الاجتهاد والتقليد وتقليد غير الأئمة الأربعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي من علينا بهذه الرسالة العظيمة وجعلنا من أتباع سيد خير الأمم وفضلنا بقوله تعالى على جميع الأمم حيث قال:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)
والحمد لله الذي جعلنا أمة وسطا تشهد على جميع الأمم فقال تعالى :
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143)
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا , فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها , وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس , وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا , فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها , ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها , ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره , وتستعد له استعدادا لائقا . .(1/1)
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل , أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد , أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
(أمة وسطا) . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد , أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد , وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها , وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع , بلا تفريط ولا إفراط , في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا) . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق , وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها , في تثبت ويقين .
(أمة وسطا) . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر , والضمائر , ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب , وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك , فلا تكل الناس إلى سوط السلطان , ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
((1/2)
أمة وسطا) . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته , ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو , ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة , والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا) . . في المكان . . في سرة الأرض , وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب , وجنوب وشمال , وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا , وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا) . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات , ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها , إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها , واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها , واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .(1/3)
وأمة تلك وظيفتها , وذلك دورها , خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية , فللقيادة تكاليفها , وللقوامة تبعاتها , ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى , ليتأكد خلوصها لله وتجردها , واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها , بمناسبة تحويلهم الآن عنها:
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) . .
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة , التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة , المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ; وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ; وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة ; وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية , ومن كل شعار اتخذته , وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر , وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ; وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك , ومن عصبية الجنس , إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس , لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره , ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى , فقد صرف الله المسلمين عنه فترة , ووجههم إلى بيت المقدس , ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ; ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول صلى الله عليه وسلم ثانيا , ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله , والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة , فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .(1/4)
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ; ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ; إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس , حتى يحاسبهم عليه , ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم , بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية , والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق , ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق , وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه:
(وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) . .
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات , وأن تنفض عنها تلك الرواسب ; وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع , حيثما وجهها الله تتجه , وحيثما قادها رسول الله تقاد .
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال , وإن صلاتهم لم تضع , فالله سبحانه لا يعنت العباد , ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ; ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها:
(وما كان الله ليضيع إيمانكم , إن الله بالناس لرؤوف رحيم) . .
إنه يعرف طاقتهم المحدودة , فلا يكلفهم فوق طاقتهم ; وإنه يهدي المؤمنين , ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان , حين تصدق منهم النية , وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته , فاجتياز البلاء فضل رحمته: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) . .(1/5)
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة , ويذهب عنها القلق , ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . . (( الظلال ))
**************
وقال تعالى :
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( 163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165) النساء
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول , ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير . . موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر:نوح . وإبراهيم . وإسماعيل . وإسحاق . ويعقوب . والأسباط . وعيسى . وأيوب . ويونس . وهارون . وسليمان . وداود . وموسى . . . وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن , وممن لم يقصصهم عليه . . موكب من شتى الأقوام والأجناس , وشتى البقاع والأرضين . في شتى الآونة والأزمان . لا يفرقهم نسب ولا جنس , ولا أرض ولا وطن . ولا زمن ولا بيئة . كلهم آت من ذلك المصدر الكريم . وكلهم يحمل ذلك النور الهادي . وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير . وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور . . سواء منهم من جاء لعشيرة . ومن جاء لقوم . ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر . . ثم من جاء للناس أجمعين:محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين .(1/6)
كلهم تلقى الوحي من الله . فما جاء بشيء من عنده . وإذا كان الله قد كلم موسى تكليما فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم . لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئا . فلا نعلم إلا أنه كان كلاما . ولكن ما طبيعته ? كيف تم ? بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه ? . . . كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن . وليس وراء القرآن - في هذا الباب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان .
إولئك الرسل - من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عبادة يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان ; وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب . . كل ذلك:
(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) . .
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق ; وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده , وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل (مبشرين ومنذرين) يذكرونهم ويبصرونهم ; ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات , التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق .
وكان الله عزيزا حكيمًا . .
عزيزا:قادرا على أخذ العباد بما كسبوا . حكيما:يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه . . والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه . .
ونقف من هذه اللفتة: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال .(1/7)
نقف منها:أولا:أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا "الإنسان" قضية الإيمان بالله ; التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها ; بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها ; كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى .
لو كان الله - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها , يعلم أن العقل البشري , الذي وهبه للإنسان , هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته , في دنياه وآخرته , لوكله إلى هذا العقل وحده ; يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق , ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته , فتستقيم على الحق والصواب ; ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ; ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم ; وتبليغهم عن ربهم ; ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) . . ولكن لما علم الله - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة ; وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة . . لما علم الله - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل , وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا) . . وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني . . فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية . .
إذن . . ما هي وظيفة هذا العقل البشري ; وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى ; وفي قضية منهج الحياة ونظامها ?(1/8)
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة ; ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول . ومهمة الرسول أن يبلغ , ويبين , ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام . وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ; وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح , ومنهج النظر الصحيح ; وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية , المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة .
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان , والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله ; وبعد أن يفهم المقصود بها:أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها , لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول ! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان . . فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح , ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها . .
إن هذه الرسالة تخاطب العقل . . بمعنى أنها توقظه , وتوجهه , وتقيم له منهج النظر الصحيح . . لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها , وبقبولها أو رفضها . ومتى ثبت النص كان هو الحكم ; وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه ; سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه . .
إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص . وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح . وعند هذا الحد ينتهي دوره . . إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل . فهذا النص من عند الله , والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان , وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله .(1/9)
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير . . سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة . . أو ممن يريدون إلغاء العقل , ونفي دوره في الإيمان والهدى . . والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا . . من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها ; وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات , وفي شؤون الحياة كلها . فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ . . فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات , وفق مفهوم نصوصها . . مناقشتها ليقبلها أو يرفضها . ليحكم بصحتها أو خطئها . . وقد علم أنها جاءته من عند الله . الذي لا يقص إلا الحق , ولا يأمر إلا بالخير .
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله , هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها ; كونها لنفسه من مقولاته "المنطقية " ! أو من ملاحظاته المحدودة ; أو من تجاربه الناقصة . . إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة , ويكون منها مقرراته هو ! فهي أصح من مقرراته الذاتية ; ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من الله - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص !
. . إن العقل ليس إلها , ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله . .(1/10)
إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له . . هذا مجاله , ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة . وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع . وليس هنالك من هيئة , ولا سلطة , ولا شخص , يملك الحجر على العقول , في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة , ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح , المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل . .
إن الإسلام دين العقل . . نعم . . بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ; ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان . ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ; ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة ; وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة . ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته , ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلولة ولا يدركه . . فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن , أو عدم التسليم بها فهو كافر . . وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها . وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها , كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها , يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل , ويرفض منها ما يرفض , ويختار منها ما يشاء , ويترك منها ما يشاء . .فهذا هو الذي يقول الله عنه: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ?) ويرتب عليه صفة الكفر , ويرتب عليه كذلك العقاب . .(1/11)
فإذا قرر الله - سبحانه - حقيقة في أمر الكون , أو أمر الإنسان , أو أمر الخلائق الأخرى . أو إذا قرر أمرا في الفرائض , أو في النواهي . . فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه . متى أدرك المدلول المراد منه . .
إذا قال الله سبحانه (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) . . (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) . . (والله خلق كل دابة من ماء) . .(خلق الإنسان من صلصال كالفخار , وخلق الجان من مارج من نار) . . إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء . . فالحق هو ما قال . وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي , أو في علمي , أو في تجاربي . . فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب . وما قرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب .
وإذا قال الله سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . . (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله , وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) . . (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى . . .) . . (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن . .) . . إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول:ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله , أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس . . فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب , وتدفع إليه الشهوات والنزوات . . وما يقرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح . .(1/12)
وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات , أو من منهج الحياة ونظامها , سواء في موقف العقل إزاءه . . متى صح النص , وكان قطعي الدلالة ; ولم يوقت بوقت . . فليس للعقل أن يقول:آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ; ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها . . فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته . فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان . . احترازا من الجرأة على الله , ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . . إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية ; لا في قبول المبدأ العام أو رفضه , تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال !
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية . . فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته ; وطبيعة الكائنات فيه والأحياء ; والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء ; وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج الله - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام ! .
ونقف من هذه اللفتة: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقفة أخرى:
نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها . . وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة . .
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء , منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم . فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر , تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم , ويترتب ثوابهم أو عقابهم . . في الدنيا والآخرة .(1/13)
إنه أمر هائل عظيم . . ولكنه كذلك . . ومن ثم كان الرسل - صلوات الله عليهم - يحسون بجسامه ما يكلفون . وكان الله - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم . . وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه:(إنا سنلقي عليك قولا ثقيلًا) . . ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد:(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) . .(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) . . وهذا هو الذي يشعر به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول:قل:إني لن يجيرني من الله أحد , ولن أجد من دونه ملتحدا . . إلا بلاغا من الله ورسالاته . .(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا , إلا من ارتضى من رسول , فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا) . .
إنه الأمر الهائل العظيم . . أمر رقاب الناس . . أمر حياتهم ومماتهم . . أمر سعادتهم وشقائهم . . أمر ثوابهم وعقابهم . . أمر هذه البشرية , التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة . وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة . وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها , وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ !(1/14)
فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة , ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل . . وهم لم يبلغوها دعوة باللسان , ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل , وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق . . سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك , وضلالات تزين , أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين . كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين . بما أنه المبلغ الأخير . وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات . فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان . إنما أزالها كذلك بالسنان (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) . .
وبقي الواجب الثقيل على من بعده . . على المؤمنين برسالته . . فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده صلى الله عليه وسلم وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه . ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس ; وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء . . على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى . . فالرسالة هي الرسالة ; والناس هم الناس . . وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات . . وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة ; وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة . . الموقف هو الموقف ; والعقبات هي العقبات , والناس هم الناس .
ولا بد من بلاغ , ولا بد من أداء . بلاغ بالبيان . وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون . وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة ; وتفتن الناس بالباطل وبالقوة . . وإلا فلا بلاغ ولا أداء . .(1/15)
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها ; وشقوتها في هذه الدنيا , وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة ! وحمل التبعة في هذا كله , وعدم النجاة من النار . .
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة ? وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل ?!
إن الذي يقول:إنه "مسلم" إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول:إنه "مسلم" ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه , إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه ! بدلا من أداء شهادة له , تحقق فيه قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) .
وتبدأ شهادته للإسلام , من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته , صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن "شهيد" أدى شهادته لدينه , ومضى إلى ربه . . وهذا وحده هو "الشهيد" .
وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته ; ممثلة في علمه , وعدله , ورعايته , وفضله , ورحمته وبره . . بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى . .(1/16)
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن ; وما أودعه من القوى والطاقات ; وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال . وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده . . على عظمة هذه الأداة التي وهبها له ; وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان . . فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات ; وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى , ويحجبها الجهل والقصور . . ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة , إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله . . ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء , ويغير فيه ما شاء , ويركب فيه ما شاء , ويحلل فيه ما شاء . منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطى ء عقله ويصيب , وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق !(1/17)
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين . هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح , وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق , ووحدانيته , وتدبيره وتقديره , وقدرته وعلمه . . ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له , والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس . . ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج . . ولكن الله - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها , فتعطلها , أو تفسدها , أو تطمسها , أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ,قد أعفى الناس من حجية الكون , وحجية الفطرة , وحجية العقل , ما لم يرسل أليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها , وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة , هذه الأجهزة , فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي . . وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع ; أو تسقط حجتها وتستحق العقاب . .
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره , على ما يعلم به من ضعف ونقص ; فيكل إليه هذا الملك العريض . . خلافة الأرض . . وهو بالقياس إليه ملك عريض ! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير !
ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره , ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ; ومن عقل هاد ولكنه يضل ; بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى . . وهو يكذب ويعاند ; ويشرد وينأى ; فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ; ولا يحبس عنه بره وعطاياه , ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة . . ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل ; فيعرض ويكفر , ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب . .(1/18)
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه . . استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره . . استغنى عن هدايته ودينه ورسله . . استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوم بمنهج الله - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان . . فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده , ليتكفأ ويتعثر ! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة . إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه ; وإنماء قدرات ممكنة النماء ; وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب . . أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله , ويتنكب هداه , فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه . وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله . وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها , وتنكبت هداه !
وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول:إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة . . فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح ; فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط , ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات , وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات , لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا , وتركت للفوضى والمصادفة ! وشتان شتان !
وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها ; فلا يغني العقل البشري عنها . . أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . . لا في تصور اعتقادي ; ولا في خلق نفسي , ولا في نظام حياة , ولا في تشريع واحد لهذا النظام . .(1/19)
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا . . بل إنهم ليقولون:إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة .
وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة .
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتطاول إليها إعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية .
وفي المبادى ء والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن , مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته . ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى , بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها . .(1/20)
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم . فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها "العلم" الصاعد . . ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها . . هو التوازن الذي ينشى ء السعادة والطمأنينة , والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة . . والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر . . والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام ; مهما التمعت بعض الجوانب ; ومهما تضخمت بعض الجوانب . فإنما تلتمع لتنطفى ء جوانب أخرى . وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى . . والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى . (( الظلال ))
*************
وفي هذا الكتاب أبحاث متعددة حول الاجتهاد والتقليد وتقليد غير الأئمة الأربعة والرد على المقلدين وعلى المتعصبين
وذلك ليكون المسلمون على بينة من أمرهم ولا سيما أنهم يواجهون أعداء كثر من الداخل والخارج
فقد آن لهم أن يعودوا لدينهم لأنه لا قيمة لهم دونه
وقد آن لهم ترك التعصب للمذاهب
وكذلك قد آن لهم استعمال عقولهم في فهم النصوص الشرعية واتباع من سبق على هدى وبصيرة من أمرهم
قال تعالى :
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)
(قل:هذه سبيلي) . .
واحدة مستقيمة , لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
(أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) . .
فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيدا , ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة , لا نخبط ولا نتحسس , ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته , وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
(وما أنا من المشركين) . .(1/21)
لا ظاهر الشرك ولا خافيه .
هذه طريقي فمن شاء فليتابع , ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم .
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز , لا بد لهم ان يعلنوا أنهم أمة وحدهم , يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم , ولا يسلك مسلكهم , ولا يدين لقيادتهم , ويتميزون ولا يختلطون ! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم , وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة ! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية ; وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة , وعنوانه القيادة الإسلامية . . لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي ; وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا !
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي , وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية , يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم , وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم , وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة .
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة , وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ !
