الاستذكار
لشأن وآثار الاستغفار
تأليف الفقير إلى عفو ربه القدير
عبد الله بن صالح القصير
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، العفو الغفور، وصلى الله وسلم على نبينا محمد أشرف التوابين وسيد المستغفرين، الذي جمع ما بين كمال العبادة وكثرة الاستغفار، فكان يلهج بالاستغفار آناء الليل وآناء النهار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خير المستغفرين بعد المرسلين والنبيين.
أما بعد:
فهذه تذكرة بشأن الاستغفار تتضمن بيان معناه، وما يتحقق به وهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، والإشارة إلى جملة من فضائله الجليلة وعواقبه الحسنة على المستغفر وغيره في العاجل والآجل.
أسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه موجبه للزلفى لديه، وصلى الله علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قاله وكتبه الفقير إلى عفو ربه
عبد الله بن صالح القصير
19/4/1424هـ
أولاً: تعريف الاستغفار وحقيقته
الاستغفار: هو طلب المغفرة، أي سؤال الله المغفرة وهي الستر والصفح والمعافاة من عقوبة الذنب وآثاره المترتبة عليه في الدنيا والآخرة مع غاية طم|ءئئ ... ع المستغفر برحمة أرحم الراحمين وفضل ذي الفضل العظيم أن يمن بالمغفرة فيمحو السيئة ويصرف العقوبة، وأن يبدل السيئة حسنة، ويرفع بها العبد درجات عنده في الدنيا والآخرة.
- - -
ثانياً: آلات الاستغفار
يكون الاستغفار بالقلب واللسان والجوارح:
1- فاستغفار القلب هو إقراره بعظيم نعم الله على العبد واعترافه بخطيئته وظلمه لنفسه وتقصيره في حق ربه بجرأته على محارمه وندمه على ما جرى منه وعزمه على أن لا يعود إليه، وخوفه من خطر ذلك عليه في العاجل والآجل إن لم يتجاوز الله عنه ويغفر له.
2- واستغفار اللسان هو مناجاته لله وابتهاله إليه في طلب المغفرة، وإبداء المعذرة ودفع أثر السيئة بالحسنة التي تضادها كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله».(1/1)
3- واستغفار الجوارح هو تصديقها للقلب واللسان وذلك بالإنكفاف عن المعاصي ومباشرة أسباب المغفرة من فعل الطاعات والتقرب بالأعمال الصالحات التي وعد الله أهلها واسع المغفرة وعظيم المثوبة ولابد أن تكون حال المرء شاهدة على صدق استغفاره وذلك بأن يظهر عليه الندم على فعل السيئات وأن يهجر مواطنها وأصحابها وأحوال أهلها، وأن يصبر نفسه مع أهل الاستقامة والتقوى وأن يظهر عليه السرور والاغتباط ونحو ذلك من علامات صدق التوبة.
فإن أسعد الناس بأكمل ثواب المغفرة العاجل والآجل أصدقهم لله استغفاراً بالقلب واللسان والجوارح والحال وأعظمهم لزوماً للاستغفار وأكثرهم لهجاً به في كل حال وأدباً مع الله ذي العزة والجلال. فالمستغفرون على هذا النحو أولئك الذين وعدهم الله أن يتغمدهم بواسع رحمته وأن يعمهم بعميم مغفرته وأن يجود عليهم إحساناً منه وفضلاً فيبدل سيئاتهم حسنات ويرفعهم في أعلى الدرجات ويفتح لهم من أبواب الخير ويهيئ لهم من أسباب السعادة ما لا يخطر لهم على بال أو يدور في خيال، نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا منهم ووالدينا وذرياتنا وأهلينا وذوينا إنه هو الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم.
- - -
ثالثاً: منزلة الاستغفار ونهج المصطفين الأخيار فيه(1/2)
الاستغفار دليل من أدلة التوحيد، وأثر مبارك من آثاره وسبب عظيم من أسباب الخير وسلم يرتفع به العبد بحسب استغفاره إلى أعلى الدرجات فإن المستغفر باستغفاره يعلن إقراره للرب بالتفرد بأفعاله الربوبية وصفات الإلهية والتزامه لله تعالى بالعبودية واضطراره إليه في كل حال وهو بذلك يتبرأ من الحول والقوة ويعترف أنه لا يستغنى عن ربه طرفة عين ولا يأمن من شؤم ذنبه لحظة وهو باستغفاره يسعى حثيثاً في التخلص من آثار الخطايا إلى الفوز بأكرم وأجل العطايا من رب البرايا ؛ولذلك كان أعظم الناس لله استغفاراً وأكثرهم له عبودية وافتقاراً هم المصطفون من عباد الله من أنبيائه ورسله وصالحي عباده كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن لما فيه من العبرة والهداية والتسلية والقدوة الحسنة للمؤمنين والذكرى للمتذكرين فقد عد الله تعالى الاستغفار من جليل أعمال المصطفين وكريم خصالهم.
فجاء في قصة آدم أبي البشر وزوجه عليهما السلام أنهما بعد أن باشرا السيئة ووقعا في المنهي عنه {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف:23).
ونوح عليه السلام هو أول رسول وأول أولي العزم يتضرع إلى ربه مستغفراً من ذنبه فيقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (نوح: من الآية28) ويصرح في موطن آخر بعظيم الخسارة عند فوات المغفرة فيقول: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ } (هود: من الآية47).
وإبراهيم عليه السلام هو ثاني أولي العزم من الرسل وخليل الله يبتهل إلى ربه فيقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} (إبراهيم:41) ويقول: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } (الشعراء:82).(1/3)
وموسى عليه السلام يستغفر ربه ذنبه وهو قتل القبطي مع أنه حدث منه من غير قصد فيقول كما أخبر الله عنه بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } (القصص:16).
وعيسى عليه السلام يذكر الله عنه قوله: { وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } (المائدة: من الآية 118).
