المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
«يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»(1).
«يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا»(2)
«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزرا عظيما»(3)
أما بعد:
فما زال العلماء يدأبون على نصرة حديث النبي T، ينفون عنه انتحال المبطلين وتحريف الغالبين وتأويل الجاهلين.
ومن هؤلاء العلماء: المحدثون، الذين أفنوا حياتهم في خدمة حديث النبي T ، حين شدوا الرحال وسهروا الليالي الطوال، وقطعوا الفيافي والقفار من أجل تحصيل الأسانيد العالية والطرق الواضحة والأحاديث الصحيحة. وأصحاب هذه الصناعة يقل معدودهم ويعز، بل يتعذر وجودهم، فهم في قلتهم أقل من عدد المسلمين في جميع أهل الملل، وأعز من مذهب أهل السنة بين سائر الآراء والنحل.
وما ذلك إلى لصعوبة هذا العلم، فهو علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به، ولذلك قل من ينبل فيه.
إن ما يميز هذه الطائفة من العلماء عن غيرها دقتها وضبطها للأخبار وتشددها في قبول الرواية حتى يتبين حال الراوي والمروي عنه، ومن ثم وضعهم قواعد وضوابط لرواية حدث النبي T، وأصلوا آدابا وأخلاقا ينبغي توفرها في المحدث وطالب الحديث.
__________
(1) -" آل عمران" :الآية 102.
(2) - " النساء": الآية 1.
(3) -" الأحزاب" :الآية 70-71.(1/1)
ولما رأيت الميدان التربوي بصفة عامة - وبخاصة دعاميته الأساسيتين «الأستاذ - التلميذ»- في حاجة إلى التحلي بكثير من هذه المبادئ والأخلاق والمناهج، رأيت أن أقف وقفة مع عالم كبير ومحدث شهير، حافظ المشرق الإمام؛ أبو بكر الخطيب البغدادي، من خلال كتاباته حول آداب المحدث والسامع، سواء التي أفردها بالبحث أو التي ضمنها بعض كتبه الأخرى، لأستخلص منها قدر المستطاع ما أودع فيها من آداب الرواية والسماع، التي ينبغي أن يتحلى بها المتصدر للتعليم والراغب في التعلم.
ولم يكن اختياري للخطيب البغدادي هملا، وإنما لما يحتله هذا الرجل من المكانة العلمية وخصوصا في علم الحديث، فهو فارس هذا الميدان، وعمدة هذا الباب، إذ كل من أتى بعده اعتمد كتبه ونسج على منواله مستفيدا منه، ولهذا قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: «كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه»(1).
فإنه لم يترك فنا من الفنون إلى وقد صنف فيه كما يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: « وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابا مفردا»(2).
ومن هذه الكتب التي ألفها كتابه الماتع « الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» الذي أفرده لذكر ما على طالب العلم والمعلم أن يتحلى به من الأخلاق الحميدة والآداب الرفيعة.
يقول رحمه الله تعالى: «وأنا أذكر في كتابي هذا بمشيئة الله ما بنقلة الحديث وحماله حاجة إلى معرفته واستعماله، من الأخذ بالخلائق الزكية والسلوك للطرائق الرضية، في السماع والحمل والأداء والنقل..»(3)
__________
(1) - "نزهة النظر في شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الكريم الفضيلي، نشر المكتبة العصرية، الطبعة الأولى 1418-1998، ص 18.
(2) - نفسه.
(3) -" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي"، تحقيق الدكتور محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 1403-1983، (ج 1 ص 79).(1/2)
ومن أنعم النظر في هذا الكتاب، وجد أن عنوانه لم يكن اعتباطا أو جريا وراء السجع والتجنيس وإنما جاء جامعا مانعا. فقد أوفى الموضوع حقه، و أعطى كل باب مستحقه. ولم يكتف الخطيب بهذا الكتاب للإشارة إلى تلك الآداب، وإنما ضمنها بعض كتبه الأخرى كـ «الفقيه والمتفقه»و«اقتضاء العلم العمل».
هذا وقد أسميت هذا البحث المتواضع «الاستفادة من مناهج المحدثين في عملية التعلم والتعليم» الخطيب البغدادي أنموذجا، وقسمته إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة على النحو التالي:
- مقدمة: تناولت فيها مكانة المحدثين وميزاتهم التي امتازوا بها، ودوافع البحث وسبب اختياري للخطيب دون غيره.
- الفصل الأول: ترجمة الخطيب البغدادي
* المبحث الأول: نشأته وطلبه للعلم
* المبحث الثاني: مناقبه وأخلاقه وأقوال العلماء فيه
* المبحث الثالث: شيوخه وتلامذته وكتبه
- الفصل الثاني : آداب العالم
* المبحث الأول: آدابه مع نفسه
* المبحث الثاني: آدابه مع تلامذته
* المبحث الثالث: آدابه مع درسه
- الفصل الثالث: آداب المتعلم
* المبحث الأول: آدابه مع نفسه
* المبحث الثاني: آدابه مع شيوخه
* المبحث الثالث: آدابه مع درسه
- الفصل الرابع: خصصته لذكر النصائح التي ذكرها الخطيب لطالب العلم فيما يخص الحفظ.
- خاتمة الدراسة : أشرت فيا إلى نتائج البحث
والفضل يرجع في هذا كله إلى الله ثم مشايخنا الفضلاء نخص بالذكر منهم شيخنا العلامة الأصولي عبد الله بن المدني، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى.
وقد بذلت فيه النصح قدر المستطاع، وإن لم أكن أهلا لذلك، فلا تعجل أيها الناظر فيه إن وجدت زلة أو هفوة، فتلك طبيعة البشر، وحسبك أن لك صفوه وعلي كدره، فإنني لا أدعي العصمة، وأرجو الله تعالى أن يغفر لي كل خطأ، فالجواد قد يكبو والسيف قد ينبو والكمال لله سبحانه .(1/3)
فإن تجد عيبا فسد الخللا ... قد جل من لا عيب فيه وعلا(1)
والله أسأل أن ينفع به كل من قرأه، وأن يذخره لي ويجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والحمد لله رب العالمين.
وكتب:عبد الفتاح بن محمد ورتي، صبيحة يوم السبت
26 ربيع الثاني من سنة 1429، الموافق ل 3 ماي 2008، حامدا مصليا.
الفصل الأول: ترجمة الخطيب البغدادي.
المبحث الأول: نشأته وطلبه للعلم (اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وطلبه للعلم، ووفاته).
__________
(1) - "ملحمة الإعراب"، لأبي محمد القاسم الحريري البصري، تحقيق علي حسن، دار عمان (ص 71).(1/4)
هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن المهدي الخطيب أبو بكر البغدادي، الفقيه الحافظ أحد الأئمة المشهورين المصنفين المكثرين، والحفاظ المبرزين ومن ختم به ديوان المحدثين ولد سنة 392 هـ في بيت غير مشهور، يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة نشأ(1) في رعاية والده الذي كان يخطب في إحدى مساجد قرية (درزيجان) إحدى قرى العراق، فعلمه القرآن ثم دفعه لمؤدب يعلمه القراءة والكتابة، ولما بلغ الحادية عشر من عمره بدأ سماع الحديث، ثم درس الفقه، ولما بلغ العشرين من عمره، وبعد أن جمع علوم أهل بلدته واطمأن بأنه اطلع على مرويات أهل بغداد، عزم على الرحلة – كما هو شأن أهل الحديث- إلى اصبهان وذلك بعد أن استشار شيخه البرقاني فأشار عليه بأن يخرج إلى أبي نعيم الأصبهاني صاحب «الحلية» وزوده برسالة يقول فيها: « وقد نفد إلى ما عندك عمدا متعمدا، أخونا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أيده الله وسلمه ليقتبس من علومك ويستفيد من حديثك وهو بحمد الله من له في الشأن سابقة حسنة وقدم ثابتة، وفهم حسن، وقد رحل فيه وفي طلبه، وحصل له منه ما لم يحصل لكثير من أمثال الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع من ذلك مع التورع والتحفظ، وصحة التحصيل، ما يحسن لديك موقعه ويجمل عندك منزلته، وأنا أرجو إذا صحت منه لديك هذه الصفة، أن تلين له جانبك، وأن تتوفر له وتحتمل منه ما عساه يورده، من تثقيل في الاستكثار، أو زيادة في الاصطبار. فقديما حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل، وتوفروا على المستحق منهم بالتخصيص والتقديم والتفضيل ما لم ينله الكل منهم.»(2).
