الاستغفار
فضائل وثمرات
المقدمة
إنَّ الحمدَ لله نحمَدُه، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له .
وأشهد أنّ لا إله إلاّ اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) } (1)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا اتب. } . (2)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } (3)
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
لما قضى الله أن كل ابن آدم خطّاء فقد منَّ عليهم بفضله وكرمه أن جعل خير الخطائين التوابون، وحث الله ورسوله على التوبة والاستغفار ، بل إن خير البشر عليه الصلاة والسلام الذي غفرالله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يشحذ هممنا بقوله: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (4)
__________
(1) سورة آل عمران .
(2) سورة النساء .
(3) سورة الأحزاب .
(4) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم( 6768)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1515). والحديث عن الأغر المزني وكانت له صحبة .(1/1)
وقد كان الصحابة يحصون للنبي أكثر من سبعين استغفارا في المجلس الواحد، حيث قال : "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (1)
فإذا كان هذا حال رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعل هذا فنحن من باب أولى نداوم على التوبة والاستغفار ، وهنيئاً لمن وجد في صحيفته عند موته استغفاراً كثيراً ، حيث ثبت عن النبي أنه قال: "من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار". (2)
قال ابن قيم الجوزية: إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته وقد كان رسول الله إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج ومدحهم على الاستغفار عقيب قيام الليل وشرع النبي عقيب الطهور التوبة والاستغفار فمن شهد واجب ربه ومقدار عمله وعيب نفسه : لم يجد بدا من استغفار ربه منه واحتقاره إياه واستصغاره وأما القيام بها فهو توفيتها حقها وجعلها قائمة كالشهادة القائمة والصلاة القائمة والشجرة القائمة على ساقها التي ليست بساقطة وقوله: من غير نظر إليها أي من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها مخافة العجب والمنة بها فيسقط من عين الله ويحبط عمله. (3)
- - -
ما جاء في فضل الإستغفار
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } (4) .
__________
(1) رواه البخاري (11/101) والحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول.
(2) صحيح الجامع حديث رقم (5955) ، والحديث عن الزبير ô .
(3) مدارج السالكين (2/62)
(4) سورة آل عمران .(1/2)
الاستغفار : غفر الغَفُورُ الغَفَّارُ ، جلّ ثناؤه ، وهما من أَبنية المبالغة ، ومعناهما الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم . يقال : اللهمَّ اغفر لنا مَغْفرة و غَفْراً و غُفْراناً، وإِنك أَنت الغَفُور الغَفَّار يا أَهل المَغْفِرة. وأَصل الغَفْرِ التغطية والستر : غَفَرَ الله ذنوبه، أَي سترها. (1)
وقال تعالى: { فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } .
وقال الله سبحانه وتعالى { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أَفْوَجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوِبَا } .
قال الشيخ ابن عثيمين: والاستغفار هو طلب المغفرة. والمغفرة ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها، وهذا غاية ما يريد العبد، لأن العبد كثير الذنب يحتاج إلى مغفرة إن لم يتغمده الله برحمته هلك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".
لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابلة نعمة من النعم، نعمة واحدة لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا قال بعض العارفين في نظم له:
إذا كان بشكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر { إنه كان تواباً } أي: لم يزل عز وجل تواباً على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة.
__________
(1) لسان العرب (5/25).(1/3)
وقال ابن القيم: وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار ولابد في انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله : فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار . (1)
وقال سبحانه وتعالى عن نبيه نوح : - صلى الله عليه وسلم - { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) } (2) .
رغب الله تعالى بمغفرة الذنوب وما يترتب عليها من الثواب واندفاع العقاب بعد ما يتوبوا ويستغفروا الله تعالى من ذنوبهم.
عن يزيد بن الاصم قال سمع عمر بن الخطاب رجلا يقول استغفر الله وأتوب إليه، فقال عمر ويحك اتبعها أختها فاغفر لي وتب علي" . (3)
وعن عبدالله بن بسر ، وعن عائشة، وعن أبي الدرداء موقوفا: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا" (4) .