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وإمام المرسلين وخليل الله وحبيبه الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم فاغفر لي». رواه البخاري ومسلم، ويختم مجالسه بقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك». رواه مسلم. وغيرهم من إخوانهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا لربهم مستغفرين، وله داعين ولرحمته راجين، ومنه خائفين. فداود عليه السلام أخبر الله عنه بقوله: { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } (ص: من الآية24) وسليمان بعده عليه السلام يناجي ربه مستغفراً طامعاً فيقول: { وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } (ص: من الآية35)، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } (الأنعام:90).(1/4)
وإذا كانت هذه حاجة أنبياء الله ورسله عامة وأولي العزم خاصة للاستغفار مع ما أتى الله تعالى عليهم من الهدى، وما خصهم الله به من الاجتباء والاصطفاء وألوان التفضيل والتكريم؛ فغيرهم ممن لا يذكر معهم بل شأنه الظلم والجهل والاعتداء والكفران أشد حاجة إلى الاستغفار ليتقوا آثار السيئات ويحافظوا على مالهم من الأعمال الصالحات وينالوا أعلى الدرجات؛ ولذلك جاءت الدعوة إلى الاستغفار على السنة أولئك الرسل الكرام لأممهم، فإنهم عليهم الصلاة والسلام يهدون أممهم على خير ما يعلمونه لها، ويحذرونها من شر ما يعلمون لها، فهم أنصح الناس للناس وأرحمهم بهم، فكانت نصيحة الأمم بالاستغفار من أول ما دعوا إليه وأجلّ ما عملوا به ـ عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ فقال نوح عليه السلام لقومه: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } (نوح:10)، وهود عليه السلام يقول لقومه: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } (هود:52) وصالح عليه السلام يقول لقومه: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } (هود: 61)، وشعيب يتلطف لقومه فيقول: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } (هود: 90) ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يتلو على قومه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود:3)، ويستجيب للدعوة لأولئك المرسلين الكرام من سبقت لهم السعادة من فيلجأون إلى ربهم متضرعين منكسرين راغبين راهبين مستغفرين من كل ذنب وفي كل حال(1/5)
قائلين: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } (آل عمران:193)، ويقولون: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران:16)، وتأتي البشارة للمستغفرين الصادقين بالمغفرة إجابة لدعائهم ومثوبةً لهم وحظاً للمخاطبين واللاحقين على طلبها والمسارعة إليها وملازمتها في آيات كريمات من كتاب الله تعالى فيخبر الله عباده أنه { وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} (النجم: 32) ويقول: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (آل عمران:157)، وأنه { يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر: من الآية53)، فإنه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ } (الرعد: من الآية6)، ويصرح لهم أنه { وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } (البقرة: من الآية221) ولذلك قال: { وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (المزمل: من الآية20)، {المزمل:20} ويحثهم على المسارعة إلى مغفرته وجنته فيقول: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران:133) وبشر سبحانه وتعالى من كان كذلك بالفوز بذلك فقال: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ } (آل عمران:136).(1/6)
وجاء ذكر اسمه سبحانه «الغفور» وما تصرف من لفظه ووصفه سبحانه بالمغفرة في أكثر من مائة وخمسين مرة في القرآن وكفى بذلك تنويهاً بشأن الاستغفار وترغيباً في المغفرة وحثاً للناس على طلبها وترغيباً لهم في المسارعة إليها والأخذ بأسبابها والتعرض لمناسبتها وأسبابها وشهود مواطنها وصحبة أهلها والاقتداء بهم في جليل أعمالهم وكريم خصالهم.
- - -
رابعاً: هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير الاستغفار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة ر: ما رأيت أكثر استغفاراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنا كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور». رواه الترمذي وغيره.
وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - عبودية لربه وطاعة له؛ حيث أمره ربه تبارك وتعالى بذلك في قوله: { وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } (النساء:106)، وحثه على الإكثار من ذلك آخر عمره إذ يقول: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } (النصر:3)، وهو أيضاً من أسباب رفعة درجته ومن شكره لنعمة ربه العظيمة التي امتن الله عليه بها في قوله: { وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } (النساء: من الآية113).
وفي كثرة استغفاره - صلى الله عليه وسلم - بيانٌ للأمر وكيفية الاستغفار نصحاً للأمة وتبليغاً للرسالة ولذلك صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة». رواه البخاري (11/85).(1/7)
وفي صحيح مسلم (9702) وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم - : أنه يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
وعن الأغر بن يسار المزني ر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار». رواه مسلم (79).
ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على الاستغفار ويرغّبهم فيه ويعدهم من الله المغفرة فيقول: «قال الله تعالى يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم». رواه مسلم.
وفي الترمذي (548/5) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها – أي ملأها – مغفرة».
وروى ابن ماجه في سننه 1254/2 عن عبد الله بن بسر ر يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «طوبى لمن وُجِدَ في صحيفته استغفار كثير». قال في الزوائد: إسناده صحيح.
وعن الزبي رأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار». قال شارح الجامع الصغير: إسناده صحيح.(1/8)
ويُسلِّى - صلى الله عليه وسلم - الذين انكسرت قلوبهم خجلاً من الذنوب وأسفاً على ما سلف منهم من خطايا وخوفاً وفرقاً من علام الغيوب حتى كاد أن يستولى عليهم اليأس ويحصل منهم القنوط فيقول - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم». رواه مسلم (2749)، وقد قال الله عز وجل في محكم التنزيل: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الزمر:53) يعني: إذا تبتم واستغفرتم فلا تقنطوا أي: لا تيأسوا من رحمة الله فإنه تعالى يتوب على من تاب ويغفر للمستغفر.
وعن أبى هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من الغفلة عن الاستغفار فيقول: «إن للقلوب صدأً كصدأ النحاس وجلاؤه الاستغفار». رواه البيهقي.
