمد (1/329) رقم3042 =فجعل الفتى يلاحظ النساء، وينظر إليهن قال: وجعل رسول الله"يصرف وجهه بيده من خلفه مراراً... الحديث
وهو عند أبي يعلى كذلك (4/330) رقم2441
وفي رواية: =فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها+ كما عند البخاري في الصحيح (7/126)
وفي رواية: =قال: =وقد لوى عنق الفضل. فقال له العباس: يا رسول الله، لم لويت عنق ابن أخيك؟ قال:
=رأيت شاباً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما+.
رواه أحمد (1/75) رقم562، والبزار في المسند (2/164) رقم532، والضياء المقدسي في المختارة (2/240) رقم619
ولفظ حديث جابر بن عبدالله _ رضي الله عنهما _ كما عند مسلم رقم1218، وأبي داود رقم1905(1/255)
=مَرَّ الظُعُن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله" يده على وجه الفضل، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، وحول رسول الله"يده إلى الشق الآخر، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر+.
وجاء حديث علي بن أبي طالب÷عند أحمد (1/157) رقم1347
بلفظ: =ولوى عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول الله، مالك لويت عنق ابن عمك؟ قال:
=رأيت شاباً وشابة، فخفت الشيطان عليهما+.
فهل بعد هذا يقول منصف بجواز سفور النساء عن وجوههن بين الرجال الأجانب مع وقوفه على منع الرسول" ابنَ عمه =الفضل بن عباس+ في مسارقته النظر إلى النساء، والإنكار عليه بالفعل؟!
وهل يمنعه الرسول"من فعل شيء مباح؟!
أليس الممنوع عند الفقهاء قسيم المحظور والحرام؟
يقول الإمام ابن القيم×في إنكار الرسول"لفعل الفضل المذكور:
=وفي الصحيح أن الفضل بن عباس _ رضي الله عنهما _ كان رديف النبي"يوم النحر من مزدلفة إلى منى، فمرت ظُعُنٌ يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فحول رسول"رأسه إلى الشق الآخر+.
وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزاً لأقره عليه+(1).
وقال النووي في شرح مسلم في فوائد هذا الحديث:
=ومنها: تحريم النظر إلى الأجنبية، ومنها: إزالة المنكر لمن أمكنه+(2).
وقال الحافظ ابن حجر×:
=وفيه منع النظر إلى الأجنبيات، وغض البصر. قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة. قال: وعندي أن فِعْلَهُ"إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول. ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظراً منكراً، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك+(3).
وقال العيني في ذلك:
= وفيه منع النظر عن الأجنبيات، وغض البصر، وفيه إزالة المنكر باليد+(4).
ونقل البناء في بلوغ الأماني مثل ما قال النووي المتقدم مقرراً له(5).
__________
(1) روضة المحبين ص109_110.
(2) شرح مسلم (9/98).
(3) فتح الباري (4/70).
(4) عمدة القاري (10/216).
(5) بلوغ الأماني شرح الفتح الرباني (11/28).(1/256)
وعلى هذا فقد تحققنا أن النظر إلى النساء الأجنبيات ممنوع، ومنكر ظاهر، وذلك لما يفضي إليه من الفتنة التي تجر إلى الوقوع في الرذائل والمحرمات. وهذا يقتضي وجوب ستر المنظور، ويقتضي عدم كشف الخثعمية لوجهها، وعدم إقرار الرسول"لها على الكشف، وقد نزل عليه من ربه الأمر بأن يقول: لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين+.
قال العلامة حمود التويجري ×:
= وفي تعليله خوف الفتنة على =الفضل+ بشباب المرأة إشعار بأنها لم تكشف وجهها بمرأى من النبي"، وانه لم ير ما ذكر عنها من الحسن وإلا فالحسن أدعى إلى الفتنة من الشباب، والتعليل به أقوى من التعليل بالشباب، ولما لم يعلل النبي"بذلك دل على أنها كانت ساترة لوجهها. والله أعلم+اهـ(1).
قلت: ويؤيد هذا:
الوجه الثاني: أنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبي"رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة. وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها حسناء أو وضيئة لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه"أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد منها فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين+ قاله الإمام الشنقيطي×(2).
ويحتمل أنه أراد حسن قوامها وقدها ووضاءة ما ظهر منها من أطرافها. قاله العلامة التويجري(3).
يوضح هذا:
الوجه الثالث: وهو أن الذين شاهدوا قصة =الفضل+ و =الخثعمية+ لم يذكروا حسن المرأة ووضاءتها، ولم يذكروا أنها كانت كاشفة عن وجهها، فدل هذا على أنها كانت مستترة عنهم كما في رواية علي بن أبي طالب وجابر بن عبدالله _ رضي الله عنهم_(4).
__________
(1) الصارم المشهور ص225.
(2) أضواء البيان (6/600).
(3) الصارم المشهور ص224.
(4) الصارم المشهور ص225.(1/257)
الوجه الرابع: هب أن هذه المرأة كانت كاشفة لوجهها حين سؤالها المذكور، فليس فيه حجة لدعاة التبرج والسفور أيضاً؛ لأنه جاء في بعض روايات الحديث أن أباها كان يعرضها على الرسول"رغبة منه أن يتزوجها، والنظر على المخطوبة جائز شرعاً.
فقد روى أبو يعلى في مسنده (12/97) رقم6731:
حدثنا أبو بكر عبدالله بن محمد، حدثنا قبيصة بن عقبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، قال:
كنت ردف رسول الله"، وأعرابي معه ابنة له حسناء، فجعل يعرضها لرسول الله"رجاء أن يتزوجها. قال: فجعلت ألتفت إليها، وجعل رسول الله"يأخذ برأسي، فيلويه، وكان رسول الله"يلبي حتى رمي جمرة العقبة+.
وعزاه الحافظ ابن حجر لأبي بكر بن أبي شيبة _ كما في المطالب العالية/ مجلد 8(15/174) رقم1593، وقال في الفتح (4/68) رقم1855:
=قول الشابة: إن أبي لعلها أرادت به جدها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي"؛ ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه..الخ+.
ثم قال: إن إسنادها قوي.
وقال الهيثمي في المجمع (4/277): رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح+.
الوجه الثاني: أنه ورد في بعض روايات هذا الحديث _ كما عند أحمد (1/213) رقم1828، و (1/277) رقم2507 وصف أبي المرأة أنه أعرابي، والأعراب قد تخفى عليهم بعض الأحكام الشرعية وذلك مثل الذي بال في المسجد ونحوه. فلا يبعد أن يكون قد خفي على هذا الأعرابي وبنته ما يجب على النساء من وجوب ستر وجوههن عن الرجال الأجانب، فحصل منها بعض التساهل في ستر وجهها.
وعلى هذا يكون ما حصل منها من التساهل واقعة عين وحال لا عموم لها، وقد تطرق إليها من الاحتمالات ما يقضي أنها غير صالحة للاستدلال فضلاً أن تكون قاضية على النصوص والدلائل على فريضة احتجاب النساء عن الرجال الأجانب. والعلم عند الله.(1/258)
فإن قيل: وعلى هذا يكون النبي"قد رآها كاشفة لوجهها، ولم ينقل عنه أنه أمرها بستره؟
قيل: لعل النبي"أمرها بعد ذلك؛ فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر؛ إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم. وروى مسلم وأبو داود عن جرير بن عبدالله البجلي÷، قال: سألت رسول الله"عن نظر الفجأة؟ فقال: =اصرف بصرك+ أو قال: فأمرني أن أصرف بصري أفاده سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في رسالة الحجاب ص33.
هذا وقد أجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن الخثعمية كانت محرمة. قال: والمحرمة لا تغطي وجهها؛ لأنها منهية عنه.
وهذا جواب ساقط لا تعويل عليه لأن تغطية وجه المحرمة بحضرة الرجال الأجانب فرض عليها بما سوى النقاب بالإجماع، ولم تنه عن تغطية وجهها بغيره البتة.
قال ابن حزم في المحلى (7/102) مسألة رقم828:
=فقد كذبوا، وما نهيت المرأة عن تغطية وجهها، بل مباح لها في الإحرام _ وإن نهيت عن النقاب فقط+.
الوجه الخامس: أنه جاء في محكم التنزيل قول الله _ تعالى _:
[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ] (الأحزاب: 59).
وقوله سبحانه:
[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] (المائدة:76).
وقال _ جل وعلا _:
[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44).
ففي آية الأحزاب الأمر باحتجاب النساء عن الرجال الأجانب.
وآية المائدة فيها الأمر بإبلاغ ما أنزل إليه من ربه، وإن لم يفعل فما بلغ رسالته.
وفي آية النحل بيان الحكمة والعلة من إنزال الذكر إليه وهي البيان للناس ما نزل إليهم.(1/259)
فهذه الآيات الثلاث تمنع منعاً باتاً أن يكون الرسول"رأى المرأة كاشفة لوجهها ولم يأمرها بستره عن الرجال الأجانب؛ لأن كشف وجه المرأة بين الرجال الأجانب منكر ظاهر، والمنكر لا يمكن أن يسكت عنه" وهو المأمور بتبليغ الناس والبيان لهم ما أنزل إليهم من ربهم.
وعلى هذا نقول: لا تخلو حال الخثعمية من ثلاث أحوال زيادة على الاحتمالات السابقة:
إما أن تكون ساترة لوجهها، وفي هذه الحال لا تحتاج إلى بيان وتبليغ الأمر بالاحتجاب.
وإما أن تكون كاشفة لوجهها إلا أنها فهمت من صرف النبي"وجه =الفضل ابن العباس+ عنها وتغطية وجهه، ولي رقبته عن إلى الشق الآخر، فغطت وجهها فاكتفى بذلك النبي"عن أمرها بالحجاب.
وإما أن تكون كاشفة لوجهها، ويكون النبي"قد بين لها وبلغها بستر وجهها إشارة أو قولاً. والعلم عند الله.
ومن الشبه حديث عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهما _ بلفظ:
=كان النساء والرجال يتوضئون على عهد رسول الله"من إناء واحد ويشرعون فيه جميعاً+.
رواه أحمد (2/142) رقم6283، وقال أحمد شاكر في شرح المسند (9/98) رقم6283:
=إسناده صحيح... ثم قال:
=وهذا الحديث وما في معناه يريد أن يتمسك به السخفاء في عصرنا ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يريدون أن يستدلوا به على جواز كشف المرأة ذراعيها وغير ذلك أمام الرجال، وأن ينكروا ما أمر الله به ورسوله من حجاب المرأة وتصونها عن أن تختلط بالرجال غير المحارم! حتى لقد سمعت أنا من هذا اللغو من رجل ابتلي المسلمون وابتلي الأزهر بأن رسم من =العلماء+! يريد المسكين أن يكون =مجدداً+ وأن يرضى عنه المتفرنجون والنساء، وعبيد النساء.(1/260)
ولقد كذبوا، وكذب هذا =العالم+ المسكين! فما في حديث ابن عمر على اختلاف رواياته شيء يدل على ما يريدون من سقط القول. وإنما يريد ابن عمر الرد على من ادعى كراهية الوضوء أو الغسل بفضل المرأة، ويستدل بذلك على أن النهي عن ذلك منسوخ، فأراد أن يبين أن وضوء الرجل والمرأة من الإناء الواحد معاً، أو غسلهما معاً، ليس فيه شيء، وأنهم كانوا يفعلونه على عهد رسول الله"، لا يرون به بأساً، وأقرب لفظ إلى هذا رواية الدارقطني: =يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد فهو حين يقول: =كنا نتوضأ رجالاً ونساءً+، أو =كنا نتوضأ نحن والنساء+، أو ما إلى ذلك من العبارات _ لا يريد اختلاط النساء بالرجال في مجموعة واحدة أو مجموعات، يرى فيها الرجال من النساء الأذرع والأعضاد والصدور والأعناق، مما لا بد من كشفه حين الوضوء، وإنما يريد التوزيع أي كل رجل مع أهله، وفي بيته وبين محارمه. وهذا بديهي معلوم من الدين بالضرورة.
ولذلك ترجم البخاري في الصحيح (1/258) على روايته هذا الحديث: =باب وضوء الرجل مع امرأته+، فحديث ابن عمر في هذا كحديث عائشة: =كنت أغتسل أنا وسول الله"من إناء واحد، تختلف فيه أيدينا من الجنابة+ رواه أحمد والشيخان كما في المنتقى رقم18. ولو عقل هؤلاء الجاهلون الأجرياء، وهذا =العالم+ الجاهل المجدد! لفكروا:
أين كان في المدينة على عهد رسول الله"ميضأة عامة يجتمع فيها الرجال والنساء على النحو الذي فهموا بعقولهم النيرة الذكية!! فالمعروف أنهم كانوا يستقون من الآبار التي كانت في المدينة رجالاً ونساءً، والعهد بالصحابة _ رضي الله عنهم _ وبمن بعدهم من التابعين وتابعيهم المؤمنين المتصونين إلى عصرنا هذا، أن يتحرز الرجال فلا يظهروا على شيء من عورات النساء التي أمر الله بسترها، وأن يحترز النساء فلا يظهرن ما أمر الله بستره، وقد رأينا هذا في المدينة وأهلها _ صانها الله عن دخول الفجور الذي ابتلي به أكثر بلاد المسلمين+اهـ.(1/261)
ومن الشبه ادعاء أن في تغطية وجوه النساء عن الرجال الأجانب اختلافاً بين أهل العلم
تقدم نقل نصوص أئمة أهل العلم بحروفها على أن احتجاب النساء عن الرجال الأجانب أمر متفق عليه عندهم، لا خلاف فيه، إلا خلافاً شاذاً قد بني على شبه باطلة، وقد تمسك به دعاة السفور وأذنابهم من أهل القلوب المريضة وهو خلاف لا يعول عليه؛ لمخالفته للإجماع، ولأنه نشأ من عدم التفريق بين عورة =الصلاة+ و =عورة النظر+، ومن شبه لا حقيقة لها في الواقع.
وإليك بعض النماذج من تصريح أئمة أهل العلم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم الذين نصوا على التفريق بين عورة المرأة في الصلاة، وبين عورتها في باب النظر، حيث صرحوا بأن وجهها يغطى ويستر عن الرجال الأجانب مطلقاً، سواء قيل: إنه عورة في الصلاة أم ليس عورة فيها، وأنه لارتباط بينهما لا طرداً ولا عكساً.
واعلم أن المقام يستدعي تكرار بعض أقوال أهل العلم هنا، فأرجو من القارئ الكريم عدم استثقال ذلك، ومن الأولى أن نبدأ بإيراد نصوص أئمة الحنفية _ رحمهم الله تعالى _ وذلك على النحو التالي:
=نص الإسبيجاني والمرغيناني والموصلي على أن وجه المرأة داخل الصلاة ليس بعورة، وأنه عورة خارجها+ ورجح في شرح =المنية+ أن الوجه عورة مطلقاً، وقال: أما عند وجود الأجانب، فالإرخاء واجب على المُحْرِمَة عند الإمكان+/ حاشية إعلاء السنن للتهانوي (2/141)+.
ونقل أبو مصعب فريد بن أمين الهنداوي في كتابه =اللباب في فرضية الحجاب+ ص139 عن الشيخ أحمد عز الدين البيانوي×في كتابه =الفتن+ أنه قال:
=قول الأئمة: =عند عدم خوف الفتنة+ إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور =عدم خوف الفتنة+ منهم جميعاً، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة+اهـ.
وجاء أيضاً في =الهدية العلائية+:(1/262)
=والنظر إلى ملاءة الأجنبية بشهوة حرام، أما بدونها فلا بأس، ولو إلى جسدها المستور بثياب لا تصف، ولا يظهر حجمها+اهـ.
قلت: البعض يخاف من لفظة: =عند خوف الفتنة+ مستدلين أن معنى هذا أنه عند عدم خوف الفتنة يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، وهذا من غريب وعجيب الاستدلالات؛ فإن الله _ جل وعز _ عندما أوجب على المرأة، وفرض عليها ستر وجهها إنما كان ذلك منعاً وسداً لباب الفتنة الذي يترتب على كشف الوجه الذي هو موضع =الفتنة+ بل هو =الفتنة بكل سِحْرِها+، فلا يتصور إطلاقاً، وهذا أمحل المحال أن تؤمن =الفتنة+ عند جماهير الناس قاطبة، كيف ذلك والله أوجب على المرأة ستر الوجه، بل فرضه على أمهات المؤمنين زوجات النبي"، وذلك زمن الصحابة _ رضي الله عنهم _ الذين هم خير من أقَلَّتْهُمُ الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، فما القول فيمن دونهم علماً وورعاً وخوفاً وإنابة، وخشية لله تعالى، فثبت المطلوب وهو ستر الوجه عند خوف =الفتنة+ والفتنة واقعة لا محالة، لا يشك في ذلك إلا مكابر، ومنكر للحقائق والواقع. وعليه اتفاق الأئمة _ رضوان الله عليهم أجمعين _؛ لأن الفتنة أمرها محقق لا تحتاج إلى إراد حجة، أو إقامة برهان أو تقديم دليل، ولا يمتري في ذلك إلا كل من ينكر الشمس في رابعة النهار+.اهـ. وقد عزا البيانوي هذا الكلام للشيخ محمد أديب كلكل في كتابه =فقه النظر+.
=وجاء في الدر المختار/ هامش رد المحتار(3/261):
=يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة ليسمعها أجنبي، أو كشفت وجهها لغير محرم+.
وجاء فيه كذلك =رد المحتار على الدر المختار (1/272) قول الطحاوي:
=وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه، وإن امن الشهوة؛ لأنه أغلظ+(1).
__________
(1) نقلاً من كتاب =عودة الحجاب للمقدم محمد بن إسماعيل (3//420،421).(1/263)
ونقل فريد الهنداوي في اللباب في فرضية الحجاب ص141 عن صاحب =درر المنتقى+ أنه قال: =ولو سدلت على وجهها... وقيل: بل يجب+ وهذا هو المشهور في =المذاهب+ والمعتبر من الأقوال في حكاية الخلاف وأقوال المذاهب (و) هو القول الصحيح الراجح في المذهب+.
قال في حاشية الدردير: =والفتوى إنما تكون بالقول المشهور أو الراجح من المذهب، وأما القول الشاذ والمرجوح فلا يفتى بهما، ولا يجوز العمل بهما+اهـ.
وما قرره علماء المذهب الحنفي من وجوب، بل فرضية ستر الوجه هو الموافق للقرآن العزيز والسنة المطهرة، وفهم الصحابة والتابعين لدين الله، أما الشغب والاعتماد على الأقوال الضعيفة في المذهب فلا يصح مطلقاً+.
قال أخونا الكريم محمد بن أحمد بن إسماعيل في رسالته القيمة =تحريم حلق اللحى+:
=ولا شك أن اعتماد الأقوال الضعيفة في المذاهب رغم مخالفتها للدليل الصحيح احتجاجاً بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه مطلقاً، لا شك أن هذا يفتح باب شر وفتنة على المسلمين يتعسر إغلاقه.
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر+اهـ.
=ونظرية جواز التعبد بالخلاف التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتهم بفعل التربية المعوجة ما هي إلا صدى لقول سلفهم =من قلد عالماً لقي الله سالماً+، مع فارقٍ وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهباً واحداً، لا يحيدون عنه، أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم الغير معصوم لقول المعصوم"الذي لا ينطق عن الهوى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى].
ولقد وصف لنا رسول"دواء =داء+ الفرقة والاختلاف في قوله:
=فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين+ الحديث، فالسنة تجمع المتفرقين، وتوحد المختلفين.(1/264)
ولقد جعل الله _ عز وجل _ الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده وهو الاختلاف حجة أيضاً، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود÷قوله: =الخلاف شر+اهـ. من عودة الحجاب للمقدم (3/417).
أقوال أئمة المالكية في التفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر
قال أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن العربي في كتابه =القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، في كتاب الصلاة _ باب الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد(1/323): =وأما المرأة، فكلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها+.
وقال أيضاً في أحكام القرآن (3/1579):
=والمرأة كلها عورة بدنها وصورتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها+اهـ.
وقال الإمام أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في الجامع لأحكام القرآن في آية الأحزاب: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ](6/5309):
=في هذه الآية دليل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تَعْرِض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة: بدنها وصورتها _ كما تقدم _، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض، وتعين عندها+.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن (3/1375) في آية النور:
=المسألة السابعة: قال أصحاب الشافعي: =عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة+!!
وكأنهم ظنوها رجلاً، أو ظنوه امرأة، والله _ تعالى _ حرم المرأة على الإطلاق نظراً ولذة، ثم استثنى اللذة للزوج وملك اليمين، ثم استثنى إظهار الزينة(1) لثلاثة عشر شخصاً: العبد منهم، فمالنا ولغير ذلك؟ هذا نظر فاسد، واجتهاد عن السداد متباعد+اهـ.
__________
(1) جاءت عبارة الكتاب هكذا =ثم استثنى الزينة الثلاثة عشر شخصاً.. الخ ولعل الصواب: ما أثبتناه.(1/265)
وساق هذه العبارة أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4629) بلفظ:
=قال أصحاب الرأي: عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة. ابن العربي: =وكأنهم ظنوها رجلاً، أو ظنوه امرأة، والله _ تعالى _ حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصاً، العبد منهم، فمالنا ولذلك؟! هذا نظر فاسد، واجتهاد عن السداد متباعد+اهـ.
وقال ابن العربي أيضاً في عارضة الأحوذي (4/56):
=المسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: =ولا تنتقب المرأة+؛ وذلك لأن ستر وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج؛ فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها+اهـ.
وقال الشيخ عليش×في منح الجليل على مختصر العلامة خليل (1/133):
=والعورة من الحرة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها. وهذا بالنسبة للصلاة+(1).
وقال ابن العربي في أحكام القرآن (2/781) في آية الأعراف: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... الآية]:
=هذا خطاب للرجال والنساء إلا أنهم يختلفون في العورة، فعورة الرجل قد تقدم ذكرها وعورة المرأة جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وفي المصنفين:
أن النبي"قال: =لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار+ وهذا في الحرة، فقد ثبت عن أم سلمة أنها سألت النبي": أتصلي المرأة في درع وخمار، ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها، فأما الأمة فإنها تصلي _ كما تمشي _ حاسرة الرأس+.
وقال الباجي في المنتقى (1/251) في باب =الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار+:
=والنساء على ضربين: حرة وأمة، فأما الحرة فجسدها كلها عورة غير وجهها وكفيها، وذهب بعض الناس إلى أنه يلزمها أن تستر جميع جسدها+اهـ.
__________
(1) انظر عودة الحجاب للمقدم (3/228).(1/266)
وقال في عورة النظر (2/200) في شرح حديث فاطمة بنت المنذر أنها قالت: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق _ رضي الله عنهما _+:
قولها: = كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات+ تريد أنهن كن يسترن وجوههن بغير =النقاب+ على معنى التستر؛ لأن الذي يُمْنَعُ =النقاب+ أو ما يجري مجراه _ على ما ذكرناه _ وإضافة ذلك إلى كونهن مع =أسماء بنت أبي بكر+؛ لأنها من أهل العلم، والدين والفضل، وأنها لا تقرهن إلا على ما تراه جائزاً عندها، ففي ذلك إخبار بجوازه عندها، وهي ممن يجب لهن الاقتداء بها، وإنما يجوز أن يخمرن وجوههن على ما ذكرنا: بأن تسدل ثوباً على وجهها تريد الستر، ولا يجوز أن تسدله لحر ولا لبرد، فإن فعلت ذلك فعليها الفدية+اهـ.
وقال الإمام الزرقاني في شرحه على موطأ مالك (2/234) رقم734 في حديث =فاطمة بنت المنذر المذكور آنفاً: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+.
قال الزرقاني: =زاد في رواية: =فلا تنكره علينا+. ثم قال:
=لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها أو ينظر لها بقصد لذة. قال ابن المنذر: =أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر فذكر ما هنا ثم قال: =ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله"إذا مُرَّ بنا سدلنا الثوب على وجوهنا، ونحن محرمات، فإذا جاوزنا رفعناه+.
وقال الإمام ابن عبدالبر في عورة الصلاة في كتابه الاستذكار (5/443) رقم7683:
=والذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيق سابغ، وتخمر رأسها؛ فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها+اهـ.(1/267)
وقال في عورة النظر في الكتاب المذكور (11/28) رقم1525:
=وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها، وأن عليها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجل إليها.
وقال أيضاً (5/444) رقم7692:
=وأما النظر لشهوة إلى غير حليلة أو ملك يمين مع التأمل محظور غير مباح+اهـ.
وقال في التمهيد (6/365):
=وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة+اهـ.
وقال في كتابه =الكافي+ في فقه أهل المدينة المالكي (1/238) في باب ثياب المصلي وطهارتها، وموضع صلاته:
=وأقل ما يجزئ المرأة الحرة ما يواريها كلها، إلا وجهها وكفيها، وإحرامها في ذلك في حجها وعمرتها، وما سوى ذلك فهو عورة+اهـ.
وقال في المصدر السابق (1/388) في عورة النظر:
=والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها وكفيها، ولا باس بسدل ثوبها على وجهها؛ لتستره من غيرها، ولتسدله من فوق رأسها، ولا ترفعه من تحت ذقنها، ولا تشده على رأسها بإبرة ولا غيرها+اهـ.
وأجاب الإمام مالك×في المدونة الكبرى (1/344) أن يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها _إذا أرادت ستراً، فإن كانت لا تريد ستراً، فلا تسدل+اهـ. يعني المرأة المحرمة.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/117) في عورة الصلاة:
=حد العورة في المرأة عند أكثر العلماء أنها كلها عورة ما خلا الوجه والكفين، وذهب أبو حنيفة إلى أن قدميها ليست بعورة، وذهب أبو بكر بن عبدالرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة+.
وقال في عورة النظر في المصدر السابق (1/336):(1/268)
=وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وان لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله"ونحن محرمون، فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رؤوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه، ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ.
ومن المناسب أن نختم أقوال أئمة المذهب المالكي في هذا الباب بعبارات ثلاث قالهن ثلاثة أئمة من كبارهم تبين أن الخلاف في ستر وجوه النساء عن الرجال الأجانب خلاف شاذ لا يعول عليه. وبه يبطل ما يتعلق به دعاة السفور وأذناب الاستعمار.
قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4619):
=فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له أو لمن هي محرمة عليه على التأييد+اهـ.
وقال الإمام العالم الرباني الشنقيطي في أضواء البيان (6/592) في كلامه على آية الأحزاب رقم53:
=وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وإنما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه"، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة.
فمن يحاول منع نساء المسلمين _ كالدعاة للسفور والتبرج، والاختلاط اليوم _ بأمهات المؤمنين في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة فهو غاش لأمة محمد"، مريض القلب، كما ترى+اهـ.
ونقل فضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري في الصارم المشهور ص213 عن الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه =المسائل الكافِيَّة في بيان وجوب صدق خبر رب البرية+ أنه قال:(1/269)
=المسألة السابعة والثلاثون: من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة، ففيه تفصيل. فإن كان يقول ذلك، ويحسنه للغير مع اعتقاد عدم جوازه فهو مؤمن فاسق يجب عليه الرجوع عن قوله، وإظهار ذلك لدى العموم، وإن قال ذلك معتقداً جوازه، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على دعواه فهذا يكفر لثلاثة أوجه:
الأول: لمخالفته القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ].
والثاني: لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين، ونتيجةُ رفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة، واختلاط الرجال بالنساء =ظهور الفاحشة+ وهو بين لا يحتاج إلى دليل.
الثالث: نسبة حيف وظلم المرأة إلى الله _ تعالى عما يقوله المارقون _ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك، وهو بين أيضاً+اهـ.
قال الإمام العلامة الشيخ التويجري ص214 معلقاً على هذه العبارة:
=قلت: وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب، وإطلاق حرية المرأة واختلاط الرجال بالنساء يشهد به الواقع من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى الإسلام، وهم في غاية البعد منه، وقد ذكرت بعض الواقع منهم في أثناء الكتاب قبل الفصول في سد الذرائع الموصولة إلى الافتتان بالنساء، فليراجع، فإن فيه عبرة لمن اعتبر. والله الموفق+.
ثم قال التويجري×:
=فصل: وصرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي أيضاً بتكفير من أظهرت زينتها الخَلْقِيَّة أو المكتسبة معتقدة جواز ذلك، فقال في كتابه المشار إليه في الفصل الذي قبل هذا الفصل ما نصه:
=المسألة السادسة والثلاثون: من أظهرت من النساء زينتها الخلقية أو المكتسبة؛ فالخلقية: الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك.(1/270)
والمكتسبة ما تتحلى، وتتزين به الخلقة كالكحل في العين والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع والأسوار في المعصم والخلخال في الرجل والثياب الملونة على البدن ففي حكم ما فعلت تفصيل؛ فإن أظهرت شيئاً مما ذكر معتقدة عدم جواز ذلك فهي مؤمنة فاسقة تجب عليها التوبة من ذلك؛ وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة؛ لمخالفتها القرآن؛ لأن القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن، قال الله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ].
قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: =من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله يقول: [يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] (النور:17).
فمن سب عائشة، فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل، أي لأنه استباح ما حرم الله تعالى+اهـ.
أقوال أئمة الشافعية في التفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر وغلط من سوى بينهما
قال الإمام الشافعي×في عورة الصلاة في كتابه الأم (1/109):
=باب كيف لبس الثياب في الصلاة: =وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها+.
وقال أيضاً (1/109):
=وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل بدنها ما عدا كفيها ووجها+اهـ.
وقال الموزعي الشافعي× في تيسير البيان لأحكام القرآن (2/1001):
=لم يزل عمل الناس على هذا قديماً وحديثاً في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها ولا يتسامحون للشابة ويرونه عورة ومنكراً، وقد تبين لك وجه الجمع بين الآيتين، ووجه الغلط لمن أباح النظر على وجه المرأة لغير حاجة. والسلف والأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة.
فقال الشافعي ومالك: =ما عدا الوجه والكفين+ وزاد أبو حنيفة =القدمين+ وما أظن أحداً منهم يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة ولا يبيح للشاب أن ينظر إليها لغير حاجة+.(1/271)
ونقل الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه =حجاب المسلمة بين انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (1/209) عن الشيخ محمد بن قاسم الغزي أنه قال:
=وجميع بدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها، وهذه عورتها في الصلاة، وأما خارج الصلاة فعورتها جميع البدن+.
وقال الشرقاوي× في تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب (1/174): معلقاً على قول الشيخ زكريا الأنصاري: =وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين+:
=وعورة الحرة أي في الصلاة. أما عورتها خارجها بالنسبة لنظر أجنبي إليها، فجميع بدنها حتى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة ولو رقيقة، فيحرم عليه أن ينظر إلى شيء من بدنها، ولو قلامة ظفر منفصلة منها+اهـ.
ونقل البرازي أيضاً(1/205) عن النووي أنه قال في المنهج:
=وعورة حرة غير وجه وكفين...+.
قال الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على الكتاب السابق عند قوله: =غير وجه وكفين+:
=وهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها عند النساء المسلمين مطلقاً وعند الرجال المحارم فما بين السرة والركبة، وأما عند الرجال الأجانب فجميع البدن، وأما عند النساء الكافرات فقيل: جميع بدنها، وقيل: ما عدا ما يبدو عند المهنة+.
وقال الإمام ابن المنذر في عورة الصلاة في كتابه =الإجماع+ ص49 رقم93:
=أجمع أكثر أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تصلي مكشوفة الوجه+.
وقال في عور ة النظر في المصدر نفسه ص94 رقم178:
=وأجمعوا على أن للمرأة المحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف+.
قال العراقي أبو الفضل في طرح التثريب (5/46) معلقاً على هذه العبارة:
=فدل النهي عن الانتقاب على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه، ويمسه دون ما إذا كان متجافياً عنه. وهذا قول الأئمة الأربعة، وبه قال الجمهور، وقال ابن المنذر: لا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله" رخص فيه _ يعني النقاب. ثم قال: وكانت أسماء بنت أبي بكر تغطي وجهها وهي محرمة+اهـ.(1/272)
قلت: المرأة المحرمة لم تمنع من تغطية وجهها بحضرة الرجال الأجانب بالخمار وغيره البتة، وإنما جاء الخبر بمنعها من لبس النقاب، ومثله البرقع وهو كل ما فصل على قدر الوجه، وذلك في قوله": =ولا تنتقب المحرمة+.
وأما منعها من تغطية وجهها بما يمس الوجه ويلاقيه، وعزو ذلك للأئمة والجمهور ففيه نظر ظاهر؛ فقد صرحوا _ كما تقدم عنهم _ بستر وجه المحرمة ولم يقيدوه بقيد.
ونقل البرازي في كتابه =حجاب المسلمة+ (1/206) عن الشيخ الشرواني أنه قال:
=قال الزيادي في شرح المحرر:
=إن لها ثلاث عورات: 1_ عورة في الصلاة _ وهو ما تقدم _ أي كل بدنها ما سوى الوجه والكفين.
2_ وعورة بالنسبة لنظر الأجانب إليها =جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد+.
3_ وعورة في الخلوة وعند المحارم: كعورة الرجل+اهـ. أي ما بين السرة والركبة+.
وقال أيضاً:
=من تحققت من نظر أجنبي لها يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام فتأثم+اهـ.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: =وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين+.
فكتب الشيخ الشرقاوي في حاشيته على هذه العبارة:
=وعورة الحرة.. أي في الصلاة. أما عورتها خارجها بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها حتى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة+.
وقال الشيخ محمد الزهري الغمراوي:
=ويحرم أن ينظر الرجل إلى شيء من الأجنبية، سواء كان وجهها أو شعرها أو ظفرها حرة أو أمة... ثم قال:
=فالأجنبية الحرة يحرم النظر إلى أي جزء منها ولو بلا شهوة وكذا اللمس والخلوة والأمة على المعتمد مثلها، ولا فرق فيها بين الجميلة وغيرها.. ثم قال:
=ويحرم عليها _ أي المرأة _ كشف شيء من بدنها، ولو وجهها وكفيها لمراهق أو لامرأة كافرة+اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عبدالله الجرواني:
=واعلم أن العورة قسمان: 1_ عورة في الصلاة. 2_ وعورة خارجها. وكل منهما يجب ستره+اهـ. ثم قال:(1/273)
=عورة المرأة بالنسبة للرجال الأجانب، وما فيه من كلام الأئمة، وحكم كشف الوجه:
وبالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها بدون استثناء شيء منه أصلاً.. ثم قال:
ويجب عليها أن تستتر عنه. هذا هو المعتمد+.
_ وقال الشيخ تقي الدين الحصني:
=ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة وتمثيل، والمرأة متنقبة إلا أن تكون في مسجد، وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر؛ فإن خيف من النظر إليها ما يجر إلى الفساد حرم عليها رفع النقاب. وهذا كثير في مواضع الزيارة كبيت المقدس _ زاده الله شرفاً _ فليجتنب ذلك+اهـ.
وقد أجاز فقهاء الشافعية للمرأة المحرمة بالحج أو العمرة ستر وجهها عند وجود الرجال الأجانب، بل أوجبه بعضهم.
قال العلامة الرملي الشهير بالشافعي الصغير:
وللمرأة أن ترخي على وجهها ثوباً متجافياً عنه بنحو خشبة، وإن لم يحتج لذلك لحرٍ وفتنةٍ..
ولا يبعد جواز الستر مع الفدية، حيث تعين طريقاً لدفع نظر محرم+اهـ.
وقد كتب الشبراملسي في حاشيته عليه:
=قوله: =ولا يبعد جواز الستر أي: بل ينبغي وجوبه، ولا ينافيه التعبير بالجواز؛ لأنه جواز بعد منع، فيصدق بالواجب+اهـ. من حجاب المسلمة للبرازي.
وقال المقدم في عودة الحجاب (3/426):
=وقال العلامة تقي الدين السبكي×: إن الأقرب إلى صنع الأصحاب:
أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة+.
وقال النووي في عورة الصلاة في كتابه =المجموع (3/159):
=وأما عورة الحرة فجميع بدنها إلا الوجه والكفين إلى الكوعين+.
وقال في عورة النظر (7/240):
=ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها سواء فعلته لحاجة كحرٍ أو بردٍ أو خوف فتنة ونحوها أم لغير حاجة+اهـ.
وقال الإمام الشافعي في الأم (2/162):(1/274)
=وتفارق المرأة الرجل، فيكون إحرامها في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة، ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها، أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها، حتى تغطي وجهها متجافياً كالستر على وجهها، ولا يكون لها أن تنتقب+اهـ.
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ص414:
=المرأة في العورة لها أحوال:
حالة مع الزوج ولا عورة بينهما، وفي الفرج وجه.
وحالة مع الأجانب، وعورتها كل البدن حتى الوجه والكفين في الأصح.
وحالة مع المحارم، وعورتها ما بين السرة والركبة.
وحالة في الصلاة، وعورتها كل البدن إلا الوجه والكفين+.
وقال البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/121) في قوله تعالى:
[وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن موضعها لمن لا يحل أن تبدي له [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم؛ فإن في سترها حرجاً.
وقيل: المراد بالزينة مواضعها على حذف مضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينة، والمستثنى: هو الوجه والكفان؛ لأنها ليست بعورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر؛ فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة+اهـ.
وقال محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في عودة الحجاب (3/228):
=وقال الشهاب: =وما ذكره البيضاوي من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي×+.
وقال الهيتمي في الزواجر (2/5):(1/275)
=فإن الأصح حرمة هذه كلها _ يعني النظر إلى الأجنبية والأمرد ومعاودة النظر عبثاً لا لشهوة فيه _ مع المرأة والأمرد ولو بلا شهوة، وإن أمن الفتنة حسماً لمادة الفساد ما أمكن؛ إذ لو جاز نحو النظر، ولو مع الأمن لجَرَّ إلى الفاحشة، وأدى إلى الفساد، فكان اللائق بمحاسن الشريعة الإعراض عن تفاصيل الأحوال وسد باب الفتنة، وما يؤدي إليها مطلقاً، ومن ثم حَرَّمَ أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة، ولو مع يدها بناءً على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه، لأنهما عورة في النظر من المرأة، ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة. وكذلك يحرم سائر ما انفصل منها؛ لأن رؤية البعض ربما جَرَّ إلى رؤية الكل، فكان اللائق حرمة نظره مطلقاً أيضاً، وكما يحرم ذلك على الرجل للمرأة كذلك يحرم عليها أن ترى شيئاً منه ولو بلا شهوة، ولا خوف فتنة... حتى أنه حرم نظر الشيخ الفاني والمريض العنين والخصي والمجبوب، فقال:
=كذلك يحرم على كل من هؤلاء نظرها مطلقاً كالفحل، وعلى ولي المراهق والمراهقة منعهما مما يمنع منه البالغ والبالغة، وعلى النساء الاحتجاب منه+اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم (4/31) باب تحريم النظر إلى العورات:
=وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها، فكذلك يحرم عليها النظر إلى كل شيء من بدنه، سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها+اهـ.
أقوال أئمة المذهب الحنبلي في التفريق بين عورة المرأة في الصلاة وعورتها في باب النظر، وغلط من سوى بينهما
ثبت عن الإمام أحمد القول بأن المرأة كلها عورة حتى ظفرها.
نقل ذلك عنه جماعة من أصحابه منهم: إسماعيل بن حرب وإسماعيل بن سعيد، وأبو طالب، وجعفر بن محمد، ومهنا بن يحيى، ومحمد بن أبي حرب، والعباس بن محمد بن موسى الخلال، وتقدم.
قال ابن المنذر في الأوسط (5/70) رقم2404:
=قال أحمد بن حنبل: إذا صلت لا يرى منها شيء ولا ظفرها، تغطي كل شيء منها+اهـ.(1/276)
قال أبو داود في مسائله لأحمد ص40:
=باب المرأة يبدو منها في الصلاة+: = قلت لأحمد: المرأة إذا صلت ما يرى منها؟ قال: =لا يرى منها ولا ظفرها، تغطي كل شيء منها+. لكن قال الموفق ابن قدامة في المغني (2/326) في قول الخرقي: =وإذا انكشف من المرأة الحرة شيء سوى وجهها، أعادت الصلاة+ قال:
=لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، ولا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم+اهـ.
وقال الزركشي في شرح عبارة الخرقي المذكورة (1/620):
=لا خلاف أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة.. وقد أطلق أحمد×القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة، أما ما عدا الوجه، فعنه: عورة إلا يديها+ اختارها أبو البركات+اهـ.
وقال الخرقي في عورة النظر في المصدر السابق (3/140): =فإن احتاجت سدلت على وجهها+.
قال الزركشي في ذلك:
=إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذاراً من رؤية الرجال سدلت على وجهها ثوباً ونحوه+اهـ.
وقال أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي في عورة الصلاة في كتابه الإنصاف (1/452):
=الصحيح من المذهب أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعاً، وعنه الوجه عورة أيضاً قال الزركشي:
أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة+اهـ.
وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة. قال الشيخ تقي الدين:
=والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه+اهـ.
قلت: ونص عبارة الشيخ تقي الدين _ كما في شرح العمدة (2/268) في عورة الصلاة:
=والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر؛ إذ لم يجز النظر إليه+اهـ.
وقال شيخ الإسلام أيضاً في مجموع الفتاوى (22/109):(1/277)
=فصل في اللباس في الصلاة+ وهو أخذ الزينة عند كل مسجد الذي يسميه الفقهاء: =باب ستر العورة في الصلاة+ فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن اعين الناظرين وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] ثم قال:[ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] يعني الباطنة [إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ] الآية.
فقال: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة، والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
فقال ابن مسعود، ومن وافقه: هي الثياب. وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم.
وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية. فقيل: يجوز لغير شهوة إلى وجهها، ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك.(1/278)
وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله _عز وجل_ آية الحجاب بقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] حُجِبَ النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش... فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته، ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن _ و=الجلباب+ هي الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره =الرداء+، وتسميه العامة =الإزار+، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب _ فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: =أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب: كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب إلا الثياب الظاهرة.
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين+اهـ.(1/279)
قلت: ما عزي لابن عباس _ رضي الله عنهما _ من تفسير الزينة التي نهي المؤمنات عن إبدائها إلا ما ظهر منها من أنه فسر الظاهر منها بالوجه والكفين _ فيه نظر ظاهر، وذلك لضعف ثبوته عنه سنداً، ولمخالفة هذا التفسير لظاهر الآية، فإن ظاهر الآية فيه إسناد الظهور المستثنى إلى الزينة، ولم يسند الظهور إلى المؤمنات، فلم يقل الله _ عز وجل _ [إلا ما أظهرن منها]، وإنما قال: [إلا ما ظهر منها] يعني والله أعلم ما ظهر بدون قصد إظهاره وبدون اختياره، ولأنه جاء عن ابن عباس أنه فسر آية الأحزاب [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] بتغطية وجوههن+. كما سيأتي الجواب عن تفسيره÷هذا مبسوطاً إن شاء الله تعالى.
وأما قول شيخ الإسلام: إن مذهب أبي حنيفة والشافعي بجواز النظر إلى الأجنبية لغير شهوة وهو قول في مذهب أحمد ففيه نظر أيضاً؛ فقد نقل الشيخ محمد أديب كلكل عن أئمة الحنفية اتفاقهم على وجوب ستر وجه المرأة؛ لأن أمر الفتنة محقق لا محالة.
وأما الإمام الشافعي فقد نقل أئمة مذهبه أن المرأة كلها عورة لا يجوز النظر إلى أي شيء من بدنها، نص على ذلك الشيخ محمد بن قاسم الغزي وسليمان الجمل، والشرقاوي والجرداني والسبكي والسيوطي والبيضاوي والشهاب، والهيتمي كما تقدم.
ثم إن شيخ الإسلام×أخذ يقرر ما هو عورة وما ليس بعورة وما يستر في الصلاة وغير الصلاة، فقال في مجموع الفتاوى (22/113_120) ما محصله:
=ليس في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال تعالى: [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] قال: فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله ومناجاته، فلم تؤمر النساء مع القميص إلا بالخمر، لم تؤمر بسراويل؛ لأن القميص يغني عنه، ولم تؤمر بما يغطي رجليها، لا خف ولا جورب، ولا بما يغطي يديها لا بقفازين ولا غير ذلك، فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك إذا لم يكن عندها رجال أجانب، وقد روي:(1/280)
=أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة، فإذا وضعت خمارها وقميصها لم ينظر إليها+.
وروي في ذلك حديث عن خديجة. فهذا القدر للقميص والخمار هو المأمور به لحق الصلاة. ولهذا أمرت الحرة أن تختمر في الصلاة، وهي لا تختمر عند زوجها ولا عند ذوي محارمها، وجاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء ولا لغيرهم، وجاز لها ابداء الوجه واليدان في الصلاة عند جمهور العلماء، ولا يجب عليها ستر ذلك في الصلاة باتفاق المسلمين. وإنما نهيت عن ابداء الوجه واليدين للأجانب؛ لأن ذلك من مقدمات الفاحشة، فكان النهي عن ابدائها نهياً عن مقدمات الفاحشة كما في الآية: [ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ] وقال في آية الحجاب: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] فنهى عن هذا سداً للذريعة، لا أنه عورة مطلقة لا في الصلاة ولا غيرها، فهذا هذا+اهـ. ثم قال:
= وبالجملة قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت، وحينئذٍ فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كن يمشين أولاً قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً، ولا عكساً+... إلى أن قال:
وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه.
فعلم أن وجهها كيدي(1) الرجل ويديها، وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم فلها أن تغطي وجهها ويديها لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل، ويلبس الإزار_ والله سبحانه وتعالى أعلم+اهـ.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/142) في جواب سؤال أخطأ في جوابه ابن عقيل:
__________
(1) لعل الصواب: =فعلم أن وجهها كبدن الرجل+.(1/281)
=قلت: سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام؛ فإن النبي"لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر البتة، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء، وأسافله بالإزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يزاد على موجب النص، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً؟ فأي نص اقتضى هذا؟! أو مفهوم، أو عموم أو قياس أو مصلحة، بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب، والبرقع، وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفازين وأما سترهما بالكم، وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب، فلم ينه عنه البتة، ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرم؛ لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السلف: =إحرام المرأة في وجهها إنما أراد به هذا المعنى أي لا يلزمها اجتناب اللباس، كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل، ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه، فقوله ليس بحجة، ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين.
وقد قالت أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _: =كنا إذا مَرَّ بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها+.
ولم تكن إحداهن تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب، كما قال بعض الفقهاء، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة، ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملاً ولا فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهراً مشهوراً بينهن يعرفه الخاص والعام.(1/282)
ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها. والله الموفق والهادي+اهـ.
وقال ابن القيم أيضاً في تهذيب السنن (2/350) رقم1749:
=وأما نهيه"في حديث ابن عمر =المرأة+ أن تنتقب، وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه =ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع+، ولا يحرم ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين؛ فإن النبي"سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصل على قدرهما، وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه وليس عن النبي"حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب وهو كالنهي عن القفازين، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وهذا واضح بحمد الله.
وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة. وقالت عائشة:
=كانت الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله"، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ ذكره أبو داود واشتراط المجافاة عن الوجه _كما ذكره القاضي عياض وغيره_ ضعيف، لا أصل له دليلاً ولا مذهباً.
قال صاحب المغني: =ولم أر هذا الشرط _ يعني المجافاة _ عن أحمد ولا هو في الخبر، مع أن الظاهر خلافه؛ فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطاً لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَدَّ لستر الوجه.
قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول: عن النقاب من أسفل على وجهها.. تم كلامه+اهـ.
وأما لبس القفازين للمرأة المحرمة بالحج أو العمرة فمنهي عنهما، ولها تغطية يديها بما تيسر لها من الثياب غير القفازين. قال ابن القيم×في تهذيب السنن (2/351) رقم1749:(1/283)
= تحريم لبس القفازين قول عبدالله بن عمر وعطاء وطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي، ومالك والإمام أحمد والشافعي في _ أحد قوليه _ وإسحاق بن راهويه، وتذكر الرخصة عن علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص، وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي _في القول الآخر_ ونهي المرأة عن لبسها ثابت في الصحيح كنهي الرجل عن لبس القميص والعمائم، وكلاهما في حديث واحد، وعن راو واحد، وكنهي المرأة عن النقاب وهو في الحديث نفسه، وسنة رسول الله"أولى بالإتباع، وهي حجة على من خالفها وليس قول من خالفها حجة عليها+اهـ.
وقال ابن القيم _قدس الله روحه_ أيضاً في أعلام الموقعين/ في أغلاط أصحاب الألفاظ، وأصحاب المعاني/ من شرح خطاب عمر (1/220_222):
=ومن ذلك أن النبي" قال: =لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين+، يعني في الإحرام، فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها، ولا أمرها بكشفه البتة، ونساؤه"أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان، فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن، وروى وكيع عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، قالت: سألت عائشة: ما تلبس المحرمة؟ فقالت: =ولا تنتقب، ولا تلتثم، وتسدل الثوب على وجهها+.
فجاوزت طائفة ذلك، ومنعتها من تغطية وجهها جملة. قالوا: إذا سدلت على وجهها، فلا تدع الثوب يمس وجهها، فإن مسه افتدت، ولا دليل على هذا البتة، وقياس قول هؤلاء أنها إذا غطت يدها افتدت؛ فإن النبي"سوى بينهما في النهي، وجعلهما كبدن المحرم، فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين. هذا للبدن، وهذا للوجه، وهذا لليدين، ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها؛ لئلا تعرف، ويفتتن بصورتها؟!
ولولا أن النبي"قال: في المحرم: =ولا يخمر رأسه+ لجاز تغطيته بغير العمامة+اهـ.(1/284)
وقد أطبق علماء وفقهاء الحنابلة على التفريق بين عورة المرأة في الصلاة وبين عورتها في باب النظر، فأجازوا لها في الصلاة كشف وجهها ويديها، وقالوا: إنهما ليسا بعورة فيها وهما عورة في باب النظر، فيجب عليها سترهما أمام الرجال حتى ولو كانت في الصلاة، وإليك أمثلة لذلك:
فقد جاء في الفروع لابن مفلح (1/330) في عورة الصلاة:
=والحرة البالغة كلها عورة حتى ظفرها، نص عليه إلا الوجه، اختاره الأكثر، وعنه:
=والكفين+ وفاقاً لمالك والشافعي، وقال شيخنا: =والقدمين+ وفاقاً لأبي حنيفة، وفي الوجه رواية، وذكر القاضي: عكسها إجماعاً+اهـ.