__________
(1) - "معجم الأدباء"، لياقوت الحموي، دار الكتب العلمية، 1411-1991، (ج1/ ص 398).
(2) - "معجم الأدباء" (1/512) ، "سير أعلام النبلاء"، للإمام شمس الدين الذهبي، دار الفكر، 1414- 1994،(13/594)(1/5)
كما رحل إلى البصرة والكوفة ونيسابور، وهمذان، فاجتمع بذلك لديه العلم الغزير فأصبح قبلة لطالب الحديث ورحلة فتحقق فيه قولهم: « من لم يكن رحلة لم يكون رحلة«.(1)
المبحث الثاني: مناقبه وأخلاقه وأقوال العلماء فيه:
مناقبه وأخلاقه:
من أنعم في ترجمة الخطيب علم أنه كان على جانب كبير من الأخلاق الحميدة وأنه كان مخلصا في أعماله، فانعكست هذه العلوم التي اشتغل بها على نفسه. خصوصا السنة النبوية التي أكسبته تقى وعلما وزهدا وتواضعا، فقد كان كثير القراءة للقرآن يقرؤه في السفر والحضر، وكان متورعا عن السلاطين ومجالسهم.
ذكر أبو الفضل ناصر السلامي:«قال كان أبو بكر الخطيب من ذوي المروؤت «(2)
وكان كريما، فقد ذكر الحموي في معجمه أن أبا زكرياء يحيى بن علي اللغوي قال: «كنت أسكن منارة الجامع فصعد إلى يوما وسط النهار وقال أحببت أن أزورك في بيتك، وقعد عندي، وتحدثنا ساعة ثم أخرج قرطاسا فيه شيء وقال: الهدية مستحبة، وأسألك أن تشتري به الأقلام، ونهض ففتحت القرطاس بعد خروجه فإذا فيه خمسة دنانير صحاح مصرية»(3).
أقوال العلماء فيه:
أجمع العلماء على أن الخطيب إمام في علمه متقن لرواياته، بارع في كتبه، حافظ ثبت ثقة في نقوله عمدة في تصانيفه.
1- قال عنه تلميذه الحافظ بن ماكولا: « وكان آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة واتقانا وحفظا وضبطا لحديث رسول الله T، وتفننا في علله وأسانيده، وخبرة برواته وناقليه، وعلما بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره، وسقيمه ومطروحه ...» (4)
__________
(1) - "تذكرة السامع والمتكلم"، لابن جماعة بواسطة "حلية طالب العلم" ص 15.
(2) - "معجم الأدباء" (1/506)
(3) - "معجم الأدباء" (1/507)- "السير" (13/595).
(4) - "تذكرة الحفاظ" (3/1137)، "طبقات السبكي" (4/31)، "السير" (18/275)؛ نقلا عن "الفقيه و المتفقه" (1/18).(1/6)
2- قال عنه أبو سعد السمعاني: « إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة صنف قريبا من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث » (1).
3- وقال عنه ابن خلكان صاحب وفيات الأعيان: « كان من الحفاظ المتقنين والعلماء المتبحرين.. وفضله أشهر من أن يوصف » (2)
المبحث الثالث: شيوخه وتلامذته وكتبه.
شيوخه :
فمن شيوخه :
- محمد بن الحسين القطاني
- أبو نعيم الأصفهاني الحافظ.
- أبو علي بن شاذان البزار.
- أبو بكر البرقاني الذي زوده بالرسالة المذكورة آنفا.
- القاضي أبو القاسم التنوخي.
تلامذته:
أما تلامذته فمنهم:
- أبو نصر على بن هبة الله بن ماكولا صاحب كتاب "الأنساب".
- أبو الفضل ابن خيرون.
- يحيى بن علي أبو زكرياء التبريزي.
مصنفاته:
لقد بارك الله في وقت الحافظ أبي بكر فظهرت هذه البركة في تأليفه النافعة الكثيرة حتى قيل أنها بلغت المائة، ومن أشهرها:
1- تاريخ بغداد أو مدينة السلام.
2- الكفاية في علم الرواية.
3- شرف أصحاب الحديث.
4- اقتضاء العلم العمل.
5- الفقيه والمتفقه.
6- تقييد العلم.
7- نصيحة أهل الحديث.
8- الرحلة في طلب الحديث.
9- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
10- آداب المحدث والفقيه.
ومن اطلع على كتبه علم أن الرجل متبحر في العلوم وخصوصا في علم الحديث.
الفصل الثاني: آداب العالم
لقد ثبت في الشرع أن التحلي بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق والهدي الحسن والسمت الصالح، سمة أهل الإسلام، وأن العلم لا يصل إليه إلا المتخلق بأخلاقه والمتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته، ولهذا عناها العلماء بالبحث والتنبيه، إما على وجه العموم أو على وجه الخصوص، كآداب حملة القرآن وآداب المتحدثين، وهذه الأخيرة هي موضوع بحثنا، بحيث نسلتهم منها ما يستفيد منه من وجد في نفسه أهلية لتصدر التعليم.
__________
(1) - "السير" (13/594).
(2) - "وفيات الأعيان"، بواسطة "الفقيه والمتفقه" (1/19).(1/7)
فإليك مجموعة من تلك الآداب التي كان يتحلى بها المحدثون سواء مع أنفسهم، أو مع درسهم أو مع تلامذتهم، وبعض الطرق التي كانوا يستعملونها في تدريسهم عسى أن تجد آذانا صاغية وقلوبا واعية.
فمن أخذ بها انتفع ونفع، لأنها مأخوذة من أدب من بارك الله في عملهم، وصاروا أئمة يهتدي بهم، جمعنا الله بهم في جنته آمين.
المبحث الأول: آداب المحدث مع نفسه
الإخلاص لله تعالى:
إذ بالعلم يعبد الله، وعليه فإن شرط العبادة إخلاص النية لله، فعلى المدرس أن يتخلص من كل ما يشوب نيته في صدق التعليم كحب الظهور، والتفوق على الأقران. وقد أشار الخطيب إلى ذلك في مستهل كتابه – كما هي عادة أهل العلم، كالإمام البخاري في جامعة – بقوله «ينبغي لمن عزم على التحديث أن يقدم له النية ويبتغي فيه الحسبة»(1) . ثم قال بعد ذلك« وإن كان في بلده أو بغيره من هو أعلى إسنادا منه دل عليه، وأرشد الطلبة إليه»(2) وفي هذا قمة الإخلاص وهضم حظوظ النفس، وصرف وجوه الناس إليه. وقال أيضا: «... وليستعمل الجد في أمره، وإخلاص النية في قصده والرغبة إلى الله في أن يرزقه علما يوفقه فيه، ويبعده من علم لا ينتفع به..» (3)
ملازمة خشية الله تعالى:
ينبغي للمدرس أن يلزم خشية الله في السر والعلن وفي الظاهر والباطن، وذلك بالحفاظ على شعائر الإسلام دالا على الله بعلمه وسمته وعمله. وقد ألف الخطيب كتابا حافلا في هذا الباب أسماه «اقتضاء العلم العمل» ذكر فيه زهاء مائتي حديث تحث على العمل وملازمة الخشية الله تعالى.
حفظ الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء:
ينبغي للمدرس أن يلزم هذه الخصلة الحميدة ويخفض جناحه للمتعلم إذا سأله، وينبذ الخيلاء والكبرياء وحب الظهور والبروز والتفوق على الأقران، فيلزم اللصوق إلى الأرض وهضم حظوظ النفس.
__________
(1) -" الجامع" (1/315).
(2) - "الجامع" (1/399).
