بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين الذي أتقن كلّ شيءٍ صنعاً، وفطر النفوس على حبّ كل مليح وجميل، وزيّن ما خلَقَ بزيناتٍ روائعَ تميلُ إليها النفوس، وتأنَسُ بها وترتاح إليها، و هي تدلُّ على إبداع خالقها وإرادته الحكيمة، في كلّ ما خلق من ظواهر وبواطن.
هو الذي أنزل كتابَهُ القرآن معجزاً، وآيةً عظيمةً تدلُّ علَيْه، ومن إعجازه ما فيه من جمالٍ بيانيّ وبلاغةٍ رائعة لا ترقى إلى مِثْلها بلاغَةُ جميع البلغاء، ولا فصاحة جميعِ الفصحاء.
والصلاة والسلام على رسُولِنا محمّدٍ خاتم النبيّين والمرسلين، وإمامهم، مَنْ خَصَّه الله بالدّينِ الخاتم، والكتاب الخاتم المعجز، فأنزلَهُ عليه مُتكَفِّلاً بحفظهِ مِنَ التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، بقَصْدٍ أو نسيان، فهيّأ له من وسائلِ الحفظِ ما جَعَلهُ باقياً كما أنْزَلَهُ في السُّطُور والصُّدور وأدواتِ التسجيل الصوتي.
وبعدُ،،
فخدمةً للقرآن كتاب الله المجيد، وحرصاً على إبراز بعض جوانب إعجازه البيانيّ، اجتهد علماء المسلمين بحثاً، وتَنْقِيباً واستخراجاً، حتَّى وَضَعُوا علوم البلاغة الثلاثة: "البيان - والمعاني - والبديع" وما يزال الباحثُون يَبْحَثُون ويستَخْرِجون ويكْتَشِفُون مِن عناصر إعجاز القرآن البياني ما لم يكتشِفْهُ السّابقون.
وقد اخترت - مستعينًا بالله، وبناء على توجيه فضيلة أستاذنا الدكتور، بارك الله في عمره - أن أنشأ بحثًا حول المجاز لما أنه مما كثر وروده في كتاب الله عز وجل، وفي كلام الفصحاء والبلغاء، وعلى رأسهم سيد الأنبياء، محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن المجاز يجمع في ثناياه بين اللطافة والرقة والبلاغة والفصاحة، فحوى من كل فنون البلاغة بطرف، وعبّر عما في النفس مما تلد وطرف، وبيّن مكنون الصدور، ومطوي الضلوع مما لا يدركه(1/1)
الطرف. حتى قال أبو البقاء في كلياته: " منكر المجاز في اللغة، مبطل محاسن لغة العرب "(1).
وقد سميت هذا العمل المتواضع:
( الاجتياز إلى أسرار المجاز)
والله أسأل السداد والتوفيق، وأسأله أن يحسن الخاتمة كما أحسن البدء، إنه على ذلك قدير.
وهذا أوان الشروع في المقصود، فأقول وبالله التوفيق:
تمهيد بين يدي البحث
فنُّ المجاز ودواعيه وأغراضه(2)
المجاز طريق من طُرُق الإِبداع البيانيّ في كلِّ اللّغات، تدفع إليه الفطرة الإِنسانيّة المزوّدة بالقدرة على البيان، واستخدامِ الحِيَل المختلفة للتعبير عمّا في النفس من معانٍ تُرِيدُ التَّعْبيرَ عنها.
وقد استخدمه العرب في العصور المختلفة، حتَّى بلغت اللّغة العربيّة في مجازاتها مبلغاً مثيراً للإِعجاب بعبقريّة الناطقين بها في العصور الجاهليّة، وفي العصور الإِسلاميّة، وكان لفحول الشعراء، وأساطين البلغاء، من كُتَّابٍ وخطباء، أفانينُ بديعة، عجيبة ومُعْجِبة من المجاز، لا يَتَصَيَّدُها إلاَّ الأذكياء والفطناء، المتمرّسون بأساليب التعبير.
وليس المجاز مُجَرَّد تلاعُبٍ بالكلام في قفزاتٍ اعتباطيّة منْ استعمال كلمة أو عبارةٍ موضوعةٍ لمعنىً، إلى استعمال الكلمة أو العبارة بمعنى كلمة أو عبارةٍ أخرى موضوعة لمعنىً آخر، ووضع هذه بدل هذه للدّلالة بها على معنَى اللّفظ المتروكِ المستَبْدَلِ به اللفظ الآخر.
__________
(1) الكليات لأبى البقاء الكفوي ص:1290.
(2) سيأتي تعريف المجاز والكلام عليه يالتفصيل بعد هذا التمهيد بإذنه تعالى.(1/2)
بل المجازُ حركاتٌ ذهنيّة تَصِلُ بين المعاني، وتعقِدُ بينها روابطَ وعلاقاتٍ فكريّةً تسمح للمعبّر الذكِيّ اللّمّاح بأن يستخدم العبارة الّتي تدلُّ في اصطلاح التخاطب على معنىً من المعاني ليُدلَّ بها على معنىً آخر، يمكن أن يفهمه المتلَقِّي بالقرينة اللفظيّة أو الحاليّة، أو الفكريّة البحت. * إنّه مثلاً قد يلاحظ انقطاع الصلة بين فئة من الناس وفئة أخرى، لعداوة قائمة بينهما، ويرى إصْرار كلٍّ من الفريقين على موقفه العدائي، ومجافاة الفريق الآخر، فَيَلْمَحُ أنّ هذا الأمر بين الفريقين يشبه جبَلَيْنِ يفصل بينهما وادٍ سحيق ليس له قرار، فيخطرُ له أن يتخذ وسطاء مقبولين، من كلٍّ من الفريقين، ليقوم هؤلاء الوسطاء بنقل المصالح والحاجات بينهما، ويَلْمح أن هؤلاء الوسطاء سيكونون بمثابة الجسور التي تُبْنَى فوق الوادي، ويكون أحد طرفيها على هذا الجبل، والطرف الآخر على الجبل الآخر. حيت تكتمل لديه الصورة على الوجه الذي سبق تفصيله يختصر في التعبير فيقول: "نقيم بين الفريقين المتعادِيَيْن جُسُورَ التواصل".
إنّه يستخدم كلمة "جسور" استخداماً مجازيّاً، يدركه المتلقّي بالتفكّر، لأنّ الفئات المتخاصمة المتجافية لا تُقام بينهما جسورٌ مادّيّة، بل يقوم الوسطاء بينها بحلّ كثير من المشكلات بينها.
وهكذا يحمل المجاز في العبارة من المعاني الممتدة الواسعة، ومن الإِبداع الفني ذي الجمال الْمُعْجِب، ما لا يؤدّيه البيان الكلامي إذا اسْتُعْمِل على وجه الحقيقة في كثيرٍ من الأحيان.
مع ما في المجاز من اختصارٍ في العبارة وإيجاز، وإمتاعٍ للأذهان، وإرضاءٍ للنفوس ذوات الأذواق الرفيعة الّتي تتحسَّن مواطن الجمال البياني فَتَتَأَثَّرُ به تَأثُّرَ إعجاب واستحسان(1).
دواعي المجاز وأغراضه يمكن ذكر أهمها فيما يلي(2):
__________
(1) علم البيان وفصاحة اللسان ص: 231.
(2) البلاغة العربية أساسها وعلومها ص: 635.(1/3)
أولاً: أنّ المجاز في الكلام هو من أساليب التعبير غير المباشر، الذي يكون في معظم الأحيان أوقع في النُّفوس وأكثر تأثيراً من التعبير المباشر.
ثانياً: يشتمل المجاز غالباً على مبالغة في التعبير لا تُوجد في الحقيقة، والمبالغة ذات دواعي بَلاغيّة متعدّدة، منها: "التأكيد - التوضيح - الإِمتاع بالجمال - الترغيب عن طريق التزيين والتحسين - التنفير عن طريق التشويه والتقبيح -"إلى غير ذلك.
ثالثاً: يُتِيحُ استخدام المجاز فرصاً كثيرة لابتكار صورة جمالية بيانيّة لا يُتِيحُهَا استعمال الحقيقة، فمعظم أمثلة التصوير الفني الرائع مشحونةٌ بالمجاز.
رابعاً: استخدام المجاز يُمَكِّنُ المتكلّم من بالغ الإِيجاز مع الوفاء بالمراد ووفرة إضافيّة من المعاني والصّور البديعة. خامساً: المجاز بالاستعارة أبلغ من التشبيه. ممّن يلائمهم استخدام المجاز، ويشدُّ انتباههم لتدبُّرِ المضمون وفهمه سادساً: المجاز المرسل أبلغ من استعمال الحقيقة في كثير من الأحيان إذا كان حالُ مُتَلَقِّي البيان.
إلى غير ذلك من دواعي وأغراض تتفتّق عنها أذهان أذكياء البلغاء.
تعريفات
تعريف علم البيان: هو علم يبحث في كيفيّات تأدية المعنى الواحد بطُرُقٍ تختلف في وضوح دلالاتها، وتختلف في صُورِها وأشكالها وما تتصف به من إبداعٍ وَجمالٍ، أو قُبْحٍ وابْتذال(1).
الحقيقة لغةً: الشّيء الثابت يقيناً، وحقيقة الشيء: خالصُهُ وكُنْهُهُ وعناصره الذّاتيّة. وحقيقة الأمر: ما كان من شأنه يقينا. وحقيقةُ الرَّجُلِ: ما يلْزَمُه حفظه والدّفاع عنه، يقالُ: فلانٌ يحمي الحقيقة(2)..
الحقيقة اصطلاحاً: اللّفظ المستَعْمَل فيما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب.
__________
(1) انظر الإيضاح في علوم البلاغة ص:69، البلاغة العربية أساسها وعلومها 563.
(2) انظر الصحاح 4/1460، وتاج العروس 19/79 معجم ألفاظ الفقه الجعفري ص:164.(1/4)
والمراد من الوضع تَعْيِينُ اللّفظ في أصل الاصطلاح للدّلالة بنفسه على معنىً ما، دون الحاجة إلى قرينة.
المجاز لغة: مصدر فِعْلِ "جَازَ" يقال: جاز المسافر الطريق، وجاز به جَوْزاً وجوازاً ومجازاً، إذا قطعه.
ويطلق لفظ "المجاز" على المكان الذي اجتازه من سار فيه حتى قطعه.
ويقال: جازَ القولُ، إذا قُبِلَ وَنَفَذ. وكذا يقال: جازَ الْعَقْد وغَيْرُه، إذا نَفَذَ ومضَى على الصحّة(1).
المجاز اصطلاحاً: اللَّفظ المستعمل في غير مَا وُضِع له في اصطلاح التخاطب، بقرينة صارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ(2).
أقسام الحقيقة والمجاز اللّغوية والشرعية والعرفية(3)
كلُّ من الحقيقة والمجاز ينقسم إلى أربعة أقسامٍ متقابلة:
(1) الحقيقة اللّغوية، ويقابلُها، المجازُ اللّغوي.
إذا استعمل اللّفظ بمعناه الذي وضع له في اللّغة، كان حقيقة لُغَوية، وإذا استعمل في غير معناه الذي وُضِع له في اللّغة، لعلاقة من علاقات المجاز، كان مجازاً لغويّاً.
فلفظ "أسد" إذا استعمل للدّلالة على الحيوان المفترس المعروف فهو حقيقة لغوية، وإذا استعمل للدلالة به على الرجل الشجاع فهو مجاز لغويّ، وعلاقته المشابهة، فهو من نوع المجاز بالاستعارة. * وإذا قلنا مثلاً "سَالَ الوادي" فقد أسندنا السيلان إلى الوادي مع أن الوادي لا يسيل، لكن الذي يسيل هو الماء فيه، فهذا إسنادٌ مجازي علاقته المجاورة، وهو من "المجاز العقلي".
(2) الحقيقة الشرعية، ويقابلها، المجاز الشرعي.
إذا استعمل اللفظ في مجالات استعمال الألفاظ الشرعية بمعناه الاصطلاحيّ الشرعيّ كان حقيقة شرعيّة.