قلت: يعني القاضي أن الوجه ليس بعورة بالإجماع في الصلاة.
وحكى في عورة النظر في الفروع (3/450) اتفاق الأئمة الأربعة على تغطية وجه المحرمة إذا احتاجت إليه عند مرور رجال أجانب منها، فقال ما لفظه:
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره(1)+ اتفاقاً.. إلى أن قال: =ويجوز لها أن تسدل على الوجه لحاجة وفاقاً للأمة الأربعة، لقول عائشة:
=كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله"محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+. ثم ساق حديث فاطمة بنت المنذر، قالت:
=كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر+ رواه مالك+اهـ.
ونقل الشيخ يوسف ابن عبدالهادي المقدسي الحنبلي في عورة الصلاة في كتابه: =مغني ذوي الأفهام ص36 اتفاق الأئمة الأربعة على وجوب ستر جميع بدن المرأة ما عدا الوجه، فقال ما نصه: =عورة المرأة الحرة يجب ستر جميع بدنها، ولا يجب ستر وجهها+.
فانظر إلى لفظة =يجب+ فإنها فعل مضارع تعني في اصطلاحه كما في المقدمة ص6 اتفاق الأئمة الأربعة.
__________
(1) قوله: يحرم عليها تغطيته بغير النقاب فيه نظر؛ إذا الممنوع تغطية وجه المحرمة بالنقاب ونحوه أما تغطيته بغير ذلك فجائز بالإجماع، بل واجب.(1/285)
ونقل عنهم أيضاً في ص26 القول بعدم جواز إبداء زينة المرأة للأجنبي+.
ونقل اتفاقهم أيضاً ص65 في عورة النظر على وجوب تغطية وجوب المحرمة بالسدل عند الحاجة أي عند حضور الرجال الأجانب. فقال ما نصه:
=والمرأة إحرامها في وجهها، ويحرم عليها تغطيته، ويجوز لها أن تسدل عليه عند الحاجة+.
وكرره في موضع آخر أي في كتاب النكاح ص120، فقال:
=ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت+.
وقال الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي×في باب ستر العورة في كتابه =الإفصاح عن معاني الصحاح+ (1/118):
=واختلفوا في عورة المرأة الحرة وحَدِّها؟ فقال أبو حنيفة: كلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقد روي عنه أن قدميها عورة، وقال مالك والشافعي: كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وقال أحمد _ في إحدى روايتيه _ كلها عورة إلا وجهها وكفيها كمذهبهما، والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها خاصة، وهي المشهورة، ولها اختار الخرقي+.
وقال أبو المظفر في عورة النظر في المصدر السابق (1/284) في محظورات الإحرام بعد أن ذكر ما لا يجوز للمحرم فعله: إن تغطية وجه المرأة المحرمة مما قد أجمع عليه الأئمة الأربعة فقال:
= والمرأة في ذلك كالرجل، وتنفرد عنه بأنها: يجوز لها لبس القميص والخف والسراويل والخمار، وأنها لا تكشف رأسها، بل تكشف وجهها، وقد رخص لها أن تسدل عليه مع الحاجة ما لا يقع على بشرتها، وأنها لا ترفع صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها، ولا رمل عليها ولا سعي، بل طوافها وسعيها مشي كله، وأنه لا حلق عليها، وإنما عليها التقصير، فهذه محظورات الإحرام المجمع عليها+اهـ.
وقال الإمام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي في عورة الصلاة في كتابه: =المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني÷(1/115):
=والحرة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان+.(1/286)
قال العلامة الفقيه علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف (1/452) في شرح عبارة ابن قدامة تلك:
=قوله: والحرة كلها عورة حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه+:
الصحيح من المذهب أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعاً.
وعنه: الوجه عورة أيضاً قال الزركشي:
أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة.
وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة+اهـ.
وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة. قال الشيخ تقي الدين:
=والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه+اهـ.
وقال الإمام العلامة الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب _ رحمهم الله تعالى_ في حاشيته على المقنع (1/115) في تعليقه على هذه العبارة:
=قوله: =والحرة كلها عورة+ أي البالغة حتى ظفرها نص عليه، وذكر ابن هبيرة: أنه المشهور، وقال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد×لقول النبي": =المرأة عورة+ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
=قوله: =إلا الوجه+ لا خلاف أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة+ ذكره في المغني+اهـ.
وبمثل هذا قال أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن محمد بن مفلح المؤرخ الحنبلي في كتابه =المبدع شرح المقنع+ (1/362).
=قوله: =والمرأة إحرامها في وجهها+: هذا بلا نزاع، فيحرم عليها تغطيته ببرقع، أو نقاب أو غيرهما، ويجوز لها أن تسدل على وجهها لحاجة على الصحيح من المذهب، وأطلق جماعة من الأصحاب جواز السدل، وقال الإمام أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل+اهـ.
وقال أبو إسحاق بن مفلح في المبدع في عورة النظر (3/168) في ذلك:
=فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها جاز أن تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها؛ لفعل عائشة... الخ+.
وقال ابن قدامة في عورة الصلاة في كتابه =الكافي+ (1/242):(1/287)
=والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان.. الخ.
وقال في عورة النظر في المصدر السابق (2/345) في المحرمة:
=وإن احتاجت إلى ستر ة سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره، لما روت عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت: = كان الركبان يمرون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله"، فإذا حاذوا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+.
وقال الشيخ العلامة فقيه الحنابلة في وقته منصور البهوتي في كشاف القناع (1/309) في عورة الصلاة:
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها+ لقول النبي":
=المرأة عورة+ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح... =إلا وجهها+ لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجها في الصلاة إلى أن قال:
=وهما+ أي الكفان والوجه من الحرة البالغة =عورة خارجها+ أي الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها+.
وقال البهوتي في عورة النظر في المصدر السابق (2/521):
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره، فإن غطت وجهها لغير حاجة فدت. والحاجة: كمرور رجال قريباً منها، تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، لفعل عائشة..+اهـ.
وجاء في منار السبيل في شرح الدليل للشيخ إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان في عورة الصلاة (1/74): =والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها+.
وجاء فيه (1/246) أيضاً في عورة النظر:
=فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريباً منها سدلت الثوب من فوق رأسها لا نعلم فيه خلافاً+اهـ.
وجاء في الممتع شرح المقنع (1/355) للتنوخي في عورة الصلاة:
=والحرة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان+اهـ.
وجاء فيه أيضاً (2/375) في عورة النظر:
=فإن قيل: فلو احتاجت إلى ستر وجهها عند مرور الرجال قريباً منها؟
قيل: ترسل ثوباً من فوق رأسها على وجهها؛ لما روت عائشة _ رضي الله عنها _:
=كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات.. الحديث.+.(1/288)
ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم على الإطلاق كالعورة من الرجل+.
إلى أن قال:
=وأما كونها لا يحرم عليها اللباس والتظليل، فلأن المرأة عورة يحرم النظر إليها، ويستحب المبالغة في الستر، وحرمة اللباس والتظليل يناقض ذلك بخلاف الرجل+اهـ.
وجاء في معونة أولي النهى شرح المنتهى (2/9) لابن النجار الفتوحي في عورة الصلاة:
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها نص عليه إلا وجهها، وبه قال أبو سلمة بن عبدالرحمن وداود؛ لأن ما لا يلزمها كشفه في الإحرام كان منها عورة كالصدر وسائر بدنها+اهـ.
وجاء فيه أيضاً (4/124) في عورة النظر ما لفظه:
=فتسدل المرأة بأن تضع الثوب فوق رأسها، وتسدله على وجهها لحاجة إلى ذلك، كمرور الرجال قريباً منها، والأصل في ذلك ما روى عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =كان الركبان يمرون بنا.. الحديث، ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره+اهـ.
وقال الشيخ الفاضل أبو النجا موسى الحجاوي في عورة الصلاة في كتابه =زاد المستقنع+:
=وكل الحرة عورة إلا وجهها+.
قال المحشي صالح بن إبراهيم البليهي في السلسبيل في معرفة الدليل (1/96):
=وعن أحمد: كلها عورة إلا وجهها وكفيها وفاقاً لمالك والشافعي. وقال أبو حنيفة:
كلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقال الشيخ: والتحقيق أن وجه الحرة في الصلاة ليس بعورة، وهو عورة في باب النظر؛ إذ لم يجز النظر إليه+.
وقال الشيخ منصور البهوتي في الروض المربع شرح زاد المستقنع (1/140) في عورة الصلاة:
=وكل الحرة البالغة عورة إلا وجهها، فليس بعورة في الصلاة+اهـ.
قال العالم العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري معلقاً على ذلك:
=قوله إلا وجهها+ فليس عورة في الصلاة، وأما خارجها، فكلها عورة حتى وجهها بالنسبة إلى الرجل والخنثى+اهـ.
وقال الشيخ منصور البهوتي×في الروض المربع (1/484) أيضاً في عورة النظر:(1/289)
=وإحرام المرأة في وجهها، فتضع الثوب فوق رأسها، وتسدله على وجهها؛ لمرور الرجال قريباً منها+اهـ.
قال العلامة العنقري معلقاً على ذلك:
= ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا غير ذلك؛ فإن النبي"سوى بين وجهها ويدها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه وأزواجه"كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي"أنه قال: إحرام المرأة في وجهها، وإنما قال هذا القول بعض السلف+اهـ.
وقال شرف الدين موسى بن أحمد أبو النجا الحجاوي في ستر العورة في كتابه: =الإقناع لطالب الانتفاع (1/134):
= والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها. قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها+اهـ.
وقال في عورة النظر في المصدر نفسه (1/587):
= والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره، فإن غطته لغير حاجة فدت، ولحاجة كمرور رجال قريباً منها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها+اهـ.
وقال أيضاً في الإقناع (3/298) في حكم النظر إلى الإماء:
=وإن كانت الأمة جميلة، وخيفت الفتنة بها حرم النظر إليها كالغلام الأمرد الذي تخشى الفتنة بنظره، ونص _ يعني الإمام أحمد _ أن الجميلة تنتقب+اهـ.
وقال شمس الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن محمد المقدسي في عورة الصلاة في كتابه: =الشرح الكبير (3/206):
=والحرة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان+ أما وجه الحرة فإنه يجوز للمرأة كشفه في الصلاة، بغير خلاف نعلمه+اهـ.
وقال في عورة النظر في المصدر السابق (8/356):(1/290)
= فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها؛ فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، روي ذلك عن عثمان وعائشة، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، ولا نعلم فيه خلافاً+.
ثم ساق حديث عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =كان الركبان يمرون بنا ... الحديث.
ثم قال: = ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم ستره على الإطلاق كالعورة+.
وقال الشيخ منصور البهوتي في عورة النظر في كتابه =شرح منتهى الإرادات+ (1/142):
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها نصاً إلا وجهها لحديث =المرأة عورة+ رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، وهو عام في جميعها. ترك في الوجه والإجماع، فيبقى العموم فيما عداه+اهـ.
وقال في عورة النظر في المصدر نفسه (2/32):
=فتسدل أي تضع الثوب فوق رأسها وترخيه على وجهها لحاجة، إلى ستر وجهها، كمرور أجانب قريباً منها، لحديث عائشة =كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات... الحديث+.
وقال الشيخ الإمام مجد الدين أبو البركات في عورة الصلاة في كتابه المحرر في الفقه (1/42):
=وكل الحرة عورة سوى الوجه، وفي كفيها روايتان+اهـ.
وقال في عورة النظر في المصدر السابق (1/239):
=وإحرام المرأة في وجهها، فلا تستره بنقاب ولا غيره، فإن سدلت عليه ما لم يباشره جاز+اهـ.
وقال الموفق ابن قدامة في عورة الصلاة في كتابه =العمدة+ مع شرحه =العدة+:
=والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها+.
وقال الشيخ عثمان بن أحمد النجدي الحنبلي في عورة الصلاة في كتابه =هداية الراغب شرح عمدة الطالب ص87:
=والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها+ فليس عورة في الصلاة+اهـ.
وقال أيضاً في عورة النظر في المصدر نفسه ص216:
=وإحرام المرأة في وجهها+ فتضع الثوب فوق رأسها، وتسدل على وجهها لحاجة كمرور الرجال قريباً منها+اهـ.
وقال بهاء الدين عبدالرحمن بن إبراهيم المقدسي في عورة الصلاة في كتابه العدة شرح العمدة ص64:(1/291)
=والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها+ مقرراً له.
وقال في عورة النظر في المصدر نفسه ص172:
=قوله: إحرامها في وجهها+ يعني أن المرأة يحرم عليها في الإحرام تغطية وجهها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه، ولا نعلم في هذا اختلافاً إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها، قال ابن المنذر: ويحتمل أن يكون معنى هذا كما قالت عائشة، وهو ما روى أبو داود والأثرم عن عائشة، قالت: =كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات.. الحديث، ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلا يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة من الرجل+اهـ.
وقال الإمام محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي في عورة الصلاة في كتابه =أخصر المختصرات+ ص108:
=وكل الحرة عورة إلا وجهها في الصلاة+اهـ.
وقال الإمام العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي×في عورة الصلاة في كتابه: =منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين ص9:
=ومن شروطها: ستر العورة بثوب مباح، لا يصف البشرة، والعورة ثلاثة أنواع:
مغلظة وهي عورة المرأة الحرة البالغة؛ فإن جميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها+اهـ.
قال الإمام العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين في كتابه =إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين ص132 معلقاً على هذه العبارة:
=وجميع بدن المرأة الحرة البالغة عورة في الصلاة إلا وجهها، فلا تخرج إلا وجهها وتستر كفيها وقدميها+اهـ.
وقال ابن جبرين في المصدر السابق ص429 في عورة النظر:
=وأما تغطية المرأة وجهها فالصحيح أنها إذا احتاجت إلى ذلك فلا فدية عليها+اهـ.
وقال الشيخ الإمام العلامة صالح بن إبراهيم البليهي في عبارة زاد المستقنع (1/342):
=وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها+.
=فائدة: قال الشيخ: ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطي وجهها بملاصق خلا النقاب والبرقع ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا غير ذلك+اهـ.
تنبيه
جاء في الإنصاف للمرداوي (8/28):(1/292)
=وقال ابن عقيل: لا يحرم النظر إلى وجه =الأجنبية+ إذا أمن الفتنة+اهـ.
قال المرداوي:
=قلت: وهذا الذي لا يسع الناس غيره، خصوصاً للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم، وهو مذهب الشافعي+اهـ!!!
فأجاب على هذا الإمام العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن العنقري في حاشيته على =الروض المربع+ بما نصه:
= وبخط الشيخ سليمان بن عبدالله حفيد شيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب _ رحمهما الله تعالى _:
=قلت: وفي هذا ما لا يخفى على متأمل عرف أصول الشرع ومقاصده، وأنه أتى بما فيه صلاح الخلق في الدنيا والآخرة، فكيف يطلقونه على النظر، ويجرؤون الفساق على مقاصدهم، لا سيما في هذه الأزمنة؛ فإن الفاسق ينظر إلى ما يشتهي لا سيما إذا كان المنظور إليه مثله، ويدعي مع ذلك أنه ينظر بلا شهوة، فالصواب: حسم المادة وسد الذريعة، ولذلك قال النبي"لما سئل عن نظر الفجأة: =اصرف بصرك؛ فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية+اهـ.
قلت: قول ابن عقيل: =لا يحرم النظر إلى وجه الأجنبية إذا أمن الفتنة+ وقول المرداوي: =وهذا الذي لا يسع الناس غيره+ هذا القول غلط فاحش، ومنكر فاضح، لا يحتاج تحريمه إلى تأمل بل ولا تجوز حكايته ولا الالتفات إليه، وذلك لمصادمته للنص والإجماع، ومصادمته لمذهب أحمد نفسه.
أما مصادمته للنص فواضح من مثل قول الله تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ] و [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] و [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] و [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ... الآية].(1/293)
و [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] و [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] و [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] و [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ].
ومثل قوله": =المرأة عورة+ و =عن جرير بن عبدالله، قال: سألت رسول الله"عن نظر الفجأة؟ فأمرني، فقال: =اصرف بصرك+(1) و =يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى، وليست لك الأخرى+(2).
وقد نقل الإجماع على تحريم نظر الرجال الأجانب إلى وجوه النساء الأجنبيات ما يقارب أربعين نفساً من أئمة أهل العلم، وتقدم.
أضف إلى هذا أن هذه الأدلة الواردة بتحريم النظر إلى وجوه الأجنبيات جاءت مطلقة _ كما رأيت _ لم تقيد بأمن الفتنة البتة. ولا ريب أن تقييدها بقيد أمن الفتنة يلزم عليه لوازم فاسدة منكرة:
منها: أن فيه استدراكاً على الله ورسوله، وهذا منكر عظيم وقول على الله بلا علم.
ومنها: أن أمن الفتنة من النظر إلى وجه الأجنبية متعذر، بل هو مستحيل؛ لإخبار الرسول"أن أضر الفتن على الرجال هي النساء+ والواقع شاهد بذلك. ومنها: تقييد الأدلة بقيد ليس منها.
وأما مصادمة هذا القول لمذهب الإمام أحمد×فلأنه ثبت عنه بالتواتر القول بأن المرأة عورة حتى ظفرها.
قال المرذوي: قلت لأحمد: الرجل ينظر إلى المملوكة؟ قال: أخاف عليه الفتنة، كم نظرة قد أَلْقت في قلب صاحبها البلابل+.
__________
(1) انظر مسند الإمام أحمد (4/361).
(2) انظر مسند الإمام أحمد (5/353،357).(1/294)
وقال ابن عباس _ رضي الله عنهما _ =الشيطان من الرجل في ثلاثة: في نظره، وقلبه، وذَكَرِه، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها وقلبها، وعَجزُها+(1).
وقد قيل:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
وقول الآخر:
لا يأمنن على النساء أخ أخاً ... ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تَعَفَّفَ جهده ... لا بد أن بنظرة سيخون
ولو أننا تأملنا الواقع من حولنا لأدركنا أن بداية الفتنة إنما هي النظرة المحرمة على حد قول القائل:
نظرة، فابتسامة، فسلام ... فكلام، فموعد، فلقاء
يقول الإمام العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي×في كتابه =أضواء البيان (6/602):
=وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة وهو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي. ألم تسمع بعضهم يقول:
قلت: اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك .
ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب اهـ.
وقال أبو الفرج بن الجوزي في زاد المسير (5/377) في قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]:
__________
(1) انظر روضة المحبين لابن القيم ص112.(1/295)
وقال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه _ يعني تفسير ابن مسعود بما ظهر منها: أنها الثياب _ وقد نص عليه أحمد، فقال: الزينة الظاهر الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها؛ فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر، فلا يجوز، لا لشهوة ولا لغيرها، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن+اهـ.
وقال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي _عليه رحمة الله تعالى_ في كتابه =القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة+ ص138:
=ومن الفروق الصحيحة أن عورة الصلاة ثلاثة أقسام:
1_ غليظة وهي عورة المرأة المكلفة الحرة. فكلها عورة إلا وجهها.
2_ وخفيفة وهي عورة الذكر الذي دون عشر سنين فهي العورة وحدها.
3_ ومتوسطة وهي ما عدا ذلك من السرة إلى الركبة للرقيقة مطلقاً، وللحرة التي دون البلوغ ومن بلغ عشراً فما فوقها. والله أعلم.
كما فرقوا في عورة النظر: أن الحرة البالغة الأجنبية لا يجوز النظر إلى شيء من بدنها حتى شعرها المتصل من غير حاجة+اهـ.
ومن الشبه
ما نسب لابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه فسر [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] بالوجه والكفين
_ قال ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (8/2574) رقم14398:
= حدثنا الأشج، ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: =وجهها وكفاها، والخاتم+.
وأورده الحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/274).
إسناده صحيح، رجاله ثقات إلا عنعنة الأعمش وهو مدلس. وقد قال علي ابن المديني _ كما في تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي ص636:
= إنما سمع الأعمش من سعيد بن جبير أربعة أحاديث. قال:(1/296)
=قال: صلى بنا ابن عباس على طنفسة+ و =حديث أبي موسى: =ما أحد أصبر على أذى من الله+ و =وقول ابن عباس: تسع أو خمس+ و =قول سعيد بن جبير: =ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر+.
وفي جامع التحصيل للعلائي ص189 رقم 258: =وقول ابن عباس: = الوتر بسبع أو خمس... الخ
وعلى هذا يكون الأعمش دلس في هذا السند يوضح هذا أنه يُروى هذا الأثر عن مسلم بن كيسان الملائي، عن سعيد بن جبير، والأعمش يروي عن مسلم بن كيسان.
ومسلم ضعيف بل قال الفلاس والنسائي وغيرهما: متروك.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/225) و (7/85)
من طريق جعفر بن عون، أنبأ مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:
[وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: الكحل والخاتم+.
وأخرجه ابن جرير في جامع البيان (9/304) رقم25960، 25961 من طريق مروان بن معاوية، عن مسلم، عن سعيد بن جبير به.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/283) وابن أبي حاتم في التفسير (8/2574) رقم14396 من طريق زياد بن الربيع، عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس:
[وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] قال: الكف ورقعة الوجه+
إسناده صحيح. رجاله ثقات. صالح الدهان هو ابن إبراهيم البصري قال ابن عدي في الكامل (4/1389): لم يحضرني له حديث فأذكره وليس معروفاً+اهـ.
ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/393) رقم1722: عن الإمام أحمد أنه قال: ليس به بأس، وعن ابن معين أنه قال: ثقة.
ونقل عبدالرزاق في تفسيره (2/56) بقوله:
=أنا ابن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: هو الكف والخضاب والخاتم+.
إسناده ساقط. ابن مجاهد هو عبدالوهاب. ضعيف جداً، قال أحمد بن أحمد: لم يسمع من أبيه، ليس بشيء ضعيف الحديث، وضعفه أيضاً ابن معين وأبو حاتم وقال سفيان الثوري: كذاب/ انظر رجال تفسير الطبري لأحمد شاكر ومحمود شاكر ص370 رقم1707.(1/297)
وقال ابن جرير (9/304) رقم25962:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن أبي عبدالله نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الظاهر منها: الكحل والخدان+.
إسناده واهٍ بالمره. ابن حميد هو محمد بن حميد بن حيان ضعيف بل كذبه بعضهم وأبو عبدالله نهشل هو ابن سعيد الورداني متروك وكذبه إسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي. والضحاك هو ابن مزاحم لم يسمع من ابن عباس.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/225)
من طريق أحمد بن عبدالجبار، ثنا حفص بن غياث، عن عبدالله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:
[وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: ما في الكف والوجه+.
إسناده ضعيف. أحمد بن عبدالجبار هو العُطاردي ضعفوه، وعبدالله بن مسلم بن هرمز ضعيف أيضاً. ضعفه ابن معين وقال: كان يرفع أشياء، وقال أحمد: صالح الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً ضعيفاً عندنا، وقال أيضاً: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي/ ميزان الاعتدال للذهبي (2/503) رقم4602
وقال ابن جرير في جامع البيان (9/305) رقم25970:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: =قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: الخاتم والمسكة+.
موضوع. ابن جريج هو عبدالملك بن عبدالعزيز لم يسمع من ابن عباس. قال العلائي في جامع التحصيل ص229 رقم472: =قال ابن المديني: إنه لم يلق أحداً من الصحابة+.
والحسن هو الملقب بسنيد بن دواد المصيصي المحتسب قال الحافظ في التقريب ضعيف مع إمامته ومعرفته؛ لكونه كان يلقن حجاج بن محمد شيخه+.
وقال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (12/163):
=وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: رأيت سنيد بن داود عند حجاج ابن محمد _ وهو يسمع منه كتاب =الجامع+ لابن جريج، فكان في كتاب =الجامع+:(1/298)
ابن جريج، أخبرت عن يحيى، وأخبرت عن الزهري، وأخبرت عن صفوان بن سليم. قال: فجعل سنيد يقول لحجاج: قل: يا أبا محمد: ابن جريج عن الزهري، وابن جريج عن يحيى بن سعيد، وابن جريج، عن صفوان بن سليم، وكان يقول له: هكذا. قال: ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج، وذَمَّه على ذلك. قال أبي: وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين أخذها _ يعني قوله: =أُخبرت، وحُدثت عن فلان+.
وقال أبو بكر الخلال: أخبرني محمد بن علي، قال: حدثنا الأثرم، أنه سمع أبا عبدالله يحكي عن سنيد نحو هذا الفعل مع حجاج، قال: وتكلم أبو عبدالله في ذلك بكلام يُنكر على سنيد، وقد شرحت الأحاديث في علل الأحكام+.
قال أبو بكر الخلال، فنرى أن حجاجاً كان منه هذا في وقت تغيره؛ لأن عبدالله بن أحمد حكى عن أبيه، أن حجاجاً تغير في آخر عمره، ونرى أن أحاديث الناس عن حجاج صحاح صالحة إلا ما روى سنيد من هذه الأحاديث+اهـ.
فهذا ما وقفت عليه من أسانيد ما نسب إلى ابن عباس من القول بأنه فسر آية النور: [مَا ظَهَرَ مِنْهَا] بالوجه والكفين، وهي كما رأيت أسانيد واهية، لا يصح الاحتجاج بها البتة؛ لسقوط أسانيد هذا القول ونكارة متنه، يوضح هذا وجوه:
الوجه الأول: أنه ثبت عن ابن عباس أنه قال: المرأة المحرمة تغطي وجهها، قال الإمام أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص108_110:
=باب ما تلبس المرأة في إحرامها+... ثم قال:
=حدثنا أحمد، قال: حدثنا يحيى بن روح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء: أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال:
=تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به، قال روح _في حديثه_ قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي: =ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها.
إسناده صحيح، رجاله ثقات، لا مطعن فيهم. ابن جريج قد صرح بالإخبار.(1/299)
وروى الحافظ البيهقي في السنن الكبرى (7/94) وابن جرير في جامع البيان (9/305) رقم25967:
من طريق أبي صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث، ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] قال: الزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم. فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها+.
إسناده حسن إلا أنه منقطع. علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس ولم يدركه.
وقيل: إن الواسطة بينهما مجاهد بن جبر التابعي الكبير.
الوجه الثاني: أن هذا القول المنسوب لابن عباس _ على تقدير صحته _ يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها. قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (3/274):
= أي لا يُظْهِرْنَ شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود كالرداء والثياب _يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقال الأعمش: =عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]، قال: وجهها وكفيها والخاتم، وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك، وهذا يحتمل أن يكون تفسير للزينة التي نهين عن إبدائها كما قال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبدالله قال في قوله: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ]: الزينة القرط والدملوج والخلخال والقلادة، وفي رواية عنه: بهذا الإسناد قال:(1/300)
الزينة: زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري: لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا يحل له إلا الأسوة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس، فلا يبدو منها إلا الخواتم+اهـ.
قلت: قول الزهري جاء عند عبدالرزاق في التفسير (2/56) بلفظ:
=عن معمر، عن الزهري، في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] قال: =يرى الشيء من دون الخمار، فأما أن تسلخه فلا+اهـ. يوضح هذا الوجه الثالث:
الوجه الثالث: أن الله سبحانه وتعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً، ثم استثنى ما ظهر من الزينة بلفظ الفعل الماضي، فقال: [مَا ظَهَرَ مِنْهَا]. والذي يفهم من ظاهره أحد شيئين: إما أن تَظْهَرَ الزينةُ بدون قصد ولا تعمد، وإما أن يراد بها ما لا يمكن إخفاؤه كظاهر الثياب والأردية ونحو ذلك.
وأما تفسير =ما ظهر من الزينة بما يظهره الإنسان قصداً وتعمداً منها ففيه نظر!
قال العلامة أبو الأعلى المودودي×في تفسير سورة النور ص158:
=أما نحن فنكاد نعجز أن نفهم بأي قاعدة من قواعد اللغة يُجَوَزُ أن يكون معنى [ما ظهر]: = ما يظهره الإنسان+ فإن الفرق بين = أن يظهر الشيء بنفسه+ وأن يظهره الإنسان بقصده+ واضح، لا يكاد يخفى على أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة، ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حد =إظهارها عمداً+ مخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي"ما كن يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه، وأن الحجاب كان شاملاً للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام+اهـ. يؤيد هذا:(1/301)
الوجه الرابع: وهو أنه ورد عن ابن عباس ما يوضح مراده من التفسير المذكور قال ابن جرير في تفسير آية الأحزاب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ... الآية] (جامع البيان في تأويل القرآن (10/331)):
=يقول تعالى ذكره لنبيه": يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا تتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوهن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن؛ لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنه حرائر بأذىً من قول.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به، فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن فلا يبدين منهن إلا عيناً واحدة.
ذكر من قال ذلك، ص332 رقم28647:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:
قوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ].
أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة+.
إسناده حسن. رجاله ثقات وذكر الحافظ المزي في تهذيب الكمال (20/490) الواسطة بين علي بن أبي طلحة وابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنها مجاهد بن جبر التابعي الجليل.
وله شاهد جاء بالتسلسل الوصفي بالحجاب من فعل عَبِيْدَة بن عمرو السلماني أخرجه الطبري في جامع البيان (10/332) رقم28648 قال:
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عَبيدة في قوله:
[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] فلبسها عندنا ابن عون: بردائه: =فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريباً من حاجبه أو على الحاجب+.(1/302)
إسناده صحيح، رجاله ثقات أثبات. يعقوب هو الدورقي، وابن عون هو عبدالله بن عون بن أرطبان، ومحمد هو ابن سيرين، وعبيدة هو ابن عمرو السلماني المرادي تابعي كبير مخضرم ثقة ثبت كان شريح القاضي إذا أشكل عليه شيء سأله.
وقال ابن جرير أيضاً (10/332) رقم28649:
=حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال:
سألت عبيدة عن قوله تعالى: [قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] قال: فقال بثوبه: =فغطى رأسه ووجه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وأخرجه أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء في معاني القرآن (2/238):
حدثني يحيى بن المهلب أبو كدينة، عن ابن عون، عن ابن سيرين في قوله:
[يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] هكذا قال: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وانظر تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/3155) رقم17791، فقد جاء ما نصه:
=عن محمد بن سيرين÷، قال: سألت عبيدة السلماني÷عن قول الله تعالى [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] فتقنع بملحفة، فغطى رأسه ووجه، وأخرج إحدى عينيه+.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/283) عن عكرمة مولى ابن عباس، فقال:
=حفص، عن سليمان، عن أبي صالح وعكرمة، [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] قالا:
= ما فوق الدرع إلا ما ظهر منها+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. حفص هو ابن غياث بن طلق النخعي أبو عمرو الكوفي القاضي. وسليمان الأعمش، وأبو صالح هو مولى أم هانئ، واسمه =باذان+ و =يقال: =ذكوان+.
فهذا مذهب ابن عباس، وهذا مذهب تلامذته قد ثبت عنهم أنهم قالوا: إدناء الجلابيب: هو تغطية وجه المرأة، وأن معنى =ما ظهر من الزينة+ هو ما فوق الدرع.(1/303)
الوجه الخامس: أن تفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف ظاهر الآية، فيمتنع أن صحابياً مثل ابن عباس الذي دعا له النبي"أن يفقه الله بالدين ويعلمه التأويل أن يفسر الزينة بما يخالف ظاهرها، وإليك البيان:
قال الإمام العلامة الشنقيطي×في أضواء البيان (6/198):
=اعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول، وقدمنا أيضاً في ترجمته من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن فيكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ، وقد ذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة وإذا عرفت ذلك، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان الذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها.
أما الأول منهما: فبيانه أن نقول: من قال في معنى [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلاً توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول وهي أن الزينة في لغة العرب: هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل. فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال:= الزينة الظاهرة+: الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرنية على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه+.(1/304)
وأما نوع البيان الثاني المذكور، فإيضاحه: =أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مراداً به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها، كقوله تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]، وقوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ]، وقوله تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا]، وقوله تعالى: [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا]، وقوله تعالى: [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]، وقوله تعالى: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ]، وقوله تعالى: [قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ]، وقوله تعالى عن قوم موسى: [وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ]، وقوله تعالى: [وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ].
فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء، وهو ليس من أصل خلقته _ كما ترى _ وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب كقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن غير عواطل
وبه تعلم أن تفسير الزينة بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسرها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين، فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب.
وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:(1/305)
=أظهر القولين المذكورين _ عندي _ قول ابن مسعور÷: أن الزينة الظاهرة: هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية.
وإنما قلنا: إن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها، ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها، كما هو معلوم، والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي+اهـ.
قلت: أما مذهب ابن عباس _ رضي الله عنهما _ فهو موافق لمذهب ابن مسعود في ستر الوجه عن الأجانب؛ فقد رأيت أسانيد الروايات عنه في كون الوجه من الزينة التي يجوز إبداؤها للأجانب أنها كلها ضعيفة، لا تصح. ورأيت أسانيد الروايات التي صرح بها في تغطية الوجه أنها صحيحة لا مطعن فيها. ولهذا جزم المفسرون بأن مذهبه هو القول بتغطية الوجه، وخذ أمثلة لذلك:
قال الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/544) في آية الأحزاب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ... الخ]:
قال: =جمع جلباب وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة؛ ليعلم أنهن حرائر+.
وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/497):
=قال علي بن أبي طلحة: =عن ابن عباس: =أمر نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله _ عز وجل _: [يدنين عليهن من جلابيبهن] فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى+اهـ.
وتقدم نقل ابن جرير عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ بمثا هذا.(1/306)
وقال أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/5325) في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ..الخ]: فيه ست مسائل إلى أن قال:
=الثالثة: من جلابيبهن+ الجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن... إلى أن قال: =واختلف الناس في صورة إرخائه، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني:
=ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة: =ذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه+اهـ.(1/307)
وبتفسير ابن عباس وعَبيدة السلماني هذا فسرها علماء التفسير _ فيما وقفت عليه _ فلم يختلفوا البتة بأن المراد بإدناء الجلابيب عليهن هو تغطية وجوههن ذلك أقرب أن يعرفن، فلا يؤذين. منهم إمام المفسرين ابن جرير في جامع البيان (10/331)، وابن جَزي الكلبي في تفسيره: =التسهيل لعلوم التنزيل+ (3/144)، وأحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/1586)، والبغوي في =معالم التنزيل+ (3/544)، وأبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص في كتابه =أحكام القرآن+ (3/486)، والقاضي أبو السعود بن محمد العمادي في كتابه =إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم+ (4/433)، وأبو الفرج جمال الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي في كتابه: =زاد المسير في علم التفسير+(6/224)، وأبو القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره =الكشاف+ (3/543)، والشيخ معين الدين محمد بن عبدالرحمن الحسني الحسيني الإيجي الشافعي في تفسيره =جامع البيان+ ص173، وأبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره =القرآن العظيم+ (3/497)، وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي في تفسيره (7/240)، والقاضي أبو محمد عبدالحق بن غالب بن عطية الأندلسي في تفسيره (13/99_100)، والإمام أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره: =الجامع لأحكام القرآن+ (6/5325)، والألوسي في تفسيره =روح المعاني+ (11/89)، وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء في كتابه =معاني القرآن+ (2/238)، وإمام المحققين، وقدوة المدققين القاضي ناصر الدين أبو سعيد عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي في تفسيره: =أنوار التنزيل وأسرار التأويل+ (2/252)، وعلامة القصيم، الأستاذ الجليل الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره: =تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (6/247)، ومحمد جمال الدين القاسمي في تفسيره: =محاسن التأويل+ (8/308)، والعلامة جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي في تفسيره: =تفسير الجلالين(1/308)
ص559 والشيخ أحمد الصاوي المالكي في تفسيره: =الصاوي على الجلالين+ (3/239)، والإمام الكبير والعلامة النحرير محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي في تفسيره: =أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن+ (6/587)، والإمام العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني في تفسيره: =فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير+ (4/304)، ونَقَلَ عن الواحدي أنه قال: =قال المفسرون: =يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عيناً واحدة+.
وثبت ذلك عن الإمام عطاء بن أبي رباح والإمام طاوس، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة:
حدثنا ابن فضيل، عن عبدالملك عن عطاء، قال: =يرفع المحرم ثوبه _ إذا كان مضطجعاً _ إلى عينه، وتشد المحرمة ثوبها على وجهها+(1).
إسناده صحيح، رجاله ثقات. ابن فضيل هو محمد، وعبدالملك هو ابن أبي سليمان كان سفيان يسميه: =الميزان+ وعطاء هو ابن أبي رباح.
وقال أيضاً ص319:
حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال:
=ترد المحرمة الثوب على وجهها، ولا تنتقب+.
أسناده صحيح. ابن طاوس هو عبدالله.
فهذا _ كما ترى _ تفسير هذين الإمامين من أكابر الصحابة وغيرهما من أصحابهما من التابعين لزينة المؤمنات التي نهين عن إبدائها للأجانب، وأمرن بسترها، والوجه من أولوياتها؛ لأنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم.
ومن الشبه
استدلال أهل السفور بحديث: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+.
قالوا: هذا الحديث يدل على وجوب كشف وجه المرأة المحرمة، كما يجب كشف رأس الرجل المحرم!
وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف، والحديث الضعيف لا يحتج به في باب الأحكام والحلال والحرام باتفاق أهل العلم بالحديث.
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة =الملحق+ ص307.(1/309)
وعلى هذا فلا يجوز أن تعارض به الأدلةُ الصحيحة؛ لعدم مكافأته لها، ولا يجوز العمل به لأن العمل به يلزم منه مفسدة كبرى وهي ترك وإهمال العمل بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس المطرد، والاعتبار الصحيح التي اتفقت وتواطأت دلالتها على فرضية احتجاب المؤمنات بتغطية وجوههن وأبدانهن عن الرجال الأجانب، وتحريم سفورهن، واختلاطهن بالرجال.
وبيان ضعف هذا الحديث فيما يلي:
روى عبدالله بن رجاء الغداني، قال: حدثنا أيوب بن محمد أبو الجمل اليمامي _ثقة_ عن عبيد بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله": =ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها+.
أخرجه الدارقطني في السنن (2/294)، والطبراني في الكبير (12/370) رقم 13375 والأوسط (4/323) رقم 6122، وابن عدي في الكامل (1/349)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/116)، وأبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (7/9) والبيهقي في السنن (5/47).
هذا لفظ العقيلي والخطيب البغدادي.
ولفظ ابن عدي والدارقطني، والطبراني في كتابيه والبيهقي:
=ليس على المرأة حرم إلا في وجهها+.
قال الطبراني: لم يرفع هذا الحديث عن عبيدالله بن عمر إلا أيوب أبو الجمل، تفرد به عبدالله بن رجاء+اهـ.
وقال ابن عدي: وهذا الحديث لا أعلم يرفعه، عن عبيدالله غير أبي الجمل هذا، وأبو الجمل لا أعرف له كثير شيء، وهو معروف بهذا الحديث+اهـ.
وقال أبو بكر الخطيب:
=قال البرقاني: قال الدار قطني: لم يرفعه غير أبي الجمل، وكان ضعيفاً، وغيره يرويه موقوفاً+اهـ.
وقال الزيلعي في نصب الراية (3/93):
=قال الدارقطني في =علله+: أيوب هذا ضعيف، وقد خالفه جماعة كابن عيينة، وهشام بن حسان وعلي بن مسهر، وعبدالرحمن بن سليمان وابن نمير، وإسحاق الأزرق وغيرهم، فرووه عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. وهو المطلوب+اهـ.
وقال العقيلي: لا يتابع على رفعه+اهـ.(1/310)
وقال البيهقي: وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيف عند أهل العلم، فقد ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مجهول عن عبيدالله بن عمر مرفوعاً، والمحفوظ موقوف+اهـ.
وقال ابن القطان الفاسي في =بيان الوهم والإيهام (5/154) رقم2393:
=لا ينبغي أن يقال فيه: صحيح؛ فإن أبا الجمل مختلف فيه، وقد فسر تضعيفه بنكارة ما يرويه، وهو مسقط للثقة بروايته+اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (2/272):
=في إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل، وهو ضعيف+.
وقال الذهبي في الميزان (1/292) رقم1097:
=وروى عبدالله بن رجاء حدثنا أيوب بن محمد، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله": =ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها+ المحفوظ موقوف+اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع (3/219):
=رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أيوب بن محمد اليمامي، وهو ضعيف+اهـ.
وقال ابن القيم في تهذيب السنن (2/350) رقم1749:
هذا حديث لا أصل له، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمد عليها، ولا يعرف له إسناد، ولا تقوم به حجة، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها، وأنه يحرم عليها فيه ما أعد للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه، لا مطلق الستر كاليدين+اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (1/610) 1518_1099 في أيوب هذا:
=قال ابن حبان: كان قليل الحديث، ولكنه خالف الناس في رواياته، فلا أدري أكان متعمداً أو يقلب ولا يعلم+.
وقال العلامة عبيدالله المباركفوري في مرعاة المفاتيح (9/334): إسناده ضعيف.
وقال العلامة الشوكاني في السيل الجرار (2/180) في سند هذا الحديث:
=لا يثبت من وجه يصلح للاحتجاج+اهـ.
وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/329): وهو حديث ضعيف+اهـ.
قلت: ومن طرق الموقوف على ابن عمر رضي الله عنهما ما أخرجه الدارقطني في السنن (2/294) رقم260 ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن (5/47)(1/311)
من طريق هشام بن حسان، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+.
قال البيهقي: هكذا رواه الدراوردي وغيه موقوفاً على ابن عمر+اهـ.
قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين المقدسي أبو عبدالله محمد بن مفلح في الفروع (3/450): رواه الدارقطني بإسناد جيد+اهـ.
وما أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/116) رقم137
من طريق سعيد بن منصور، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيدالله به.
قلت: حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+ هذا الحديث مع ضعفه فيه نكارة، وذلك:
أن فيه: أن إحرام الرجل في رأسه+. وهذا مخالف للحديث الصحيح الصريح الذي ينص على أن المحرم لا يلبس القميص والعمائم والبرانس والسراويل والخفاف.
وقد نقل غير واحد الإجماع على ذلك منهم ابن عبدالبر في الاستذكار (11/28) رقم15254، يعني أن المحرم ممنوع من لبس هذه المذكورات على هيأتها، ويجوز لها لبسها على غير هيأتها، كما جاز له لبس الرداء والإزار.
وفيه أيضاً: أن إحرام المرأة في وجهها أي أنه يجب عليها كشفه، كما يجب على المحرم كشف رأسه، وهذا مخالف لما ثبت بالنص والإجماع أيضاً من أن المرأة كلها عورة يجب عليها ستر جميع بدنها عن نظر الرجال الأجانب بما شاءت من الثياب إلا وجهها وكفيها، فتستر الوجه بغير النقاب والبرقع، والكفين بغير القفازين كما هو مقتضى نص الحديث الصحيح: =ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين+.
فالمحرمة ممنوعة من تغطية وجهها بالنقاب وما في معناه كالبرقع خاصة، فأما ما عداهما من الأغطية فباقية على أصلها، ودلالتها لم تمنع منها، وكذلك هي ممنوعة من لبس القفازين في يديها ولم تمنع من سترهما بما شاءت من غيرهما.
وقد ورد عن السلف ما يؤيد هذا:
قال صالح بن الإمام أحمد في مسائل لأبيه (1/310) رقم261:(1/312)
وسألته عمن قال: =إحرام المرأة في وجهها+ ما معناه؟ كأنها لا تجتنب الزينة إلا في وجهها، أو كيف؟ قال:
=لا تخمر وجهها، ولا تنتقب، والسدل ليس به بأس، تسدل على وجهها+.
وقال ابن هانئ في مسائله للإمام أحمد (1/157) رقم787:
=سألت أبا عبدالله عن المرأة المحرمة، تسدل على وجهها؟ قال:
=تسدله على وجهها إذا لقيت الرفاق، فإذا جاوزت كشفت عن وجهها، ولا تغطيه عمداً+اهـ.
وعن طاووس بن كيسان، قال:
=لتدني أو قال: لتدلي المرأة الحرام ثوبها على وجهها ولا تنتقب+.
رواه البيهقي في المعرفة (7/142) رقم9603، والشافعي في الأم (2/162).
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال:
=تدلي عليها من جلبابها، ولا تضرب به قلت: وما تضرب به؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب، فقال:
=لا تغطيه، فتضرب به على وجهها، فذلك الذي يبقى عليها، ولكن تسدل له على وجهها كما هو مسدولاً ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه+.
أخرجه الإمام الشافعي في الأم (2/162) والبيهقي في المعرفة (7/141) رقم9602، وقال الشافعي في الأم (2/162):
=وتفارق المرأة الرجل، فيكون إحرامها في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة، ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها وهي محرمة+ كما تقدم _ وقالت عائشة أم المؤمنين _رضي الله عنها_: =كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله" فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها.. الحديث.
قال الإمام الشوكاني× في السيل الجرار (2/180) في هذا الحديث:(1/313)
=وليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههن كان لأجل الإحرام، بل كن يكشفن وجوههن عند عدم من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه. وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه، فإن معناه معنى ما ذكرناه فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به والأصل الجواز حتى يرد الدليل الدال على المنع+اهـ.
وقال الإمام ابن القيم×في إعلام الموقعين (1/223):
=فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمرالله لها أن تدني عليها من جلبابها؛ لئلا تعرف ويفتتن بصورتها+.
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (2/501):
=ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم لا يغطى بشيء، فلا دليل معه+اهـ.
وقال ابن القيم في تهذيب السنن (2/350) رقم1749:
=فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبي" حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب+اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية× في مجموع الفتاوى (26/112):
=ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي" أنه قال:
=إحرام المرأة في وجهها، وإنما هذا قول بعض السلف+اهـ.
قلت: ومحصل قول السلف في حديث: =إحرام المرأة في وجهها.. الخ أنه حديث لا أصل له ولم يثبت بوجه من الوجوه أن الرسول" قاله.
وعلى هذا يكون الاحتجاج به على وجوب كشف وجه المحرمة مطلقاً باطلاً، لا أصل له في الشرع. وإنما الثابت عنه" أنه نهاها أن تستر وجهها ويديها بالنقاب والقفازين فقط، ولهذا جاز لها بالإجماع أن تستر وجهها حال الإحرام بأي ساتر غير النقاب ومثله البرقع وهو كل ما صنع وفصل على قدر العضو.
ومما يؤيد هذا ويوضحه أن الرجل المحرم منهي عن لبس القميص والسراويل والبرانس كما في الحديث الصحيح. وجاز له لبس ما يستر عورته وبدنه بغير المذكورات وذلك مثل الإزار والرداء، ونحوهما.(1/314)
ومن هنا نعلم يقيناً أن الشرع لم يحظر على المرأة المحرمة تغطية وجهها بعموم الأغطية، وإنما منعت من تغطيته بغطاء خاص فقط وهو النقاب وما في معناه.
وتقدم قول ابن حزم في المحلى (7/102) مسألة رقم828:
=فقد كذبوا وما نهيت المرأة عن تغطية وجهها، بل مباح لها في الإحرام_ وإن نهيت عن النقاب فقط+اهـ.
شبهة: أن النظر إلى المرأة الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة
قال الإمام العلامة أبو عبدالله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي× في الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/316):
=فصل: الإنكار على النساء الأجانب كشف وجوههن، هل يسوغ الإنكار على النساء الأجانب إن كشفن وجوههن في الطريق؟ على أن المرأة هل يجب عليها ستر وجهها، أو يجب غض البصر عنها... إلى أن قال:
=فأما على قولنا، وقول جماعة من الشافعية وغيرهم: أن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة، ولا خلوة، فلا ينبغي أن يسوغ الإنكار+اهـ.
قلت: وفي عزو جواز نظر الأجانب إلى الأجنبية للحنابلة نظر ظاهر، وذلك أن مذهب الإمام أحمد الثابت عنه: أن المرأة الأجنبية عورة حتى ظفرها_ كم تقدم_ وممن نقل ذلك عن الإمام أحمد بن مفلح نفسه في كتابه المشهور =الفروع في فقه الإمام أحمد بن حنبل+ (1/330) فقال في عورة الصلاة ما نصه:
=والحرة البالغة كلها عورة حتى ظفرها، نص عليه إلا الوجه اختاره الأكثر، وعنه:
=والكفين، وفاقاً لمالك والشافعي، وقال شيخنا(1): والقدمين وفاقاً لأبي حنيفة، وفي الوجه رواية، وذكر القاضي عكسها إجماعاً+اهـ.
وقال ابن مفلح أيضاً في المصدر نفسه في عورة النظر (3/450):
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره وفاقاً للثلاثة... إلى أن قال:
__________
(1) يعني بشيخه: شيخ الإسلام ابن تيمية.(1/315)
=ويجوز لها أن تسدل على الوجه لحاجة وفاقاً للثلاثة؛ لقول عائشة: =كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله" محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+.
وعلى هذا القول تواطأت، واتفقت كتب الحنابلة الفقهية كما سلف وناهيك بقول شيخ المذهب الإمام الموفق ابن قدامة إذ يقول في المغني (5/154) رقم590 في قول الخرقي: =والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها+. قال:
=فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها+ ثم أورد حديث عائشة آنف الذكر مستدلاً به.. ثم قال: =ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة+اهـ.
وأما عزو جواز النظر إلى الأجنبية من غير شهوة لجماعة من الشافعية فلا يلتفت إليه وذلك لمخالفته لصريح أدلة القرآن والسنة والإجماع والقياس، ومخالفته لمذهب الإمام الشافعي، فقد ثبت عن الإمام الشافعي أنه قال في النظر إلى المخطوبة في كتابه الأم (8/264):
=وإذا أراد أن يتزوج المرأة، فليس له أن ينظر إليها حاسرة، وينظر إلى وجهها وكفيها وهي متغطية بإذنها وبغير إذنها. قال الله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] قال: الوجه والكفان+اهـ.
ونقل ذلك أبو الحسن الماوردي في الحاوي الكبير (9/33) عن الإمام الشافعي وتقدم.
وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر (2/5):
=ومن ثم حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصة، ولو مع يدها _بناءً على الأصح_ من حرمة نظر اليدين والوجه؛ لأنهما عورة في النظر من المرأة، ولو أمة_على الأصح_ وإن كانا ليس عورة من الحرة في الصلاة، وكذلك يحرم سائر ما انفصل منها؛ لأن رؤية البعض ربما جَرَّ إلى رؤية الكل، فكان اللائق حرمة نظره مطلقاً أيضاً، وكما يحرم ذلك على الرجل للمرأة كذلك يحرم عليها أن ترى شيئاً منه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة+اهـ.(1/316)
وقال إمام المحققين وقدوة المدققين القاضي ناصر الدين أبو سعيد عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي في تفسيره =أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/121) في قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها]:
=والمستثنى هو الوجه والكفان، لأنهما ليسا بعورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة+اهـ. بل حكى النووي× حرمة النظر إلى الأجنبية، فقال في شرح مسلم (4/30):
=إن نظر الرجل إلى عورة المرأة، والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع... إلى أن قال:
وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها+اهـ.
قلت: وممن نص على أن بدن المرأة عورة حتى الوجه والكفان من الشافعية:
ابن حجر الهيتمي في الزواجر _كما تقدم آنفاً_ والإمام الشرقاوي على التحرير (1/173)، والشهاب في شرحه_ كما في الروضة وغيرها.
وتقدم قول النووي في المنهاج حكايته: حرمة كشف وجه المرأة وكفيها، وإن انتفت الفتنة وأمنت الشهوة+.
شبهة: أن أكثر العلماء يرون أن وجه المرأة ليس بعورة مطلقاً فلا يجب ستره عن الرجال الأجانب
يرى بعض دعاة السفور أن أكثر العلماء، ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه_ أن وجه المرأة ليس بعورة يجب ستره متشبثاً بقول الإمام ابن عبدالبر× في كتابه التمهيد (6/369) في حكايته أقوال أئمة المذاهب في تحديد عورة الصلاة عندهم، وفي آخره قال:
=وعلى قول ابن عباس وابن عمر =الفقهاءُ+ في هذا الباب_ يعني أنهما فسرا =الزينة+ بالوجه والكفين_ ثم قال: فهذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها+اهـ.
وبعد أن ساق هذه العبارة أمر بتأمل =وغير صلاتها+.
قلت: فإذا تأملنا =استتار المرأة في غير صلاتها+ نجد أن ابن عبدالبر قال في كلامه المشار إليه ما نصه:(1/317)
=وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه، وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة. فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة؟!!+اهـ.
فانظر أيها المسلم اللبيب هل تجد في كلام ابن عبدالبر ذكراً لحكم عورة النظر قد عزاه لأكثر العلماء أو لأقلهم ولأبي حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد؟!
وقول ابن عبدالبر بعد سياقه الإجماع المذكور:
=وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك كل من نظر إليها.. الخ فقد قيده =بغير ريبة ولا مكروه+، فإن كان بريبة أو مكروه فغير جائز وهذا القيد متعذر أو مستحيل. يكفي في رده حديث: =اصرف بصرك فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية+.
فالنظر بريد الزنا؛ فإذا نظر جاءت الشهوة والريبة والمكروه وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر للحقائق. ولهذا قال ابن عبدالبر:
=وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة+؟!
وأما تفسير ابن عباس وابن عمر لـ =الزينة+ بالوجه والكفين ففي سنده عنهما مقال كما تقدم بسطه.
وأما عزو القول بجواز نظر الأجانب لوجوه المؤمنات للأئمة الأربعة، وأكثر العلماء فخطأ ظاهر ومنكر صريح؛ وذلك لمخالفته لما نقل بالحرف عنهم من الإجماع والاتفاق على وجوب ستر وجوه المؤمنات من نظر الأجانب إليهن، وممن نقل الإجماع عنهم في ذلك الإمام ابن عبدالبر نفسه، وتذكيراً للقارئ فقد تقدم عنه أنه قال في كتابه =التمهيد (15/108):(1/318)
= وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها وهي محرمة إلا ما ذكر عن أسماء. روى مالك عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، أنها قالت: =كنا نُخَمِّرُ وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق+اهـ.
وقال في الاستذكار (11/28) رقم 15257:
=وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها+اهـ.
وقال في كتابه =الكافي في فقه أهل المدينة المالكي+ (1/388):
=والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير القفازين والبرقع والنقاب، ولا تغطي وجهها، وإحرامها في وجهها، وكفيها، ولا بأس بسدل ثوبها على وجهها؛ لتستره من غيرها+.
بل إنه يرى أن تطوف الشواب ليلاً فقال في ذلك:
= وينبغي للمشهورة بالجمال ألا تطوف إلا ليلاً، وإن طافت نهاراً وأسدلت ثوبها على وجهها استحب ذلك لها وطافت في ستر+اهـ.
بل لقد قال ابن العربي× في أحكام القرآن (3/1579):
= والمرأة كلها عورة: بدنها وصورتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ ويعرض عندها+.
شبهة تقويل الأئمة الأربعة قولاً لم يقولوه البتة
قال بعض دعاة السفور:
= الأئمة الأربعة اتفقت أقوالهم على تخيير المرأة المحرمة في السدل على وجهها، وعدم إيجاب ذلك عليها خلافاً للمتشددين والمقلدين+.
والجواب:
أن يقال: سبحان الله ما أعظم شأنه، وما أعظم حلمه!! كيف يتجاسر عاقل يدري ما يقول أن يعزو هذا القول لأئمة المسلمين، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى؟! فعفا الله عنا وعنك، لقد أبعدت النجعة بسلوكك هذه السبيل المعوجة في عزوك هذا المذهب الردي المدمر للدين والأخلاق لأئمة صحيحي المحجة.(1/319)
فرويداً رويداً، ومهلاً مهلاً أيها القارئ الكريم لا تكن أسير الهوى، تأمل مذاهب هؤلاء الأئمة في هذه المسألة الهامة والمهمة، تجد أن مذاهبهم في هذه المسألة في الحقيقة والواقع بخلاف هذا القول، يعلم هذا كل من سلك طريق العدل والإنصاف وتجرد عن التعصب للهوى والخلاف، وذلك بأن يعلم أن المسلم مأمور بقواطع الأدلة بستر عورته وبدنه في حله وإحرامه.
ولما كان لباس الحل يغاير لباس الإحرام في الهيئة والمواضع، بين ذلك النبي" وفصله أكمل تفصيل، فقال" لما سئل عما يلبس المحرم؟:
=لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحد ليست له نعلان، فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً مسه زعفران، ولا ورس، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين+/ رواه البخاري في الصحيح (2/214) كتاب جزاء الصيد/ باب ما ينهى من الطيب للمحرم.
فالمحل يلبس ما يستر عورته وبدنه من لباسه المعتاد ما شاء على صفته، فيلبس القميص على صفته، والسروايل على صفتها والبرانس والعمائم على صفتها المعتادة، وفي هذا الحديث نهى المحرم أن يغاير في لباس بدنه وعورته في الصفة والهيئة لباس المحل، فلا يلبس القميص على صفته المعتادة ولا يلبس السراويل على صفتها المعتادة.
وأما رأس الرجل المحرم فيظل مكشوفاً بدون لباس لا بمعتاد ولا بنادر.
يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (3/402):
= المراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له، ولو في بعض البدن، فأما لو ارتدى بالقميص مثلاً، فلا بأس+اهـ.
قلت: معناه: أنه يجوز له لبس المذكورات لكن على غير الصفة والهيئة المعتادة، وذلك بأن يرتدي بها، ويتزر، ولا بأس بلبس الإزار والرداء، ومن هنا نقول: لو عُبِّرَ عن لباس المحرم بستر عورته وبدنه بلفظ:
=ولا بأس أن يرتدي المحرم الرداء، ويتزر بالإزار+ لكان أولى.
هل يفهم عاقل من هذه العبارة أن ستر عورة المحرم جائز، لا واجب؟!!!(1/320)
وأنه مخير بين ستر عورته وبين كشفها أمام الناظرين؟
إذا تقرر هذا فهو نظير قول الأئمة:
=المحرمة لا تخمر وجهها ولا تنتقب والسدل ليس به بأس تسدل على وجهها الثوب عند نظر الرجال إليها. وذلك أنها مأمورة بستر بدنها ووجها عن نظر الرجال إليها بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، ومنهية في حال الإحرام عن تغطية وجهها بنوع خاص من لباس الوجه الذي هو النقاب ونوع خاص من لباس اليدين الذي هو القفاز، فلم تنه عن تغطية هذين العضوين بغير النقاب والقفاز البتة.
وعلى هذا فالأدلة المذكورة التي توجب على المرأة ستر وجهها وكفيها وتحظر عليها السفور باقية على حالها لم يرد نهي يعارضها ولا نسخت البتة.
والحامل للفقهاء على أن يعبروا عن حكم تغطية وجه المحرمة بعبارة =لا بأس بالسدل+ أو =يجوز السدل+ لئلا يظن أن النهي عن لبس النقاب والقفازين عام لكل ساتر لوجه المحرمة وكفيها.
قال عبدالله بن مبارك بن عبدالله البوصي في كتابه =إجماعات ابن عبدالبر في العبادات (2/897) بعد أن أورد قول ابن عبدالبر بلفظ:
=وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال إليها+ قال:
==ثبوت الإجماع وصحته على جواز تغطية المرأة المحرمة لوجهها _إذا كانت بحضرة رجال_ وإنما حكاه ابن عبدالبر مع بداهته ووضوحه حتى لا يتصور أن منعها من تغطية وجهها حال الإحرام عام حتى ولو كانت بحضرة رجال، بل تغطيته واجبة بلا إشكال. والله أعلم+اهـ.
هذا من وجه.
ومن وجه آخر: أن الفقهاء عندما يعدلون عن التعبير بوجوب ستر وجه المحرمة أو بحظر السفور بحضرة الرجال الأجانب إلى التعبير بقولهم:
=لا بأس بسدل الثوب على وجهها سدلاً حفيفاً+.
أو =قد رخص لها أن تسدل الثوب على وجهها... الخ+
أو =فإن احتاجت سدلت على وجهها.. الخ+.
أو =السدل ليس به بأس، تسدل على وجهها..الخ+.
أو =وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها عن نظر الرجال إليها+.(1/321)
أو =فإن أرادت أن تغطي وجهها، فلتسدل الثوب سدلاً خفيفاً+.
وما جرى هذا المجرى
فعذرهم في ذلك أنهم يعدون كشف وجه المحرمة نسكاً من أعمال الإحرام، ولهذا تراهم يقولون:
=إحرام المرأة في وجهها+ أي أنه يجب كشفه حال الإحرام، ولا يحجب ولا يستر بغطاء ملاصق لبشرة الوجه لا بنقاب ولا بغيره، ولكن عند الحاجة والإرادة إلى حجبه وستره عند ملاقاة الرجال الأجانب، أو عند حضورهم رخصوا لها بستر وجهها بشيء غير ملاصق للبشرة ولا ماسٍ لها، فقالوا:
=السدل ليس به بأس ونحو ذلك، وقالوا يجب أن يكون متجافياً عن الوجه، ولو برفعه بخشبة ونحوها.
ومن وجه ثالث: ثبت النقل الصريح عن الأئمة الأربعة أن مذهبهم القول بفرض ووجوب حجب وجوه المؤمنات عن نظر الرجال إليهن نقل ذلك من علماء الحنفية صاحب الهدية العلائية والعيني، ومن الحنابلة ابن عبدالهادي ومن الشافعية النووي وابن رسلان وإمام الحرمين. وتقدم.
ومن وجه رابع: قد ثبت العزو إلى الأئمة الأربعة أن مذهبهم القول بأن المرأة عورة، نقل ذلك من علماء الحنفية الاسبيجاني والمرغيناني والموصلي.
ومن علماء المالكية ابن العربي، وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية للإمام مالك.
ومن علماء الشافعية: السبكي وابن حجر الهيتمي، والشرقاوي والبيضاوي والسيوطي والموزعي، والزيادي، وبه قال الإمام الشافعي.
وهو قول الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وبه قال علماء الحنابلة كافة كما في كتبهم الفقهية. وقد سلف نقل ذلك عنهم بالنص والحرف، وقد اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم على وجوب ستر العورة وحظر السفور، والاختلاط بالرجال.
بل لقد أجاز الحنفية تغطية وجه المحرمة بالنقاب الذي ورد الخبر باجتنابه.
قال العيني في عمدة القاري (10/199) في قوله" =ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين+:
= ومعنى: =لا تنتقب+ لا تستر وجهها، واختلفوا في ذلك، فمنعه الجمهور، وأجازه الحنفية، وهو رواية عن الشافعية والمالكية+اهـ.(1/322)
قلت: يعني أن الجمهور منعوا ستر وجه المحرمة بالنقاب، وأجازت الحنفية والشافعية والمالكية _في رواية عنهما_ تغطية الوجه به.
وبهذا اتضح لطالب الحق الشحيح على سلامة دينه والمؤمن بلقاء ربه، أنما عزي للأئمة الأربعة من القول والاتفاق على أن المؤمنات يجوز لهن حجب وجوههن وكشفها بين الرجال الأجانب، وأنهن مخيرات بين الحجاب والسفور، لا أساس له من الصحة، بل هو باطل جملة وتفصيلاً، بل هو تقول عليهم هم منه براء.
وأم قوله إن الحجاب للمؤمنات والتزامهن به من التقليد والتشدد فهذا قول منكر، وخطأ فاحش، لا يقوله إلا صاحب هوى قد أعماه هواه أو يقوله من غاب عنه وخفي عليه أن السفور مطلب كبير، وهدف أساسي لأعداء الدين لما يرون أن فساد النساء أعظم وسيلة لتحطيم الإسلام والمسلمين، وأنه يهوي بهم إلى الهوة الساحقة ويوقعهم في الويلات المتلاحقة والذل والهوان على أعدائهم.
الذين لم ولن يهدأ لهم بال حتى يحققوا هذه الغاية التي تصير المسلمين لقمة سائغة سهلة الابتلاع لأضعف عدو لهم، يتحكم فيهم كيف يشاء كما هو مشاهد وللأسف الشديد في البلاد الإسلامية التي استجابت وخضعت وذلت للأعداء، ولم تعتصم بالله ووحيه، فيا لها من محنة، ويا لها من مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شبهة ما نسب للطحاوي من القول بالسفور
قال بعض دعاة السفور:
=وقال أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/392 _ 393):
=أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء؛ إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي"، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد _رحمهم الله تعالى_+.
وأجيب هذا القول بوجوه:
الأول: الاطلاع على نص أبي جعفر الطحاوي كما هو في شرح معاني الآثار، فقال ما نصه في المصدر نفسه (4/332):
=فأبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي" لما نزلت آية الحجاب، ففضلن بذلك على سائر الناس...(1/323)
وبعد ثلاث صفحات أي بمقدار 69 سطراً قال: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد _رحمهم الله تعالى_+اهـ.
فقد ترك هذا المقدار ثم عزا هذا الحكم المذكور لأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد متصلاً بحكم الطحاوي كأن لم يكن بينهما فاصل!!
الوجه الثاني: أن أبا جعفر الطحاوي جاء عنه ما يضاد هذا القول، فقد قال في نظر الفجاءة في مشكل الآثار (5/123) رقم1865 في قوله" لعلي÷:
=لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة+ قال:
=فإن ذلك على أن الأولى تفجؤه بلا اختيار له فيها، فلا يكون مأخوذاً به، ولا تكون مكتوبة عليه، فهي له، وأما بقوله: =وليست لك الآخرة+ فإن الآخرة تكون باختياره لها، فهي مكتوبة عليه، وما كان مكتوباً عليه، فليس له+اهـ.
وقال في شرح معاني الآثار (3/15) في نظر الفجاءة أيضاً:
=فأما المنهي عنه في حديث علي وجرير وبريدة _رضي الله تعالى عنهم_ فذلك لغير الخطبة، ولغير ما هو حلال فذلك مكروه محرم+اهـ.
الوجه الثالث: وجاء عنه أن الشابة تمنع من كشف وجهها بين الرجال، فقد جاء في رد المحتار على الدر المختار (1/272):
=قول الطحاوي: = وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه، وإن أمن الشهوة؛ لأنه أغلظ+اهـ.
قال ابن عابدين في رد المحتار على الدر المختار (2/189)::
=والمعنى: تمنع من الكشف؛ لخوف أن يرى الرجال وجهها، فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة+اهـ.
وجاء في اختلاف العلماء للطحاوي اختصار أبي بكر الجصاص (1/231) رقم171:
=عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أن النساء كان يرخص لهن في الخروج إلى العيدين. فأما اليوم فإني أكرهه، قال: وأكره لهن شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة في جماعة، وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر، فأما غير ذلك فلا+اهـ.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها وأكره ذلك للشابة+اهـ.(1/324)
شبهة تصعيد النظر وتصويبه للواهبة نفسها
فعن سهل بن سعد÷ أن امرأة جاءت إلى رسول الله"، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله" فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئاً جلست.. الخ.
رواه البخاري في الصحيح (6/109، 131، 134)، والنسائي في المجتبى (6/113) وأبو يعلى في المسند (13/532) رقم7539، ومسلم في الصحيح (2/1041) رقم1425، والبيهقي في الكبرى (7/85) والطبراني في الكبير (6/188) رقم5750، 5907، 5951، 5993.
قال بعض دعاة السفور هذا الحديث من الأدلة على أن كثيراً من النساء قد عمل به في عهد النبي" حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته" وهو لا ينكر ذلك عليهن!! وكان ذلك في المسجد _ كما في رواية الإسماعيلي، وعلى مرأى من سهل بن سعد راويه، والقوم الذي كان فيهم _ كما في رواية للبخاري وأبي يعلى والطبراني_.
فيا سبحان الله! من أين يدل هذا الحديث على أن عمل كثير من النساء الكشف عن وجوههن أمام الرجال الأجانب في عهد النبي"؛ إذ غاية ما فيه: أن امرأة جاءت إلى النبي" راغبة بالزواج به، واهبة نفسها له، وأنه صعَّد نظره فيها وصوَّبَه فقط.
وقد ثبت أن عمل الصحابيات في عهد النبوة أنهن يغطين وجوههن أمام الرجال الأجانب بأدلة كثيرة تقدمت، ويكفي طالب الحق منها حديث نهي =المحرمة عن النقاب والقفازين+، وذلك أن العمل عندهن في الحل هو لبسه، كما نهى الرجال حال الإحرام عن لبس القمص والسراويل والبرانس والعمائم التي جرى العمل عندهم على لبسها في حال الحل وجاز للرجال في حال الإحرام لبس الإزار والرداء، وجاز للنساء حال الإحرام تغطية وجوههن عند ملاقاة الرجال بغير النقاب واليدين بغير القفازين بالإجماع _ كما تقدم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمة×:(1/325)
=وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين+، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن+اهـ وتقدم.
وعلى فرض أنها أسفرت عن وجهها للنبي" فلا مانع منه؛ لأن النظر إلى من أراد الزواج بها مما أمر به" وأجازه.
قال الإمام ابن العربي في عارضة الأحوذي (5/27) في فوائد هذا الحديث:
=ويحتمل أن كلمته قبل الحجاب (أو بعده)(1) متلففة، وأن ذلك كان جائزاً؛ فإنه يدخل في باب نظر الرجل إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها. فإنك إن لم ترد نكاح المرأة لم يجز لك النظر إليها بارزة الوجه، ولا متلففة، فترى منها القامة والهيئة(2) خاصة+اهـ.
وخالفه الحافظ ابن حجر، فقال في الفتح (9/210):
=وسلك ابن العربي في الجواب مسلكاً آخر، فقال: =يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده، لكنها كانت متلففة+ وسياق الحديث يبعد ما قال+اهـ.
لأن الحافظ يرى أن النبي" له أن يرى النساء، وذلك من خصوصياته، فقال قبل ذلك:
=والذي تحرر عندنا أنه" كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره+اهـ.
وقد ترجمه الإمام البخاري في الصحيح في كتاب النكاح (6/109) بـ =باب النظر إلى المرأة قبل التزويج+.
وترجمه البيهقي في السنن (7/85) بـ =باب نظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها.
قلت: يعنان أن النظر إلى المرأة بغرض الزواج بها جائز بدلالة هذا الحديث.
وعليه فلا داعي لإنكار دلالته على جواز ذلك، بل إن إنكار دلالته على جوازها يعد من المكابرة في إنكار الحقائق.
ومما يهون عليك أيها اللبيبُ الأمرَ، ويوضحه لك أن تعلم أن الحكمة من جواز الشرع النظر إلى المرأةِ المرادِ الزواجُ بها هي =أن يؤدم بين الزوجين+ بالمودة والرحمة والألفة.
__________
(1) كلمة =أو بعده+ ساقطة، فاستدركتها من نقلها عند الحافظ في الفتح (9/210).
(2) في الأصل: =الهبة+ والصواب ما أثبته.(1/326)
وعلى هذا فلا فرق بين كون الرجل خاطباً للمرأة وبين كونها هي الخاطبة والعارضة نفسها عليه، فله أن ينظر إليها ولو كانت هي الخاطبة كما هو صريح هذا الحديث الشريف. والعلم عند الله تعالى.
شبهة قول الإمام البغوي
=وأما المرأة مع الرجل، فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة في حق الرجل لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه واليدين إلى الكوعين، لقوله _عز وجل_ [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] (النور: 31) قيل في التفسير: هو الوجه والكفان. وعليه غض البصر عن النظر إلى وجهها ويديها _أيضاً_ عند خوف الفتنة، لقوله سبحانه: [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم] (النور: 30). شرح السنة (9/23) كتاب النكاح/ باب النهي عن مباشرة المرأةِ المرأةَ ثم تنعتها لزوجها+.
فقد أجاب البغوي نفسه عن هذه الشبهة بما يدل دلالة قاطعة على عدم جواز نظر الرجال الأجانب إلى وجوه النساء فقال بعد هذه الأسطر ما نصه:
=وإذا اتفقت نظرة، فلا يعيدها قصداً؛ لما روي عن جرير بن عبدالله، قال:
=سألت رسول الله" عن نظر الفجاءة؟ قال: =اصرف بصرك+.
وروي عن بريدة، قال: قال رسول الله" لعلي:
=يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة+.
قال: =والحديث الأول يدل على أن النظرة الأولى إنما تكون له، لا عليه إذا كانت فجاءة من غير قصد، فأما القصد إلى النظر، فلا يجوز لغير غرض وهو أن يريد نكاح امرأة أو شراء جارية أو تحمل شهادة عليها فيتأملها، وإذا كان بعورة المرأة داء، فلا بأس للطبيب الأمين أن ينظر إليها كما ينظر الختان إلى الفرج عند الختان+اهـ.
وقال قبل هذا في المصدر نفسه (9/16):
=باب النظر إلى المخطوبة.. ثم أورد تحته حديث المغيرة بن شعبة: =هل نظرت إليها.. الخ.
ثم قال:(1/327)
=والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، قالوا: إذا أراد الرجل أن ينكح امرأة، فله أن ينظر إليها. وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، سواء أذنت المرأة أو لم تأذن، وإنما ينظر منها إلى الوجه والكفين فقط، ولا يجوز أن ينظر إليها حاسرة، وأن ينظر إلى شيء من عورتها.
وقال الأوزاعي: لا ينظر إلى وجهها. وقال مالك: لا ينظر إليها إلا بإذنها.
قال الإمام _يعني البغوي_: وفي قوله للمغيرة: =هل نظرت إليها+؟ دليل على أن المستحب أن يكون نظره إليها قبل الخِطبة حتى لا يشق عليها ترك الخِطبة إذا لم تعجبه، وروي عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله" قال: =إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه+.
رواه مسلم في الصحيح (2/1021) رقم1403
وقال في عورة النظر في المصدر نفسه (7/240):
=وأما المرأة فحُرمُها في وجهها، لا يجوز لها ستر وجهها، ويجوز لها ستر رأسها، فإن احتاجت إلى ستر الوجه لحرٍ أو بردٍ أو منع أبصار الأجانب سدلت ثوباً على وجهها متجافياً عن بشرة الوجه، قالت عائشة: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله" محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+.
وقالت: =لا تلثم ولا تبرقع+. وممن قال: تسدل الثوب عطاء وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق+اهـ.
وقال في عورة الصلاة في المصدر نفسه (2/436):
=أما المرأة الحرة، فعليها أن تغطي جميع بدنها في الصلاة إلا الوجه واليدين إلى الكوعين+.
وقال في معالم التنزيل (3/544) في تفسير آية الأحرزاب: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ]:(1/328)
= جمع جلباب وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة؛ ليعلم أنهن حرائر [جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ] أنهن حرائر [فَلا يُؤْذَيْنَ] فلا يتعرض لهن+اهـ.
فهل مع هذا يقال: إن البغوي يرى جواز السفور أمام الأجانب يا أولي الأبصار؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور+.
شبهة القول: إن الخمار والاعتجار عند الإطلاق إنما يعني تغطية الرأس فمن ضم إلى ذلك تغطية الوجه فهو مكابر معاند!!
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن حكايتها تكفي جواباً عنها، لكن خشية اغترار بعض المسلمين بها وأمثالها أحببت أن أوضح لهم ما فيها من المزالق الخطيرة على دين المسلم، وذلك أن مثل هذا التشنيع من دعاة السفور على علماء المسلمين الذين امتثلوا أمر ربهم، وأمر رسوله" بالقول بفرضية تغطية وجوه المؤمنات وتخميرها عن نظر الرجال الأجانب إليها _ هذا التشنيع لا يليق إطلاقه عليهم أبداً، بل ولا يجوز إطلاق مثل هذه الألفاظ المنفرة عن اتِّباع وحي رب العالمين المنزل على سيد المرسلين _صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين_.
ولا غرابة في ذلك؛ فإنه لا يلجأ إلى إطلاق مثل هذه الأساليب النكرة المنكرة وهذا التشنيع إلا من ضاعت حجته، وعجز عن مقارعة الحجة بالحجة، وهو علامة كبرى على انهيار مذهبه، وسقوط قوله. ويأبى الله إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، [فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض]، ومن هنا أقول:
أما تغطية وجوه المؤمنات بالخمار فأكثر من أن تحصر جاء بها كتاب الله وسنة رسوله" وإجماع علماءِ وأئمةِ المسلمين والقياس الصحيح كما تقدم نقل ذلك مبسوطاً بألفاظه وحروفه ونذكرك ببعض ذلك فإن الذكرى تنفع المؤمنين:
خذ مثلاً قول أهل اللغة في مادة =خَمَرَ+:(1/329)
قال الجوهري في الصحاح (2/649): =والتخمير: التغطية، يقال: خَمِّرْ وجهَك وخمر إناءك+.
وبمثل هذا المعنى لهذه المادة قال ابن منظور في لسان العرب (2/1261)، والفيروزآبادي في القاموس المحيط.
وجاء في التنزيل أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بضر الخُمُرِ على جيوبهن فقال: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]
قال الإمام البخاري في صحيحه (6/13) رقم4758:
=باب =وليضربن بخمرهن على جيوبهن+ وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] شققن مروطهن، فاختمرن بها.
4759_ حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، أن عائشة _رضي الله عنها_ كانت تقول: =لما نزلت هذه الآية [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها+.
قال الحافظ في فتح الباري (8/490) في قولها: =فاختمرن+:
= أي غطين وجوههن، وصفة ذلك: أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع، قال الفراء:
كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستئثار والخمار للمرأة كالعمامة للرجل... ثم قال:
=وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك، عن إبراهيم بن نافع بلفظ: =أخذ النساء+.
وأخرجه الحاكم من طريق زيد بن الحباب، عن إبراهيم بن نافع بلفظ =أخذ نساء الأنصار+ ولابن أبي حاتم من طريق عبدالله بن عثمان بن خثيم عن صفية ما يوضح ذلك، ولفظه:(1/330)
=ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن+ فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقاً بكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور [وليضربن بخمرهن على جيوبهن] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فيها،ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها+ فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك+اهـ.
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (3/185):
=الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجه، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه+.
وبمثل ذلك قال ابن منظور في لسان العرب (5/1815) في مادة: =عَجَرَ+.
وقال العيني في عمدة القاري (19/92) في قول عائشة _رضي الله عنها_: =شققن مروطهن+ فاختمرن بها+: مروطهن جمع مِرط بكسر الميم وهو الإزار. قوله:
=فاختمرن بها+ أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها+اهـ.
وقصة عائشة أم المؤمنين في حادثة الإفك المشهورة مع مسطح، قالت:
=فخمرت وجهي بجلبابي.. الخ الثابتة في صحيح البخاري (6/5) ومسلم (4/2131) رقم2770، قال الحافظ في الفتح (8/463):
=قوله =فخمرت+ أي غطيت =وجهي بجلبابي+ أي الثوب الذي كان عليها+اهـ.
قال العيني في عمدة القارئ (13/235) في فوائد حديث الإفك من كتاب الشهادات:
=وفيه تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي، سواء كان صالحاً أو غيره+اهـ.
وقال أبو العباس القسطلاني في إرشاد الساري في شرح حديث الإفك (7/259) =فخمرت+ بالخاء المعجمة والميم المشددة، أي غطيت وجهي بجلبابي+اهـ.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم (17/105):
=قولها: =خمرت وجهي+ أي غطيته+اهـ.
وأخرج هذا الحديث أبو داود في السنن (4/356) رقم4100/ وفيه:
=عمدن إلى حجورِ أو حجوزٍ، فشققنهن، فاتخذنهن خمراً+.
قال المحشي:
=الخمر بضمتين جمع خمار بزنة كتاب، وكتب وهو ستار الوجه بالمقنعة ونحوها.(1/331)
وقال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في عون المعبود (11/106) رقم4094:
=وقوله: =جلابيب+ جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عيناً واحدة، كذا في الجلالين، وفي جامع البيان:
الجلباب:رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل _يعني يرخينها عليهن ويغطين وجوههن وأبدانهن... إلى أن قال:
=قال السيوطي: هذه آية الحجاب في سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن+اهـ.
وقال الحافظ في فتح الباري (10/48) في تعريف =الخَمرْ+:
=ولكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمراً، فقال: أبو بكر الأنباري: سميت الخمر خمراً؛ لأنها تخامر العقل أي تخالطه، قال: ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه، وقيل: لأنها تُخَمِّرٌ العقل أي تستره، ومنه الحديث:
=خمروا آنيتكم+، ومنه خمار المرأة، لأنه يستر وجهها+اهـ.
وسئلت عائشة _رضي الله عنها_ كيف تخمر المرأة وجهه؟ فأخذت أسفل خمارها، فغطت به وجهها+ وتقدم.
وقال أبو حيان في البحر المحيط (7/240) في آية الأحزاب [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ]: جلابيبهن شامل لجميع أجسادهن أو =عليهن+ على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه+اهـ.
وثبت _كما تقدم_ عن أسماء بنت أبي بكر وفاطمة بنت المنذر أنهما كانا يخمران وجهيهما وهن محرمات عند نظر الرجال إليهما.
وقد ترجم الإمام مالك بن أنس× لهذا الحديث في الموطأ ص327 بقوله:
=باب تخمير المحرم وجه+. وترجم له إمام الأئمة ابن خزيمة في صحيحه (4/203) بقوله: باب إباحة تغطية المحرمة وجهها من الرجال بذكر خبر مجمل أحسبه غير مفسر.. ثم أورد حديث أسماء هذا بلفظ:
=كنا نغطي وجوهنا من الرجال.. الحديث
ثم قال: =باب ذكر الخبر المفسر لهذا اللفظة التي حسبتها مجملة.
والدليل على أن للمحرمة تغطية وجهها من غير انتقاب، ولا إمساس الثوب =إذ الخمار الذي تستر به وجهها+.(1/332)
بل تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها أو تستر وجهها بيدها أو بكمها، أو بعض ثيابها مجافية عن وجهها+اهـ.
قلت: انظر إلى ضمير الجمع من قولها: =كنا نغطي+ =كنا نخمر وجوهنا+، فإنه يدل على أن التخمير المذكور في هذا الخبر عام لجميع المؤمنات في عهد الصحابة، وعهد التابعين؛ لأن أسماء صحابية، وفاطمة تابعية.
هذه إشارة إلى بعض الأدلة على أن الخمار والاعتجار عند العلماء يطلق على تغطية الوجه لغة وشرعاً وعرفاً.
وأما ما ورد من إطلاق بعض أهل اللغة وغيرهم من أهل العلم الاعتجارَ والخمارَ على ستر الرأس فلا يعارض تغطية الوجه بالخمار البتة؛ لأن موضع لبس خمار المرأة هو رأسها _ كما هو معروف ومشاهد في العمل عن النساء _ تجعل الخمار على رأسها، وعند الحاجة إلى ستر وجهها تضرب به عليه.
وأما قول دعاة السفور: =فمن ضم إلى ذلك تغطية الوجه فهو مكابر معاند!!+.
فَأُذَكِّرِ القارئ الكريم ببعض نصوص وعبارات أئمة الإسلام والمسلمين الذين قالوا بستر وجوه المؤمنات عن نظر الرجال الأجانب ليرى من هو المكابر والمعاند في الحقيقة لا ادعاء وتمويهاً.
فقد مَرَّ معنا في هذه الشبهة بعض أقوال أئمة اللغة وأئمة الحديث والفقه والتفسير، والذين هم: عائشة أم المؤمنين وأختها أسماء، وفاطمة بنت المنذر بل ونساء الأنصار والمهاجرين والإمام مالك بن أنس، والإمام البخاري، وإمام الأئمة ابن خزيمة، والنووي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والقسطلاني، والسيوطي، وابو حيان، وابن الأثير، وابن منظور، والفيروزآبادي، وابو الطيب شمس الحق، الذين جاء عنهم أن الخمار والاعتجار يطلقان على تغطية الوجه، فهم كما رأيت ما بين مطلق الخمار على ستر الوجه، وبين مفسر لِلْخُمُرِ بذلك، ومحتج ومفتٍ، وناقل عن غير أنه فعله، ومطبق للعمل به.
فهل هؤلاء مكابرون معاندون؟!!(1/333)
ومن هنا تعلم أن القول بالسفور قول شاذ لا عبرة به، ولا يجوز الالتفات إليه لأن مبناه على الشبه، والتلبيس والتمويه والتشنيع والمكابرة!!
وأن القول بوجوب ضم الوجه إلى الرأس بتغطيته بالخمار والاعتجار عن الرجال الأجانب مبناه على أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
بل هل يصح القول بنفي ضم الوجه إلى الرأس بعدم ستره عن الأجانب مع ما نقل من الاتفاق والإجماع على ضمه إلى الرأس بوجوب تغطيته والذي نقله ما يزيد على أربعين نفساً من أئمة أهل العلم الثقات الأثبات وممن نقله من جهابذة أهل العلم كما سلف:
_ الإمام ابن المنذر 2_ ابن رشد الحفيد 3_ الإمام ابن عبدالبر 4_ الموفق ابن قدامة 5_ الوزير ابن هبيرة 6_ شيخ الإسلام ابن تيمية 7_ ابن قيم الجوزية 8_ أبو الحسن بن القطان 9_ ابن مفلح 10_ ابن رسلان 11_ محمد سعيد رمضان البوطي 12_ الحافظ ابن حجر 13_ بدر الدين العيني 14_ محمد بن شهاب الشافعي الصغير 15_ إمام الحرمين الجويني 16_ الزرقاني 17_ شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب 18_ الشوكاني 19_ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي 20_ عبيدالله المباركفوري 21_ أبو الأعلى المودودي 22_ بكر أبو زيد 23_ عز الدين البيانوني 24_ محمد بن عبدالله الجرادي 25_ محمد فؤاد البرازي 26_ محمد بن إبراهيم الضويان 27_ النووي 28_ عبدالعزيز بن خلف آل عبدالله 29_ محمد أديب كلكل 30_ محمد أولي بن المنذر الأنصاري 31_ يوسف بن عبدالهادي 32_ ابن المظفر 33_ السهارنفوري 34_ المباركفوري محمد 35_ حمود بن عبدالله التويجري 36_ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري 37_محمد بن إبراهيم الوزير النظار 38_ ابن عابدين 39_ محمد شفيع الحنفي 40_أبو حامد الغزالي 41_ أبو العباس القسطلاني 42_ الموزعي الشافعي 43_ عبدالعزيز بن باز(1/334)
أضف إلى هذا أن إضافة الوجه إلى الرأس في وجوب حجبه عن نظر الرجال الأجانب قد أفرد بالتأليف، فقد ألف فيه ما يزيد على ثلاثمائة مؤلفاً _فيما علمت_ قد اتفقت، وتواطأت، وتضافرت وتظاهرت على القول بوجوب الحجاب وتحريم السفور. فهل يصح أن يقال في نقلة الاتفاق والإجماع المذكور، وهؤلاء المؤلفين: إنهم مكابرون معاندون؟!!
وقد ثبت هذا القول عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد _رحمهم الله تعالى_.
أما ثبوته عن أبي حنيفة، فقد تقدم قول محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة:
=ولا ينبغي للمرأة أن تنتقب، فإن أرادت أن تغطي وجهها، فلتسدل الثوب سدلاً من فوق خمارها على وجهها، وتجافيه عن وجهها، وهو قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا+ وتقدم.
وفي رواية عندهم جواز تخمير وجه المحرمة بالنقاب، نص عليها بدر الدين العيني في عمدته وتقدم _أيضاً_.
أنظر كيف أجازوا ستر وجه المحرمة بالنقاب مع النهي الصريح عنه.
وأما ثبوته عن الإمام مالك×، فقد روى حديث: =ولا تنتقب المرأة المحرمة. وحديث فاطمة بنت المنذر في الموطأ (ص327) مترجماً لهما بما نصه:
=باب تخمير المحرم وجهه+. ثم ساقه وفيه: كنا نغطي وجوهنا ونحن محرمات+.
وجاء في المدونة الكبرى (1/344):
= كان مالك يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها _إذا أرادت ستراً، فإن كانت لا تريد ستراً، فلا تسدل+.
قال ابن عبدالبر في التمهيد (15/108):
= وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها+.
وقد صرح بعض أئمة المالكية بأن المرأة عورة بدنها وصورتها منهم ابن العربي، وأبو عبدالله القرطبي، وتقدم.
وأما ثبوته عن الإمام الشافعي× فمثل قوله في الأم (2/241):(1/335)
=وتلبس المرأة السراويل والخفين والقميص والخمار، وكلما كانت تلبسه غير محرمة إلا ثوباً فيه طيب، ولا تخمر وجهها، وتخمر رأسها إلا أن تريد أن تستر وجهها فتجافي الخمار ثم تسدل الثوب على وجهها متجافياً+.
وقوله: = ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها، أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها، حتى تغطي وجهها متجافياً كالستر على وجهها، ولا يكون لها أن تنتقب+اهـ. الأم (2/162.
وقوله في الأم أيضاً (2/222):
= وللمرأة أن تجافي الثوب عن وجهها تستتر به وتجافي الخمار، ثم تسدله على وجهها، ولا يمس وجهها+.
وأما الإمام أحمد× فقد ثبت عنه أنه قال: المرأة عورة حتى ظفرها، وتقدم.
وتقدم أيضاً قول ابن هانئ: سألت أبا عبدالله عن المرأة المحرمة تسدل ثوبها على وجهها؟ قال: =تسدله على وجهها إذا لقيت الرفاق، فإذا جاوزت الرفاق كشفت عن وجهها، ولا تغطيه عمداً+.
وجاء في مسائل أبي داود للإمام أحمد:
=قلت لأحمد: المرأة إذا صلت ما يرى منها؟ قال: لا يرى منها، ولا ظفرها تغطي كل شيء منها+. وتقدم أيضاً.
فهل يجترئ أحد أن يقول في مثل هؤلاء الأئمة مكابرون معاندون؟!.
تنبيه مهم
فإن قيل جاء في حكاية الإجماع على وجوب ستر وجوه المحرمات عن نظر الرجال إليهن ما يدل على أن أهل العلم يرون أن تغطية وجه المرأة جائز، لا واجب، وذلك أنهم يعبرون عن ذلك بمثل العبارات التالية:
=قد رخص لها أن تسدل على وجهها مع الحاجة ما لا يقع على بشرتها+.
و =لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها+.
و =لم يجيزوا لها تغطية وجهها وهي محرمة+.
و =للمرأة أن ترخي على وجهها ثوباً متجافياً بنحو خشبة ونحوها+.
وهذا يفهم منه جواز تغطية الوجه لا وجوبه؟
قيل: فهم جواز تغطية وجه المحرمة بمثل هذه العبارات وعدم وجوبه يوجد عدة وجوه تمنعه:(1/336)
الأول: أنه مفهوم، والمفهوم لا يعارض المنطوق كما هو مقرر في الأصول وهو:
الوجه الثاني: أن أدلة وجوب احتجاب المؤمنات عن نظر الرجال الأجانب إليها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس باقية على ما كانت عليه من الدلالة محكمة غير منسوخة، وعامة غير مخصصة، ومطلقة غير مقيدة، فهي باقية على إحكامها وعمومها وإطلاقها بدليل أنه لم يرد دليل يمنع المحرمة من تغطية وجهها مطلقاً البتة، وإنما منعت من تغطيته مما يغطى به عادة وهو ما صنع وفصل على قدر الوجه كالنقاب ومثله البرقع ونحوهما. وكالقفازين للكفين، كما تقدم تقريره في غير موضع.
الثالث: أن الفقهاء نصوا على أن التعبير بالجواز لا ينافي القول بالوجوب؛ فقد قال العلامة الرملي الشهير بالشافعي الصغير:
=وللمرأة أن ترخي على وجهها ثوباً متجافياً عنه بنحو خشبة، وإن لم يحتج لذلك لحرٍ وفتنة.. ولا يبعد جواز الستر مع الفدية حيث تعين طريقاً لدفع نظر محرم.
وقد كتب الشبراملسي في حاشيته عليه:
=قوله: ولا يبعد جواز الستر+ أي بل ينبغي وجوبه، ولا ينافيه التعبير بالجواز؛ لأنه جواز بعد منع، فيصدق بالواجب+اهـ.(1)
الرابع: أن أهل العلم صرحوا بوجوب الاحتجاب وعدم جواز كشف الوجه أمام الرجال الأجانب.
فقد جاء في مجمع الأنهر _ وهو من أعظم كتب المذهب الحنفي_ =المنع واجب، بل فرض، لغلبة الفساد+. وتقدم.
وجاء فيما نقله ابن عابدين في حاشيته (2/528) عن علماء الحنفية:
= وجوب ستر المرأة وجهها، وهي محرمة إذا كانت بحضرة رجال أجانب، وتقدم _أيضاً_.
ونقل الشيخ محمد أديب كلكل _كما تقدم_ عن أئمة الحنفية اتفاقهم على وجوب ستر وجه المرأة؛ لأن أمر الفتنة محقق لا محالة.
وتقدم قول الإمام ابن العربي المالكي أن ستر الوجه فرض لأن المرأة عورة.
وقال الإمام أبي عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/5309):
__________
(1) انظر حجاب المسلمة للبرازي (1/209).(1/337)
=إن أصول الشريعة تضمنت أن المرأة كلها عورة بدنها وصورتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض، وتعين عندها+.
وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي بعد أن عَدَّ النظر إلى الأجنبيات من الكبائر:
=ومن ثم حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو مع يدها بناءً على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه، لأنهما عورة في النظر من المرأة، ولو أمة _على الأصح_، وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة+ وتقدم.
ونقل يوسف بن عبدالهادي الحنبلي اتفاق الأئمة الأربعة على وجوب تغطية وجه المحرمة بالسدل عند الحاجة أي عند حضرة الرجال.
وحكى عنهم _أيضاً_ وجوب ستر الوجه إذا برزت، وتقدم.
الوجه الخامس: أن أهل العلم قد أجمعوا على وجوب تغطية رأس المرأة المحرمة، وقد عبروا عن تغطيته بالجواز، فقد قال الإمام البغوي في شرح السنة:
=وأما المرأة فحُرمُها في وجهها، لا يجوز لها ستر وجهها، ويجوز لها ستر رأسها، فإن احتاجت إلى ستر الوجه لحرٍ أو بردٍ أو منع أبصار الأجانب سدلت ثوباً على وجهها متجافياً عن بشرة الوجه+اهـ.
الوجه السادس: أن الفقهاء فرقوا بين ستر وجه المحرمة بالتغطية والتخمير وبين ستره بالسدل عليه معللين منع التغطية والتخمير بأنهما يمسان بشرة الوجه فاتفق اجتماع حكمين متضادين في آن واحد في وجه المرأة المحرمة.
أحدهما: كشف الوجه؛ لأن إحرام المرأة في وجهها.
وثانيهما: وجوب تغطيته وستره عن نظر الرجال، والتغطية ممنوعة؛ لأنه يلزم منها مماستها بشرة الوجه واجتماعهما غير ممكن، وتخلصاً من هذين المحذورين عبروا عن ستر وجه المحرمة بالعبارات المذكورة، فقالوا مثلاً: لا بأس بستره عند الحاجة بثوب ونحوه يسدل عليه سدلاً خفيفاً، متجافياً، وأن يتخذ عود أو خشبة تحول بينه وبين بشرة الوجه.
فهذا توجيه عباراتهم المذكورة.(1/338)
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لم يُسَلَّمْ لهم أن إحرام المرأة في كشف وجهها، بل لقد اعترض عليهم المحققون من أهل العلم، فقالوا: المحرمة لم تمنع من تغطية وجهها ولم تنه عنه مطلقاً، وإنما نهيت عن تغطيته بما فصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ونحوهما، ونهيت _أيضاً_ عن لبس القفازين كما تقدم تقريره.
وعلى هذا فإنه يجب عليها تغطية وجهها وتخميره بما يستره عن عيون الأجانب، ولا يجوز كشفه لا في الحل ولا في الإحرام، ولو مس بشرة الوجه.
وأما حديث: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+ فقال أهل العلم ليس له أصل من كلام النبي". وتقدم كل هذا.
والخلاصة: أن الذي تحصل من تتبع أدلة دعاة السفور هل جواز كشف الوجه وعدم وجوب الحجاب، لا يخرج عن كونه شبهاً، لا تقوم بها حجة البتة؛ وذلك أنها إما دليل صحيح غير صريح الدلالة أو دليل ضعيف لا تقوم به حجة أو خلاف لأحد العلماء مبني على دليل لا ينهض لدعواه ولا يساعد على ما ادعاه أو رواية لعالم قد ورد عنه ما يضادها، أو زلة عالم زل بها فئام من الناس، وجعلوا زلته حجة على ما ثبت من الأدلة الشرعية على تحريم السفور ووجوب الحجاب، فهم يتتبعون الرخص والشاذ من الخلاف مدعين عدلاً وإنصافاً فيما يزعمون ويرجفون أن في المسألة بين أهل العلم خلافاً؛ ليسهل عليهم فتح باب جواز كشف المرأة لوجهها، والقضاء على الحياء والفضيلة والعفاف، بما يلبسون به على الناس، ويروجونه من إيراد الشبه والخلاف.
والمتتبع لهذه الشبه وهذا الخلاف المزعوم بالعدل والإنصاف يجدهما كالسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً+ فهما لا يسمنان ولا يغنيان من جوع؛ لما فيهما _عند التحقيق_ من عدم الصلاحية والتهافت، فهما كما قيل:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
تنبيه آخر(1/339)
تعلق دعاة السفور بالخلاف الذي ذكره القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/57) بأن فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي"، قال: ولا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين، الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره+.
فاحتجوا به على عدم العمل بالأدلة الشرعية الدالة على وجوب ستر وجوه المؤمنات عن الرجال الأجانب وحظر السفور.
وهذا الاحتجاج باطل من وجوه:
الأول: أن الخلاف ليس من أدلة التشريع بالإجماع.
الثاني: أن الاحتجاج بالخلاف على الأدلة ممنوع شرعاً بالإجماع؛ لأن الخلاف ناشئ من أقوال الرجال وأقوال يستدل لها بالأدلة الشرعية، ولا يستدل بها على الأدلة الشرعية كما تقرر في الأصول.
الثالث: مخالفة الخلاف لصريح الأدلة الشرعية؛ إذ أنه فرق بين متماثلين في حكم جمعت الأدلة بينهما في علته كقوله تعالى:
[وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ].
وقد قرر هذا الإمام العلامة محمد الأمين في أضواء البيان (6/585) إذ يقول:
=فقوله تعالى: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] لو لم يكن علة لقوله تعالى: [فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] لكان الكلام معيباً غير منتظم عند الفطن العارف.
وإذا علمت أن قوله تعالى: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] هو علة قوله:
[فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ] وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه.. وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة الآية القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء+... إلى أن قال ص592 :(1/340)
=وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وأنما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه"، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة، وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد"مريض القلب كما ترى+.
وقال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ].
فقد فسر جميع المفسرين _فيما وقفت عليه_ قوله تعالى: [يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] أي يغطين وجوههن بالجلابيب كما تقدم، ولا يلتفت لقول من نفي دلالتها على وجوب الاحتجاب؛ لأن في الآية قرينة تثبت هذا المعنى قد أوضحها الإمام الشنقيطي×، كما في أضواء البيان (6/586) فقال:
=إن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها:
[يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: [قُلْ لأَزْوَاجِكَ] ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، كما ترى+اهـ.
الرابع: شذوذ هذا الخلاف لذا فليس له حظ من النظر في المسائل العلمية الشرعية إلا لبيان فساده وبطلانه، ولا يجوز الاحتجاج به على بطلان الأدلة الشرعية.
قال الإمام العلامة النحرير الفهامة عبدالرحمن السعدي في تفسيره لقوله تعالى:
[(1/341)
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى.. الآية] (النساء: 115):
=أي ومن يخالف الرسول" ويعانده فيما جاء به =من بعد ما تبين له الهدى+ بالدلائل القرآنية، والبراهين النبوية =ويتبع غير سبيل المؤمنين+ وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم =نوله ما تولى+ أي نتركه وما اختاره لنفسه ونخذله، فلا نوفقه للخير؛ لكونه رأى الحق وعلمه وتركه+.