وعن الزبير: "من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار" (5) .
قال المناوي في فيض القدير : "من أحب أن تسره صحيفته"، أي صحيفة أعماله إذا رآها يوم القيامة .
__________
(1) إغاثة اللهفان (2/187).
(2) سورة نوح .
(3) كتاب الزهد لابن أبي عاصم (1/118) .
(4) صحيح الجامع حديث رقم (3930) .
(5) صحيح الجامع حديث رقم (5955) .(1/4)
"فليكثر فيها من الاستغفار"، فإنها تأتي يوم القيامة تتلألأ نوراً كما في خبر آخر ، قال في الحلبيات: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير ، والثاني نافع جداً، والثالث أبلغ منه لكن لا يمحصان الذنوب حتى توجد التوبة ، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه، قال: وما ذكر من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند الناس أن لفظ أستغفر اللّه معناه التوبة فمن اعتقده فهو يريد التوبة لا محالة وذكر بعضهم أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لآية : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } . (1) ،والمشهور عدم الاشتراط.انتهى .
وعن الأغر : "استغفروا ربكم إني استغفر الله و أتوب إليه كل يوم مئة مرة" . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (3) .
والاستغفار : هو طلب المغفرة وهي الصفح عن الذنب وتبديله.
وتكفير الذنوب على قسمين:
الأول : المحو كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "واتبع السيئة الحسنة تمحها " وهذا مقام العفو .
الثاني : التبديل كما في قوله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } (4) . وهذا مقام المغفرة.
فالمغفرة فيها زيادة إحسان وتفضل على العفو وكلاهما خير وبشرى .
والتوبة : هي ترك المعصية ، والإقلاع عنها في الحال ، والندم على فعلها ، والعزم على عدم العودة لها ، وإرجاع الحقوق إلى أهلها .
__________
(1) سورة هود الآية (3)
(2) صحيح الجامع حديث رقم (944) .
(3) رواه البخاري (11/101) فتح.
(4) سورة الفرقان الآية (70).(1/5)
وهذا حضٌ للأمة على الاستغفار والتوبة منه - صلى الله عليه وسلم - مع كونه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه.
وفيه حضٌ للعبد على الإكثار من التوبة والإستغفار لأن العبد لا ينفك عن ذنب أو تقصير وإنه إلى الله المصير كما قال - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" (1) .
قال النووي رحمه الله تعالى : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزماً جازماً أن لا يعود إلى مثلها أبداً ، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو: ردّ الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه والتوبة أهم قواعد الإسلام وهي : أول مقامات سالكي طريق الآخرة .
وعن أبي أيوب أنه قال: حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لو لا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم" (2) .
وعنه - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لولا أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم" (3) .
وعن الأغر المزني وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (4) .
__________
(1) رواه مسلم عن الأغر بن يسار المزني - رضي الله عنه - برقم (6799).
(2) رواه مسلم في كتاب التوبة برقم (6797)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3539).
(3) رواه مسلم في كتاب الدعوة برقم (6869)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3539).
(4) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم( 6768)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1515).(1/6)
الغين هنا:ما يتغشى القلب قال القاضي : قيل المراد: الفترات والغفلات عن الذكر كان شأنه الدوام عليه فإذا فتر عنه أو غفل عدَّ ذلك ذنباً واستغفر منه .
وعن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وأذا حدثني من أصحابه استحلفته فإذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من عبد يذنب ذنباً فيُحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له" ثم قرأ هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } . (1)
فيُحسن الطهور : أي يتم الوضوء .
وعن أبي مالك عن أبيه ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال يا رسول الله : كيف أقول حين أسأل ربّي عز وجل ، قال قل " اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني" ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك" (2) .
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة (3) .
__________
(1) صحيح الجامع رقم (5738) .