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية , والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب ! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم ! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص ? وطريقهم الخاص ? وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية (( الظلال ))
*************(1/22)
وقد آن لهم أن يوقنوا بأن تحكيم غير شريعة الإسلام كفر وفسوق وعصيان
قال تعالى : إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( 44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( 46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ((1/23)
48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( 49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 50) سورة المائدة
وهكذا تتبين القضية . . إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . . وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . . وإذن فشريعة واحدة , ومنهج واحد , وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله , فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله , فهو كفر وظلم وفسوق . . وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه , وكما جاء به كل الرسل من عنده . . أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .
وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و"الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي , والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله , ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي:"الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ; وادعاء أخص خصائص الألوهية , وهي السلطان والحاكمية , وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .(1/24)
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها , إذا هم نسبوها إلى أنفسهم , ووضعوا عليها شاراتهم ; ولم يردوها لله ; ولم يطبقوها باسم الله , إذعانا لسلطانه , واعترافا بألوهيته ; وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية , إلا تطبيقالشريعة الله , وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) . . (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) . . ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ; ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق , أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ; وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
وعلى هذا المعنى يتكى ء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك .
شأن آخر يتناوله سياق السورة ; غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح , وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ; وغير بيان معنى "الدين" وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل , والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل .(1/25)
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة ; دورها الحقيقي في هذه الأرض ; وموقفها تجاه أعدائها , وكشف هؤلاء الأعداء , وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين ; وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم ; وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها . . إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة ; والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة . .
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ; وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ; ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ; فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ; وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة:
اليوم أكملت لكم دينكم , وأتممت عليكم نعمتي , ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) . .
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ; تقيم العدل في الأرض , غير متأثرة بمودة أو شنآن , وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة . . وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ; فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ; لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ; وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ; وتعاونوا على البر والتقوى , ولا تعاونوا على الإثم والعدوان , واتقوا الله إن الله شديد العقاب) . .
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله , شهداء بالقسط ; ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله , إن الله خبير بما تعملون) .(1/26)
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه , فاحكم بينهم بما أنزل الله ; ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق .
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون) .
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ; وصاحبة الرسالة الأخيرة , والدين الاخير ; وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير . . ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ; ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا . إنما تتولى الله ورسوله , ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله . فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها , ولا بأرضها , ولا بموروثاتها الجاهلية . إنما هي "أمة " بهذه العقيدة الجديدة , وبهذا المنهج الرباني , وبهذه الرسالة الأخيرة . . وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة: (( الظلال )
لقد جاء كل دين من عندالله ليكون منهج حياة . منهج حياة واقعية . جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية , وتنظيمها , وتوجيهها , وصيانتها . ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ; ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ; ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس ; ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ; ويؤاخذ الناس على مخالفتها , ويؤخذون بالعقوبات .
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ; يملك السلطان على الضمائر والسرائر , كما يملك السلطان على الحركة والسلوك . ويجزي الناس وفق شرائعة في الحياة الدنيا , كما يجزيهم وفق حسابة في الحياة الآخرة .(1/27)
فأما حين تتوزع السلطة , وتتعدد مصادر التلقي . . حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الانظمة والشرائع . . وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا . . حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين , وبين اتجاهين مختلفين , وبين منهجين مختلفين . . وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) . . (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) . .(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) . .
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة . وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى , أو لأمة من الأمم , أو للبشرية كافة في جميع أجيالها , فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة , إلى جانب العقيدة التي تنشى ء التصور الصحيح للحياة , إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله . . وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله . حيثما جاء دين من عند الله . لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة .
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى , التي ربما جاءت لقرية من القرى , أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل , في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة . . وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى . . اليهودية , والنصرانية , والإسلام . .
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) :
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل , وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة . . وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد . وتحمل شعائر تعبدية شتى . وتحمل كذلك شريعة:
((1/28)
يحكم بها النبيون الذين أسلموا , للذين هادوا , والربانيون والأحبار , بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) .
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله , وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج . ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله ; فليس لهم في أنفسهم شيء ; إنما هي كلها لله ; وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ; وهم قضاتهم وعلماؤهم . وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله , وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء , فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم , بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته , كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم .
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة , يلتفت إلى الجماعة المسلمة , ليوجهها في شأن الحكم بكتابالله عامة , وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم , وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف , وجزاء نكوله أو مخالفته:
(فلا تخشوا الناس واخشون ; ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . .(1/29)
ولقد علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه - في كل زمان وفي كل أمة - معارضة من بعض الناس ; ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام . . ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث . ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه ; ويرد الألوهية لله خالصة , حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم للناس مما لم يأذن به الله . . وستواجهة معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت . ذلك أن شريعة الله العادلة لن تبقي على مصالحهم الظالمة . . وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال . ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها . . وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك ; ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض .
علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات ; وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة ; وأن يصمدوا لها , وإن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال . . فهو يناديهم:
(فلا تخشوا الناس واخشون) . .
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله . سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله , ويرفضون الإقرار - من ثم - يتفرد الله - سبحانه - بالألوهية . أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه . أو تلك الجموع المضللة او المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها . . لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعا ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة . فالله - وحده - هو الذي يستحق أن يخشوة . والخشية لا تكون إلا لله . .(1/30)
كذلك علم الله - سبحانه - أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين ; قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا ; وهم يجدون أصحاب السلطان , وأصحاب المال , وأصحاب الشهوات , لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعا , طمعا في عرض الحياة الدنيا - كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل ; وكما كان ذلك واقعا في علماء بني إسرائيل .
فناداهم الله:
(ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلًا) . .
وذلك لقاء السكوت , أو لقاء التحريف , أو لقاء الفتاوي المدخولة !
وكل ثمن هو في حقيقته قليل . ولو كان ملك الحياة الدنيا . . فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقابا ومصالح صغيرة ; يباع بها الدين , وتشترى بها جهنم عن يقين ?!
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن ; وليس أبشع من تفريط المستحفظ ; وليس أخس من تدليس المستشهد . والذين يحملون عنوان:"رجال الدين" يخونون ويفرطون ويدلسون , فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله , ويحرفون الكلم عن مواضعه , لموافأة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله . .
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . .
بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله(من) الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان , وينطلق حكما عاما , على كل من لم يحكم بما أنزل الله , في أي جيل , ومن أي قبيل . .
والعلة هي التي أسلفنا . . هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله , إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله , يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب , ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ? وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان , والعمل - وهو أقوى تعبيرا من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ?!(1/31)
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل , لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد .
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله , يعود السياق , لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء:
(وكتبنا عليهم فيها:أن النفس بالنفس , والعين بالعين , والأنف بالأنف , والأذن بالأذن , والسن بالسن , والجروح قصاص) . .
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام , وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين , التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام , لاعتبارات عملية بحتة ; حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها , بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة , للأزمان كافة , كما أرادها الله .
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى:
(فمن تصدق به فهو كفارة له) . .
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ; لا تنازل فيه , ولا تصدق به , ومن ثم فلا كفارة . .
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص , هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس , فتقتص للنفس بالنفس , وتقتص للجوارح بمثلها , على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .(1/32)
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد "الإنسان" الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية , وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ; لا فيما بينهم وبين الناس فحسب , حيث كانوا يقولون:"ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة , وبني النضير العزيزة ; حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !(1/33)
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل , أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر , يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه , وما زينه له اندفاعه ; وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه , أو طبقته , أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ; وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا , أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن , والنقص في الكيان , والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ; والذي يذهب بحزازات النفوس , وجراحات القلوب , والذي يسكن فورات الثأر الجامحة , التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص:
(فمن تصدق به فهو كفارة له)
من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص , أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي , إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها , فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ; يحط بها الله عنه .(1/34)
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو , وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ; ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ? أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ? . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل , وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .
روى الإمام أحمد . قال:حدثنا وكيع , حدثنا يونس بن أبي إسحاق , عن أبي السفر , قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية:سنرضيه . . فألح الأنصاري . .فقال معاويه:شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة , أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى:فإني قد عفوت " . .
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .
وتلك شريعة الله العليم بخلقة ; وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر , وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ; ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة , التي صارت طرفا من شريعة القرآن , يعقب بالحكم العام:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) . .
والتعبير عام , ليس هناك ما يخصصه ; ولكن الوصف الجديد هنا هو(الظالمون) .(1/35)
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده , وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم , الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة , وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ; ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو(من) المطلق العام .
ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة .
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم , مصدقا لما بين يديه من التوراة . وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور , ومصدقا لما بين يديه من التوراة , وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه , ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . .(1/36)
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل , ليكون منهج حياة , وشريعة حكم . . ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعا إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة . وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة , فاعتمد شريعتها - فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة . . وجعل الله فيه هدى ونورا , وهدى وموعظة . . ولكن لمن ? . .(للمتقين) . فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة , هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور ; وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور . . أما القلوب الجاسية الغليظة الصلده , فلا تبلغ إليها الموعظة ; ولا تجد في الكلمات معانيها ; ولا تجد في التوجيهات روحها ; ولا تجد في العقيدة مذاقها ; ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب . . إن النور موجود , ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة , وإن الهدى موجود , ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة , وإن الموعظة موجودة , ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي .
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورا وموعظة للمتقين , وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل . .
أي إنه خاص بهم , فليس رسالة عامة للبشر - شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول , قبل هذا الدين الأخير - ولكن ما طابق من شريعته - التي هي شريعة التوراة - حكم القرآن فهو من شريعة القرآن . كما مر بنا في شريعة القصاص .
وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) .
فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه . وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل - قبل الإسلام - وما أنزل إليهم من ربهم - بعد الإسلام - فكله شريعة واحدة , هم ملزمون بها , وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة:
((1/37)
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) . .
والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه . . وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل . وليست تعني قوما جددا ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى . إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها , لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل , ومن أي قبيل .
الكفر برفض ألوهية الله ممثلا هذا في رفض شريعته . والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم . والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه . . فهي صفات يتضمنها الفعل الأول , وتنطبق جميعها على الفاعل . ويبوء بها جميعا دون تفريق .
وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة ; وإلى الشريعة الأخيرة . . إنها الرسالة التي جاءت تعرض "الإسلام" في صورته النهائية الأخيرة ; ليكون دين البشرية كلها ; ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا ; ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي ; ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها . المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها ; والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها ; وتستمد منها تصورها الاعتقادي , ونظامها الاجتماعي , وآداب سلوكها الفردي والجماعي . . وقد جاءت كذلك ليحكم بها , لا لتعرف وتدرس , وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر ! وقد جاءت لتتبع بكل دقة , ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة . . فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى . ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين . فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة . إنما يريد الله أن تحكم شريعته , ثم يكون من أمر الناس ما يكون:(1/38)
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق , مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه , فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم , فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا , فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم . واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم , وإن كثيرا من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ? ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون . .
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير , وهذا الحسم في التقرير , وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف . .
يقف الإنسان أمام هذا كله , فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها , بدعوى الملابسات والظروف ! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله ! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم "مسلمين" ?! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم , وهم يخلعون شريعة الله كلها ; ويرفضون الإقرار له بالإلوهيه , في صورة رفضهم الإقرار بشريعته , وبصلاحية هذه الشريعه في جميع الملابسات والظروف , وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف !
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق) . .
يتمثل الحق في صدوره من جهى الألوهيه , وهي الجهه التي تملك حق تنزيل الشرائع , وفرض القوانين . . ويتمثل الحق في محتوياته , وفي كل ما يعرض له من شئون العقيده والشريعه , وفي كل ما يقصه من خير , وما يحمله من توجيه .
(مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) . .(1/39)
فهو الصوره الأخيره لدين الله , وهو المرجع الأخير في هذا الشأن , والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس , ونظام حياتهم , بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل .
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه . سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماويه , أو في الشريعه التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيره . أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم , فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب .
ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير .
وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره:
(فاحكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) . .
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبحثون إليه متحاكمين . ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب , بل هو عام . . وإلى آخر الزمان . . طالما أنه ليس هناك رسول جديد , ولا رساله جديده , لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير !
لقد كمل هذا الدين , وتمت به نعمة الله على المسلمين . ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين . ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله , ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر , ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى . وقد علم الله حين رضيه للناس , أنه يسع الناس جميعاً . وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً . وأنه يسع حياة الناس جميعاً , الى يوم الدين . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضروره . يخرج صاحبه من هذا الدين . ولو قال باللسان ألف مره:إنه من المسلمين !(1/40)
وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين . . وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه , في بعض الملابسات والظروف . فحذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين , ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه . .
وأولى هذه الهواجس:الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة , والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد . ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة , والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة , أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة !(1/41)
وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم . وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض . . ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه . فهو أمر يعرض في مناسبات شتى , ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين . . وقد شاء الله - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر , وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف , وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء . فقال لنبيه:إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ; ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا ; وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة , وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا . وأن كلا منهم يسلك طريقه ; ثم يرجعون كلهم إلى الله , فينبئهم بالحقيقة , ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق . . وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج . . فهم لا يتجمعون: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا , ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم . فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) .
بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها ; وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف ; بالتساهل في شيء من شريعة الله ; في مقابل إرضاء الجميع ! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف !
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون ! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد , ولكل منهم مشرب , ولكل منهم منهج , ولكل منهم طريق . ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين . وقد عرض الله عليهم الهدى ; وتركهم يستبقون . وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه , وهم إليه راجعون ;(1/42)
وإنها لتعلة باطلة إذن , ومحاولة فاشلة , أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله , أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها . فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض ; وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم ; وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر ; وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض , واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . وهو شر عظيم وفساد عظيم . . لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون ; لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر ; ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع , والاتجاهات والمشارب . . وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير . وإليه المرجع والمصير . .
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله , لمثل هذا الغرض , تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة ; لا مبرر لها من الواقع ; ولا سند لها من إرادة الله ; ولا قبول لها في حس المسلم , الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله . فكيف وبعض من يسمون أنفسهم "مسلمين" يقولون:إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر "السائحين" ?!!! أي والله هكذا يقولون !
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة , ويزيدها وضوحا . فالنص الأول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) . . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه:
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله , ولا تتبع أهواءهم , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) . .
فالتحذير هنا أشد وأدق ; وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ; أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .(1/43)
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ; فيهون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة , وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ; أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ]:
(فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون) .
فإن تولوا فلا عليك منهم ; ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض:لا أنت ولا شريعة الله ودينه ; ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر: (وإن كثيرا من الناس لفاسقون) فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ; ولا حيلة لك في هذا الأمر , ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ; ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ; لغرض من الأغراض ; في ظرف من الظروف . .
ثم يقفهم على مفرق الطريق . . فإنه إما حكم الله , وإما حكم الجاهلية . ولا وسط بين الطرفين ولا بديل . . حكم الله يقوم في الأرض , وشريعة الله تنفذ في حياة الناس , ومنهج الله يقود حياة البشر . . أو أنه حكم الجاهلية , وشريعة الهوى , ومنهج العبودية . . فأيهما يريدون ?