وفي الترمذي عن أنس رقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه فإن هو نزع واستغفر صقلت – أي محيت –، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في قوله: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين:14).
وروى الحاكم وصحح إسناده عن أم عصمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من مسلم يعمل ذنباً إلا وقف الملك ثلاث ساعات فإن استغفر من ذنبه لم يكتب عليه ولم يعذبه الله يوم القيامة».
خامساً: أوقات الاستغفار ومواطنه(1/9)
فيما سبق تَبَيَّنَ شيء من حثه - صلى الله عليه وسلم - على الاستغفار وترغيبه فيه وفيما يلي أذكر لك جملاً من هديه - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار في مختلف الأوقات والأحوال فقد قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا } (الأحزاب:21). وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عليكم بسنتي»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من رغب عن سنتي فليس مني». {
أ/ الاستغفار عند الاستيقاظ من النوم:
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ر أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن هو استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت عقدة، فإذا صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان».
والنشاط وطيب النفس من القوة التي يزيد الله بها الذاكرين المستغفرين كما سيأتي إن شاء الله في فضائل الاستغفار.
وقد جاء في سنن أبي داوود عن عائشة رضي الله عنها زيادة بيان للذكر عند اليقظة من النوم وهو قولها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هب من الليل كبر عشراً، وحمد عشراً، وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال: سبحان الملك القدوس عشراً، ثم يفتتح الصلاة. ومعنى هب: استيقظ.
وفي سنن أبي داوود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من الليل قال: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم استغفرك ذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب».(1/10)
وروى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تعارَّ ـ أي استيقظ ـ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته».
ب/ الاستغفار بالأسحار:
وقت الأسحار من أعظم أوقات الاستغفار وأفضلها لأنه مظنة القبول ووقت الإجابة وقد وردت جملة نصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان فضل عبادة الله تعالى في الأسحار من صلاة وذكر ودعاء واستغفار فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوله وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر.
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر»، وذلك لأنه وقت النزول الإلهي؛ فقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟.
ولقد أثنى الله تبارك وتعالى على المستغفرين في ذلك الوقت فقال: { وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } وأحسن ما يكون الاستغفار في الصلاة.(1/11)
ووعد الله المستغفرين بالأسحار وعداً كريماً فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات:15 - 18)، وقال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } (آل عمران:15-17) وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:16 - 17) فأثنى عليهم بالقيام والإنفاق والدعاء ووعدهم كريم الجزاء، ومن ذلك إجابة دعوتهم، فالسحر أحرى ما يكون بالإجابة وتحصيل المغفرة، وقد ذكر بعض المفسرين رحمهم الله تعالى أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } أي: أخرهم إلى وقت السحر.
وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك ر قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة. وكان يقول: رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع – يعني مولاه – هل جاء السحر ؟ فإذا قال: نعم. أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح (تفسير ابن كثير3/35).(1/12)
وفي تفسير القرطبي 39/4 عن أنس ر سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يقول: إنني لأهم بعذاب أهل الأرض ،فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي وإلى المتحابين فيَّ، وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار؛ صرفت عنهم العذاب بهم.
وقال عثمان لابنه ـ رضي الله عنهما ـ: يا بني، لا يكن الديك أكيس منك؛ ينادي بالأسحار وأنت نائم.
فهذه الآثار تدل على فضيلة الاستغفار في الأسحار وعلى أنه ينبغي للموفق الفطن أن يكون من أهله ما استطاع لعل الله أن يكتبه ممن أثنى عليهم ويرفعه إلى درجاتهم، فإن «من تشبه بقوم فهو منهم» و «المرء مع من أحب».
ج- الاستغفار في الصباح والمساء:
للاستغفار في الصباح والمساء شأن عظيم ولذلك أمر الله عز وجل به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (غافر: 55).
وفي صحيح البخاري 83/11 عن شداد بن أوس ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة».
د/ الاستغفار في الصلاة:(1/13)
الصلاة هي أعظم مظاهر العبادة، وأحسن أحوال الداعي، وأحرى مواطن الإجابة؛ لأنها هي التوحيد الفعلي؛ ولأن المصلي يناجي ربه والله يُقبل عليه بوجهه ما دام مقبلاً على صلاته فأقرب ما يكون العبد إذا كان في صلاته ولذا فهي من أعظم مواطن الاستغفار وأحراها بنيل المغفرة، ولذلك ذكر الله تعالى عن عبده داود أنه استغفر في صلاته فغفر الله له قال تعالى: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } (ص25)؛ ولهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار في عدد من أركان الصلاة في الاستفتاح وفي الركوع، وفي السجود، وفي آخر التشهد قبل التسليم، وبعد السلام.
فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اغفر لي ذنوبي» كلما دخل المسجد أو خرج منه.
وفي الاستفتاح كان يقول: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليكن، والمهدي من هديت أنا بك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت واستغفرك وأتوب إليك» رواه مسلم.
وكان يقول في استفتاحه أيضاً: «اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربي وإليك المصير، فاغفر ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر وأنت إلهي، ولا حول ولا قوة إلى بك» رواه البخاري ومسلم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك وبحمدك اللهم اغفر لي». رواه البخاري ومسلم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني» رواه أبوداود والترمذي.(1/14)
وكان يقول فيه أيضاً: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه الإمام أحمد وابن ماجه بسند حسن.
وعلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبابكر الصديق ر أن يقول في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» رواه البخاري ومسلم.
ودعا رجل فقال: اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم. فقال - صلى الله عليه وسلم - : «قد غفر له». رواه أبوادوود والحاكم وصحه ووافقه الذهبي.
وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت». رواه مسلم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً: أي يقول: استغفر الله. استغفر الله. استغفر الله.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي وارحمني وأهدني وعافني وأرزقني».