(2) رواه مسلم برقم (6791) في كتاب الذكر والدعاء، وابن ماجه في الدعاء برقم (3845)
(3) أخرجه البخاري (11/97-99).(1/7)
هذا الدعاء جامع لمعاني التوبة كلها مع الإقرار لله بالإلوهية والإعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه بما وعده به الاستعاذة من شر النفس وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو كل هذا مسبوك ببديع المعاني وأحسن الألفاظ ولذلك سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد الاستغفار.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكته سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } . (1) . (2)
قال المناوي في فيض القدير : إن العبد ، في رواية إن المؤمن "إذا أخطأ خطيئة" في رواية "أذنب ذنباً نكتت" بنون مضمومة وكاف مكسورة ومثناة فوقية مفتوحة في قلبه لأن القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يطبع عليه نكتة أي أثر قليل كنقطة سوداء في صقل كمرآة وسيف ، وأصل النكتة نقطة بياض في سواد وعكسه ، قال (بعض السلف ) : وفي إشعاره إعلام بأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر .
قوله: فإن هو نزع : أي قلع عنه وتركه واستغفر اللّه وتاب إليه توبة صحيحة ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة إذ هما من أركانهما اهتماماً بشأنهما .
وفوله: صقل ، وفي نسخة ، سقل بسين مهملة أي رفع اللّه تلك النكتة فينجلي قلبه بنوره كشمس خرجت عن كسوفها فتجلت .
وقوله: زيد : بالبناء للمفعول فيها نكتة أخرى وهكذا .
__________
(1) المطففين (14) .
(2) صحيح الجامع حديث رقم (1670) .(1/8)
وقوله: حتى تعلو على قلبه ، أي تغطيه وتغمره وتستر سائره كمرآة علاها الصدأ فستر سائرها وتصير كمنخل وغربال لا يعي خيراً ولا يثبت فيه خير ومن ثم قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر أي رسوله باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته يصير لا يقبل خيراً قط فيقسو ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف فيرتكب ما شاء ويفعل ما أراد ويتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فيضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يقنع منه بدون الكفر ما وجد إليه سبيلاً { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } . (1)
__________
(1) سورة النساء الآية (119) .(1/9)
وقوله: وهو الران ، أي الطبع الذي ذكره اللّه تعالى في كتابه بقوله عز قائلاً { كلا بل ران } ، أي غلب واستولى على قلوبهم الصدأ والدنس { ما كانوا يكسبون } من الذنوب، قال القاضي: المعنى بالقصد الأول في التكليف بالعمل الظاهر والأمر بتحسينه والنهي عن قبيحه هو ما تكتسب النفس منه من الأخلاق الفاضلة والهيئات الذميمة فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة ، فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس صقيلة صافية وإن انهمك وأصر زاد الأثر وفشي في النفس واستعلى عليها فصار طبعاً وهو الران، وأدخل التعريف على الفعل لما قصد به حكاية اللفظ فأجرى مجرى النفس وشبه ثائر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث كونهما يضادان الجلاء والصفاء وأنث الضمير الذي في كانت العائد لما دل عليه أذنب لتأنيثها على تأول السيئة.(1/10)
إلى هنا كلامه، قال الطيبي: وروي نكتة بالرفع على أن كان تامة فلا بد من الراجع أي حدث نكتة منه أي من الذنب قال المظهري: وهذه الآية نازلة في حق الكفار لكن ذكرها في الحديث تخويفاً للمؤمنين ليحترزوا عن كثرة الذنوب لأن المؤمن لا يكفر بكثرتها لكن يسود قلبه بها فيشبه الكفار في اسوداده فقط وقال الحكيم: الجوارح مع القلب كالسواقي تصب في بركة وهي توصل إلى القلب ما يجري فيها فإن أجري فيها ماء الطاعة وصل إلى القلب فصفا ، أو ماء المعصية كدر وأسود فلا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم ، وقال الغزالي : القلب كالمرآة ومنه الآثار المذمومة كدخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب فلا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى حتى يسود ويظلم ويصير محجوباً عن اللّه تعالى وهو الطبع والرين ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويهتم بها وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وأخطارها دخل من أذن وخرج من أخرى ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة { قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } . (1)
تنبيه قيل لحكيم:لم لا تعظ فلاناً قال ذاك على قلبه قفل ضاع مفتاحه فلا سبيل لمعالجة فتحه .