(3) -" الفقيه و المتفقه" (2/171).(1/8)
ومن ذلك: أن يمنع من كائن جالسا من القيام له، قال الخطيب رحمه الله: « ويمنع من كان جالسا من القيام له فإن السكون إلى ذلك من آفات النفس»(1)
وهذا الأمر من المسائل التي عمت بها البلوى في مدارسنا اليوم، حيث نجد أن التلاميذ اعتادوا الوقوف للأستاذ ولكل زائر للقسم. وهذا أمره خطير وشرره مستطير لأن النبي T رهب من مثل هذا الفعل فقال: « من سره أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار»(2) ثم إن عليه أن يقتصد في مشيته لقوله تعالى: «واقصد في مشيك»(3)
قال الخطيب البغدادي: « وينبغي أن يمنع أصحابه من المشي وراءه ، فإن ذلك فتنة للمتبوع وذلة للمتبع»(4). أي أن يتقدمهم في المشي وهم وراءه بل يمشون إلى جنبه كما هو حال الصحابة مع رسول الله T.
ومن مظاهر خفض الجناح أيضا أن «يعم بالسلام كافة المسلمين حتى الصبيان غير البالغين»(5) وهذه صورة عظيمة من صور التواضع وخفض الجناح. وقد ساق الخطيب بسنده إلى محمد بن بشر العكري قال: « حضرت المزني وجاءه رجل فقبل رأسه فأخذ المزني يد الرجل فقبلها. فقالوا سبحان الله يا أبا إبراهيم، فقال هذا من التطفيف».(6)
التحلي بالرفق:
ومما يحسن للمدرس أن يتحلى به؛ الرفق والليونة، وذلك لتأليف النفوس الناشزة والطباع الجافة، وذلك بتحسين خلقه مع تلامذته. فقد ساق الخطيب سنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يكن رسول T بفاحش ولا متفحش ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن ويصفح».(7)
وذكر الخطيب في هذا الباب عدة آثار؛ منها أن حماد بن زيد قال:«ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله عز وجل»
__________
(1) - "الجامع" (1/399).
(2) - "رواه أبو داود في كتاب الأدب".
(3) -" سورة لقمان": الآية 18.
(4) -" الجامع" (1/395).
(5) - "الجامع" (1/399).
(6) -" الجامع" (1/351).
(7) -" الجامع " (1/353) . "رواه البخاري" في كتاب التفسير.(1/9)
ومن مظاهر الرفق التغاضي عن اليسير من السلوكات التي قد تصدر من المتعلم.
قيل لأعرابي « من الأريب العاقل ؟ قال الفطن المتغافل»(1)
وهذا منهج عظيم في التربية والتعليم، خصوصا في سن المراهقة الذي يحتاج فيه المراهق إلى شيء من الحرية، فالمعلم الناجح هو الذي يتغاضى عن بعض ما يقع في الفصل ويبين في الوقت نفسه أنه فطن إلى ذلك الشيء حتى يكون المتعلم على بينة من أمره.
ومن مظاهر الرفق؛ الرفق في الكلام.
قال الخطيب: « وليعود لسانه من الكلام أحسنه، ومن الخطاب ألينه»(2)
التحلي برونق العلم:
على المدرس أن يجتنب كل ما يخل بمروءته، ويسقط هيبته، ويضعف قدره عند المتعلمين، من أكل في الطريق وكثرة الضحك والمزاح واللغو واللغط، فإن من أكثر من شيء عرف به.
وفي هذا الباب يقول الخطيب: « يجب أن يتقي المزاح في مجلسه فإنه يسقط الحشمة ويقل الهيبة»(3)
ثم ساق سنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للأحنف بن قيس: « يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به ومن مزح استخف به»(4)
صدق رضي الله تعالى عنه وأرضاه فإن المدرس إذا عرف بالتساهل والمزاح والضحك كان ذلك سببا لتهاون التلاميذ وعدم اهتمامهم، ووجد هو الآخر صعوبة في ضبطهم والتعامل معهم.
كما يجوز له الإنكار على من ترك بحضرته الوقار، فعن عيسى بن حماد بن قتيبة قال:« سمعت الليث يقول: وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال: ...أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم»(5)
لباسه ومظهره:
إن من المسائل التي تهتم بها المناهج الحديثة، هي الهندام. ولهذا نجد العلماء الأقدمين لم يغفلوا هذا الجانب بل أفردوا له أبوابا خاصة.
__________
(1) - "الجامع "(1/355).
(2) - "الجامع" (1/404).
(3) - نفسه، حديث رقم935
(4) -" الجامع" (1/405) ح 960.
(5) -" الفقيه و المتفقه" (2/70).(1/10)
إن المتصدر للتدريس يمتاز عن غيره في كل شيء حتى في لباسه ومظهره، وذلك لشرف ما يحمل من العلم. لهذا راعى الخطيب البغدادي هذا الجانب ولم يغفله –كما سبق الذكر – أثناء كلامه عن صفة المحدث، حيث ذكر زهاء سبعين حديثا في هذا الباب وبوب ذلك بقوله باب: «إصلاح المحدث هيئته و أخذه لرواية الحديث زينته».
قال الخطيب: « ينبغي للمحدث أن يكون في حال روايته على أكمل هيئته، وأفضل زينته ويتعاهد نفسه قبل ذلك بإصلاح أموره التي تجمله عند الحاضرين من الموافقين والمخالفين»(1).
ويكون ذلك باستعمال السواك أو ما يقوم مقامه لتنظيف الفم من الروائح الكريهة تعظيما لما يقول من كلام الله وكلام رسول الله T.
قال أبو بكر: « وليبتدئ بالسؤاك ». (2)
«وليقص أظافره إذا طالت(3) ... ويأخذ من شاربه(4) .. من شعت رأسه».(5)
«وإذا أكل طعاما زهما(6)أنقى يديه من غمره، ويتجنب من الأطعمة ما كره ريحه»(7)
فإذا انتهى من ذلك اختار ما يناسبه من اللباس، والمستحب له البياض.
قال الخطيب: « يستحب له لباس الثياب البيض، ويكره له أن يلبس الثوب الخلق وهو يقدر على الجديد». (8)
قال النبيT: «البسوا هذه الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب وكنفوا بها موتاكم»(9)
وخوفا من البطر والترفه والإشهار يقول الخطيب « وكما يكره له لبس أدون الثياب فكذلك يكره له لبس أرفعها خوفا من الإشتهار بها، وأن تسموا إليه الأبصار فيها» (10)، مما قد يشغل بال التلاميذ.
__________
(1) -"الجامع" (1/373).
(2) - نفسه.
(3) - "الجامع" (1/374).
(4) - "الجامع " (1/3751).
(5) - "الجامع" (1/376).
(6) - "ريح لحم سمين منتن"، و بالتحريك مصدر زهمت يده كفرح فهي زهمة أي دسمة.انظر القاموس المحيط مادة الزهومة، ص 1119.
(7) - "الجامع" (1/377).
(8) - "الجامع" (1/381).
(9) - "رواه أبو داوود" في كتاب الطب.
(10) - "الجامع" (1/382).(1/11)
ويصف رحمه الله ثوبه قائلا «يجب أن يكون قميصه مشمرا، فإنه أبقى للثوب وأنفى للكبر»(1).
و كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج يحدث، توضأ وضوءه للصلاة ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوته، ومشط لحيته فقيل له في ذلك فقال:«أوقر به حديث رسول T »(2)
وذكر الخطيب في الجامع أحاديث في استحباب البخور ومس الطيب والنظر في المرآة قبل الخروج للدرس، فلتراجع في بابها.
المبحث الثاني: أدبه مع تلاميذه.
ثبت من خلال السيرة النبوية العطرة وسير العلماء والصالحين، أهمية القدوة في التربية والتعليم، فالمدرس يعتبر القدوة والمثال لتلامذته، لذا وجب عليه أن يكون في أعلى مستوى من الأخلاق لأنه أدعى لقبول قوله.
فأول ما يلزمه مع تلامذته أن يقبل عليهم جميعا بوجهه خلال درسه، ولا يخص أحدا دون أحد لأن ذلك يوقع العداوة بين التلاميذ.
قال حبيب بن أبي ثابت: « من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعا ولا يخص أحدا دون أحد»(3) وهذا يتطلب من المدرس أن يختار مكانا مناسبا يقف فيه بحيث يمكنه من التحكم في القسم بأكمله.