هـ/ الاستغفار في المجلس وعند القيام منه:(1/15)
المجالس من مجتمعات الناس التي لا بد لهم منها، يتحدثون فيها، وخير المجالس ما اشتمل على ذكر الله تعالى، وخير الجالسين أكثرهم لله ذكراً ومن كان لإخوانه في الله أكثر تذكيراً ففي صحيح البخاري (208/11) عن أبى هريرة ر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل ـ وهو أعلم منهم ـ ما يقول يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك...» إلخ وفي آخره قال: «فيقول ـ يعني الله عز وجل ـ: فأشهدكم أني قد غفرت لهم».
وشر المجالس ما خلا من ذكر الله تعالى، ففي سنن أبي داوود بإسناد جيد عن أبي هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة».
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعمر مجالسه بذكر الله تعالى وتذكير أصحابه ومن ذلك الاستغفار، وقد تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح قال: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم».
وفي كتاب الترمذي وغيره عن أبي هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من جلس من مجلس فكثر فيه لغطه ـ أي: كذبه ـ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك».(1/16)
ونحوه في سنن أبي داوود عن أبي برزة ر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بآخره – أي في آخر عمره – إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ؟ قال: «ذلك كفارة لما يكون في المجلس».
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول ـ قبل أن يموت ـ: سبحانك وبحمدك استغفرك وأتوب إليك. قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: «جعلت لي علامة في أمتي ـ أي على دنو أجله - صلى الله عليه وسلم - ـ إذا رأيتها قلتها { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} إلى آخر السورة.
و- الاستغفار عند النوم:(1/17)
النوم خاتمة اليقظة في اليوم والليلة وربما كان خاتمة الحياة قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأنعام:60) فهذا توفي بالنوم ـ أي قبضٌ مؤقتٌ للروح ثم تبعث ـ بعده ولهذا ثبت في الصحيحين عن حذيفة ر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا»، وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور».(1/18)
وقد يموت الإنسان في منامه حقيقة بحيث لا يستيقظ إلا في موقف القيامة يوم ينفخ في الصور ويبعثر ما في القبور كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر:42)، وقال تعالى: {نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس: 51- 52) ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وإذا اضطجع فليقل: باسمك اللهم رب وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفس فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» وذلك لأن الأرواح إذا ذهبت إلى ربها حال النوم يمسك منها عنده ما شاء ويرسل منها إلى الأبدان ما شاء، فمن أرسلت روحه إلى بدنه استيقظ واستأنف حياته واتصل عمله، فينبغي له أن يحمد الله على ذلك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند استيقاظه من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»، ويقول: «الحمد لله الذي عافاني في جسدي وردَّ علي روحي وأذن لي بذكره»، ومن حمد العبد لربه وشكره لنعمه عليه ـ إذ رد عليه روح ـ أن يغتنم حياته الجديدة في طاعة الله وما يقرب إليه.(1/19)
ومن أمسكت روحه عند ربها فقد تم عمره وختم أجله وانقطع عمله والأعمال بالخواتيم ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يستعد للنوم بالطهارة وحسن الهيئة والذكر والاستغفار والدعاء استعداداً من يغلب على ظنه أن نومته تلك هي آخر نومة في الدنيا كما ثبت في الصحيحين عن البراء بن عازب ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك – أي جنبك – الأيمن وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن آخر ما تقول، فإنك إن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً».
وفي سنن أبى داود عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك». ثلاث مرات.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر عند النوم ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية». قال ابن عمر سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قال حين يأوي إلى فراشه: استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ـ ثلاث مرات ـ غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت عدد ورق الشجر، وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا».
- - -
سادساً: أقوال ومناسبات جعل الله مثوبتها المغفرة:(1/20)
وكما وعد الله المستغفرين ـ الذين يدعون الله ـ بالمغفرة أن يغفر لهم، فكذلك هناك أقوال وأعمال وعد الله من أخذ بها ابتغاء وجهه بالمغفرة جاءت البشارة بذلك على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد مر في الفصول السابقة ذكر جملة منها إجمالاً وفيما يلي التنبيه على جملة منها على سبيل التفصيل، فمن الأقوال:
1/استغفار الله تعالى بذكر اسمه الأعظم:
ما رواه الترمذي 568/5 وعن زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال: استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف».
2/ الشهادة لله بالتوحيد وإشهاد الخلق عليه:
لما رواه الترمذي أيضاً 537/5 عن أنس ر يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يصبح: اللهم أصبحنا نشهدك ونشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمد عبدك ورسولك. إلا غفر له ما أصاب في يومه ذلك، وإن قالها حين يمسي غفر الله ما أصاب في تلك الليلة».
3/ إجابة المؤذن وقول رضيت بالله رباً...الخ:
وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص ر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه».
4/ التأمين وراء الإمام:
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه».
5/ موافقة الملائكة في التحميد بعد الرفع من الركوع:(1/21)
ففي صحيح مسلم 306/1 عن أبى هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. فإنه من وافق قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه».
6/ حضور مجالس الذكر:
وفي مسند الإمام أحمد 142/3 عن أنس بن مالك ر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون إلا وجهه ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات. وقد تقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم - في صحيح البخاري 208/11 ولفظه إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،...الخ. وفي آخره يقول الله للملائكة أشهدكم أني قد غفرت لهم.
7/ التسبيح والذكر دبر الصلوات المكتوبات:
وفي صحيح مسلم 418/1 عن أبي هريرة ر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر».
وروى البخاري 168/11 ومسلم 2691 عن أبى هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
- - -
سابعاً: أعمال جعل الله من ثوابها المغفرة:
وأما الأعمال التي وعد الله أهلها بالمغفرة فهي ـ بحمد الله ـ كثيرة ومتيسرة منها:
1- إخلاص التوحيد وترك الشرك:
روى النسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجه عن معاذ بن جبل ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من نفس تموت تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله يرجع ذلك إلى قلب موقن إلا غفر لها».(1/22)
وفي الترمذي عن أنس بن مالك ر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض ـ أي ملئها ـ خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة».