__________
(1) انظر الصحاح 3/780، وتاج العروس 8/34.
(2) أسرار البلاغة ص:304، والإيضاح في علوم البلاغة ص:28، والتعريفات للجرجاني ص:65.
(3) لخصت الكلام المندرج تحت هذا العنوان من الأنجم الزاهرات ص:112.(1/5)
وإذا استعمل للدلالة به على معنىً آخر ولو كان معناه اللغوي الأصلي كان بالنسبة إلى المفهوم الاصطلاحي الشرعيّ مجازاً شرعيّاً.
فلفظ "الصلاة" إذا اسْتُعْمِل للدلالة على الركن الثاني من أركان الإِسلام، فهو حقيقة شرعيّة.
وإذا استعمل بمعنى الدعاء الذي هو الحقيقة اللّغوية، كان مجازاً شرعيّاً، وهكذا إلى سائر المصطلحات الشرعيّة.
(3) الحقيقة في العرف العام، ويقابلها، المجاز في العرف العام.
يراد بالعرف العامّ ما هو جار على ألسنة الناس في عُرْفٍ عامٍّ على خلاف أصل الوضع اللّغويّ.
إذا اسْتُعْمِل اللّفظ في مجالات العرف العامّ بمعناه الذي جرى عليه هذا العرف كان حقيقة عرفيّة عامّة.
وإذا استعمل للدلالة على معنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصلي، كان بالنسبة إلى هذا العرف مجازاً عرفيّاً عامّاً. مثل: لفظ "الدّابة" جرى إطلاقه في العرف العامّ على ما يمشي من الحيوانات على أربع، فإطلاق هذا اللّفظ ضمن العرف العام بهذا المعنى حقيقة عرفيّةٌ عامّة.
وإطلاقة ضمن أهل العرف العامّ بمعنىً آخر ولو كان معناه اللّغوي الأصليّ، وهو كلّ ما يدبّ على الأرض من ذي حياة فهو مجاز في العرف العامّ.
وكذلك إذا أطلق على ما يدبّ على الأرض من آلةٍ غير ذات حياة، ومثل هذا الإِطلاق يكون مجازاً في العرف العامّ ومجازاً لغويّاً.
(4) الحقيقة في العرف الخاصّ، ويقابلها، المجاز في العرف الخاصّ.
يراد بالْعُرف الخاصّ مصطلحات العلوم، إذْ لكلّ علْم مصطلحاتُه الخاصة به. مثل ألفاظ: "الفاعل - المفعول به - الضمير - الحال - التمييز - البدل - وغيرها" في علم النحو.
فإذا استعملت هذه الألفاظ ضمن علومها على وفق مفاهيمها الاصطلاحيّة كانت حقيقة في الْعُرف الخاص.
وإذا استعملت في معاني أخرى ولو كانت معانيها اللّغوية الأصلية كانت مجازاً في العرف الخاص.(1/6)
تقسيم المجاز إلى مجاز لغوي ومجاز عقلي(1)
ينقسم المجاز في الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: المجاز اللّغويّ، وهو الذي يكون التجوّز فيه باستعمال الألفاظ في غير معانيها اللّغوية أو بالحذف منها أو بالزّيادة أو غير ذلك، مثل:
* استعمال لفظة "الأسد" للدلالة على الإِنسان الشجاع..
* ومثل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وزيادة بعض الحروف للتأكيد.
القسم الثاني: المجاز العقلي، وهو المجاز الذي يكون في الإِسناد بين مُسْنَدٍ ومُسْندٍ إليه.
والتجوّز في هذا القسم يكون في حركة الفكر بإسناد معنىً من المعاني مدلولٍ عليه بحقيقة أو مجاز إلى غير الموصوف به في اعتقاد المتكلّم لمُلابَسَةٍ ما تُصَحِّحُ في الذّهن هذا الإِسناد تجوّزاً، بشرط وجود قرينة صارفةٍ عن إرادة كون الإِسناد على وجه الحقيقة، مثل ما يلي:
* إسناد بناء الجسور ودوائر الحكومة ومنشآتها في الدولة إلى ملك البلاد، نظراً إلى كونه الآمِرَ ببنائها.
* وإسناد حُسْن التأليف والتصنيف إلى قلم الكاتب، مع أنّ القلب لا يُحْسِن تأليفاً ولا تصنيفاً، إنّما يُحْسِنُها الكاتب به
إلى غير ذلك من أمثلة، وسيأتي إن شاء الله بيان وشرح المجاز العقلي.
*****
تقسيمات المجاز(2)
ينقسم المجاز إلى الأقسام الأربعة التالية:
القسم الأول: "المجاز في المفرد" وهو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وضع له، كالأسد في الرجل الشجاع، وكاليد بمعنى الإِنعام.
القسم الثاني: "المجاز في المركب" وهو اللفظ المركّب المستعمل بهيئته المركبة في غير المعنى الذي وضع له، لعلاقة ما، مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي، مثل:
* أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى، أي: حالك كحال المتردّد.
* أنت تنفخ في رماد، أي: حالُكَ كحال من ينفخ في رماد، في ضياع الجهد.
ومثل:
__________
(1) استفدت ما تحت هذا العنوان من البلاغة العربية أساسها وعلومها ص:563 وما بعدها.
(2) علم البيان وفصاحة اللسان ص: 235.(1/7)
* استعمال الْجُمَل الخبريّة بمعنى الإِنشاء. * استعمال الجمل الإِنشائية بمعنى الخبر. القسم الثالث: "المجاز في الإِسناد" وهو المجاز العقلي الذي يُسْنَد فيه الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في اعتقاد المتكلم، مثل: سالَ الوادي، بإسناد السيلان إلى الوادي، مع أنّ الذي سال هو الماء فيه، والعلاقة المجاورة.
القسم الرابع: "المجاز القائم على التوسّع في اللّغة دون ضابط معين" وهو المجاز الذي يكون التوسُّع اللُغويُّ فيه بوجوه مختلفة لا يجمعها ضابط معين، كالزيادة أو الحذف في بعض الكلام، وكإطلاق الماضي على المستقبل والعكس، مثل:
* حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: اسأل القرية، أي: اسأل أهل القرية.
* زيادة حروف في ضمن الكلام للتأكيد أو للتزيين، نحو: لفظ "ما" بعد "إذا".
تقسيم المجاز اللّغوي إلى استعارة ومجاز مرسل(1)
ينقسم المجاز اللغوي بالنظر إلى وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، أو بين الاستعمال الأصلي والاستعمال المجازي، أو عدم ملاحظة علاقة ما، بل هو مجرّد توسّع لغوي، إلى قسمين:
القسم الأول: "الاستعارة" وهي المجاز الذي تكون علاقته المشابهة بين المعنى الأصليّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه.
القسم الثاني: "المجاز المرسل" وهو نوعان:
* نوعٌ توُجَدُ فيه علاقة غير المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي استعمل اللّفظ للدّلالة به عليه، كاستعمال "اليد" بمعنى النعمة لعلاقة كون اليد هي الوسيلة التي تستعمل عادة في عطاء الإِنعامات، وكإسناد الفعل أو ما في معناه لغير ما هو له.
* ونَوْعٌ لا توجد فيه علاقة فكريَّةٌ ما، وإنّما كان مجرّد توسُّع لغوي، كالمجاز بالحذف دون ملاحظة علاقة فكرية، وكالمجاز بالزيادة، وغير ذلك.
__________
(1) صون البلاغة عن كلام المناطقة ص: 125، وما بعدها.(1/8)
وسُمِّيَ هذا "مجازاً مُرْسَلاً" لكونه مُرْسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة، سواء أكان له علاقة غير المشابهة، أمْ لم تكن له علاقة ما.
*****
المقولة الأولى: الاستعارة(1)
(1) تعريفات
الاستعارة في اللّغة: طلبُ شيءٍ ما للانتفاع به زمناً ما دون مقابل، على أن يَرُدَّه المستعير إلى الْمُعِير عند انتهاء المدّة الممنوحة له، أو عند الطلب.
الاستعارة في اصطلاح البيانيين: استعمال لفظٍ ما في غير ما وُضِع له في اصطلاحٍ به التخاطب، لعلاقة المشابهة، مع قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الموضوع له في اصطلاحٍ به التخاطب.
وهي من قبيل المجاز في الاستعمال اللّغوي للكلام، وأصلُها تشبيهٌ حُذِفَ منه المشَبّه وأداةُ التشبه ووجْهُ الشَّبَه، ولم يبق منه إلاَّ ما يدلُّ على المشبّه به، بأسلوب استعارة اللفظ الدالّ على المشبَّه به، أو استعارة بعض مشتقّاته، أوْ بعض لوازمه، واستعمالها في الكلام بدلاً عن ذكر لفظ المشبَّه، مُلاَحَظاً في هذا الاستعمال ادّعاءُ أنَّ المشبَّه داخل في جنس أو نوع أو صِنْف المشبّه به، بسبب مشاركته له في الصفة الّتي هي وجه الشَّبَهِ بينهما، في رؤية صاحب التعبير.
وأركان الاستعارة على هذا أربعة:
(1) اللفظ المستعار. (2) المعنى المستعار منه، وهو المشبّه به.
(3) المعنى المستعار به، وهو المشبّه. (4) القرينة الصارفة عن إرادة ما وُضِع له اللّفظ.
والقرينة دليلٌ من المقال، أو من الحال، أو عقليٌّ صرْف.
ولم يذكر البيانيّون هذا الركن وقد رأيت إضافته لأنّه إذا فقدت القرينة لم تصحّ الاستعارة. وقد تطلق كلمة "الاستعارة" على اللّفظ المستعْمَلِ في غير ما وُضِع له في اصطلاح به التخاطب لعلاقة المشابهة.
مثل: انطلق أسَدُ الكتيبةِ الخضراء، يصرع فُرْسَانَ الأعداء، أفراداً وأزواجاً.
__________
(1) لخصت الكلام المندرج تحت هذا العنوان من الأنجم الزاهرات ص:122.(1/9)
جاء في هذا المثال استعمال كلمة "أسد" في غير معناها الحقيقي على سبيل الاستعارة.
هذا الاستعمال يسمَّى "استعارة" بمقتضى المعنى الأول الذي جاء في التعريف.
ولفظ "أسد" في هذا الاستعمال قد يُطْلق عليه أيضاً في الاصطلاح "استعارة" بمقتضى المعنى الثاني..
الفرق بين الاستعارة والتشبيه:
قالوا في التفريق بين الاستعارة والتشبيه أنّه يشترط في الاستعارة تناسي التشبيه، وادّعاءُ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبّه به، ولا يُجْمَعُ فيها بين المشبَّه والمشبَّه به على وجه يُنْبئ عن التشبيه، ولا يُذْكَرُ فيها وجه الشَّبه، ولا أداة التشبيه لا لفظاً ولا تقديراً.
ومن الجمع بين المشبَّه والمشبَّه به على وجْهٍ يُنْبِئ عن التشبيه ما يلي:
(1) أن يكون المشبّه به خبراً عن المشبَّه، مثل: وجْهُها قمر، وشعرُها ليل، وقدّها غُصْنُ بان، وعيناها عَيْنا ظبية.
ومثل الخبر ما كان في حكمه، كخبر "كان" وأَخواتها، و "إنّ" وأخواتها، وكالمفعول الثاني في فعل "ظنَّ" وأخواته.
(2) أن يكون المشبّه به حالاً صَاحِبُها المشبّه، مثل قول الشاعر أبي القاسم الزاهي يصف حسناوات:
سَفَرْنَ بُدوراً. وانْتَقَبْنَ أَهْلَّةً ومِسْنَ غُصُوناً. والْتَفَتْنَ جآذراً(1)
(3) أن يكون المشبه به صفة للمشبّه، مثل قول الشاعر مثلاً:
لاَ يَفْلِقُ الْهَامَ في سَاحِ الْقِتَالِ إذَا تَلاَحَمَ الْبَأْسُ إلاَّ الْفَارِسُ الأَسَدُ(2)
(4) أنْ يكون المشبَّه به مضَافاً إلى المشَّبَه، مثل قول الشاعر:
والرّيحُ تَعْبَثُ بِالْغُصُونِ وقد جَرَى ذَهَبُ الأَصِيلِ على لُجَيْنِ الْمَاءِ(3)
(5) أن يكون المشبّه به مصدراً مُبَيِّناً للنوع مثل قول الله عزَّ وجلَّ:
__________
(1) يتيمة الدهر ص:289.