وقال الإمام عالم الأحساء ابن مشرف× في الحث على الأخذ بالحديث وتقديمه على الآراء في ديوانه ص30:
وقدم أحاديث الرسول ونصه ... على كل قول قد أتى بإزائه
فإن جاء رأي للحديث معارض ... فللرأي فاطرح واسترح من عنائه
فهل مع وجود البحر يكفي تيمم ... لمن ليس معذوراً لدى فقهائه
وهل يوقد الناس المصابيح للضياء ... إذا ما أتى رأد الضحى بضيائه
ومن يكن الوحي المطهر علمه ... فلا ريب في توفيقه واهتدائه
وما يستوي تالي الحديث ومن تلا ... زخاف(1) من أهوائه وهذائه
ومن قال: ذا حل وهذا محرم ... بغير دليل فهو محض افترائه
وكل فقيه في الحقيقة مدع ... ويثبت بالوحيين صدق ادعائه
هما شاهدا عدل ولكن كلاهما ... لدى الحكم قاض عادل في قضائه
الوجه الخامس: أن هذا الخلاف المزعوم باطل لمعارضته ومصادمته أمر الله _جل وعلا_ بستر وجوه المؤمنات، انظر وتأمل أيها اللبيب قول المولى سبحانه:
[
__________
(1) التزخيف في الكلام: الإكثار منه. قاله الفيروزآبادي في القاموس المحيط.(1/342)
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] و [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ..] و [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] و [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى] و [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ] و [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ].
وباطل لمعارضته ومصادمته اتفاق المسلمين في منع خروج النساء سافرات الوجوه فقد تقدم قول ابن رسلان: =اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه+.
وقول إمام الحرمين الجويني: =اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات+.
وقول ابن المَبْرَد الحنبلي:
=ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت بالاتفاق+.
وقول الإمام المجتهد النظار محمد بن الوزير النظار: =وأجمعوا على وجوب الحجاب للنساء+.
وقول بدر الدين العيني: =ويجب عليها الاحتجاب من الرجل الأجنبي بالإجماع+.
وقد نقل هذا الاتفاق وهذا الإجماع من أهل العلم ما يربو على أربعين نفساً _كما أسلفنا_.(1/343)
وباطل لمعارضته للإجماع العملي الذي توارثه الخلف عن السلف قرناً بعد قرن في التزام المؤمنات ستر أبدانهن ووجوههن عن الرجال الأجانب في جميع الأمصار والديار الإسلامية منذ أن نزلت آيات الحجاب على نبينا محمد" إلى أن استولى الاستعمار النصراني الكافر الحاقد في العصر الحديث على أغلب البلاد الإسلامية الذي بث سمومه وشروره وغوائله في تدمير الأخلاق الإسلامية والهمم العلية متواطئاً مع المنافقين العلمانيين المنحرفين الذين قاموا بتتبع الأقوال الضعيفة وزلات العلماء في مسألة الحجاب، والسفور ليتكئوا عليها، ويتخذوها سلماً وسلاحاً فتاكاً في فتح أبواب التبرج والسفور والاختلاط بالرجال.
وقد حصل لهم ما أرادوا في انتشار التبرج والسفور تحت سيطرة المستعمرين وأذنابهم حيث تساقطت البلاد المستعمرة واحدة بعد واحدة ولم يسلم من هذا الوباء الهدام والداء العضال إلا جزيرة العرب _حماها الله تعالى_ من كيد الكائدين وفتنة المضلين.
يقول الشيخ سليمان بن صالح الخراشي _حفظه الله تعالى_ في بحث له عقده بعنوان: =أسماء القائلين بوجوب ستر المرأة لوجهها من غير النجديين ص2:
ومما يؤكد أن السفور مما أحدثه المستعمر لبلاد المسلمين في العصر الحديث:
الصور =الفوتغرافية+ التي التقطت لديار المسلمين المختلفة =تركيا، مصر، تونس، الشام.. الخ تؤكد أن المرأة المسلمة كانت تغطي وجهها قبل أن تنتشر دعوة السفور على يد أذناب المستعمر النصراني، فانظر على سبيل المثال كتاب =مكتب عنبر+ للقاسمي، وكتاب الطاهر الحداد، ومسألة الحداثة لأحمد خالد، وأي كتاب يتحدث عن ثورة 1919م المصرية، وقد نشر أحد الأخوة في شبكة التبيان مجموعة صور قديمة لنساء عدد من البلدان الإسلامية تشهد لما ذكرت =تجدها في موضوع الوقاية من مؤتمر الحوار+اهـ.(1/344)
إذا تقرر هذا علمت يقيناً شذوذ هذا الخلاف، وأنه لا نزاع بين علماء المسلمين في مسألة وجوب احتجاب المؤمنات عن الرجال الأجانب، وإنما النزاع _في الحقيقة والواقع_ بين المسلمين والكفار _كما رأيت، وليس الخبر كالعيان_ وعلى هذا فهل من العدل والإنصاف الاحتجاج بمثل هذا الخلاف المهجور عن العمل به طوال هذه القرون المتتالية إلى أن استولى المستعمرون في هذه الأزمان الحديثة على بلاد المسلمين الذين سعوا جادين في تفريق كلمة المسلمين، وإيجاد الخلاف؟
وهل من العدل والإنصاف الاحتجاج به على إبطال أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح إرضاءً لأعداء الله ورسوله" والأسلاف؟! ولكن _والله أعلم_ أن إيثار الدنيا على الآخرة أعمى القلوب عن معرفة الحق وصدق الله سبحانه إذ يقول: [فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور]. وكم قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وإلا فالحق واضح كالشمس في رابعة النهار، لكن العميان لا يرونها.
يقول الشاعر:
والحق شمس والعيون نواظر ... لكنها تخفي على العميان
فيا أيها الأخوة الكرام، ويا أيها الآباء الأعزاء، ويا أيها الأولياء الأوفياء، ويا أيها المسلمون كافة: قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون+، وأبشركم ببشرى سارة، وتجارة رابحة قد _والله_ وعدكم بها نبيكم محمد"، ألا وإنها مرافقته بالجنة لمن ولاه الله البنات، فقام بحقهن، فعالهن ورباهن وعلمهن ورعاهن وحفظهن وحماهن من التبرج والسفور، والاختلاط بالرجال، والتشبه بالأعداء حتى يغنيهن الله تعالى.
وبرهان ذلك أن تقرأ، وتسمع ما سأضعه بين يديك _أيها المسلم الكريم_ من الأخبار الشريفة الواردة في ذلك... فهاكها:
س: اختلف رجلان في جواز تزويج البكر البالغ بدون استئذانها وعدم رضاها مع كراهتها على من لا ترضاه.(1/345)
فقال أحدهما: يجوز لوليها أن يزوجها بل ويجبرها على ذلك؛ لأن مثل ذلك التزويج قد جرت به عادة كثير من الناس، من غير نكير.
وقال الثاني:
لا يجوز مثل هذا التزويج، بل لا بد من استئذان المزوجة أو استئمارها، ولا بد من رضاها وموافقتها، فإن أذنت برضاً منها زوجت، وإلا فلا.
فأي القولين أولى بالصواب. مع الدليل؟
ج: الحمد لله، البنات فضل من الله تفضل بهن سبحانه على الآباء والأمهات.
فقد جاءت الأخبار الصحيحة عن المصطفى" بالثواب العظيم والأجر الجزيل لمن رُزقَهُنَّ، فأحسن تربيتهن وأدبهن على الأخلاق الحميدة، وأطعمهن وكساهن وأكرمهن إلى أن يدركن، فيزوجهن الأكفاء الصالحين المرضية أخلاقهم ودينهم؛ لما فيه من إعفافهن، وحفظهن من الوقوع في الفتن والأضرار، ولا يجوز عضلهن ومنعهن من الزواج عند تحقق شروطه.
إذا تقرر هذا، فهاك طائفة من الأخبار الواردة عن النبي" في هذا الموضوع، فاسمع، واقرأ، واعقل لعل الله أن ينفعني وإياك بها:
1_ عن أبي هريرة÷، عن النبي" قال: =من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن، وضرائهن، وسرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن+. فقال رجل: أو اثنتان يا رسول الله؟ قال: =أو اثنتان+ فقال رجل: أو واحدة يا رسول الله؟ قال: =أو واحدة+.
أخرجه أحمد في المسند (2/335) وابن أبي شيبة في المصنف (8/552) رقم549 والحاكم (4/176) والبيهقي في شعب الإيمان (15/181) رقم 8311، والخرائطي في مكارم الأخلاق (2/652) رقم699_494، والحاكم في المستدرك (4/176).
من طرق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن عمر بن نبهان، عن أبي هريرة به.
وعمر بن نبهان هو الحجازي، جهله الحافظ في التقريب.
قلت: لكن ذكره ابن حبان في الثقات (5/152).
تنبيه: قد تحرف عند أحمد، حيث جاء بلفظ: =عمرو بن شهاب+، وأما الحاكم، فقد صحح إسناده، ووافقه الذهبي.
قلت: تابع عمرو بن نبهان محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط (7/113) رقم6195:(1/346)
=حدثنا محمد بن حنيفة الواسطي، قال: أنا الحسن بن جبلة الشيرازي، قال: ثنا عبيد بن عمرو الحنفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن الني" قال:
=من كن له ثلاث بنات، فعالهن، وآواهن، وكفهن، وجبت له الجنة+.
قلنا وثنتين؟ قال: =وثنتين+. قلنا: وواحدة؟ قال: =وواحدة+.
ثم قال الطبراني:
=لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلا عبيد بن عمرو، تفرد به الحسن بن جبلة+اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع (8/158): =رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفهم+اهـ.
قلت: أما محمد بن حنيفية الواسطي فهو أبو حنيفة القصبي. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (3/532) رقم7463:
=قال الدارقطني: ليس بالقوي+. وأما الحسن بن جبلة الشيرازي فلم أقف له على ترجمة. وأما عبيد بن عمرو الحنفي، فضعفه الأزدي والدارقطني _كما في لسان الميزان (4/121) رقم260، لكن ذكره ابن حبان في الثقات (8/429).
وله متابع ثاني هو أبو رزين مسعود بن مالك الأسدي الكوفي ثقة فاضل أخرجه البزار في مسنده (كشف الأستار (2/384) رقم 1909).
قال: =حدثنا سليمان بن إسحاق البغدادي، ثنا بيان بن حمران، ثنا المفضل بن فضالة أخو مبارك بن فضالة، عن ليث، عن أبي رزين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله":
=من كفل يتيماً له ذا قرابة أو لا قرابة له، فأنا وهو في الجنة كهاتين وضم أصبعيه.
ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة، وكان له كأجر مجاهد في سبيل الله صائماً قائماً+.
قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، والمفضل بصري مشهور، وهم أخوة ثلاثة اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع (8/157): رواه البزار، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس+اهـ.
قلت: وسليمان بن إسحاق البغدادي لم أقف له على ترجمة. وبيان بن حمران ذكره الخطيب في تاريخ بغداد (7/11) رقم3552 وسكت عليه.
والمفضل، قال الحافظ في التقريب: =ضعيف+.
قلت: ذكره ابن حبان في الثقات (7/496).(1/347)
وعن أبي هريرة أيضاً÷، قال: قال رسول الله": =أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلا أنه تأتي امرأة تبادرني. فأقول لها: مالك؟ ومن أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي+.
أخرجه أبو يعلى في مسنده (12/7) رقم811_6651
من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن عبدالسلام بن عجلان الهجيمي، حدثنا أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة به.
وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (2/646) رقم691_488
حدثنا نصر بن داود الخليخي، ثنا سهل بن بكار، ثنا عبدالسلام أبو الخليل عن أي يزيد المدني، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله":
=حرم الله على كل آدمي الجنة يدخلها قبلي، غير أني انظر عن يميني، فإذا امرأة تبادرني إلى باب الجنة، فأقول: ما لهذه تبادرني؟! فيقال لي: يا محمد، هذه امرأة كانت حسناء جملاء، وكان عليها يتامى لها، فصبرت عليهن حتى بلغ أمرهن الذي بلغ، فشكر الله لها ذلك+.
قال الهيثمي في المجمع (8/162): رواه أبو يعلى، وفيه عبدالسلام بن عجلان وثقه أبو حاتم وابن حبان. وقال: يخطئ ويخالف وبقية رجاله ثقات+.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (5/32) رقم3676:
رواه أبو يعلى، وإسناده حسن إن شاء الله تعالى.
قلت: أما عبدالسلام فنقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: =شيخ بصري يكتب حديثه+ الجرح والتعديل (6/46) رقم240.
وأما ابن حبان فذكره في الثقات (7/27) وقال: يخطئ ويخالف.
2_ وعن أبي سعيد الخدري÷ أن رسول الله" قال: =لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن إلا دخل الجنة+.
أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص42 رقم79، وابن أبي الدنيا في العيال (1/252) رقم106، وابن أبي شيبة في المصنف (8/552) رقم5490، والترمذي في الجامع (4/318) رقم1912.
من طرق عن عبدالعزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح السمان، عن سعيد بن عبدالرحمن بن مكمل، عن أيوب بن بشير المعاوي، عن أبي سعيد الخدري به.(1/348)
حسن لغيره. عبدالعزيز بن محمد هو الدراوردي ثقة كان يحدث من كتب غيره، فيخطئ، وسهيل بن أبي صالح هو ذكوان السمان صدوق تغير حفظه بآخره. قاله الحافظ في التقريب.
وسعيد بن عبدالرحمن بن مُكْمِل هو الأعشى الزهري، قال الحافظ في التقريب مقبول.
وأيوب بن بشير هو المعاوي قال الحافظ: له رؤية. وثقه أبو داود وغيره.
وأخرجه أحمد في المسند (3/97) وأبو داود (5/355) رقم5148، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/179) رقم8309، والآداب له ص16 رقم28.
من طريق خالد بن عبدالله الطحان، عن سهيل بن أبي صالح، سعيد الأعشى، عن أيوب بن بشير، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله":
=من عال ثلاث بنات، فأدبهن ورحمهن، وأحسن إليهن، فله الجنة+.
قال عبدالله: قال أبي×: مات خالد بن عبدالله _يعني الطحان ومالك بن أنس وأبو الأحوص وحماد بن زيد في سنة تسع وسبعين إلا أن مالكاً مات قبل حماد بن زيد بقليل. قال أبي: وفي تلك السنة طلبت الحديث، كنا على باب هشيم، وهو يملي علينا ما قال في الجنائز أو المناسك فجاء رجل بصري فقال: مات حماد بن زيد _رحمة الله عليهم أجمعين_+.
وأخرجه أحمد (3/42).
من طريق محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد بن عبدالرحمن بن مكمل، عن أيوب بن بشير الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله":
=لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن إلا دخل الجنة+.
ورواه الترمذي في الجامع (4/320) رقم1916، وابن حبان في صحيحه (2/189) رقم446، والبيهقي في جامع شعب الإيمان (15/179) رقم831، وابن أبي الدنيا في العيال (1/253) رقم107.
من طريق سفيان بن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أيوب بن بشير، عن سعيد الأعشى، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله":
=من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن، فله الجنة+.(1/349)
قال الترمذي: هذا حديث غريب.
ورواه البيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/177) رقم 8309، والآداب ص16 رقم28.
من طريق علي بن عاصم، حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن سعيد الأعشى عن أيوب بن بشير الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله":
=لا يكون لأحد..الخ أي مثل حديث إسماعيل بن زكريا عند أحمد.
3_ وعن جابر بن عبدالله _رضي الله عنهما_ عن النبي" قال:
=من عال ثلاث بنات يكفيهن، ويرحمهن، ويرفق بهن، فهو في الجنة أو قال: معي في الجنة+.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/550) رقم5486، وأبو يعلى في مسنده (4/147) رقم1210
من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا سفيان بن حسين، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله به.
وأخرجه بن أبي الدنيا في العيال (1/238) رقم92 من طريق حشرج بن نُباته، عن سفيان بن حسين به.
زاد أبو يعلى: =فقال رجل: يا رسول الله، واثنتين؟ قال: =واثنتين+.
حتى قلنا: إن إنساناً لو قال: =واحدة+ لقال: =واحدة+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات، وليس له علة.
وعن جابر بن عبدالله أيضاً رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله":
=من كان له ثلاث بنات، أو مثلهن من الأخوات، فكفاهن وعالهن وجبت له الجنة+.
قلنا: يا رسول الله، واثنتين؟ قال: =واثنتين+ ونرى لو قلنا واحدة؟ لقال: واحدة+.
أخرجه الطبراني في الأوسط (6/73) رقم5153، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/14).
من طريق محمد بن عبدالله الرُّزِّي، قال: ثنا عاصم بن هلال البارقي، قال: ثنا أيوب السختياني، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله": ...فذكره.
وزاد أبو نعيم: =وسترهن+.
قال الطبراني: =لم رو هذا الحديث عن أيوب إلا عاصم بن هلال+.
وقال أبو نعيم:
=غريب من حديث أيوب، عن ابن المنكدر، تفرد به عاصم.
وأخرج الطبراني في الأوسط (5/381) رقم4757، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب (1/268) رقم595.(1/350)
من طريق عبدالرحمن بن الحسن الصابوني، قال: وجدت في كتاب أبي، عن حفص بن عمر الرازي، عن أبي حرة، قال: حدثنا علي بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: خطب رسول الله" =فحث على صلة الرحم+. ثم قال:
=من كان له ثلاث بنات يكفلهن، ويؤدبهن، ويزوجهن دخل الجنة+.
فقال قائل: يا رسول الله =واثنتين؟ قال: =واثنتين+ ثم قال: =ما كذبت على محمد، ولا كذب محمد على جابر، ولا كذب جابر على رسول الله"+.
قال الطبراني:
لم يرو هذا الحديث عن أبي حرة إلا حفص بن عمر، ولم نسمعه إلا من الصابوني+اهـ.
وأخرجه البزار _ كشف الأستار (3/384) رقم1908_.
من طريق سليمان التميمي، وعلي بن زيد كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي" قال:
=من كان له ثلاث بنات، فآواهن وسترهن حتى يَبِنَّ أو يدركن فله الجنة حقاً+ فقال رجل: يا رسول الله، =واثنتين؟ قال: فروينا أنه لو قال: واحدة، لقال: واحدة+.
قال البزار: لا نعلم رواه هكذا إلا سليمان وعلي بن زيد، ولم نسمعه إلا من محمد بن سرور+.
قال الهيثمي في المجمع (8/157): رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط بنحوه، وزاد: =ويزوجهن+ من طرق، وإسناد أحمد جيد.
وأخرجه أحمد في المسند (3/303) وابن أبي الدنيا في العيال (1/229) رقم84 من طريق هشيم.
والبخاري في الأدب المفرد ص41 رقم78
من طريق سعيد بن زيد.
كلاهما عن علي بن زيد، قال: حدثني محمد بن المنكدر، أن جابر بن عبدالله حدثهم، قال: قال رسول الله":
=من كان له ثلاث بنات، يؤويهن، ويكفيهن، ويرحمهن، فقد وجبت له الجنة البتة+.
فقال رجل من بعض القوم: واثنتين يا رسول الله؟ قال: =واثنتين+.
قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا: واحدة؟ لقال: واحدة+.
ورواه البيهقي في الآداب ص15 رقم27 معلقاً.
4_ وعن عوف بن مالك الأشجعي÷ قال: قال رسول الله":
=من كن له بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان اتقى الله فيهن، وأحسن إليهن حتى يَبِنَّ، أو يمتن كن له حجاباً من النار+.(1/351)
أخرجه أحمد (6/27) والطبراني في الكبير (18/56) رقم102، وابن أبي الدنيا في العيال (1/231) رقم85.
من طرق عن النهاس بن قهم، عن أبي عمار شداد بن عمارة، عن عوف بن مالك به.
هذا لفظ أحمد، ولفظ الطبراني:
=ما من مسلم يكون له ثلاث بنات، فينفق عليهن حتى يَبِنَّ أو يمتن إلا كن له حجاباً من النار. فقالت امرأة: أو اثنتان؟ قال: أو اثنتان+. ولفظ ابن أبي الدنيا نحوه.
قال الهيثمي في المجمع (8/157): رواه الطبراني، وفيه النهاس بن قهم وهو ضعيف+.
وأخرجه أبو داود في السنن (5/355) رقم5149.
من طريق مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا النهاس بن قهم ح.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في العيال (1/232) رقم86.
من طريق عبيدالله بن عمر الجشمي، حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا النهاس بن قهم، حدثني شداد أبو عمار، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله":
=أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة+ وأومأ يزيد بالوسطى والسبابة_: =امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا+.
5_ وعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها فسألت، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً. ثم قامت فخرجت، فدخل النبي" فأخبرته، فقال النبي":
=من ابتلي بشيء من هذه البنات كن له ستراً من النار+.
رواه البخاري في الصحيح (2/114)/ كتاب الزكاة/ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، ومسلم في الصحيح (4/2027) رقم2629، والترمذي في الجامع (4/319) رقم1915، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/176)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (2/650) رقم697_492، وابن أبي الدنيا في العيال (1/236) رقم90.
من طريق عبدالله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال:
حدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم، عن عروة، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: الحديث.
زاد مسلم: =فأحسن إليهن+.(1/352)
ورواه عبدالرزاق في مصنفه (10/457) رقم19693، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: جاءت امرأة ومعها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها، فشقتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً، ثم قامت، فخرجت هي وابنتيها، فدخل رسول الله" على هيئته ذلك، فحدثته حديثها، فقال رسول الله":
=من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له ستراً من النار+.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (6/166) والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/175) رقم8308.
قال أحمد في سياقه لسنده:
=ثنا عبدالرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال عبدالرزاق: =وكان يذكره عن عبدالله بن أبي بكر، وهكذا كان في كتابه _يعني الزهري_ عن عبدالله بن أبي بكر، عن عروة، أن عائشة... الحديث.
وقال البيهقي: =هكذا في رواية عبدالرزاق عن معمر. ورواه عبدالله بن المبارك عن معمر، عن الزهري، عن عبدالله بن أبي بكر بن حزم، عن عروة وهو الصحيح. وكذلك رواه شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري+اهـ.
ورواه عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن امرأة دخلت عليها، ومعها ابنتان لها، فأعطيتها تمرة، فشققتها بينهما.
فذكرت ذلك لرسول الله" فقال:
=من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار+.
أخرجه أحمد (6/33).
ورواه عبدالمجيد بن عبدالعزيز، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله":
=من ابتلي بشيء من البنات، فصبر عليهن كن له حجاباً من النار+.
أخرجه الترمذي في الجامع (4/319) رقم1913
وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
قلت: بل صحيح. عبدالمجيد بن عبدالعزيز هو ابن أبي رَوَّاد ثقة، صدوق وقد نقموا عليه الإرجاء.(1/353)
ورواه يونس بن يزيد الأيلى، عن الزهري، عن عروة، أن عائشة أخبرته أنها دخلت عليها امرأت، معها ابنتان لها تستطعم، قالت: فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها، فشقتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً. قالت: ثم قامت، فخرجت، ودخل علي رسول الله" فأخبرته خبرها، فقال":
=من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأحسن صحبتهن، كن له ستراً من النار+.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/201) رقم2939
ورواه محمد بن أبي حفصة ميسرة أبي سلمة، عن ابن شهاب، عن ابن حزم، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخلت عليَّ امرأة معها ابنتان لها، فأطعمتها تمرة فشقتها بينهما، ولم تأكل منها شيئاً، فدخل عليها رسول الله" فذكرت له ذلك، فقال:
=من ابتلي من البنات بشيء، فأحسن صحبتهن، كن له ستراً من النار+.
أخرجه أحمد (6/243).
ورواه شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أنا عبدالله بن أبي بكر، أن عروة بن الزبير أخبره، أن عائشة زوج النبي" قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي" فحدثته فقال:
=من يلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن كن له ستراً من النار+.
أخرجه البخاري في الصحيح (7/74) كتاب الأدب/ باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم في الصحيح (4/2027) رقم2629، والبغوي في شرح السنة (6/187) رقم1681، والبيهقي في السنن الكبرى (7/478).
وأخرجه أحمد (6/92)، ومسلم في الصحيح (4/2027) رقم2630، وابن حبان في الصحيح (2/192) رقم448.(1/354)
من طريق قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش حدثه عن عراك بن مالك، قال: سمعته يحدث عمر بن عبدالعزيز، عن عائشة، قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتْها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما. فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله" فقال:
=إن الله قد أوجب لها الجنة، أو أعتقها بها من النار+.
ورواه ابن ماجة في سننه (2/1210) رقم3668 قال:
أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بشر، عن مسعر، أخبرني سعد بن إبراهيم، عن الحسن، عن صعصعة عم الأحنف، قالت:
دخلت على عائشة امرأة معها ابنتان لها، فأعطتها ثلاث تمرات، كل واحدة منهما تمرة، ثم صدعت الباقية بينهما، قالت: فأتى النبي" فحدثته، فقال:
=ما عجبك؟! لقد دخلت به الجنة+.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/162) رقم3668: هذا إسناد صحيح، وأصله في الصحيحين، والترمذي من حديث عائشة أيضاً بغير هذا السياق.
وروى الطبراني في الأوسط (6/207) رقم5429 قال:
حدثنا محمد بن جعفر الرازي، قال: حدثنا الوليد بن شجاع، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا زياد بن خيثمة، عن عبدالله بن عيسى، عن زيد بن علي، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله":
=ما من أمتي أحد يكون له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيحسن صحبتهن إلا كن له ستراً من النار+.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زيد بن علي إلا عبدالله بن عيسى، ولا رواه عن عبدالله بن عيسى إلا زياد بن خيثمة، تفرد به شجاع بن الوليد.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. زيد بن علي هو ابن الحسين بن علي بن أبي طالب المدني ثقة. وعبدالله بن عيسى هو ابن عبدالرحمن بن أبي ليلى الأنصاري أبو محمد الكوفي ثقة فيه تشيع. وزياد بن خيثمة هو الجعفي الكوفي ثقة.(1/355)
وشجاع هو ابن الوليد الكوفي أبو بدر الكوفي ثقة. والوليد بن شجاع ثقة.
وروى الطبراني أيضاً في الأوسط (8/256) رقم7514 قال:
حدثنا محمد بن عبدالله بن رسته، قال: حدثنا إبراهيم بن سليم بن رشيد، قال: حدثنا عمر بن حبيب القاضي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أيبه عن عائشة، قالت: قال رسول الله":
=من كن له ابنتين، أو أختين، أو عمتين أو خالتين، فعالهن فتحت له الثمانية أبواب الجنة. يا عباد الله، أغيثوه، يا عباد الله أعطوه، يا عباد الله أقرضوه+.
قال الطبراني بعد إيراد سند حديث بعده:
=لم يرو هذين الحديثين عن هشام بن عروة إلا عمر بن حبيب، تفرد بهما إبراهيم بن سليم+اهـ.
قلت: شيخ الطبراني قال فيه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/163):
الحافظ المحدث الصدوق.
وإبراهيم بن سليم بن رشيد البصري هو أبو إسحاق الهجيمي ولم أعرف عن حاله شيئاً.
أما عمر بن حبيب فهو العدوي القاضي فضعيف عند أهل العلم.
6_ وعن أبي المجبر÷ قال: قال رسول الله":
=من عال ابنتين أو أختين، أو خالتين، أو عمتين، أو جدتين، فهو معي في الجنة كهاتين+ وضم رسول الله" إصبعه السبابة والتي إلى جنبها.
فإن كان ثلاثاً فهو مفرح، وإن كن أربعاً أو خمساً. فيا عباد الله أدركوه، أقرضوه، أقرضوه، ضاربوه، ضاربوه+.
أخرجه الطبراني في الكبير (22/385) رقم959، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (6/3028) رقم7019، وابن الأثير في أسد الغابة (6/289) رقم6219.
من طريق عبدالحميد بن عبدالرحمن أبي يحيى الحِمَّاني الكوفي، عن مبارك بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري، ثنا خليد الثوري، عن أبي المجبر به.
قال الهيثمي في المجمع (8/158): رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبدالحميد الحِمَّاني وهو ضعيف+اهـ.
قلت: ليس هو بضعيف بل ثقة، وإليك كلام أهل العلم فيه:
اعلم أن الحماني هذا قد ضعفه طائفة من أهل العلم، ووثقه طائفة.
وممن ضعفه، ما يلي:
1_ قال أبو أحمد بن عدي (5/1958):(1/356)
=وعبدالحميد يروي عن النضر بن عبدالرحمن أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس أحاديث لا يرويها غيره بهذا الإسناد. وقد ضعفه أحمد بن حنبل، وضعفه ابنه.
وابن معين يوثقه، ويوثق ابنه. وهما ممن يكتب حديثهما+.
2_ وقال الحافظ في هدي الساري ص416:
=قال ابن معين: كان ثقة، ولكنه ضعيف العقل. وقال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس بالقوي+.
3_ وقال الحافظ المزي في تهذيب الكمال (16/454) رقم3725:
=وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ثقة+.
4_ وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (6/399):
=عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِمَّاني، ويكنى أبا يحيى، وكان ضعيفاً+.
5_وقال العجلي في معرفة الثقات (2/70) رقم1010:
=كوفي ضعيف الحديث، مرجئ+.
6_ وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (5/1958):
=حدثنا علان، حدثنا ابن أبي مريم، سألت يحيى بن معين، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِمَّاني؟ فقال: ضعيف ليس بشيء+.
7_ وقال الحافظ في التقريب:
=عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِمَّاني بكسر المهملة بكسر المهملة، وتشديد الميم أبو يحيى الكوفي.
لقبه: بَشْمِين بفتح الموحدة وسكون المعجمة، وكسر الميم، بعدها تحتانية ساكنة، ثم نون =صدوق يخطئ، ورمي بالإرجاء+.
قلت: قد وثقه يحيى بن معين في مواضع، وكذا النسائي وابن حبان وابن قانع، وابن شاهين.
وإليك سياق أقوالهم في توثيق الحِمَّاني:
1_ قال يحيى بن معين في كتابه التاريخ (2/343) رقم1237:
=أبو يحيى الحِمَّاني، وابنه ثقتان (2522).
2_ وقال في تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي ص186 رقم674 في جواب سؤال الدارمي له بقوله: =قلت: فأبو الحماني عبدالحميد؟ فقال: ثقة+اهـ.
3_ وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/16) رقم79:
=قرئ على العباس بن محمد الدوري: قال: سمعت يحيى بن معين يقول:
=أبو يحيى الحِمَّاني ثقة+.
4_ وقال ابو أحمد بن عدي في الكامل (5/1958):(1/357)
=قال عبدالله بن أحمد الدورقي، عن يحيى بن معين: يحيى بن عبدالحميد الحِمَّاني: ثقة، وأبوه ثقة+.
5_ وذكره ابن حبان في الثقات (7/121) وقال: وكان ابن معين يقول الحِمَّاني، وأبوه ثقات+.
6_ وتقدم قول النسائي: أنه ثقة.
7_ ووثقه ابن قانع قاله الحافظ في تهذيب التهذيب (6/120).
8_ وقال ابن شاهين في الثقات ص159 رقم912: أبو يحيى ثقة وابنه ثقة.
قلت: أما قول ابن معين: =ضعيف، ليس بشيء+ ففي سنده عنده نظر، وذلك أن فيه علان وهو علي بن أحمد بن سليمان البزاز المصري المعروف بعلان لم أقف له على ترجمة. وأما ابن أبي مريم فهو أحمد بن سعد بن الحاكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم المصري _كما في تهذيب الكمال للمزي (1/309) رقم36 وقال فيه الحافظ في التقريب: صدوق.
غريب الحديثين:
فإن كن ثلاثاً فهو مُفَرحٌ+
قال ابن الأثير في النهاية (3/424) في =ولا يترك في الإسلام مفرح+:
=هو الذي أثقله الدين والغرم، وقد أفرحه، يفرحه إذا أثقله، وأخرجه إذا غَمَّهُ، وحقيقته: أزلتُ عنه الفَرَحَ، كأشكيته إذا أزلت شكواه. والمقفل بالحقوق مغموم مكروب إلى أن يخرج عنها، ويروى بالجيم، وتقدم+اهـ.
أغيثوه:
قال ابن الأثير في النهاية (3/392):
=غوث+: في حديث هاجر أم إسماعيل: =فهل عندكم غواث+؟
الغَوَاث بالفتح، كالغِياث بالكسر من الإغاثة والإعانة+.
أدركوه:
قال ابن الأثير (2/114):
الدرك اللحاق، والوصول إلى الشيء+.
=أقرضوه أقرضوه:
قال ابن الأثير (4/41): القراض المضاربة في لغة أهل الحجاز. يقال:
قارضه، يقارضه، قراضاً، ومقارضة... قال الزمخشري: أصلها:
من القرض في الأرض، وهو قطعها بالسير فيها، وكذلك هي المضاربة أيضاً من الضرب في الأرض+اهـ.
=ضاربوه، ضاربوه+:
قال ابن الأثير (3/79): المضاربة: أن تعطي مالاً لغيرك يتجر فيه، فيكون له سهم معلوم من الربح، وهي مفاعلة من الضرب في الأرض، والسير فيها للتجارة+اهـ.
وقال الحاكم في المستدرك (4/177):(1/358)
أخبرنا أبو الحسن محمد بن علي بن بكر العدل ابن ابنة إبراهيم بن هانئ، ثنا السري بن خزيمة، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا عبدالرحمن بن فضالة، ثنا بكر بن عبدالله المزني، عن أنس بن مالك÷ قال:
جاءت امرأة إلى عائشة _رضي الله عنها_ تسأل، ومعها صبيان، فأعطتها ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي تمرة تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين، فعمدت إلى التمرة، فشقتها نصفين، فأعطت كل صبي لها نصف تمرة، فجاء النبي" فأخبرته، فقال:
=وما يعجبك منها؟! لقد رحمها الله برحمتها صبيتها+.
ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، فقال: صحيح.
وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/158) للبزار بلفظ:
=وعن أنس، أن امرأة دخلت على عائشة، ومعها بنتان لها، قال: فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ثم أخذت تمرة؛ لتضعها في فمها، قال: فنظر الصبيان إليها! قال: فصدعتها نصفين، فأعطت كل واحدة منهما نصفاً، وخرجت، فدخل النبي" فحدثته عائشة بما فعلت أو تفعل المرأة؟ قال:
=فلقد دخلت بذلك الجنة+.
ثم قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه عبيدالله بن فضالة وذكره المزي في ترجمة مسلم بن إبراهيم الفراهيدي الراوي عنه، فقال: =عبيدالرحمن بن فضالة، أخو مبارك بن فضالة. قلت: ولم أعرفه، وبقية رجاله، رجال الصحيح+اهـ.
قلت: ذكره ابن حبان في الثقات (7/92) وقال: هو أخو المبارك بن فضالة، وقال: =ليس في المحدثين عبيدالرحمن غير هذا+اهـ.
وبقية رجال سنده ثقات. السري بن خزيمة هو البيوري ذكره ابن حبان في الثقات (8/302) وقال: مستقيم الحديث.
ومسلم بن إبراهيم هو الأزدي الفراهيدي ثقة مأمون مكثر حجة.
وبكر بن عبدالله المزني ثقة ثبت جليل.
عقوبة كراهة البنات
قال الخرائطي في مكارم الأخلاق (2/650) رقم696:
=حدثنا نصر بن داود، ثنا يحيى بن يوسف الذِّمِّي، ثنا عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد، قال:(1/359)
حدثتني أُمِّي، قالت: كانت بمرو امرأة تلد البنات، فولدت تسع بنات، فلما حملت العاشرة قال لها النساءُ: يا فلانة، إن ولدت المرة بنتاً، فاحمد الله، قالت: إن ولدت المرة ابنة لم أحمد الله، قالت:
فولدت خنزيرةً. قالت أمي: فأتيتها، فنظرت إلى الخنزيرة تحت قميصا فعاشت ثلاثة أيام، ثم ماتت+.
إسناده حسن.
وقال البخاري في الأداب المفرد ص43 رقم83: باب من كره أن يتمنى موت البنات.
حدثنا عبدالله بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، عن سفيان عن عثمان بن الرَّوَّاع، عن ابن عمر، أن رجلاً كان عنده وله بنات، فتمنى موتهن فغضب ابن عمر! فقال: =أنت ترزقهن+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
7_ وعن أنس بن مالك _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله":
=من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه+.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/552) رقم5491، ومسلم في الصحيح (4/2048) رقم2631، والترمذي في الجامع (4/319) رقم1914، والبغوي في شرح السنة (6/188) رقم1682، والحاكم في المستدرك (4/177) والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/174) رقم8307، والآداب ص15 رقم25.
من طريق محمد بن عبدالعزيز الراسبي، عن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس، عن انس بن مالك به
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وقال الترمذي أيضاً بعد حديث 1916:
=وقد روى محمد بن عبيد، عن محمد بن عبدالعزيز غير حديث بهذا الإسناد، وقال:
=عن ابن أبي بكر بن عبيدالله بن أنس+.
والصحيح هو:=عبيدالله بن أبي بكر بن أنس+اهـ.
هذا لفظ الجميع في الجملة. ولفظ البغوي:
=من عال جاريتين حتى تدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين+ وأشار محمد بالمسبحة والتي تليها. =وبابان يعجلان في الدنيا: البغي وقطيعة الرحم+.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/147_148) وابن حبان في صحيحه (2/191) رقم447، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب (1/268) رقم593.(1/360)
من طريق حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله":
=من عال ابنتين أو ثلاثاً أو أختين، أو ثلاثاً، حتى يَبِنَّ، أو يموت عنهن كنت أنا وهو في الجنة كهاتين+ وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها+.
هذا لفظ ابن حبان.
ولفظ أحمد: =من عال ابنتين أو ثلاث بنات، أو أختين أو ثلاث أخوات حتى يمتن أو يموت عنهن كنت أنا وهو كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى+.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/551) رقم5488، والخرائطي في مكارم الأخلاق (2/643) رقم687_484، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/284_285).
من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله":
=من كان له ابنتان، أو أختان، فأحسن إليهما ما صحبتاه، كنت وهو في الجنة كهاتين _يعني السبابة والوسطى+.
ورواه أحمد في المسند (3/156)، وابو يعلى في مسنده (6/166) رقم693_3448، والطبراني في الأوسط (9/73) رقم8155.
من طريق محمد بن زياد البُرْجُمي، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله":
=من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، اتقى الله _عز وجل_ وأقام عليهن، كان معي في الجنة، هكذا، وأشار بأصابعه الأربع+.
محمد بن زياد البرجمي قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (7/258) رقم2413، سألت أبي عنه؟ فقال: هو مجهول+.
وخالفه أبو أحمد بن عدي في الكامل (1/316)، فقال: =قال لنا عبدان الأهوازي: سألت الفضل بن سهل الأعرج، وابن إشكاب عن محمد بن زياد البرجمي هذا؟ فقالا: هو من ثقات أصحابنا+اهـ.
ورواه الطبراني في الأوسط (6/206) رقم5428.
من طريق الوليد بن شجاع، قال: حدثنا أبي، عن زياد بن خيثمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله":
=ما من أمتي من أحد يكون له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات يعولهن حتى يبلغن إلا كان معي في الجنة. هكذا، وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى+.(1/361)
وقال: لم يرو هذا الحديث عن زياد بن خيثمة إلا شجاع بن الوليد.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/157):
رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين. ورجال أحدهما رجال الصحيح+.
وأخرجه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب (1/268) رقم594.
من طريق عبدالله بن عيسى بن أبي ليلى، عن يونس العبدي _وهو ابن عبيد_ عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك÷ عن النبي" قال:
=من عال ثلاث بنات كُنَّ له حجاباً من النار+.
8_ وعن عبدالله بن مسعود÷ قال: سمعت رسول الله" يقول:
=من كان له ابنة، فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له منعة وسترة من النار+.
رواه الطبراني في الكبير (10/243) رقم10447، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/57).
من طريق محمد بن عبدالله الحضرمي، قال: ثنا عبيدالله بن عمرو الأموي، قال: ثنا طلحة بن زيد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: فذكره.
قال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش، تفرد به الأموي عن طلحة.
وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (2/639) رقم683_480.
من طريق نصر بن داود الصاغاني، ثنا عبيدالله بن عمرو من أهل مكة، ثنا طلحة بن زيد، عن الأعمش، عن أبي وايل، قال: أقبلت ابنة لعبدالله بن مسعود، وهي جارية صغيرة، فضمها إلى نحره، ثم قبلها، ثم قال:
=يا مرحباً، يا ستر عبدالله من النار. سمعت رسول الله" يقول:
=من كانت له ابنة، فأدبها، وأحسن تأديبها، وغذاها، فأحسن غذاها، وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه. كانت له ميمنة، وميسرة من النار إلى الجنة+.
قال الهيثمي في المجمع (8/158): رواه الطبراني، وفيه طلحة بن زيد وهو وضاع+.
قلت: وهو كما قال، رجاله ثقات، رجال الصحيح غير طلحة بن زيد وهو القرشي أبو مسكين أو أبو محمد وهو متروك.(1/362)
9_ وعن الحسن بن علي بن أبي طالب _رضي الله عنهما_ قال: جاءت امرأة إلى رسول الله" ومعها ابنان لها، فأعطاها ثلاث تمرات، فأعطت ابنيها كل واحد منهما تمرة، فأكلا تمرتيهما، ثم جعلا ينظران إلى أمهما، فشقت تمرتها بنصفين بينهما، فقال رسول الله":
=قد رحمها الله برحمتها ابنيها+.
رواه الطبراني في الكبير (3/78) رقم2715.
من طريق محمد بن عبدالله الحضرمي مطين، ثنا جعفر بن حميد، ثنا حُديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن شقيق بن سلمة عن الحسن به.
وأخرجه الطبراني أيضاً في الصغير (2/29) وأبو نعيم في الحلية (4/349).
من طريق محمد بن سليمان لُوَيْن، قال: حدثنا حُدَيْج بن معاوية به
قال الطبراني: لم يروه عن أبي إسحاق إلا حديج، ولا يروى عن الحسن بن علي إلا بهذا الإسناد+.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث أبي إسحاق وشقيق، تفرد به حديج+اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع (8/158): رواه الطبراني في الصغير والكبير، وفيه حديج بن معاوية الجعفي وهو ضعيف+اهـ.
قلت: حديج هذا قال فيه الدارقطني في المؤتلف والمختلف (2/615) وابن ماكولا في الإكمال (2/396): ليس بالقوي في الحديث.
وقال الإمام أحمد: ما علمت إلا خيراً _كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/310) رقم1382، وقال أبو حاتم الرازي في المرجع السابق =محله الصدق، وليس مثل أخويه. في بعض أحاديثه صنعة.
وانظر ميزان الاعتدال (1/467) رقم176.
10_ عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ عن النبي" قال:
=ما من مسلم تدركه ابنتان، فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة+.
أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص41 رقم77، والحاكم في المستدرك (4/178).
من طريق الفضل بن ركين، حدثنا فطر _ وهو ابن خليفة، عن شرحبيل، قال: سمعت ابن عباس.. به.
وأخرجه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب (1/267) رقم592.
من طريق إسحاق بن سليمان، ثنا فطر بن خليفة، عن شرحبيل بن سعد، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله".. فذكره.(1/363)
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/551) رقم5489.
من طريق أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن فطر، عن شرحبيل بن مسلم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله":
=من أدركت له ابنتان، فأحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما، أدخله الله الجنة بهما+.
وأخرجه أحمد في المسند (1/235).
من طريق وكيع، عن فطر، ومحمد بن عبيد، قال: ثنا فطر، عن شرحبيل أبي سعيد، عن ابن عباس، عن النبي: قال:
=من كانت له أختان، فأحسن صحبتهما ما صحبتاه دخل بهما الجنة+.
وقال محمد بن عبيد: =تدرك له ابنتان، فأحسن إليهما ما صحبتاه إلا أدخله الله تعالى الجنة+.
وأخرجه ابن ماجة في السنن (2/1210) رقم3670.
من طريق عبدالله بن المبارك، عن فطر، عن أبي سعيد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله":
=ما من رجل تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه إلا أدخلتاه الجنة+.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/178).
من طريق يعلى بن عبيد الطنافسي، ثنا فطر بن خليفة، قال: كنت جالساً عند زيد بن علي÷ بالمدينة، فمر عليه شيخ بالمدينة، يقال له: شرحبيل أبو سعد. فقال له زيد: من أين جئت يا أبا سعد؟ قال: من عند أمير المدينة حدثته بحديث. قال: فحدث به القوم، قال: سمعت ابن عباس _رضي الله عنهما_ يقول: قال رسول الله":
=ما من مسلم تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة+.
وأخرجه أحمد (1/363).
من طريق يعلى بن عبيد الطنافسي، ثنا حجاج الصواف، عن يحيى، عن عكرمة، قال: كنت جالساً عند زيد بن علي بالمدينة فمر شيخ، يقال له: شرحبيل أبو سعد. فقال: يا أبا سعد من أين جئت؟ فقال: من عند أمير المؤمنين حدثته بحديث.
فقال: لأن يكون هذا الحديث حقاً أحب إلى من أن يكون لي حمر النعم.
قال: فحدث به القوم، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله":
= ما من مسلم تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة+.(1/364)
وأخرجه أبو داود في سننه (5/354) رقم5146، وابن أبي الدنيا في العيال (1/234) رقم88، والحاكم في المستدرك (4/177) والبيهقي في الآداب ص16 رقم29، وأحمد (1/223).
من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن أبي مالك سعد بن طارق الأشجعي، عن زياد بن حدير، عن ابن عباس، عن النبي" قال:
=من ولد له ابنة فلم يَئِدْها، ولم يُهِنْها، ولم يؤثر ولده عليها _يعني الذكور_ أدخله الله بها الجنة+.
ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده (4/445) رقم2571، وابن حبان في صحيحه (7/207) رقم2945.
من طريق زهير بن حرب أبي خيثمة، قال: حدثنا جرير _وهو ابن عبدالحميد_ عن فطر، عن شرحبيل بن سعد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله":
= ما من مسلم يكون له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة+.
ورواه ابن أبي الدنيا في العيال (1/233) رقم87، والطبراني في الكبير (11/216) رقم11542.
من طريق سليمان بن طرخان التيمي، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي" قال:
=من عال ثلاث بنات، يزوجهن، وينفق عليهن، ويحسن أدبهن دخل الجنة+.
فقال أعرابي: يا رسول الله، أو اثنتين؟ قال: =واثنتين+.
قال ابن عباس: هذا والله من كرائم الحديث وًغُرَرِه+.
قلت: حَنَش لقب حسين بن قيس الرحبي أبي علي الواسطي. وهو متروك قاله الحافظ في التقريب.
ورواه أبو يعلى في مسنده (4/342) رقم2457.
من طريق خالد _ وهو ابن عبدالله الواسطي _ حدثنا حسين، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
الحاصل: أن حديث ابن عباس هذا جاء من ثلاث طرق:
أحدها: طريق شرحبيل بن سعد الخطمي المدني أبو سعد مولى الأنصار.
قال الهيثمي في المجمع (8/157):
=رواه ابن ماجه، إلا أنه قال: =ابنتان+ بدل =أختان+ رواه أحمد.
وفيه شرحبيل بن سعد وثقه ابن حبان، وضعفه جمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات+اهـ.
وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (4/136).(1/365)
رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه، من رواية شرحبيل عنه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد+اهـ.
قلت: ولفظ الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. لكن خالفه الذهبي في التلخيص، فقال: =شرحبيل واهٍ+.
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/162) رقم3670:
هذا إسناد ضعيف. ابو سعد اسمه: شرحبيل بن سعد مولى خطمة وإن ذكره ابن حبان في الثقات، فقد ضعفه ابن سعد وابن معين وأبو زرعة وابن عدي والدارقطني واتهمه ابن أبي ذئب+اهـ.
قلت: شرحبيل هذا ذكره ابن حبان في موضعين في الثقات (4/364_365) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/339) رقم1486 عن أبي زرعة أنه قال فيه: =لين+.
وقال أحمد شاكر في شرح المسند (3/353) رقم2104:
إسناده صحيح.
الثانية: طريق حسين بن قيس الملقب بحنش الرحبي. وهذه الطريق ضعيفة؛ لأن حنشاً متروك الحديث.
الثالثة: طريق محمد بن خازم أبي معاوية الضرير، عن أبي مالك سعد بن طارق الأشجعي، عن زياد بن حُدَير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ وهي طريق صحيح، رجالها ثقات، رجال الصحيح.
11_ وعن أم سلمة _رضي الله عنها_ قالت: سمعت رسول الله" يقول:
=من أنفق على ابنتين، أو أختين، أو ذواتي قرابة، يحتسب النفقة عليهما، حتى يغنيهما الله من فضله _عز وجل_ أو يكفيهما، كانتا له ستراً من النار+.
رواه أحمد (6/293)، والطبراني في الكبير (23/392) رقم938.
من طريق محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي المدني الملقب بحماد، عن المطلب بن عبدالله بن حنطب المخزومي قال: دخلت على أم سلمة زوج النبي" فقالت: يا بني، ألا أحدثك بما سمعت من رسول الله"؟ قلت: بلى! يا أُمَّهْ! قالت: فذكرته.
إسناده ضعيف؛ لضعف محمد بن أبي حميد، ومتنه صحيح.
قال المنذري في الترغيب (4/138) رقم2887: رواه أحمد والطبراني من رواية محمد بن أبي حميد المدني، ولم يترك، ومَشَّاهُ بعضهم، ولا يضر في المتابعات+اهـ.
وقال الهيثمي في المجمع (8/157):(1/366)
رواه أحمد والطبراني، وفيه محمد بن أبي حميد المدني وهو ضعيف+اهـ.
12_ وعن عقبة بن عامر الجهني÷ قال: قال رسول الله":
=لا تكرهوا البنات؛ فإنهن المؤنسات الغاليات+.
رواه أحمد (4/151) والطبراني في الكبير (17/310) رقم856، وابن أبي الدنيا في العيال (1/244) رقم98.
من طريقة قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن الهيعة، عن أبي عُشَّانَة، عن عقبة بن عامر به.
قال الهيثمي في المجمع (8/156):
رواه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات+اهـ.
قلت: حديث ابن لهيعة هذا صحيح؛ لرواية قتيبة بن سعيد له عنه.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في العيال (1/235) رقم89.
من طريق أحمد بن جميل، أخبرنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا نافع بن ثابت، عن سالم أبي النضر، قال: قال رسول الله":
=لا تكرهوا البنات؛ فإنهن المؤنسات الغاليات+.
مرسل صحيح الإسناد. أحمد بن جميل قال فيه أبو حاتم: صدوق، وقال يحيى بن معين: لا بأس به، نقل ذلك عنهما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/44) رقم23، وذكره ابن حبان في الثقات (8/11).
ونافع بن ثابت هو ابن عبدالله بن الزبير بن العوام الأسدي ذكره ابن حبان في الثقات (5/471).
وسالم أبو النضر هو مولى عمر بن عبيد التيمي المدني ثقة ثبت.