ويوزع نظره عليهم بأجمعهم.
قال الخطيب: «ومباح للمحدث أن يؤثر حفاظ الطلبة، وأهل المعرفة والفهم منهم وإن كان الأفضل أن يعدل بينهم، ولا يؤثر بعضهم على بعض» (4)
قلت : يمكن للأستاذ أن يفضل المجتهدين وذلك بغية تشجيع الآخرين.
كراهة التحديث لمن عارضه الكسل والفتور:
قال الخطيب البغدادي: « حق الفائدة أن لا تساق إلا إلى مبتغيها، ولا تعرض إلا على الراغب فيها. فإذا رأى المحدث بعض الفتور من المستمع فليسكت، فإن بعض الأدباء قال؛ نشاط القائل على قدر فهم المستمع»(5)
__________
(1) - نفسه.
(2) - "رواه الخطيب" في الجامع، حديث رقم 903.
(3) - "رواه الخطيب" في الجامع حديث رقم 658.
(4) - "الجامع" (1/305).
(5) - "الجامع"(1/330).(1/12)
وهذا منهج ناجح في العملية التعليمية التعليمية، لأن استرسال المدرس في الدرس مع غفلة قلب المتعلم وفتوره مضيعة للوقت والجهد، فيحسن في هذه الحالة التوقف أو الترويح بالمستملحات حتى يتجدد النشاط وتقوى الهمم. وعلامة الكسل والفتور كما ذكر عبد الله بن مسعود قال: حدث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم. فإذا انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم، قيل له : ما علامة ذلك؟ قال إذا حدقوك بأبصارهم. فإذا تثاءبوا واتكأ بعضهم على بعض فقد انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم»(1)
وكان السلف رحمهم الله تعالى يزيلون هذا الفتور بالمستلمحات التي تجدد نشاط القلب. فقد كان على بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
«روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان»(2)
تحري الصدق:
ومن الصفات التي ينبغي للمدرس أن يتصف بها صفة الصدق، وذلك بأن يتحلى به في مقاله في هزله وجده وفرحه وغضبه، فعن ابن مسعود عن النبي T قال: «إن أحدكم ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب صديقا، ويكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب كذابا»(3)، وقال وكيع رحمه الله« هذه صناعة لا يرتفع فيها إلا صادق»(4)
فمهنة التدريس قائمة على التلقين والحوار والكلام، وكل هذا يتطلب الصدق في المقال، فبه يرتفع قدر المرء وتعلو مكانته وينبل بين القوم. وإذا كان هذا فضل الصدق فاجتنب أخي المدرس نقيضه، ألا وهو الكذب فبه يسقط قدر المرء من أعين الناس، ويصبح مكذبا في جميع أحواله وإن كان صادقا، قال عبد الرحمن بن مهدي: « لو أن رجلا هم أن يكذب في الحديث أسقطه الله عز وجل»(5)
وكذب على الله ورسوله ليس ككذب على غيرهما.
كراهة الإملال:
__________
(1) - نفسه .
(2) - "الجامع" (2/129) حديث 1389.
(3) - "رواه البخاري" في كتاب الأدب.
(4) - "الجامع" (2/7).
(5) - "الجامع" (2/8).(1/13)
على المدرس أن يحترم الوقت المخصص له ولا يتجاوزه، لأن ذلك فيه إملال السامع وإضجاره وأخذ لوقت الأستاذ الذي يأتي بعده. قال الخطيب « ينبغي للمحدث أن لا يطيل المجلس الذي يرويه بل يجعله متوسطا ويقتصد فيه، حذرا من سآمة السامع وملله، وأن يؤدي ذلك إلى فتوره عن الطلب وكسله ». (1)
قال الخطيب: قال أبو العباس المبرد فيما بلغي عنه: «من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرض أصحابه للإملال وسوء الاستماع، ولأن تدع من حديث فضلة يعاد إليها أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط له»(2)
مراعاة مستوى المتعلمين:
يقول الخطيب: «ينبغي أن يملي من الأحاديث ما تعلق بأصول المعارف والديانات وتضمن الدلائل على صحة المذاهب والاعتقادات، إذ كان ذلك أسَ الشرع ودعامته، وأصل كل نوع من التكليف وقاعدته...و يتجنب المحدث في أماليه رواية ما لا تحتمله عقول العوام، لما لا يؤمن عليهم فيه من دخول الخطأ والأوهام، و ذلك نحو أحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه و التجسيم، وإثبات الجوارح و الأعضاء»(3)
تفقده التلاميذ:
من الأمور الحميدة التي ينبغي أن يتحلى بها المدرس مع تلامذته، تفقده لمن غاب منهم فيسأل عنه حتى يتبين سبب غيابه، وفي هذا جانب عظيم من التواضع، وأسلوب ناجح للتأليف بين القلوب والتشجيع على الدراسة والجد والاجتهاد .
قال الخطيب: « وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب منهم»(4)
وكان ابن أبي ذئب إذا جلس إليه رجل فافتقده سأل أهل المجلس؛ ما فعل صاحبكم؟ فإن قالوا ما ندري؟ قال أين منزله؟ فإن قالوا لا ندري: ضجر عليهم، وقال لأي شيء تصلحون.. »(5)
المبحث الثالث: أدبه مع درسه.
__________
(1) - "الجامع" (2/127).
(2) - نفسه.
(3) - "الجامع" (2/107).
(4) - "الفقيه" (2/245).
(5) - نفسه.(1/14)
وكما أن للمدرس آدابا مع نفسه ومع تلامذته، فإن له آدابا مع ما يعلمه وكذا مع مجلسه، وأول ذلك: أنه إذا دخل على أهل المجلس، فلا يسلم عليهم حتى ينتهي إليهم، قال أبو بكر :«إذا دخل على أهل المجلس فلا يسلم عليهم حتى ينتهي إليهم»(1)
الافتتاح بالتسمية والحمد:
وليكن أول ما يفتتح به الكلام بسم الله و الحمد لله؛ اقتداء بكتاب الله تعالى. فيكون بذلك قد بدأ درسه بالثناء على الله والصلاة على رسوله. قال أبو بكر: «وليكن أول ما يفتتح به الكلام بعد التسمية الحمد لله لقول الرسول T كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله أقطع»(2)
«ثم يتبع بذكر رسول الله T والصلاة عليه»(3)
«ثم يذكر لهم الدرس على تمكث وتؤدة من غير إسراع وعجلة»(4)
لا حياء في تعلم أمور الدين(5):
وأصل رحمه الله تعالى أصلا عظيما وقاعدة جليلة منعت كثيرا من الناس من التعلم ومن التعليم.
قال رحمه الله: « وإن كان البيان يتضح بعبارة يغلب الحياء ذاكرها، فعلى الفقيه إيرادها ولا يمنعه الحياء منها»(6)
اجتناب الضجر والملل:
__________
(1) - "الجامع" (399).
(2) - "الفقيه" (2/253).
(3) - "الفقيه" (2/254).
(4) - "الفقيه" (2/255).
(5) * - يحسن بنا أن نشير هنا إلى خطأ شاع وذاع في أوساط العامة وبعض طلبة العلم، ألا وهو قولهم "لا حياء في الدين" فهذا مخالف لما جاء به الرسول T من أخلاق حسنة، ومن جملتها: الحياء الذي قال فيه: "الحياء كله خير" إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء"رواه مسلم في كتاب الإيمان، رقم 54. وقال أيضا "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة ؛ إذا لم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري و ابن ماجه والإمام أحمد. لهذا عنوت هذه الفقرة ب "لاحياء في تعلم أمور الدين" اقتداءا بقول عائشة رضي الله عنها:نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"رواه البخاري في كتاب العلم معلقا، مترجما به لباب من أبوابه.
(6) -"الفقيه والمتفقه" (2/256).(1/15)
ولما كان من طبيعة البشر الملل والضجر فقد راعى الخطيب هذا الجانب كما سبق الذكر .