(2) عبد الرحمن الميداني في مذكراته ص:225.
(3) نسبه في نهاية الأرب في فنون الأدب 1/78 إلى إبراهيم بن خفاجة الأندلسي.(1/10)
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}(1).
(6) أن يكون المشبَّه بِهِ مُبَيَّناً بالمشبّه، وهذا البيان قَدْ يكون بياناً صريحاً، أو بياناً ضمنيّاً، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في شأن ما يحلّ ليلة الصيّام:
{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}(2).
فقد جاء بيان الخيط الأبيض بالفجر بياناً صريحاً، وفي ضمنه جاء بيان الخيط الأسود باللّيل بياناً ضمنيّاً.
(2) هل الاستعارة مجاز لغوي أم مجاز عقلي؟
رأى جمهور البيانيين أنّ الاستعارة مجاز لغوي، وقيل: هي مجاز عقلي، بمعنى أنّ الاستعارة تعتمد على أمر عقليّ، لا لغويّ، واستدلّ القائلون بأنّ الاستعارة مجاز عقلي بما يلي:
(1) أنّ اللّفظ المستعار وهو المشبَّه به للدلالة به على غير معناه الموضوع له في اصطلاح به التخاطب، وهو المشبَّه، لا يُطْلَقُ عليه إلاَّ بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبَّه به، أو نوْعه، أو صِنْفِه، فيكون إطلاقُ لفظ المشبّه به على المشبَّه، حاصلاً على وجه الحقيقة لا على وجه المجاز، لأَنّ الادّعاء أدخلَ المشبَّهَ ضِمْنَ أفراد المشبَّه به.
(2) ليست الاستعارة مجرّد إطلاق اللّفظ على غير ما وضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، فهذا أمْرٌ لاَ بلاغة فيه، بدليل الأعلام المنقولة، لكنّ العمل العقليّ هو الذي أعطى الاستعارة بلاغتها.
أقول: كلُّ المجازات اللّغوية سواء أكانت من قبيل الاستعارة أم المجاز المرسل، ليست مجرّد حركة آليّة لغويّة يتمّ بها استعمال اللفظ في غير ما وضِع له في اصطلاح به التخاطب.
__________
(1) سورة النمل: 88.
(2) سورة البقرة: 187.(1/11)
بل لا بدّ في المجاز من عمل فكري أو شعور نفسّي يُصَحِّحُ في تصوُّرِ المتكلّم استخدامَ اللّفظ في غير ما وُضع له.
* فحين نتلو قول الله عزَّ وجلَّ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ من الصوَّاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت}(1) فإنّنا لا نشعر بأنّ لفظ الأصابع وُضِع بدل الأنامل وضعاً اعتباطيّاً في هذا المجاز المرسل، وليس مجرَّدَ حركة آليّة لُغَوِيّة، بل هو قائم على ملاحظة فكريّة، وهي أنّ الذين يحذرون الموت من الصّواعق ذواتِ الأصوات العظيمة القاتلة، تندفع أيديهم إلى سَدِّ آذانهم بأصابعهم، فلو تمكنوا من إدخال كلّ أصابعهم فيها لفعلوا، فالعبارة تدلُّ على تَوَجُّهِ إرادتهم وما في أنفهسم من مشاعر، فكان هذا الإِطلاق المجازي، مع أنَّ الذي يضعونه في آذانهم هو رؤوس أناملهم.
هذا مجاز مرسل من إطلاق السَّبَب وإرادة المسبَّب، والعملُ الفكري والشعور النفسيّ هو المقتضي لهذا الإِطلاق، ولا خلاف في أنه مجاز لغوي.
* وحين يأتي التعبير عن تداعي الجدار إلى السقوط بأنّه يُريدُ أن يَنْقَضّ، فإنّ الأمر ليس مُجرَّدَ عمَلٍ آليٍّ تُوضَعُ فيه الإِرادة مكان ظاهر التداعي، بل هو تعبيرٌ عمّا يَشْعُر به المشاهد له، ومن أنّه بمثابة شَيْخٍ هرِمٍ جدّاً انْحَنَى ظهْرُه، وليس بيده عصاً تسنده، وقد تعِبَ جدّاً من الوقوف فهو يريد أن ينقضّ بسرعةٍ انقضاضَ الطائر ليرتاح جسمه على الأرض، فهذا مجاز مرسل، والعمل الفكري والتصوّر الذهني هو المتقضي له.
كذلك حال الاستعارة فهي ليست مجرّد نَقْلٍ آليّ للفظ المشبَّهِ به، وإطلاقِه على المشبَّه، بل لا بُدَّ بها من عَمَلٍ فكريّ أو شعورٍ نفسّي يُصَحِّحُ في تصوّر المتكلّم هذا الإِطلاق.
والذين تَصَوَّروا أنّ الاستعارة هي من قبيل المجاز العقلي لهذا المعنى كان عليهم أن يَجْعَلُوا كُلَّ صُوَر المجاز اللغويّ من قبيل المجاز العقلي.
__________
(1) سورة البقرة: 19.(1/12)
والتحقيق أنَّ المجاز العقلي لا يكون فيه نقْلٌ في استعمال الألفاظ، بل هو عمل فكري أو شعور نفسي بَحْتٌ، بخلاف المجاز اللّغوي فإنّ فيه هذا النّقل مع العمل الفكري أو الشعور النفسيّ.
وبهذا ظهر الفرق بين المجاز العقليّ والمجاز اللّغوي، وكان ما ذهب إليه جمهور البيانيّين هو الرأي الأجدر بالاعتبار.
(3) تقسيم الاستعارة إلى استعارة في المفرد واستعارة في المركب
تنقسم الاستعارة انقساماً أوليّاً إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة في اللّفظ المفرد، وهي التي يكون المستَعارُ فيها لفظاً مفرداً، مثل:
(1) لفظ: "اللّيث" في نحو جملة: "أقْبَلَ اللَّيْثُ مُدَجَّجاً بلأَمَةِ الحرْبِ فاخترق جيْشَ العدوّ".
أي: أقبل الفارس الشجاع الذي هو كاللّيث.
(2) لفظ: "البدور" في نحو جملة: "بزَغَتِ البُدُور فوق شَفَقِ النُّحُور والصُّدُور".
أي: أقبلت الحسناوات اللّواتي وجوهُهُنّ كالْبُدُور.
القسم الثاني: الاستعارة في اللّفظ المركّب، وهي الّتي يكون اللَّفْظُ المستعار فيها كلاماً مركباً من عدّة ألفاظ مفردة، مثل:
(1) "لكلِّ جوادٍ كبْوَة - ولِكُلِّ صَارِمٍ نَبْوَة".
هذان مُرَكّبَان من عدّة ألفاظ، يستعاران لمن يخطئ أحياناً، وليس من شأنه ولا من عادته أن يخطئ.
(2) "أَعْطِ الْقَوْسَ بارِيها".
هذا لفظ مركّب يستعار للدلالة به على أنه ينبغي إسناد العمل إلى من يُحْسِنُه ويُتْقِنُه لسابق خبرته به.
ويُطلَقُ على هذا القسم الثاني عبارات: "استعارة تمثيليّة - استعارة على سبيل التمثيل - تمثيل على سبيل الاستعارة - تمثيل" والإِطلاق الأوّل أحسنها، أمّا الأخير فيَشْتَبِهُ بالتمثيل، فالأولى اجتنابه.
وسيأتي إن شاء الله شرح القسم الثاني بعد استيفاء الكلام على تقسيمات القسم الأوّل.
وبعد هذه المقدمة يأتي المبحثان المعقودان للاستعارة، وهما:
المبحث الأول: الاستعارة في المفرد.
المبحث الثاني: الاستعارة في المركّب.
المبحَثْ الأوَّل(1/13)
الاستعارة في المفرد
(أ) تقسيمات الاستعارة في المفرد
تنقسم الاستعارة في المفرد إلى تقسيمات متعدّدات باعتبارات مختلفات، وفيما يلي تفصيلٌ وبيانٌ للمهمّ منها:
التقسيم الأوّل
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى أصليّة وتبعيّة
رأى البيانيون تقسيم الاستعارة في المفرد إلى قسمين:
القسم الأول: الاستعارة الأصليّة، وهي التي يكون اللّفظ المستعار فيها اسماً جامداً، مثل: "أسد - بدر - شمس - ظبي" ونحوها.
القسم الثاني: الاستعارة التبعيّة، وهي التي يكون اللفظ المستعار فيها فِعْلاً، مثل: أشْرَقَ - يُشْرِقُ - أَشْرِقْ" أو اسماً مشتقاً، مثل: "جَارِح - مَجْروح - جَرِيح - مَقْتَلَة - مَحْرقة -" أو حرفاً من حروف المعاني، مثل: "اللام الجارّة - مِنْ - في - لن -".
لقد رأى البيانيّون أنَّ التشبيه الذي هو أصل الاستعارة وعلاقتها يكون أوّلاً في الأسماء الجامدة، ومنها المصادر.
وبعد التشبيه الذي يكون في المصدر يُشْتَقُّ من المصدر الفعل الماضي، أو المضارع، أو الأمر، ثم يُشْتَقُّ اسم الفاعل، أو اسم المفعول، أو الصفة المشبّهة، أو اسم الزمان، أو اسم المكان، أو نحو ذلك.
* وبناءً على هذا التصوّر اعتبروا استعارة الأفعال والمشتقات من الأسماء إنّما كانت تبعاً للاستعارة في المصادر، وأجْرَوا الاستعارات فيها على هذا الأساس.
فإذا قال المتشكِّي من نوائب الدهر: "عَضَّنَا الدّهْرُ بِنَابِه" بمعنى أوقع بنا المصائب، قالوا:
شَبَّه وقع المصائب بالعضّ الذي هو مصدر فعل "عَضّ" بجامع الإِيلام في كلٍّ من المشبَّه والمشبَّهِ به، ثمّ استعار كلمة "العضّ" للعمل المؤلم الذي تُحْدِثُه النوائب، ثمّ اشتَقَّ من "العضّ" الذي هو مصدرٌ فِعْلَ "عَضَّ" فكان هذا الاشتقاق أمراً تابعاً للاستعارة في الاسم الجامد الذي هو المصدر.
فَسَمَّوا كُلَّ ما كان من هذا القبيل استعارةً تبعيّة.
* وكذلك رأوا في استعارة الحرف للدلالة به على معنى حرف آخر.(1/14)
مثل: استعارة حرف "في" الجار الذي يدلُّ على الظّرْفية للدلالة به على معنى حرف "على" الذي يُدلُّ على الاستعلاء. ورأوا أنّ أصل هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت بالشَّيْءِ تثبيتاً قويّاً بالشيء الدّاخل في شيءٍ آخر دخولاً انْدِمَاجيّاً، أو دخولاً ظرفيّاً، واسْتُعِير لهذا المعنى اسْمٌ يدلُّ على هذا الدخول، ثمّ استغني عنه بحرف الجرّ "في" الذي يدلُّ على الظرفية، استعارة تابعةً للاستعارة في اسلام الجامد، لأنّ معاني الحروف تابعةٌ لمعاني الأسماء.
وتُلاحَظُ هذه الاستعارة فيما حكى الله عزَّ وجلَّ عن قول فرعون لِسَحَرته متوعّداً لهم بعد أن آمَنُوا بِرَبّ موسى وهارون: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}(1).
لقد رأى البيانيّون في عبارة: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} استعارةَ حرف الجرّ "في" للدلالة به على معنى حرف الجرّ "على".