ورواه عبدالله بن المبارك، عن حرملة بن عمران، قال: سمعت أبا عُشَّانَة المعافري، قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله" يقول:
=من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن وكساهن من جِدَتِه، كن له حجاباً من النار، يوم القيامة+.
أخرجه ابن ماجه في سننه (2/1210) رقم3669، وابن أبي الدنيا في العيال (1/235) رقم89، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (15/189) رقم8317.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. أبو عُشَّانَة هو حَيُّ بن يُؤْمِن المصري، ثقة مشهور بكنيته.
ورواه عبدالله بن يزيد المقرئ، حدثنا حرملة بن عمران، عن أبي عُشَّانة، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله" قال":(1/367)
=من كانت له _أو كان له_ ثلاث بنات، فصبر عليهن، فأطعمهن، وسقاهن وكساهن من جدته كُنَّ له حجاباً من النار+.
أخرجه أحمد في المسند (4/154) وأبو يعلى في مسنده (3/299) رقم1764 والبخاري في الأدب المفرد ص41 رقم76.
إسناده صحيح، رجاله ثقات.
ورواه أبو صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث بن سعد، حدثني حرملة بن عمران التجيبي، عن أبي عُشَّانة المعافري، عن عقبة بن عامر الجهني، عن النبي" أنه قال:
= من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهن، فأطعمهن، وسقاهن وكساهن من جِدَتِه، كُنَّ له حجاباً من النار+.
أخرجه الطبراني في الكبير (17/299) رقم826، والبيهقي في الآداب ص15 رقم26.
إسناده صحيح، أو حسن.
ورواه رشدين بن سعد أبو الحجاج المصري، عن حرملة بن عمران التجيبي وابن الهاد، عن أبي عُشَّانَة، عن عقبة بن عامر، عن النبي" أنه قال:
== من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهن، فأطعمهن، وسقاهن وكساهن كُنَّ له حجاباً من النار+.
أخرجه الطبراني في الكبير (17/300) رقم827،830.
إسناده حسن لغيره. ابن الهاد هو يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي أبو عبدالله المدني ثقة مكثر.
ورواه الطبراني في الكبير (17/309) رقم854 أيضاً.
من طريق قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن أبي عشانة به.
إسناده صحيح.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في عظيم ثواب من له بنات فأكرمهن واحسن تربيتهن، وأنفق عليهن مما آتاه الله بحسب جدته إلى أن يغنيهن الله.
وهذا مما يدل دلالة صريحة على أن الدين الإسلامي رفع قدر المرأة وأعلى مكانتها، وأعطاها حقها، وحفظ شرفها وعفتها، وأحياها حية طيبة بخلاف ما كانت عليه في الجاهلية قبل الإسلام من كراهية الكفار لها واحتقارها وقتلها حية والعياذ بالله من السفه ألا ساء ما يحكمون.
قال الله تعالى حاكياً عنهم:
[(1/368)
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجه مسوداً وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59)] النحل.
قال الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/73) في الآية:
=وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً+ متغيراً من الغم والكراهية، =وهو كظيم+ وهو ممتلئ حزناً وغيظاً فهو يكظمه، أي يمسكه ولا يظهره+.
=يتوارى+ أي يختفي، =من القوم من سوء ما بشر به+ من الحزن والعار، ثم يتفكر =أيمسكه+ ذكر الكناية رداً =ما+.
=على هون+ أي هوان، =أم يدسه في التراب+ أي يخفيه، فيئده؛ وذلك أن =مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون البنات أحياءً خوفاً من الفقر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت، وأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر وتركها ترعى له الإبل والغنم في البادية. وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية. قال لأمها، زينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذه البئر، فيدفعها من خلفها في البئر، ثم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض فذلك قوله تعالى: =أيمسكه على هون أم يدسه في التراب+.
وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلاً يحييها بذلك، فقال الفرزدق يفتخر به:
وعمي الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يؤد ... +اهـ.
وقال الإمام محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (3/286) في ذلك:
=وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم، ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال:
إني وإن سيق إلى المهر ... ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إليَّ القبر
ويروى لعبدالله بن طاهر قوله:
لكل أبي بنت يراعي شئونها ... ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها ... وقبر يواريها وخيرهم القبر(1/369)
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهن لولادتهن الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم كما قال الشاعر في ابنتة له تسمى مودة:
مودة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى أود من القبر
وقال آخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم
وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها؛ لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل بالبيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا+اهـ.
وفي رواية قالت:
ما لأبي حفصة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنيان ... والله ما ذاك في أيدينا
وإنما نحن كالزرع لحاصدينا
وقال الإمام ابن جرير في جامع البيان في تأويل القرآن (7/599) رقم2166.
=حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: =وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم+: وهذا صنيع مشركي العرب.
أخبر الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم. فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له. وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه.
ولعمري ما يدري أنه خير.
لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله بصنيعهم؛ لتجتنبوه، وتنتهوا عنه.
وكان أحدهم يغذو كلبه، ويئد ابنته!+اهـ.
إسناده صحيح.
بشر هو ابن معاذ العقدي، ويزيد هم ابن ربيع، وسعيد هو ابن أبي عروبة.
وقال الإمام أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/2533) في آية الأنعام [قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين+140.
=روي أن رجلاً من أصحاب النبي" كان لا يزال مغتماً بين يدي رسول الله" فقال له رسول الله":
=مالك تكون محزوناً؟+ فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنباً في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله وإن أسلمت! فقال له رسول الله":(1/370)
==أخبرني عن ذنبك؟+ فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت، فتشفعت إلى امرأتي أن أتركها حتى كبرت، وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها. فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج.
فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا، وكذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فَسُرَّتْ بذلك، وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر، فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا أبتِ أَيش تريد أن تفعل بي؟! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني، وجعلت تقول: يا أَبَتِ لا تُضَيِّع أمانة أمي!
فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة إليها وأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها، وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني.
فمكثت هناك حتى انقط صوتها، فرجعت.
فبكى رسول الله" وأصحابه، وقال: =لو أُمِرْتُ أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك+اهـ.
وقال الإمام أبو الفداء ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/554) في تفسير آية سورة النحل رقم59:
=فإنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً أي كئيباً من الهم =وهو كظيم+ ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن =يتوارى من القوم+ أي يكره أن يراه الناس =من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب+ أي إن أبقاها أبقاها مهانة، لا يورثها ولا يعتني بها، ويفضل أولاده الذكور عليها.
=أم يدسه في التراب+ أي يئدها، وهو أن يدفنها حية، كما كانوا يصنعون في الجاهلية+اهـ.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة بالرفق في النساء ورحمتهن وتشبيههن بالقوارير
عن أنس بن مالك _رضي الله عنهما_ قال: كان النبي" حادٍ يقال له: أَنْجَشَةٌ، وكان حسن الصوت، فقال له النبي":
=رويدك يا أنجشة، لا تكسر القوارير+.
قال قتادة: يعني ضعفة النساء.(1/371)
هذا الحديث رواه عن أنس بن مالك جماعة من الحفاظ الثقات من تلاميذه. منهم:
1_ ثابت البناني 2_ وسليمان بن طرخان التيمي
3_ وحميد الطويل 4_ وقتادة بن دعامة
5_ وأبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي 6_ وزرارة بن أبي الحلال العتكي
أما حديث قتادة، فرواه عنه:
همام بن يحيى بن دينار العَوْذِي البصري، وهشام بن أبي عبدالله الدستوائي.
أما حديث همام بن يحيى، فأخرجه البخاري (7/121) كتاب الأدب _ باب المعاريض مندوجة عن الكذب، وأحمد (3/252) رقم13670، وأبو يعلى (5/250) رقم2868، وابن حبان في صحيحه (13/119) رقم5801، والبهقي في الكبرى (10/227) ومسلم في الصحيح (4/1812) رقم73_2323، والنسائي في الكبرى(6/134) رقم10361.
وأما حديث هشام، فأخرجه مسلم في الصحيح (4/1812) رقم2323، وأبو يعلى في مسنده (5/433) رقم3126، والبغوي في شرح السنة (13/156) رقم3577، والنسائي في الكبرى (6/134) رقم10360.
بلفظ: =أن رسول الله" أتى على أنجشة وهو يسوق بنسائه، فقال:
=رويدك، ولا يكسر القوارير+.
وأما حديث ثابت البناني فرواه عنه شعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة.
أما حديث شعبة فأخرجه النسائي في الكبرى (6/135) رقم10362، والبغوي في شرح السنة (13/157) رقم3578_3579، والبخاري في الصحيح (7/221) كتاب الأدب، باب المعاريضُ مندوحة عن الكذب، وابو نعيم في أخبار أصبهان (2/48).
بلفظ: =عن أنس بن مالك، قال: كان النبي" في مسير له فحدا الحادي، فقال النبي":
=ارفق يا أنجشة _ويحك_ بالقوارير+.
وأما حديث حماد بن زيد فرواه عنه يونس بن محمد المؤدب.
عند أحمد (3/227) رقم13377.
ومسدد بن مسرمد عند البخاري في الصحيح (7/110) كتاب الأدب _ باب ما جاء في قول الرجل: ويلك.
وسليمان بن حرب الأزدي الواشحي عند البخاري في أيضاً (7/221) كتاب الأدب/ باب المعاريض مندوحة عن الكذب، وعبد بن حميد في المنتخب (3/163) رقم1340، والبيهقي في الكبرى (10/227).(1/372)
وأبو الربيع العتكي سليمان بن داود الزهراني البصري عند مسلم في الصحيح (4/1811) رقم70_2323.
وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري عند أحمد (3/254) رقم13642 ومسلم في الصحيح (4/1811) رقم70_2323
وحامد بن عمر بن حفص البكراوي عند مسلم (4/1811) رقم70_2323.
وعفان بن مسلم الصفار عند أحمد (3/285) رقم14044(1)
ومحمد بن عبيد بن حِسَاب الغُبري عند ابن حبان في الصحيح(13/120) رقم5803 وأما حديث حماد بن سلمة فرواه عنه أبو داود الطيالسي ص272 رقم2048 ورواه البيهقي في الكبرى (10/227) من طريق الطيالسي، وسليمان بن حرب عن عبد بن حميد في المنتخب (3/164) رقم1264.
وأما حديث حميد الطويل فرواه عنه محمد بن إبراهيم بن أبي عدي عند أحمد (3/107) رقم12041.
وأما حديث سليمان بن طرخان التيمي فرواه عنه محمد بن إبراهيم بن أبي عدي عند ابن حبان في الصحيح (13/118) رقم5800.
ورواه عنه يحيى بن سعيد القطان
عند أحمد (3/117) رقم12165
بلفظ: =عن أنس قال:
=كانت أم سليم مع نساء النبي" وهن يسوق بهن سواق، فأتى عليهن رسول الله" قال:
=أي أو يا أنجشة، سَوْقَكَ بالقوارير+.
ورواه يزيد بن زريع عند مسلم في الصحيح (4/1812) رقم73_2323 بلفظ: =قال: كانت أم سليم مع نساء النبي" ولهن. سَوَّاقٌ. فقال النبي":
=أي أنجشة رويداً سوقك بالقوارير+.
ورواه عنه ابنه معتمر عند النسائي في الكبرى (6/135) رقم10360، وابن حبان في الصحيح (13/119) رقم5802، وأبي نعيم في أخبار أصبهان (1/143) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/208).
بلفظ: قال:
=كانت أم سليم مع أزواج النبي" في مسير، وكان سائق يسوق بهن. فقال النبي":
=رويداً سوقك بالقوارير+.
ورواه زهير بن معاوية أبو خيثمة عند أحمد (6/376) رقم27116، والنسائي في الكبرى (6/135) رقم10364، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/430).
__________
(1) سقط من الأصل شيخ أحمدَ عفانُ بنُ مسلم.(1/373)
بلفظ: عن أنس بن مالك، عن أم سليم، أنها كانت مع نساء النبي" وهن يسوق بهن سواق، فقال النبي" أي أنجشة، سوقك بالقوارير+.
ورواه عنه سفيان بن عيينة عند الحميدي في مسنده (2/508) رقم1209 وأحمد في المسند (3/111) رقم12090، والنسائي في الكبرى (6/135) رقم10363، وابن الأعرابي في معجمه (1/150) رقم42، وأبي عوانة في المناقب _ كما في إتحاف المهرة للحافظ ابن حجر (2/30) رقم1140.
بلفظ:
=عن أنس، أن النبي" كان في سفر، وكان له حادياً، يقال له: أنجشة وكانت أم أنس معهم، فقال: يا أنجشة، رويدك بالقوارير+.
ورواه عنه عبدالوهاب بن عطاء الخفاف عند ابن سعد في الطبقات (8/430).
بلفظ: =عن أنس قال: كانت أم سليم مع نساء النبي" وهن يسوق بهن سواق، قال: فأتى عليهن النبي" فقال: يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير+.
ورواه جرير بن عبدالحميد عند أبي يعلى في مسنده (7/116) رقم4064.
بلفظٍ مثله سواء.
ورواه عنه إسماعيل بن علية عند أبي يعلى (7/121) رقم4075.
بلفظٍ مثله.
وأما رواية أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي عن أنس فقد رواها عنه:
أيوب السختياني عند أحمد في مسنده (3/186،227) رقم12935،13377، ومسلم في صحيحه (4/1811) رقم70،71_2323، والبخاري في الصحيح (7/108) كتابه الأدب/ باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، وباب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً (7/119)، وباب ما جاء في قول الرجل:
ويلك (7/121)، والنسائي في الكبرى (6/134) رقم10359، وعبد بن حميد في المنتخب (3/163) رقم1340، وأبي يعلى في مسنده (5/191) رقم2809، 2810، وابن حبان في الصحيح (13/120) رقم5803، والبيهقي في الكبرى (10/227).
بألفاظ متقاربة. منها عند البخاري:
=قال أنس: أتى النبي" على بعض نسائه، ومعهن أم سليم، فقال: =ويحك يا أنجشة، رويدك سوقاً بالقوارير. قال أبو قلابة:
فتكلم النبي" بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه. قوله:
=سوقك بالقوارير+.(1/374)
ومنها عند البخاري أيضاً:
=عن أنس÷ أن النبي" كان في سفر، وكان غلام يحدو بهن، يقال له: =أنجشة+ فقال النبي":
=رويدك يا أنجشة، سوقك بالقوارير+ قال أبو قلابة: يعني النساء+.
وأما حديث زرارة بن أبي الحلال العتكي فقد رواه عنه روح بن عبادة عند أحمد (3/206) رقم13144، والطبراني في الأوسط (2/209) رقم1375، وأبو نعيم في الحلية (3/106).
قال زرارة: سمعت أنس بن مالك يحدث أن رسول الله" قال:
=يا أنجشة كذاك سيرك بالقوارير+.
هذا لفظ أحمد، وأبي نعيم ولفظ الطبراني.
=كنا مع رسول الله" ومعنا حادٍ، يقال له: أنجشة، فقال له رسول الله":
=يا أنجشة، رويدك سوقاً بالقوارير+.
قال البغوي في شرح السنة (13/157):
المراد بالقوارير: النساء شبههن بالقوارير؛ لضعف عزائمهن.
والقوارير يسرع إليها الكسر، وكان أنجشة غلاماً أسود، وفي سوقه عنفه، فأمره أن يرفق بهن في السوق كما يرفق بالدابة التي عليها قوارير.
وفيه وجه آخر: وهو أن أنجشة كان حسن الصوت بالحُداء، فكان يحدو لهن، وينشد من القريض والرجز ما فيه تشبيب، فلم يأمن أن يقع في قلوبهن حُداؤه، فأمر بالكف عن ذلك.
وشبه ضعف عزائمهن، وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الآفة إليها+اهـ.
فصل في أدلة منع تزويج البنت بغير رضاها وعدم جواز نكاح المكره والعقد باطل ومفسوخ
ثبت بذلك الحديث عن النبي" من رواية أبي موسى الأشعري وعبدالله بن عباس وعائشة وأبي هريرة وعدي بن عمير الكندي وعبدالله بن عمر ومعقل بن يسار وخنساء بنت خذام _رضي الله عنهم_.
1_ أما حديث أبي موسى الأشعري÷ فأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/394)، وابن الجوزي في التحقيق (2/265) رقم1718.
من طريق وكيع، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبي موسى قال: قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت لم تكره+.(1/375)
ورواه أبو يعلى في مسنده (13/200) رقم7229،7230، والرُّوياني في مسنده (1/305) رقم454.
من طريق سلم بن قتيبة، حدثنا يونس، سمع أبا بردة، سمع أبا موسى، سمع النبي" يقول:
=إذا أراد الرجل أن يزوج ابنته، فليستأذنها+.
هذا لفظ أبي يعلى.
ولفظ الروياني: =اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها، وإن كرهت فلا كره عليها+.
وأخرجه أحمد في المسند (4/408) والدار قطني في السنن (3/242) رقم77، والبزار في مسنده (8/117) رقم3118.
من طريق إسرائيل بن أبي إسحاق به. ولفظه عند أحمد:
=تستأمر اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت فلا تزوج+.
ولفظ الدارقطني: =تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن رضيت زوجت، وإن لم ترض لم تزوج+.
ولفظ البزار:
=وإن كرهت فلا كره عليها، ولا جواز عليها+.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/166) والبيهقي في الكبرى (7/122)، والمعرفة (10/51) رقم13610.
من طريق عبيدالله بن موسى، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى سمع النبي" يقول:
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها، وإن كرهت فلا كره عليها+.
هذا لفظ الحاكم والبهقي في الكبرى. ولفظ البيهقي في المعرفة:
=وإن كرهت لم تُكْره+.
وأخرجه أحمد (4/411) والدارقطني في السنن (3/241) رقم74
من طريق أبي قَطَن _وهو عمرو بن الهيثم_ ثنا يونس، قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أنكرت لم تكره+.
قال أبو قَطَن: سمعتَه منه أو سمعتَه من أبي بردة؟ قال: =نعم+.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/139)
من طريق يحيى بن آدم، ثنا يونس به إلا أنه قال: =وإن أنكرت لم تنكح+.
وأخرجه الدارمي في السنن (ص534)
من طريق أبي نعيم، ثنا يونس، به. وقال: =وإن أبت لم تُكْرَه+.
ورواه أبو يعلى في مسنده (13/311) رقم7327، وابن حبان في صحيحه (9/396) رقم4085
من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن يونس، به لفظ:(1/376)
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت لم تُكْرَه+.
إسناده صحيح، رجاله ثقات. ونقل الذهبي في التلخيص عن الحاكم أنه قال: صحيح، على شرط الشيخين، وأقره. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/280):
رجاله رجال الصحيح+.
وقال ابن حبان (9/395) رقم4083:
=سمع هذا الخبر أبو بردة، عن أبي موسى مرفوعاً. فمرة كان يحدث به عن أبيه مسنداً، ومرة يرسله، وسمعه أبو إسحاق من أبي بردة مرسلاً، ومسنداً معاً، فمرة كان يحدث به مرفوعاً، وتارة مرسلاً.
فالخبر صحيح مرسلاً ومسنداً معاً، لا شك فيه، ولا ارتياب في صحته+اهـ.
وقد ترجم له بلفظ:
=ذِكْرُ نفي عقدِ الولي نكاحَ البالغة عليها إلا باستئمارها+ ثم قال بعده:
=معنى هذا الخبر: أن اليتيمة تستأمر قبل إرادة عقد النكاح عليها لمن تختار من الأزواج من شاءت، فإذا سكتت، فقد أذنت في عقد النكاح عليها+اهـ.
2_ وأما حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_ فرواه أحمد (1/261)، والنسائي في المجتبى (84) والكبرى (3/285) رقم5392، والدارقطني في السنن (3/239) رقم64
من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني صالح بن كيسان، عن عبدالله بن الفضل بن عباس بن ربيعة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبدالله بن عباس، أن رسول الله" قال:
=الأيم أولى بأمرها، واليتيمة تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها+.
قال الدارقطني:
=تابعه سعيد بن سلمة، عن صالح بن كيسان، وخالفهما معمر في إسناده، فأسقط منه رجلاً، وخالفهما أيضاً في متنه، فأتى بلفظ آخر، وهم فيه؛ لأن كل من رواه عن عبدالله بن الفضل، وكل من رواه عن نافع بن جبير، مع عبدالله بن الفضل خالفوا معمراً، واتفاقهم على خلافه دليل على وهمه. والله أعلم+اهـ.(1/377)
قلت: حديث معمر بن راشد أخرجه عبدالرزاق في المصنف (6/145) رقم10299، وأحمد في المسند (1/334)، والنسائي في المجتبى (6/85)، والكبرى (3/284) رقم5391، وأبو داود في السنن (2/578) رقم2100، والدارقطني في السنن (3/239) رقم66،67، وابن حبان في صحيحه (9/399) رقم4089، والطحاوي في مشكل الآثار (14/434) رقم5735، والبيهقي في الكبرى (7/118).
قال معمر: =عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ عن النبي" قال:
=ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر، فصماتها إقرارها+.
هذا لفظ عبدالرزاق ، وأحمد، والنسائي، وأبي داود، وابن حبان، والدارقطني، إلا أنه قال: =واليتيمة تستأذن، وصمتها إقرارها+، وفي رواية قال: =تستأمر، وصمتها رضاها+.
ولفظ الطحاوي: =ليس للأب مع الثيب أمر، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها+.
ولفظ البيهقي: =واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها+.
قال الدارقطني: =كذا رواه معمر، عن صالح، والذي قبله أصح في الإسناد والمتن؛ لأن صالحاً لم يسمعه من نافع بن جبير، وإنما سمعه من عبدالله بن المفضل عنه.
اتفق على ذلك ابن إسحاق وسعيد بن سلمة، عن صالح.
سمعت النيسابوري يقول: الذي عندي أن معمراً أخطأ فيه+اهـ.
وقال النسائي: =أدخل محمد بن إسحاق بين صالح بن كيسان وبين نافع بن جبير =عبدالله بن المفضل+.
ثم أورد الحديث السابق رقم5392، وفيه: =عبدالله بن المفضل+.
وقال أبو الطيب في التعليق المغني على سنن الدارقطني (3/239): =قال النسائي: لعل صالح ابن كيسان سمعه من عبدالله بن المفضل+ كذا رواه من طريق ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان.
وذكره ابن حبان في صحيحه، وقال: =إنما سمعته من عبدالله بن الفضل+اهـ.
وأخرجه الدارقطني (3/239) رقم65.(1/378)
من طريق عبدالله بن رجاء، نا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، نا صالح بن كيسان، عن عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله": =الأيم أحق بنفسها من وليها، واليتيمة تستأذن في نفسها، وإذنها السكوت+.
وقال: إن هذا أصح في الإسناد والمتن من حديث معمر+اهـ.
ورواه شعبة بن الحجاج عند مالك في الموطأ (ص524) والنسائي في المجتبى (6/84)، والكبى (3/280) رقم5372، والدارقطني (3/240) رقم69، والطبراني في الكبير (10/373)، رقم10743.
ورواه سفيان الثوري عند الطبراني في الكبير (1/373) رقم10744.
ورواه عبدالله بن نمير عند أحمد (1/362).
ورواه قتيبة بن سعيد أخرجه الترمذي في الجامع (3/416) رقم1108، ومسلم في الصحيح (2/1037) رقم1412.
ورواه أحمد بن يونس وعبدالله بن مسلمة عند أبي داود في السنن (2/577) رقم2098.
ورواه إسماعيل بن موسى السدي عند ابن ماجه (1/601) رقم1870.
ورواه وكيع بن الجراح أخرجه أحمد في المسند (1/345) وابن الجارود في المنتقى رقم709.
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/155) رقم556، ومن طريقه مسلم في الصحيح (2/1037) رقم1421، والبيهقي في الكبرى (7/122).
وأخرجه الشافعي في الأم (5/19) وفي المسند (2/18) ومن طريقه أخرجه البيهقي في المعرفة (10/43) رقم13566، والكبرى (7/118).
ورواه يحيى بن سعيد عند الدارقطني في السنن (3/241) رقم72.
ورواه عبدالرحمن بن مهدي، أخرجه أحمد في المسند (1/219،241).
ورواه أبو مصعب عند البغوي في شرح السنة (9/30) رقم2254.
ورواه يحيى بن يحيى أخرجه مسلم في الصحيح (2/1037) رقم1421، والبيهقي في الكبرى (7/115).
وأخرجه الدارمي في السنن ص534 من طريق خالد بن مخلد.
ورواه إسحاق بن عيسى عند الدارمي في السنن ص534.
ومن طريق زيد بن الحباب أخرجه الدارقطني في السنن (3/240) رقم68.
ورواه عبدالله بن وهب، وعبدالله بن مسلمة القعنبي، وإسماعيل بن مسلمة القعنبي.(1/379)
أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (14/432) رقم5731، 5732، 5733، وشرح معاني الآثار (4/366) و(3/11)، ومن طريق بن وهب أخرجه البيهقي (7/115).
ورواه سفيان الثوري عند الطبراني في الكبير (10/373) رقم10744، 1045، وتمام في فوائده، الروض البسام في فوائد تمام ص414 رقم766.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/136) من طريق عبدالله بن ادريس.
ورواه عبدالرزاق عن مالك بن أنس في المصنف (6/142) رقم10283، ورواه الحميد الحميدي في مسنده (1/239) رقم517، والطبراني في الكبير (10/373) رقم10745 من طريق سفيان بن عيينة.
أربعة وعشرون، عن الإمام مالك بن أنس، عن عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبدالله بن عباس به.
قال شعبة في سنده:
=عن مالك بن أنس، قال: سمعته منه بعد موت نافع بسنة، وله يومئذٍ حَلْقَةٌ، قال: أخبرني عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي"، قال:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، واليتيمة تستأمر، وإذنها صُماتُها+.
هذا لفظ النسائي والدارقطني.
ولفظ مالك مثله إلا أنه قال: =والبكر تستأذن في نفسها.. الخ.
ولفظ ابن نمير: =الأيم أولى بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وصمتها إقرارها+.
ولفظ قتيبة بن سعيد عند الترمذي:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها+.
ولفظ عبدالله بن مسلمة:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها+.
ولفظ إسماعيل بن موسى السُّدي عند ابن ماجه:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها+.
قيل يا رسول الله: إن البكر تستحي أن تتكلم؟ قال: =إذنها سكوتها+.
ولفظ وكيع: =الأيم أولها بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها. قال: وصُماتها إقرارها+.
ولفظ سعيد بن منصور، وعبدالله بن وهب وعبدالله بن مسلمة القعنبي، وإسماعيل بن مسلمة القعنبي:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صُماتها+.(1/380)
ولفظ البيهقي مثله إلا أنه قال: =والبكر تستأذن+.
ولفظ الإمام الشافعي والبيهقي:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وأذنها صُماتها+.
ولفظ =يحيى بن سعيد+:
=الأيم أولى بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، فإن صمتت فهو رضاها+.
ولفظ ابن مهدي عند أحمد (1/219):
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صُماتها+.
وفي رواية قال: =والبكر تستأذن.. الخ/ المسند (1/242)
ولفظ عبدالله بن داود الخريبي _كما عند الدارقطني (3/240) رقم71: =الثيب.. الخ
ولفظ أبي مصعب ويحيى بن يحيى وخالد بن مخلد:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها+.
ولفظ زيد بن الحباب:
=اليتيمة تستأمر في نفسها، وصموتها رضاها+.
ولفظ إسحاق بن عيسى:
=تستأذن البكر، وإذنها صُماتها+.
ولفظ عبدالله بن إدريس:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وصمتها إقرارها+.
ولفظ عبدالرزاق:
=الأيم أحق بنفسها دون وليها، والبكر تستأذن+.
ولفظ سفيان بن عيينة:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، فصمتها إقرارها+.
ولفظ سفيان الثوري:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر رضاها سكوتها+. أحاله ابن أبي شيبة بنحو ما قبله. وهذا نص ما قبله.
درجته عن أهل العلم
خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح رواه شعبة والثوري عن مالك بن أنس.
وقال الدارقطني (3/240) رقم70:
=ورواه جماعة عن مالك، عن عبدالله بن الفضل... منهم شعبة وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالله بن داود الخريبي، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن أيوب المصري وغيرهم+اهـ.
قلت: وممن وقفت عليه من الأئمة ممن رواه عن مالك هم ما يلي:
1_ أحمد أبي بكر أبو مصعب الزهري 2_ واحمد بن يونس
3_ إسحاق بن عيسى بن الطباع 4_ إسماعيل بن مسلمة القعنبي(1/381)
5_ وإسماعيل بن موسى السدي 6_ خالد بن مخلد 7_ سفيان الثوري 8_ سفيان بن عيينة 9_ سعيد بن منصور 10_ زيد بن الحباب 11_ شعبة ابن الحجاج 12_ عبدالرحمن بن مهدي 13_ عبدالرزاق 14_ عبدالله بن إدريس 15_ عبدالله بن داود الخريبي 16_ عبدالله بن مسلمة القعنبي 17_ عبدالله بن وهب 18_ عبدالله بن نمير 19_ قتيبة بن سعيد 20_ الإمام محمد بن إدريس الشافعي 21_ وكيع بن الجراح 22_ يحيى بن سعيد القطان 23_ يحيى بن يحيى الأندلسي 24_ يحيى بن أيوب
فالحديث متواتر السند إلى الإمام مالك× _كما ترى_ وأما سند الإمام مالك فصحيح على شرط الشيخين.
وقد تابع مالكاً زياد بن سعد بن عبدالرحمن الخراساني نزيل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة: كان أثبت أصحاب الزهري+ قاله الحافظ في التقريب.
فقد روى سفيان بن عيينة بقوله:
=ثنا زياد بن سعد، عن عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله" قال:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، فصمتها إقرارها+.
أخرجه الحميدي في مسنده (1/239) رقم517، ومسلم في الصحيح (2/1037) رقم1421 وابن حبان في الصحيح (9/398) رقم4088، والطبراني في الكبير (10/323) رقم10745، وابو داود (2/577) رقم2099، والنسائي في المجتبى (6/85) والكبرى (3/281) رقم5375 والدارقطني في السنن (3/240) رقم70، واحمد في المسند (1/219)، والطحاوي في شرح الآثار (4/366).
هذا لفظ الحميدي، ولفظ أحمد، وابن حبان، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، والطبراني، والطحاوي:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمر أبوها، وإذنها صماتها+.
وفي لفظ مسلم رقم1421_18:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها، وربما قال: وصماتها إقرارها+.
قال أبو داود: =أبوها+ ليس بمحفوظ+.(1/382)
وتابع مالكاً أيضاً عبدالله بن عبدالله بن أبي أويس قريب مالك وصهره، ويزيد ابن عياض، عن عبدالله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي" قال:
=الثيب أملك بنفسها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها+.
أخرجه الطبراني في الكبير (10/373) رقم10746.
إسناد حسن.
وتابع عبدالله بن الفضل عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله":
=الأيم أولى بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وصمتها إقرارها+.
أخرجه أحمد في المسند (1/274) رقم2481 و(1/355) رقم3343، والدارمي ص535 رقم2190، والدارقطني في السنن (3/242) رقم78، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/11) و(4/366) وشرح مشكل الآثار (14/435) رقم5736، والطبراني في الكبير (10/374) رقم10747.
هذا لفظ أحمد.
وفي لفظ لأحمد رقم2481 والدارمي، والدارقطني:
=الأيم أملك بأمرها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وصماتها إقرارها+.
ولفظ الطبراني:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وصمتها إقرارها+.
وساق الطحاوي لفظ رواية مالك بلفظ:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها+.
ثم أورد سند عبيدالله بن عبدالرحمن.. الخ ثم قال: فذكر بإسناده مثله.
هذا الحديث إسناده حسن.
عبيدالله بن عبدالرحمن هو ابن عبدالله بن مَوْهَب القرشي المدني، ويقال: عبدالله بن عبدالرحمن، وهو ابن عم يحيى بن عبيدالله التيمي، قال يحيى بن معين _فيما رواه عنه إسحاق بن منصور_: ثقة.
وروى عنه ابن عباس الدوري أنه قال: ضعيف.
وقال ابن طهمان عنه: ليس به بأس.
3_ وأما حديث عائشة _رضي الله عنها_ فأخرجه عبدالرزاق في المصنف (6/143) رقم10285 عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ذكوان مولى عائشة: سمعت عائشة _رضي الله عنها_ تقول: سألت رسول الله" عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ فقال رسول الله":(1/383)
=نعم تستأمر+، قلت: إنها تستحي، فتسكت؟ فقال: =فذلك إذنها إذا هي سكتت+.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/165) رقم25324، وإسحاق بن راهويه في المسند (2/512) رقم555_1098، ومسلم في الصحيح (2/1037) رقم1420.
وقد تابع عبدالرزاق جماعة من الحفاظ، وهم أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، وعبدالله بن إدريس، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، وعبيدالله بن موسى، وسفيان الثوري والحجاج بن محمد، كلهم يرويه عن ابن جريج.
أما حديث أبي معاوية فأخرجه الإمام أحمد في المسند (6/45) رقم24185، وأبو يعلى في مسنده (8/297) رقم4890.
قال أحمد: =ثنا معاذ(1)، ثنا ابن جريج، ويحيى المعنى عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة، عن ذكوان أبى عمرو مولى عائشة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله":
=استأمروا النساء في أبضاعهن. قال: قيل: فإن البكر تستحي أن تكلم؟ قال:
=سكوتها إذنها+.
وقال أبو يعلى:
=حدثنا مجاهد، حدثنا معاذ(2) حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ذكوان، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: قال رسول الله":
=استأمروا النساء في أبضاعهن+ قالوا: يا رسول الله فالبكر تستحي؟ قال:
=سكوتها إقرارها+.
وأما حديث يحيى بن سعيد القطان فأخرجه أحمد (6/45) رقم24185 مقروناً مع حديث أبي معاوية كما تقدم آنفاً.
__________
(1) هكذا جاء عند أحمد وأبي يعلى =معاذ+ ولم يتعين لي من هو، وصنيع أحمد يدل على أنه أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وبه جزم مخرجوا الموسوعة الحديثية لمسند أحمد برقم24185 حيث قالوا: =في (ظ2) و (م) و (ق): معاذ، والمثبت من (ظ8)، وأطراف المسند (9/38) وظاهرٌ أن الأحاديث التي يذكرها الإمام أحمد هنا إنما هي من مرويات شيخه أبي معاوية، كما يتبين من الأحاديث السابقة و =واللاحقة+.
(2) تقدم في الصفحة قبله.(1/384)
ورواه أحمد أيضاً (6/203) رقم25672، وأبو يعلى في مسنده (8/132) رقم4803، والنسائي في المجتبى (5/85) والكبرى (3/281) رقم5376، وابن الجارود في المنتقى ص178 رقم708.
قال يحيى بن سعيد:
=عن ابن جريج، قال: ابن أبي مليكة يحدث، عن ذكوان أبي عمرو، عن عائشة، عن النبي" قال:
=استأمروا النساء في أبضاعهن+ قيل: فإن البكر تستحي، وتسكت؟ قال:
=هو إذنها+.
هذا لفظ أحمد، والنسائي.
ولفظ ابن الجارود: =اسأذنوا النساء في أبضاعهن+ قيل: فإن البكر تستحي، فتسكت؟ قال: =فسكاتها إذنها+.
وفي رواية له: =فهو إذنها+.
ولفظ أبي يعلى:
=استأمروا النساء في أبضاعهن+ فإن البكر تستحي، فتسكت؟ فهو إذنها+(1).
وأما حديث أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل فأخرجه البخاري في الصحيح (8/63) كتاب الحيل _ باب في النكاح، وأبو عوانة في المستخرج (3/75) بعد حديث حجاج بن محمد ذي الرقم4246، والبغوي في شرح السنة (9/31) رقم2255، والطحاوي في مشكل الآثار (14/437) رقم5739، وشرح المعاني (4/367).
قال الضحاك:
=عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ذكوان، عن عائشة، قالت: قال رسول الله":
=البكر تستأذن+ قلت: إن البكر تستحي؟ قال: =إذنها صماتها+.
هذا لفظ البخاري والبغوي.
ولفظ أبي عوانة: =قال ذكوان: سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله" عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله":
=ذاك إذنها إذا سكتت+. ولفظ الطحاوي مثله.
وأما حديث عبيدالله بن موسى، فأخرجه ابن حبان في صحيحه (9/393) رقم4080.
قال عبيدالله بن موسى:
=عن ابن جريج، عن ابن أي مليكة، عن ذكوان، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: قال رسول الله":
=استأمروا النساء في أبضاعهن+. قيل: إن البكر تستحي؟ قال:
=سكوتها إقرارها+.
__________
(1) سقط من متن الحديث: =قالوا+ و =قال+.(1/385)
_ وأما حديث عبدالله بن إدريس فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/136) ومسلم في الصحيح (2/1037) رقم65_1420، والبيهقي في الكبرى (7/119) قال: =عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أبي عمرو مولى عائشة قالت: قال رسول الله":
=تستأمروا النساء في أبضاعهن+ قالت: قلت: يا رسول الله، إنهن يستحيين؟ قال: =الأيم أحق بنفسها، والبكر تستأمر، فسكوتها إقرارها+.
هذا لفظ ابن أبي شيبة والبيهقي.
ولفظ مسلم:
=سألت رسول الله" عن الجارية، ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله": =نعم تستأمر+. فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي؟ فقال رسول الله": =فذلك إذنها إذا هي سكتت+.
_ وأما حديث الحجاج بن محمد، فأخرجه أبو عوانة في المستخرج (3/74) رقم4246، والطحاوي في مشكل الآثار (14/436) رقم5738، ومعاني الآثار (4/367)، والبيهقي في الكبرى (7/122).
قال الحجاج: =عن ابن جريج، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ذكوان مولى عائشة: سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله" عن الجارية ينكحها أهلها: أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله" =نعم تستأمر+. قالت عائشة: فقلت له: فإنما هي تستحي، فتسكت؟ فقال رسول الله":
=فذلك إذنها إذا هي سكتت+.
ولفظ أبي عوانة والبيهقي: =ذاك إذنها إذا سكتت+.
_ وأما حديث سفيان الثوري فأخرج البخاري في الصحيح (8/57) كتاب الإكراه_ باب لا يجوز نكاح المكره.. الخ، وأبو عوانة في المستخرج (3/75) بعد حديث الحجاج بن محمد ذي الرقم4246، وقال: بمثله+ أي بمثل حديث الحجاج المتقدم.
وأخرجه تمام الرازي في فوائده _الروض البسام ص415 رقم767، والبيهقي في الكبرى (7/223)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/362) رقم2002.
قال سفيان: =عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أبي عمرو _وهو ذكوان_ عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: قلت: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: =نعم+. قلت: فإن البكر تستأمر، فتستحي، فتسكت؟ قال:
=سكاتها إذنها+.(1/386)
هذا لفظ البخاري. ولفظ البيهقي:
=تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: =نعم+ قلت: فإن البكر تستحي؟ قال:
=تستأمر، فإن سكتت، فسكوتها إذنها+.
ولفظ أبي عوانة والبيهقي:
=سألت رسول الله" عن الجارية ينكحها أهلها؟ أتستأمر أم لا؟
فقال لها رسول الله":
=نعم تستأمر+. فقلت له: فإنما هي تستحي، فتسكت؟ فقال رسول الله": =ذلك إذنها إذا سكتت+.
ولفظ تمام وابن عساكر:
=أتستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال:
=إن البكر تستأمر، فتستحي، فتسكت، وإذنها سكاتها+.
وقد تابع الليثُ بنُ سعد ابنَ جريج عند البخاري في الصحيح (6/135) كتاب النكاح _ باب لا ينكح الأب ولا غيره البكر والثيب إلا برضاهما.
حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن أبي عمرو مولى عائشة، عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت: يا رسول الله، إن البكر تستحي؟ قال:
=رضاها صمتها+.
ومن طريق الليث أخرجه أبو عوانة في المستخرج (3/75) رقم4248، وابن حبان في الصحيح (9/394) رقم4082.
_ واما حديث الأنصاري فأخرجه ابن حبان في صحيحه (9/393) رقم4081:
=أخبرنا ابن خزيمة، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الأنصاري، حدثنا ابن جريج، قال:
=وحدثني ابن أبي مليكة، حدثني أبو عمرو ذكوان، عن عائشة أنها سألت النبي" عن البكر تخطب، فقالت: قال النبي":
=تستأمروا النساء في أبضاعهن+ قالت: يا رسول الله، البكر تستحي، فتسكت؟ قال:
=سكوتها إقرارها+.
الأنصاري هو محمد بن عبدالله؛ لأنه مذكور فيمن يروي عنه محمد بن المثنى، كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي (26/359،361).
وعلقه الإمام أبو داود في سننه (2/575) رقم2094، فقال:
=ورواه أبو عمرو ذكوان، عن عائشة، قالت: يا رسول الله، إن البكر تستحي أن تتكلم؟ قال:
=سكاتها إقرارها+.(1/387)
4_ وأما حديث أبي هريرة÷ فأخرجه أحمد في المسند (2/250، 425)، ومسلم في الصحيح (2/1036) رقم64 (1419)، وأبو عوانة في المستخرج (3/73) رقم4239، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/368).
من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن علية، ثنا الحجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
=الثيب تستأمر في نفسها، والبكر تستأذن+.
قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
هذا لفظ أحمد، ولفظ مسلم:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
ولفظ أبي عوانة والخطيب:
=لا تنكح الثيب حتى تستأمر..+ وباقيه مثل حديث مسلم.
وأخرجه عبدالرزاق في المصنف (6/143) رقم10286، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله":
=تستأمر الثيب، وتستأذن البكر+ قالوا: وما إذنها يا رسول الله؟ قال:
=أن تسكت+.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه احمد في المسند (2/279) وابو عوانة في المستخرج (3/73) رقم4240، ومسلم في الصحيح (2/1036) رقم64_(1419).
ورواه أبو داود في سننه (2/573) رقم2092.
من طريق مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي" قال:
=لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلا بإذنها، قالوا: يا رسول الله، وما إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
ابان هو ابن يزيد العطار.
ورواه مسلم في الصحيح (2/1036) رقم64_ (1419) والترمذي في السنن (3/415) رقم1107، والبيهقي في الكبرى (7/122) والدارمي في السنن (ص534) وابن ماجه (1/60) رقم1871، وأبو يعلى في مسنده (10/407) رقم6013، والطحاوي في المشكل (14/438) رقم5741، والمعاني (4/438).
من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":(1/388)
=لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت+.
هذا لفظ الترمذي ولفظ البيهقي نحوه. ومسلم بمعناه.
ورواه البخاري في الصحيح (6/135) رقم5136، كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر، والثيب إلا برضاهما، وفي (8/62) رقم6968، كتاب الحيل، باب في النكاح، ومسلم في الصحيح (2/1036) رقم64_1419، وأحمد في المسند (2/434)، والدارمي ص534، وابن الجارود في المنتقى ص177 رقم707، والطحاوي في مشكل الآثار (14/437) رقم5740، وشرح معاني الآثار (4/367)، وأبو عوانة في المستخرج (3/73) رقم4238، والبيهقي في الكبرى (7/119).
من طريق هشام بن سَنْبَر الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة حدثهم، أن النبي" قال:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+. قالوا يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
هذا لفظ البخاري ومسلم وأحمد، وأبي عوانة، وابن الجارود.
وفي لفظ للبخاري:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر+. فقيل يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال:
=إذا سكتت+.
ولفظ البيهقي نحوه إلا أنه قال: =إن سكتت فهو رضاها+.
ولفظ الطحاوي والدارمي كذلك إلا أن الدارمي جاء بلفظ =وإذنها الصموت+ ولفظ الطحاوي: =الصمت+.
ورواه البخاري في الصحيح (8/63)/ كتاب الحيل_ باب النكاح، ومسلم في الصحيح (2/1036) رقم64_1419، وأبو عوانة في المستخرج (3/74) رقم4243، والبيهقي في الكبرى (7/122).
من طريق شيبان بن عبدالرحمن النحوي أبي معاوية، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
وأخرجه أبو عوانة في المستخرج (3/74) رقم4244.
من طريق علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي" قال:(1/389)
=لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن+. قالوا يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال:
=أن تسكت+.
قال الإمام مسلم في الصحيح (2/1036) بعد رقم1419:
وحدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ح.
وحدثني إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى _يعني ابن يونس_ عن الأوزاعي ح.
وحدثني زهير بن حرب، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان ح.
وحدثني عمرو الناقد ومحمد بن رافع، قالا: حدثنا عبدالرزاق، عن معمر ح.
وحدثنا عبالله بن عبدالرحمن الدارمي، أخبرنا يحيى بن حسان، حدثنا معاوية، كلهم عن يحيى بن أبي كثير بمثل حديث هشام وإسناده، واتفق لفظ حديث هشام وشيبان ومعاوية بن سلام في هذا الحديث+اهـ.
وقال أبو عوانة (3/74) بعد رقم4245:
=اتفق لفظ هشام وشيبان ومعاوية في هذا الحديث+.
سمعت أبا العباس المُبَرَّد يقول: =الأيم التي لا زوج لها نكحت أو لم تنكح، قال الشاعر:
فإن تنكحي انكحْ، وإن تتأيمي ... يدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم
متابعات ليحيى بن أبي كثير
روى الإمام أحمد في المسند (2/229)، وسعيد بن منصور في سننه (1/154) رقم554.
من طريق هشيم، نا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تشاور+ قالوا: يا رسول الله، إن البكر تستحي؟ قال:
=سكوتها رضاها+. هذا لفظ سعيد. ولفظ أحمد:
=البكر تستأمر، والثيب تشاور+. قيل: يا رسول الله، البكر تستحي... الخ.
وقال عبدالرزاق في المصنف (6/145) رقم10297:
=عن الثوري، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي" قال:
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها+.
ومن طريق الثوري أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/412) رقم6019.
بسنده ومتنه إلا أن فيه: =فإذا أمسكت.. الخ.
وأخرجه احمد في المسند (2/259).
من طريق عبدالواحد، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال رسول الله":(1/390)
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو إذنها، وإن أبت، فلا جواز عليها+.
إسناده صحيح.
عبدالواحد هو ابن واصل السدوسي أبو عبيدة الحداد ثقة.
وأخرجه أحمد في المسند (2/475) والنسائي في المجتبى (6/87)، والكبرى (3/282) رقم5381.
من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عمرو، قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي" قال:
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها+.
ورواه الترمذي في الجامع (3/417) رقم1109.
من طريق عبدالعزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
= اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها+.
يعني إذا أدركت، فردت.
وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (13/312) رقم7328.
من طريق يحيى بن زكريا، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي مثله+.
يعني مثل حديث أبي موسى÷ برقم7327 بلفظ:
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت لم تكره+.
ومن طريق أبي يعلى أخرجه ابن حبان في الصحيح (9/397) رقم4086.
وقال: =مثله+ يعني مثل حديث أبي موسى هذا.
ورواه ابن حبان في الصحيح (9/392) رقم4079.
من طريق زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ عن رسول الله" قال:
= تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها، وإن أبت فلا جواز عليها+.
زائدة هو ابن قدامة الثقفي أبو الصلت الكوفي ثقة ثبت.
ورواه أبو داود في السنن (2/573) رقم2093، والطحاوي في مشكل الآثار (14/421) رقم5782، والبيهقي في الكبرى (7/122).
من طريق حماد بن سلمة، حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها+.
هذا لفظ أبي داود. ولفظ الطحاوي:
=اليتيمة تستأمر، فإن رضيت، فلها رضاها، وإن أنكرت فلا جواز عليها+.(1/391)
قال أبو داود:
=وكذلك رواه أبو خالد سليمان بن حيان، ومعاذ بن معاذ، عن محمد بن عمرو+.
وقال أبو داود (2/575) رقم2094:
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو بهذا الحديث بإسناده.زاد فيه =قال: =فإن بكت أو سكتت+ زاد =بكت+.
قال أبو داود: وليس =بكت+ بمحفوظ، وهو وهم في الحديث، الوهم من ابن إدريس أو من محمد بن العلاء+.
واخرجه أبو داود (2/573) رقم2093.
من طريق يزيد بن زريع، عن محمد بن عمرو به.
ورواه البيهقي في الكبرى (7/120)
من طريق أسباط بن محمد، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو إذنها، وإن أبت، فلا جواز عليها+.
وأخرجه البيهقي أيضاً في المعرفة (10/50) رقم13606
من طريق عبدالوهاب بن عطاء، قال: اخبرنا محمد بن عمرو.. بهذا الحديث.
وتابع أبا سلمة بن عبدالرحمن سعيدُ بن المسيب عند تمام في فوائده (1/116) رقم266، والطبراني في الأوسط (5/147) رقم4280، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/362) رقم2001.
من طريق محمد بن يوسف الفِريابي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها، وصمتها إقرارها+.
قال الطبراني:
لم يرو هذا الحديث عن الزهري، إلا ابن عيينة، تفرد به الفريابي+اهـ.
وأرسله سعيد بن منصور في سننه (1/154) رقم555، وأبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/138).
فقد روياه عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد مرسلاً.
وتابعهم معمر بن راشد عند عبدالرزاق في المصنف (6/144) رقم10265.
قلت: كون الفريابي تفرد برفعه لا يضره، فقد ثبت رفعه من وجوه كثيرة كما مَرَّ معنا.
ورواه الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله" قال:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، وللثيب نصيب من أمرها ما لم تدع إلى سخطة، فإن دعت إلى سخطة، وكان أولياؤها يدعون إلى الرضا رفع ذلك إلى السلطان+.(1/392)
أخرجه الدارقطني في سننه (3/237) رقم62، والطبراني في الأوسط (9/93) رقم8197.
من طريق إسحاق بن راهويه، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي" قال:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن... الخ.
قال إسحاق بن راهويه لعيسى: =آخر الحديث عن النبي"؟ قال:
=هكذا الحديث، فلا أدري!+.؟ هذا لفظ الدارقطني..........
ولفظ الطبراني:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت، وللثيب نصيب من أمرها، ما لم تدع إلى سخطة، فإذا دعت إلى سخطة، وكان أولياؤها يدعون إلى رضا رفع ذلك إلى السلطان+.
قال إسحاق: قلت لعيسى: =آخر الحديث من حديث النبي"؟
قال: هكذا أخبرنا الأوزاعي+.
قال الطبراني لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا إبراهيم بن مرة، ولا رواه عن إبراهيم بن مرة إلا الأوزاعي، تفرد به عيسى بن يونس+.