فائدة: قال حجة الإسلام: لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان من السعداء ظهر السواد على ظاهره لينزجر وإلا أخفى عنه لينهمك ويستوجب النار.
قال العلقمي:هو شيء يعلو على القلب كالغشاء الرقيق حتى يسود ويظلم .اهـ.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه غُفرت ذنوبه وإن كان قد فرَّ من الزحف". (2)
تعظيم الإستغفار وأنه يُكفر الكبائر،فضل المدامومة على الاستغفار.
__________
(1) سورة الممتحنة آية (13) .
(2) صحيح أبي داود (1343).(1/11)
و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيُحسن الطهور ثم
يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء" . (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" . (3)
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَمّ فرجاً ومن كل ضيقٍ مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب" (4) .
ويذكر ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كثرت همومه وغمومه
فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" (5) .
وثبت في الصحيحين : أنها كنز من كنوز الجنة . (6)
وفي الترمذي : "أنها باب من أبواب الجنة". (7)
__________
(1) رواه أبو داود (1343).وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (1521).
(2) رواه مسلم (1/350) .
(3) صحيح أبي داود (3/183) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة برقم (1518) ، وابن ماجه في الأدب برقم (3819) وأحمد في مسنده (2234/1)، والطبراني في الدعاء (1774)، والنسائي (456) في (عمل اليوم والليلة)، والحاكم (4/ 262)، والبيهقي (3/351)، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) برقم (364)، والمزي في تهذيب الكمال (5/107) ط دار الفكر. وضعفه الألباني في سنن أبي داود برقم (1518).
(5) ذكره البيهقي في الطب النبوي (ص24) والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (7/179)، وصححه الألباني في الصحيحة (199)، التوسل (ص133) ، المشكاة (2452).
(6) أخرجه البخاري في الدعوات برقم (3592)، ومسلم في الذكر والدعاء برقم (2704).
(7) في الدعوات برقم (3592).(1/12)
قال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء فإن لم تقوَ على إذهاب داء الهم والغم والحزن فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ويحتاج إلى استفراغ كلي .
الأول: توحيد الربوبية. الثاني : توحيد الإلوهية.
الثالث: التوحيد العلمي الإعتقادي.
الرابع : تنزيه الربُّ تبارك وتعالى عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء وهو أسماؤه وصفاته ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات الحيُّ القيوم.
السابع : الإستعانة به وحده .
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه والإعتراف له بأن ناحيته في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماضٍٍ فيه حكمه عدلٌ فيه قضاؤه .
العاشر : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات وأن يتسلى به عن كل فائت ويتعزى به عن كل مصيبة ويستشفي به من أدواء صدره فيكون جلاء حزنه وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الإستغفار. الثاني عشر : التوبة .
الثالث عشر: الجهاد. الرابع عشر : الصلاة .
الخامس عشر البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده .أ.هـ. (1)
__________
(1) زاد المعاد (4/159-160).(1/13)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (1) .
فيه بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى.
والإيمان بالله شرط في مغفرة الذنوب فإن الله لا يغفر أن يشرك به ولا يغفر لمشرك وإذا تاب العبد من ذنوبه توبة نصوحاً غفرها الله له ولو كانت ملئ الأرض أو بلغت عنان السماء.
قوله: عنان السماء بفتح العين قيل هو السحاب وقيل:هو ما عنَّ لك منها أي ظهر قراب الأرض بفتح القاف وروي بكسرها والضم أشهر وهو ما يقارب ملأها .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن الله عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم" (2) . الحديث.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (3540) وللحديث شاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه أحمد (5/132) والدارمي (2/322) من طريق غيلان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب عنه به، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (ص595)، المشكاة (4336) .
(2) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2577) ، وابن ماجه.