فقال: «وينبغي أن يكون ما يذكره مقتصدا، ويتجنب الإطالة لئلا يؤدي إلى الضجر والملالة»(1)
قال ابن مسعود رضي الله عنه كان رسول الله T «يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا »(2)
ولم يغفل أبو بكر الخطيب جانب الوسائل التعليمية والمهارات المساعدة على الفهم، فقد لمح إلى مهارة التشبيه فقال:
«وإن اقتضى ما يذكره تشبيه الشيء بنظيره ليقرب الأفهام على المتعلمين فعل ذلك»(3)
«وإن لم يفهموا إلا بالتمثيل مثل لهم»(4)
وقد كان حماد بن أبي سليمان يقول«كنت أسأل إبراهيم عن الشيء، فيعلم أني لم أفهمه، فيقيس لي حتى أفهم»(5)
وقال علقمة؛« إذا أردت أن تعلم الفرائض فأمت جيرانك»(6)
«فإذا فرغ أعاد ما ذكره، ليتقنوا حفظه عنه»(7) و هذا أسلوب آخر من أساليب التدريس، وهو أسلوب التكرار.و قد كان النبي T إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه(8).
اهتمامه بالمجالس التي بجانبه:
من كمال أدب المجلس أن لا يرتفع صوت المدرس حتى يؤذي المجالس التي بجواره. لهذا قال أبو بكر:«ويجب أن لا يتجاوز صوت المحدث مجلسه ولا يقتصر عن الحاضرين»(9)
وعن ابن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: « ينبغي للعالم أن لا يعدو صوته مجلسه»(10)
استحباب التمهل في الكلام وكراهة الإسراع فيه:
يكره للمدرس سرد الكلام سردا بحيث يخفى على السامع الكثير مما يقول. ويستحب له التمهل فيه خصوصا إن كان المتعلم صغير السن لأن عقله لم ينضج بعد ولم يصل إلى مستوى مسايرة ما يقوله المدرس واستيعابه في الوقت نفسه.
__________
(1) - نفسه.
(2) - "رواه البخاري" رقم 6419.
(3) - "الفقيه" (2/258)
(4) - "الفقيه" (2/260)
(5) -"الفقيه" (2/261)
(6) - نفسه
(7) - "الفقيه" (2/262)
(8) - "رواه البخاري"، رقم 92.
(9) - "الجامع" (1/412).
(10) - "الجامع" (1/412) .(1/16)
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله T لا يسرد الكلام كسردكم، ولكن كان إذا تكلم تكلم بكلام فصل يحفظه من سمعه»(1)
الصلاة على النبي T والترضي على الصحابة رضي الله عنهم كلما ذكروا:
فمن الآداب التي ينبغي أن يتميز بها المدرس في درسه، التأدب مع رسول الله T كلما ذكر، سواء كتابة أو شفاهة. فكما أننا نتعبد الله بالصلاة على رسول الله T شفاهة فإننا نتعبده به كتابة، ولهذا نجد الخطيب ينبه على ذلك فيقول :
«وإذا انتهى المستملي في الإسناد إلى ذكر النبي T استحب له الصلاة عليه رافعا صوته بذلك وهكذا يفعل في كل حديث عاد فيه ذكره T.. وإذا انتهى إلى ذكر بعض الصحابة قال رضوان الله عليهم»(2)
طريقة الجواب:
إذا عرض للأستاذ سؤال فيلزمه الجواب، وينبغي أن يكون هذا الجواب شافيا كافيا مختصرا خاليا من التكلف في الألفاظ.
قال الخطيب البغدادي: «ويلزم المجيب أن يسد بالجواب موضع السؤال ولا يتعدى مكانة، ويجعل المثل كالممثل به، ويختصر في غير تقصير. وإن احتاج إلى البيان بالشرح أطال من غير هدر ولا تكدير، ويقابل باللفظ المعنى، حتى يكون غير ناقص عن تمامه ولا فاضل عن جملته».(3)
الفصل الثالث: آداب المتعلم عند الخطيب البغدادي.
المبحث الأول: آدابه مع نفسه
«ينبغي لمن اتسع وقته وأصح الله تعالى له جسمه، وحبب إليه الخروج من طبقة الجاهلين وألقي في قلبه العزيمة على التفقه في الدين، أن يغتنم المبادرة إلى ذلك خوفا من حدوث أمر يقتطعه عنه وتجدد حال يمنعه منه».(4)
وأول ما يلزم من أراد التعلم هو:
إخلاص النية لله:
__________
(1) - "الجامع" (1/415).
(2) - "الجامع" (2/103-104).
(3) - "الفقيه" (2/65)
(4) - "الفقيه والمتفقه" (2/170).(1/17)
فبالإخلاص يصير العلم عبادة وقربة إلى الله عز وجل. فعلى طالب العلم أن يصحح نيته في الطلب ويحذر من أن يكون قصده المباهاة ومماراة السفهاء قال تعالى: « وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء »(1)
قال الخطيب البغدادي: «... وليستعمل الجد في أمره، وإخلاص النية في قصده، والرغبة إلى الله في أن يرزقه علما يوفقه فيه ويبعده من علم لا ينتفع به... وليحذر أن يكون قصده فيما طلبه المجادلة به، والمماراة فيه، وصرف الوجوه إليه، وأخذ الأعواض عليه».(2)
وقال أيضا «ينبغي للطالب أن يخلص في الطلب نيته، ويجدد للصبر عليه عزيمته، فإذا فعل ذلك كان جديرا أن ينال منه بغيته»(3)
ملازمة خشية الله:
فعليه أن يتقي الله في السر والعلن، وذلك بأن يحافظ على شعائر الإسلام من صلاة وصيام وغير ذلك، دالا على الله بعلمه الذي يتعلمه وبعمله، متحليا بالرجولة والسمت الصالح، واجتناب ارتكاب الفواحش التي تسقط الكرامة وتذهب الرهبة.
قال الخطيب البغدادي: «وليجتنب ارتكاب المحرمات ومواقعة الأمور المحظورات ويأخذ نفسه باتباع أوامر الحديث والعمل به » ثم ساق سنده إلى يحيى بن يحيى قال: سأل رجل مالك بن أنس: يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء ؟ قال إن كان شيء فترك المعاصي».(4)
التحلي برونق العلم:
ومن ذلك مشيه على تؤدة من غير عجلة واجتنابه ما يتنافى مع ما يحمله من علم؛ وذلك كالأكل في الطريق ورفع الصوت وكثرة الضحك والوقوف مع الأراذل إلى غير ذلك.
وذكر الخطيب رواية لأنس قال «كان رسول الله T إذا مشى كأنه يتوكأ»(5) وقال شعبة «ما رأيت أحدا قط يغدو إلا قلت: مجنون أو صاحب حديث»(6)
استعماله السمت والهدي الحسن:
__________
(1) - "سورة البينة": الآية5.
(2) - "الفقيه والمتفقه" (2/171-172).
(3) - "الجامع" (2/179).
(4) - "الجامع" (2/258).
(5) - "الجامع" (1/151) و أخرجه أبو داوود في كتاب الأدب.
(6) - "الجامع" (1/152).(1/18)
قال الإمام مالك «إن حقا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعا لأثر من مضى قبله».(1)
وقد لخص الخطيب ذلك كله في قوله: «يجب على طالب الحديث أن يجتنب اللعب والعبث والتبذل في المجلس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم. وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة»(2)
وقال أيضا "ينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق القوام باستعمال آثار رسول الله T ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول : «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»(3)- (4)
ومن مظاهر ذلك أداء زكاة هذا العلم. فقد روى الخطيب عن بشر بن الحارث قال « يا أصحاب الحديث أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا يا أبا نصر كيف زكاته؟ قال اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وقال عمر بن قيس الملائي إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله»(5) .
فليست غاية التلميذ من تعلمه ودراسته هي مجرد التعلم فقط، وإنما الغاية من ذلك أولا هي تطبيق ما تعلم، ثم تبليغه لأهله ، وهنا يكمن الدور الأساسي للمدرسة.
ولأهمية هذا الأمر نجد الخطيب البغدادي وضع كتابا مستقلا في هذا الباب أسماه «اقتضاء العلم العمل ». وقد ساق فيه كلاما نفسيا رأيت أن أذكره: يقول: .. ثم إني أوصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة وليس يعد عالما من لم يكن بعلمه عاملا .. فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم ولا تأنس بالعلم ما كنت مقتصرا في العمل، ولكن أجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما.