(أفحكم الجاهلية يبغون ? ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?) . .(1/44)
إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية - كما يصفها الله ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر , لأنها هي عبودية البشر للبشر , والخروج من عبودية الله , ورفض ألوهية الله , والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . .
إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ; ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس , ويوجد اليوم , ويوجد غدا , فيأخذ صفة الجاهلية , المقابلة للإسلام , والمناقضة للإسلام .
والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة الله - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما , فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ; وهم في دين من يحكمون بشريعته , وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ; والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية , ويعيش في الجاهلية .
وهذا مفرق الطريق , يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار !
ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ; وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .
(ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ?) . .
وأجل ! فمن أحسن من الله حكما ?
ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس , ويحكم فيهم , خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ? وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ?(1/45)
أيستطيع أن يقول:إنه أعلم بالناس من خالق الناس ? أيستطيع أن يقول:إنه أرحم بالناس من رب الناس ? أيستطيع أن يقول:إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ? أيستطيع أن يقول:إن الله - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة , ويرسل رسوله الأخير ; ويجعل رسوله خاتم النبيين , ويجعل رسالته خاتمة الرسالات , ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان - سبحانه - يجهل أن أحوالًا ستطرأ , وأن حاجات ستستجد , وأن ملابسات ستقع ; فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه , حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ?!
ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة , ويستبدل بها شريعة الجاهلية , وحكم الجاهلية ; ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب , أو هوى جيب من أجيال البشر , فوق حكم الله , وفوق شريعة الله ?
ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين ?!
الظروف ? الملابسات ? عدم رغبة الناس ? الخوف من الأعداء ? . . ألم يكن هذا كله في علم الله ; وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته , وأن يسيروا على منهجه , وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ?
قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة , والأوضاع المتجددة , والاحوال المتغلبة ? ألم يكن ذلك في علم الله ; وهو يشدد هذا التشديد , ويحذر هذا التحذير ?
يستطيع غير المسلم أن يقول مايشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله , ثم يبقون على شيء من الإسلام ? أو يبقى لهم شيء من الإسلام ?
إنه مفرق الطريق , الذي لا معدى عنده من الاختيار ; ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . .
إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . .
والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . .(1/46)
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ; وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ; والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !
وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية , فلن يستقيم له ميزان ; ولن يتضح له منهج , ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ; ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح . . وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس ; فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا "المسلمين" وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم . .
*****************
وقد اعتبر سبحانه وتعالى التحاكم إلى غير شريعة الإسلام تحاكما إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به
قال تعالى :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ( 60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ( 61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62) النساء(1/47)
ألم تر إلى هذا العجب العاجب . . قوم . . يزعمون . . الإيمان . ثم يهدمون هذا الزعم في آن ?! قوم (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ? إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر , وإلى منهج آخر , وإلى حكم آخر . . يريدون أن يتحاكموا إلى . . الطاغوت . . الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ولا ضابط له ولا ميزان , مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . ومن ثم فهو . . طاغوت . . طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية . وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا ! وهم لا يفعلون هذا عن جهل , ولا عن ظن . . إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما , أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: (وقد أمروا أن يكفروا به) . . فليس في الأمر جهالة ولا ظن . بل هو العمد والقصد . ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم . زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب . .
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا . .
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت . وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ! هذا هو الدافع يكشفه لهم . لعلهم يتنبهون فيرجعوا . ويكشفه للجماعة المسلمة , لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك .
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله . . ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:
(وإذا قيل لهم:تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول , رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) .
يا سبحان الله ! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه ! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري . . وإلا ما كان نفاقا . . .(1/48)
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان , أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به , وإلى من آمن به . فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه . ثم دعي إلى هذا الذي آمن به , ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه ; كانت التلبيه الكاملة هي البديهية الفطرية . فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية . ويكشف عن النفاق . وينبى ء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان !
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله . ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله . بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا !
ثم يعرض مظهرا من مظاهر النفاق في سلوكهم ; حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ; أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت . ومعاذيرهم عند ذلك . وهي معاذير النفاق:
(فكيف إذا أصابتهم مصيبة - بما قدمت أيديهم - ثم جاؤوك يحلفون بالله:إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . .
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم . فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناسا يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل , وبالرسول وما أنزل إليه ; ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله ; أو يصدون حين يدعون إلىالتحاكم إليها . . إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان . وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء ; وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء !
أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم ; نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل ; ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت ; في قضية من قضاياهم .
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم . لعلهم يتفكرون ويهتدون . .(1/49)
وأياما ما كان سبب المصيبة ; فالنص القرآني , يسأل مستنكرا:فكيف يكون الحال حينئذ ! كيف يعودون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
(يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . . .
إنها حال مخزية . . حين يعودون شاعرين بما فعلوا . . غير قادرين على مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة دوافعهم . وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين:أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق ! وهي دائما دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته:أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب , التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله ! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة . . إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين . . هي هي دائما وفي كل حين !
والله - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار . ويخبر رسوله صلى الله عليه وسلم , أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم . ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق , والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء:
(أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم . فأعرض عنهم وعظهم , وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) . .
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ; ويحتجون بهذه الحجج , ويعتذرون بهذه المعاذير . والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور . . ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم , وأخذهم بالرفق , واطراد الموعظة والتعليم . .
والتعبير العجيب:
وقل لهم . . في أنفسهم . . قولا بليغًا .
تعبير مصور . . كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس , ويستقر مباشرة في القلوب .(1/50)
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله . . بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الإحتكام إلى الطاغوت ; ومن الصدود عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول . . فالتوبة بابها مفتوح , والعودة إلى الله لم يفت اوانها بعد ; واستغفارهم الله من الذنب , واستغفار الرسول لهم , فيه القبول ! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية:وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا ليخالف عن أمرهم . ولا ليكونوا مجرد وعاظ ! ومجرد مرشدين !
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا . .
وهذه حقيقة لها وزنها . . إن الرسول ليس مجرد "واعظ" يلقي كلمته ويمضي . لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل ; أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول "الدين" .
إن الدين منهج حياة . منهج حياة واقعية . بتشكيلاتها وتنظيماتها , وأوضاعها , وقيمها , وأخلاقها وآدابها . وعباداتها وشعائرها كذلك .
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان . سلطان يحقق المنهج , وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ . . والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين . منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة . وما من رسول إلا أرسله الله , ليطاع , بإذن الله . فتكون طاعته طاعة لله . . ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني , والشعائر التعبدية . . فهذا وهم في فهم الدين ; لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل . وهي إقامة منهج معين للحياة , في واقع الحياة . . وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظا . لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي . يستهتر بها المستهترون , ويبتذلها المبتذلون !!!(1/51)
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان . . كان دعوة وبلاغا . ونظام وحكما . وخلافة بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بقوة الشريعة والنظام , على تنفيذ الشريعة والنظام . لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول . وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول . وليست هنالك صورة أخرى يقال لها:الإسلام . أو يقال لها:الدين . إلا أن تكون طاعة للرسول , محققة في وضع وفي تنظيم . ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف ; ويبقى أصلها الثابت . وحقيقتها التي لا توجد بغيرها . . استسلام لمنهج الله , وتحقيق لمنهج رسول الله . وتحاكم إلى شريعة الله . وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله , وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية [ شهادة أن لا إله إلا الله ] ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقا لله , لا يشاركه فيه سواه . وعدم احتكام إلى الطاغوت . في كثير ولا قليل . والرجوع إلى الله والرسول , فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة , والأحوال الطارئه ; حين تختلف فيه العقول . .
وأمام الذين (ظلموا أنفسهم) بميلهم عن هذا المنهج , الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله , صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيها . .
ولو أنهم - إذ ظلموا أنفسهم - جاؤوك , فاستغفروا الله , واستغفر لهم الرسول , لوجدوا الله توابا رحيمًا . .
والله تواب في كل وقت على من يتوب . والله رحيم في كل وقت على من يؤوب . وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته . ويعد العائدين إليه , المستغفرين من الذنب , قبول التوبة وإفاضة الرحمة . . والذين يتناولهم هذا النص ابتداء , كان لديهم فرصة استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انقضت فرصتها . وبقي باب الله مفتوحا لا يغلق . ووعده قائما لا ينقض . فمن أراد فليقدم . ومن عزم فليتقدم . .(1/52)
وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم . إذ يقسم الله - سبحانه - بذاته العلية , أنه لا يؤمن مؤمن , حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره كله . ثم يمضي راضيا بحكمه , مسلما بقضائه . ليس في صدره حرج منه , ولا في نفسه تلجلج في قبوله:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت , ويسلموا تسليمًا . .
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام , ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان , وموقوف على طائفة من الناس ! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ; ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام ; جاءت في صورة قسم مؤكد ; مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبى بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله , في حكم الزكاة ; وعدم قبول حكم رسول الله فيها , بعد الوفاة !
وإذا كان يكفي لإثبات "الإسلام" أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في "الإيمان" هذا , ما لم يصحبه الرضى النفسي , والقبول القلبي , وإسلام القلب والجنان , في اطمئنان !
هذا هو الإسلام . . وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام ; وأين هي من الإيمان ! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان ! (( الظلال ))
**************(1/53)
إن طريق الدعوة إلى الله شاق , محفوف بالمكاره , ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه , إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله , وفق علمه وحكمته , وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين:من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر , والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة . . ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه , وعرف طعمه , والحماسة للحق والرغبة في استعلانه ! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق !(1/54)
والتوجيه القرآني في هذه الموجه من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها . . ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته , يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق , وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق . ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون , ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا , لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب ! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه , وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له , متى كانت هذه الفطرة حية , وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . . فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات . والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء . والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى . فذلك من شأن الله . . هذا كله من جانب , ومن الجانب الآخر , فإن نصر الله آت لا ريب فيه . . كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله , وكما أن سنة الله لا تستعجل , وكلماته لا تتبدل , من ناحية مجيء النصر في النهاية , فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم . . والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة , وصبره على الأذى بلا تململ , ويقينه في العاقبة بلا شك . . كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم .(1/55)
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ , والمضي في الطريق , والصبر على مشاق الطريق . . أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته . . والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل , ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب , كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب . . إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية , وحسابه ليس على عدد المهتدين , إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم , وما استقام كما أمر . . وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس . . (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . . (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) . .
(إنما يستجيب الذين يسمعون) وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم . بما فيه الكفاية .(1/56)
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين , أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة , في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ; ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم . . ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق - وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى , منها في هذه السورة (وقالوا:لولا أنزل عليه ملك !) . . (وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه) . . (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) . . وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات . ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: (وقالوا:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا , أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف , أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه !) . . وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق , لولا أنزل إليه ملك , فيكون معه نذيرا . أو يلقى إليه كنز , أو تكون له جنة يأكل منها ! . .(1/57)
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجه من السورة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون . وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم:(وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية , ولو شاء الله لجمعهم على الهدى , فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون , والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون) . . وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ! قيل لهم: قل:إنما الآيات عند الله , وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة , ونذرهم في طغيانهم يعمهون . . ليعلموا أولاأن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق , ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون , وأنهم موتى , وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما اسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل , وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم !(1/58)
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني . . إنه ليس خاصا بزمن , ولا محصورا في حادث , ولا مقيدا باقتراح معين . فالزمن يتغير , وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر . . إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة "نظرية مذهبية " على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة , التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ; ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات ! . . وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام [ لأن أهل هذه الجاهلية يقولون:إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة ! ] وتنظم لهم هذه الأوضاع ; بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت , ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . . وكلها محاولات ذليلة , لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة , التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله !(1/59)
وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى , ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . . كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . . ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة ! . . إن "الاشتراكية " مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر ; قابل للصواب والخطأ . وإن "الديمقراطية " نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك , يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا . . والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي , والنظام الاجتماعي الاقتصادي , والنظام التنفيذي والتشكيلي . . وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . . فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر ? بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد ?! . .
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه . . يتخذونهم أولياء:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . .) فهذا هو الشرك ! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده , ولكنهم - ويا للنكر والبشاعة ! - يستشفعون لله - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم ?!
إن الإسلام هو الإسلام . والاشتراكية هي الاشتراكية . والديمقراطية هي الديمقراطية . . ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له , والصفة التي وصفه بها . . وهذه وتلك من مناهج البشر . ومن تجارب البشر . . وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس . . ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله , أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب . وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله !(1/60)
على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم , ولم يقدروا الله حق قدره . . إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية , وباسم الديمقراطية , لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة . فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي ! كما كانالحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلا ! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد , فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام ? لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس ?!
إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها - وفي غيرها كذلك - يشمل هذا كله . . إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه ; فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ; ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ; ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته . . إن الله غني عن العالمين . ومن لم يستجب لدينه عبودية له , وانسلاخا من العبودية لسواه , فلا حاجة لهذا الدين به , كما أنه لا حاجة لله - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة .
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه , التي يريد الله أن تسود البشرية . فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل , وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية . . إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه , وبمنهجه الحركي وأسلوبه , هو - سبحانه - الذي خلق الإنسان , ويعلم ما توسوس به نفسه . .(1/61)
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية . . نموذج من نماذج متنوعة شتى . . فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني , ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية , ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات . . وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . .
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو:
(وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه ! قل:إن الله قادر على أن ينزل آية . ولكن أكثرهم لا يعلمون) . .
وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي . . ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب ! إنه الأخذ والتدمير ! والله قادر على أن ينزل الآية . . ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها , وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها . .
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير , إلى الكون الواسع . إلى الآيات الكبرى من حولهم . الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها . الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها:
(وما من دابة في الأرض , ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم . ما فرطنا في الكتاب من شيء . ثم إلى ربهم يحشرون) . .
وهي حقيقة هائلة . . هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها . . حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم . . لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك . . وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر , ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها ! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها , وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء , وتدبير الله لكل شيء . . وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة . .(1/62)
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون , أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون ?
إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود , وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة , وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني . .
إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا . ولا يقدم لها جدلا كلاميا [ كعلم التوحيد ] الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية , إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب , وتتلقى عنه وتستجيب , ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب .
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى:
(والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله , ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . .
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم . . إنهم صم وبكم في الظلمات . . ويقرر سنة الله في الهدى والضلال . . إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك , وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد .
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله . إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة , وتقرير موقف صاحب الدعوة , وهو يتحرك بهذه العقيدة , ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل . .
ولعل هذه اللمسات - إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة - عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق . وبالله التوفيق . .
.
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه , ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) . .
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله ; وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:(1/63)
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام . بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة . . . بل إن شريعته هي عقيدته . . إذ هي الترجمة الواقعية لها . . . كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية , وعرضها في المنهج القرآني . .