2- حسن الوضوء والصلاة بعده:
عن عثمان بن عفان ر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينها بين الصلاة التي تليها».
وفي الصحيحين عن عثمان بن عفان ر في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال - صلى الله عليه وسلم - : «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ـ وفي رواية: يقبل عليهما بقلبه ـ إلا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وفي سنن ابن ماجه عن أبي أيوب ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ كما أُمر، وصلى كما أُمر غفر له ما تقدم من عمل».
وروى الإمام أحمد ومسلم عن عقبة بن عامر ر قال: أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث يقول: «ما منكم أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم فيركع ركعتين يقبل بهما بقلبه ووجه إلا وجبت له الجنة وغفر له».
3- الصلاة في المسجد وانتظار الصلاة:
في الصحيحين عن عثمان ر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه».
4- الذكر بعد الصلاة:(1/23)
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
5- صلاة الجمعة والاستعداد لها بالاغتسال والطيب، ولبس أحسن الثياب، ولزوم الأدب، وترك أذى الناس، وأن يصلى ما كتب له. في الصحيح عن سلمان ر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدّهن من دهن، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدم له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبتيه ثم يصلي معه غفر له ما بين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام».
6- الصيام:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر ما تقدم من ذنبه».
وروى مسلم عن أبى قتادة ر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفه؟ قال: «يكفر السنة الماضية والباقية».
وله أيضاً عن أبي قتادة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء ؟ فقال: «يكفر السنة الماضية».
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة ر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين والخميس. فقيل: يا رسول الله، إنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: «إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا متهاجرَين». يقول: «حتى يصطلحا».
7- قيام الليل:(1/24)
لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران: 190-195)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقالت عائشة رضي الله عنها ـ في الذين قالوا ـ: «والله لا نبالي إذا صلينا المكتوبة ألا نقوم من الليل والله لا يسألهم إلا عما افترض عليهم ولكنهم قوم يخطئون بالليل والنهار». تشير على أن القيام من أسباب تكفير الخطايا.
8- الحج:(1/25)
في سنن ابن ماجه: عن أبى هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الحجاج والعُمّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم».
وعن عمر بن الخطاب ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
9- الرحمة بالحيوان:
في الصحيحين عن أبي هريرة ر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بينما رجل يمشي بطريقه اشتد به العطش فوجد بئراً فنزل فيها، ثم خرج وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً ثم أمسكه بفِيهِ حتى رَقَى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر». وفي رواية البخاري: «فشكر الله له فغفر له، فأدخله الجنة».
10- إزالة الأذى عن الطريق:
روى مسلم عن أبي هريرة ر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيت رجلاً يتقلّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين». وفي رواية عند البخاري ومسلم قال - صلى الله عليه وسلم - : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفر له».
- - -
ثامناً: من فضائل الاستغفار:
للاستغفار فضائل كثيرة، ومنافع عظيمة، وأجور كثيرة، وآثار كريمة مباركة على المستغفر وعلى من استغفر له من قريب أو حبيب، وقد تنال سواهما فينتفع بالاستغفار مؤقتاً بنوع من الانتفاع ـ كما سيمر بك إن شاء الله ـ.(1/26)
فقد جاءت الأدلة الكثيرة الصريحة الصحيحة من القرآن والسنة المصرحة بفضل الاستغفار والمبينة لمنافعه وأجره وفضله وحسن عاقبته، وفيما يلي الإشارة إلى طرف مما يناله المستغفر باستغفاره في الدنيا والآخرة.
أ- دفع البلاء وصرف العذاب:
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض فيغلب الدعاء البلاء». ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري ر قال: خسفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعاً يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله وقال: «هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره واستغفاره».
وقد جاء الحث على الاستغفار والتوبة عند حصول القحط والجدب والحاجة إلى الغيث، كما في قوله سبحانه: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } (نوح:10-11)، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار».
وقال تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } (يونس:98) فكان الاستغفار والتوبة من أسباب صرف العذاب ورفع ودفع البلاء عنهم. وقال سبحانه وتعالى: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } (الفرقان: 77).(1/27)
والاستغفار دعاء وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الداعي يستجاب له ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ومن وجوه الاستجابة صرف السوء، وجاء في سورة الأنفال قوله تعالى في شأن قريش: { وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الأنفال:33)، فقد ذكر المفسرون أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. ثم يقولون: غفرانك. غفرانك، فأنزل الله هذه الآية قال ابن عباس كان فيهم أمانَين: النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقي الاستغفار. وقيل: إنهم لما قالوا { وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (الأنفال: 32) فلما ندموا على ما قالوا، وقالوا: غفرانك اللهم. فنزلت هذه الآية.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بقوله {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هو استغفار المؤمنين المستضعفين الذين كانوا بين ظهراني المشركين بمكة.
قلت: وعلى كلا التقديرين فالقصة تدل على فضل الاستغفار، وأنه مما يصرف الله به العذاب ويرفع به البلاء؛ لأنهم انتفعوا بالاستغفار سواء كان منهم أو ممن بين ظهرانيهم من المؤمنين. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن فضالة بن عبيد ر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عز وجل».
ب/ الاستغفار من أسباب إجابة الدعاء:
المستغفر مقلع عن معصيته، خائف من ذنبه، معتذر إلى ربه، منتظر لعفو الله ومغفرته وإحسانه ولطفه، وقد تبرأ من الحول والقوة إلا بالله، وقد استيقن أنه لا ملجأ له من الله إلا إليه، فهو في هذه الحالة أحرى ما يكون لإجابة الدعاء لأنه الله سبحانه(1/28)
ـ لكمال كرمه وإحسانه ومحبته للمغفرة ـ يفرح بتوبة عبده ويستبشر باستغفاره؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم في صحيحه 2679 عن أبي هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت. ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء إلا أعطاه».