(3) رواه مسلم في كتاب التوبة برقم (6899).(1/14)
وكما هو معلوم أن الله قد شرع الاستغفار بعد كل طاعة، بعد الصلاة، وبعد الحج، وبعد قيام الليل وهكذا .
قال ابن قيم الجوزية: وكمال العبودية من الحياء والمراقبة والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدي الله في العمل له، ومن علم هذا علم السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار ، ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال: كان رسول الله إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا ، وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، قال تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل، قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحج فقال ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم وشرع رسول الله للمتوضىء أن يختم وضوءه بالتوحيد والاستغفار فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلا . (1)
ffffff
الاستغفار والاستسقاء
قال تعالى: { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا } .
وعن جابر بن عبد الله قال: أتت النبي بواك فقال : "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل، فأطبقت عليهم السماء" . (2)
__________
(1) طريق الهجرتين (1/469)
(2) رواه أبو داود ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1036)، ومشكاة المصابيح برقم (1507)، والكلم الطيب برقم (152).(1/15)
وعن عائشة: شكا الناس إلى رسول الله قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المعلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال "إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" ثم قال "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغا إلى حين" ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس فنزل فصلى ركعتين فأنشأ الله عز وجل سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى فلم يأت مسجده حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى السكن ضحك النبي حتى بدت نواجذه وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله". (1)
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو : كان رسول الله إذا استسقى قال: "اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت" قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزلون بها المطر ثم قرأ { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا } { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى. (2)
ffffff
ما جاء في كلمات يقولها المدين والمهموم والمكروب والمأسور
__________
(1) رواه أبو داود والحاكم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1040)، ومشكاة المصابيح برقم (1508)، وصحيح الجامع برقم (4074).
(2) صححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1043).(1/16)
عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال: " يا أبا أُمامة مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة" ؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله ، قال: " أفلا أُعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟" قلت: بلى يا رسول الله ، قال: " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " قال: فقلتهن، فأذهب الله همي وقضى عني ديني" (1) .
وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة" (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في آخر كتاب الصلاة برقم (1555) من طريق احمد بن عبيد الله الغداني. وضعفه الألباني في سنن أبي داود برقم (1555).
(2) أخرجه ابن السُني في " عمل اليوم والليلة " برقم (71) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - . وأبو داود في الأدب برقم (5081) موقوفاً على أبي الدرداء - رضي الله عنه - .(1/17)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وأما حديث أبي أمامة اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن فقد تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان فالهم والحزن أخوان والعجز الكسل أخوان والجبن والبخل أخوان وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان فأن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه أمرا ماضيا فيوجب له الحزن وإن كان امرا متوقعا في المستقبل أوجب الهم وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليها وإما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز أو من عدم الإرادة وهو الكسل وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه إما أن يكون منع نفعه ببدنه فهو الجبن أو بماله فهو البخل وقهر الناس له إما بحق فهو ضلع الدين أو بباطل فهو غلبة الرجال فقد تضمن الحديث الاستعاذة من كل شر وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب حتى إن أهلها إذا قضوا منها أو وطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم كما قال شيخ الفسوق وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وإذا كان هذا تأثير الذنوب والاثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار . اهـ . (1)
وعن علي - رضي الله عنه - ، أن مكاتباً جاءه فقال: إني قد عجزت عن مكاتبتي فإعني . قال : ألا أُعلمك كلماتٍ علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان عليك مثل جبل (صبير) ديناً أداه الله عنك؟ قل: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك". (2)
جبل صُبير :هو بالصاد المهملة :اسم جبل باليمن. قاله في "النهاية".
__________
(1) حاشية ابن القيم (1/163) .