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم "الدين" في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة , بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة . . حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهزئين والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة ! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة ! ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين , كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة ! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة . إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة , قروناً طويلة , حتى انتهت مسألة الحاكمية الى هذه الصورة الباهتة , حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين ! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة , إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات , وكل هذه التقريرات ; بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية . ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير . . أصل الحاكمية . . وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي . .
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك , ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك . ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك . . إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . ولا يعرفون طبيعة هذا الدين . . فليقرأوا القرآن كما أنزله الله , وليأخذوا قول الله بجد: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) . .(1/64)
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون , أو هذا الإجراء , أو هذا القول , منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق . . وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك . . كأن الإسلام كله قائم , فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات !
هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين , يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون . بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة . . إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية . شهادة بأن هذا الدين قائم فيها , لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات . بينما الدين كله متوقف عن "الوجود" أصلاً , ما داملا يتمثل في نظام وأوضاع , الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد .
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله . فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين . . وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم , لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله , وتغتصب سلطانه , وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد . . وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات , ويربطها بقضية الألوهية والعبودية , ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر , وميزان الجاهلية أو الإسلام .(1/65)
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" لم تكن هي المعركة مع الإلحاد , حتى يكون مجرد "التدين" هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين ! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة "وجود" هذا الدين ! . . لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" هي معركة "الحاكمية " وتقرير لمن تكون . . لذلك خاضها وهو في مكة . خاضها وهو ينشيء العقيدة , ولا يتعرض للنظام والشريعة . خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده , لا يدعيها لنفسه مسلم , ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم . . فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة , يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة . . فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون . بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين ! (( الظلال ))
******************
وقد آن للمسلمين أن يترفعوا عما كان يقع به المسلمون من قبل من تعصب مذهبي ومن قتال ونزاع
وآن لهم أن يوقنوا أن فهم هذا الدين غير محصور بأربعة رجال (( مهما بلغوا ))
بل لا بد من الأخذ بقول كل من خدم هذا الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان
وكذلك الأئمة الذين خدموا هذه الرسالة العظيمة وافنوا حياتهم في ذلك سواء كانوا داخل المذاهب الأربعة أو خارج المذاهب
وأن يكون رائد المسلمين هو اتباع الكتاب والسنة وما كان أقرب لهما من أقوال الأئمة عبر التاريخ الإسلامي كله
وهذه النقطة إحدى خصائص هذا الدين الواجبة الاتباع
أما أولئك الذين يتعصبون لمذهب معين ويعتبرونه دينا فقد سقطوا على الطريق وتجاوزهم الزمان
لأنه لم يعد في هذا العصر عصر الفضائيات والإنترنت الذي جعل هذه الأرض بين يدي أي واحد منا ( لم يعد لهم وجود )(1/66)
وكذلك فإن وجود هذه التقنيات الحديثة مما يسهل على المسلمين التلاقي وتلاقح الأفكار وجمع هذا التراث العظيم كله والأخذ بما يرونه أقرب لكتاب ربهم ولسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم
وما هذا الكتاب سوى دعوة صريحة لكسر ذلك الطوق الذي كان سائدا ردحا طويلا من الزمان على رقاب المخلصين من هذه الأمة
كما أنه من الواجب وجود مجتهدين كبار قادرين على فهم هذا الدين وتنزيل نصوصه على الواقع
وقيادة الأمة الإسلامية والأخذ بيدها رائدهم الأخلاص وتحري الصواب
قال تعالى :
( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)
ولكن ما هي صفاتهم الحقيقة وأين ينشؤوا ؟
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية , وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . .
والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية:
أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ; وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم , بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .(1/67)
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري , واختيار ابن جرير , وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي , لا يفقهه إلا من يتحرك به ; فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ; بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ; وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ,لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ; ولا فقهوا فقههم ; ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن , من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة , هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم , لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به , ويجاهدون لتقريره في واقع الناس , وتغليبه على الجاهلية , بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ; مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ; ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !(1/68)
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية "يجددون" بها الفقه الإسلامي أو "يطورونه" - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد , وردهم إلى العبودية للّه وحده , بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ; ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده , ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ; والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده , واستيحاء شريعته وحدها , تحقيقاً لهذه الدينونة , جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية , وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه , والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة , بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين , يجيء فقههم للدين من تحركهم به , ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي , يعيش بهذا الدين , ويجاهد في سبيله , ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .(1/69)
فأما اليوم . . "فماذا" . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ; والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ; والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ; والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه , إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ; وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه , وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة . .
إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد , يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة , ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ; وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .(1/70)
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ; والمجتمع المسلم أنشأ "الفقه الإسلامي" . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده , مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ , وليس "جاهزا" معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة , ذات حجم معين , وشكل معين , وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة , داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه , وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ; ومن ثم "يفصل" لها حكم مباشر على "قدها" . . فأما تلك الأحكام "الجاهزة " في بطون الكتب ; فقد "فصلت" من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها "جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ; وعلينا اليوم أن "نفصل" مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ; وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر , اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ; ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ; وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار "تجديد الفقه الإسلامي" أو "تطويره" ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ; وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين ! (( الظلال ))
*******************
أسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائه حربا على أعدائه
قال تعالى :(1/71)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُم وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( 134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135)
الباحث في القرآن والسنة
ابو حمزة الشامي
11 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 29/6 /2004 م
*************************************
الاجتهاد والتقليد وتقليد غير الأئمة الأربعة
وفي التقرير والتحبير :
((1/72)
مَسْأَلَةٌ أَلْحَقَ الرَّازِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَرْدَعِيُّ و فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعُهُ ) وَالسَّرَخْسِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ( قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ) الْمُجْتَهِدِ ( فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ بِالسُّنَّةِ ) لِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ ( لَا لِمِثْلِهِ ) أَيْ صَحَابِيٍّ آخَرَ ( فَيَجِبُ ) عَلَى غَيْرِ الصَّحَابِيِّ ( تَقْلِيدُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ ( وَنَفَاهُ ) أَيْ إلْحَاقَ قَوْلِهِ بِالسُّنَّةِ ( الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ ( كَالشَّافِعِيِّ ) فِي الْجَدِيدِ ( وَلَا خِلَافَ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ ) أَيْ قَوْلِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ ( بَيْنَهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَالْمَرْفُوعِ لِعَدَمِ إدْرَاكِهِ بِالرَّأْيِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَا حَكَاهُ السُّبْكِيُّ عَنْ وَالِدِهِ ( وَتَحْرِيرُهُ ) أَيْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ( قَوْلُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ ( فِيمَا ) يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لَكِنْ ( لَا يَلْزَمُهُ الشُّهْرَةُ ) بَيْنَ الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ ( مِمَّا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ ) فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ ( وَمَا يَلْزَمُهُ ) الشُّهْرَةُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَاشْتُهِرَ بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ ( فَهُوَ إجْمَاعٌ كَالسُّكُوتِيِّ حُكْمًا لِشُهْرَتِهِ ) أَيْ بِسَبَبِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ( وَفِي اخْتِلَافِهِمْ ) أَيْ الصَّحَابَةِ فِي(1/73)
ذَلِكَ ( التَّرْجِيحِ ) بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ لِأَحَدِ الْأَقَاوِيلِ إنْ أَمْكَنَ ( فَإِنْ تَعَذَّرَ ) التَّرْجِيحُ ( عُمِلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ) بَعْدَ أَنْ يَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ بِلَا دَلِيلٍ ( لَا يُطْلَبُ تَارِيخٌ ) بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ لِيَجْعَلَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ كَمَا يَفْعَلُ فِي النَّصَّيْنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَحَاجُّوا بِالسَّمَاعِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَقْوَالُهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ لَا سَمَاعٍ فَكَانَا ( كَالْقِيَاسَيْنِ ) تَعَارَضَا ( بِلَا تَرْجِيحٍ ) لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَيْثُ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقْوَالَهُمْ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِالرَّأْيِ قَوْلًا خَارِجًا عَنْهَا ( وَاخْتَلَفَ عَمَلُ أَئِمَّتِهِمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ تَقْلِيدُهُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَنْهُمْ مَذْهَبٌ فِيهَا وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا عَنْهُمْ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ ( فَلَمْ يَشْرِطَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ الْمُشَاهَدِ ) أَيْ تَسْمِيَةَ مِقْدَارِهِ إذَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهِ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ( قِيَاسًا ) عَلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْلَامُ بِالتَّسْمِيَةِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ وَقِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ بِهِ ( وَشَرَطَهُ ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمُشَاهَدِ فِي صِحَّتِهِ ( وَقَالَ بَلَغَنَا ) ذَلِكَ ( عَنْ ابْنِ(1/74)
عُمَرَ ) كَذَا فِي الْكَشْفِ وَفِي غَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ ( وَضَمَّنَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ) وَهُوَ مَنْ يَعْقِدُ عَلَى عَمَلِهِ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ الْعَمَلُ إذَا هَلَكَتْ ( فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالسَّرِقَةِ بِخِلَافِ ) مَا إذَا هَلَكَتْ بِالسَّبَبِ ( الْغَالِبِ ) وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ الْغَالِبَيْنِ وَالْغَارَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا ضَمَّنَّاهُ فِي الْأَوَّلِ ( بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ وَيَقُولُ لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إلَّا ذَلِكَ ( وَنَفَاهُ ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ( بِقِيَاسِ أَنَّهُ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ ) وَالْأَجِيرُ الْوَاحِدُ وَهُوَ مَنْ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعِهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ نَوْعَانِ ضَمَانُ جَبْرٍ وَهُوَ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَضَمَانُ الشَّرْطِ وَهُوَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ كِلَاهُمَا لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمَالِكِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْهَلَاكِ قُلْت وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ خِلَافُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ وَلَا الصَّائِغَ وَلَا الْحَائِكَ وَرَفَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه(1/75)
وسلم قَالَ { لَا ضَمَانَ عَلَى قَصَّارٍ وَلَا صَبَّاغٍ وَلَا وَشَّاءٍ } فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ الضَّمَانُ كَانَ مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَأَخْرَجَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ شُرَيْحًا لَمْ يُضَمِّنْ أَجِيرًا قَطُّ قِيلَ وَكَانَ حُكْمُ شُرَيْحٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ( وَاتُّفِقَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ رَأْيًا كَتَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَيْضِ ) بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( بِمَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَأَنَسٍ ) رضي الله عنهم كَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمَّا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يُفِيدُ ذَلِكَ عَنْهُ وَأَمَّا عَنْ أَنَسٍ فَأَخْرَجَهَا الْكَرْخِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ قُلْت وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ بِالْمَرْفُوعِ فِي ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمُعَاذٍ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهَا ضَعْفٌ فَإِنَّ تَعَدُّدَهَا يَرْفَعُهَا إلَى دَرَجَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ صَنِيعُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ثُمَّ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَاللَّيْلَتَانِ اللَّتَانِ(1/76)
تَتَخَلَّلَانِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ ( وَفَسَادُ بَيْعِ مَا اشْتَرَى قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ ) لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لَمَّا قَالَتْ لَهَا إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا أَبْلِغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلْت جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ تَتُوبَ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا شَرَيْت رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ( لِمَا تَقَدَّمَ ) أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ رَأْيًا ( لِأَنَّ الْأَجْزِيَةَ ) عَلَى الْأَعْمَالِ إنَّمَا تُعْلَمُ ( بِالسَّمْعِ ) فَيَكُونُ لِهَذَا حُكْمُ الرَّفْعِ ( لِلنَّافِي ) إلْحَاقُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِالسُّنَّةِ ( يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ ) الصَّحَابِيِّ ( الْمُجْتَهِدِ ) غَيْرَهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الصَّحَابِيُّ ( كَغَيْرِهِ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي احْتِمَالِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأَ لِانْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُهُ ( الْمُوجِبُ ) لِتَقْلِيدِهِ ( مَنْعُ ) الْمُقَدِّمَةِ ( الثَّانِيَةِ ) وَهِيَ كَوْنُ الصَّحَابِيِّ الْمُجْتَهِدِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي احْتِمَالِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأَ ( بَلْ يَقْوَى فِيهِ ) أَيْ فِي قَوْلِهِ ( احْتِمَالُ السَّمَاعِ ) وَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ إفْتَاؤُهُ بِالْخَبَرِ لَا بِالرَّأْيِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ سُكُوتُهُمْ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ السُّؤَالِ بَيَانُ الْحُكْمِ لَا(1/77)