وقال الهيثمي في المجمع (4/279):
=قلت: هو في الصحيح باختصار، رواه الطبراني في الأوسط. وقال: قال إسحاق بن راهويه: قلت لعيسى بن يونس بن أبي إسحاق: =آخر الحديث من حديث النبي"؟ قال: هكذا أنبأنا الأوزاعي، ورجاله رجال الصحيح، خلا إبراهيم بن مرة، وهو ثقة+اهـ.
وأخرجه الإمام النسائي في الكبرى (3/283) رقم5385، والدارقطني في السنن (3/233) رقم49،50 من وجه آخر، وذلك:
من طريق الأوزاعي أيضاً، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، أن رجلاً زوج ابنة له، وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي" ففرق بينهما+.
هذا لفظ النسائي. ولفظ الدارقطني: =فرد نكاحها+.(1/393)
5_ وأما حديث عدي بن عمير الكندي÷ فأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده (2/278) رقم774، وأحمد في المسند (4/192)، وابن ماجه في السنن (1/602) رقم1872، والطحاوي في مشكل الآثار (14/439) رقم5743، ومعاني الآثار (4/368)، والطبراني في الكبير (17/108) رقم264، والبيهقي في الكبرى (7/123)، والمزي في تهذيب الكمال (19/539)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/2193) رقم2285، وابن قانع في معجم الصحابة (2/291) رقم824.
من طرق عن الليث بن سعد، قال: حدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن رسول الله" قال:
=الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها+.
هذا لفظ أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه والطحاوي، والطبراني، وأبي نعيم وابن قانع. وزاد أبو نعيم وابن قانع:
=وأمروا النساء في أنفسهن+.
ولفظ البيهقي: =شاوروا النساء في أبضاعهن+ فقيل له: يا رسول الله، إن البكر تستحي؟ قال:
=الثيب..الخ.
وفي لفظ لأحمد: =أشيروا على النساء في أنفسهن+ فقالوا: إن البكر تستحي يا رسول الله؟ قال رسول الله":
=الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صمتها+.
وأخرجه البيهقي أيضاً (7/123) والطحاوي في المشكل (14/440) رقم5745.
من طريق يحيى بن أيوب، عن أبيه، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي، أنه أخبره، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن عرس بن عميرة الكندي رجل من أصحاب النبي"، أن النبي" قال:
=وأمروا النساء في أنفسهن؛ فإن الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها+.
واخرجه المزي في تهذيب الكمال (19/538) أيضاً.
من طريق إسماعيل بن أيوب، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين به.
وتابع إسماعيل بن أيوب سفيانُ بنُ عامر عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني و(4/386) رقم2430 بلفظ:
=أمِّروا النساء، فلتعرب الثيب عن نفسها، وإذن البكر صمتها+.
وتابعه أيضاً صالح بن عبدالله الترمذي، عن سفيان به عند الطبراني (17/138) رقم342.(1/394)
قال الطبراني:
=زاد سفيان بن عامر في الإسناد =العرس+.
ورواه الليث بن سعد عن ابن أبي حسين، فلم يجاوز =عدي بن عميرة+.
قال نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد (4/279): رجاله ثقات.
فصل في أدلة إبطال نكاح المكرهة على من لا ترضاه بجعل الخيار لها
عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت:
=جاءت فتاة إلى رسول الله" فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه، يرفع بي خسيسته.
=فجعل الأمر إليها+. قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء، أن ليس للآباء من الأمر شيء+.
أخرجه عبدالرزاق في المصنف (6/146) رقم10302، وابن أبي شيبة في المصنف (4/137)، وأحمد في المسند (6/136)، والنسائي في المجتبى (6/86)، والكبرى (3/284) رقم5390، وابن ماجه (1/602) رقم1874، والدارقطني في السنن (3/232) رقم45،46،47، وابن الجوزي في التحقيق (2/262) رقم1709، والبيهقي في الكبرى (7/118)، والصغرى (3/27) رقم2400، والمعرفة (10/28) رقم13592، والطبراني في الأوسط (7/431) رقم6838.
من طريق كهمس بن الحسن، عن عبدالله بن بريدة، عن عائشة، قالت: ..الحديث.
هذا لفظ أحمد، والدارقطني رقم45.
ولفظ الطبراني، والدارقطني رقم47: =فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني من ابن أخ له؛ ليرفع به خسيسته، ولم يستأمرني، فهل لي في نفسي أمر؟ قال:
=نعم+. قالت: ما كنت لأرد على أبي شيئاً مما صنعه، ولكن أحببت أن تعلم النساء، أَلَهُنَّ في أنفسهن أمر أم لا؟+.
ومثله لفظ عبدالرزاق. إلا أنه صرح بأنها =امرأة بكر+.
ولفظ النسائي:
=أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة؟ قالت: اجلسي حتى يأتي النبي"، فجاء رسول الله"، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه. =فجعل الأمر إليها+. فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أَعْلَمَ أن للنساء من الأمر شيء+. هذا لفظه في المجتبى، ولفظه في الكبرى:(1/395)
=ولكن أردت أن أعلم أن النساء من الأمر شيئاً+.
ولفظ ابن أبي شيبة والدارقطني رقم46:
=قال: جاءت فتاة إلى عائشة، فقالت: إن أبي زوجني ابنَ أخيه؛ ليرفع بي خسيسته وإني كرهت ذلك؟ فقالت عائشة: انتظري حتى يأتي رسول الله"، فلما جاء رسول الله" أرسل إلى أبيها =فجعل الأمر إليها+. فقالت:
أما إذا كان الأمر إليَّ فقد أجزت ما صنع أبي، إنما أردت أن أعلم هل للنساء من الأمر شيء أم لا؟+.
درجة هذا الحديث
قال الدارقطني: هذه كلها مراسيل. ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئاً+.
وقال البيهقي في السنن (7/118):
هذا مرسل. ابن بريدة لم يسمع من عائشة _رضي الله عنها_+.
وقال في المعرفة (10/48) رقم13592:
=وقد أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا ابن أبي قماش، قال: حدثنا أبو ظفر عبدالسلام بن مطهر، عن جعفر بن سليمان، عن كهمس بن الحسن، عن عبدالله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عائشة زوج النبي"، أن امرأة جاءت إلى النبي"، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يريد أن يرفع خسيسته، فهل لي في نفسي؟ _يعني أمراً_ قال:
=نعم+ قالت: إذن لا أَرُدُّ على أبي شيئاً فعله، ولكن أحببت أن يعلم النساء أن لهن في أنفسهن أمراً+. قال البيهقي:
هكذا وجدت هذا الحديث في مسند أحمد بن عبيد موصولاً بذكر يحيى بن يَعْمَرُ في إسناده ثم ذكر جماعة رووه عن كهمس مرسلاً ثم قال:
=وفي إجماع هؤلاء على إرسال الحديث دليل على خطأ رواية من وصله. والله أعلم+.
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (7/118) معقباً على كلام البيهقي هذا:
=وابن بريدة ولد سنة خمس عشرة، وسمع جماعة من الصحابة، وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه: أن المتفق عليه: أن إمكان اللقاء والسماع يكفي للاتصال، ولا شك في إمكان سماع ابن بريدة من عائشة، فروايته عنها محمولة على الاتصال، على أن صاحب الكمال صرح بسماعه منها+اهـ.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/243):(1/396)
=لكن رواه ابن ماجه متصلاً، وسنده هكذا: حدثنا هناد بن السَّرِّي، حدثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: جاءت فتاة.. الخ. بمثل حديث النسائي+اهـ.
قلت: هذا السند لا ذكر لعائشة فيه _كما ترى_ وأما سماع ابن بريدة _وهو عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي أبو سهل المروزي قاضيها_ من عائشة فممكن؛ لأنه قد ولد سنة 15هـ، فقد أدرك من حياة عائشة 37سنة؛ لأن وفاتها كانت في سنة 58هـ أو بعدها.
وعلى فرض أنه لم يسمع منها، فقد عرفت الواسطة في هذا السند وهو يحيى بن يَعْمَرُ البصري نزيل مرو وقاضيها ثقة فصيح.
قال الإمام النسائي: =هذا الحديث يوثقونه+.
وقال الطبراني: لم يجود هذا الحديث عن كهمس إلا جعفر بن سليمان ووكيع بن الجراح+.
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/79) رقم668_1874:
=هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رواه البخاري وغيره من حديث عبدالرحمن بن يزيد ومجمع بن يزيد+اهـ.
قال البيهقي: وإن صح ذلك، فكأنه كان وضعها في غير كفؤ، فخيرها النبي"+ وتعقب ذلك:
فقد جاء في حاشية نصب الراية للزيعلي (3/193):
=قال ابن الهمام: كيف زوج من غير كفؤ، وكان ابن عمها؟!+.
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (3/304):
=الظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً هو ابن أخيه، وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.
ولفظ النساء عام للثيب والبكر، وقد قالت هذه عند النبي": فأقرها عليه.
والمراد بنفي الأمر من الآباء نفي التزويج للكراهة؛ لأن السياق في ذلك، فلا يقال: هذا عام لكل شيء+اهـ.
الغريب:
خسيسته: أي دناءته بأنه خسيس، فأراد أن يجعله بي عزيزاً، والخسة، والخساسة: الحالة التي يكون عليها الخسيس.
يقال: رفع خسيسته إذا فعل به فعلاً يكون فيه رفعته./ انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/31) باب الخاء مع السين، وغيرها.(1/397)
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أن جارية بكراً أتت النبي" فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي".
أخرجه أحمد في المسند (1/273)، وأبو داود (2/576) رقم2096، 2097، وابن ماجه (1/603) رقم1875، والنسائي في الكبرى (3/284) رقم5387، وأبو يعلى في المسند (4/404) رقم2526، والدارقطني (3/235) رقم56، وأبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (8/88)، والبيهقي في الكبرى (7/117)، وابن الجوزي في التحقيق (2/262) رقم1707، والطحاوي في مشكل الآثار (14/441) رقم5746، وابن حزم في المحلى (11/40).
من طريق حسين بن محمد، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
درجة الحديث
قال الدارقطني: والصحيح مرسل.
وقال ابن أبي حاتم في علل أخبار النكاح (1/417) رقم1255: سألت أبي، وسئل أبو زرعة عن حديث رواه حسين المرَوُّذي، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رجلاً زوج ابنته، وهي كارهة، ففرق النبي" بينهما+.
قال أبي: هذا خطأ، إنما هو كما رواه الثقات عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي" مرسل، منهم: ابن علية، وحماد بن زيد، أن رجلاً تزوج _ وهو الصحيح+.
قلت: الوهم ممن هو؟ قال: من حسين ينبغي أن يكون؛ فإنه لم يروه عن جرير غيره+.
قال أبي: رأيت حسين المرَوُّذي، ولم أسمع منه. قال أبو زرعة: حديث أيوب ليس بصحيح+اهـ.
وقال البيهقي: فهذا حديث أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب.. الخ.
وقال ابن عبدالهادي في المحرر (2/545) رقم56: =وله علة بَيَّنَها أبو داود، وأبو حاتم، وهي الإرسال+اهـ.
وأجيب عن هذه العلة بما يلي:
1_ قال الحافظ في الفتح (9/196) في درجة هذا الحديث:
=ورجاله ثقات، وأما الطعن في الحديث، فلا معنى له؛ فإن له طرقاً يقوى بَعْضُها ببعض+اهـ.
وقال أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد (8/89):
=قلت: قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم أيضاً، كما رواه حسين، فبرئت عهدته وزالت تبعته.(1/398)
أنبأناه أحمد بن عبدالواحد الدمشقي، حدثنا جدي أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان السلمي، أنبأنا أحمد بن محمد بن بشر أبو الميمون، قال: حدثنا محمد بن سليمان المنقري، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن جارية بكراً زوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي"، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة؟ =فخيرها النبي"+.
ورواه أيوب بن سويد هكذا عن الثوري، عن أيوب موصولاً.
وكذلك رواه مُعَمَّر بن سليمان، عن زيد بن حبان، عن أيوب+.
ثم ساق بسنده إلى أحمد بن حنبل أنه قال: اكتبوا عن أبي أحمد حسين بن محمد.
ونقل الخطيب أيضاً عن النسائي أنه قال: ليس به بأس. وقال هو: =وكان ثقة+.
قلت: طريق معمر بن سليمان أخرجها الإمام النسائي في الكبرى (3/284) رقم5389، فقال:
أخبرني أيوب بن محمد، قال: ثنا معمر، قال: ثنا زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي به.
ثم قال النسائي: هذا الحديث يوثقونه+.
وأخرجه ابن ماجه في السنن (1/603) رقم1875.
من طريق محمد بن الصباح، أنبأنا مُعمر بن سليمان به.
وأما طريق سفيان الثوري فأخرجها الدارقطني في السنن (3/235) رقم58.
وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/249) رقم245:
=فأما قصة الجارية البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة فأخرى، تظاهرت بها الروايات من حديث ابن عمر وجابر وابن عباس وعائشة. ذكر منها أبو داود حديث ابن عباس، وهو صحيح، ولا يضره أن يرسله بعض رواته إذا أسنده من هو ثقة+اهـ.
وقال ابن القيم× في تهذيب السنن (3/40) رقم2011 في درجة هذا الحديث:
=وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء وجميع أهل الأصول هذا حديث صحيح؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله.
وهو يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع، بل في أكثر المواضع التي توافق مذهب المقلد، وترد في موضع يخالف مذهبه، وقد قبلوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث رفعاً ووصلاً، وزيادة =لفظ+ ونحوه.(1/399)
هذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه+اهـ.
وقال الحافظ في تلخيص الحبير (3/161):
=رجاله ثقات، واعل بالإرسال، وتفرد جرير بن حازم عن أيوب، وتفرد حسين عن جرير، وأيوب.
وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن الثوري، عن أيوب موصولاً، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي، عن زيد بن حبان، عن أيوب موصولاً.
وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء.
وعن الثاني: بأن جريراً توبع عن أيوب كما ترى، وعن الثالث: بأن سليمان بن حرب تابع حسين بن محمد، عن جرير. وانفصل البيهقي عن ذلك بأنه محمول على أنه زوجها من غير كفؤ. والله أعلم، وفي الباب: عن جابر عند النسائي، وعن عائشة عنده أيضاً+اهـ.
وبمثل جواب الحافظ أجاب الأمير الصنعاني في سبل السلام (3/295)، ونقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال: =الطعن في الحديث لا معنى له؛ لأن له طرقاً يقوي بعضها بعضاً+.
وقال العلامة أحمد شاكر في شرح المسند (4/155) رقم2469:
=إسناده صحيح.. وتعليله غير مقبول.. ثم أورد كلام ابن القيم السابق مقرراً له.
وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/250) رقم245:
=وقد يظن أن جرير بن حازم منفرد عن أيوب بوصله بزيادة عن ابن عباس فيه وليس كذلك، بل قد رواه عن أيوب كذلك زيد بن حبان، ورواه أيضاً عن الثوري عن أيوب بذلك، ولن تعدم من يظن به اضطراباً في متنه؛ فإن في لفظ الموصول: أن جارية بكراً ذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله"، وفي لفظ المرسل: عن عكرمة: =فرد نكاحها+، وروي: =ففرق بينهما+.
وهذا مجتمع غير متناقض، وإنما المعنى: فلم يلزمها ذلك؛ فإنه إذا خيرها فقد رد الإلزام، وتركها لما ترى+اهـ.
فقه الحديث
قال الأمير الصنعاني في سبل السلام (3/295) رقم911/915:(1/400)
هذا الحديث دل على تحريم إجبار الأب ابنته على النكاح. وغيره من الأولياء بالأولى، وإلى عدم إجبار الأب ذهبت الهادوية والحنفية لما ذكر، ولحديث مسلم بلفظ" =والبكر يستأذنها أبوها+.
وإن قال البيهقي: زيادة الأب في الحديث غير محفوظة، فقد رَدَّهُ المصنف _يعني الحافظ ابن حجر_ بأنها زيادة عدل، يعني فيعمل بها، وذهب أحمد وإسحاق والشافعي إلى أن للأب إجبار ابنته البكر البالغة على النكاح عملاً بمفهوم: =الثيب أحق بنفسها+ _كما تقدم_ فإنه دل أن البكر خلافها، وأن الولي أحق بها.
ويرد بأنه مفهوم، لا يقاوم المنطوق، وبأنه لو أخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من الأولياء، وأنه لا يخص الأب بجواز الإجبار.
وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي: إن حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفؤ.
قال المصنف: جواب البيهقي هو المعتمد؛ لأنها واقعة عين، فلا يثبت الحكم بها تعميماً+اهـ.
قلت _القائل الصنعاني_:
=كلام هذين الإمامين محاماة على كلام الشافعي ومذهبهم، وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة، فالعلة كراهتها، فعليها علق التخيير؛ لأنها المذكورة. فكأنه قال":
=إذا كنت كارهة، فأنت بالخيار. وقول المصنف إنها واقعة عين كلام غير صحيح، بل حكم عام؛ لعوم علته، فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم.
وقد أخرج النسائي عن عائشة: أن فتاة دخلت عليها، فقالت: =إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته، وأنا كارهة؟ قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله"، فجاء رسول الله"، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه. =فجعل الأمر إليها+. فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أَعْلَمَ أن ليس للآباء من الأمر شيء+.
والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفئاً ابن أخيه، وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.(1/401)
ولفظ النساء عام للثيب والبكر.
وقد قالت هذه عنده " فاقرها عليه.
والمراد بنفي الأمر من الآباء نفي التزويج للكراهة؛ لأن السياق في ذلك، فلا يقال: هذا عام لكل شيء+اهـ.
قلت: جاء عن الإمام أحمد خلاف ما ذكر الصنعاني، ففي مسائل عبدالله بن الإمام أحمد ص321: =فإذا بلغت تسعاً فلا يزوجها أبوها، ولا غيره إلا بإذنها+اهـ.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح (1/112):
=وعن أحمد: أنها إذا بلغت تسع سنين لم تزوج إلا بإذنها في حق كل ولي الأب وغيره+.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/242):
=قلت: الظاهر أن الاستئمار هو شرط في صحة العقد لا على طريق الاستطابة. يدل على هذا حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_:
=أن جارية بكراً أتت النبي"، فذكرت أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها النبي"، وهو حديث صحيح+.
وقال الشوكاني في السيل الجرار (2/273):
=فإن هذا التخيير يدل على أن العقد الواقع قد نفذ بإجازتها، ولا يحتاج إلى تجديد+اهـ.
وقال أيضاً: وكما تدل هذه الأحاديث على أن العقد يكون موقوفاً على الإجازة فهي تدل أيضاً على ما ذكره المصنف من تخيير الصغيرة إذا بلغت+.
وقال العلامة ابن سعدي في المختارات الجلية ص103:
=والصحيح أن الأب ليس له إجبار ابنته البالغة العاقلة على نكاح من لا ترضاه، ثم استدل بقوله":
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ متفق عليه.
وبحديث ابن عباس هذا: =أن جارية بكراً أتت رسول الله"، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي"+.
وقال في جواب سؤال في فتاويه السعدية ص489 هذا نصه:
س: هل يجوز إجبار البنت على تزويجها بمن لا ترضاه؟
فأجاب لا يجبرها أبوها، ولا تجبرها أمها على تزويجها، ولو أنهما يرتضيانه لدينه+اهـ.(1/402)
وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب _رضي الله عنهما_، قال: توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة _يعني إلى أمها_ فأرغبها في المال، فحطت إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله"، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمها عبدالله بن عمر، فلن أقصر بها في الصلاح، ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت على هوى أمها؟ قال: فقال رسول الله":
=هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها+.
قال: فانتزعت _والله_ مني والله بعد أن ملكتها، فزوجوها المغير بن شعبة+.
رواه أحمد في المسند (2/130) رقم6136، والدارقطني في السنن (3/230) رقم37،40، والبيهقي في الكبرى (7/120) وابن الجوزي في التحقيق (2/265) رقم1719.
من طريق محمد بن إسحاق، حدثني عمر بن حسين بن عبدالله مولى آل حاطب، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبدالله بن عمر به.
ورواه البغوي في شرح السنة (9/36) رقم2260، والدارقطني في السنن (3/226) رقم35، وابن حزم في المحلى (11/40)، والحاكم في المستدرك (2/167) والبيهقي في الكبرى (7/121).
من طريق ابن أبي ذئب محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة، عن عمرو بن حسين، عن نافع، أن ابن عمرو تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى النبي"، فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي" أن يفارقها، وقال:
=لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإذا سكتن، فهو إذنهن، فتزوجها بعد عبدالله، المغيرةُ بنُ شعبة+.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
ورواه الدارقطني (3/230) رقم39.(1/403)
من طريق عبدالعزيز بن المطلب، عن عمر بن حسين، عن نافع، أنه قال: تزوج عبدالله بن عمر زينب بنت عثمان بن مظعون بعد وفاة أبيها، زوجه إياها عمها قدامة بن مظعون، فأرغبهم المغيرة بن شعبة في الصداق، فقالت أم الجارية للجارية: لا تجيزي، فكرهت الجارية النكاح، وأعلمت رسول الله" هي وأمها، =فَرَدَّ نكاحها رسول الله"، فنحكها المغيرة بن شعبة+.
ورواه الدارقطني (3/230) رقم38، وابن ماجه في السنن (1/604) رقم1878.
من طريق نافع الصائغ، نا عبدالله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لما هلك عثمان بن مظعون ترك ابنته.
قال ابن عمر: زوجنيها خالي قدامة بن مظعون، ولم يشاورها في ذلك، وهو عمها، وكلمت رسول الله" في ذلك، فَرَدَّ نكاحه، فأحبت أن يتزوجها المغيرة بن شعبة، فزوجها إياه+.
ورواه الدارقطني أيضاً (3/230) رقم36.
من طريق محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان.. الخ.
فسقط من السند =عمر بن حسين+.
قال الدارقطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه.
ورواه الدارقطني أيضاً (3/236) رقم59، وابن الجوزي في التحقيق (2/262) رقم1711.
من طريق ابن أبي ذئب، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رجلاً زوج ابنته..الخ.
قال الدارقطني: لا يثبت هذا عن ابن أبي ذئب، عن نافع، والصواب حديث ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين+اهـ.
وقال ابن الجوزي في التحقيق (2/263) رقم1712:
وقد سئل عن هذا الحديث أحمد، فقال: باطل+اهـ يعني حديث ابن أبي ذئب.
قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق (3/154) رقم1780 معقباً على كلام ابن الجوزي هذا:(1/404)
=وهو من طريق ابن أبي ذئب، وابن أبي ذئب سمعه من نافع، وقد روي من طرق عديدة منهم الأوزاعي، وعطاء، وفي هذه الأحاديث بيان أن التزويج كان من قدامة بن مظعون أخي عثمان بن مظعون لابنة عثمان، وهو عمها، وهو أصح ممن قال: زوجها أبوها؛ وذلك لأن ابن عمر إنما تزوجها بعد وفاة أبيها عثمان بن مظعون، وهو خال ابن عمر+.
وقال الهيثمي في المجمع (4/280):
رواه أحمد، ورجاله ثقات+.
وقال أحمد شاكر في شرح المسند (9/7) رقم6136: إسناده صحيح.
قلت: قد صرح ابن أبي ذئب أنه أخبره نافع.
وروى عبدالرزاق في المصنف (6/149) رقم10311، وأبو داود في السنن (2/575) رقم2095، والبيهقي في السنن (7/115، 116)، والإمام أحمد في المسند (2/34) رقم4905.
من طريق سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، قال: أخبرني الثقة _أو من لا أتهم_ عن ابن عمر أنه خطب إلى نسيب له بنته، وكان هوى أم المرأة في ابن عمر، وكان هوى أبيها في يتيم له، قال فزوجها الأب يتيمه ذلك، فجاءت النبي" فذكر ذلك له؟ فقال النبي":
=آمروا النساء في بناتهن+.
ورواه عبدالرزاق (6/148) رقم10310.
من طريق ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن غير واحد من أهل المدينة، أن نعيم بن عبدالله كانت له يتيمة، فخطبها عبدالله بن عمر، فسمى لها صداقاً كثيراً، فأنكحها نعيم يتيماً له من بني عدي بن كعب، ليس له مال، فانطلقت أمها، فذكرت ذلك للنبي"... الحديث.
ورواه البيهقي في الكبرى (7/116).
من طريق مكحول، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبيه، أن عبدالله بن عمر÷ خطب إلى نعيم بن عبدالله.. الحديث.
ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار (10/45) رقم13578، والطحاوي في معاني الآثار (4/370).(1/405)
من طريق الضحاك بن عثمان، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن عمر، أنه خطب ابنة نعيم بن النحام... فذكر الحديث في ذهابه إليه مع زيد بن الخطاب، قال: فقال: إن عندي ابن أخ لي يتيم، ولم أكن لأنقض لحوم الناس، وأثرد لحمي، قال: فقالت أمها من ناحية البيت: والله لا يكون هذا حتى يقضي به علينا رسول الله"، فَتَحْبِسَ أَيْمَ بني عدي على ابن أخيك سفيه، أو قال: =ضعيف+ قال: ثم خرجت حتى أتت رسول الله"، فأخبرته الخبر، فدعا نعيماً، فقص عليه كما قال لعبدالله بن عمر، فقال رسول الله":
=صل رحمك، وأرض ابنتك، وأُمها؛ فإن لهما في أمرهما نصيباً+.
هذا لفظ البيهقي. ولفظ الطحاوي: =صل رحمك، وأرض أَيِّمَكَ وأمها؛ فإن لهما من أمرهما نصيباً+.
قال الطحاوي:
=ففي هذا الحديث أن بنت نعيم بن النحام، كانت أَيِّماً، فذلك أبعد من أن يكون رسول الله" أجاز نكاح أبيها عليها وهي كارهة، وبالله التوفيق+.
ورواه أحمد في المسند (2/97) رقم5720، والطحاوي في معاني الآثار (4/369).
من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن إبراهيم بن صالح _واسمه الذي يعرف به: نعيم بن النحام، وكان رسول الله" سماه صالحاً_ أخبره أن عبدالله بن عمر، قال لعمر بن الخطاب: اخطب علي ابنة صالح، فقال: إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبدالله إلى عمه زيد بن الخطاب؛ ليخطب، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: إن عبدالله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال لي يتامى، ولم أكن لأتربْ لحمي وارفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، وكان ذا هوى أمها إلى عبدالله بن عمر، فأتت رسول الله"، فقالت: يا نبي الله خطب عبدالله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها؟ فأرسل رسول الله" إلى صالح، فقال: =أنكحت ابنتك ولم تؤامرها؟+ فقال: نعم، فقال:(1/406)
=أشيروا على النساء في أنفسهن+ وهي بكر. فقال صالح: فإنما فَعَلَتْ هذا لما يصدقها ابن عمر؛ فإن له في مالي مثل ما أعطاها+.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار (4/368).
من طريق سعيد بن ابي مريم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن إبراهيم عن نعيم، أن عبدالله بن النحام أخبره، أن أباه أخبره، عن عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_ أنه قال لعمر بن الخطاب÷: أخطب علي ابنة عبدالله بن النحام.. الحديث وفيه:
=أشيروا على النساء في أنفسهن+ فكانت الجارية بكراً.
وعن جابر بن عبدالله _رضي الله عنهما_ أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي" ففرق بينهما+.
أخرجه النسائي في الكبرى (3/283) رقم5384، وابن حزم في المحلى (11/40) والدارقطني (3/233) رقم48، والطحاوي في معاني الآثار (4/365) ومشكل الآثار (14/445) رقم5748، وابن الجوزي في التحقيق (2/263) رقم1712، والبيهقي (7/117).
من طريق الحكم بن موسى، نا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر به.
قال ابن الجوزي: =وقد أنكر احمد حديث جابر+.
وقال الدارقطني: الصحيح مرسل، وقول شعيب وهم.
وقال الطحاوي: =وحقق أيضاً اتفاقه على عطاء لا يتجاوز به إلى جابر.
وقال البيهقي: هذا وهم، والصواب: عن الأوزاعي، عن إبراهيم بن مرة، عن عطاء، عن النبي" مرسل. كذلك رواه ابن المبارك وعيسى بن يونس وغيرهما عن الأوزاعي+اهـ.
قلت: شعيب بن إسحاق هو ابن عبدالرحمن الأموي البصري ثم الدمشقي، ثقة ما أصح حديثه وأوثقه قاله أحمد، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق/ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم رقم1498، وكونه زاد الرفع لا يعلل به الحديث؛ لأنها زيادة ثقة لا تخالف المرسل، فتقبل كما تقدم نظائره.
_ وعن أم سلمة _رضي الله عنها_ أن جارية زوجها أبوها، وأرادت أن تزوج رجلاً آخر، فأتت النبي" فذكرت ذلك له، فنزعها من الرجل الذي زوجها أبوها، وزوجها النبي" من الذي أرادت+.(1/407)
رواه الطبراني في الكبير (23/256) رقم531، قال:
حدثنا العباس بن حمدان الحنفي، ثنا محمد بن عبدالرحيم أبو يحيى صاعقة، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن أبي سلمة، عن أم سلمة به.
قال الهيثمي في المجمع (4/279):
رواه الطبراني، ورجاله ثقات+.
قلت: وهو كما قال، رجاله رجال الصحيح، ما خلا شيخ الطبراني فلم اقف له على ترجمة.
7_ وعن معقل بن يسار المزني÷ في قوله تعالى: [فلا تعضلوهن] أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له:
زوجتك، وأفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها؟! لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله: [فلا تعضلوهن].
فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه+.
رواه عباد بن راشد عند البخاري في الصحيح (5/16)، والنسائي في التفسير (1/258) رقم61، والطبري في التفسير (2/497) رقم4932، وأبي داود الطيالسي ص125 رقم930، والدارقطني في السنن (3/224) رقم16، والطبراني في الكبير (20/205) رقم468، والواحدي في أسباب النزول ص81.
ورواه قتادة بن دعامة عند البخاري (6/184) وأبي داود (2/569) رقم2087، وابن جرير (2/497) رقم4930، والدارقطني في السنن (3/224) رقم13، 15، 17، والحاكم في المستدرك (2/174)، والطبراني في الكبير (20/204) رقم467.
ورواه مبارك بن فضالة عند الترمذي في الجامع (5/216) رقم2981، والطبراني في الكبير (20/208) رقم477، والواحدي في أسباب النزول ص82.
ورواه معمر بن راشد عند عبدالرزاق في التفسير (1/94).(1/408)
ورواه يونس بن عبيد عند البخاري في الصحيح (6/133)، والنسائي في التفسير (1/260) رقم62، وابن أبي حاتم في التفسير (2/426)، والحاكم في المستدرك (2/174) و الطبراني في الكبير (20/204) رقم467، والبيهقي في الكبرى (7/138)، وابن جرير الطبري (2/498) رقم4934، والبغوي في التفسير (1/210)، والواحدي في أسباب النزول ص80.
ورواه الفضل بن دلهم عند الحاكم في المستدرك (2/280) والطبراني في الكبير (20/208) رقم475، وابن جرير الطبري في التفسير (2/497) رقم4931.
ستتهم عن الحسن البصري، حدثني معقل بن يسار المزني به.
8_ وأما حديث خنساء بنت خذام _رضي الله عنها_ فأخرجه مالك في الموطأ ص535 رقم25 في كتاب النكاح _ باب ما لا يجوز من النكاح، قال مالك:
=عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبدالرحمن ومُجَمَّعٍ ابني يزيد بن جارية الأنصاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية، أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله" فرد نكاحه+.
ومن طريق مالك أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/328) والبخاري في الصحيح (6/135) في كتاب النكاح _ باب إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحها مردود، والنسائي في المجتبى (6/86) كتاب النكاح _ باب الثيب يزوجها أبوها وهي كارهة، وفي الكبرى (3/283) رقم5383، كتاب النكاح _ باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، والدارمي في سننه ص535 _ كتاب النكاح _ باب الثيب يزوجها أبوها وهي كارهة، وأبو داود في سننه (2/579) رقم2101/ كتاب النكاح _ باب في الثيب والبغوي في شرح السنة (9/33) رقم2256/ كتاب النكاح _ باب استئذان المرأة البالغة في النكاح، وابن الجارود في المنتقى ص178 رقم710، والطبراني في الكبير (24/251) رقم640، والبيهقي في الكبرى (7/119) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/1000) رقم865، و(6/3317) رقم7613.
ورواه الإمام البخاري أيضاً (8/57) في كتاب الإكراه _ باب لا يجوز نكاح المكره من طريق مالك أيضاً بسنده ولفظه.(1/409)
وتابع عبدالرجمن بن القاسم بن محمد/ يحيى بن سعيد الأنصاري/ وذلك من طريق سفيان بن عيينة_ كما عند أحمد في المسند (6/328) والبخاري في الصحيح (8/63)، كتاب الحيل_ باب في النكاح، والطبراني في الكبير (24/251) رقم642.
قال يحيى بن سعيد: ثنا القاسم بن محمد، عن عبدالرحمن بن يزيد، ومُجَمَّع بن يزيد شيخين من الأنصار، أن خنساء أنكحها أبوها، وكرهت ذلك، فرده رسول الله"+ هذا لفظ أحمد.
ولفظ البخاري:
=عن القاسم أن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار: عبدالرحمن ومجمع ابني جارية، قالا: =فلا تخشين؛ فإن خنساء بنت خذام أنكحها أبوها وهي كارهة، فرد النبي" ذلك+.
قال البخاري: قال سفيان: واما عبدالرحمن فسمعته يقول: =عن أبيه، عن خنساء+.
ولفظ الطبراني:
=عن خنساء بنت خذام أن أباها زوجها وهي بنت كارهة، فرد النبي" نكاحها+.
ورواه الإمام أحمد في المسند (6/328) والدارقطني (3/231) رقم41.
من طريق يحيى بن سعيد، قال: ثنا القاسم بن محمد، عن مُجَمَّع بن يزيد، عن أم مجمع، قال:
زوج خذام ابنته وهي كارهة، فأتت النبي" فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني، وأنا كارهة؟ قال: فرد رسول الله" نكاح أبيها+.
ورواه أحمد أيضاً (6/328) والبخاري في الصحيح (6/135) كتاب النكاح _ باب إذا زوج ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود، والدارمي في سننه ص535، وابن ماجه في سننه (1/402) رقم1873، وابن أبي شيبة في المصنف (4/134)، والبيهقي في الكبرى (7/119).
من طريق يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، أن عبدالرحمن بن يزيد الأنصاري ومجمع بن يزيد الأنصاري أخبراه: أن رجلاً منهم يدعا خذاماً أنكح ابنة له، فكرهت نكاح أبيها، فاتت النبي"، فذكرت ذلك له؟ فرد عنها نكاح أبيها، فتزوجت أبا لبابة بن عبدالمنذر+.
فذكر يحيى انه بلغه أنها كانت ثيباً+اهـ.(1/410)
هذا لفظ أحمد والدارمي وابن ماجه وابن أبي شيبة وزاد =فخطبت، فنكحت أبا لبابة بن عبدالمنذر.
ولفظ البخاري والبيهقي نحو ذلك.
وأخرجه أحمد (6/328،329)، والطبراني في الكبير (24/252) رقم643، والبيهقي (7/119) والدارقطني في سننه (3/231) رقم42، 44، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/1001) رقم2557 و (6/3318) رقم7615.
من طريق محمد بن إسحاق بن يسار، قال: حدثني حجاج بن السائب بن أبى لبابة بن عبدالمنذر الأنصاري، أن جدته أم السائب خناس بنت خذام بن خالد رجلاً من بني عمرو بن عوف بن الخزرج، فأبت إلا أن تحط إلى أبى لبابة، وأبى أبوها إلا أن يلزمها العوفي حتى ارتفع أمرها إلى رسول الله" فقال رسول الله":
=هي أولى بأمرها، فألحقها بهواها+ قال: فانتزعت من العوفي، وتزوجت أبا لبابة، فولدت له أبا السائب+.
هذا لفظ أحمد في الموضعين، وألفاظ الباقين متقاربة.
ورواه هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن خنساء بنت خذام زوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي" فرد نكاحها+.
أخرجه الدارقطني في السنن (3/231، 232) رقم43، 44، والبيهقي في الكبرى (7/120)، والطبراني في الكبير (24/252) رقم644، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/1001) رقم2558، و (6/3318) رقم7616.
هذا لفظ الطبراني والدارقطني وأبى نعيم رقم2558.
وفي لفظ للدارقطني رقم44 =فذكرت ذلك له، فرد نكاحها، فتزوجها أبو لبابة بن عبدالمنذر فجاءت بالسائب بن أبي لبابة، وكانت ثيباً+.
وفي لفظ للدارقطني رقم43، وأبى نعيم رقم7616:
=فأتت النبي" فذكرت ذلك له، فقال: =الأمر إليك+ قالت: فلا حاجة لي فيه، فرد نكاحها، وعند أبي نعيم: قالت: =فلا أريده، قال: =ففرق رسول الله" بينهما.. الخ.
وأخرجه النسائي في الكبرى (3/282) رقم5382، والطبراني في الكبير (24/251) رقم641، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2/1000) رقم2555، و (6/1833) رقم7614.(1/411)
من طريق حبان بن موسى، قال: أنا عبدالله بن المبارك، عن سفيان _يعني_ ابن سعيد، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن عبدالله بن يزيد، عن خنساء بنت خذام، قالت: أنكحني أبي وأنا كارهة، وأنا بكر، فشكوت ذلك للنبي" فقال:
=لا تنكحها وهي كارهة+. قال أبو نعيم: كذا قال: =وأنا بكر+.
وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/249): كذا قال فيه: =وأنا بكر+ وفي إسناده =عبدالله بن يزيد+.
قلت: يعني أن ذكر البكر في هذا السند خاصة شاذ؛ لأنه من رواية عبدالله بن يزيد، وقد خالف الأكثر والأوثق الذين رووه بأنها ثيب. وعبدالله بن يزيد لم أجد له ترجمة، ولكن جاء في الثقات لابن حبان (5/54) ما نصه:
=عبدالله بن وديعة بن خذام الأنصاري أخو يزيد بن وديعة يروي عن سلمان، عداده في أهل الكوفة، روى عنه أهلها، وأبو سعيد المقبري+اهـ.
وذكره الحافظ ابن حجر في التقريب بقوله: =عبدالله بن يزيد بن وديعة/ مقبول من الثالثة أغفله المزي+اهـ.
وقال الحافظ الدارقطني في جواب سؤالات الحاكم له ص230 رقم369: ثقة.
وجاء في تحفة الأشراف للمزي (11/296) من مسند خنساء بنت خذام الأنصارية، عن النبي" =الزيادات+:
رواه سفيان الثوري، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن عبدالله بن يزيد بن وديعة، عن خنساء =أنكحني أبي، وأنا بكر... فذكره.
ورواه النسائي في النكاح في الكبرى (32_2) عن محمد بن حاتم بن نعيم بن عبدالكريم المروزي عن حبان _يعني ابن موسى، عن عبدالله_ يعني ابن المبارك، عن سفيان الثوري به.
قلت: عبدالله بن وديعة هذا روى هذا الحديث عن عمته خنساء بنت خذام أبي وديعة، ووديعة وخنساء أخوان+. والله أعلم.
وحديث خذام رواه ابن عباس أيضاً:
فعنه÷ أن خذاماً أبا وديعة أنكح ابنته رجلاً، فأتت النبي" فاشتكت إليه أنها أنكحت وهي كارهة، فانتزعها النبي" من زوجها، قال: =لا تكرهوهن+ قال: فنكحت بعد ذلك أبا لبابة الأنصاري، وكانت ثيباً+.(1/412)
رواه عبدالرزاق في المصنف (6/148) رقم10308، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخرساني، عن ابن عباس به.
ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد في المسند (1/364) وابن عبدالبر في التمهيد (19/321).
وقال أبو نعيم في معرفة الصحابة (2/1001) رقم2559:
روى عباس الدوري، عن أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش، عن يعقوب بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس، قال:
زوج خذامٌ أُمَّ ربيعة ابنَته، وهي كارهة، فأتت النبي" فذكرت ذلك له، فنزعها من زوجها، فتزوجها أبو لبابة+.
حدثناه ابن الأعرابي عن ابن عباس.
وزاد ابن عبدالبر: =قال ابن جريج: أخبرت أنها خنساء ابنة خذام من أهل قباء+.
وقال ابن عبدالبر أيضاً:
=قال عبدالرزاق: وأخبرنا الثوري، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال:
آمت خنساء بنت خذام، فزوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي" فقالت: =إن أبي زوجني، وأنا كارهة، وقد ملكت أمري؟! قال:
=فلا نكاح له، انكحي من شئت+ فرد نكاحه، ونكحت أبا لبابة الأنصاري+.
قال أبو زرعة في تحفة التحصيل ص229: عطاء بن أبي مسلم الخراساني، قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس شيئاً، وقد روى ابن عمر، ولم يسمع منه+.
قلت: روايته عن ابن عباس في صحيح البخاري+اهـ.
قلت: قد أجاب الإمام علي بن المديني عن رواية البخاري له في الصحيح، فقال الحافظ المزي في تحفة الأشراف (5/90) رقم5924 بعد أن أورد له حديين من روايته عن ابن عباس:
قال ابو مسعود: هذا الحديث والذي قبله في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس.
والبخاري ظنه ابن أبي رباح، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني إنما أخذ الكتاب من ابنه: اسمه عثمان بن عطاء، ونظر فيه وروى =ز+ وقال علي بن المديني:
سمعت هشام بن يوسف قال: قال لي ابن جريج: سالت عطاءً عن التفسير من البقرة، وآل عمران؟ فقال: =أعفني من هذا!+.
قال هشام: فكتبنا ما كتبنا، ثم مللنا، قال علي:
يعني كتبنا ما كتبنا أنه عطاء الخراساني.(1/413)
قال علي بن المديني، وإنما كتب هذه القصة؛ لأن محمد بن ثور كان يجعلها =عطاء+ عن ابن عباس، فظن الذين حملوها عنه أنه عطاء بن أبي رباح+اهـ.
قلت: قد أدرك عطاء الخراساني من حياة ابن عباس ثماني عشرة سنة، وذلك أن عطاءً ولد سنة خمسين للهجرة النبوية، وتوفي ابن عباس _رضي الله عنهما_ سنة ثمان وستين للهجرة النبوية، فإذا طرحنا الخمسين من ثمان وستين صار الباقي ثماني عشرة سنة. لكن يبقى هل لقيه أم لا؟
هذه الأحاديث صريحة الدلالة في منع تزويج البنت بغير رضاها، وعدم جواز نكاح المكره، والعقد بينهما مع الكراهة باطل ومفسوخ.
وعلى هذا إجماع العلماء:
قال الحافظ في فتح الباري (12/341):
=قال المهلب: =اتفق العلماء على وجوب استئذان الثيب، والاصل فيه قوله تعالى: [فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا]. فدل على أن النكاح يتوقف على الرضا من الزوجين، وأمر النبي" باستئذان الثيب، ورد نكاح من زوجت، وهي كارهة+اهـ.
وقال الإمام الترمذي في الجامع (3/415) رقم1107:
=والعمل على هذا عند أهل العلم أن الثيب لا تزوج حتى تستأمر، وإن زجها الأب من غير أن يستأمرها، فكرهت ذلك، فالنكاح مفسوخ عند عامة أهل العلم+اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر في كتابه =الإجماع+ ص76 رقم348، 349:
=وأجمعوا أن نكاح الأب ابنته الثيب بغير رضاها لا يجوز+اهـ.
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (19/318)، والاستذكار (16/208):
=ولا أعلم مخالفاً أن الثيب لا يجوز لأبيها، ولا لأحد من أوليائها إكراهها على النكاح إلا الحسن البصري؛ فإن أبا بكر بن أبي شيبة ذكر، قال:
حدثنا ابن علية عن يونس، عن الحسن، أنه كان يقول: =نكاح الأب جائز على ابنته بكراً كانت أو ثيباً، أكرهت أو لم تكره+.(1/414)
وقال إسماعيل القاضي: لا أعلم أحداً قال في الثيب بقول الحسن.. إلى أن قال: =وقال أبو حنيفة وأصحابه في الثيب: =لا ينبغي لأبيها أن يزوجها حتى يستأمرها، فإن أمرته زوجها وإن لم تأمره لم يزوجها بغير أمرها؛ فإن زوجها بغير أمرها ثم بلغها كان لها أن تجيزه أو تبطله، فيبطل. وقال إسماعيل بن إسحاق:
=أصل قول مالك في هذه المسالة: انه لا يجوز إلا أن يكون بالقرب، فإنْهُ استحسن أجازته؛ لأنه كان في وقت واحد، وإنما أبطله مالك؛ لأن عقد الولي بغير أمر المرأة كأنه لم يكن، ولو بلغ المرأة فأنكرت لم يكن فيه طلاق؛ لأنه لم يكن هناك زواج+اهـ.
وقال الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه (9/398) رقم4087:
=قوله":
=الأيم أحق بنفسها+ أراد به: أحق بنفسها من وليها؛ بأن تختار من الأزواج من شاءت، فتقول: =أرضى فلاناً، ولا أرضى فلاناً، لا أن عقد الزواج إليهن دون أولياء... إلى أن قال (9/399) رقم4089:
=قوله =ليس للولي مع الثيب أمر+ يبين لك صحة ما ذهبنا إليه أن الرضا، والاختيار إلى النساء، والعقد إلى الأولياء؛ لنفيه" عن الولي انفراد الأمر دونها، إن كانت ثيباً؛ لأن لها الخيار في بضعها، والرضا بما يعقد عليها.
وقوله: =اليتيمة تستأمر+ أراد به تسترضى فيمن عزم له على العقد عليها، فإن صمتت، فهو إقرارها، ثم يتربص بالعقد على البلوغ؛ لأنها _وإن صمتت وأذنت_ ليس لها أمر، ولا إذن، الأمر، والإذن لا يكون إلا للبالغة+اهـ.
وقال الخطابي في معالم السنن (3/73) رقم2007 في حديث أبي هريرة: =لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر+:
=ظاهر هذا الحديث يدل على أن البكر إذا أنكحت قبل أن تستأذن، فتصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر، فتأذن بالقول. وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري، وهو قول أصحاب الرأي+اهـ.
وقال ابن المنذر في الإقناع (1/298):(1/415)
=فأما البكر البالغ، فليس للأب ولا لأحد من الأولياء أن يعقد عليها النكاح إلا بإذنها؛ للثابت عن النبي"، أنه قال:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر+ وإذا زوج الولي المرأة بغير إذنها، فبلغها، فأجازت، لم يجز النكاح حتى تجدد نكاحاً بإذنها+اهـ.
وقال الإمام الشافعي× في =الأم+ (5/19):
=فأي ولي امرأة ثيب أو بكر زوجها بغير إذنها، فالنكاح باطل إلا الآباء في الأبكار، والسادة في المماليك؛ لأن النبي" =رَدَّ نكاح خنساء ابنة خذام حين زوجها أبوها، وهي كارهة، ولم يقل: =إلا أن تشائي أن تبري أباك، فتجيزي إنكاحه، لو كانت إجازته إنكاحها تجيزه أشبه أن يأمرها أن تجيز إنكاح أبيها، ولا يرد بقوته عليها+اهـ.
ونقل هذا النص الإمام البيهقي في المعرفة (10/46) رقم13581 عن الإمام الشافعي مقرراً له ثم اتبعه بحديث ابن عباس _رضي الله عنها_ فقال:
=وقد روى جرير بن حازم، عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس: أن جارية بكراً أتت النبي" فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي"+ ثم رجح أنه مرسل.
وتعقبه ابن التركماني _كما في الجوهر النقي على سنن البيهقي (7/117) بقوله:
=قلت: جرير بن حازم ثقة جليل وقد زاد الرفع، فلا يضره إرسال من أرسله، كيف وقد تابعه الثوري وزيد بن حبان، فروياه عن أيوب كذلك مرفوعاً كذا قال الدارقطني وابن القطان وأخرج رواية زيد كذلك النسائي وابن ماجه في سننهما من حديث مُعَمَّر بن سليمان، عن زيد عن أيوب والرواية التي ذكرها البيهقي بعد هذا تشهد لهذه الرواية بالصحة+اهـ.
وقال البغوي في شرح السنة (9/31) رقم2255:
=اتفق أهل العلم على أن تزويج الثيب البالغة العاقلة لا يجوز دون إذنها، فإن زوجها وليها دون إذنها فالنكاح مردود.
فأما البكر البالغة إذا زوجها وليها قبل الاستئذان، فاختلف أهل العلم فيه، فذهب قوم إلى أن النكاح مردود لقوله":
=والبكر تستأذن+ وإليه ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي.(1/416)
وذهب جماعة إلى أنه إن زوجها أبوها أوجدها من غير استئذان فجائز، يروى ذلك عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار، وسالم بن عبدالله، وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: معنى قوله": =والبكر تستأذن+ هو على استطابة النفس+اهـ.
وقال الإمام الصنعاني في سبل السلام (3/295) رقم911:
=والحديث عام للأولياء من الأب وغيره في أنه لا بد من إذن البكر البالغة، وإليه ذهب الهادوية وأبو حنيفة وآخرون عملاً بعموم الحديث هنا، وبالخاص الذي أخرجه مسلم (2/1036) رقم1419 بلفظ:
=والبكر يستأذنها أبوها.. إلى أن قال (3/304): =فالعلة كراهتها، فعليها علق التخيير لأنها المذكورة، فكأنه قال": =إذا كانت كارهة، فأنت بالخيار+اهـ.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/242):
=قلت الظاهر أن الاستئمار هو شرط في صحة العقد لا على طريق الاستطابة، يدل على هذا حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_ أن جارية بكراً أتت النبي" فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله" وهو حديث صحيح+اهـ.
وقال شمس الحق العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني (3/238) في حديث أبى هريرة: =لا تنكح البكر حتى تستأذن+:
=كذا وقع في هذه الرواية التفرقة بين الثيب والبكر، فعبر للثيب بالاستئمار، وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه الفرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقاً، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر، فإنه صريح في القول، وإنما جعل السكوت إذناً في حق البكر؛ لأنها قد تستحي أن تفصح+اهـ.