(2) رواه الترمذي واللفظ له، والحاكم وقال : (صحيح الإسناد) ، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (1820) ، وصحيح الجامع برقم (2625) .(1/18)
قال المناوي في فيض القدير : أداه اللّه عنك إلى مستحقه وأنقذك من مذلته قال : بلى قال : قل اللّهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك من الخلق وفيه وفيما قبله وبعده أنه ينبغي للعالم أن يذكر للمتعلم أنه يريد تعليمه وينبهه على ذلك قبل فعله ليكون أوقع في نفسه فيشتد تشوقه إليه وتقبل نفسه عليه فهو مقدمة استرعى بها نفسه لتفهيم ما يسمع ويقع منه بموقع . اهـ .
و عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حَزَن فقال: " اللهم إني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري ، وجلاء حزني، وذهاب همي".
إلا أذهب الله عز وجل هَمَّهُ، وأبدَلَهُ مكان حزنِهِ فرحاً" قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات ؟ قال: " أجل : ينبغي لمن سَمِعَهُنَّ أن يتعلمَهُنَّ". (1)
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فإنه لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" (2) .
__________
(1) رواه أحمد والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه، والحاكم ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم(199) والترغيب برقم (1822).
(2) رواه الترمذي واللفظ له ، والنسائي والحكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1826).(1/19)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : وأما دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزية للرب تعالى واعتراف العبد بظلمة وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم وأبلغ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء حوائجه ، فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال لله وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه ، والاعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ويوجب انكساره ورجوعه إلى الله واستقالة عثرته والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربه ، فمنها أربعة أمور قد وقع التوسل بها التوحيد والتنزيه والعبودية والاعتراف . اهـ. (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم ، لا إله إلا الله ربُّ السماوات والأرض وربّ العرش الكريم" (2) .
قال المناوي: كان يدعو عند الكرب ، أي عند حلوله يقول لا إله إلا اللّه العظيم الذي لا شيء يعظم عليه الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم ، وفي رواية بدل العظيم والكريم المعطي تفضلاً روي برفع العظيم والكريم على أنهما نعتان للرب، والثابت في رواية الجمهور الجر نعت للعرش .
قال الطيبي: صدر الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية لا إله إلا اللّه رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم ، قالوا هذا دعاء جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند العظائم فيه التهليل المشتمل على التوحيد ، وهو أصل التنزيهات الجلاليه والعظمة الدالة على تمام القدرة والحلم الدال على العلم إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم ، وهما أصل الأوصاف الإكرامية .
__________
(1) حاشية ابن القيم (1/162) .
(2) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6346)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2730).(1/20)
قال الإمام ابن جرير : كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب، وهو وإن كان ذكراً لكنه بمنزلة الدعاء لخبر من شغله ذكري عن مسئلتي.اهـ.
وأشار به إلى رد ما قيل هذا ذكر لا دعاء ولما كان في جواب البعض بأن المراد أنه يفتتح دعاءه به فائدة: قال ابن بطال: عن أبي بكر الرازي كنت بأصبهان عند أبي نعيم وهناك شيخ يسمى أبا بكر عليه مدار الفتيا فسعى به عند السلطان فسجن فرأيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر فقال لي المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم قل لأبي بكر يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج اللّه عنه فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكن إلا قليلاً حتى أخرج.اهـ.
ffffff
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه فهو أبدا إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وقال تعالى وبالأسحار هم يستغفرون قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم وقال تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة وشرع للمتوضىء أن يقول بعد وضوئه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهذه توبة بعد الوضوء وتوبة بعد الحج وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين فهو لا يزال مستغفرا تائبا وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره . (1)
وبالختام نسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول في العمل وتطبيق شرع ربنا كما علمنا نبينا $ وعلى فهم سلفنا رضوان الله عليهم جميعاً.
وبهذا تم الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأرجو الله أن تكونوا قد انتفعتم به، وأن تعملوا به.وأن يعم به النفع .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .
__________
(1) طريق الهجرتين (1/333)(1/21)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد إن لا إله ألا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
وكتبه/ ماجد إسلام البنكاني
أبو أنس العراقي
11/ربيع الأول/1430هـ .
الموافق 8/3/2009 م(1/22)