غَيْرُ ( وَلَوْ انْتَفَى ) السَّمَاعُ ( فَإِصَابَتُهُ ) الْحَقَّ ( أَقْرَبُ ) مِنْ غَيْرِهِ ( لِبَرَكَةِ الصُّحْبَةِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَحْوَالَ الْمُسْتَنْزِلَةَ لِلنُّصُوصِ وَالْمَحَالَّ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ ) الْأَحْكَامُ ( بِاعْتِبَارِهَا ) وَلَهُمْ زِيَادَةُ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ سَبَبُ قِوَامِ الدِّينِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ فِيهِ ( بِخِلَافِ غَيْرِهِ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ قُلْت وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى أَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ ا هـ وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( فَصَارَ ) قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ( كَالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَقَدْ يُفِيدُهُ عُمُومُ ) قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِهِمْ لَا إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَا(1/78)
يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ ( وَالظَّاهِرُ ) مِنْ الْمَذْهَبِ ( فِي ) التَّابِعِيِّ ( الْمُجْتَهِدِ فِي عَصْرِهِمْ ) أَيْ الصَّحَابَةِ ( كَابْنِ الْمُسَيِّبِ ) وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ ( الْمَنْعُ ) مِنْ تَقْلِيدِهِ ( لِفَوْتِ الْمَنَاطِ الْمُسَاوِي ) لِلْمَنَاطِ فِي وُجُوبِ التَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ وَهُوَ بَرَكَةُ الصُّحْبَةِ وَمُشَاهَدَةُ الْأُمُورِ الْمُثِيرَةِ لِلنُّصُوصِ وَالْمُفِيدَةِ لِإِطْلَاقِهَا حَتَّى ذَكَرُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ ( وَفِي النَّوَادِرِ نَعَمْ كَالصَّحَابِيِّ ) وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ ( وَالِاسْتِدْلَالُ ) لِذَلِكَ ( بِأَنَّهُمْ ) أَيْ الصَّحَابَةَ ( لَمَّا سَوَّغُوا لَهُ ) أَيْ لِلتَّابِعِيِّ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى ( صَارَ مِثْلَهُمْ ) فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَمَا فِي الصَّحَابِيِّ ( مَمْنُوعُ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّ التَّسْوِيغَ ) لِاجْتِهَادِهِ ( لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ ) أَيْ لِحُصُولِهَا لَهُ ( لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمَنَاطَ ) لِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ ( فَبِرَدِّ شُرَيْحٍ الْحَسَنَ عَلَى عَلِيٍّ ) أَيْ فَالِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا بِمَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه تَحَاكَمَ إلَى شُرَيْحٍ فَخَالَفَ(1/79)
عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ لِلْقَرَابَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَلِيٌّ ( يَقْبَلُ الِابْنَ ) أَيْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ ( وَمُخَالَفَةِ مَسْرُوقٍ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إيجَابِ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى شَاةٍ ) قَالُوا وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ بَعْدَ ثُبُوتِ كُلٍّ مِنْهُمَا ( لَا يُفِيدُ ) الْمَطْلُوبَ لِأَنَّ خِلَافَهُمَا وَتَقْرِيرَهُمَا لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الِارْتِفَاعَ إلَى رُتْبَةِ الصَّحَابِيِّ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ يَخُصُّهُ ( وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْخِلَافَ ) فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ ( لَيْسَ إلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ ) إجْمَاعُهُمْ ( دُونَهُ أَوْ لَا ) يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِهِمْ ( فَعِنْدَنَا نَعَمْ ) يُعْتَدُّ بِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَقَالَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
((1/80)
مَسْأَلَةُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي ) وَاقِعَةٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ فِيهَا إلَى ( حُكْمٍ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّقْلِيدِ ) لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( فِيهِ ) أَيْ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ ( اتِّفَاقًا ) لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ ( وَالْخِلَافُ ) إنَّمَا هُوَ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ مِنْهُمْ ( قَبْلَهُ ) أَيْ اجْتِهَادِهِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ ( وَالْأَكْثَرُ ) مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ ( مَمْنُوعٌ ) مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقًا مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَمَالِكٌ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَذَكَرَ الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَيُشْكِلُ عَلَى مَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا فِي الْقُنْيَةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَتَفَرَّقُوا ثُمَّ أُخْبِرَ بِوُجُودِ فَأْرَةٍ مَيِّتَةٍ فِي بِئْرِ حَمَّامٍ اغْتَسَلَ مِنْهُ فَقَالَ : نَأْخُذُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا انْتَهَى ( وَمَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ ) مَمْنُوعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ ( إلَّا إنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ) الِاجْتِهَادُ فِي الْوَاقِعَةِ فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا بَلْ يَتَعَيَّنُ ( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ ) إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ(1/81)
مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ هَذَا قَوْلًا آخَرَ كَمَا عَدُّوهُ ثُمَّ الَّذِي حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ هَذَا وَيَظْهَرُ أَنَّ خَوْفَ فَوْتِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ رَأَيْت عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ نَقْلَهُ بِخُصُوصِهِ عَنْهُ وَيُؤَيِّدُهُ جَزْمُ السُّبْكِيّ بِمَنْعِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَبِطَرِيقٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَوْفُ فَوْتِ الْعَمَلِ بِالْحَادِثَةِ أَصْلًا مِنْ أَسْبَابِ تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوْلًا آخَرَ وَيَسْتَسْمِعَ خِلَافَ الْأَوَّلِ أَيْضًا . ((1/82)
وَقِيلَ لَا ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيُّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ , وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَعَزَاهُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إلَى أَحْمَدَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : وَلَا يُعْرَفُ ( وَقِيلَ ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ ( فِيمَا يُفْتِي بِهِ ) غَيْرُهُ ( لَا فِيمَا يَخُصُّهُ ) أَيْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَحْصِيلَ رَأْيٍ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِعِلْمِهِ لَا فِيمَا يُفْتِي بِهِ لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمُجْتَهِدِ بِحَيْثُ لَا يَعُمُّ غَيْرَهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ , وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ( وَقِيلَ ) يُمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ ( فِيهِ ) أَيْ فِيمَا يَخُصُّهُ ( أَيْضًا إلَّا إنْ خَشِيَ الْفَوْتَ كَأَنْ ضَاقَ وَقْتُ صَلَاةٍ , وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا ) أَيْ فِي صَلَاتِهِ ( يُفَوِّتُهَا ) , فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِ لِئَلَّا تَفُوتَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا , وَهُوَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَهَذَا مَا تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهِ . ((1/83)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ ) إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ كَمَا تَقَدَّمَ , وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُقَلِّدُ ) مُجْتَهِدًا ( أَعْلَمَ مِنْهُ ) لَا أَدْوَنَ مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيَ لَهُ نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي وَالرُّويَانِيُّ وَإِلْكِيَا قَالَ : وَرُبَّمَا قَالَ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ : إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ ( وَالشَّافِعِيُّ ) فِي الْقَدِيمِ ( وَالْجُبَّائِيُّ ) وَابْنُهُ أَيْضًا قَالُوا ( يَجُوزُ ) تَقْلِيدُ غَيْرِهِ ( إنْ ) كَانَ الْغَيْرُ ( صَحَابِيًّا رَاجِحًا ) فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ ( فَإِنْ اسْتَوَوْا ) أَيْ الصَّحَابَةُ فِي الدَّرَجَةِ فِي نَظَرِهِ وَاخْتَلَفَتْ فَتْوَاهُمْ ( تَخَيَّرَ ) فَيُقَلِّدُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ عَدَاهُمْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ : وَقَضِيَّتُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلصَّحَابَةِ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ( وَهَذَا ) مِنْ الشَّافِعِيِّ ( رِوَايَةٌ عَنْهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ ( فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ) وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ , وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عَدَمُ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ لِلْغَيْرِ مُطْلَقًا .(1/84)
وَقِيلَ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما لَا غَيْرِهِمَا مُطْلَقًا وَنَقَلَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا بَعْدَهُمْ غَيْرَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ ( وَقِيلَ ) يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِلْغَيْرِ صَحَابِيًّا ( وَتَابِعِيًّا ) دُونَ غَيْرِهِمَا وَعَزَا هَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ إلَى الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِلَفْظِ , أَوْ خِيَارِ التَّابِعِينَ وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْقَاضِي لَا غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إلَى إنْجَازِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ( لِلْأَكْثَرِ الْجَوَازُ ) لِلتَّقْلِيدِ ( حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ ) ; لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ ( وَلَمْ يَثْبُتْ ) الدَّلِيلُ , وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ( فَلَا يَثْبُتُ ) الْجَوَازُ ( وَدَفْعُ ) هَذَا مِنْ قِبَلِ الْمُجَوِّزِينَ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ الْجَوَازَ ( الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ ) وَهِيَ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ( بِخِلَافِ تَحْرِيمِكُمْ ) التَّقْلِيدَ , فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ( فَهُوَ الْمُفْتَقِرُ ) إلَى الدَّلِيلِ , وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَثْبُتُ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ فِي النَّسْخِ . ((1/85)
وَأَمَّا ) الدَّفْعُ مِنْ الْأَكْثَرِ ( بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ أَصْلٌ , وَالتَّقْلِيدَ بَدَلٌ ) عَنْهُ ( فَيَتَوَقَّفُ ) التَّقْلِيدُ ( عَلَى عَدَمِهِ ) أَيْ الِاجْتِهَادُ إذْ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِالْبَدَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْمُبْدَلِ كَالْوُضُوءِ , وَالتَّيَمُّمِ ( فَمُنِعَ بَلْ كُلٌّ ) مِنْهُمَا ( أَصْلٌ ) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا كَمَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَغَسْلِ الرِّجْلِ ( فَإِنْ تَمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ ) لِلتَّقْلِيدِ عَنْ الِاجْتِهَادِ ( بِعُمُومِ ) قوله تعالى ( { فَاعْتَبِرُوا } ) { يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالِاجْتِهَادِ , وَهُوَ شَامِلٌ لِلْعَامِّيِّ , وَالْمُجْتَهِدِ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ لِعَجْزِهِ عَنْهُ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ ( تَمَّ ) الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ ( وَإِلَّا ) إذَا لَمْ يَتِمَّ إثْبَاتُ الْبَدَلِيَّةِ بِهَذَا ( لَا ) يَتِمُّ الدَّفْعُ الْمَذْكُورُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَدَلِيَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا , وَالْأَصْلُ عَدَمُ الثُّبُوتِ ( وَاسْتُدِلَّ ) لِلْأَكْثَرِ ( لَا يَجُوزُ ) التَّقْلِيدُ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( فَكَذَا ) لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ ( قَبْلَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( لِوُجُودِ الْجَامِعِ ) فِي الْمَنْعِ بَيْنَهُمَا ( وَهُوَ ) أَيْ الْجَامِعُ ( كَوْنُهُ ) أَيْ الْمُقَلِّدِ ( مُجْتَهِدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُوجِبَ ( فِي الْأَصْلِ ) أَيْ الْعِلَّةِ بِالِاجْتِهَادِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ ( إعْمَالُ الْأَرْجَحِ , وَهُوَ ظَنُّ نَفْسِهِ ) بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْغَيْرَ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا(1/86)
فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اجْتِهَادِهِ , وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَهَذَا مَقْصُودٌ فِي الْفَرْعِ , وَهُوَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا فَلَمْ يُوجَدْ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا . وَاحْتَجَّ ( الشَّافِعِيُّ ) بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } , فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُجْتَهِدِ بِهِمْ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُمْنَعُ الشَّخْصُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَيَبْعُدُ ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ ( مِنْهُ ) أَيْ الشَّافِعِيِّ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ هَذَا ( لَمْ يَثْبُتْ ) عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي الْإِجْمَاعِ ( وَلَوْ ثَبَتَ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ ) فِي ذَيْلِ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَيْثُ قَالَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ هَدْيٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَنَاوَلَهُ ( قُلْت ) : لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمُجْتَهِدِ الْغَيْرِ الصَّحَابِيِّ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ بَلْ هَذَا الْجَوَابُ يُقَرِّرُ جَوَازَ تَقْلِيدِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءً كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ , أَوْ مُجْتَهِدًا قَبْلَ اجْتِهَادِهِ , أَوْ بَعْدَهُ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا أَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا , أَوْ لَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عُمُومِ { بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } لَكِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ إذْ لَا تَقْلِيدَ لَهُ بَعْدَهُ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ إذْ لَا تَقْلِيدَ إلَّا لِمُجْتَهِدٍ فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ(1/87)
إلَى مَا عَدَا هَذَيْنِ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِمَنْعِ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ لِمُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ , وَهُوَ مِنْ الْمَطْلُوبِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مُثْبِتًا لِجُزْءِ الْمَطْلُوبِ , وَهُوَ جَوَازُ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ صَحَابِيٍّ إذْ الْمَطْلُوبُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ قَبْلَ اجْتِهَادِهِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( الْمُجَوِّزُ ) لِلتَّقْلِيدِ مُطْلَقًا قَالَ هُوَ وَمُوَافِقُوهُ أَوَّلًا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ تَعَالَى ( { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } أَيْ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ { إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ) فَيُفِيدُ وُجُوبَ سُؤَالِ الْمُجْتَهِدِينَ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ جَوَازُ اتِّبَاعِ الْمَسْئُولِ فِيمَا أَجَابَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلسُّؤَالِ فَائِدَةٌ وَلَا مَعْنَى لِجَوَازِ تَقْلِيدِهِ إلَّا الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَصْلًا بَلْ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ . ((1/88)