وإذا نال العبدُ المغفرة من الله فسلم من شر ذنوبه وفاز بالقرب من الله،فإن ما بعد طلب المغفرة من المسائل أحرى بالإجابة؛ فقد روى مسلم أيضاً في صحيحه (2735) عن أبي هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ـ ما لم يستعجل ـ».
ج/ قرب الله تعالى من المستغفر:
وقد جاء التنبيه على قرب المستغفر ربه وأن تقديم الاستغفار بين يدي الدعاء من أسباب استجابة الله للعبد وتفضله عليه بالمغفرة وجزيل الهبة في قصة صالح عليه السلام عندما دعا قومه ثمود إلى الله وذكرهم بحقه، وحثهم على استغفاره، وبَيَّنَ أنه سبحانه قريب منهم يستجيب لهم إذا أخلصوا له في الدعاء وصدقوا في التضرع كما في قوله تعالى: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } (هود: من الآية61)، وقد قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا } (النساء:110) وفي ذلك الإرشاد إلى قرب المستغفر من ربه، وأن توفيق الله للعبد للاستغفار عنوان على الفوز بالمغفرة واستجابة الدعوة.
د/ الحكمة من تقديم الاستغفار على الدعاء:(1/29)
جاء تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض المواضع في الكتاب والسنة، ومن أدلة ذلك ما جاء في قصة سليمان عليه السلام قال: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ } (ص:35)، وقوله تعالى: { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران: من الآية193).
وروى مسلم في صحيحه (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان الرجل إذا أسلم علّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي، وأرحمني، وأهدني وعافني وارزقني» وفي رواية له أيضاً قال: «قل: اللهم اغفر لي وارحمني وارفعني واهدني وارزقني».
ففي هذه النصوص من الفوائد:
1- تقديم الاستغفار على الدعاء في بعض الأحوال، لأنه نوع اعتذار وإظهار لغاية الانكسار بين يدي الله والافتقار إليه.
2- أن المذنب والداعي لا يقتصر على سؤال المغفرة فقط بل يسأل الله من واسع فضله وجزيل عطاياه فإن يدي الله سحاء الليل والنهار وخزائنه ملأَى لا تغيضها ـ أي تنقصها ـ نفقه.
3- وأن على الداعي أن يلح في الدعاء ويعظم الرغبة ويعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولا يتعاظمه شيء أعطاه.
هـ/ الاستغفار من أسباب طول العمر مع الخير فيه:(1/30)
ومن فضائل الاستغفار وثمراته التي ينالها المستغفر والتي جاء التصريح فيها في القرآن أن الاستغفار سبب لامتداد العمر وانفساح الأجل في خير الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (هود: من الآية3) فإن أحد الوجهين الذين فسرت بهما الآية أن معنى: يمتعكم: يعمركم. فإن أصل الإمتاع الإطالة. قال في معجم مقياس اللغة (49/5): الميم والتاء والعين أصل صحيح يدل على منفعة وامتداد مدة في خير، يقولون حبل ماتع: أي جيد تمتد المدة به. ويقولون متع النهار: أي طال. ويقال متع الله فلاناً: أي أطال عمره وجعله ينعم في عيشه وقواه. ومتع الله: أي أبقاه لأهله وذويه يستمتعون بصحبته ويأنسون به، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (2663) عن عبد الله بن مسعود ر قال: قالت أم حبيبة رضي الله عنها: اللهم متعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنكِ سألتِ الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة. لا يعجل الله منها شيئاً قبل حله، ولا يؤخر منها شيئاً بعد حله، ولو سألت أن يعافيك من عذاب النار وعذاب القبر لكان خير لك».
قلت: والغرض من سياق هذا الحديث هنا الاستشهاد على أن المتاع يطلق ويراد به طول العمر في خير، فهو انتفاع ممتد الوقت فمعنى قوله تعالى: { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}أي: يبقيكم بقاء في عافية إلى وقت وفاتكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل الأمم التي كانت قبلكم من أهل القرى الذين كفروا. فإن هذه الآية نزلت خطاباً لهذه الأمة وتحذيراً لها أن تأخذ مأخذ الأمم المكذبة قبلها ولهذا ختمت الآية بقوله: { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ }.(1/31)
ففي صدر هذه الآية التنبيه على أثر الاستغفار في حياة المستغفر وأنه من أسباب امتداد عمره في عافية وسلامة من السوء والمكروه حتى يحين الأجل الذي قدره الله لوفاته كما قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف:34) ومما يؤيد هذا الوجه ما جاء من الآيات في معناه كقوله تعالى: { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } (يونس: من الآية 98) وقوله: { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} (الشعراء:205) فإن قوله حين وسنين في معنى قوله: { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } (البقرة: من الآية282) في الدلالة على امتداد العمر إلى الأجل الذي كتبه الله تعالى وحدد سببه، فإذا طال عمر الإنسان مع الاجتهاد في العمل الصالح والاستغفار والتوبة من القبائح صار ذلك خيراً له لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن لا يزيد عمره إلا خيراً»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «خيركم من طال عمره وحسن عمله».
و- الاستغفار من أسباب سعة الرزق وهبة الولد:
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى أول سورة هود: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فقد فسّر المتاع الحسن بأنه النافع من سعة الرزق ورغد العيش كما ذكر المفسرون ـ رحمهم الله تعالى ـ أن من القوة التي وعد بها هود قومه من قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: من الآية 52) أي قوة في النعم من الخصب والمال والولد.
قيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم، ورزقكم المال والولد.(1/32)
وقد جاء في سورة نوح النص على أن الاستغفار مما يستنزل به الرزق ويطلب به الولد كما في قوله تعالى: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (هود: من الآية52)، وقال تعالى: { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } (نوح:12) حيث ورد التصريح بأن الاستغفار من أسباب الإمداد بالأموال والبنين.