ورأوا أنّ علاقة هذه الاستعارة تشبيه العلوّ المثبّت في الجذوع بدخول شيءٍ في شيءٍ آخر، لأنّ تثبيتهم في الجذوع قد يكون بمسامير تدخل فيها، ولمّا كان حرف "في" يفيد هذا المعنى فقد حَسُنَت استعارته على طريقة الإستعارة التبعيّة، باعتبار أنّ معاني الحروف تابعة للمعاني في الأسماء.
__________
(1) سورة طه:71 .(1/15)
أقول: مع أنّ مثل هذا المثال ليس من اللاَّزِم أن يكون وارداً على سبيل الاستعارة في الحرف، بل الأقرب أن يكون الكلامُ جَارياً على طريقة التَّضْمِين، وهو هنا تضمين فعل: {لأُصَلّبنكم} معنى فعل آخر يتعدّى بحرف الجرّ "في" فعُدِّي تعديته، وأصل الكلام: لأصلبنكم عَلَى جذوع النَّخْل ولأُثَبّتَنَّكُمْ فيها بالْمَسَامِير التي تَدْخُل في الجذوع، فَنَابَتِ التعدية بحرف الجرّ "في" مناب ذكر الفعل الذي حُذِف، وَضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكُورُ معناه. مع هذه المعترضة المتعلقة بهذا المثال أقول:
لاَ نجد متكلّماً فصيحاً بليغاً أديباً يُلاَحِظُ هذه التبعيَّة، لا في الأفعال ولا في المشتقات من الأسماء، ولا في الحروف..
تقسيم الاستعارة في المفرد إلى تصرحيّة ومكنيّة
نظر البيانيون في الاستعارات الواردات في المفرد فرأوا أنّ اللّفظ المستعار فيها للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، قدْ يُؤْتَى به صريحاً بذاته، وقد يُطْوَى فلا يؤتَى به بلفظه، ولكن يُكنَّى عنه بذكر شيءٍ من صفاته أو لوازمه القريبة أو البعيدة، فظهر لهم أن يُقَسِّمُوا الاستعارة إلى قسمين:
القسم الأول: سمّوه "الاستعارة التصريحية" وهي الّتي يُصَرَّحُ فيها بذات اللّفظ المستعار، الذي هو في الأصل المشبّه به حين كان الكلام تشبيهاً، قبل أن تُحْذَف أركانه باستثناء المشبَّهِ به، أو بعض صفاته أو خصائصه، أو بعض لوازمه الذهنيّة القريبة أو البعيدة، مثل:
(1) وقف الغضنفر على المنبر، وارتجل خُطْبَتَهُ العصماء، على عِلْيَةِ القوم والدّهماء، فبشّر وأنذر، وأطمع وحذّر، وقال: أنا أميركم المبعوث إليكم بالرحمة والسيف، والفضل والعدل، فمن أطاع واستقام، أصاب من الإِنعام والإِكرام، ومن عصى والْتَوى، فبنار إثْمِهِ احْتَرَقَ أو اكتوى.(1/16)
إنّ كلمة "الغضنفر" التي هي بمعنى "الأسد" قد استعيرت بذاتها من الحيوان المفترس، وأُطْلِقَتْ على الأمير المبعوث لقومٍ أهل شقاق وخلاف.
فهي في هذا المثال استعارة تصريحيّة، إذْ جاء فيها التصريح بذات اللّفظ المستعار.
(2) قول الحريري:
*سَأَلْتُهَا حِينَ زَارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِهَا الْقَانِي وإِيدَاعَ سَمْعِي أَطْيَبَ الْخَبَرِ*
*فَزَحْزَتْ شَفَقاً غَشَّى سَنَا قَمَرٍ وسَاقَطَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ خَاتَمٍ عَطِرِ(1)*
أطلق الحريري: كلمة "شَفَقاً" وأراد الْبُرْقُعَ، على سبيل الاستعارة التصريحيّه. وأطلقَ كلمة "قَمَر" وأراد وجْهَ حسنائه. وأطلَقَ كلمة "لُؤْلؤاً" وأراد كلامَها، وأطلق كلمة "خَاتم" وأراد فَمَها، كلُّ هذا على سبيل الاستعارة التصريحيّة، إذ جاء في هذه الإِطلاقات التصريح بذوات الألفاظ المستعارة.
القسم الثاني: سمّوه "الاستعارة المكنيّة".
وهي التي لم يُصَرَّح فيها باللّفظ المستعار، وإنما ذُكِرَ فيها شيءٌ من صفاته أو خصائصه أو لوازمه القريبة أو البعيدة، كنايةً به عن اللّفظ المستعار، مثل:
(1) أن نقول من المثال الأول من مثالي الاستعارة التصريحيّة: "وقف ذو اللّبدة الأغبر - أو وقف أو الأشبال - أو وقف صاحب الزئير - أو وقف الذي تأكل السباع بقايا فريسته" أو نحو هذه العبارات.
فذو اللّبدة صفة للأسد. ومثلها أو الأشبال، وصاحب الزئير، ونحن باستعمال هذه العبارات نُكَنّي عن اللّفظ المستعار، وهو الغضنفر، أو الأسد.
وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حُذِفتْ كلُّ أركانه باستثناء بعض صفات المشبّه به، فهو استعارة مَكْنيّة.
(2) زُرْنا نقتبس عِلْمَ ذي فضْلٍ يأتي اللّيلُ إذا غاب، ويذهب اللّيلُ إذا حضر.
أي نقتبس عِلْماً من الشَمْس، فالشمس من لوازم غيابها مجيءُ اللّيل، ومن لوازم حضورها ذهابُ اللّيل.
__________
(1) نسبه إليه في معاهد التنصيص 2/99.(1/17)
فلفظ الشمس مستعارٌ من الكوكب المضيء للدّلالة به على الإِنسان الممدوح، والأصل في هذا تَشْبِيهُهُ بالشمس، لكن حُذِف اللّفظ المستعارُ ورُمِزَ إليه ببعض لوازمه كنايةً عنه. وأصل هذا المجاز تَشْبِيهٌ حذت كلّ أركانه باستثناء بعض لوازم المشبَّه به، فهو استعارة مكنيَّة.
وقد تلْتَبِسُ هذِه الاستعارة المكنيّة بالتشبيه المكنّي، والفرقُ بينهما أنّ التشبيه المكنيّ يأتي فيه المشبَّهُ ضمن العبارة بلفظه الصريح، أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة، ويأتي فيه المشبّه به بلفظ الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، من جهة ثانية، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
بخلاف الاستعارة إذْ لا يَجْتَمعُ فيها المشبَّه بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، مع المشبَّه به بلفظه الصريح أو بما يُكنَّى به عنه، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه، وبهذا يصير الكلام مجازاً بالاستعارة، وإلاَّ فلا مجاز والكلام جارٍ وفق أسلوب التشبيه الْمُضْمَر الذي يُوجَدُ في العبارة ما يدلُّ عليه، ومعلوم أنّ عبارات التشبيه هي من الحقيقة ولا مِنَ المجاز.
رأي السكّاكي:
مع أنّ للسكّاكيّ نظرات ثاقبات في علوم البلاغة لكنّه فيما أرى أسرف هنا في التخيُّل وتعسّف، فعكس القضيّة، واعتبر التشبيه المضمر الذي هو من التشبيه المكنيّ على ما ظهر لي استعارةً تخييليّة، إذْ رأى أنّ لفظ "المشبّه" هو الذي استعمل في المشبّه به، بادّعاء أن المشبَّه هو عين "المشبه به" لا غيرُهُ بقرينة ذكر لازم المشبّه به.
ففي قول الْهُذَلي:
*وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لاَ تَنْفَعُ(1)
__________
(1) نسبه إليه في محاضرات الأدباء 2/507.(1/18)
* رأى أنَّ كلمة "الْمَنَيَّة" وهي الموت مُسْتَعارَةٌ للدّلالة بها على الحيوان المفترس "السبع" فلمّا صَارتِ المنيّةُ في تَصَوُّر الشاعر عين السَّبع الذي هو في الأصل مشبَّه به تخيّلَ أنّ للمنيّة أظفاراً تَنْشَب، فقال: أَنْشَبَتِ المنيَّةُ أظفارها، وصاغَها شعراً فقال: وإذا المنيّةُ انشبت أظفارها، وسمّى هذا العمل "استعارة تخييليّة".
ومع أنَّ هذِه النظرة من السّكّاكي نظرةٌ بَدِيعَة وجميلة، إلاَّ أنها اعتمدت على تحليل متعسّف قلّما يخطر في ذهن أصحاب الكلام أنفسهم حين تجري ألسنتهم أو أقلامهم بمثل هذا الكلام.
والطريق الأَقربُ الذي يفهمه أصحاب الكلام أنفسهم هو أن يكون الكلام من قبيل التشبيه البليغ الذي يُذْكَرْ فيه المشبَّهُ به بلفظه، إنّما ذُكِرَ بَدَلَهُ مَا يَدُلُّ عليه من صفاته أو خصائصه أو لوازمه.
وأصل الكلام في عبارة "الْهُذَلِيّ" المنيةُ سَبُعٌ يُنْشِبُ أَظْفَارَه، فإذا أقلبتِ المنيّة لم تنفع التمائم.
هذا تشبيه بَلِيغٌ، لكنّه حذف لفظ المشَبَّه به، وهو كلمة "سَبُع" واكتفى بذكر أداة افتراسه، وهي أنْ يُنْشِبَ أظفارَه، واسند هذا الإِنشاب إلى المنيَّة بَدلَ أن يُسْنِدَ لفظ السَّبعِ إِليها، واقتضى هذا الإِسناد مقتضيات لفظيّة نحويّة، فجاء بتاء التأنيث وضمير المؤنث، مراعاة للفظ "المنيّة".
وبهذا نكون قد أخذنا بالأظهر الذي لا تعقيد فيه ولا إبعاد، والتزمنا بقاعدة البيانيين بشأن الاستعارة، التي ذكروا لزوم عدم اجتماع المشبّه والمشبّه به فيها، أو ما يُكَنَّى به عنهما، على وجه يُنْبِئ عن التشبيه.
أمثلة للاستعارة بقسميها التصريحيّة والمكنيّة:(1/19)
(1) قول الله عزَّ وجلَّ خطاباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(1). في هذه الآية استعارتان تصريحيتان:
الأولى: استعارة كلمة "الظلمات" للدَّلالة بها على الكُفْرِ والجهل بعناصر القاعدة الإِيمانيّة، والجهل بمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للنّاسِ.
وأصلها تشبيه الجهل بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالظلمات.
الثانية: استعارة كلمة النور للدلالة بها على الإِيمان والعلم بعناصر القاعدة الإِيمانية، وبمفاهيم الإِسلام وشرائعه وأحكامه ومنهاج الله للناس.
وأصلها تشبيه الإِيمان بعد العلم بهذه الأمور الجليلة الهادية للعقول والقلوب بالنور.
والقرائن الفكرية واللّفظيّة تدلُّ على المراد من الكلمتَيْن، فكلُّ منهما مستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح به التخاطب، وعلاقته المشابهة، ولم يُذْكر في اللّفظ وجه الشَّبه ولا أداة التشبيه ولا لفظ المشبّه، فالاستعمال جارٍ على طريقة الاستعارة التصريحيّة.
ونظائر هاتين الاستعارتين مكرّرة جدّاً في القرآن المجيد، حتّى صارتا بمثابة الحقيقة الشرعيّة... (3) قول المتنبيّ من قصيدة يمدح بها "محمّد بْنَ سيَّار بْنِ مُكْرم التميمي، فيصف مسيره إليه، واستقبال ابْن سيّار له:
*سَرَى السَّيْفُ مِمَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبِي إلَى السَّيْفِ مِمَّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الْهِنْدُ*
*فَلَمَّا رَآنِي مُقْبِلاً هَزَّ نَفْسَهُ إِلَيَّ حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَه حَدُّ*
*فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ(2)*
في هذه الأبيات عدّة استعارت تصريحية.