وَقِيلَ الِاجْتِهَادُ لَا يَعْلَمُ ) الْمُجْتَهِدُ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ فَشَمِلَهُ طَلَبُ سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ فَشَمِلَهُ أَيْضًا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ سُؤَالُ غَيْرِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اجْتِهَادِهِ أَيْضًا فَكَانَ مَعَ مُجْتَهِدٍ غَيْرِهِ كَمُجْتَهِدَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ فَيَسُوغُ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الرُّجُوعُ إلَى كُلٍّ مِنْ اجْتِهَادَيْ مُجْتَهِدَيْنِ ( أُجِيبَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُقَلِّدِينَ إذْ الْمَعْنَى لِيَسْأَلْ أَهْلَ الْعِلْمِ مَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْلٌ ) لِلْعِلْمِ ( وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَنْ لَهُ الْمَلَكَةُ ) أَيْ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِأَهْلِيَّتِهِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ ( لَا بِقَيْدِ خُرُوجِ الْمُمْكِنِ عَنْهُ ) مِنْ الِاقْتِدَارِ ( إلَى الْفِعْلِ ) ; لِأَنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ مَنْ هُوَ مُتَأَهِّلٌ لَهُ وَمُسْتَعِدٌّ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَرِيبًا لَا مَنْ حَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمُقَلِّدِ ( قَالُوا ) ثَانِيًا ( الْمُعْتَبَرُ الظَّنُّ ) , فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ ( وَهُوَ ) أَيْ الظَّنُّ ( حَاصِلٌ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ) فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ . ((1/89)
أُجِيبَ بِأَنَّ ظَنَّهُ اجْتِهَادَهُ ) بِنَصَبِ الدَّالِ إمَّا بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِاجْتِهَادِهِ , أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ظَنِّهِ ( أَقْوَى ) مِنْ ظَنِّهِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ ( فَيَجِبُ الرَّاجِحُ , فَإِنْ قِيلَ ثَبَتَ ) فِي الْفُرُوعِ ( عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ يَقْضِي بِغَيْرِ رَأْيِهِ ذَاكِرًا لَهُ ) أَيْ لِرَأْيِهِ ( نَفَذَ ) قَضَاؤُهُ ( خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ فَيَبْطُلُ ) بِهَذَا الثَّابِتُ عَنْهُ ( نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمَنْعِ ) مِنْ التَّقْلِيدِ ( بَعْدَهُ ) أَيْ الِاجْتِهَادِ ( إذْ لَيْسَ التَّقْلِيدُ إلَّا الْعَمَلُ , أَوْ الْفَتْوَى بِقَوْلِ غَيْرِهِ ) , وَقَدْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْقَاضِي الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ ( وَإِنْ ذَكَرَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَنْهُ يَنْفُذُ وَجَعَلَهَا فِي الْخَانِيَّةِ أَظْهَرَ الرِّوَايَاتِ ; لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ , وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحِلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ وَعَنْهُ لَا يَنْفُذُ ; لِأَنَّ قَضَاءَهُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ ( فَقَدْ صَحَّحَ أَنَّهُ ) أَيْ(1/90)
نَفَاذَ الْقَضَاءِ ( مَذْهَبُهُ ) أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ . ( قُلْنَا : النَّفَاذُ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ لَا يُوجِبُ حِلَّهُ ) أَيْ الْفِعْلِ ( نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ) , وَهُوَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ ( أَنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي النَّفَاذِ وَفِي بَعْضِهَا ) ذَكَرَ الْخِلَافَ ( فِي الْحِلِّ ) أَيْ حِلِّ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ ( لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمُعَوَّلَ الْحِلُّ بَلْ يَجِبُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ النَّفْيِ ) لِلْحِلِّ لِمَا تَقَدَّمَ فِي وَجْهِهَا وَلِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ , وَعَمَلُهُ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاءَهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ نَصَّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ , وَالْمُحِيطِ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا بِعَدَمِ النَّفَاذِ فِي الْعَمْدِ , وَالنِّسْيَانِ , وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى , وَالْخَانِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ : ( وَصَرَّحَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ عَدَمُ تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ , وَإِنْ رُوِيَ خِلَافُهُ ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قُبَيْلَ فَصْلِ التَّعَارُضِ فَكَوْنُ عَدَمِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
((1/91)
تَكْمِلَةُ نَقْلِ الْإِمَامِ ) فِي الْبُرْهَانِ ( إجْمَاعُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى مَنْعِ الْعَوَّام مِنْ تَقْلِيدِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ بَلْ مَنْ بَعْدَهُمْ ) أَيْ بَلْ قَالَ : بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ ( الَّذِينَ سَبَرُوا وَوَضَعُوا وَدَوَّنُوا ) ; لِأَنَّهُمْ أَوْضَحُوا طُرُقَ النَّظَرِ وَهَذَّبُوا الْمَسَائِلَ وَبَيَّنُوهَا وَجَمَعُوهَا بِخِلَافِ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا , وَإِلَّا فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ قَدْرًا , وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنِ سِيرِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَحْسَنَ فِيهَا الْجَوَابَ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ مَا مَعْنَاهُ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَتْهُ عُقُولُنَا . ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا الْأَئِمَّةَ الْمَذْكُورِينَ لِهَذَا الْوَجْهِ ( مَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ) وَهُوَ ابْنُ الصَّلَاحِ ( مَنَعَ تَقْلِيدَ غَيْرِ ) الْأَئِمَّةِ ( الْأَرْبَعَةِ ) أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رحمهم الله ( لِانْضِبَاطِ مَذَاهِبِهِمْ وَتَقْيِيدِ ) مُطْلَقِ ( مَسَائِلِهِمْ وَتَخْصِيصِ عُمُومِهَا ) وَتَحْرِيرِ شُرُوطِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ( وَلَمْ يُدْرَ مِثْلُهُ ) أَيْ هَذَا الشَّيْءَ ( فِي غَيْرِهِمْ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ( الْآنَ لِانْقِرَاضِ أَتْبَاعِهِمْ ) .(1/92)
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَقْلِيدُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ; لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ ; وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ حَقَّ الثُّبُوتِ لَا ; لِأَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ إنْ تَحَقَّقَ ثُبُوتُ مَذْهَبٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا , وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ أَيْضًا إذَا صَحَّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ مِنْ دَلِيلِهِ هَذَا وَقَدْ تَعَقَّبْ بَعْضُهُمْ أَصْلَ الْوَجْهِ لِهَذَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْرِ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ جَمَعَ وَسَبَرَ كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ بَلْ الظَّاهِرُ فِي تَعْلِيلِهِ فِي الْعَوَّام أَنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْطِيلِ مَعَايِشِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى , وَأَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا مِنْ التَّقْلِيدِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْإِسْنَادُ إلَى الصَّحَابِيِّ لَا عَلَى شُرُوطِ الصِّحَّةِ , وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ .(1/93)
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةُ الْعَامِّيِّ لَيْسَتْ الْوَاقِعَةَ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الصَّحَابِيُّ وَهُوَ ظَانٌّ أَنَّهَا هِيَ ; لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ عَلَى الْوَقَائِعِ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا غَلَطًا وَبِالْجُمْلَةِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ إمَّا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ , وَإِمَّا ; لِأَنَّهُ فِي عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ ( صَحِيحٌ ) بِهَذَا الِاعْتِبَارِ , وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ بِحَيْثُ يَأْخُذُ بِأَقْوَالِهِ كُلِّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا . وَمِنْ هُنَا قَالَ الْقَرَافِيُّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِ حَجْرٍ , وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَنَّ مَنْ اسْتَفْتَى أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ وَقَلَّدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَمَنْ ادَّعَى دَفْعَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .(1/94)
هَذَا وَقَدْ تَكَلَّمَ أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ فِي تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : وَأَحَقُّ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْ أُمُّ الْكَمَلَةِ عَنْ بَنِيهَا : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ لِنَاشِرِهَا دُونَ اسْتِيعَابِهَا , وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضِّلِينَ عَلَى التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ لِغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمُفَضِّلِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ , وَإِلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عَنْ اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قَالَ النَّاظِرُ هِيَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ , وَإِلَّا فَمَا يُتَصَوَّرُ فِي آيَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ , وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ الْأَفْضَلِيَّةُ وَالْمَفْضُولِيَّة .(1/95)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ عِنَايَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ إذَا قِيسَتْ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ ثُمَّ اشْتِهَارُ مَذَاهِبِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا إلَّا قَلِيلًا عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ مِمَّا يَشْهَدُ بِصَلَاحِ طَوِيَّتِهِمْ وَجَمِيلِ سَرِيرَتِهِمْ وَمُضَاعَفَةِ مَثُوبَتِهِمْ وَرِفْعَةِ دَرَجَتِهِمْ - تَغَمَّدَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَأَعْلَى مَقَامَهُمْ فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّتِهِ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ فِي زُمْرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ وَصَحَابَتِهِ وَأَدْخَلَنَا وَصُحْبَتَهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ .
وفي الفتاوى الفقهية الكبرى :
( الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُنْقَضُ )(1/96)
اعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَكَمَ فِي مَسَائِلَ خَالَفَهُ عُمَرُ رضي الله عنهما فِيهَا وَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ وَحَكَمَ عُمَرُ فِي الْمُشَرَّكَةِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ ثُمَّ بِالْمُشَارَكَةِ وَقَالَ ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي وَقَضَى فِي الْجَدِّ قَضَايَا مُخْتَلِفَةً وَإِنَّمَا امْتَنَعَ النَّقْضُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ حُكْمٌ وَفِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَا يُطَاقُ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الثَّانِي لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ قَطْعًا وَإِنَّمَا الظُّنُونُ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ وَحُكْمَ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ .(1/97)
وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى الرَّفْعِ مُنَازَعٌ فِيهِ إذَا خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ظَنِّيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَوْ بِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ كَقِيَاسِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ أَوْ نَصَّ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ , وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ فِي مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ وَقِيَاسًا عَلَيْهِ فِي الْبَقِيَّةِ , وَفِي تَعْبِيرِهِمْ بِالنَّقْضِ مُسَامَحَةٌ إذْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَصْلِهِ وَذَكَرَ الْأَئِمَّةُ لِبَعْضِ ذَلِكَ أَمْثِلَةً كَنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ , وَالْعَرَايَا , وَالْقَوَدِ فِي الْمُثْقَلِ , وَكَقَتْلِ مُسْلِمٍ بِذِمِّيٍّ , وَصِحَّةِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ , وَنِكَاحِ الشِّغَارِ , وَالْمُتْعَةِ , وَزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بَعْد أَرْبَعِ سِنِينَ , وَالْعِدَّةِ , وَكَتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بَعْدَ حَوْلَيْنِ , وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْضِهَا ; وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى النَّقْضِ , وَفِيهِ تَحْرِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِهِ , قَالَ الْقَرَافِيُّ وَيَنْقُضُ أَيْضًا مَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ , قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : أَوْ كَانَ حُكْمًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , قَالَ السُّبْكِيّ وَمَا خَالَفَ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَمُخَالِفِ النَّصِّ , وَمَا خَالَفَ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ كَمُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ .(1/98)
قَالَ وَأَمَّا مُجَرَّدُ التَّعَارُضِ كَقِيَامِ بَيِّنَةٍ بَعْد الْحُكْمِ بِخِلَافِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي حُكِمَ فِيهَا فَلَا نَقْلَ فِيهِ وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَا نَقْضَ بِهِ , وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ , لَكِنْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الصَّلَاحِ مُخَالَفَةٌ فِي شَهَادَةٍ بِقِيمَةِ الْمِثْلِ حَكَمَ بِهَا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ دُونَ قِيمَةِ الْمِثْلِ وَقَدْ بَيَّنْتُ الرَّاجِحَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَالْفَتَاوَى وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَيْضًا أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ أَحْكَامِ مَنْ قَبْلَهُ إذَا كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا كَذَا قَالُوهُ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ بِمَنْ لَمْ يُوَلِّهِ ذُو شَوْكَةٍ لِنُفُوذِ أَحْكَامِ مَنْ وَلَّاهُ وَلَوْ مَعَ الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ بَلْ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي الْبَحْرِ قَالَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ وَلَوْ اُسْتُقْضِيَ مُقَلِّدٌ لِلضَّرُورَةِ فَحَكَمَ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ أَيْ وَهُوَ الْأَصَحُّ .(1/99)
قِيلَ وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ بَحْثًا لَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْمُسْتَصْفَى وَغَيْرِهِ ا هـ وَيُرَدُّ بِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ بَحْثٌ لَهُ فَهُوَ بَحْثٌ ظَاهِرٌ وَكَفَى بِتَقْرِيرِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَهُ وَأَمَّا إطْلَاقُ الْأَنْوَارِ النَّقْضَ فَفِيهِ نَظَرٌ , لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ كَالْغَزَالِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلَّدِ اتِّبَاعُ مَنْ شَاءَ وَمِنْ ثَمَّ اعْتَرَضَ الْأَنْوَارَ شَارِحُهُ فَقَالَ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إطْلَاقِ النَّقْضِ مَمْنُوعٌ ا هـ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي قُضَاةِ زَمَانِنَا لِأَنَّ مُوَلِّيَهُمْ يَشْرِطُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ دُونَ غَيْرِهِ ا هـ قُلْتُ إنَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ إنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّوْلِيَةِ وَلُزُومِ الشَّرْطِ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ لَوْ شَرَطَ عَلَى النَّائِبِ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ أَوْ اجْتِهَادَ مُقَلِّدِهِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ خَالَفَ كُلَّ شَرْطٍ حَنَفِيٍّ عَلَى شَافِعِيٍّ الْحُكْمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه قَالَ فِي الْوَسِيطِ حُكْمٌ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَّفِقَةِ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ وَهَذَا حُكْمٌ مِنْهُ بِصِحَّةِ الِاسْتِخْلَافِ وَرِعَايَةِ الشَّرْطِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبَ الْمُهَذَّبِ وَالتَّهْذِيبِ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا لَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ رَجُلًا الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَذْهَبٍ عَيَّنَهُ بَطَلَ الشَّرْطُ وَالتَّقْلِيدُ جَمِيعًا .(1/100)
وَقَضِيَّةُ هَذَا بُطْلَانُ الِاسْتِخْلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْوَسِيطِ وَأَفْتَى الْقَاضِي فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِإِلْغَاءِ الشَّرْطِ فَقَطْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَوْ لَمْ تَجْرِ صِيغَةٌ بِشَرْطٍ كَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ لَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَلَغَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَالَ وَلَوْ قَالَ لَهُ لَا تَحْكُمْ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ مَثَلًا جَازَ وَحَكَمَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ا هـ مُلَخَّصًا وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَحَاصِلُهُ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَالتَّوْلِيَةِ وَأَمَّا إلْغَاءُ مَا صَدَرَ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ مُخَالِفِينَ لِعَقِيدَةِ الْحَاكِمِ مَعَ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَدْ نَازَعَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْأَمْرَ شَرْطًا أَوْ تَقْيِيدًا كَمَا لَوْ قَالَ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ فَاقْضِ فِي مَوْضِعِ كَذَا أَوْ فِي يَوْمِ كَذَا وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا حَكَمَ الْمُسْتَقْضَى الْمَذْكُورُ بِمَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَمَّا لَوْ حَكَمَ بِمَذْهَبٍ غَيْرِهَا فَيَنْقُضُ حُكْمُهُ .(1/101)
فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيّ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ التَّقْلِيدُ لِلْعَمَلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ يَعْنِي تَقْلِيدَ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ا هـ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا حَكَمَ بِمَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ أَمَّا لَوْ حَكَمَ بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مَرْجُوحٍ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَفَصَّلَ السُّبْكِيّ فَقَالَ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ وَرَجَّحَهُ بِدَلِيلٍ جَيِّدٍ جَازَ وَنَفَذَ حُكْمُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَاذٍّ أَوْ غَرِيبٍ فِي مَذْهَبِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ كَالْخَارِجِ عَنْ مَذْهَبِهِ فَلَوْ حَكَمَ بِقَوْلٍ خَارِجٍ عَنْ مَذْهَبِهِ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُهُ جَازَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ بِاللَّفْظِ أَوْ الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَشْمَلْهُ ا هـ قَالَ شَيْخُنَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ عَنَى بِكَلَامِهِ هَذَا كَلَامَهُ السَّابِقَ عَنْهُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فَتَأَمَّلْهُ مَعَ أَنَّهُ سَبَقَ أَنَّ كَلَامَهُ السَّابِقَ ضَعِيفٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَا يَأْتِي عَنْهُ فَكَذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَكَلَامُ السُّبْكِيّ هَذَا أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَشْرِطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ إلَخْ يُخَالِفُ مَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بُطْلَانِ التَّوْلِيَةِ .(1/102)
وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هُنَا لَا يَجُوزُ وَقَوْلِ السُّبْكِيّ يَجُوزُ أَنْ يُرَجِّحَ لَهُ مَا لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ مَا مَرَّ وَبَيْنَ مَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ مِنْ جَوَازِ الْحُكْمِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ وَهَذَا فِي الْحُكْمِ الضَّعِيفِ فِي مَذْهَبِهِ الَّذِي لَمْ يُوَافِقْ وَاحِدًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ لَا فِي الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّعِيفَ الْمَذْكُورَ رَأْيٌ مُغَايِرٌ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ رَجَعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ الْقَوَاعِدِ وَالْمَأْخَذِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعًا لَهُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْتِزَامَ الرَّاجِحِ مِنْ مَذْهَبِهِ لِامْتِنَاعِ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الضَّعِيفِ فِي مَذْهَبِهِ فِي الْحُكْمِ وَالْإِفْتَاءِ كَمَا تَقَرَّرْ وَفِي الْخَادِمِ مَا حَاصِلُهُ إذَا حَكَمَ مُقَلَّدٌ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ نَفَذَ أَوْ بِمَا تَوَهَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا لَمْ يَنْفُذْ وَإِنْ صَادَفَ الْحَقَّ أَوْ بِمَرْجُوحٍ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ نَفَذَ وَإِلَّا فَلَا نَعَمْ إنْ فُرِضَ أَنَّهُ اعْتَقَدَ صِحَّةَ ذَلِكَ الْمَرْجُوحِ تَقْلِيدًا لِقَائِلِهِ وَلَهُ مَذْهَبٌ صَحِيحٌ لِدَلِيلٍ بِحَسَبِ حَالِهِ أَوْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ بُطْلَانُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَجْهَ لَا يُقَلَّدُ قَائِلُهُ(1/103)
إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا . وَإِنَّمَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لِكَوْنِ قَائِلِهِ يَرَى أَنَّهُ مَذْهَبُ إمَامِهِ فَإِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ كَانَ قَوْلُهُمْ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْقَضَاءَ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِإِمَامٍ إلَّا لَيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَمَا لَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ عَالِمٍ آخَرَ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَلَّدَ وَجْهًا ضَعِيفًا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا مَا قَالَهُ آخِرًا فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي التَّوْلِيَةِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَجَوَّزْنَاهُ فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ ذَلِكَ جَازَ ا هـ وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَلَّدَ وَجْهًا إلَخْ ظَاهِرٌ فِي الْفَرْقِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْوَجْهِ الضَّعِيفِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْحُكْمِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ هَذَا كُلُّهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ الْعَامِّ أَمَّا الْخَاصُّ كَأَنْ وَلَّى شَافِعِيٌّ حَنَفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا فِي جُزْئِيَّةٍ تَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ النَّائِبِ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ حَكَاهُ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَاعْتَمَدَهُ الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ عَصْرِيُّ أَبِي شَامَةَ شَيْخُ النَّوَوِيِّ فَأَبْطَلَ تَزْوِيجَ حَنَفِيٍّ صَغِيرَةً وَقَدْ أَذِنَ لَهُ شَافِعِيٌّ فِيهِ وَصَوَّبَ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .(1/104)
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيِّ امْتِنَاعُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنِ إلَّا إنْ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بِخُصُوصِهِ وَلَا يَكْفِي عُمُومُ التَّوْلِيَةِ وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ الْإِذْنُ فِيمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَفَارَقَ التَّوْلِيَةَ الْعَامَّةَ بِأَنَّهَا تَجْعَلُهُ قَاضِيًا مُسْتَقِلًّا وَمُجَرَّدُ الْإِذْنِ اسْتِنَابَةٌ عَنْ الْمُنِيبِ فَكَيْفَ يَسْتَنِيبُ فِيمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ اعْتِمَادِ شَيْخِهِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَدَمَ النَّقْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَاعْتَمَدَهُ أَيْضًا أَبُو شَامَةَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَوْ أَدَّى شَافِعِيًّا اجْتِهَادُهُ إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَضِيَّةٍ جَازَ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مَنْ اعْتَزَى إلَى مَذْهَبٍ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِهِ لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ وَهَذَا وَإِنْ اقْتَضَتْهُ السِّيَاسَةُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذْهَبِ وَتَمْيِيزِ أَهْلِهَا فَحُكْمُ الشَّرْعِ لَا يُوجِبُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ حُكْمٍ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ا هـ وَكَالِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِهِ التَّقْلِيدُ لِمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ وَبِهِ يُعْلَمُ مَا فِي قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ فَإِنْ فَعَلَ نُقِضَ لِفَقْدِ الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ ا هـ .(1/105)
عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ عِلَّتِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّقْلِيدِ لَهُ بَلْ اجْتِهَادًا مِنْ عِنْدِهِ وَلَقَدْ اُسْتُفْتِيَ التَّاجُ الْفَزَارِيُّ وَأَهْلُ عَصْرِهِ عَنْ حَاكِمٍ حَكَمَ بِخِلَافِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُوَلَّى لِلْحُكْمِ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ . فَأَجَابَ شَافِعِيَّانِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ فَخَطَّأَهُمَا التَّاجُ وَقَالَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَسَدَتْ التَّوْلِيَةُ وَوَقَعَ لَهُ مَعَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ دَارٍ مَرْهُونَةٍ بَاعَهَا الْحَاكِمُ فِي الدَّيْنِ ثُمَّ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا وَقْفٌ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَصَارِفِهَا وَلَا كَيْفِيَّةِ وَقْفِهَا فَهَلْ يُنْقَضُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ ؟ فَأَجَابَ التَّاجُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الشَّمْسُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ فَنَاظَرَهُ التَّاجُ فَقَالَ الشَّمْسُ إنَّمَا بَاعَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ وَالْقَاضِي لَا يَبِيعُ الْوَقْفَ فَأَجَابَهُ التَّاجُ بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ بِشُرُوطِهِ وَهُوَ يُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ وَالْوَقْفُ الْمَشْهُودُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمُنْقَطِعِ وَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْحُكْمِ الْمُبْرَمِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْمُحْتَمَلِ فَانْقَطَعَ الشَّمْسُ وَلَمْ يَجِدْ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ .(1/106)
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَمَا تَقَرَّرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ وَنَفَائِسَ دَعَا إلَى ذَكَرِهَا قَوْلُ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُفْتِينَ السَّابِقِينَ فِي حُكْمِ الْقَاضِي السَّابِقِ فِي السُّؤَالِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ يُنْقَضُ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ الْبُلْقِينِيُّ السَّابِقِ عَنْ فَتَاوِيهِ مَعَ رَدِّ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ التَّاجِ هَذَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَا يُنْقَضُ وَإِنْ قُلْنَا بِاعْتِمَادِ إطْلَاقِ الْبُلْقِينِيُّ لِأَنَّ عِلَّةَ التَّاجِ تَأْتِي بِعَيْنِهَا هُنَا إذْ الْحُكْمُ هُنَا أَيْضًا قَدْ انْبَرَمَ بِشُرُوطِهِ فَلَا يُنْقَضُ لِلْأَمْرِ الْمُحْتَمَلِ وَإِذَا مُنِعَ النَّقْضُ مَعَ تَبَيُّنِ الْوَقْفِ بِالْبَيِّنَةِ بِشُبْهَةِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَمَنْعُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِوُجُودِ الْخِلَافِ فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَقَوْلِ مَالِكٍ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا أَوْلَى فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْبَيْعَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَاقِعٌ عَلَى الْمَاءِ وَحَكَمَ بِهِ شَافِعِيٌّ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ لِمَا مَرَّ عَنْ الشَّيْخَيْنِ وَلِكَلَامِ التَّاجِ هَذَا وَفَّقْنَا اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَلَا حَرَمنَا خَيْرَ مَا عِنْدَهُ لِشَرِّ مَا عِنْدَنَا آمِينَ .
((1/107)
وَسُئِلَ ) عَنْ تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ تَقَرُّرِ مَذَاهِبِهِمْ وَاشْتِهَارِهَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَاذَا يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ وَمَا حُكْمُ عِبَادَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ صِحَّةِ عِبَادَتِهِ هَلْ يَكُونُ عَاصِيًا فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْر أَمْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ لِغَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُوَافِقَ اجْتِهَادُهُ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْلِيدُ لَهُ كَأَنَّهُ تَقْلِيدٌ لِأَحَدِهِمْ أَمْ لَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ مَذْهَبِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ مُتَوَاتِرًا أَمْ لَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُدَوَّنًا أَمْ يَكْفِي نَقْلُهُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَأَيْضًا ظَاهِرُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ جَوَازُ التَّقْلِيدِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ سِوَى اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ كَوْنَ مَذْهَبِ مُقَلَّدِهِ رَاجِحًا أَوْ مُسَاوِيًا فَهَلْ الْبِنَاءُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ كَافٍ فِي الْحُكْمِ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَمْ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِهِ بَيِّنُوا ذَلِكَ .
((1/108)
فَأَجَابَ ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ الَّذِي تَحَرَّرَ أَنَّ تَقْلِيدَ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله تعالى عنهم لَا يَجُوزُ فِي الْإِفْتَاءِ وَلَا فِي الْقَضَاءِ وَأَمَّا فِي عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لَا كَالشِّيعَةِ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِمَذْهَبِ الْمُقَلَّدِ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ وَتَفَاصِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ الْمَسَائِلِ الْمُقَلِّدِ فِيهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ ذَلِكَ الْمُقَلَّدِ وَعَدَمِ التَّلْفِيقِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهَا أَوْ إلَى بَعْضِهَا تَقْلِيدَ غَيْرِ ذَلِكَ الْإِمَامِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ تَلْفِيقَ التَّقْلِيدِ كَتَقْلِيدِ مَالِكٍ رحمه الله تعالى فِي عَدَمِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله تبارك وتعالى عنه فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَمُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا بَلْ قِيلَ إجْمَاعًا وَإِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ التَّقْلِيدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ فَعِبَادَاتُ الْمُقَلِّدِ وَمُعَامَلَتُهُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَوْرًا وَلَا يُشْتَرَطُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِ ذَلِكَ الْمُقَلِّدِ لِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا نَقْلُ مَذْهَبِهِ تَوَاتُرًا كَمَا أَشَرْتُ إلَيْهِ وَلَا تَدْوِينُ مَذْهَبِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بَلْ يَكْفِي أَخْذُهُ مِنْ كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ الْمَوْثُوقِ بِهَا الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا وَكَلَامُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يُخَالِفُهُ , وَاَللَّهُ(1/109)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وفي تحفة المحتاج :
( وَمِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ ) أَوْ الْأَقْوَالِ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه قِيلَ ذَكَرَ الْمُجْتَهِدُ لَهَا لِإِفَادَةِ إبْطَالِ مَا زَادَ لَا لِلْعَمَلِ بِكُلٍّ انْتَهَى , وَلَا يَنْحَصِرُ فِي ذَلِكَ بَلْ مِنْ فَوَائِدِهِ بَيَانُ الْمُدْرَكِ , وَأَنَّ مَنْ رَجَّحَ أَحَدَهَا مِنْ مُجْتَهِدِي الْمَذْهَبِ لَا يُعَدُّ خَارِجًا عَنْهُ وَأَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهَا حَتَّى يُمْنَعَ الزَّائِدُ بِمَعُونَةِ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ ثَالِثٍ إلَّا إنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْهُمَا بِأَنْ يَكُونَ مُفَصَّلًا , وَكُلٌّ مِنْ شِقَّيْهِ قَالَ بِهِ أَحَدُهُمَا ثُمَّ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا مَا تَأَخَّرَ إنْ عُلِمَ , وَإِلَّا فَمَا نَصَّ عَلَى رُجْحَانِهِ وَإِلَّا فَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَإِلَّا فَمَا قَالَ عَنْ مُقَابِلِهِ مَدْخُولٌ أَوْ يَلْزَمُهُ فَسَادٌ , وَإِلَّا فَمَا أَفْرَدَهُ فِي مَحَلٍّ أَوْ جَوَابٍ وَإِلَّا فَمَا وَافَقَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ لِتُقَوِّيهِ بِهِ فَإِنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ لِتَكَافُؤِ نَظَرَيْهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ وَدِقَّةِ الْوَرَعِ حَذَّرَ مِنْ وَرْطَةِ هُجُومٍ عَلَى تَرْجِيحٍ مِنْ غَيْرِ اتِّضَاحِ دَلِيلٍ , وَزَعَمَ أَنَّ صُدُورَ قَوْلَيْنِ مَعًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ كَفِيهَا قَوْلَانِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا غَلَطٌ أُفْرِدَ رَدُّهُ وَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِتَأْلِيفٍ حَسَنٍ قَالَ الْإِمَامُ وَوَقَعَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا .(1/110)
وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُقَلِّدِ بَيْنَ قَوْلَيْ إمَامِهِ أَيْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا , وَكَأَنَّهُ أَرَادَ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ كَيْفَ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيُّ مَنْعُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ دُونَ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَانْتَصَرَ لَهُ الْغَزَالِيُّ كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَسَاوِي جِهَتَيْنِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ إجْمَاعًا وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَمْتَنِعُ إنْ كَانَا فِي حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَإِيجَابٍ وَتَحْرِيمٍ بِخِلَافِ نَحْوِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ .(1/111)
وَأَجْرَى السُّبْكِيُّ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ فِي الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَيْ مِمَّا عَلِمْت نِسْبَتَهُ لِمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ , وَجَمِيعُ شُرُوطِهِ عِنْدَهُ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَيْ فِي قَضَاءٍ أَوْ إفْتَاءٍ وَمَحَلُّ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ صُوَرِ التَّقْلِيدِ مَا لَمْ يَتَتَبَّعْ الرُّخَصَ بِحَيْثُ تَنْحَلُّ رِبْقَةُ التَّكْلِيفِ مِنْ عُنُقِهِ , وَإِلَّا أَثِمَ بِهِ بَلْ قِيلَ فَسَقَ وَهُوَ وَجِيهٌ قِيلَ وَمَحَلُّ ضَعْفِهِ أَنَّ تَتَبُّعَهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ وَإِلَّا فَسَقَ قَطْعًا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ كَالْآمِدِيِّ مَنْ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَعَ الثَّانِي تَرَكُّبُ حَقِيقَةٍ لَا يَقُولُ بِهَا كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ .(1/112)