وفي المسند 248/1 عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزق من حيث لا يحتسب».
وفي تفسير القرطبي 302/18: شكا رجل إلى الحسن البصري الجدب فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله، وشكا إليه ثالث عدم الولد فقال: استغفر الله. فقيل له في ذلك فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح وذكر الآيات الآنفة الذكر. وهذا من فقهه وفطنته رحمه الله تعالى.
ز/ تنزل الغيث وحصول الخصب:(1/33)
الاستغفار من الأسباب التي يُستنزل بها الغيث ويطلب بها الخصب والبركة في الزرع والثمار والمواشي وغيرها، روى بعض المفسرين رحمهم الله أن نوحاً عليه السلام لما كذبه قومه حين دعاهم زمناً طويلاً وأصروا على ما هم عليه من الكفر والعناد حبس الله عنهم المطر فهلكت مواشيهم وزروعهم فأتوا نوحاً فاستغاثوا به فقال: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } (نوح: 10- 12) فنبههم عليه السلام بأن الاستغفار يدفع الله به القحط والجدب وينزل به الغيث والبركة في الأرزاق والزروع والثمار وما أرشد به نوح قومه أرشد به هود عليه السلام قومه أيضاً فقال: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } (هود: من الآية52)، وفي ذلك إرشاد على أن الاستغفار تدرك به الدنيا والآخرة عامة ويُستنزل به الغيث خاصة.
وما أفقه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ر، فقد روي عنه أنه يخرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار ومنها قوله تعالى هنا { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } فقالوا: ما رأيناك استسقيت ! فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.
وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل، وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرة إلا لمثلنا. اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقُوا.
ح/الاستغفار من أسباب الزيادة في قوة الشخص وقوة الجماعة:(1/34)
وقد جاء التنبيه على هذه الثمرة الاستغفار والتذكير بهذه النعمة من الله في قصة عاد على لسان نبيهم هود عليه السلام حيث خاطب قومه داعياً إلى الله ناصحاً مذكراً ومرشداً لهم قائلاً: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: من الآية52)، وكانت عاد أمة مشهورة بطول الأجسام وبسطتها، وعظم الخلق والشدة في القوة حتى أصابهم الغرور في ذلك، وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسولَه ،ظانين أنهم يستطيعون بقوتهم دفع العذاب الذي أنذرهم به رسولهم فقالوا { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} فرد الله عليهم بقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت: من الآية 15) أي أن الذي خلقهم على هذه الصفة وأعطاهم تلك القوة قادر على أن ينزعها منهم ويأتيهم العذاب بقوة أشد من قوتهم التي يفتخرون بها؛ لأن الاستغفار يجمع بين اعتراف الإنسان بنعم الله عليه وعجزه عن مقابلتها بحقها واعترافه بذنبه وظلمه لنفسه وسؤاله من الله الستر والعفو والإعانة على القيام بحق، فإن العبد لا حول له ولا قوة إلى ذلك إلا بالله تبارك وتعالى، فتضمن الاستغفار والشكر الذي وعد الله فاعله بالمزيد { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (إبراهيم: 7)، فأرشدت الآية الكريمة إلى أن الاستغفار من أسباب حفظ النعم وزيادتها وكمال التمتع بها { وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم: 6).(1/35)
إذا تقرر ذلك فإن ابن آدم قد مَنَّ الله عليه ـ وله الحمد والمنة ـ بقوى كثيرة، كقوة السمع، وقوة البصر، وقوة الدم، وقوة التنفس، وقوة العظم، وقوة العصب، وأعظم من ذلك قوة العقل والإدراك وقوة الحفظ وقوة الذاكرة وقوة البيان، إلى غير ذلك من القوى التي أودعها الله في جسم ابن آدم ولا يحيط بها إلا الله سبحانه، فمن مجموع هذه القوى التي يشد بعضها بعضاً تتكون قوة بن آدم، وبسلامتها يكمل انتفاعه بها وتنعمه بها كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: { نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا } (الإنسان:28) أي خلقهم؛ شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب فسوينا خلقهم وأحكمناه بالقوة، فما حفظت هذه القوى والتمست بركته وقوتها وكمال الانتفاع بها بمثل طاعة الله تعالى وتوحيده واستغفاره وشدة الافتقار إليه؛ لأن العبد بذلك يصبح محبوباً عند الله تعالى، وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح قوله تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه» رواه البخاري 292/11. أي يحفظه الله تعالى في هذه القوى فيمتعه بها ويوفقه لاستعمالها في طاعته.(1/36)
وإذا قوي الإيمان قويَ الجسمُ والهمة، واتسع الطموح وعظم الإنتاج حيث يصبح الإنسان حقيقةً حارثاً وهمّاماً ضارباً في الأرض يبتغي من فضل الله من رزق القلوب ورزق الأبدان، ومجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ومعداً لذلك ما استطاع من قوة، وقوة الأفراد قوة للأمم، وبذلك تقوى الأمة وتعظم هيبتها ويكثر خيرها؛ فتصبح عظيمة المكانة بين الأمم مرهوبة الجانب معززة مكرمة ممكنة في الأرض { وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج: من الآية40).
ط- الاستغفار سبب لرحمة الله تعالى ومودته:
بالرحمة يحصل المطلوب، ومن الرحمة أن يسدد الله العبد ويوفقه في الأقوال والأفعال مع ما يعطيه من خير ويصرف عنه من سوء في الدنيا والآخرة ولا يحيط به إلا الله، وقد جاء التنبيه على هذه الجائزة الكريمة والثمرة المباركة للاستغفار في موعظة صالح نبي الله عليه السلام لقومه حين دعاهم إلى توحيد الله، ونهاهم عن استعجال العذاب، وحثهم على سؤال الله العافية وأرشدهم للاستغفار، ولما فيه من مظهر العبودية وكمال التذلل والافتقار إلى الله عز وجل{ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (النمل:46) أي هلا تتوبون وتستغفرون إلى الله من كفركم فيغفر لكم ربكم عظيم جرمكم ويصفح لكم عن عقوبته إياكم على ما قد أتيتم من عظيم الخطيئة، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } يقول: ليرحمكم ربكم باستغفاركم إياه من كفركم (من تفسير بن جرير 171/19).