__________
(1) سورة إبراهيم: 1.
(2) نسبه في الإيضاح في علوم البلاغة 1/283 إلى المتنبي، ولم أره في ديوانه.(1/20)
يقول في البيت الأول: سَرَى السّيْفُ ممَّا تَطْبَعُ الْهِنْدُ صَاحِبي، أي: حالة كونه صاحباً لي. فأخَذَ المتنبّي من حَدَثِ سُراهُ هو حاملاً سيفه الذي هو من صُنْع الهند، لقطةً تصويريَّةً عَبَّرَ فيها أنَّ سَيْفَهُ هُو الّذِي سَرَى إلى شبيهه الممدوح مصاحباً له، فَأَسْنَدَ السُّرَى إلى السيف على طريقة المجاز العقلي "وهو هنا إسناد الفعل إلى غير ما هو له لعلاقة المصاحبة" توطئة للاستعارة التصريحيَّة التي أطلق فيها لفظة "السيف" على ممدوحه ابْنِ سيّار، فقال: "إِلَى السَّيف" ودلَّ على أنه أراد "ابْنَ سيّار" قوله: "ممّا يَطْبَعُ اللَّهُ لاَ الهنْدُ".
وتابع يبني كلامه على اعتبار ممدوحه سيفاً، فقال: فَلَمَّا رَآنِيِ مُقْبلاً هَزَّ نَفْسَهُ إِلَيّ" فوصف حركة نهوضه وإقباله للاحتفاء بالمتنبّي بالسيف حين يهتزّ، فأطلق كلمة "هزَّ" على سبيل الاستعارة أيضاً بمعنى: تحرَّك يتلامع بإشراقه مقبلاً إلى زائره. وتابع تأكيد أنه سيف توطئة لوصفه بأنّه ذو حدّين، إذا نظرت إلى أحد صَفْحَيْهِ رأيْتَ حدّاً، وإذا أدرتَهُ إلى الصَّفح الآخر وجَدْت حدّاً ثانياً، فقال: "حُسَامٌ كُلُّ صَفْحٍ لَهُ حَدُّ".
الصَّفْحُ: من السّيْف والْوَجْهِ عُرْضُه، ويجمع على صِفَاح وأصْفَاح.
وبعد هذا أطلق على ممدوحه "ابْن سيّار" على سبيل الاستعارة التصريحيَّة كلمة "الْبَحْر" إشارة إلى جوده، وكلمة "الأُسْدُ" إشارةً إلى شدّة شجاعته إذْ جعله كمجموعة أسود في شخصٍ واحد فقال:
*فَلَمْ أَرَ قَبْلِي مَنْ مَشَى الْبَحْرُ نَحْوَهُ وَلاَ رَجُلاً قَامَتْ تُعَانِقُهُ الأُسْدُ(1)*
(4) قول "دِعْبِل الخُزَاعي" شاعر هجّاء، ولد بالكوفة وأقام ببغداد وتوفي عام "226هـ":
*لاَ تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ضَحِكَ الْمَشِيبُ برَأْسِهِ فَبَكَى(2)*
__________
(1) انظر السابق.
(2) ديوانه ص:228.(1/21)
شبَّه "دِعْبِل" حَدَثَ ظهورِ الشيب في رأْسِه بِحَدَثِ ظُهُورِ الأَسْنَانِ الضّواحِكِ في الفمّ، ودلَّ على هذا الحدث بشيءٍ من خصائصه وهو حُدُوث الضَّحك. واستعمل فعل "ضَحِكَ" للدّلاَلة على مُراده على سبيل الاستعارة المكنيَّة.
(6) قول الوأواء الدمشقي يصف حسناء تبكي:
*وَأَسْبَلَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ فَسَقَتْ وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ(1)*
أطْلَقَ على سبيل الاستعارة التصريحيّة اللّؤلؤ على الدَّمْع، والنّرجسَ على العيون العسليّة، والوردَ على الخدود، والْعنَّابَ على الأنامل، والْبَرَدَ على الأسنان.
.تقسيم الاستعارة إلى مطلقة ومُرَشَّحة ومجرَّدة
تنقسم الاستعارة بالنظر إلى اقترانها بما يلائم المستعار منه "وهو المشبه به" أو المستعار له "وهو المشبّه" أو عدم اقترانها بشيءٍ من ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: "الاستعارة الْمُطْلَقة".
وهي الاستعارة التي لم تقترن عِبَارَتُها بأوصاف أو تفريعات أو كلامٍ مما يُلائم المستعارَ منه، أو يلائم المستعارَ له، باستثناء القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الأصلي للّفظ المستعار.
مثل: "قطع وزير الداخليّة رأس الحيَّة الكبرى" بمعنى أنّه قطع رأس رئيس حزب الشرّ والفساد، إذا كانت قرينة الحال دالّة على المراد.
فالحيّةُ لفظ مستعار للدلالة به على رئيس حزب الشرّ والفساد، ويُلاحظ أنّ العبارة لم تقترن بما يلائم لفظ الحيّة، ولا بما يُلائم رئيس حزب الشرّ والفساد.
هذه الاستعارة استعارة تصريحيّة مطلقة.
فإذا قلنا فيها: "قطع وزير الداخليّة رأس الناهشة ذات السُّمّ القاتل" كانت استعارة مكنيّةً مطلقة، إذْ لم يصرّح فيها باللّفظ الدالّ على المستعار منه صراحة، وإنما جاء فيها استعمال ما يدلّ على بعض صفاته وبعض خصائصه.
القسم الثاني: "الاستعارة المرشحة".
__________
(1) نسبه إليه أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين ص:251.(1/22)
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار منه.
وسمّيت مُرَشَّحة لأنّ ما اقترن بها يعطيها زيادة تقوية للمستعار منه بزيادة أَغْطِيَةٍ تحتاج زيادة عمل ذهني لكشف إرادة المعنى المجازي الّذي اسْتُعْمِل اللَّفْظ للدلالة عليه.
الترشيخ في اللّغة: التربيةُ والتنمية، فهي تفيد تقوية الشيء وتمكينه.
مثل أن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأسَ الحيّة الكبرى التي باضَتْ وفرّخت صغار الحيّات والثعابين وسعت تنهش وتنفثُ سُمَّها".
هذه العبارة اقترنت الاستعارة فيها بما يلائم المستعار منه، إذ الحيّة الحقيقيّة هي التي تبيض وتفرّخ وتنهش وتنفث سُمَّها.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مُرَشَّحة. ويمكن أن نبذّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مرشحة.
القسم الثالث: "الاستعارة المجرّدة".
وهي الاستعارة التي اقترنت بما يلائم المستعار له.
وسمّيت مجرّدة لأنّ المقارنات الملائمات للمستعار له تُجَرِّدُ الاستعارة من أغطيتها الساترة، فيظهر المعنى المجازيّ المراد دون تأمُّلٍ فكريّ.
كأن نقول في المثال السابق:
"قطع وزير الداخليّة رأس الحيّة الكبرى الّتي حزَّبت أشرار الناس، وأرادت الفتنة، وسعت في إفساد الأفكار والنفوس".
هذه العبارة اقترنت بما يلائم المستعار له الذي هو رئيس حزب الشرّ والفساد.
فالاستعارة في هذا المثال استعارة تصريحيّة مجرّدة.
ويمكن أن نبدّل فيها كما فعلنا في الاستعارة المطلقة فتكون مكنيّة مجرّدة.
وإذا اجتمع في العبارة المشتملة على الاستعارة الترشيخ والتجريد معاً، كانت الاستعارة بحكم الاستعارة المطلقة.(1/23)
وأبلغ هذه الأقسام الاستعارة المرشحة، فالمطلقة وما كان بحكمها، وتأتي المجرّدة في المرتبة الأخيرة، لأنّ التجريد، يُدْنِي الاستعارة من التشبيه، فيُضْعِفُ ادّعاء الاتحاد، بخلاف الترشيخ، والإِطلاق فالترشيخ يقوّي ادّعاء الاتّحاد بين المشبّه والمشبّه به، والإِطلاق يبدأ به.
أمثلة للمرشحة وللمُجَرَّدة:
(1) قول بشّار بن بُرْد:
*أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا*(1)
فجاء بالشطر الثاني ترشيحاً للاستعارة، إذ استعار لفظ الشَّمْسِ لزائرتِه من النساء، فهي استعارة تصريحيّة مرشحة.
(2) قول المتنبيّ يَمْدَحُ بني أوْس:
*أَمَّا بَنُو أَوْس بْنِ مَعْنِ بْنِ الرِّضَا فَأعَزُّ مَنْ تُحْدَى إِلَيْهِ الأَنْيُقُ*
*كَبَّرْتُ حَوْل دِيَارِهِمْ لَمَّا بَدَتْ مِنْهَا الشَّمُوسُ ولَيْسَ فِيَها الْمَشْرِقُ*
*وعَجِبْتُ مِنْ أَرْضٍ سَحَابُ أكُفِّهِمْ * مِنْ فَوْقِهَا وصُخُورُها لاَ تُورِقُ*(2) استعار لرجال بني أوس كلمة "الشموس" وجاء بِما يُرَشِّح إرادة الشموس من الكواكب، بتعجبه الذي جعله يُكَبِّر إذ طلعت من منازلهم الواقعة في جهة المغرب، فالمشرق ليس فيها.
واستعار لجودهم السخيّ لفظ السّحاب، وجاء بما يرشّح المستعار منه، إذ تعجب من أن صُخور أرضهم لا تُورقُ، مع أنّ سحاب أكفّهم من فوقها تَهْمي مطراً.
(3) قول كُثَيِّر عزّة بشأن معشوقته:
*رَمَتْنِي بِسَهْمٍ رِيشُهُ الكُحْلُ لَمْ يَضِرْ * ظَواهِرَ جِلْدِي وهو لِلْقَلْبَ جَارْحُ(3)*
استعار كُثَيّر عزّة لنظرتها الجميلة النافذة إلى القلب كلمة "سَهْم" وبعد استعارة جاء بترشيخ وتجريد.
__________
(1) ديوانه ص: 595.
(2) ديوان المتنبي ص: 150.
(3) نسبه في دلائل الإعجاز ص:359 إلى كثير عزة، وهو في ديوان جميل بثينة ص: 18.(1/24)
فجعل للسهم ريشاً، وهذا مما يلائم المستعار منه، وهو ترشيح، وأبان أنّ هذا الريش هو من الكُحْل وهذا مما يلائم المستعار له، وهو تجريد، وبعد ذلك أبان أن السّهم لم يَضِرْ ظواهر جلده بل جَرَحَ قلبه، وهذا مما يُلائم المستعار له، لأنّ النظر هو الذي يؤثر في القلوب، وهذا تجريد، إلاَّ أن كلمة جارح تلائم المستعار منه، وهو ترشيح.
وهكذا مزج في كلامه ترشيحاً وتجريداً، وهو في نظري بليغ جدّاً في ادّعاء اتّحاد المشبّه بالمشبّه به، ولا ينطبق على استعارته أنها بحكم المطلَقَة.
(4) قول الله عزّ وجلّ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(1).
جاء في هذه الآية استعَارة "اللِّباس" لما أنزل الله بأهل القرية من جوع وخوف، وقرنها بما يلائم المستعار له وهو عبارة "فأذاقها" وهذا تجريد، ولو أراد الترشيح لقال: فكساها، إلاَّ أنّ التجريد هنا بلغ، لما في الإِذاقة من إضافة معنى الإِيلام الذي يُحَسُّ به.
تقسيم الاستعارة في المفرد بالنظر إلى كون كلٍّ من ركْنَيْهَا مما يدرك بالحسّ والظاهر التقسيمات ضمن هذا الاعتبار إلى أربعة أصول ناتجة من ضرب اثنين باثنين:
القسم الأول: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كقول الله عزّ وجلّ بشأن حَجْزِ يأجوج ومأجوج وراء السّدّ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}(2).
__________
(1) سورة النحل: 112.