__________
(1) - نفسه.
(2) - "الجامع" (1/156).
(3) - "سورة الأحزاب" الآية 21.
(4) - "الجامع" (1/142).
(5) - "الجامع" (1/144).(1/19)
وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته.
والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة، إذا تفضل الله بالرحمة، وتمم على عبده النعمة. فإما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والإسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل مع الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وخيمة .
والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة ، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم كان العلم كلا على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كلا، وأورث ذلا، وصار في رقبة صاحبه غلا.. وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلى لمن عمل بها وراعى واجباتها فلينظر امرؤ لنفسه، وليغتنم وقته فإن الثواء قليل والرحيل قريب والطريق مخوف والإغترار غالب والخطر عظيم والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، إليه المرجع والمعاد»(1).
المبحث الثاني: أدب الطالب مع شيخه
رعاية حرمة الأستاذ:
«بما أن العلم لا يؤخذ ابتداء من الكتب بل لابد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب، لتأمن من العثار والزلل، فعليك إذا بالتحلي برعاية حرمته فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق»(2) ومن ذلك:
- توقير مجلسه:
بحيث لا يكون فيه ما يخل بالمروءة والرجولة كالضحك بغير سبب وكثرة الكلام. فعن عبد الرحمان بن عمر قال «ضحك رجل في مجلس عبد الرحمان بن مهدي فقال من ضحك فأشاروا إلى رجل فقال تطلب العلم وأنت تضحك ؟ لا حدثتكم شهرا»(3)
- الإقبال عليه بوجهه
قال الخطيب ويجب أن تقبل على المحدث بوجهه، ولا يلتفت عنه ولا يسار أحدا في مجلسه »(4)
- هيبته له:
__________
(1) -" اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي"، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة 1404-1984، ص 15-16.
(2) - حلية طالب العلم ص 35.
(3) - "الجامع" (1/193).
(4) - "الجامع" (1/184).(1/20)
حيث يخافه كما يخاف الأمير لشرف ما يحمله، فقد ذكر الخطيب بسنده عن عبد الرحمان بن حرملة الأسلمي قال: «ما كان إنسان يجتزئ على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير» (1)
- الاستماع له حال الكلام :
يقول الخطيب «أول ما يلزم الطالب عند السماع أن يصمت ويصغي إلى استماع ما يرويه المحدث »(2) وفي هذا قوة للمحدث في درسه، فنشاطه يكون على قدر همة الطالب في السماع.
قال الأوزاعي : «حسن الاستماع قوة للمحدث »(3)
وقال الخطيب البغدادي:« حق الفائدة أن لا تساق إلا إلى مبتغيها، ولا تعرض إلا على الراغب فيها، فإذا رأى المحدث بعض الفتور من المستمع فليسكت، فإن بعض الأدباء قال:« نشاط القائل على قدر فهم المستمع»(4)
أدب السؤال:
ينبغي للتلميذ أن يحسن السؤال ففي ذلك تطييب خاطر الأستاذ وتودد إليه ومدعاة إلى الإقبال على السؤال والإجابة عنه.
ومن ذلك أنه إذا لم يبلغه صوت الأستاذ، أن يسأله سؤالا لطيفا يطلب فيه رفع صوته. قال الخطيب: « وإن لم يبلغه صوت الراوي، لبعده عنه، سأله أن يرفع صوته سؤالا لطيفا، لا سمجا، ولا عنيفا»(5)
وعليه أن يجتنب تكرار وإعادة الاستفهام لما قد اتضح عنده. وفي هذا يقول صاحبنا « وليتق إعادة الاستفهام لما فهمه، وسؤال التكرار لما قد سمعه وعلمه فإن ذلك يؤدي إلى إضجار الشيوخ ».(6)
ومن أدب السؤال أن لا يقاطع التلميذ الأستاذ أثناء الدرس ليريه أنه يعلم. وفي ذلك يقول الخطيب « وإذا روى المحدث خبرا قد تقدمت معرفته، فينبغي له أن لا يداخله في روايته ليريه أنه يعرف ذلك الحديث، فإن من فعل مثل هذا كان منسوبا إلى سوء الأدب ».(7)
__________
(1) - "الجامع" (1/195).
(2) - "الجامع" (1/195).
(3) - "الجامع" (1/330) سبق ذكره في أدب الشيخ مع تلامذته.
(4) - "الجامع" (1/198).
(5) - "الجامع" (1/196).
(6) - نفسه.
(7) - "الجامع" (1/200).(1/21)
ومن أدب السؤال أيضا أنه إذ عرض للتلميذ شيء خلال الدرس أراد أن يسأل عنه أن يصبر حتى ينتهي الأستاذ من الدرس، لأن في ذلك قطعا لكلامه ودرسه. قال الخطيب البغدادي: «ومن الأدب: إذا روى المحدث حديثا فعرض للطالب في خلاله شيء أراد السؤال عنه، أن لا يسأل عنه في تلك الحال، بل يصبر حتى ينهي الراوي حديثه، ثم يسأل عما عرض له»(1).
وقال أيضا: « لا ينبغي أن يستفهم من الفقيه حكم الفصل الذي يذكره له قبل أن يتمم الفقيه ذكره، فربما وقع له البيان عند انتهاء الكلام، قال الله تعالى: "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه"(2)فإذا انتهى كلام الفقيه ولم يبن له الحكم سأله عنه حينئذ، فإن شفاء العي السؤال»(3)
ومن كمال الفائدة أن يكون السائل حاضر الذهن سليم الطبع خالي القلب« وينبغي ألا يسأل الفقيه أن يذكر له شيئا إلا ومعه سلامة الطبع وفراغ القلب، لأنه إذا حضره ناعسا أو مغموما، أو مشغول القلب أو قد بطر فرحا، أو امتلأ غضبا لم يقبل قلبه ما سمع، وإن ردد عليه الشيء وكرر، فإن فهم لم يثبت في قلبه ما فهمه حتى ينساه وإن استعجم قلبه عن الفهم كان ذلك داعية للفقيه إلى الضجر وللمتعلم إلى الملل»(4)
ومن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها التلميذ مع معلمه؛ عدم الإكثار عليه وإملاله حتى لا يكون بذلك سببا لإضجاره والتشويش عليه، فإذا أجاب المحدث الطالب إلى مسألته وحدثه، فيجب أن يأخذ منه العفو ولا يضجره»(5) فقد سأل رجل الإمام مالك عن أربعة أحاديث، فلما سأله عن الخامس قال:«يا هذا ما هذا بأنصاف»(6) . قال أبو بكر: « والإضجار يغير الأفهام ويفسد الأخلاق، ويحيل الطباع»(7)
__________
(1) - "الجامع" (1/211).
(2) - "طه":الآية 114.
(3) - "الفقيه" (2/202).
(4) - "الفقيه" (2/203).
(5) - "الجامع" (1/214).
(6) - "الجامع" (1/215) ح 399.
(7) - "الجامع" (1/218).(1/22)
ومن الآداب التي ينبغي للطالب أن يتحلى بها مع شيخه احتماله عند الغضب والرفق به، فقد قيل لسفيان بن عيينة:«إن قوما يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك. قال هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي».(1)
ومن أدبه معه أن لا يقرأ أو لا يتكلم إلا إذا أذن له بذلك. على خلاف ما نراه اليوم في مدارسنا، بحيث نجد أن الكل يتكلم خلال طرح السؤال، فلا يستبين الأستاذ الجواب الصحيح والمجيب الموقف. وهي عادة سيئة اعتاد عليها تلامذة المدارس، تحتاج إلى جهد كبير من أجل طمسها.
قال أبو بكر: « ويجب على الطالب أن لا يقرأ حتى يأذن له المحدث »(2) «وإن أذن له المحدث في قراءة أحاديث عينها له، فينبغي أن لا يتعداها طلبا للزيادة عليها»(3)
المبحث الثالث: آدابه مع درسه.