وقال الطحاوي في مشكل الآثار (14/436) حديث رقم5737 وما في معناه:(1/417)
=قد دل على أن أمر البكر كذلك، وأن أباها ممن أمر أن لا يزوجها حتى يستأذنها، كما أمر في الثيب أن لا يزوجها حتى تستأمر، وفي ذلك ما قد دل أن أبا البكر إذا زوجها قل استئذانها، تاركاً لما قد أمر به رسول الله" فيها، فإن ذلك التزويج غير جائز عليها حتى يكون منها رضاها به، كما يقول ذلك من يقوله من أبي حنيفة وسفيان وأصحابهما.. إلى أن قال ص440:
=وقوله": =ولا تنكح البكر حتى تستأذن+: دليل على أن البكر البالغ لا يجبرها أبوها ولا غيره.
قال شارح العمدة: وهو مذهب أبي حنيفة، وتمسكه بالحديث قوي؛ لأنه أقرب إلى العموم في لفظ البكر، وربما يزاد على ذلك بأن يقال: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة، فلا تكون داخلة تحت الإرادة، ويختص الحديث بالبوالغ فيكون أقرب إلى التداول.
وقال ابن المنذر: =ثبت أن رسول الله" قال: =ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ وهو قول عام، وكل من عقد على خلاف ما شرع رسول الله" فهو باطل؛ لأنه حجة على الخلق، وليس لأحد أن يستثني من السنة إلا سنة مثلها، فلما ثبت أن أبا بكر الصديق زوج عائشة من النبي" وهي صغيرة، لا أمر لها في نفسها كان ذلك مستثنى منه+ انتهى كلامه.
وقوله" في حديث ابن عباس: =والبكر يستأذنها أبوها+ صريح في أن الأب لا يجبر البكر البالغ، ويدل عليه أيضاً حديث جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس وسيذكرهما البيهقي بعد، فترك الشافعي منطوق هذه الأدلة، واستدل بمفهوم حديث =الثيب أحق بنفسها+ وقال: هذا يدل على أن البكر بخلافها+، وقال ابن رشد:
العموم أولى من المفهوم بلا خلاف، لا سيما وفي حديث مسلم: =البكر يستأمرها أبوها+ وهو نص في موضع الخلاف.(1/418)
وقال ابن حزم: =ما نعلم لمن أجاز على البكر البالغة انكاح أبيها لها بغير أمرها متعلقاً أصلاً، وذهب ابن جرير أيضاً إلى أن البكر البالغة لا تجبر، وأجاب عن حديث =الأيم أحق بنفسها...+ بأن الأيم من لا زوج له رجلاً أو امرأة بكراً أو ثيباً لقوله تعالى: [وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين] وكرر ذكر البكر بقوله: =والبكر تستأذن، وإذنها صماتها+ للفرق بين الإذنين: إذن الثيب وإذن البكر، ومن أول الأيم بالثيب أخطأ في تأويله وخالف سلف الأمة وخلفها في إجازتهم لوالد الصغيرة تزويجها بكراً كانت أو ثيباً من غير خلاف وفي التمهيد ملخصاً: قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو ثور وأبو عبيد: لا يجوز للأب أن يزوج بنته البالغة بكراً أو ثيباً إلا بإذنها، والأيم التي لا بعل لها بكراً أو ثيباً.
فحديث الأيم أحق بنفسها، وحديث =لا تنكح البكر حتى تستأذن على عمومها، وخص منهما الصغيرة لقصة عائشة+.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية× عن بنت بالغ، وقد خطبت لقرابة لها فابت، وقال أهلها للعاقد: اعقد وأبوها حاضر: فهل يجوز تزويجها؟
فأجاب: أما إن كان الزوج ليس كفؤاً لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب، وأما إن كان كفؤاً فللعلماء فيه قولان مشهوران؛ لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر، كما قال النبي":
=لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها+. والله أعلم+اهـ.
وقال في جواب سؤال مماثل لهذا:(1/419)
=أما إذاكانت ثيباً من زوج، وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة، ولكن إذا زوجت بغير إذنها ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد _في إحدى الروايتين_ ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى، وإن كانت ثيباً من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة، وفيه قول آخر: أنها كالبكر، وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك، وإن كانت البكارة زالت بوثبة أو بأصبع، أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة.
وإذا كانت بكراً، فالبكر يجبرها أبوها على النكاح، وإن كانت بالغة: في مذهب مالك والشافعي وأحمد _في إحدى الروايتين_ وفي الأخرى وهي مذهب أبي حنيفة وغيره أن الأب لا يجبرها إذا كانت بالغاً، وهذا أصح ما دل عليه سنة رسول الله" وشواهد الأصول+اهـ.(1)
وقال أيضاً (32/52) في مجموع فتاويه:
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/28، 29، 30).(1/420)
=وإذا رضيت رجلاً، وكان كفؤاً لها وجب على وليها _كالأخ ثم العم_ أن يزوجها به، فإن عضلها وامتنع من تزويجها زوجها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤاً باتفاق الأئمة، وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك أو يخجلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤاً لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان وهو مما حرمه الله ورسوله، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة؛ لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه؛ فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها، فقال: [إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل]اهـ.
وقال أبو عوانة في مسنده (3/75):
=باب ذكر الخبر الدال على أن الثيب إذا رغبت في رجل لم يكن لوليها أن يمتنع من تزويجها منه، وإن كرهه وليها، ورغب فيمن هو خير لها منه، وعلى أنه ليس للأب أن يزوج البكر المدركة حتى تأذن له بسكوتها، وعلى إبطال نكاح المرأة التي تزوج نفسها ثيباً كانت أو بكراً+.
ثم أورد حديث ابن عباس بلفظ: =الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها+ وحديث عائشة: =لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها، فإن نكحت فهو باطل، فهو باطل، فهو باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، فإن تشاجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له+.
وترجم الإمام البخاري في الصحيح (6/135) في كتاب النكاح لحديث أبي هريرة÷ الوارد بلفظ:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.. الحديث.. بما لفظه:
=باب لا ينكح الأبُ وغيرُه البكرَ والثيبَ إلا برضاهما+.(1/421)
قال الحافظ في الفتح بعد ما ساق الخلاف في استئمار البكر البالغ (9/191):
=والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء+اهـ.
وقال أيضاً (9/193): واستدل به على أن الصغيرة الثيب لا إجبار عليها؛ لعموم كونها أحق بنفسها، وعلى من زالت بكارتها بوطء، ولو كان زنا لا إجبار عليها لأب ولا غيره؛ لعموم: =الثيب أحق بنفسها+.
وقال ابن قدامة في المغني (9/399): =وأما البكرة البالغة العاقلة، فعن أحمد روايتان:
إحداهما: له إجبارها على النكاح، وتزويجها بغير إذنها كالصغيرة، وهذا مذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق.
والثانية: ليس له ذلك، اختارها أبو بكر، وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي ثور، وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روى أبو هريرة، أن النبي" قال:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ فقالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+ متفق عليه، وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي" فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي" ولأنها جائزة التصرف في مالها، فلم يجز إجبارها، كالثيب والرجل+اهـ.
ويرى الإمام ابن قيم الجوزية× أن الأحاديث الواردة في تزويج المكرهة صحيحة وثابتة، وأنه يجب حملها على مقتضاها، ولا يجوز حملها على الثيب؛ لأنه خلاف مقتضاها، فقال في تهذيب السنن (3/40) رقم2011 في رده على البيهقي في تضعيف تلك الأحاديث =وعلى طريقة البيهقي، وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول هذا حديث صحيح؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع، بل في أكثر المواضع التي توافق مذهب المقلد، وترد في موضع يخالف مذهبه؟!(1/422)
وقد قبلوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث رفعاً ووصلاً، وزيادة لفظ ونحوه، هذا لو انفرد به جرير، فكيف، وقد تابعه على رفعه عن أيوب زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه؟!
وأما حديث جرير فهو حديث يرويه شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر، أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي" =ففرق بينهما+ رواه النسائي، ورواه أيضاً من حديث أبي حفص التنيسي: سمعت الأوزاعي قال: حدثني إبراهيم بن مرة، عن عطاء بن أبي رباح، قال:
=زوج رجل ابنته وهي بكر+ وساق الحديث. وهذا الإرسال لا يدل على أن الموصول خطأ بمجرده.
وأما حديث جرير الذي أشار البيهقي إلى أنه أخطأ فيه على أيوب، فرواه النسائي أيضاً من حديث جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن جارية بكراً أتت النبي" فقالت: إن أبي زوجني، وهي كارهة، فرد النبي" نكاحها+.
ورجاله محتج بهم في الصحيح، وقد تقدم قول النبي":
=لا تنكح البكر إلا بإذنها+ وهذا نهي صريح في المنع، فحمله على الاستحباب بعيد جداً، وفي حديث ابن عباس: =والبكر يستأمرها أبوها+ رواه مسلم، وسيأتي.
فهذا خبر في معنى الأمر على إحدى الطريقتين، أو خبر محض، ويكون خبراً عن حكم الشرع، لا خبراً عن الواقع، وهي طريقة المحققين.
فقد توافق أمره" وخبره، ونهيه على أن البكر لا تزوج إلا بإذنها، ومثل هذا يقرب من القاطع، ويبعد كل البعد حمله على الاستحباب، وروى النسائي من حديث عكرمة عن ابن عباس، قال: =أنكح رجل من بني المنذر ابنته وهي كارهة، فأتى النبي" فرد نكاحها+.
وحمل هذه القضايا وأشباهها على الثيب دون البكر خلاف مقتضاها؛ لأن النبي" لم يسأل عن ذلك، ولا استفصل، ولو كان الحكم يختل بذلك لا استفصل، وسأل عنه، والشافعي ينزل هذا منزلة العموم، ويحتج به كثيراً.(1/423)
وذكر أبو محمد بن حزم من طريق قاسم بن اصبغ، عن ابن عمر: =أن رجلاً زوج ابنته بكراً فأتت النبي" فرد نكاحها+ وذكر الدارقطني هذا الحديث في سننه، وفي كتاب العلل، وأعله برواية من روى =أن عمها زوجها بعد وفاة أبيها، وزوجها من عبيدالله بن عمر، وهي بنت عثمان بن مظعون، وعمها قدامة، فكرهته، ففرق رسول الله بينهما، فتزوجها المغيرة بن شعبة. قال: وهذا أصح من قول من قال: زوجها أبوها، والله أعلم+اهـ.
وقال أبو الحسن بن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/250):
=ولا تعدم في حديث ابن عباس هذا من ترجح روايته مرسلاً على رواية من رواه مسنداً، كذلك فعل أبو داود والدارقطني عن طريقة لهما قد علمت. والصواب غيرها.
وقد يظن أن جرير بن حازم منفرد عن أيوب بوصله بزيادة عن ابن عباس فيه وليس كذلك، بل قد رواه عن أيوب كذلك زيد بن حبان، ورواه أيضاً عن الثوري عن أيوب بذلك، ولن تعدم من يظن به اضطراباً في متنه؛ فإن في لفظ الموصول: أن جارية بكراً ذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله"، وفي لفظ المرسل: عن عكرمة: =فرد نكاحها+، وروي: =ففرق بينهما+.
وهذا مجتمع غير متناقض، وإنما المعنى: فلم يلزمها ذلك؛ فإنه إذا خيرها فقد رد الإلزام، وتركها لما ترى+اهـ.
الروايات عن الإمام أحمد× في تزويج البنت البكر
جاء في مسائل عبدالله بن أحمد لأبيه ص320/321:
=قلت لأبي: فالبكر؟ قال: من الناس من يختلف فيه. قلت: فأعجب إليك ما هو؟ قال: يستأمرها وليها، فإذا أذنت زوجها. قلت: فإن لم تأذن؟ قال: إذا كان أب ولم تبلغ سبع سنين، فتزويج الأب عليها جائز، ولا خيار لها، فإذا بلغت تسعاً، فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها، واليتيمة التي لم تبلغ سبع سنين، فإن زوجها غير الأب، فلا يعجبني تزويجه إياها حتى تبلغ تسع سنين، فإذا بلغت تسع سنين استؤمرت، فإذا أذنت فلا خيار لها بعد+اهـ.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح (1/112):(1/424)
وعن أحمد: أنها إذا بلغت تسع سنين لم تزوج إلا بإذنها في حق كل ولي: الأب وغيره+اهـ.
وجاء في الإنصاف للمرداوي (8/55): واختار أبو بكر والشيخ تقي الدين _رحمهما الله_ عدم إجبار بنت تسع سنين بكراً كانت أو ثيباً.
قال في رواية عبدالله: =إذا بلغت الجارية تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنها+ قال بعض المتأخرين من الأصحاب: وهو الأقوى+.
فصل
إذا عقد الولي للثيب أو البكر البالغ بغير رضاهما فالعقد باطل ومفسوخ عند أهل العلم من الفقهاء والمحدثين
هذا الفصل معقود لعرض أقوال أهل العلم في حكم من عُقِدَ لها على من لا ترضاه، هل ينفذ شرعاً أم لا؟ مع بيان القول الراجح إن شاء الله تعالى _ مستعيناً بالله وطالباً منه التوفيق والسداد لما أنقله وأسطره في هذه العجالة، فأرع قلبك _أرشدك الله_ لما يلي من هذه الأقوال:
1_ ترجم الإمام البخاري لحديث خنساء بنت خذام الانصارية، أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك فأتت النبي" فرد نكاحها+ بقوله:
=باب لا يجوز نكاح المكره [ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم].
قال الحافظ في الفتح (12/319): قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المكره، وأجازه الكوفيون.
قالوا: فلو أكره رجل على تزويج امرأة بعشرة آلاف، وكان صداق مثلها ألفاً صح النكاح، ولزمته الألف، وبطل الزائد، قال: فلما أبطلوا الزائد بالإكراه كان أصل النكاح بالإكراه أيضاً باطلاً+اهـ.
وتقدم قول الإمام الترمذي: =والعمل على هذا عند أهل العلم أن الثيب لا تزوج حتى تستأمر، وإن زوجها الأب من غير أن يستأمرها، فكرهت ذلك، فالنكاح مفسوخ عند عامة أهل العلم+.
وترجم الإمام البخاري لحديث خنساء بنت خذام في الصحيح أيضاً (6/135) من كتاب النكاح بما نصه:
=باب إذا زوج الرجل ابنته، وهي كارهة، فنكاحه مردود+.
قال الحافظ في الفتح (9/194):(1/425)
=وَرَدُّ النكاح إذا كانت ثيباً، فزوجت بغير رضاها إجماع إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب، ولو كرهت+اهـ.
وتقدم قول ابن عبدالبر في حديث خنساء بنت خذام بما نصه:
=وهذا حديث صحيح مجتمع على صحته وعلى القول به+.
وقال ابن عبدالبر أيضاً في مخالفة الحسن للإجماع المذكور في كتابه التمهيد (19/320) والاستذكار (16/208): =ولا أعلم أحداً تابعه. والله أعلم+اهـ.
وتقدم قول الإمام الشافعي×:
=فأي ولي امرأة ثيب أو بكر زوجها بغير إذنها، فالنكاح باطل إلا الآباء في الأبكار، والسادة في المماليك؛ لأن النبي" رَدَّ نكاح خنساء ابنة خذام حين زوجها أبوها وهي كارهة+.
_ وقال ابن حزم× في المحلى (11/36):
=إذا بلغت البكر والثيب لم يجز للأب، ولا لغيره أن يزوجها إلا بإذنها، فإن وقع فهو مفسوخ أبداً. فأما الثيب، فتنكح من شاءت، وإن كره الأب، وأما البكر، فلا يجوز لها النكاح إلا باجتماع إذنها، وإذن أبيها+اهـ.
وقال بدر الدين العيني في عمدة القارئ (20/130) في شرح حديث خنساء بنت خذام:
=وقد احتج أصحابنا بحديث الباب وبهذه الأحاديث على أنه ليس للولي إجبار البكر البالغة على النكاح، وفي التوضيح اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز، ويُرَدُّ احتجاجاً بحديث خنساء وغيره، وشذ الحسن البصري والنخعي فخالفا الجماعة، فقال الحسن: =نكاح الأب جائز على ابنته بكراً كانت أو ثيباً، كرهت أو لم تكره+ وقال النخعي: =إن كانت البنت في عياله زوجها، ولم يستأمرها، وإن لم تكن في عياله أو كانت نائية عنه استأمرها+.
ولم يلتفت أحد من الأئمة إلى هذين القولين لمخالفتهما السنة الثابتة في خنساء وغيرها.(1/426)
واختلف الأئمة القائلون بحديث خنساء إن زوجها بغير إذنها، ثم بلغها، فأجازت، فقال إسماعيل القاضي: =أصل قول مالك: أنه لا يجوز، وإن أجازته إلا أن يكون بالقرب، كأنه في فور، ويبطل إذا بَعُدَ؛ لأن عقده بغير أمرها ليس بعقد، ولا يقع فيه طلاق+.
وقال الكوفيون: إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل+.
وقال الشافعي، وأحمد وأبو ثور =إذا زوجها بغير إذنها، فالنكاح باطل وإن رضيته؛ لأنه" =رَدَّ نكاح خنساء، ولم يقل: إلا أن تجيزه، واستدل به الشافعي÷ على إبطال النكاح الموقوف على إجازة من له الإجازة، وهو أحد قولي مالك. واستدل به الخطابي على أبي حنيفة÷ في قوله: =لا يزوج البكر البالغ إلا برضاها+ وذلك أن الثيوبة إنما ذكرت هنا؛ ليعلم أنها علة الحكم+.
قلت: سبحان الله! مقصود هؤلاء مجرد الحط على أبي حنيفة، وذلك أن الثيوبة إذا كانت علةً، فلم لا يجوز أن تكون البكارة أيضاً علة، والحال أنها ذكرت أيضاً في الحديث المذكور، وجاء أيضاً بدون هذين القيدين كما ذكرنا، ولا نسلم أيضاً أن العلة في الرد هي الثيوبة أو البكارة، والظاهر أن العلة هي كراهة المنكوحة+اهـ.
وقال أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (10/99)/ كتاب الإكراه _ باب في النكاح:
=وقد نقل المهلب اتفاق العلماء على وجوب استئذان الثيب؛ لقوله تعالى: [فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا] فدل على أن النكاح يتوقف على الرضا من الزوجين وأمر النبي" باستئذان نكاح الثيب وَرَدِّ نكاح من زوجت كارهة+اهـ.
وقال القسطلاني أيضاً في إرشاد الساري (8/54) في كتاب النكاح _ بابٌ لا يُنكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما+ من حديث أبي هريرة بلفظ: =أن النبي" قال:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر.. الحديث قال:(1/427)
=الأيم بتشديد التحتية المكسورة، في الأصل التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً مطلقة كانت أو متوفى عنها، والمراد بها هنا: التي زالت بكارتها بأي وجه كان، سواء زالت بنكاح صحيح أو شبهة أو فاسد أو زنا أو بوثبة أو بأصبع أو غير ذلك؛ لأنها جعلت مقابلة للبكر...
إلى أن قال:
=وظاهر الحديث أنه ليس للولي تزويج موليته من غير استئذان ومراجعة واطلاع على أنها راضية بصريح الإذن أو سكوت من البكر، وللعلماء في هذا المقام تفصيل واختلاف، فاتفقوا على أنه لا يجوز تزويج الثيب البالغة العاقلة إلا بإذنها، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقاً أيضاً، وأما الثيب غير البالغ، فاختلف فيها، فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر، وقال إمامنا الشافعي وأبو يوسف ومحمد لا يزوجها إلا إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره؛ لأن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، وأما البكر البالغ فيزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها.
والحديث يدل على أنه لا إجبار عليها للأب إذا امتنعت وهو مذهب الحنفية، وقال مالك والشافعي واحمد يزوجها، واحتج بمفهوم حديث الباب؛ لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها+.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم (9/203) في كتاب النكاح _ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت في حديث:
=لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ قال:
=قال القاضي: اختلف العلماء في المراد بالأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة على أنها تطلق على امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكراً كانت أو ثيباً، قاله إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما، والأيمة في اللغة: العزوبة، ورجل أيم، وامرأة أيم، وحكى أبو عبيد أنه أيمة أيضاً.(1/428)
قال القاضي: ثم اختلف العلماء في المراد بها هنا، فقال علماء الحجاز، والفقهاء كافة: المراد الثيب، واستدلوا بأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى بالثيب، كما ذكرناه، وبأنها جعلت مقابلة للبكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب.
وقال الكوفيون وزفر: =الأيم+ هنا كل امرأة لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، كما هو مقتضاه في اللغة.
قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها.. إلى أن قال:
=واعلم أن لفظة =أحق+ هنا للمشاركة، معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقاً، ولوليها حقاً، وحقها أوكد من حقه؛ فإنه لو أراد تزويجها كفؤاً، وامتنعت لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤاً فامتنع الولي أجبر، فإن أصر زوجها القاضي، فدل على تأكيد حقها ورجحانه+اهـ.
وقال العيني في عمدة القارئ من كتاب الإكراه _ باب لا يجوز نكاح المكره/ في حديث خنساء بنت خذام: =أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت النبي" فرد نكاحها+ (24/101، 102) قال:
=مطابقته للترجمة ظاهرة+.
وقال في الباب المذكور في حديث عائشة:
=قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: =نعم+ قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي، فتسكت؟ قال:
=سكاتها إذنها+. قال:
=مطابقته للترجمة من حيث يفهم منه أن نكاح البكر لا يجوز إلا برضاها، وبغير رضاها يكون حكمها حكم المكره+اهـ.
وقال الإمام الشوكاني في السيل الجرار (2/272):
=أقول: العقد مثلاً إذا وقع من الولي، فزوج الخاطب، ولم يكن وقع الرضا من المرأة، فهذا عقد في الصورة، إن أجازته كان عقداً صحيحاً، يستباح به وطؤها، وإن لم تجزه كان وجوده كعدمه، وهكذا إذا زوج الخاطبَ غيرُ الولي.
والمراد من صحة كونه موقوفاً على الإجازة أنه لا يحتاج عند الإجازة إلى تجديد عقد آخر، بل يكفي مجرد وقوعها.
وكان الظاهر أن العقد بغير رضاء المرأة، أو من دون ولي باطل، لا حكم له، ولا ينعقد من أصله، وأنه لا بد من عقد آخر عند رضاء المرأة أو عقد من الولي.(1/429)
ولكنه ثبت ما قدمناه عند البخاري وغيره من حديث خنساء بنت خذام الأنصارية:
=أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله" فرد نكاحها+ فإن قوله: =فرد نكاحها+ يدل على أن العقد الذي قد كان وقع يسمى نكاحاً، وأنها لو رضيت به لم يحتج إلى تجديد+اهـ.
وقال في نيل الأوطار (6/139) في كتاب النكاح _ باب ما جاء في الإجبار والاستئمار:
=وظاهر احاديث الباب أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وذهب مالك والشافعي والليث وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى أنه يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان، ويرد عليهم ما في أحاديث الباب من قوله:
=والبكر يستأمرها أبوها+ ويرد عليهم أيضاً حديث عبدالله بن بريدة الذي سيأتي في باب ما جاء في الكفاءة.
وأما ما احتجوا به من مفهوم قوله":
=الثيب أحق بنفسها من وليها+ فدل على أن ولي البكر أحق بها منها، فيجاب عنه بأن المفهوم لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق.
وقد أجابوا عن دليل أهل القول الأول بما قاله الشافعي من أن المؤامرة قد تكون على استطابة النفس، ويؤيده حديث ابن عمر المذكور بلفظ: =آمروا النساء في بناتهن+ قال: ولا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس.
وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة.
قال الشافعي: =زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمروهن+.
قال الحافظ: هذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ انتهى.(1/430)
وأجاب بعضهم بأن المراد بالبكر المذكورة في حديث ابن عباس =اليتيمة+ لما وقع في الرواية الأخرى من حديثه، واليتيمة تستأمر، فيحمل المطلق على المقيد، وأجيب بأن اليتيمة هي البكر، وأيضاً الروايات الواردة بلفظ =تستأمر+ و =تستأذن+ بضم أوله هي تفيد مفاد قوله: =يستأمرها أبوها+ وزيادة؛ لأنه يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الأولون حديث ابن عباس المذكور: =أن جارية بكراً... الخ+.
وأما الثيب فلا بد من رضاها من غير فرق بين أن يكون الذي زوجها هو الأب أو غيره، وقد حكى في البحر الإجماع على اعتبار رضاها، وحكى أيضاً الإجماع أنه لا بد من تصريحها بالرضا بنطق أو ما في حكمه.
والظاهر أن استئذان الثيب والبكر شرط في صحة العقد؛ لرَدِّه" لنكاح خنساء بنت خدام(1) كما في الحديث المذكور، وكذلك تخييره" للجارية، كما في حديث ابن عباس المذكور، وكذلك حديث ابن عمر المذكور أيضاً، ويدل على ذلك أيضاً حديث أبي هريرة المذكور؛ لما فيه من النهي+.
وقال الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/368):
=نرى أن لا يزوج أبُ البكرِ ابنتَه البكرَ البالغة إلا بعد استئماره إياها في ذلك وعن صمتها عند ذلك الاستئمار، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد _رحمة الله عليهم أجمعين_+اهـ.
وقال في مشكل الآثار (14/436):
__________
(1) خدام: ضبطه الحافظ في الفتح (12/341) و (9/195) بالخاء المعجمة المكسورة والدال المهملة، وخالفه العيني في عمدة القارئ (23/101) و (24/117) بالذال المعجمة =خذام+ هكذا ضبطه.(1/431)
= فتأملنا هذا الحديث؛ لنقف على المراد به _إن شاء الله_ فكان ظاهر معنى ما في حديث زياد ومالك وابن موهب على أن الأيم أحق بنفسها من وليها، ولا أمر لوليها معها في نفسها، ودخل في ذلك أبوها ومن سواه من أوليائها، وكان ما في حديث صالح بن كيسان قد حقق دخول أبيها فيه، وكان في ذلك ما قد دل على أن أمر البكر كذلك، وأن أباها ممن أُمِرَ أن لا يزوجها حتى يستأذنها، كما أمر الثيب أن لا يزوجها حتى تستأمر.
وفي ذلك ما دل أن أبا البكر إذا زوجها قبل استئذانها تاركاً لما قد أمره به رسول الله" فيها؛ فإن ذلك التزويج غير جائز عليها حتى يكون منها رضاها به، كما يقول ذلك من يقوله كأبي حنيفة(1) وسفيان وأصحابهما+.
وقال الساعاتي في بلوغ الأماني/ شرح الفتح الرباني (16/162):
=وظاهر أحاديث الباب أن الثيب والبكر البالغ إذا زوجت بغير رضاها لم يصح العقد، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم+.
وذهب مالك والشافعي والليث وأحمد، وإسحاق إلى أنه يجوز للأب أن يزوج البكر البالغ بغير استئذان، وأحاديث الباب حجة عليهم+اهـ.
وقال أبو عوانة في مسنده (3/72):
=باب حظر إنكاح الأيم حتى تستأمر، وإنكاح البكر حتى تأذن، وأن إذنها السكوت+.
ثم أورد حديث أبي هريرة وعائشة التي تنص على أن الأيم والثيب لا تنكح حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.
وقال الحافظ في الفتح (9/192) في حديث استئمار الثيب واستئذان البكر:
__________
(1) في الأصل: =من يقوله من أبي حنيفة..+ وصحة العبارة ما أثبتناه. والعلم عند الله.(1/432)
=فعبر للثيب بالاستئمار وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمرة، وإلى هذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقاً، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر؛ فإنه صريح في القول، وإنما جعل السكوت إذناً في حق البكر؛ لأنها قد تستحي أن تفصح+اهـ.
ونقل الحافظ عن المالكية (9/193): إن ظهر من البكر ما يدل على الكراهة لم تزوج+.
وقال: =ونقل ابن عبدالبر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها لا يكون رضاً منها بخلاف ما إذا كان بعد تفويضها إلى وليها+... إلى أن قال:
=واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها، فقال الأوزاعي والثوري والحنفية، ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح+.
وقال: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البكر التي أمر باستئذانها هي البالغ؛ إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها+.
وقال الخرقي _ كما في المغني لابن قدامة (9/406):
=وإذا زوج ابنته الثيب بغير إذنها فالنكاح باطل، وإن رضيت بعد+.
قال ابن قدامة:
=وجملة ذلك أن الثيب تنقسم قسمين كبيرة وصغيرة، فأما الكبيرة، فلا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها إلا بإذنها في قول عامة أهل العلم إلا الحسن قال: له تزويجها وإن كرهت، والنخعي قال: يزوج ابنته إذا كانت في عياله، فإن كانت بائنة في بيتها مع عيالها استئمرها.
قال إسماعيل بن إسحاق: لا أعلم أحداً قال في البنت بقول الحسن، وهو قول شاذ، خالف فيه أهل العلم والسنة الثابتة، فإن الخنساء ابنة خذام الأنصارية روت أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله"، فَرَدَّ نكاحه+ رواه البخاري، والأئمة كلهم، قال ابن عبدالبر: هذا حديث مجمع على صحته والقول به، لا نعلم مخالفاً له إلا الحسن.(1/433)
وكانت الخنساء من أهل قباء، وكانت تحت أُنيس بن قتادة، فقتل عنها يوم أحد فزوجها أبوها رجلاً من بني عمرو بن عوف، فكرهته، وشكت ذلك إلى رسول الله" =فرد نكاحها، ونكحت أبا لبابة بن عبدالمنذر... ثم ساق الأدلة على ذلك.
وقال ابن المنذر في كتاب =الإجماع+ ص102 رقم389:
=وأجمعوا أن نكاح الأب ابنته الثيب بغير رضاها لا يجوز+.
وقال يوسف بن عبدالهادي المقدسي الحنبلي في =مغني ذوي الأفهام ص121:
=الثاني: رضاهما _ يعني الثاني من شروط النكاح رضا الزوجين _ فإن لم يرضيا أو أحدهما لم يصح إلا الأب جائز له أن يزوج بناته وأولاده الصغار والمجانين بغير إذنهم، وغير مالك تزويج الثيب الكبيرة إلا بإذنها، وإن زوج الثيب الصغيرة بغير إذنها أو البكر الكبيرة جاز+.
قوله: =لم يصح+ يعني عند الأئمة الأربعة العقد.
وقوله: =جائز+ للأب أن يزوج الخ يعني أنه مجمع عليه.
وقوله: =مالكٍ+ يعني أن تزويج الثيب الكبيرة لا يملكه الولي إلا بإذنها بالإجماع.
وقوله: =جاز+ يعني أن مذهب أحمد يُجَوِّزُ تزويج الثيب الصغيرة والبكر الكبيرة بغير استئذانهما.
وقال الإمام القرطبي في الجامع لإحكام القرآن (5/3801) في مسائل آية: [إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان] من سورة النحل رقم106:
=التاسعة: وأما نكاح المكره، فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنه لم ينعقد، قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم أن النكاح جائز، وتلزمه الألف، ويبطل الفضل.
قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الألف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث =خنساء بنت خذام الأنصارية، وأمره" بالاستئمار في أبضاعهن، قد تقدم، فلا معنى لقولهم+اهـ.(1/434)
وقال الإمام العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي في أضواء البيان (1/367) في قوله تعالى: [وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء..] الآية من سورة النساء رقم3، في تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها كاملة أن ذلك جائز قال:
=ودلت السنة على أنها لا تجبر، فلا تزوج إلا برضاها، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء+... إلى أن قال:
=وإن خفتم عدم إمكان العدل بين النساء فاقتصروا على الواحدة؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم؛ لضعف كل واحد منهما، وعدم قدرته على المدافعة عن حقه، فكما خشيتم من ظلمه، فاخشوا من ظلمها+اهـ باختصار.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد (2/6):
=فأما البكر البالغ، فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: للأب فقط أن يجبرها على النكاح.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة: لا بد من اعتبار رضاها، ووافقهم مالك في المعنسة على أحد القولين عنه.
وسبب اختلافهم معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم؛ وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: =لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها+ وقوله: =تستأمر اليتيمة في نفسها+ أخرجه أبو داود.
والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المشهور: =والبكر تستأمر+ يوجب بعمومه استئمار كل بكر، والعموم أقوى من دليل الخطاب، مع أنه أخرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام: =والبكر يستأذنها أبوها+ وهو نص في موضع الخلاف+اهـ.
وقال الإمام علامة القصيم عبدالرحمن بن ناصر السعدي× في كتابه المختارات الجلية ص103:
=والصحيح أن الأب ليس له إجبار ابنته البالغة العاقلة على نكاح من لا ترضاه، لقوله": =لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ متفق عليه.
وقوله" في حديث ابن عباس: =إن جارية بكراً أتت رسول الله" فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي"+.(1/435)
وقال في جواب سؤال في الفتاوى السعدية ص489 هذا نصه:
س: هل يجوز إجبار البنت على تزويجها بمن لا ترضاه؟
ج: لا يجبرها أبوها، ولا تجبرها أمها على تزويجها، ولو أنهما يرتضيانه لدينه+اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر في كتابه =الإقناع+ (1/298):
=فأما البكر البالغ، فليس للأب ولا لأحد من الأولياء أن يعقد عليها النكاح إلا بإذنها؛ للثابت عن النبي" أنه قال:
=لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر+.
وإذا زوج الولي المرأة بغير إذنها فبلغها، فأجازت، لم يجز النكاح حتى تجدد نكاحاً بإذنها+.
وقال الخطابي في معالم السنن (3/37) رقم2007، في حديث أبي هريرة =لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر+:
=ظاهر الحديث يدل على أن البكر إذا أنكحت قبل أن تستأذن، فتصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر، فتأذن بالقول، وعلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وهو قول أصحاب الرأي+اهـ.
وقال الإمام الترمذي في الجامع (3/415) رقم1107:
=واختلف أهل العلم في تزويج الأبكار إذا زوجهن الآباء، فرأى أكثر أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم أن الأب إذا زوج البكر، وهي بالغة بغير أمرها، فلم ترض بتزويج الأب فالنكاح مفسوخ+اهـ.
وقال الوزير ابن هبيرة في الإفصاح (1/112، 113):
=واتفقوا أن البنت الكبيرة لا تجبر على النكاح، وعن أحمد: أنها إذا بلغت تسع سنين لم تزوج إلا بإذنها في كل ولي، الأب وغيره+اهـ.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية× في زاد المعاد (5/95) في حكمه" في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما:
=ثبت عنه" في الصحيحين أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة، وكانت ثيباً، فأتت رسول الله" فرد نكاحها+.
وفي السنن من حديث ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي" فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي".
وهذه غير خنساء، فهما قضيتان، قضى في إحداهما بتخيير الثيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر.(1/436)
وثبت في الصحيح أنه قال: =لا تنكح البكر حتى تستأذن+ قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+.
وفي صحيح مسلم: =البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها+.
وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد _في إحدى الروايات عنه_ وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله" وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته.
أما موافقته لحكمه؛ فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه فإنه قد روي مسنداً، ومرسلاً.
فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مقدم على من أرسله، فظاهر.
وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث، فمال هذا خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدثين، فهذا مرسل قوي، قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع _كما سنذكره_ فيتعين القول به.
وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال: =والبكر تستأذن+ وهذا أمر مؤكد؛ لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقيق المخبر به وثبوته ولزومه، والأصل في أوامره" أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه.
وأما موافقته لنهيه، فلقوله: =لا تنكح البكر حتى تستأذن+.
فأمر، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق.
وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويخرج بُضْعَها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، هي من أكره الناس فيه، وهو من أبغض شيء إليها؟! ومع هذا فينكحها إياه قهراً بغير رضاها على من يريده ويجعلها أسيرة عنده كما قال النبي":(1/437)
=اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم+ أي أسرى، ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها، ولقد أبطل من قال:
إنها إذا عينت كفئاً تحبه، وعين أبوها كفئاً، فالعبرة بتعيينه، ولو كان بغيضاً إليها، قبيح الخلقة.
وأما موافقته لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به.
وحصول ضد ذلك بمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق.
فإن قيل: قد حكم رسول الله" بالفرق بين البكر والثيب، وقال:
=ولا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ وقال:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها+ فجعل الأيم أحق بنفسها من وليها، فعلم أن ولي البكر أحق بها من نفسها، وإلا لم يكن لتخصيص الأيم بذلك معنى.
وأيضاً، فإنه فرق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثيب النطق، وإذن البكر الصمت.
وهذا كله يدل على عدم اعتبار رضاها، وأنها لا حق لها مع أبيها؟
فالجواب: أنه ليس في ذلك ما يدل على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها، وعقلها ورشدها، وأن يزوجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفئاً، والأحاديث التي احتججتم بها صريحة في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى من قوله:
=الأيم أحق بنفسها من وليها+.(1/438)
هذا إنما يدل بطريق المفهوم، ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجة، ولو سُلِّم أنه حجة، فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصريح، وهذا إنما يدل إذا قلت: إن للمفهوم عموماً، والصواب: أنه لا عموم له؛ إذ دلالته ترجع إلى أن التخصيص بالمذكور لا بد له من فائدة، وهي نفي الحكم عما عداه، ومعلوم أن انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدة، وأن إثبات حكم آخر للمسكوت عنه فائدة وإن لم يكن ضد حكم المنطوق، وأن تفصيله فائدة، كيف وهذا مفهوم مخالف للقياس الصريح، بل قياس الأولى _كما تقدم، ويخالف النصوص المذكورة.
وتأمل قوله":
=والبكر يستأذنها أبوها+ عقيب قوله: =الأيم أحق بنفسها من وليها+ قطعاً لتوهم هذا القول، وأن البكر تزوج بغير رضاها ولا إذنها، فلا حق لها في نفسها البتة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعاً لهذا التوهم، ومن المعلوم أن لا يلزم من كون الثيب أحق بنفسها من وليها أن لا يكون للبكر في نفسها حق البتة.
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال:
أحدها: أنه يجبر بالبكارة، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية.
الثاني: أنه يجبر بالصغر، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الثانية.
الثالث: أنه يجبر بهما معاً وهي الرواية الثالثة عن أحمد.
الرابع: أنه يجبر بأيهما وجد وهو الرواية الرابعة عنه.
الخامس: أنه يجبر بالإيلاد، فتجبر الثيب البالغ حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصري.
قال: وهو خلاف الإجماع، قال: وله وجه حسن من الفقه، فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم.
السادس: أنه يجبر من يكون في عياله، ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب.
وقال العلامة المحقق الولَّوي في شرح سنن النسائي (المسمى ذخيرة العقبى في شرح المجتبى) (27/206) في حديث =استئذان البكر في نفسها+ فقال:
=المسألة الثالثة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف _النسائي_ × وهو وجوب استئذان البكر في نفسها.(1/439)
ومنها: أن الأيم أحق بأمر النكاح من الولي بمعنى أنه لا بد من إذنها الصريح، أو رَدِّها لا بمعنى أنها تزوج نفسها، كما يقول به داود الظاهري.
ومنها: أن البكر لا يجب عليها التصريح بالقول، بل يكفي سكوتها.
ومنها: أنه يدل على أن السكوت على الشيء بعد العلم به يكون رضاً به، لكن بشرط أن لا يكون السكوت عن خوف ونحوه.
ومنها: أن فيه إشارة إلى أن البكر التي أُمر باستئذانها هي البالغة؛ إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن؟ ومن يستوي سكوتها وسخطها.
ومنها: أنه يدل على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح، وإن أعلنت بالرضا جاز بطريق أولى، وشذ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يجوز أيضاً، وقوفاً عند ظاهر قوله: =وإذنها أن تسكت+اهـ.
وقال أيضاً ص207:
=وحاصله: أن رواية –يستأذنها أبوها+ صحيحة؛ لأنها زيادة ثقة حافظ، وهو سفيان بن عيينة، وأيضاً أن رواية =تُستأذن+ لا تنافيها؛ إذ الاستئذان يعم الأب وغيره، وأما رواية =اليتيمة+ فترد إلى معنى =البكر+ جمعاً بين الروايات.
والحاصل: أن ما ذهب إليه الأولون _وهو عدم جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها_ هو الأرجح، لظهور أدلته. والله تعالى أعلم... إلى أن قال ص208:
=فالاحتمال الأول _وهو كون الاستئمار شرطاً في صحة العقد أقوى لظواهر الأحاديث+.
قال الولُّوي حفظه الله تعالى:
وقد حقق المسألة العلامة ابن القيم× يعني ما تقدم عنه في زاد المعاد آنف الذكر.
قلت: قول من قال: لا بد من استئذان البكر البالغة المدركة الرشيدة على النكاح، وأنها لا تجبر على من لا ترضاه هو الحق والصواب؛ لتظاهر الأدلة عليه.
ويتضح لك هذا من اجتماع ألفاظ الأحاديث المتقدمة.
فهذا حديث عائشة _رضي الله عنها_ ورد فيه ذكر =الجارية+ و =البكر+ و =الأيم+ و=النساء+ مصرحاً بطلب الإذن منهن بالنكاح قبل عقده، وذلك بالاستئمار والاستئذان، فإذا أذِنَّ بالموافقة أُنكحن.(1/440)
وقد جعل الشرع السكوت والصمت للبكر والجارية علامة على =الإذن+ بأنهما راضيتان، ومقرتان بنكاح من استؤذن فيه، وإذا أنكرن، وأبين ذلك فالمفهوم من ألفاظ الحديث عدم إلزامهن به.
وإليك ما تيسر من ألفاظه:
1_ عن ذكوان مولى عائشة، عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: سألت رسول الله" عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله" =نعم تستأمر+. قلت: إنها تستحيي، فتسكت؟ فقال:
=فذلك إذنها، إذا هي سكتت+ وفي رواية: =ذاك إذنها+.
2_ وفي رواية: قال رسول الله":
=استأمروا النساء في أبضاعهن+. قيل: فإن البكر تستحيي أن تتكلم؟ قال:
=سكوتها إذنها+ وفي رواية: =سكوتها إقرارها+.
3_ وفي لفظ قال":
=استأذنوا النساء في أبضاعهن+.. الخ.
4_ وفي رواية قال":
=تستأمر النساء في أبضاعهن+ قالت: يا رسول الله، البكر تستحيي، فتسكت؟ قال:
=سكوتها إقرارها+.
5_ وفي أخرى قالت: إنهن يستحيين؟ قال:
=الأيم أحق بنفسها، والبكر تستأمر، فسكوتها إقرارها+.
وفي رواية قال:
=رضاها صمتها+. وفي لفظ قال:
=إذنها صماتها+.
وبتأمل هذه الألفاظ يتبين لك أن إباحة النكاح تتوقف على =رضا+ النساء بمن عرض عليهن الزواج به، من الجواري والأبكار وغيرهن، وأنهن لا يجبرن على من يكرهن الزواج به، يوضح هذا:
وأما ألفاظ حديث ابي موسى الأشعري÷ فكالتالي:
1_ قال رسول الله":
=تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت لم تكره+.
2_ وفي رواية: قال: فإن سكتت، فهو رضاها+.
3_ وفي أخرى قال: فإن أبت فلا تزوج+.
4_ وفي لفظ قال: =فإن رضيت زوجت، وإن لم ترض لم تزوج+.
5_ وفي رواية قال: فإن سكتت فهو رضاها، وإن كرهت، فلا كره عليها+.
6_ وفي رواية قال":
=وإن كرهت، فلا كره عليها+.
7_ وفي لفظ قال: =فإن سكتت، فهو رضاها، وإن كرهت، فلا كره عليها+.
8_ وفي رواية قال":
=فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أنكرت لم تكره+.
9_ وفي لفظ: =وإن أنكرت لم تنكح+.(1/441)
والمراد باليتيمة: قال أبو السعادات ابن الأثير في النهاية (5/291) مادة: ي_ت =يتيم+ قد تكرر في الحديث ذكر =اليُتْم واليَتيم واليتيمة، والأيتام، واليتامى+ وما تصرف منه.
اليتم في الناس: فَقْدُ الصبي أباه قبل البلوغ، وفي الدواب فقد الأم، واصل اليتيم بالضم والفتح: الانفراد. وقيل الغفلة، وقد يتِم الصبي بالكسر يَيْتَمُ فهو يتيم، والأنثى يتيمة، وجمعها أيتام، ويتامى، وقد يجمع اليتيم على يتامى كأسير، وأسارى، وإذا بلغا زال عنهما اسم اليتم حقيقة، وقد يطلق عليهما مجازاً بعد البلوغ، كما يسمون النبي" وهو كبير: =يتيم أبي طالب+؛ لأنه رباه بعد موت أبيه.
ومنه الحديث: =تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها+ أراد باليتيمة البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها، فلزمها اسم اليتم، فدعيت به، وهي بالغة مجازاً.
وقيل: المرأة لا يزول عنها اسم اليتم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت ذهب عنها+.
ومنه حديث الشعبي: =أن امرأة جاءت إليه، فقالت: إني امرأة يتيمة، فضحك أصحابه.
فقال: =النساء كلهن يتامى+ أي ضعاف+اهـ.
إطلاق لفظ =اليتيمة+ على لفظ =البكر+
مما يدل على أن المرأة لا يزول عنها اسم اليتم ما لم تتزوج حديث ابن عباس الآتي، والذي فيه الإخبار من المصطفى" بأنها لا تزوج حتى تستأمر، وتستأذن، فإن أذنت زوجت، وإن لم تأذن لم تزوج.. وهاك ألفاظ حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_:
1_ عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله":
=الأيم أولى بأمرها واليتيمة تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها+.
2_ =الأيم أحق بنفسها من وليها واليتيمة تستأمر في نفسها، وإذنها السكوت+.
3_ =ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر، فصمتها إقرارها+.
4_ وفي رواية: =وصمتها رضاها+.
5_ وفي رواية: =واليتيمة تستأذن، فصمتها إقرارها+.
6_ وفي لفظ:
=الأيم أحق بنفسها من وليها، واليتيمة تستأذن في نفسها، وإذنها السكوت+.
فهذا ما ورد في إطلاق اليتيمة على اسم البكر.(1/442)
وأما إطلاق =اسم البكر+ على اسم =اليتيمة+ فكالتالي:
7_ الأيم أملك بأمرها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وصماتها إقرارها+.
8_ الأيم أملك بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صماتها+.
9_ الأيم أولى بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، فإن صمتت فهو رضاها+.
10_ وفي رواية: =والبكر تستأمر في نفسها، وصماتها إقرارها+.
11_ وفي لفظ: =والبكر يستأمرها أبوها، فصمتها إقرارها+.
12_ وفي آخر: =والبكر يستأمرها أبوها، وإذنها صماتها+.
13_ وفي رواية الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها+.
وربما قال: =وصماتها إقرارها+، وفي رواية قال: =وإذنها سكوتها+.
14_ وفي رواية:
=الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر رضاها سكوتها+.
ففي هذا الحديث الإخبار الصريح بطلب رضا البكر بالخاطب لها، المراد إنكاحها إياه، ولا يعرف رضاها به إلا عن طريق استئمارها واستئذانها، وجعل النبي" رضاها وإقراره السكوت والصموت، فإذا سكتت بعد استئذانها واستئمارها بذلك الخاطب، فقد أذنت ورضيت به.
وأما الأيم، فيطلق على الذكر والأنثى إذا لم يتزوجا قال الزمخشري في الكشاف (3/227):
الأيامى واليتامى: أصلهما أيائم، ويتائم، فقلبا، والأيم للرجل والمرأة، وقد آَمَ وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا، بكرين كانا أو ثيبين+.
وقال أبو السعود في تفسيره (4/112):
وأيامى مقلوب أيايم، جمع أيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال والنساء، بكراً كان أو ثيباً كما يفصح عنه قول من قال:
فإن تنكحي أنكحْ، وإن تتأيمي _وإن كنت أفتى منكم_ أَتَأَيَّمُ
وقال ابن جرير الطبري في جامع البيان (9/311):
الأيامى، جمع أَيِّم، وإنما جمع الأيم أيامى؛ لأنها فعيلة في المعنى، فجمعت كذلك، كما جمعت =اليتيمة+ يتامى، ومنه قول جميل:
أحب الأيامى؛ إذ بثينة أيم وأحببت لما أَنْ غَنِيَتْ الغوانيا(1/443)
ولو جمعت =أيائم+ كان صواباً، والأيم يوصف به الذكر والأنثى، ويقال للرجل أَيِّم ومرأة أيم، وأَيِّمة إذا لم يكن لها زوج، ومنه قول الشاعر:
فإن تنكحي أنكحْ، وإن تتأيمي _وإن كنت أفتى منكم_ أَتَأَيَّمُ
وقال ابن الأثير في النهاية (1/85):
=أَيِّم+ فيه: =الأيِّم أحق بنفسها+. الأَيِّم في الأصل التي لا زوج لها بكراً، كانت أو ثيباً، مُطَلَّقَةً كانت أو متوفي عنها، ويريد بالأيم في هذا الحديث =الثيب+ خاصة.
يقال: تأيمت المرأة وآمت إذا أقامت لا تتزوج.
ومنه الحديث: =امرأة آمت من زوجها، ذات منصب وجمال+ أي صارت أيِّماً لا زوج لها+.
ومنه حديث حفصة _رضي الله عنها_: =أنها تأيمت من زوجها خنيس قبل النبي"+ ومنه: كلام علي÷: =مات قيمها، وطال تأيمها+اهـ.
قلت: والمراد بها في هذا الحديث الثيب كما قال ابن الأثير، وذلك لمقابلتها بـ=البكر+؛ لذا خصت بحكم مغاير للبكر، وهو أنها قد ملكت أمرها، والمعنى أنه لا يكفي السكوت والصمت بعد استئمارها، بل لا بد من أن تتكلم بالقبول أو الرد. والعلم عند الله.
الإخبار بأن الرسول" جعل أمر إنكاح النساء إليهن، وليس للولي عليهن أمر بإنكاح من يكرهن، ولا يرضينه، وأن أمره يتوقف على إجازتهن
جاء في هذا حديث روته أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_ وهذه ألفاظه:
1_ عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت:
=جاءت فتاة إلى رسول الله" فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه، يرفع بي خسيسته؟ =فجعل الأمر إليها+. قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء+.
2_ وفي رواية قالت:
=ولم يستأمرني، فهل لي في نفسي أمر؟ قال: =نعم+ قالت: ما كنت لأرد على أبي شيئاً مما صنعه، ولكن أحببت أن تعلم النساء أَلَهُنَّ في أنفسهن أمر أم لا؟ وفي رواية: أنها امرأة بكر+.(1/444)
3_ وفي أخرى أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله"، فجاء رسول الله"، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه. =فجعل الأمر إليها+. فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، لكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء+.