(2) سورة الكهف: 99.(1/25)
جاء في هذه الآية استعارة فعل "يَمُوجُ" من حركة أمواج البحار، التي يختلط فيها الماء بعضُه ببعض، وهو أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر، للدّلالة به على حركة جماهير "يأجوج ومأجوج" وراء السّدّ في أحداث متجدّدة متكرِّرة كتكرّر حركة أممواج البحار، هذا أمْرٌ مُدْرَكٌ بالحسّ الظاهر أيضاً، فكثرةُ القوم تُشْبه البحر إذا اجتمعوا، وحركتُهم إذا اتَّجَهُوا إلى مصالحهم المختلفة تُشْبه حركة أمواج البحر في مرأى الأبْصار.
َ القسم الثاني: استعارة مُدْرَكٍ فكريٍّ أو وجداني لِمُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أو وَجْدَاني.
* كقول الله عزّ وجلّ في وصف نار جهنم وعذاب الّذين كفروا بربّهم فيها: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ...} (1).
أي: تكاد تتفاصل أجزاؤها من الغَيْظِ الّذي يُحْدِثُ حركاتِ تفجُّرٍ داخلها.
فقد جاء في هذا النصّ استعارةُ كلمةِ "الغيظ" الّذي هو أَمْرٌ يُدْركُ دَاخِلَ النُّفوس بالحسّ الباطن، للدّلالة به على أمْرٍ يَحْدُث داخِلَ جَهَنَّمَ ممّا يُمْكِنُ أن يَتَخيَّلَهُ المخاطبون تخيُّلاً، ولكنّهم لا يُدْركونه بالحسّ الظاهر.
الْقِسْمُ الثالث: استعارةُ مُدْرَكٍ فِكْرِيٍّ أَوْ وِجْدَاني لِمُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر.
* كأن نقول:
"لمَّا اشتدّت الحرْب غَضَباً، دخَلَ فُرْسانُنَا الأبطال فجعلوا غَضَبَها لَهَباً على جَيْشِ الْعَدُوّ فاسْتَحَالَ رَمَاداً".
جاء في هذه العبارة استعارة "الغضب" وهو أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الباطن داخل النفوس، للدلالة به على مشاهد تُدْرَك بالْحسِّ الظاهر في الحرب، من متفجّرات ناريّة تَقْذِف بشظايا الحديد، وحركة الأليَّات الموجَّهة ضِدَّ بعضها للتدمير والإِبادة.
القسم الرابع: استعارة مُدْرَكٍ بالحسّ الظاهر لِمُدْرَكٍ فِكْرَيٍّ أو وجْدَاني.
__________
(1) سورة الملك:8.(1/26)
* كقول الله عزّ وجلّ لرسوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}(1).
والصدع أمْرٌ يُدْرَكُ بالحسّ الظاهر، وقد اسْتُعِير هنا للدلالة به على التبليغ ذي التأثير في النفوس المشابه للتأثير الذي يُحْدِثُهُ من يَصْدَعُ الزجاج، وهذا أمر يُدْرَكُ بالفكر، وقد يُحِسُّ به مَنْ وجّه له التبليغ في وجدانه ومشاعر نفسه.
ولمّا كان التبليغ مهما كان أسلوبه مؤثراً في النفوس لا يَبْلُغُ أن يُحَقِّق التحويلَ الفعليّ من الكُفْر إلى الإِيمان، كان تشبيهه بالصَّدْع تشبيهاً دقيقاً جدّاً.
فالأمْرُ بالتبليغ يتضمَّن معنى اتخاذ الوسائل المؤثّرة في النفوس تأثيراً لا يَبْلُغ مبلغ التحويل، لأنّ التحوُّل من الكفر إلى الإِيمان إنّما يكون عن طريق إرادة المُتَبَلِّغ نفسه، وليس من شأن الوسائل أن تصنع تحويلاً، ولكن قد تُولّد إقناعاً أو إلزاماً جَدَلِيّاً، فتشبيه هذا التأثير بالصَّدْعِ هو بالغ الدقّة في التصوير، وجاءت الاستعارة تبعاً لهذا التشبيه..
*وسَيْفِي كَانَ فِي الْهَيْجَا طَبِيباً يُدَاوِي رَأْسَ مَنْ يَشْكُو الصُّدَاعا(2)*
الهيجاء: الحرب.
استعار فعل "يُداوِي" لَيَدُلَّ به على قَطْعِ رأس المقاتل الذي يشكو الصُّدَاع، ومعلوم أنَّ المداواة بالدُّواء تنافي قَطْعَ الرأس، فهما أمران متعاندان لا يجتمعان.
أقول: إنَّ هذا التقسيم وأمثاله ينبغي أن تكون مفاتيح للدراسات الأدبيَّة، لا قوالب جاهزة حتى يقاس عليها، فمن شأن القوالب أن تُمِيتَ قدرات الإِبداع والابتكار.
(ب) قيمة الاستعارة في البيان ومراقيها
السبب الأول: أنّها أكثر من التشبيه توغُّلاً في أساليب البيان غير المباشر.
السبب الثاني: ما فيها من تجاهل التشبيه الذي هو أصلها، إذ الاستعارة تُشْعِرُ بادِّعَاء اتِّحاد المشبّه بالمشبَّه به.
__________
(1) سورة الحجر:94.
(2) نسبه في معجم البلدان 5/136لعنترة العبسي.(1/27)
السبب الثالث: ما فيها من استثارةٍ لإِعجاب أذكياء ذَوَّاقي الأدب، وَتَملُّكٍ لانتبهاههم وتأثيرٍ فيهم، ولا سيما حينما تكون استعارةً غريبة غير متداولة، ولا يتنبَّهُ لاصطيادها إلاَّ فُطنَاء البلغاء.
(وتكون الاستعارة حَسَنَةً جميلة إذا كان التشبيه الذي هو أسَاسُها حَسَناً جميلاً، مستوفياً الشُّروط..
أمَّا إذا كان الشَّبَه ضعيفاً فإنّ التشبيه الذي يُذْكَرُ فيه وجه الشبه يكون هو الأولى.
المبحَثْ الثَاني
الاستعارة في المركّب وهي "الاستعارة التمثليّة"
سبق في مقدمة الكلام على الاستعارة أنها تكون في المفرد وتكون في المركّب، وأن الاستعارة في المركب تسمّى "الاستعارة التمثيليّة".
فقد جاء دور بيان القسم الآخر للاستعارة، وهو "الاستعارة في المركب".
الاستعارة في المركب: هي كما سبق بيانُه في المقدِّمة استعارة يكون اللّفظ المستعار فيها لفظاً مُرَكَّباً، وهذا اللّفظ المركب يستعمل في غير ما وُضِعَ له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصليّ، ويسمّى "الاستعارة التمثيليّة" وقد يطلق عليه "الاستعارة على سبيل التمثيل" أو نحو ذلك من غبارات.
وهذه الاستعارة يستعملها الناس في مخاطباتهم وأمثالهم الدارجة، في فصيح الكلام العربي، وفي اللِّسان العامّي الَّذي يتخاطبُ عامَّةُ الناس به، ويُسْتَعْمَل أيضاً في غير العربيَّة من اللُّغات الإِنسانيَّة الأخرى.
* فمن العاميّ قول الناس إذا رأَوا صاحب صنعه أَوْ مَهْنة يُهْمِلُ أشياءه الخاصة التي يصنع مثلها لغيره بإتقان: "بابُ النجَّار مخلَّع" أو "السّكافي حافي والحايك عريان".(1/28)
(2) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرَّتَيْن" (1) هذه العبارة النبوية تُسْتَعْمَل على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" للتحذير من تكرار العمل الذي جَرَّ مُصِيبة في نفسٍ أو مالٍ، أو أفضى إلى أمْرٍ غير محمود.
(3) إذا رأى الناس اجتماع جمهورٍ غفيرٍ على عالمٍ أو واعظٍ أو زعيم، أو كثرةَ إقبالهم على سوقٍ من أسواق التجارة، تمثّل قائلهم بقول الشاعر:
*"والْمَوْرِدُ الْعَذْبُ كَثيرُ الزِّحَام"(2)*
هذا القول يُسْتَخْدَمُ على سبيل "الاستعارة التمثيليّة" مراداً به غير معناه الأصلي الذي قاله الشاعر للدلالة به عليه.
(4) ويُقالُ لِمَنْ يُنْصَحُ بأنْ يَتَّخِذَ من وسائل القوة مَا يَصْلُح لتحقيق تَغَلُّبه على الصِّعاب الشديدة الَّتي تواجهه:
"إِنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ"(3).
(5) ويقال لمن يعمل جاهداً في إقامة الفروع قبل العمل بتأسيس الأصول:
"مَنْ بَنَى على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَبِنَاؤُه مُنْهَارٌ". أو "قَبْلَ أَنْ ترفع بناءَكَ أَرْسِ أُسُسَه ودَعَائِمه".
(6) ويقال لمن يَتْرُكُ العملَ زاعماً أنَّ التوكُّلَ على الله يكفيه، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله: أأعْقِلُ ناقتي يا رسول الله أم أتوكّل: "اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ" (4).
تنبيه:
حين تجري العبارة مجرى الأمثال، وتغدو مثلاً، فإنَّها تُسْتَعار بلفظها دون تغيير، فيخاطَبُ بها المفرد والمذكر وفروعهما: "المؤنث - المثنى - الجمع" وفق صيغتها التي وردت دون تبديلٍ ولا تعديل.
ومنها الأمثال التالية:
__________
(1) متفق عليه؛ صحيح البخاري 5/2271 برقم: 5782، وصحيح مسلم 4/2295، برقم:2998.
(2) ديوان عبد الجبار بن حمديس ص:632.
(3) يُفْلَحُ: أي: يُشَقُّ ويقطع.
(4) أخرجه الترمذي برقم: (2517) وحسنه الألباني في تعليقه عليه.(1/29)
(1) قوله: "أحَشَفاً وَسُوءَ كِيلَة"(1)، الْحَشَفُ: التمْر الردئ الذي فَقَدَ خصَائصه، الكِيلَةُ: هَيْئة الكَيْل.
هذا مثل يضرب لمن يظلم من جهتين.
(2) قولهم: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ"(2)، مثلٌ يُضْرَبُ لمن فرَّط بطلب حاجته عند تمكُّنه، ثمَّ طلبها بَعْدَ فواتِ أوانها.
وأصل المثل أنّ امرأة طَلَبْتْ من زوجها ذي اليسار الطَّلاق، وكان ذلك في زمن الصَّيف، فطلَّقها، فتزوّجَتِ ابْنَ عمّها، وكان شابّاً مُعْدِماً، فمرَّت في الشتاء بأرضها إبلُ زَوْجها السابق، فأرسَلَتْ خادِمَها إليه تطلُبُ منه لَبَناً، فقال: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَن" فسَارَتْ عبارتُه مثلاً.
شرح المجاز المرسل في اللّفظ المفرد
المجاز المرسل في المفرد: هو اللّفظ المفرد المستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب على وجْهٍ يَصِحُّ ضمن الأصول الفكريّة واللّغوية العامّة، لعلاقة غير المشابهة, مع قرينة صارفة عن إرادة المعنَى الأصليّ.
كاستعمال لفظ "الْيَد" بمعنى النّعمة، لعلاقة السببيّة. واستعمال كلمة: "الْعَيْن" مراداً بها الجاسوس، لأنّ أعظم أداوات تجسُّسه عيْنُه. واستعمال كلمة: "الأصابع" مراداً بها أطرافُها لعلاقة الكليّة والجزئيّة بينهماإلى نحو ذلك.
والمقصودُ من العلاقة، أو ما يعبّر عنه أحياناً بالْمُلاَبَسَة، ما يكون من ارْتباط بين معنَيْين، وهذا الارتباط يسمح في مجالات التعبير التجوُّزيّ بإطلاق لفظ أحدهما على الآخر لغرض بلاغي.
وقد أحصى البيانيون ما يزيد على عشرين علاقة من العلاقات التي يَسْمَحُ كلُّ واحد منها باستعمال المجاز المرسل، لدى وجوده بين المعنى الأصلي للّفظ، والمعنى الآخر الذي يُطْلَق عليه اللّفظ مجازاً.