تعلم النحو:
أول شيء يرغب فيه العلماء هو تعلم التلميذ النحو. وذلك حتى يسلم لسانه من اللحن وتسلم ألفاظه وعباراته من الخطأ وتكون بذلك سوية: « فينبغي للمحدث أن يتقى اللحن في روايته للعلة التي ذكرناها ولن يقدر على ذلك إلا بعد درسه للنحو ومطالعته علم العربية»(4) وقد ثبت« أن عمر رضي الله عنه قال تعلموا العربية، فأنها تزيد في المروءة »(5).
__________
(1) - "الجامع" (1/223).
(2) - "الجامع" (1/303).
(3) - "الجامع" (1/304).
(4) - "الجامع" (2/24).
(5) - "الجامع" (2/25).(1/23)
ومن أدب التلميذ الناجح الصلاة والسلام على رسول الله T كلما ذكر سواء كتابة أو شفاهة، وأن يجتنب كتابة بعض العبارات ك(صلعم) أو (ص) التي إن دلت على شيء فإنما تدل على بخل الإنسان، فقد قال النبي T «البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي»(1) ثم الترضي على صحابة رسول الله T مصداقا لقوله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا».(2) فالصحابة هم نقلة هذا الدين للناس فجزاهم الله خيرا ورضي الله عنهم وأرضاهم، والترضي عليهم من علامات محبتهم وتعظيم قدرهم.
وللتلميذ آداب مع أدواته. من ذلك أن لا يدقق خطه إلا للضرورة حتى تسهل قراءته والانتفاع به قال الخطيب البغدادي: « لا ينبغي أن يكتب الطالب خطا دقيقا إلا في حال العذر، مثل أن يكون فقيرا لا يجد من الكاغد سعة أو يكون مسافرا فيدقق خطه ليخف حمل كتابه. وأكثر الرحالين يجتمع في حاله الصفتان اللتان يقوم بهما له العذر في تدقيق الخط»(3).
بكوره إلى القسم وحلوله في الصفوف الأولى:
« فعن نافع مولى ابن عمر قال: سألت ابن عمر عن قول النبي T: اللهم بارك لأمتي في بكورها. فقال: في طلب العلم، والصف الأول».(4)
«وأما من جاء متأخرا فلا يجوز له الدخول من غير استئذان فمن فعل ذلك أمر بالخروج. وأن يستأذن ليكون تأديبا له في المستقبل»(5)
«ويكره له أن يقيم تلميذا ويجلس مكانه، وإن قام له من مجلسه بخياره». (6)
الفصل الرابع: نصائح لطلبة العلم مختارة ومنتقاة من كلام الخطيب البغدادي.
__________
(1) - "رواه الترمذي" وقال حديث حسن صحيح.
(2) - "سورة الفتح" آية 18.
(3) - "الجامع" (1/261).
(4) - "الجامع" (1/150).
(5) - "الجامع" (1/169) . بتصرف يسير.
(6) - "الجامع" (1/174).(1/24)
تعلم العلم شرف عظيم وغاية الموفقين، لهذا نجد الأولين تنافسوا في تحصيله وصبروا على متاعبه فنالوا بذلك العوالي وصاروا سادة القوم، وقد أثنى الله تعالى على العلماء في غير ما آية، من ذلك قوله تعالى: «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط »(1).
فقد جعل الله تعالى شهادة العلماء بالوحدانية بمنزلة شهادته وشهادة الملائكة بذلك.
ولما كان شرف هذا الأمر عظيم و خيره كثير، رأيت - بعد أن قدمت قدر المستطاع، بعض آداب العالم والمتعلم عند الخطيب - أن أرفق هذا البحث ببعض النصائح التي تساعد طالب العلم على الحفظ والتعلم.
من ذلك:
1- اجتناب ارتكاب المحرمات:
وقد سبق أن الخطيب رحمه الله قال:«وليجتنب ارتكاب المحرمات ومواقعة الأمور المحظورات»(2) وذلك كالزنا وشرب الخمر والتدخين والخلوة بالأجنبية ومصافحتها والكذب والغش في الامتحان و غير ذلك. فعلى الأستاذ أن ينبه التلميذ إلى هذه الأمور ويبين خطورتها وحكم الله فيها، وكذا ما تسببه من ذهاب بركة العلم وصعوبة الحفظ والاستيعاب وكثرة النسيان.
2- تعويد النفس على العمل بما تعلمت:
إذ بالعمل يسهل استيعاب الشيء وفهمه وهو أقرب إلى تقريره في الأذهان. و ليس هذا مقصورا على الإسلاميات فقط وإنما نجده في الفرنسية والعربية مثلا اللتان تحتاجان إلى تطبيقهما حتى يسهل على اللسان النطق بهما.
قال الخطيب «العلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة»(3)
3- أوقات الحفظ:
ذهب الإمام الخطيب إلى اختيار المطالعة ليلا مستندا إلى بعض من سبقه، معللا ذلك بسكون الليل وخلو القلب فيه وانقطاع الشواغل، وفراغ الذهن...
__________
(1) - "سورة آل عمران": الآية 18.
(2) - "الجامع" (2/258)
(3) - "اقتضاء العلم العمل"، للخطيب البغدادي، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة 1404-1984، ص 15.(1/25)
قال أبو بكر: « إنما اختاروا المطالعة بالليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ، ولهذا قيل لحماد بن زيد ما أعون الأشياء على الحفظ؟ قال: «قلة الغم» وليس يكون قلة الغم إلا مع خلو السر، وفراغ القلب، والليل أقرب الأوقات من ذلك»(1)
وقال أيضا: «اعلم أن للحفظ ساعات، ينبغي لمن أراد الحفظ أن يراعيها .. فأجود الأوقات: الأسحار، ثم يعدها وقت انتصاف في النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات. وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار. قيل لبعضهم بم أدركت العلم؟ فقال: "بالمصباح، والجلوس إلى الصباح.
وقيل لآخر ، فقال: بالسفر والسهر والبكور في السحر ».(2)
4-الجهر بالقراءة عند المطالعة:
وهذه قاعدة مهمة تساعد التلميذ وتسهل عليه عملية الحفظ. قال الخطيب البغدادي: "وينبغي لمن طالع في كتابه أن يجهر بقراءته قدر ما يسمعه».(3)
ويكرره حتى يتمكن منه لأن ما تكرر تقرر. فعن جعفر المراغي قال:«سمعت صالحا يصيح: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش».(4)
5- المذاكرة مع الأصحاب:
فكل ما تمت مذاكرته يرسخ في الأذهان ويسهل استيعابه لأنه قد يخفى عليك شيء يعرفه قرينك والعكس. فتحصل بذلك الفائدة ويعم النفع. قال الخليل ابن أحمد: « ذاكر بعلمك تذكر ما عندك، وتستفد ما ليس عندك».(5)
6- مراعاة المحفوظ:
__________
(1) - "الجامع" (2 ص 265).
(2) - "الفقيه والمتفقه"، (ج2/ص207).
(3) - "الجامع" (2/266).
(4) - "الجامع" (2/267).
(5) -"الجامع" (2/274).(1/26)
على التلميذ أي يتعاهد محفوظه من حين لآخر خشية النسيان. وقلما نجد من يطالع كتبه ويراعي محفوظاته ويتعهدها بالسقي من وقت لآخر. قال الخطيب البغدادي: «وينبغي أن يراعي ما يحفظه، ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة، ولا يغفل ذلك»(1). وحتى يتحقق للتلميذ هذا الغرض فعليه أن يقتصر على القدر الذي بإمكانه حفظه وتعاهده. قال أبو بكر: « ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يطيق، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه»(2) . و«اعلم أن القلب جارحة من الجوارح، تحتمل أشياء، وتعجز عن أشياء، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا... فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدار يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه، فإن ذلك أعون له على التعلم...»(3).