4_ وفي رواية: =وإني كرهت ذلك؟+ فقالت عائشة: =انتظري حتى يأتي رسول الله"، فلما جاء رسول الله" أرسل إلى أبيها، فجعل الأمر إليها+ فقالت: أَمَّا إذا كان الأمر إليَّ فقد أجزت ما صنع أبي، وإنما أردت أن ُأَعْلَمَ هل للنساء من الأمر شيء أم لا؟+.
5_ وفي لفظ: =قالت: =فهل لي في نفسي _يعني أمر_؟ قال:
=نعم+ قالت: إِذَنْ لا أرد على أبي شيئاً فعله، ولكن أحببت أن يعلم النساء أن لهن في أنفسهن أمراً+.
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (7/118):
=وفي قولها: =أجزت ما صنع أبي+ دليل على أن النكاح يقف على الإجازة، خلافاً للبيهقي وأصحابه+.
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (3/304) في هذا الحديث:
=والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً هو ابن أخيه، وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء، أنه ليس للآباء من الأمر شيء. ولفظ النسائي عام للثيب والبكر، وقد قالت هذه عند النبي"، فأقرها عليه، والمراد بنفي الأمر من الآباء نفي التزويج للكراهة؛ لأن السياق في ذلك، فلا يقال: هذا عام لكل شيء+اهـ.
رد النبي" نكاح المكرهة
جاء الحديث بذلك عن النبي" فيما رواه عنه ابن عباس وأم سلمة وجابر بن عبدالله _رضي الله عنهم_.
أما حديث ابن عباس فلفظه:
=أن جارية بكراً أتت النبي"، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي"+.
وأما لفظ حديث أم سلمة _رضي الله عنهما_:(1/445)
=عن أم سلمة _رضي الله عنها_ أن جارية زوجها أبوها، وأرادت أن تزوج رجلاً آخر فأتت النبي" فذكرت ذلك له، فنزعها من الرجل الذي زوجها أبوها، وزوجها النبي" من الذي أرادت+.
وأما لفظ حديث جابر بن عبدالله _رضي الله عنهما_ فهو:
=أن رجلاً زوج ابنته، وهي كارهة، من غير أمرها، فأتت النبي" ففرق بينهما+.
وفي رواية: =أن رجلاً زوج ابنته بكراً، ولم يستأذنها، فأتت النبي" فرد نكاحها+.
وفي رواية: =وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي" ففرق بينهما+.
وفي معنى هذا لفظ حديث معقل بن يسار المزني: =في قول الله تعالى: [فلا تعضلوهن] أنها نزلت فيه.
قال: زوجت أختاً لي من رجل، فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك، وأفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها _والله_ لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله =فلا تعضلوهن+. فقلت: الآن، افعل، يا رسول الله، قال: فزوجها إياه+.
وفي معناه أيضاً انتزاع زوجت عبدالله بن عمر منه بعد أن ملكها، وذلك بلفظ:
1_ تزوج عبدالله بن عمر زينب بنت عثمان بن مظعون بعد وفاة أبيها، زوجه إياها عمها قدامة بن مظعون، فأرغبهم المغيرة بن شعبة في الصداق، فقالت أم الجارية للجارية: لا تجيزي، فكرهت الجارية النكاح، وأعلمت رسول الله" هي وأمها. فرد النبي" نكاحها، فنكحها المغيرة بن شعبة+.
2_ وفي رواية قال عبدالله بن عمر:
=لما هلك عثمان بن مظعون ترك ابنته، قال ابن عمر: زوجنيها قدامة بن مظعون ولم يشاورها في ذلك وهو عمها، وكلمت رسول الله" في ذلك فرد نكاحه، فأحبت أن يتزوجها المغيرة بن شعبة، فزوجها إياه+.
3_ وفي لفظ قال:
=فذهبت أمها إلى النبي" فقالت: إن ابنتي تكره ذلك فأمره النبي" أن يفارقها، وقال:
=لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن؛ فإذا سكتن فهو إذنهن، فتزوجها بعد عبدالله المغيرة بن شعبة+.
4_ وفي رواية قال رسول الله":(1/446)
=هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها+ قال: فانتزعت _والله_ مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة+اهـ.
الأمر بمؤامرة النساء الأبكار، وطلب رضاهن، ومشاورتهن في أمر النكاح
وذلك في خبر تزويج نعيم بن عبدالله النحام الذي سماه النبي" =صالحاً+ ابنتَه البكر بيتيم له. وهذه ألفاظه:
1_ عن إسماعيل بن أمية، عن الثقة، عن ابن عمر، أنه خطب إلى نسيب له بنته وكان هوى أم المرأة في ابن عمر، وكان هوى أبيها في يتيم له، قال: فزوجها الأب يتيمه ذلك.
فجاءت النبي" فذكرت ذلك له؟ فقال النبي":
=آمروا النساء في بناتهن+.
2_ وفي رواية: =أن عبدالله بن عمر خطب ابنة نعيم بن النحام =فذكر الحديث في ذهابه إليه مع عمه =زيد بن الخطاب _ قال: فقال: =إن عندي ابن أخ لي يتيم، ولم أكن لأنقض لحوم الناس، وأشرد لحمي.
قال: فقالت أمها من ناحية البيت: والله لا يكون هذا حتى يقضي به علينا رسول الله" فتحبس أيم بني عدي على ابن أخيك =سفيه+ أو قال =ضعيف+ قال: ثم خرجت، حتى أتت رسول الله" فأخبرته الخبر، فدعا نعيماً، فقص عليه كما قال لعبدالله بن عمر، فقال رسول الله":
=صل رحمك، وأرض ابنتك، وأمها؛ فإن لهما في أمرهما نصيباً+.
وفي لفظ:
=صل رحمك، وأرض أَيِّمك، وأمها... الخ.
3_ وفي رواية: =قال أبوها: أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، وكان هوى أمها إلى عبدالله بن عمر، فأتت رسول الله" فقالت: يا نبي الله، خطب عبدالله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، فأرسل رسول الله" إلى =صالح+ فقال:
=أنكحت ابنتك، ولم تؤامرها؟+ فقال: =نعم+ فقال:
=أشيروا على النساء في أنفسهن+ وهي بكر. فقال صالح: إنما فَعَلَتْ هذا لما أصدقها ابن عمر، فإن له في مالي مثل ما أعطاها+.
وفي رواية: =فكانت الجارية بكراً+.(1/447)
4_ وفي لفظ: =أن نعيم بن عبدالله، كانت له يتيمة، فخطبها عبدالله بن عمر، فسمى لها صداقاً كثيراً، فأنكحها نعيم يتيماً له من عدي بن كعب، ليس له مال، فانطلقت أمها، فذكرت ذلك للنبي" فقال:
=آمروا النساء في بناتهن+.
ما جاء من النهي الصريح عن إنكاح الأيم والثيب واليتيمة والبكر إلا بعد استئمارهن، واستئذانهن ولا ينكحن إلا برضاهن، وإذنهن، وأن إذن البكر واليتيمة السكوت أو الصموت وإذن غيرهما النطق
هذا العنوان جاء بألفاظ حديث أبي هريرة÷ وذلك على النحو التالي:
1_ =الثيب تستأمر في نفسها، والبكر تستأذن. قالوا يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+.
2_ =تستأمر الثيب، وتستأذن البكر. قالوا: وما إذنها يا رسول الله؟ قال: =أن تسكت+.
3_ =تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو رضاها+.
4_ وفي رواية: =فإذا أمسكت فهو رضاها+.
5_ =تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها+.
6_ وفي رواية =فإن صمتت فهو إذنها.. الخ.
7_ =تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فقد أذنت، وإن أبت لم تكره+.
8_ =اليتيمة تستأمر، فإن رضيت، فلها رضاها، وإن أنكرت، فلا جواز عليها+.
9_ =تستأمر اليتيمة في نفسها، وصماتها إقرارها+.
10_ =تستأمر اليتيمة في نفسها، وصمتها إقرارها+.
11_ =لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن+ قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+.
12_ وفي رواية: =لا تنكح الثيب حتى تستأمر... وباقيه مثل سابقه+.
13_ =لاتنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلا بإذنها+ قالوا:... الخ.
14_ =البكر تستأمر، والثيب تشاور+ قيل: يا رسول الله، إن البكر تستحي؟ قال:
=سكوتها رضاها+.
15_ =لا تنكح البكر حتى تستأمر، ولا الثيب حتى تشاور... الخ+.
16_ =لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تشاور... الخ+.
17_ =لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر... الخ+.(1/448)
18_ =لا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت+.
19_ =لا تنكح البكر حتى تستأذن، وللثيب من أمرها ما لم تدع إلى سخطة، فإن دعت إلى سخطة، وكان من أوليائها يدعون إلى الرضا رفع ذلك إلى السلطان+.
20_ =البكر تستأمر، والثيب تشاور+ قيل: يا رسول الله، البكر تستحي؟ قال:
=سكوتها رضاها+.
21_ =لا تنكح الثيب حتى تستأذن، ولا تنكح البكر حتى تستأمر، وإذنها السكوت+.
الأمر بمشاورة النساء، ومؤامرتهن، وتأميرهن في أبضاعهن حتى تعرب الثيب عن نفسها بالنطق، والبكر يتضح رضاها بالسكوت والصمت
هذا العنوان ورد فيه حديث عدي بن عمير الكندي÷ وهذه ألفاظه:
1_ =الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها+.
2_ =وآمروا النساء في أنفسهن+.
3_ =شاوروا النساء في أبضاعهن+. فقيل له: يا رسول الله، إن البكر تستحي؟ قال:
=الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها+.
4_ =أشيروا على النساء في أنفسهن+. فقالوا: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال:
=الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صمتها+.
5_ =وآمروا النساء في أنفسهن؛ فإن الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها+.
6_ =أمِّيروا النساء، فلتعرب الثيب عن نفسها، وإذن البكر صمتها+.
بطلان عقد نكاح المكرهة
جاء هذا الحكم صريحاً في حديث خنساء بنت خدام الأنصارية، وهذه ألفاظه:
1_ عن خنساء بنت خدام الأنصارية، أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله" فرد نكاحه+. فتزوجت أبا لبابة ابن المنذر+.
2_ وفي رواية: =فذكرت ذلك له، فقال رسول الله":
=الأمر إليك، قالت: فلا حاجة لي فيه. فرد نكاحه+.
3_ وفي رواية: =ففرق بينهما+.
4_ وفي لفظ: =قال": =لا تكرهوهن+ قال: فنكحت بعد ذلك أبا لبابة الأنصاري، وكانت ثيباً+.
5_ وفي رواية: =قال الراوي: =آمت خنساء بنت خدام، فزوجها أبوها وهي كارهة. فأتت النبي" فقالت: إن أبي زوجني وأنا كارهة وقد ملكت أمري؟! قال:(1/449)
=فلا نكاح له، إنكحي من شئت، فرد نكاحه+ ونكحت أبا لبابة الأنصاري+.
6_ وفي لفظ: =وأبى أبوها إلا أن يزوجها العوفي، حتى ارتفع أمرها إلى رسول الله" فقال رسول الله":
=هي أولى بأمرها، فألحقها بهواها+ قال: فانتزعت من العوفي، وتزوجت أبا لبابة، فولدت له السائب+.
7_ وفيه: أن امرأة من ولد جعفر تخوفت ان يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار: عبدالرحمن ومُجَمَّع ابني جارية، قالا: فلا تخشين؛ فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة، فرد النبي" ذلك+.
شبهة من أجاز السفور عن الوجه والكفين لأنهما مما يظهر غالباً عادة وعبادة
نقل أبو حيان في البحر المحيط (6/412) وغيره ما نصه:
=وقد يقال: ما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما+.
ثم بين المراد بالعادة بقوله:
=فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيدها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وستر ذلك فيه حرج+اهـ.
قلت: وتفسير الآية بذلك غلط ظاهر، نشأ من عدم التفريق بين عورة الصلاة وبين عورة النظر؛ وبيان ذلك:
أن الآية نفسها نزلت بتحريم إبداء الزينة للنظر.
قال أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (3/1368) في الآية:
=الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخَلْقِيِّة: وجهها؛ فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم وحسن ترتيب محالها في الرأس ووضعها واحداً مع آخر على التدبير البديع+اهـ.
وصح عنه" أنه قال في باب عورة النظر:
=المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان+ من حديث ابن مسعود÷.
ثم إن المراد بـ =بما ظهر منها+: ما ظهر بنفسه بدون قصد الإظهار، والاختيار، وأما ما أظهرنه بالقصد والاختيار فهو المنهي عنه، كما هو نص الآية.
ومثله أيضاً ظاهر اللباس.
وجاء عنه" أنه قال في عورة الصلاة:(1/450)
=لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار+.
وذلك أن أخذ الزينة في الصلاة لحق الله تعالى، فليس لأحد أن يصلي عرياناً ولو كان يصلي وحده بالليل.
فالمرأة لا تصح صلاتها إلا بخمار، ويجوز لها كشف رأسها عند محارمها وزوجها.
ويجوز لها إبداء الزينة الباطنة لما ذكر في الآية الذين هم محارمها، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لهؤلاء، ولا لهؤلاء ولا لغيرهم.
يقول الإمام ابن رجب في القواعد الفقهية ص5 في المقصود من ستر العورة في الصلاة وفي النظر:
=القصد في ستر العورة في الصلاة: تغييب لون البشرة، وفي الإحرام: إنما يحرم الستر بما يستر به عادة.. وتحريم نظره على الأجنبي، فلما يتعلق به من الافتتان بالمرأة+.
قلت: يعني أن المرأة لم تنه عن ستر وجهها مطلقاً، وإنما نهيت عن تغطيته باللباس المعتاد كالنقاب والبرقع ونحوهما كما صرح به النص عن النبي" في قوله:
=ولا تنتقب المرأة+، فلا يزاد على دلالة النص، فتمنع المحرمة من ستر وجهها بغير النقاب.
وأما حديث: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+ فلا أصل له من الحديث النبوي كما نص عليه أهل العلم.
وقد فصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية× تفصيلاً شافياً فقال في حجاب المرأة ولباسها في الصلاة ص23 بعد كلام له في الحجاب:
=في الصلاة نوع ثالث: فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها.
فأخذ الزينة في الصلاة لحق الله، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عرياناً، ولو كان وحده بالليل، ويصلي عرياناً ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن لتحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع... إلى أن قال:
=وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة كما قال النبي":
=لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار+.(1/451)
وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، ولا لغيرهم+.
إذا تقرر هذا، فهل يصح شرعاً وعقلاً أن يقال: إن المحرمة والمصلية حال إحرامها وحال صلاتها يجوز لها كشف وجهها أمام الرجال الأجانب؟
ثم يؤخذ منه حكماً مطرداً، هو القول بجواز كشف وجهها مطلقاً للأجانب؟! مع قيام الأدلة الشرعية المتظاهرة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على وجوب احتجاب النساء عن الأجانب وتحريم السفور والتبرج والاختلاط؟!
أم هل يجوز شرعاً أن نهمل ونهدر ونبطل أدلة كتاب ربنا وسنة نبينا، وإجماع علمائنا، وقياس أدلة ديننا، فننسفها وراءنا ظهرياً لقول ضعيف مبني على شفا جرف هار، هو القول بجواز كشف الوجه لأنه مما يظهر عادة وعبادة؟
ومتى صار =ما ظهر عادة وعبادة+ دليلاً شرعياً وحجة يعارض به =تنزيل رب العالمين+ الذي يهدي للتي هي أقوم؟!!
وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى ومن أعرض عنه كانت معيشته ضنكاً وحشر يوم القيامة أعمى+.
شبهة ابن زيد
روى الإمام ابن جرير في تفسيره (9/305) رقم25972 ما نصه:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله تعالى:
[إلا ما ظهر منها] قال: الكحل والخضاب والخاتم، ثم قال: هكذا كانوا يقولون، وهذا يراه الناس+.
قال دعاة السفور: قوله: =وهذا يراه الناس+: هذا الخبر سنده صحيح، وفيه الدلالة على أن النساء في القرن الثاني الهجري كن سافرات الوجوه، يرى الناس وجوههن وهذا ينقض قول من قال:
=وقد كان المسلمون مجمعين =عملياً+ على أن المرأة تغطي وجهها عن الأجانب+.
وأجيب بأن هذا الأثر لا ينقض الإجماع العملي المذكور ولا يخدشه البتة وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا الأثر قد انفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وعبدالرحمن ضعيف بالإجماع.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البزار _ كما في كشف الأستار (1/109) رقم194:(1/452)
أجمع أهل العلم بالنقل على تضعيف أخباره، وليس هو بحجة فيما ينفرد به+.
وقال الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (6/178، 179):
=وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه.
وقال الطحاوي: حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف.
وقال البخاري وأبو حاتم: ضعفه علي بن المديني جداً.
وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه، هو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس هو من أحلاس الحديث+.
الوجه الثاني: أن الإجماع العملي المتوارث بحجب وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب، وامتناعهن من التبرج والسفور منقول بالتواتر _كما تقدم_ توارثه الخلف عن السلف قرناً بعد قرن.
وهو من الأحكام الشرعية وقد نص على وجوبه الكتاب وصحيح السنة، وإجماع الأمة، والقياس الصحيح بجامع العلة.
وقد تقرر عند العلماء عدم جواز العمل بالحديث الضعيف في الأحكام مطلقاً، فضلاً عن أن تنقض به الأحكام الشرعية.
الوجه الثالث: ليس في الأثر ما يدل على رؤية الناس لوجوه النساء، بل فيه ما يؤيد الإجماع العملي في احتجاب النساء في ذلك القرن المذكور، وذلك أن أكثر ما يدل عليه هو رؤية الكحل، والكحل يكون في العينين، والعينان يمكن أن يراهما الناس والوجهُ مستورٌ بالنقاب ونحوه، والنقاب لا يمنع رؤية الكحل في العين كما هو معروف.
الوجه الرابع: أنه ثبت عن الإمام ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 125هـ أي في القرن الثاني الهجري ما يؤيد الإجماع العملي في وجوب احتجاب وجوه النساء عن الرجال الأجانب، فقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره (8/2574) رقم14397 ما نصه:
=قرئ على يونس بن عبدالأعلى، أنبأ ابن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب في قول الله تعالى: [ولا يبدين زينتهن] قال ابن شهاب: قال: =لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله من لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة، والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس، فلا يبدو منها إلا الخواتم+.(1/453)
إسناد حسن أو صحيح. رجاله ثقات فقهاء إلا ابن لهيعة ففيه مقال، الراوي عنه هنا ابن وهب، وروايته عنه صحيحة، كما قاله أهل العلم.
ورواه الإمام عبدالرزاق في تفسيره (2/56) بلفظ:
=عن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: [ولا يبدين زينتهن] قال: =يرى الشيء من دون الخمار، فأما أن تسلخه فلا+اهـ.
إسناده صحيح، رجاله ثقات أئمة.
شبهة =لا يرى منها إلا هذا وهذا+
جاء في نيل الأوطار لشوكاني (6/130) أنه قال في فوائد حديث عائشة:
أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله" وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال:
=يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه+.
قال: فيه دليل لمن قال أنه يجوز نظر الأجنبية.
قال ابن رسلان: وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه.
أما عند خوف الفتنة، فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق.
وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يلزمها ستر وجهها في طريقها وعلى الرجال غض البصر للآية وقد تقدم الخلاف في أصل المسألة+.
قال دعاة السفور:
=كلام الشوكاني هذا يدل على أن وجه المرأة ليس بعورة _في باب النظر_ وما ادعي من الإجماع على أن وجه المرأة عورة يجب ستره عن الرجال الأجانب باطل، بل المسألة خلافية، كما قال القاضي عياض، وكما دل عليه حديث أسماء وهو حديث صحيح، وقد تبناه الشوكاني ومجد الدين ابن تيمية.
وقالوا: =ثم قال الشوكاني:
=والحاصل: أن المرأة تبدي من مواضع الزينة ما تدعوا الحاجة إليه عند مزاولة الأشياء والبيع والشراء والشهادة، فيكون ذلك مستثنى من عموم النهي عن إبداء مواضع الزينة.
وهذا على فرض عدم ورود تفسير مرفوع، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا ما يدل على أن الوجه والكفين مما يستثنى.
وأجيب عن هذه الشبهة بما يلي:(1/454)
أما الاحتجاج بحديث عائشة مع أختها _رضي الله عنها_ على جواز نظر الرجال الأجانب لوجوه من بلغ سن المحيض من المؤمنات ففيه نظر ظاهر؛ فإن الحديث المذكور منكر، بل باطل لا يجوز الاحتجاج به البتة، وقد تقدم الكلام عليه، ونزيد هنا ما يؤيد بطلانه وعدم صلاحيته للاحتجاج، فنقول:
قد أمر الله _سبحانه وتعالى_ نبيه" في محكم التنزيل أن ينهى المؤمنات عن إبداء زينتهن إلا لبعولتهن..الخ، وأمره أيضاً أن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.
أيجوز _أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر أن يخالف الرسول" ما أمره به ربه، فيقول: إذا بلغ النساء سن المحيض صلح أن يرى الرجال الأجانب وجوههن وأكفهن؟!!!
أم هل يجوز أن يقول": =لا يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه+ مع جوابه لجرير بن عبدالله لما سأله عن نظر الفجاءة؟ قال له: =اصرف بصرك+.
رواه أحمد (4/358، 361) ومسلم (3/1699) رقم2159، وأبو داود في السنن (2/209) رقم2148، والترمذي (5/101) رقم2776.
وقوله" لعلي بن أبي طالب÷:
= يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة+.
رواه أبو داود (2/610) رقم2149، والترمذي (5/101) رقم2777، فلو صح أن الرسول" أجاز للرجال الأجانب رؤية وجوه وأكف المؤمنات البالغات لما أمر جرير بصرف بصره عنهن، ولما نهى علياً عن إتباع النظرة النظرة.
وأما ما ادعي من تبني المجد ابن تيمية× لحديث عائشة هذا فلا يُسَلَّمُ أنه يقويه، ولا أن مذهبه ما يدل عليه من جواز نظر الرجال إلى وجوه النساء مطلقاً بدليل ما ثبت عنه من التفصيل في ستر عورة المرأة، مخالفاً إطلاق الحديث، فجاء عنه أنه قال في باب ستر العورة في الصلاة من كتابه المحرر (1/42): =وكل الحرة عورة سوى الوجه، وفي كفيها روايتان+.
وقال في باب عورة النظر في المصدر نفسه (1/239):(1/455)
=وإحرام المرأة في وجهه، فلا تستره بنقاب، ولا غيره، فإن سدلت عليه ما لم يباشره جاز+.
وقال أيضاً في المحرر (2/14):
=وللطبيب أن ينظر من الأجنبية ما تدعو إليه الحاجة، ولمن شهد عليها، أو يقابلها نظر الوجه لا غير للحاجة، ولا يجوز النظر لشهوة لأحد ممن ذكرنا+اهـ.
وأما ما ادعي من تبني الشوكاني للحديث المذكور فمردود كذلك؛ لأن مذهبه في احتجاب النساء مخالف له كل المخالفة. وإليك البيان:
قال× في السيل الجرار (1/161) في عورة الصلاة:
قوله: =من الحرة غير الوجه والكفين+ أقول:
=قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره من الرجال، ولا يجوز لهم النظر إليه، وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع نساء أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم+اهـ.
قلت: يعني أن كشف الوجه والكفين ليس شرطاً من شروط الصلاة لا تصح إلا بكشفهما، بل المراد أن الصلاة تصح مع عدم كشف ذلك.
وقال في عورة النظر في المصدر نفسه (2/180):
=وأما تغطية وجه المرأة، فلما روي: =أن إحرام المرأة في وجهها+ ولكنه لم يثبت من وجه يصح للاحتجاج... إلى أن قال بعد إيراد حديث عائشة: =كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله"محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ قال:
=وليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههن كان لأجل الإحرام، بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه. وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه؛ فإن معناه معنى ما ذكرناه، فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به، والأصل الجواز حتى يرد الدليل على المنع+اهـ.
وقال في نيل الأوطار (5/5) في تغطية وجه المحرمة:(1/456)
=واختلف العلماء في لبس النقاب، فمنعه الجمهور، وأجازته الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية، وهو مردود بنص الحديث، قال في الفتح _يعني الحافظ ابن حجر_: =ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين+.
إلى أن قال: ص7 في حديث عائشة المذكور آنفاً:
=واستدل بهذا الحديث على انه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها، لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره مطلقاً كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافياً عن وجهها، بحيث لا يصيب البشرة. هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه؛ لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة فلو كان التجافي شرطاً لبينه"+اهـ.
وقال في فتح القدير (4/299) في قوله تعالى: [ولا نسائهن] الأحزاب رقم53:
=هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات؛ لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة+.
وأما ما ادعاه دعاة التبرج والسفور من عدم وجود الإجماع على وجوب احتجاب نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب، ومنعهن من السفور والتبرج وأن مسألة وجوب الاحتجاب مختلف فيها بدليل ما نقله الإمام الشوكاني عن ابن رسلان من الاتفاق على منع خروج النساء سافرات الوجوه، وادعاء أنه لم يعتد به بدليل ذكره بعده قول القاضي عياض عن العلماء: أنه لا يلزمها ستر وجهها في طريقها، وعلى الرجال غض البصر للآية+.
فيجاب بأن مذهب الإمام الشوكاني قد عرفناه آنفاً، وهو القول بوجوب ستر وجوه المؤمنات بين الرجال الأجانب.
وأما ما ذكره القاضي عياض عن العلماء من عدم لزوم ستر وجه المرأة في طريقها، فلا يلزم منه إبطال الاتفاق الذي ذكره ابن رسلان على منع خروج النساء سافرات الوجوه؛ لأن القاضي حكى ما أدى إليه علمه في ذلك، وكذلك ابن رسلان حكى ما أدى إليه علمه في ذلك.(1/457)
وعلى طالب الحق والعدل والإنصاف أن ينظر ويحقق ما اعتمد عليه كل منهما من الأدلة، فإذا نظرنا وحققنا النظر وجدنا المخالف قد اعتمد فيما تبناه على شبه لا ثبات لها ولا قرار عند التحقيق كما أسلفنا.
وإذا نظرنا وحققنا ما نقله ابن رسلان من الاتفاق على منع خروج النساء سافرات الوجوه وجدناه مبنياً على أصل عظيم وأساس متين ونور مبين وصراط مستقيم، وهو آيات من الكتاب الحكيم والصحيح من سنة الصادق الأمين، وإجماع واتفاق أئمة المسلمين، وأن ابن رسلان لم ينفرد بنقل الاتفاق في ذلك بل هو واحد من نيف وأربعين نفساً من أئمة المسلمين الذين تواطئوا واتفقوا على نقل الإجماع والاتفاق في لزوم تغطية وجوه المؤمنات عن الرجال الأجانب _كما أسلفنا.
ويؤيد الاتفاق والإجماع المذكورين توارد أهل العلم على إفراد هذه المسألة بالتأليف، الذين بلغت مؤلفاتهم _فيما وقفت عليه منها_ ما يزيد على ثلاثمائة مؤلف والتي اتفقت على وجوب ستر وجوه المؤمنات عن الأجانب وحظر السفور والتبرج والاختلاط.
ما جاء عن أهل العلم في حكم العاريات، واستباحة النظر إلى الأجنبيات واختلاط الرجال بالنساء، وإظهار الزينة
قال شمس الدين الإمام العلامة أبو عبدالله محمد بن مفلح في كتابه =الفروع+ (5/155):
=ويحرم النظر بشهوة، ومن استحله كفر بالإجماع، قاله شيخنا، ونصه:
وخوفها، واختاره شيخنا+.
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن عبدالله بن أحمد بن حبيب العامري المتوفى سنة 530هـ في =أحكام النظر إلى المحرمات وما فيه من الخطر والآفات، والرد على من استباح حله وادعى العصمة فيه من الفتنة+ ص260:(1/458)
=إن الذي أجمعت عليه الأمة، واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، وهم من ليس بينهم رحم من النسب، ولا مُحرِّم من سبب كالرضاع وغيره فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض، وهم كل من حرم الشرع تزويج بعض منهم ببعض على التأبيد، فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين لا يباح بدعوى زهد وصلاح، ولا توهم عدم آفة ترفع عنهم الجناح... إلى أن قال ص287:
=ثم اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب، فقد كفر واستحق القتل بردته، وإن اعتقد تحريمه وفَعَلَهُ وأقر عليه ورضي به فقد فسق، لا يسمع له قول ولا تقبل له شهادة فضلاً عن أن تظن به زهادة أو عبادة... الخ.
وتقدم قول الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي:
=من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة، ففيه تفصيل. فإن كان يقول ذلك، ويحسنه للغير مع اعتقاد عدم جوازه فهو مؤمن فاسق يجب عليه الرجوع عن قوله، وإظهار ذلك لدى العموم، وإن قال ذلك معتقداً جوازه، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على دعواه فهذا يكفر لثلاثة أوجه:
الأول: لمخالفته القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ].
والثاني: لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين، ونتيجةُ رفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة، واختلاط الرجال بالنساء =ظهور الفاحشة+ وهو بين لا يحتاج إلى دليل.
الثالث: نسبة حيف وظلم المرأة إلى الله _ تعالى عما يقوله المارقون _ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك، وهو بين أيضاً+.
قال فضيلة الشيخ حمود التويجري معقباً على ذلك في الصارم المشهور ص214:(1/459)
=قلت: وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب، وإطلاق حرية المرأة واختلاط الرجال بالنساء يشهد به الواقع من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى الإسلام، وهم في غاية البعد منه+اهـ.
ونقل فضيلته في الصارم ص152 عن شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية× أنه قال:
=ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان، ومن استحله كفر إجماعاً، ويحرم النظر مع خوف ثوران الشهوة، وهو منصوص عن الإمام أحمد والشافعي _رحمهما الله تعالى_+اهـ.
ونقل التويجري× أيضاً في الصارم ص214 عن الشيخ محمد بن يوسف الكافي أنه صرح بتكفير من أظهرت زينتها الخَلْقِيَّة أو المكتسبة معتقدة جواز ذلك، فقال في كتابه =المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية+ ما نصه:
=المسألة السادسة والثلاثون: من أظهرت من النساء زينتها الخلقية أو المكتسبة؛ فالخلقية: الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك.
والمكتسبة ما تتحلى، وتتزين به الخلقة كالكحل في العين والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع والأسوار في المعصم والخلخال في الرجل والثياب الملونة على البدن ففي حكم ما فعلت تفصيل؛ فإن أظهرت شيئاً مما ذكر معتقدة عدم جواز ذلك فهي مؤمنة فاسقة تجب عليها التوبة من ذلك؛ وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة؛ لمخالفتها القرآن؛ لأن القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن، قال الله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ] الآية.
قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: =من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله يقول: [يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] (النور:17).
فمن سب عائشة، فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل، أي لأنه استباح ما حرم الله تعالى+اهـ.(1/460)
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية في فتاويها =حجاب المرأة ولباسها (17/104) رقم9255 في جواب سؤال هذا نصه:
=هل الكاسيات العاريات كافرات أم لا؟ وكيف يقول الرسول" =لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها..+ الحديث، وفي آخر =إذا لم يكن كافرات ملعونات+؟:
ج: من استحل منهن ذلك اللباس فهن كافرات مخلدات في النار إذا متن على ذلك، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها.
وإن لبسن ذلك اللباس مع اعتقادهن تحريمه فقد ارتكبن كبيرة من كبائر الذنوب، لكن لا يخرجن بها من ملة الإسلام، وهن تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر لهن، وإن شاء عذبهن بما ارتكبن من السيئات، فلا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها إلا بعد سابقة عذاب.
وهذا مذهب أهل السنة، وفيه جمع بين نصوص الوعد والوعيد وهو وسط بين مذهب المرجئة والخوارج والمعتزلة+اهـ.
الحجاب هو الْهَمُّ الذي أقلق مضاجع الأعداء
ومن الأدلة على وجوب ستر وجوه المؤمنات، وتحريم السفور بين الرجال الأجانب:
أن الكفار هم الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة وبيان وسياسة بإزاحة الخمار عن وجوه النساء وإبعاده، فقد بذلوا النفس والنفيس، وقاموا على قدم وساق ليل نهار، سراً وجهاراً، فعقدوا المؤتمرات تلو المؤتمرات، والندوات تلو الندوات، والزيارات لبلاد الإسلام بعد الزيارات لتحقيق هذا الهدف المشئوم، فلا يهدأ لهم بال، ولن يهدأ لهم بال لهدم هذا الصرح المشيد، والبناء العظيم، والحصين الحصين.
فقد تقدم قول =جلاد ستون+ أحد وزراء =انكلترا+ وقد وقف في آخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيمينه =القرآن المجيد+، وصاح في أعضاء البرلمان، قائلاً:
=إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هما شيئان، ولا بد من القضاء عليهما، مهما كلفنا الأمر:
أولهما: هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق، وقال: =وهذه الكعبة+.
وقال أيضاً:(1/461)
=ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان+.
وهو القائل أيضاً:
=لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع =الحجاب+ عن وجه المرأة، ويغطى به =القرآن+اهـ.
وهذا =كرومر+ يقول: جئت لأمحو ثلاثاً: =القرآن+ و =الكعبة+ و =الأزهر+ وقد تحقق لهم هدفهم ومقصدهم في غالب البلاد الإسلامية حيث فرض الاستعمار وأذنابه على نساء المسلمين كشف وجوههن أما الرجال وتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، واختلطن بالرجال في أسواقهم وأعمالهم ووظائفهم، وخلعن جلباب الوجوه والأبدان، وجلباب الحياء بلا رقيب، ولا حسيب!
فيا عقلاء المسلمين، هل يعقل أن أعداء الإسلام والمسلمين يطالبون المسلمين أن يمتثلوا أمراً جائزاً ومباحاً لهم شرعاً في دينهم؟!!!
فلو كان سفور النساء عن وجوههن وتبرجهن بين الأجانب جائزاً في الشريعة الإسلامية لأصبح نساء المسلمين سافرات الوجوه، ولما احتاج الأمر أن يطالب أئمة الكفر والنفاق المسلمين بالتخلي عن هذا الحكم الشرعي من دينهم، والابتعاد عنه.
ولو كان السفور والتبرج جائزاً عند المسلمين، كما هو جائزاً عند الكفار، لكان حكماً متفقاً عليه عند الجميع، ولم يحتج الكفار إلى شن حملاتهم على المسلمين وضغطهم عليهم مطالبين بكشف وجوه نسائهم وتبرجهن واختلاطهن بالرجال.
ولكن لما كان حكم الحجاب عند المسلمين يغاير ما كان عليه الكفار من الإباحية والانحطاط، أنكره الكفار وأذنابهم وحاربوه، وألزموا المسلمين بالتخلي عنه، وناهيك به دليلاً قوياً على فرضية ستر وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب لما فيه من طهارة قلوبهن وقلوب الرجال، وعدم إيذائهن، وحفظ كرامتهن، وأعراضهن، وحيائهن، وأخلاقهن، وصيانتهن عن الابتذال والرذائل، التي يريدها منهن أعداء الإسلام الذين لسان حالهم ومقالهم يقول: =دمروا الإسلام أبيدوا أهله+.
وبرهان ذلك ما تقرأوه في الفصل التالي:(1/462)
شاهد عيان على مشهد واقعي من مشاهد التبرج والسفور والاختلاط وما جناه على أمة الإسلام من العار والبوار والضعف والانهيار
ذكر كثير ممن ألف في موضوع الحجاب والسفور ما شاهدوا، وعاينوا ما جره التبرج والسور والاختلاط على أمة الإسلام من العواقب الوخيمة، والمفاسد الكثيرة المدمرة للأخلاق والبيوت والدنيا والدين التي تنذر بالخطر الداهم، والقضاء على الدين الإسلامي، والإيذان بتقويض خيامه.
ومن ذلك ما جاء في إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب لصفي الرحمن المباركفوري نقلاً من نص رسالة فضيلة الدكتور الهلالي ص100 أنه ذكر قصته مع إحدى تلميذاته =نزهة كويز+ بقوله:
=صارت =نزهة كويز من تلاميذاتي قبل ثلاث سنين، ولما عرفت ما أوجب الله عليها من ستر العورة والتمسك بالعفاف عزمت على أن تعصي والديها ولا تعود إلى المدرسة، فلما حان ابتداء السنة الدراسية أخبرت أهلها بذلك، فقالا لها:(1/463)
=أجُنِنْتِ؟ كيف تتركين الدراسة بعدما نجحت في السنة الخامسة من الثانوي وتضيعينا، وتضيعي نفسك؟ فقالت لهم: إني قد علمت من دروس الدكتور محمد تقي الدين ابن عبدالقادر الهلالي الحسيني ما ترتكبه المدارس الثانوية من إجبار الفتيات على التجرد من ثيابهن بحيث لا تبقى إلا خرقة رقيقة تستر القبل ستراً كالعدم، وأخرى مثلها تستر الدبر، ويكون ذلك أمام رجال المدرسة من معلمين وطلاب، ومن يمر بجانب المدرسة من عابر السبيل، وجاءتني باكية، فذهبت إلى طبيب مشهور في =مكناس+، والتمست منه أن يكتب لها شهادة بأنها مريضة، وأن الرياضة البدنية التي يتستر بها المجرمون في تعرية الفتيات _وهي ما بين السادسة عشرة، والثانية والعشرين_ لا تتفق مع صحتها، فلما قدمت الشهادة إلى مدير المدرسة بعثها إلى طبيب فرنسي، ففحصها ووجدها صحيحة لا مانع لها من الرياضة البدنية، بل التعرية الشيطانية، فرجعت إليَّ باكية أيضاً، وكان عندي سبعة من المعلمين في المدارس الثانوية يتلقون دروساً من كتاب =تقويم اللسانين+ فعرضت عليهم المشكلة، فقالوا: إن مدير المدرسة التي تدرس فيه =نزهة+ متدين، وقد حج بيت الله، فنحن نتوجه إليه، ونسأله إعفاءها من درس الرياضة البدنية التي يتسترون به على كشف عورات النساء، وتعويدهن على الوقاحة وقلة الحياء، بل عدمه، فيصلن بذلك الفجور، فذهبوا إليه وإلى الحارس العام الذي يشاركه في التصرف، فاعتذر المدير بأنه يخاف المفتش خصوصاً وقد ثبت أنها تستطيع أن تلعب الرياضة، فقال الحارس العام: إذا وافقني المدير فنحن نعفيها عن ذلك، فأعفيت من تلك السنة، وكانت تحافظ على صلاة العصر في وقتها، فيجتمع عليها سفهاء المدرسة من رجال ونساء، ويقولون:
هذه الجدة، جاءت الحاجة، جاءت تقبل اللهُ، استهزاءً بها، فلا تبالي بهم وتؤدي صلاتها بغاية الاطمئنان+اهـ.
وقد شاهد الشيخ علي الطنطاوي× مثل ذلك في دمشق الشام عام 1949م، فقال ما ملخصه:(1/464)
=أنه حضر إحدى المدارس ليلقي فيها درساً إضافياً، فسمع صوتاً من ساحة المدرسة، فتلفت ينظر من النافذة، فرأى مشهداً. قال: ما كنت أتصور أن يكون في ملهى، فضلاً عن مدرسة، وهو أن طالبات أحد الفصول وكلهن كبيرات بالغات قد استلقين على ظهورهن في درس الرياضة، ورفعن أرجلهن حتى بدت أفخاذهن عن آخرها+.
وقد ختم الدكتور محمد البرازي كتابه =حجاب المسلمة+ بخاتمة نفيسة بين فيها ما شاهده من الكوارث والهزائم التي حلت بالمسلمين بسبب ما جناه سفور المرأة وتبرجها واختلاطها بالرجال، ولما فيها من العبر، والمواعظ، والمزدجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أحببت أن أسوقها هنا بطولها فقال _ أعلى الله درجاته في الجنة_:
=إن الذي يستعرض فصول المؤامرة على المرأة المسلمة، يجد بداياتها على أيدي غير المسلمين الذين خططوا في خفاء، ونفذوا في دهاء، وجندوا من هذه الأمة من فقد اعتزازه بعقيدته، وتمسكه بدينه، وانتمائه لأمته، وصنعوا منهم أبطالاً!!! خلعوا عليهم ألقاباً ضخمة؛ ليخدروا بهم المغفلين، ويفتنوا بأقوالهم الجاهلين، ويصدوا الناس عن هذا الدين.
فهذا: =الزعيم+ و =معبود الجماهير+(1)!!!، وذاك: =الزعيم الملهم+!!! وثالث: =عميد الأدب+!!! ورابع: =محرر المرأة+!!!، وخامس: =أستاذ الجيل+!!!، وسادس: =من رجال الإصلاح+!!!، وسابع: =المجاهد الأكبر+ وهكذا...
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وكم لقي المسلمين من كيدهم، وأصابهم من مكرهم ما أوقع بهم كل فتنة دهماء...
[ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين] آل عمران: 54
لقد استخدم أعداء الإسلام وأذنابهم المرأة وسيلة لتفتيت المجتمع وأداة لتفسخه، وبدءوا عملهم بخطى وئيدة، وكلمات معسولة؛ ليسلك باطلهم إلى القلوب، وترتاح له النفوس، ثم لم يلبثوا أن وصلوا إلى ما يريدون، وحققوا ما كانوا به يحلمون.
__________
(1) نعوذ بالله من هذا الكفر البواح.(1/465)
لقد بدأت مؤامرة السفور بالدعوة إلى كشف الوجه، وامتدت إلى الجلسات المختلطة المحتشمة(!!!) ثم إلى السفر من غير محرم بدعوى الدراسة في الجامعة(!!!) ثم زينت الوجوه المكشوفة بأدوات الزينة، وبدأ الثوب ينحسر شيئاً فشيئاً، حتى وقعت الكارثة، فخرجت المرأة سافرة عن مفاتنها، كاشفة عن المواضع التي أمر الله بسترها، حتى أضحت عارية!
وراح أهل الكيد يتلذذون بالنظر إليها، ويستدرجونها للإيقاع بها حتى كان لهم ما أرادوه منها، ففسدت الأخلاق، وكثرت محلات البغاء، وانتشر اللقطاء، وتفسَّخ المجتمع، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولم يقف هؤلاء عند هذا الحد، بل رجوا للأدب الهابط أدب الجنس الوضيع وسخرت وسائل الإعلام؛ لتزيد في الإثارة، وتوغل في إفساد الأمة.
فالصحف الهابطة تنشر المقالات، والمجلات الساقطة تخصص صفحاتها لصور العاريات، والتلفاز يعرض ذلك كله بصورة مسرحيات وتمثيليات...
لا تبقي للأخلاق بقية، ولا تدع للفضيلة مظهراً من المظاهر الحية، ولا تدخر للأمة قوة تجابه عدواً، أو تدحر محتلاً.
إنها خطة محكمة رسمها اليهود وسجلوها في: =بروتوكولات حكماء صهيون ليتحكموا في مصيرنا، ولتبقى لهم الغلبة علينا، وقام بتنفيذها ببغاواتنا، فكان لأعدائنا ما أرادوا حيث جندوا =جواسيس+ استخدموا المرأة، والخمرة فنالوا بذلك أعلى الرتب، وبلغوا غاية الأرب، حيث حصلوا على أدق الأسرار الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ثم أعطوها لـ=إسرائيل+؛ لتنزل ضربتها القاصمة على هذه الأمة في حروب متلاحقة.
لقد وصل الجاسوس اليهودي =إيلي كوهين+ إلى أعلى الرتب الخربية بحزب البعث في =سورية+، وكان منزله _المزود بأجهزة التجسس والإرسال والقريب من قيادة الجيش_ منتدى للسياسة، ملهى لكبار القادة يحتسون فيه الخمور، ويعاشرون المومسات، وتنزع منهم أثناء ذلك أدق الأسرار السياسية والعسكرية والاقتصادية، ثم تبث إلى =إسرائيل+.(1/466)
وفي =مصر+ أقام الجواسيس من أصحاب المناصب الكبرى حفلاً ماجناً إلى قبيل الفجر لـ=ضباط القوات الجوية+ في الخامس من حزيران _ يونيو عام 1967م، احتسوا فيه الخمور، وراقصوا الغانيات، ثم عاشروا العاهرات..
وبعد أن انفض الحفل، غادر =الجواسيس+ أرض =مصر+ بعد انتهاء مهمتهم الناجحة، ونام القادة من =نسور الجو البواسل+ (؟!!!) _وليتهم لم يستيقضوا وغطوا في سبات عميق_ وليتهم لم يفيقوا_، فأغارت =إسرائيل+ على المطارات ودمرت الطائرات، وعطلت المدارج، ثم حطمت كثيراً من المدافع والدبابات، وقتلت الألوف بسبب فساد أولئك =الجنرالات+ (!!!) وخسرت الأمة المنكوبة بهؤلاء حرباً كانت أشبه شيء بالمسرحيات والتمثيليات..
وفقدت مع ذلك: =سيناء+ و =الجولان+ و =الضفة الغربية+ التي فيها =المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين+.
أما القوات الإسرائيلية، فقد دخلت =سيناء+ حاسرة الرؤوس، ساكبة الدموع، وقلوبها تهفو إلى أرض الميعاد!!! وتوجهت قواتها الأخرى التي دخلت =القدس+ إلى =حائط المبكى+ وهي تبكي في خشوع، وتتضرع في خضوع.
ثم أدت صلاة الشكر =لله+ الذي هزم =العرب+ على أيدي =اليهود+!!!.
لقد حاربتنا =إسرائيل+ بدين، فانتصرت رغم ما أدخلت عليه من تحريف وتدجين وقاتلناها =بفصل الدين عن الحياة+ و =بتحرير المرأة+ وبـ=محمد عبدالوهاب+ و =عبدالحليم حافظ+ و =أم كلثوم+!!! فخسرنا الدنيا والدين.(1/467)
إي والله لقد كانت الإذاعة في مصر أثناء حرب 1967م تقول: =معكم في المعركة محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وأم كلثوم+(!!!)، ويُبَشِّرُ (!!!) =أحمد سعيد+ معلق إذاعة =صوت العرب+ متابعي هذه المسرحية _ لا الحرب العسكرية(!!!) بأن سرباً من الطائرات الجزائرية في طريقه الآن إلى الجبهة لقتال إسرائيل(!!!) فتعترضه الطائرات الإسرائيلية، وتسقط جميع طائراته قبل وصولها على جبهة المعارك.. نعم.. لقد أسقطت هذه بسبب تبجح إعلامي، ودمرت تلك على مدارجها بتآمر خياني. وراح وزير الحرب الإسرائيلي =موشي دَيَّان+ ينتشي، ويقول: لقد دمرنا الطائرات وهي رابضة على مدارجها كالبط+.
ورغم عار الهزيمة الساحقة، وذل الفرار المهين، خرج إعلامنا الهجين قائلاً بملء فيه: =لقد خرجنا من المعركة منتصرين؛ لأن إسرائيل لم تنجح في إسقاط النظام+!!!.
فوجدتني أكرر متهكماً بهؤلاء الذين يستهينون بعقول الأمة: =والله أكبر.. الله أكبر.. عاش البطل.. عاش البطل+!!!.
هذه هي النتائج التي سببتها لنا =الخمرة+ و=تحرير المرأة+!!! وذلك هو ثمرة الجهد الذي بذله: محرروا المرأة+!!! وأساتذة الجيل!!! والتقدميون!!! والأبطال+.
وهكذا تهدر كرامة المرأة باسم =تحرير المرأة+ وتستخدم وسيلة للدعاية والإغراء والإفساد والجاسوسية، لينتهي الحال إلى تحطيم المجتمع وانهياره [فاعتبروا يا أولي الأبصار] الحشر:2.
إن على المرأة المسلمة أن تستعلي على هذه المؤامرة الرهيبة، وتدارك الثمن الكبير الذي تدفعه هي وأمتها _إن استجابت لذلك السُّعار المجنون، الذي تغذيه أيدٍ صليبية، وأخرى يهودية، ويقوم بالدعوة إليه أبطال(!!!) من بلاد إسلامية.
وإن عليها أن تتسلح بالعقيدة الراسخة، والأخلاق القويمة، والوعي الكبير.(1/468)
لقد أضاعت هذه المخططات المرأة التركية، حتى شبَّت عن الطوق، ولكنها أدركت في النهاية أنها مستخدمة للمتعة، وإفساد الأمة، وعرفت أن الحرية التي منحت لها كانت أداة لتحطيمها، ووأداً لكرامتها، وهدماً لمجتمعها فسارعت في الانتخابات البلدية التي جرت في 27/ 3/ 1994م لإعطائها صوتها =لحزب الرفاه+ الذي يسعى إلى تحريرها من رق العلاقة الجنسية إلى شرف العلاقة الزوجية.
فلا يخدعنك _أختي المسلمة_ هؤلاء المتآمرون، ولا يصرفنك عن الحق أولئك الكائدون، وضعي نصب عينيك قول الله _تعالى لنبيه الكريم_: [فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون] الروم: 60.
كما أن على ولاة الأمور أن يحكموا شرع ربهم، وأن يحاربوا المفاسد الدخيلة على مجتمعاتهم، وأن يحرروا المرأة من رق التبعية لأعدائنا، لئلا تبقى وسيلة إغراء وأداة إفساد، وقديماً قال الخليفة الثالث =عثمان بن عفان+÷: =إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن+.
أما نحن معاشر الأزواج والآباء، فلنعلم أننا مسئولون أمام الله تعالى عما استرعانا من زوجة وبنت وأخت، وحين نقصر في تقويم نسائنا لحملهن على الالتزام بالإسلام سلوكاً وحجاباً نكون قد عرضنا أنفسنا لسخط الله _عز وجل_ وشاركناهن في الإثم.
فعن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله" قال:
=كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها.
والخادم راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته.
قال: =وحسبت أن قد قال:
=والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته+(1).
وعن أنس بن مالك÷ قال: قال رسول الله":
__________
(1) أخرجه أحمد (2/5، 54، 55، 111، 121)، والبخاري (2/380) و (5/69، 177، 181، 177) و (9/254، 299) و (13/11) فتح الباري، مسلم (6/7_8) وأبو داود (3/342)، والترمذي (6/27، 28).(1/469)
=إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته+(1).
والمرأة إذا صلحت صلح المجتمع كله؛ لأنها مربية الأجيال، وحين تكون عفيفة صالحة، فإنها تخرج أفضل الأجيال.
ويرحم الله الشاعر العربي =حافظ إبراهيم+ حيث قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراقي
انتهى
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه موارد الظمآن ص376 رقم562.(1/470)