علاقات المجاز المرسل:
__________
(1) المستقصى في أمثال العرب 1/68، وجمهرة الأمثال 1/9، 101، ومجمع الأمثال ج1/ص207.
(2) المستقصى في أمثال العرب 1/329، مجمع الأمثال 2/68.(1/30)
يكفي وجود علاقة من العلاقات الآتيات ونحوها لإِطلاق اللّفظ إطلاقاً مجازيّاً على غير ما وُضِعَ له في اصطلاحٍ ما يجري به التخاطب:
(1) كون المعنى الأصليّ سَبَباً للمعنى الذي يُطْلَقُ عليه اللّفظ مجازاً، أو مُسَبَّباً عنه، مثل::
* قول الله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً...} (1).
أي: ويُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَضِيَاءً مِنَ الشمس فيُخْرِجُ لكُمْ بهما نباتاً له ثمراتٌ مختلفات هي رزْقٌ لَكُمْ، فالرّزق مُسَبَّبٌ عَمَّا يَنْزِلُ مِنَ السّماء، وهذا من إطلاق الْمُسبَّب وإرادة السبب، وفائدة هذا المجاز الدلالَةُ على المعنيين مع كمال الإِيجاز.
(2) كون المعنى الأصلي للّفظ كُلاًّ للمعنى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو بعضاً له، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ...} (2).
أي: يجعلون بعض أصابعهم، وهي رؤوسُها، وهذا من إطلاق الكلّ وإرادة بعضه، وفائدة هذا المجاز الإِشعار بما في نفوسهم من الرغبة بإدخال كلّ أصابعهم في آذانهم حتى لا يصل إليها الصوت الشديد المميت الذي تحدثه الصواعق.
(3) كون المعنى الأصليّ للّفظ لازماً للمعنَى الذي يُرادُ منه على سبيل المجاز، أو ملزوماً له، مثل:
* قول القائل لصاحبه: هذا وقت زوال الشمس، أي: وقت وجوب صلاة الظهر، فهذا من إطلاق الملزوم وهو قت زوال الشمس، وإرادةِ لازِمه، وهو وقت وجوب صلاة الظهر.
(4) كون المعنى الأصليّ للفظ مُطْلقاً، والمعنَى الذي يُطْلق عليه اللّفظُ مجازاً مقيداً، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ...} (3).
__________
(1) سورة غافر:13.
(2) سورة البقرة:19.
(3) سورة البقرة:222.(1/31)
جاء في هذه الآية الأمر باعْتزَال النساء في المحيض، وهو مطلَقٌ ولكن أريد منع اعتزال مقيّد وهو اعتزال جِمَاعِهِنّ. وجاء في النهي عن الاقتراب منهنّ حتى يَطْهُرْن، وهو أيضاً مطلق، ولكن أريد منه اقترابٌ مُقَيَّدٌ، وهو الاقتراب منهنّ في الجماع.
وفائدة هذا المجاز تأكيد النهي بطلب الابتعاد عن الدواعي التي تدعو إلى ارتكاب المنهيّ عنه.
(5) كون المعنى الأصلي للفظ عامّاً، والمعنى الّذي يُطْلق عليه اللّفظ على سبيل المجَاز خاصّاً، أو عكس هذا، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ بشأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(1).
المقولة الثانية: المجاز المرسل
(1) التعريف
سبق في المقدّمة تعريف المجاز المرسل بأنه المجاز الذي تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازي الذي استعمل اللفظ للدلالة به عليه أمراً غير المشابهة، أو قائماً على التوسع في اللّغة دون ضابطٍ معيّن.
وأنه سُمِّيَ "مجازاً مُرْسلاً" لكونه مرسلاً عن التقييد بعلاقة المشابهة.
وقد أدْخَلْتُ في عموم عنوان المجاز المرسل المجاز العقلي، إذ هو مجاز في الإِسناد علاقته غير المشابهة.
(2) ينقسم المجاز المرسل إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: المجاز المرسل في اللّفظ المفرد، كاستعمال لفظ "الْيَد" مراداً بها النعمة، نظراً إلى أنّ اليد هي الأداة التي تُعْطَى بها عادةً عطاءات الإِنعام، وكاستعمال لفظ "العين" مراداً بها الجاسوس الذي يُكَلَّف أن يطلَّع على أحوال الْعَدُوّ، ويأتي بالأخبار عنها، نظراً إلى أنّ العين هي الأداة الكبرى التي تستخدم في هذا الأمر.
__________
(1) سورة آل عمران:173.(1/32)
القسم الثاني: المجاز المرسل في اللّفظ المركّب، وهي المركّبات التي تستعمل في غير معانيها الأصلية بهيئتها التركيبية لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
كاستعمال المركبات الخبرية في الإِنشاء، واستعمال المركبات الإِنشائية في الخبر.
القسم الثالث: المجاز المرسل في الإِسناد، وهو المسمّى بالمجاز العقلي.
وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الظاهر من حال المتكلم، لملابسة بين ما هو له في الواقع وبين ما أسند له، من قرينة صارفة عن أن يكون الإِسناد إلى ما هو له.
كقولنا: "بنى فلان عمارة عظيمة" مع أنّه لم يَبْنِيها بعمل جسمه، وإنما اتّخذ الوسائل لبنائها، من استئجار المهندس، واستئجار العمال، وبذل الأموال، فالملابسة بين من بناها فعلاً وبَيْنَهُ هي كونُه صاحبَ الفكرة، والآمر بالبناء، وباذل المال، وربما كان المشرف على المتابعة ومراقبةِ الأعمال.
القسم الرابع: المجاز المرسل القائم على التوسُّع في اللّغة دون ضابط معيّن، ومنه المجاز بالحذف أو بالزّيادةو يكون للإِيجازوقد سمّوا هذا القسم مجازا، وبعض الباحثين لم يره من قبيل المجاز.
وفيما يلي مباحث أربعة لشرح هذه الأقسام الأربعة:
المبحَثْ الأوَّل جاء في هذه الآية إطلاق اللفظ العام وهو كلمة "الناس" مرّتين والمراد ناسٌ خاصُّون.
فالقائل المبلّغ لمصلحة الناس المشركين أعرابيٌّ من خُزاعَة، وجاء التعبير عنه بلفظ "الناس".
والمراد من "الناس" الّذين جمعوا جمعوهم للمؤمنين هم مشركو مكة.
فما في الآية هو من إطلاق العامّ وإرادة الخاص على سبيل المجاز المرسل، وفائدة هذا المجاز تدريب المؤمنين على التوكّلِ على الله، وعدم التأثر بأقوال الناس وجموعهم، ولو كانوا كلَّ الناس أو معظمهم.(1/33)
قول الله عزَّ وجلَّ بشأن شجرة الزيتون: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ}(1). أي: تَنْبُت نباتٍ وثَمَرٍ فيه الدُّهْنُ وهو الزيت، فجاء في هذه الآية إطلاقُ الدُّهْنِ مُراداً به النَّباتُ والثَّمَرُ الذي يُوجَدُ في داخله الدّهن، وهذا من إطلاق الحالِّ في الشيء وإرادَة مَحَلِّه.
وفائدة هذا المجاز الإِيجاز، وتَوْجيهُ نظر المخاطبين لما في شجرة الزيتون من دُهْنٍ عظيم النفع للناس، كي يُولُوا زيتَ الزيتون اهتماماً خاصّاً، ويشكروا نعمة الله عليهم به.
ومثله: {خُذُوا زينتكم}(2) أي: خُذُوا الأشياء الّتي فيها زينتكم، فهذا من إطلاق الحالِّ على المحلِّ.
(7) كوْنُ المعنى الأصلي للفظ والمعنى الذي يُطْلَق عليه اللّفظ على سبيل المجاز متجاوِرَيْن، مثل:
* قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ}(3).
جاء في هذا النصّ إطْلاَقُ لفظ الرَّقَبَة عَلَى الْغُلِّ الّذِي يَكُونُ مجاوراً لها ومحيطاً بها، إذِ الرَّقبةُ ليست هي الّتي تُفَكُّ، إِنَّما يُفَكُّ الْغُلُ المجاورُ لَها والمحيط بها، فهذا من إطلاق اللّفظ وإرادة ما جاوره، وفَكُّ الرَّقبةِ كنايةٌ عن عِتقِ الرقيق. وفائدة هذا المجاز الإِشعارُ بأنّ فَكَّ الْغُلّ يُرادُ مِنْهُ إطلاقُ رَقبة المغلوب به، لتحرير صاحب الرقبة من الأسْر، مع ما في هذا المجاز من إيجاز.
(8) كونُ المعنى الأصلي للّفظ قد كان فيما مضَى على ما يُطْلَقُ عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما كان عليه في الماضي.
أو كون المعنى الأصلي للفظ سيكون فيما سيأتي في المستقبل على ما يُطْلَق عليه الآن، فيُطْلَقُ عليه مجازاً باعتبار ما سيكون عليه في المستقبل. مثل:
وقول الله عزَّ وجلَّ بشأن استفتاء أحد صاحبيه في السّجن عن رؤيَا رآها:
__________
(1) سورة المؤمنون:20.
(2) سورة الأعراف:31.
(3) سورة البلد:12-13.(1/34)
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً}(1).
أي: أَعْصِرُ عِنَباً ليكون فيما بَعْدُ خَمْراً، فَأُطْلِقَ في هذه العبارة لفظُ الْخَمْر عَلى الْعِنَب باعتبار المقصود من عَصْرِه وهو أن يكون فيما بَعْدُ خمْراً. وظاهرٌ أَنَّ فائدة هذا المجاز الإِيجاز، وهو من الأغراض البلاغيّة الكبرى، فبدل أن يقول: إني أراني أعصر عنباً ليكون في المستقبل خمراً، قال: إني أراني أعْصِر خمراً. والقرينة الصارفة قرينة عقلية، لأنّ الخمر لا تُعْصَر.
(9) كون المعنى الأصلي للّفظ آلة للمعنى الذي يُرادُ استعمال اللّفظ للدلالة به عليه.
(10) علاقة الإِضافة بين المضاف وبين المضاف إليه، وهذه العلاقة تتبع معنى الحرف المقدر في الإِضافة، فقد يُحذَف المضافُ أو المضافُ إليه ويُطْلَقُ لفظ الباقي منهما على المحذوف مجازاً. مثل:
أن نقول: فتح صاحب الدار دارَه وأذِنَ لقاصديه بالدخول. أي: فتح باب داره.
فهذا من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والإِضافة هنا على تقدير "لام" الاختصاص.
المبحَثْ الثَاني
شرح المجاز المرسل في اللّفظ المركب
المجاز المرسل في اللّفظ المركب: هو لفظ مركّب يستعمل بهيئته التركيبية في غير المعنى الذي وُضِعَتْ له صيغة جملته في اصطلاح التخاطب، لعلاقة غير المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
ويكون هذا المجاز في قسمين:
القسم الأول: المركّبات الخبرية. القسم الثاني: المركّبات الإِنشائية.
أمّا قسم المركبات الخبرية: فقد تخرج عن دلالتها الخبرية مجازاً للدلالة بها على معنىً آخر، فمنها ما يلي:
(1) الخبر الْمَسُوق للتعبير عن التّحسر وإظهار الحزن، ومن أمثلته:
* قول الشاعر:
ذَهَبَ الشَّبابُ فَمَالَهُ مِنْ عَوْدَةٍ وَأَتَى الْمَشِيبُ فَأَيْنَ مِنْهُ المْهَرَبُ(2)
__________
(1) سورة يوسف: 36.
(2) ديوان علي بن أبي طالب ص:53.(1/35)
والعلاقة بين المعنى الأصلي وهو الإِخبار، والمعنى المجازي وهو التحسّر وإظهار الحزن "اللّزوم" إذ يلزم من الإِخبار بذهاب الشيء المحبوب المعلوم للجميع التحسُّر والحزن عليه.