فأرشدهم عليه السلام إلى الاستغفار لما فيه من السلامة والعافية من آثار الخطيئة وعقوبات المعاصي والفوز برضوان الله تعالى، فإنه سبحانه إذا رضي عن عبده تغمّده بواسع رحمته، اللهم تغمدنا برحمتك وامنن علينا بعافيتك وارزقنا من فضلك.(1/37)
وكما نبّه صالح عليه السلام قومَه إلى ذلك فقد نبّه إلى ذلك أيضاً شعيبٌ خطيب الأنبياء عليهم السلام تبليغاً لرسالات ربه ونصيحة لقومه وشفقه عليهم فقال: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } (هود:90) واستغفروا ربكم أي رحيم بمن تاب إليه وأناب إليه فلا يعذبه بعد التوبة { وَدُودٌ } أي ذو محبة عظيمة لمن أناب وتاب إليه يوده ويحبه (ابن جرير 105/12)، والود خالص المحبة، فيحصل لهم بالاستغفار واسع الرحمة وخالص المحبة، فما أعظم شأن الاستغفار وما أحسن عاقبته وأتم بركته.
فالاستغفار من أسباب الرحمة ومن دواعي المحبة من الله تعالى لعبده، وإذا أحب الله عبده ورحمه حبَّب إليه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض، ونجّاه من العذاب، وصرف عنه البلاء وزاده من فضله من كل خير دنيوي وأخروي { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (آل عمران: 74) ، { قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس: 58) ، { رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } (المؤمنون: من الآية 109) { رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } (الكهف: من الآية10).
ي/ وللمستغفرين المغفرة والجنة:
وذلك لأنهم هم الذين استجابوا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه سبحانه أخبر عن نفسه أنه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، وقال سبحانه وتعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران:133).(1/38)
وفي صحيح البخاري 129/11 عن أبي هريرة ر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له».
وفي صحيح مسلم أيضاً 2577 حديث أبي ذر القدسي الطويل وفيه قال - صلى الله عليه وسلم - : «قال الله تعالى: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».
وأخبر سبحانه أنه يغفر أي خطيئة لمن استغفره منها ما لم يتلبس موانع المغفرة كالشرك والكفر، فإنه لا بد من التوبة منها أولاً أما ما دونها فإنه قابل للمغفرة { إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } (النساء:48) وقال تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } (طه:82) وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا } (النساء:110) فقد رتّب الله تعالى لمن استغفره ـ كما شرع ـ حصول المغفرة ودخول الجنة وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران:136)، فضمن سبحانه وتعالى لهم المغفرة والجنة كرماً منه وفضلاً.(1/39)
نسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى أن يجعلنا ووالدينا وأهلينا وذرياتنا وذوينا وأحبابنا منهم بمنه وكرمه وجوده وإحسانه.
- - -
تاسعاً: استغفار المسلم لغيره
كما يستغفر المسلم لنفسه قولاً وفعلاً فإن من حق إخوانه المسلمين عليه ومن نصحه لنفسه لهم وإحسانه إليهم أن يستغفر لهم، قال الله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } (محمد: من الآية 19)، وذكر تعالى عن نوح وإبراهيم عليهما السلام قولهما: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} (نوح: من الآية 28)، ومن دعاء الملائكة حملة العرش ومن حوله عليهم السلام قولهم: {ذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7). وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «دعوة المسلم لأخيه المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه مَلَكٌ موكّل كلما دعا لأخيه بخير قال المَلَك الموكّل: آمين، ولك بمثل».(1/40)
وعن الطبراني ـ بسند حسن ـ عن عبادة بن الصامت رعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى وذكر سبحانه عن رسله الكرام أنهم يستغفرون لأنفسهم ولقراباتهم ولإخوانهم في الإيمان كما ذكر سبحانه عن نوح عليه السلام أنه قال { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ}، وذكر سبحانه وتعالي عن إبراهيم عليه السلام قوله: { } (إبراهيم:41)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وأولى المؤمنين باستغفارك أقربهم منك منزلة ثم الذين يلونهم وهكذا.
فيستغفر المسلم لنفسه ولوالديه ولأهله وأرحامه ومن له فضل عليه، ولإخوانه في دينه السابقين والمعاصرين واللاحقين، وتخص بالاستغفار – أيضاً – من أخطأت في حقه فظلمته في نفسه أو عرضه أو ماله أو أي شيء من حرماته ولم يمكنك أن تتخلص من مظلمته فتكثر الاستغفار له والصدقة عنه، لتحسن على مقابل ظلمه حتى تسلم من نقص حسناتك يوم القيامة أو أن تحمل شيئاً من سيئاته وتكون من المحسنين إليه.
وهكذا يستغفر المسلم لإخوانه في دينه كما يستغفرون له فيقابل الإحسان بالإحسان ويبتغي الفضل من الرحمن المنان والله تعالى يقول: { } (الرحمن:60).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
- - -
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 2
أولاً: تعريف الاستغفار ... 3
ثانياً: آلات الاستغفار ... 4
ثالثاً: منزلة الاستغفار ونهج المصطفَين الأخيار فيه ... 6
رابعاً: هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار ... 12
خامساً: أوقات الاستغفار ومواطنه ... 16
سادساً: أقوال ومناسبات ثوابها المغفرة ... 30
سابعاً: أعمال جعل الله من ثوابها المغفرة ... 33
ثامناً: من فضائل الاستغفار ... 40
تاسعاً: استغفار المسلم لغيره ... 58
فهرس الموضوعات ... 61
- - -(1/41)