7- أماكن الحفظ:
فكما للحفظ أزمنة فإن له أمكنة، لهذا قال الخطيب:« وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها»(4)
«وأجودها الغرف دون السفل، وكل موضع بعد مما يلهي، وخلا القلب فيه مما يقرعه، فيشغله، أو يغلب عليه فيمنعه، وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار ولا على قوارع الطرق، فليس يعدم في هذه المواضع غالبا ما يمنع من خلو القلب وصفاء السر». (5)
ثم يضيف رحمه الله تعالى شيئا عجيبا، ألا وهو؛ متى يتمكن الإنسان من الحفظ أفي حالة الجوع أم في حالة الشبع؟ يقول : «وينبغي للمتحفظ أن يتفقد من نفسه حال الجوع، فإن بعض الناس إذا أصابه شدة الجوع والتهابه لم يحفظ، فليطفئ ذلك عن نفسه بالشيء الخفيف اليسير كمص الرمان وما أشبه ذلك. ولا يكثر الأكل»(6)
__________
(1) - "الفقيه والمتفقه" (2/203).
(2) - "الفقيه" (2/230).
(3) - "الفقيه و المتفقه" ( ج2/ ص 215).
(4) -" الفقيه والمتفقه" (ج2/ ص 207).
(5) - "الفقيه و المتفقه" (ج 2/208).
(6) - "الفقيه و المتفقه" (2/208).(1/27)
ثم قال: ومن أنفع ما استعمل – أي للحفظ – إصلاح الغذاء، واجتناب الأطعمة الرديئة وتنقية الطبع من الأخلاط المفسدة»(1)
الخاتمة
يتبين من خلال هذا البحث المتواضع الذي مر بين يديك والذي ضمنته مجموعة من الآداب الحميدة والمناهج الرشيدة، التي على المدرس والمتعلم أن يتحلى بها، يتبين من خلاله أن سبيل الرقي والازدهار إنما هو في تمثل هذه الآداب.
فما رقي الأوائل إلى بتطبيق هذه الأخلاق التي تهم المدرس مع نفسه ومع تلامذته ومع درسه.
ولا يخفي على كل عاقل أريب أن المناهج الحديثة استفادت من مناهج المسلمين في التربية والتعليم إبان ازدهار الأمة الإسلامية، ولكنهم لم يتوقفوا عند هذا الحد بقدر ما حاولوا تطوير تلك المناهج، وخرجوا بآراء جديدة مغلفة بثوب الحداثة، انبهر بها المغمورون الذين تخلو عن حضارتهم وتاريخهم، وابتغوا سبيل المشركين، فصدق فيهم قول الشاعر :
ومن العجائب والعجائب جمة ... ... قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... ... والماء فوق ظهورها محمول
فعليك أخي المسلم، أختي المسلمة العودة إلى التاريخ الإسلامي لقراءته من جديد بنظرة متبصرة محايدة، حتى يتبين لك صدق ما قيل.
وما هذا البحث الذي بين يديك إلى نقطة من بحر تاريخ هذه الأمة المجيد.
إننا بحاجة ماسة إلى الضرورة إعادة النظر في تراث هذه الأمة لنستخلص منه كل ما يمكننا الاستفادة منه، سواء في ميدان التربية والتعليم أو في الاقتصاد أو في السياسة أو في علم الاجتماع أو غير ذلك من ميادين الحياة.
ولعل هذا البحث يكون منطلقا لهذا المشروع الضخم الذي يحتاج إلى علماء وأطر أكفاء في كل الميادين، لتحقيق الغرض المنشود ألا وهو؛ الرقي بهذه الأمة إلى مستوى الأمم المتقدمة من خلال الرجوع إلى تراثها وتاريخها الصحيح ومحاولة تطويره وتجديده مع مراعاة القيود والضوابط الشرعية.
__________
(1) - "الفقيه و المتفقه" (2/231).(1/28)
و كتب عبد الفتاح بن محمد ورتي عامله الله بلطف خفي والصلاة والسلام على النبي الأمي سيدنا محمد وآله و صحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أمين والحمد لله رب العالمين.
لائحة المصادر والمراجع المعتمدة
1- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
2- "نزهة النظر في شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الكريم الفضيلي، نشر المكتبة العصرية، الطبعة الأولى 1418-1998
3- -" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي"، تحقيق الدكتور محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 1403-1983
4- "ملحمة الإعراب"، لأبي محمد القاسم الحريري البصري، تحقيق علي حسن، دار عمان .
5- "معجم الأدباء"، لياقوت الحموي، دار الكتب العلمية، 1411-1991،
6- "" اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي"، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة 1404-1984
7- سير أعلام النبلاء"، للإمام شمس الدين الذهبي، دار الفكر، 1414- 1994
8- الفقيه و المتفقه، للخطيب البغدادي، تحقيق العزوزي، دار ابن الجوزي، 1407-1996.
9- حلية طالب العلم، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، 1415.
10- القاموس المحيط للفيروزآبادي، الطبعة السادسة 1419/1998، مؤسسة الرسالة، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة.
الفهرس
- المقدمة..............................................................ص1
- الفصل الأول: ترجمة الخطيب البغدادي................................ص5
- المبحث الأول: نشأته وطلبه للعلم (اسمه ونسبه وولادته ونشأته، طلبه للعلم ووفاته)......ص5
- المبحث الثاني: مناقب وأخلاقه وأقوال العلماء فيه:............ ........................ص6
- مناقبه وأخلاقه...........................................................ص6(1/29)
- أقوال العلماء فيه.........................................................ص6
- المبحث الثالث: شيوخه وتلامذته وكتبه..............................................ص7
- شيوخه.................................................................ص7
- تلامذته.................................................................ص7
... ... - مصنفاته................................................................ص8
- الفصل الثاني : آداب العالم..........................................ص9
- المبحث الأول: آداب المحدث مع نفسه..............................................ص9
- الإخلاص لله تعالى............................................... ......ص9
- ملازمة خشية الله تعالى..................................................ص10
- خفظ الجناح ونبذ الخيلاء و الكبرياء......................................ص10
- التحلي بالرفق..........................................................ص11
- التحلي برونق العلم.....................................................ص11
- لباسه ومظهره..........................................................ص12
- المبحث الثاني: أدبه مع تلاميذه....................................................ص14
- كراهة التحديث لمن عارضه الكسل والفتور..............................ص14
- تحري الصدق..........................................................ص15
- كراهة الإملال.........................................................ص16
... ... - مراعاة مستوى المتعلمين.................................................ص16
- تفقده التلاميذ..........................................................ص16
- المبحث الثالث: أدبه مع درسه.....................................................ص17(1/30)
- الافتتاح بالتسمية والحمد................................................ص17
... ... - لا حياء في تعلم أمور الدين.............................................ص17
- اجتناب الضجر والملل..................................................ص18
- اهتمامه المجالس التي بجانبه...............................................ص19
- استحباب التمهل في الكلام وكراهة الإسراع فيه..........................ص19
- الصلاة على النبي Tكلما ذكر والترضي على الصحابة رضي الله عنهم.....ص19
- طريقة الجواب..........................................................ص20
- الفصل الثالث: آداب المتعلم عند الخطيب............................ص21
- المبحث الأول : آدابه مع نفسه.....................................................ص21
- إخلاص النية لله........................................................ص21
... ... - ملازمة خشية الله.......................................................ص21
- التحلي برونق العلم.....................................................ص22
- استعماله السمت والهدي الحسن.........................................ص22
- المبحث الثاني: آداب الطالب مع شيخه.............................................ص24
- رعاية حرمة الأستاذ....................................................ص24
- أدب السؤال...........................................................ص25
- المبحث الثالث: أدبه مع درسه.....................................................ص27
- تعلم النحو............................................................ص27
... ... - بكوره إلى القسم وحلوله في الصفوف الأولى.............................ص28
- الفصل الرابع : نصائح لطلبة العلم مختارة ومنتقاة من كلام الخطيب..ص29(1/31)
1- اجتناب ارتكاب المحرمات.....................................................ص29
2- تعويد النفس على العمل بما تعلمت............................................ص29
3- أوقات الحفظ................................................................ص30
4- الجهر بالقراءة عند المطالعة....................................................ص30.
5- المذاكرة مع الأصحاب......................................................ص31
6- مراعاة المحفوظ...............................................................ص31
7- أماكن الحفظ................................................................ص31
- الخاتمة..............................................................ص33
- لائحة المراجع والمصادر............................................ص35(1/32)