إنّه يتحسّر ويحزن على ذهاب الشباب وإتيان المشيب ولا يخبر بذلك، وأصل صيغة الجملة موضوعة للإِخبار.
(2) الخبر المسوق للدعاء، ومن أمثلته:
* قول الله عزَّ وجلَّ في حكاية لما قال يوسف عليه السلام لإِخوته: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(1).
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ: المعنى الأصلي الذي تدلُّ عليه الصيغة الإِخبار، وقد استعملت مجازاً في الدعاء، والعلاقة السببيّة على سبيل التفاؤل والطمع بكرم الله وفضله، إذ الدعاء الذي هو إنشاء طلب من الله سبب في تحقيق الاستجابة بمشيئة الله على سبيل التفاؤل والرجاء. (3) الصيغة الخبريّة المسوقة للدلالة بها على إنشاء الأمر أو النهي، ومن الأمثلة:
* قول الله عزَّ وجلَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ...} (2).
فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحجّ: الصيغة موضوعة للنفي الخبري، وقد استعملت في النهي عن هذه الأمور مجازاً، والعلاقة المسببيّة لأنّ حصول النّفي في الواقع مُسَبَّبٌ عن طاعة المؤمنين في الحجّ لما ينهى الله عنه، وهذا هو المنتظر منهم، فأُطْلِقَ المسبّب، وأريد سببه.
واستعمال الخبر في مثل هذا المقام أبلغ من إنشاء النَّهْي، إذْ يُشْعِر بأنّه ليس من شأن المؤمنين أن تكون منهم المخالفة في واقع حجّهم، الذي تحمَّلوا فيه المشقات الكثيرات، وبذلوا لأدائه أموالاً جمعوها بالجهد والكدّ وربما انتظروا سنين حتى تهيّأت لهم الاستطاعة..
__________
(1) سورة يوسف: 92.
(2) سورة البقرة: 197.(1/36)
إلى غيرها من الأمثلة، ومنها: {ومَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}(1) - {وإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللَّهَ}(2).
(4) الصيغ الخبرية المستعملة للدلالة على الامتنان، أو الترغيب والحضّ، أو التلويم، أو التحسير والتنديم، أو المدح، أو الهجاء، أو السخرية والاستهزاء، إلى غيرها من معانٍ سبق بيانها في مبحث الجملة الخبرية، ومعانٍ أخرى قد تَتَفَتَّق عنها أذهان البلغاء.
وأمّا قسم المركبات الإِنشائيّة: فقد تخرج مجازاً عن معانيها للدلالة بها على معانٍ أُخرى، فمنها ما يلي:
(1) إطلاق الأمر والنهي مراداً به الإِخبار مجازاً، ومن الأمثلة ما يلي: * قول الله عزَّ وجلَّ خطاباً لرسوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً}(3).
فَلْيَمْدُهْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً: صيغة أَمْرٍ يُرَادُ بِهَا الإِخْبارُ عن سُنَّةِ اللَّهِ، وصيغة الأمر هنا مستعملَةٌ أوّلاً بمعنى الدعاء، والدُّعَاءُ مُسْتَعْمَلٌ بمعنى الخبر، أي: فالله يُمدُّ لَهُ مَدّاً.
وفي هذا المجاز إيجاز بالغ، وإشعار بأنّ الرّسُول يدعُو على من كان في الضلالة، بأَنْ يُجْري الله فيه سنَّتَهُ، فَيَمُدَّ لَهُ، ولا يدعُو عليه بتعجيل العقاب.
* قول الله عزَّ وجلَّ :{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(4).
__________
(1) سورة البقرة: 272.
(2) سورة البقرة:83.
(3) سورة مريم:75.
(4) سورة العنكبوت:12.(1/37)
وَلْنَحْمِلُ خَطَايَاكُمْ: هذِه صيغةُ أمْرٍ، يُرادُ بِها الإِخبارُ على سبيل الوعد بأنّهم سيَحْمِلُونَ عَنْهُمْ خَطَايَاهُمْ إذَا اتَّبَعُوهم، وهم كاذبون بهذا الوعد، وغرضهم منه الاستدراج إلى الكفر.
وصيغة الأمر في هذا المقام أبلغ من صيغة الخبر، لأنّ فيها معنى إلزام أنفسهم بتحقيق الأمر الذي وعَدُوهم به.. أمثلة:
(1) قول القائل في وصف متعبّد يقومُ اللّيل ويصوم النهار اسْمُه عبد الله: "عبدُ الله ليلُهُ قائم، ونهارُهُ صائم".
(2) قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1).
جاء في هذه الآية إسنادُ تذبيح أبناء المستضعفين إلى فرعونَ، مع أنَّه لم يكن هو الذي يقوم بأعمال التذبيح، إنّما كان يأمُرُ جنوده بذلك فيُطيعون أمره. والعلاقة أو الملابسة هي السَّبَبِيّة، فدلّ هذا المجاز العقلي بعبارته الموجزة على أمرين:
الأول: أنّ فرعون كان هو الآمر الْمُطَاع في أعمال تذبيح أبناء المستضعفين في مصر.
الثاني: أنّ جنوده كانوا يقومون فعلاً بهذا العمل الإِجراميّ الشنيع، طاعة لسيّدهم فرعون.
والقرينة الدليل الفكري المستند إلى ما هو معلوم في عادة الملوك الجبَّارين.
الثالث: أن يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازاً، مثل: "أَنْبَتَ الْبَقْلَ شبابُ الزمان".
الإِنبات: حقيقة. وشبابُ الزمان مجاز، والإِسناد مجاز عقلي، والملابَسَةُ السببيّة.
القسم الرابع: أن يكون المسند مجازاً والمسند إليه حقيقة، مثل:
* قول الله عزّ وجلّ: {...حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...} (2).
وضع الأوزار: مجاز عن انتهاء أعمال الحرب، والحرْبُ: حقيقة، وإسنادُ وَضْعِ الأوزار إلى الحرب مجازٌ عَقْلي.
المبحث الثالث: قرينة المجاز العقلي
__________
(1) سورة القصص:4.
(2) سورة محمد:4.(1/38)
تأتي قرينة المجاز العقلي علَى وَجْهَيْن:
الوجه الأوّل: أن تكون لفظيّة، مثل: بنَى صَالحٌ بيته مستأجراً أمْهَرَ البنّائين، أيْ: لم يَبْنِه بيده، إنما اتّخذ الوسائل لبنائه.
الوجه الثاني: أنْ تكون غير لفظية، وهذه القرينة: * وإمّا أن تكون آتية من دليل العقل، مثل: جَاءَتْ بي إليك، فالمحبة ليست هي الفاعلة على وجه الحقيقة، لكنّها كانت الباعث النفسي، وهذا يُدْرَك بالعقل.
* وإما أن تكون آتية من دليل العادة، مثل: طَبَخَ صاحب الوليمة لضيوفه طعاماً شهيّاً لذيذاً، أي: أمر بطبخ الطعام هذا، واتّخذ الوسائل لإِعداده، وهذا يُدْرَك بحسب العادة.
* وإمّا أن تكون آتية من دليل الحال، مثل: كتب عبد السميع رسالةً مؤثرةً لولده المسافر، أي: أمر بأن تُكْتب له، إذا كان هذا الرجل أميّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتُب، وكانت حاله معروفة.
قيمة المجاز العقلي في البلاغة والأدب:
كلُّ من يقرأ أو يسْمَع كلاماً بليغاً مؤثّراً إذا رجَعَ إلى تحليل عناصر التأثير فيه، القائمة على الإِبداع الرفيع يلاحظ أنَّ من أكثر هذه العناصر تأثيراً في نفسه، ما اشتَمَل الكلام عليه من مجاز بديع، وتكثُر فيه الفقرات التي تنتمي إلى قسم المجاز العقلي.
المبحَثْ الرَّابع
المجاز المرسل القائم على التوسع في اللّغة دون ضابط معيّن
توجد أنواعٌ وصُورٌ متفرّقة من المجاز لا يجمعها جامع، ولا يحصرها ضابط معين، وهي من التوسّع في اللّغة، وينطبق عليها بوجْهٍ عامّ تعريفُ المجاز، وهو "إطلاق اللّفظ للدلالة به على غير ما وُضع له في اصطلاحٍ به التخاطب، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي".
وقد رأيت أن أجعلها داخلةً تحت عنوان "المجاز المرسل" أي: المجاز الذي لا تكون العلاقة فيه المشابهة، سواء أكان له علاقة غَيْرُ المشابهة، أم ملابسة ما، أم لمْ تظهر فيه ملابسةٌ فكرية.
وقد يرجع بعض هذه الأنواع المتفرّقة أو بعض أمثلتها إلى أقسام المجاز التي سبق تفصيلها وشرحها.(1/39)
عرض لبعض هذه الأنواع والصور:
* ومنها إطلاق اسم الفاعل بدل اسم المفعول والعكس، مثل قول الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} (1).
آمِناً: أي: مَأْموناً فيه، هذا ما يقوله البيانيون، ويفسّره اللّغويوّن بقولهم: أي: ذا أمْنٍ.
* ومنها إطلاق اللّفظ الدالّ على المستقبل مراداً به الماضي، لإِفادة الدوام والاستمرار حَالاً فمستقبلاً، أو للدلالة على الاستعداد النفسيّ المستمرّ، كأن يقال لمن أُدِينَ بشُرب الخمر في الماضي: أنْتَ تَشْرَبُ الخمر، أي: هذا دَيْدَنُك في الماضي والحال والاستقبال.
* ومنها وضع النداء موضع التعجّب، مثل: يَا سُبْحانَ الله.
* ومنها وضع جموع القلّة بدل جموع الكثرة لغرض بلاغي، كتعظيم العدد القليل، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد القليل من صفات جليلة وعظيمة يجعله معادلاً للعدد الكثير.
* ومنها وضع جموع الكثرة بدل جموع القلّة، لغرض بلاغيّ، كتحقير العدد الكثير، والإِشعار بأنّ ما يشتمل عليه هذا العدد الكثير من تناقض في صفات كماله يجعله معادلاً للعدد القليل.
* ومنها وضع المذكّر بدَل المؤنث والعكس، لغرض بلاغي أو لمراعاة دواعي جمالية في اللّفظ.
* ومنها استعمال صيغة الأمر في غير الطلب، كالتخيير والتعجيز. * ومنها استعمال أدوات الاستفهام في غير طلب الفهم، واستعمال أدوات التمنّي والترجّي في غير ما وُضِعَتْ له لأغراض بلاغيّة.
* ومنها ما يُسمَّى "التضمين" وأظْهَرُهُ تضمين فعل أو ما في معناه، معنى فعل آخر، وتعديته بما يلائم الفعل الذي ضُمِّنَه، مثل:
1- قول الله عزّ وجلّ في سورة {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...} (2).
__________
(1) سورة البقرة:126.
(2) سورة البقرة 187.(1/40)
الرَّفَثُ: لا يتعَدَّى بحرف الجرّ "إلى" لكنّه ضُمِّنَ معنَى فعل "أفْضَى" فَعُدِّيَ تَعْدِيتَهُ، والمعنى: أُحِلَّ لكم الرفث مُفْضِين به إلى نسائكم، فأغنى هذا الأسلوب التضميني عن التعبير بجُمْلَتين، أو عن التصريح بالحال.
2- وقول الله عزّ وجلّ في حكاية خطابه لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى}(1).
أصل التعبير: هَلْ لَكَ أن تتزكَّى، ولكن لمَّا تضمَّنَ الْعَرْضُ معنى الدعوة إلى التزكية، عُدِّي تَعْدِيَة أَدْعو، فالمعنى: هل يطيبُ لَكَ أنْ أدْعُوكَ إلَى أن تتزَكَّى.
وبعد،،
فهذا آخر ما يسر الله كتابته تحت هذا العنوان ( الاجتياز إلى أسرار المجاز)، أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض ما أردت، وأسأله تعالى: أن يجعل ما كتبته زادا لحسن القدوم عليه، وعتادا ليوم الرجوع إليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل،،
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة النازعات:17-18.(1/41)