ثُمَّ رَأَيْت السُّبْكِيَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَتَاوِيهِ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ بَسْطٍ فِيهِ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمْعٌ فَقَالُوا إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ نَفْسِهَا لَا مِثْلِهَا خِلَافًا لِلْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ كَأَنْ أَفْتَى بِبَيْنُونَةِ زَوْجَتِهِ فِي نَحْوِ تَعْلِيقٍ فَنَكَحَ أُخْتَهَا , ثُمَّ أَفْتَى بِأَنْ لَا بَيْنُونَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ لِلْأُولَى وَيُعْرِضَ عَنْ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ إبَانَتِهَا , وَكَانَ أَخَذَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ تَقْلِيدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ فِي تَرْكِهَا فَيَمْتَنِعُ فِيهِمَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ حِينَئِذٍ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ مَا مَرَّ
((1/113)
قَوْلُهُ أَوْ الْأَقْوَالُ ) أَيْ بِدَلِيلِ فَمِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ ( قَوْلُهُ مَا زَادَ ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَلَا مُرَكَّبًا مِنْهَا ( قَوْلُهُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهَا ) كَذَا فِيمَا رَأَيْت وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْحِصَارِ لَا يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِهَا حَتَّى يَكُونَ مِنْ فَوَائِدِهَا وَإِنَّ عَدَمَ الِانْحِصَارِ مُنَافٍ لِمَا نَقَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ إبْطَالُ مَا زَادَ وَلَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ هَكَذَا وَإِنَّ الْخِلَافَ انْحَصَرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ زَائِدًا عَلَى مَا نَقَلَهُ بِقَوْلِهِ أَبْطَلَ مَا زَادَ .(1/114)
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعِبَارَةَ هِيَ مَا رَأَيْت وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ الْأَقْوَالِ بِمَعُونَةِ مَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْخِلَافَ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهَا بَلْ يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ زَائِدٍ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْهَا بَلْ مُرَكَّبًا مِنْهَا فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَإِلَّا فَمَا نَصَّ عَلَى رُجْحَانِهِ ) يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاجِحَ مَا تَأَخَّرَ إنْ عُلِمَ وَإِنْ نَصَّ عَلَى رُجْحَانِ الْأَوَّلِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا فَلَوْ عُكِسَ فَقَالَ ثُمَّ الرَّاجِحُ مَا نُصَّ عَلَى رُجْحَانِهِ وَإِلَّا فَمَا تَأَخَّرَ إنْ عُلِمَ أَصَابَ , وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِلَّا مَعْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَأَخُّرُهُ وَهُوَ لَا يَخْلُصُ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَإِلَّا فَمَا قَالَ ) ظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ عَنْهُ يَلْزَمُهُ فَسَادٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ( قَوْلُهُ وَإِلَّا فَمَا وَافَقَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ ) عِبَارَةُ كَنْزٍ مَوْلَانَا الْبَكْرِيُّ وَلَوْ وَافَقَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ الْمُطْلَقَيْنِ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ كَانَ مُرَجَّحًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقَلِّدِ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ مِنْ الْقَوْلِ فِي غَيْرِهَا وَالْمُوَافِقُ زَادَتْ بِهِ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَوْلِ انْتَهَى وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ وَحَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَالِفَ أَوْلَى وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا خَالَفَهُ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى مُوجَبِ الْمُخَالَفَةِ وَالثَّانِي الْقَوْلُ(1/115)
الْمُوَافِقُ أَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ الْقَفَّالِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِدْ مُرَجِّحًا مِمَّا سَبَقَ انْتَهَى , وَعِبَارَةُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مُخَالِفُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ مِنْ مُوَافِقِهِ وَعَكَسَ الْقَفَّالُ وَالْأَصَحُّ التَّرْجِيحُ بِالنَّظَرِ فَإِنْ وُقِفَ فَالْوَقْفُ انْتَهَى وَيَنْبَغِي حَمْلُ تَصْحِيحِ الْمَجْمُوعِ السَّابِقِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدُلَّ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الشَّافِعِيِّ عَلَى رُجْحَانِ الْمُخَالِفِ فَلْيُتَأَمَّلْ , وَقَدْ يُوَافِقُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ ( قَوْلُهُ أَفْرَدَ رَدَّهُ ) ضَبَّبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ إلَخْ ) هَلْ يَجْرِي مَا ذَكَرَ فِي الْوَجْهَيْنِ قَوْلُهُ دُونَ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ ) أَيْ مِمَّا يُحْفَظُ ( قَوْلُهُ أَيْ مِمَّا عَلِمْت إلَخْ ) قَدْ يُشْكِلُ مَعَ فَرْضِ عِلْمِ النِّسْبَةِ وَجَمِيعُ الشُّرُوطِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهَا فِي تَقْيِيدِ غَيْرِهَا بِغَيْرِ الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ ( قَوْلُهُ بَلْ قِيلَ فَسَقَ إلَخْ ) الْوَجْهُ خِلَافُهُ ( قَوْلُهُ كَأَنْ أَفْتَى إلَخْ ) فِي شَرْحِ م ر كَأَنْ أَفْتَى شَخْصٌ بِبَيْنُونَةِ زَوْجَةٍ بِطَلَاقِهَا مُكْرَهًا ثُمَّ نَكَحَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أُخْتَهَا مُقَلِّدًا أَبَا حَنِيفَةَ بِطَلَاقِ الْمُكْرَهِ ثُمَّ أَفْتَاهُ شَافِعِيٌّ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ مُقَلِّدًا لِلْحَنَفِيِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ حِينَئِذٍ(1/116)
كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ رحمه الله تعالى فِي فَتَاوِيهِ رَادًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَهُ مُغْتَرًّا بِظَاهِرِ مَا مَرَّ ( قَوْلُهُ ثُمَّ أَفْتَى إلَخْ ) فِي هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ سَيَظْهَرُ ( قَوْلُهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ ) أَيْ كَأَنْ بَاعَ مَا أَخَذَهُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَلَا يَصِحُّ تَصْوِيرُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ فَبِيعَتْ دَارٌ تُجَاوِرُ إحْدَاهُمَا فَأَخَذَهَا بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ ثُمَّ أَرَادَ هُوَ بَيْعَ دَارِهِ الْأُخْرَى وَأَرَادَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ فِي مَنْعِ أَخْذِ جَارِهِ لَهَا فَلَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى كَمَا يَجُوزُ أَخْذُ جَارِهَا لَهَا تَقْلِيدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ . ( قَوْلُهُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ إلَخْ ) فِيهِ نَظَرٌ فِي الْأُولَى إذْ قَضِيَّةُ قَوْلِ الثَّانِي فِيهَا أَنَّ الزَّوْجَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ فِي عِصْمَتِهِ , وَأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي عِصْمَتِهِ فَالرُّجُوعُ لِلْأُولَى وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ إبَانَةٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ
((1/117)
وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ ) وَلَوْ فِي الدُّبُرِ ( بِلَا وَلِيٍّ ) بِأَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمُ حَاكِمٌ بِبُطْلَانِهِ وَإِلَّا فَهُوَ زِنًا فِيهِ الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ وَلَوْ مَعَ الْإِعْلَانِ ; لِأَنَّ مَالِكًا رضي الله عنه لَا يَقُولُ بِالِاكْتِفَاءِ بِهِ إلَّا مَعَ الْوَلِيِّ ( يُوجِبُ ) عَلَى الزَّوْجِ الرَّشِيدِ دُونَ السَّفِيهِ كَمَا يَأْتِي بِتَفْصِيلِهِ آخِرَ الْبَابِ ( مَهْرُ الْمِثْلِ ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ السَّابِقُ لَا الْمُسَمَّى لِفَسَادِ النِّكَاحِ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ وَجَبَ وَلَا أَرْشَ لِلْبَكَارَةِ ; لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي إتْلَافِهَا هُنَا كَمَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذْ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْوَطْءَ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ ( لَا الْحَدَّ ) , وَإِنْ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يُعَزَّرُ مُعْتَقِدُهُ , وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَاهُ بِصِحَّتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَالَ وَقَوْلُهُمْ حُكْمُ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَمْنَعُ النَّقْضَ بِشَرْطِهِ اصْطِلَاحًا لَا غَيْرُ وَإِلَّا فَلِشَافِعِيٍّ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ بَيْعُ الْوَقْفِ , وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَنَفِيٌّ لَكِنَّهُ اعْتَرَضَ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّعِيفِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إنَّمَا يَنْفُذُ ظَاهِرًا مُطْلَقًا .(1/118)
أَمَّا عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهُ فِيمَا بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ كَظَاهِرِهِ يَنْفُذُ بَاطِنًا أَيْضًا فَيُبَاحُ لِمُقَلِّدِهِ وَغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا يَأْتِي مَبْسُوطًا فِي الْقَضَاءِ لَا مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ , وَإِنْ حُدَّ بِشُرْبِهِ النَّبِيذَ ; لِأَنَّ أَدِلَّتَهُ فِيهِ وَاهِيَةٌ جِدًّا بِخِلَافِهِ هُنَا وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَكَأَنْ مَنْ قَالَ هُنَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا النِّكَاحِ جَرَى عَلَى النَّقْضِ إذْ مَا يُنْقَضُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ وَبِهَذَا يُقَيَّدُ قَوْلُ السُّبْكِيّ يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْعَمَلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ إجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ ا هـ وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدُهُمَا هُنَا ثَلَاثًا قَبْلَ حُكْمِ حَاكِمٍ بِالصِّحَّةِ لَمْ يَقَعْ وَلَمْ يَحْتَجْ لِمُحَلِّلٍ وَقَوْلُ أَبِي إسْحَاقَ يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَيْهِ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ غَلَّطَهُ فِيهِ الْإِصْطَخْرِيُّ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ عَلَى مَا إذَا رَجَعَ عَنْ تَقْلِيدِ الْقَائِلِ بِالصِّحَّةِ وَصَحَّحْنَاهُ وَإِلَّا وَقَعَ وَاحْتَاجَ لِمُحَلِّلٍ وَيُؤَيِّدُ إطْلَاقَ الْإِصْطَخْرِيِّ قَوْلُ الْعِمْرَانِيِّ فِي تَأْلِيفِهِ فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ الْفَاسِقِ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا مِنْ وَلِيِّهَا الْفَاسِقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إلَّا بَعْدَ مُحَلِّلٍ فَافْهَمْ تَعْبِيرَهُ بِالْأَوْلَى صِحَّتُهُ بِلَا مُحَلِّلٍ وَبَنَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ لَهُ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْقَفَّالِ , أَوْ لَا(1/119)
مَذْهَبَ لَهُ كَمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وَمَالَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ قَالَ فَعَلَى الثَّانِي مُطْلَقًا وَالْأَوَّلُ إنْ قَلَّدَ مَنْ يَرَى الصِّحَّةَ لَوْ نَكَحَ نِكَاحًا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَطَلَّقَ ثَلَاثًا لَمْ يَنْكِحْهَا بِلَا مُحَلِّلٍ , وَإِنْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِإِبْطَالِ نِكَاحِهِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِمَا الْتَزَمَهُ وَمَعْنَى أَنَّهُ لَا مَذْهَبَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَلَكِنَّهُ إنْ رُفِعَ إلَيْهِ وَلَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ أَبْطَلَهُ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ا هـ مُلَخَّصًا .(1/120)
وَسَيَأْتِي أَنَّ الْفَاعِلَ مَتَى اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مِنْ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ , وَإِنْ اعْتَقَدَ الْحِلَّ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ إلَّا الْقَاضِي إنْ رُفِعَ لَهُ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَا مَذْهَبٍ لَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَبِلَهُ مَذْهَبٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ تَعَاطِي فِعْلٍ إلَّا إنْ قَلَّدَ الْقَائِلَ بِحِلِّهِ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ نَكَحَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَإِنْ قَلَّدَ الْقَائِلَ بِصِحَّتِهِ , أَوْ حَكَمَ بِهَا مَنْ يَرَاهَا ثُمَّ طَلَّقَ ثَلَاثًا تَعَيَّنَ التَّحْلِيلُ وَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهُ ; لِأَنَّهُ تَلْفِيقٌ لِلتَّقْلِيدِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ , وَهُوَ مُمْتَنِعٌ قَطْعًا , وَإِنْ انْتَفَى التَّقْلِيدُ وَالْحُكْمُ لَمْ يَحْتَجْ لِمُحَلِّلٍ نَعَمْ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ الثَّلَاثِ عَدَمَ التَّقْلِيدِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ آخِذًا مِمَّا مَرَّ قُبَيْلَ الْفَصْلِ ; لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ رَفْعَ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَزِمَهُ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ فِعْلِهِ .(1/121)
وَأَيْضًا فَفِعْلُ الْمُكَلَّفِ يُصَانُ عَنْ الْإِلْغَاءِ لَا سِيَّمَا إنْ وَقَعَ مِنْهُ مَا يُصَرِّحُ بِالِاعْتِدَادِ كَالتَّطْلِيقِ ثَلَاثًا هُنَا وَكَحُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِالصِّحَّةِ مُبَاشَرَتُهُ لِلتَّزْوِيجِ إنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ تَصَرُّفَ الْحَاكِمِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ وَلِشَافِعِيٍّ حَضَرَ هَذَا الْعَقْدَ الشَّهَادَةُ بِجَرَيَانِهِ لَا بِالزَّوْجِيَّةِ إلَّا إنْ قَلَّدَ الْقَائِلَ بِصِحَّتِهِ تَقْلِيدًا صَحِيحًا وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حُضُورُهُ وَالتَّسَبُّبُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ التَّقْلِيدِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَيْسَ لِلزَّوْجَيْنِ الِاسْتِبْدَادُ بِعَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ إلَّا إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَدَّاهُمَا إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَعَمْ وَثَانِيهِمَا لَا إلَّا بِإِفْتَاءِ مُفْتٍ , أَوْ حُكْمِ حَاكِمٍ ا هـ وَالْوَجْهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته أَنَّهُ يَكْفِي لِحِلِّ مُبَاشَرَتِهِمَا تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِذَلِكَ تَقْلِيدًا صَحِيحًا د
.(1/122)
قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ وَالْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ ) أَمَّا الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ شَرْحٌ م ر ( قَوْلُهُ : وَلَوْ مَعَ الْإِعْلَانِ إلَخْ ) فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُبَالَغَةً عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ زِنًا فِيهِ الْحَدُّ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَيْثُ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالْبُطْلَانِ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ وَوَجَبَ الْحَدُّ وَلِهَذَا قَالَ الشَّارِحُ فِي بَابِ الزِّنَا , أَوْ مَعَ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا أَيْ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ لَكِنْ حَكَمَ بِإِبْطَالِهِ أَوْ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَنْ يَرَاهُ وَوَقَعَ الْوَطْءُ بَعْدَ عِلْمِ الْوَاطِئِ بِهِ إذْ لَا شُبْهَةَ حِينَئِذٍ انْتَهَى فَحَيْثُ حَكَمَ حَاكِمٌ هُنَا بِبُطْلَانِهِ وَجَبَ الْحَدُّ وَلَوْ وُجِدَ مَا يَقُولُ مَالِكٌ بِالِاكْتِفَاءِ بِهِ فَقَوْلُهُ وَلَوْ مَعَ الْإِعْلَانِ ; لِأَنَّ مَالِكًا إلَخْ لَا وَجْهَ لَهُ , وَإِنْ كَانَتْ مُبَالَغَةً عَلَى مَا قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ إلَخْ فَيَكُونُ مُبَالَغَةً فِي الْمَعْنَى عَلَى كَوْنِ الْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا ثَابِتٌ وَلَوْ وُجِدَ إعْلَانٌ وَوَلِيٌّ لَا شُهُودٌ فَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ وَلَا لِمَا وَجَّهَهَا بِهِ فَتَأَمَّلْهُ . ((1/123)
قَوْلُهُ : وَلَوْ مَعَ الْإِعْلَانِ ) أَيْ حَالَ الدُّخُولِ كَمَا يَأْتِي فِي الزِّنَا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ مَالِكًا إلَخْ ) جَوَابُ سُؤَالٍ كَيْفَ يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ الْإِعْلَانِ مَعَ اكْتِفَاءِ مَالِكٍ بِهِ فَيَكُونُ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْحَدِّ ( قَوْلُهُ : بِهِ ) أَيْ بِالْإِعْلَانِ ( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ ) ظَاهِرُهُ , وَإِنْ اعْتَقَدَتْ التَّحْرِيمَ وَقَدْ يُوَجَّهُ بِشُمُولِ الْخَبَرِ وَبِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ أَوْرَثَهُ شُبْهَةً فِي الْجُمْلَةِ مُوجِبَةً لِلْمَالِ لَكِنْ قَالَ فِي الْعُبَابِ وَلَعَلَّهُ أَيْ وُجُوبَ الْمَهْرِ إذَا اعْتَقَدَتْ حِلَّهُ , أَوْ جَهِلَتْ تَحْرِيمَهُ انْتَهَى فَلْيُتَأَمَّلْ وَقَدْ يُقَالُ حَيْثُ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ الْحِلَّ وَجَبَ الْمَهْرُ , وَإِنْ لَمْ تَعْتَقِدْهُ هِيَ أَيْضًا ( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ مَهْرَ الْمِثْلِ ) أَيْ مَهْرَ مِثْلِ بِكْرٍ إنْ كَانَتْ بِكْرًا , وَإِنْ لَمْ يَجِبْ أَرْشُ الْبَكَارَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ فِي الرَّوْضِ وَشَرْحِهِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَحَيْثُ لَا حَدَّ يَجِبُ الْمَهْرُ فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَمَهْرُ بِكْرٍ لِلتَّمَتُّعِ بِهَا وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ لِإِتْلَافِهَا بِخِلَافِهِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ; لِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ مَضْمُونٌ فِي صَحِيحِ الْبَيْعِ دُونَ صَحِيحِ النِّكَاحِ إلَخْ وَقَوْلُهُ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ وَجَبَ أَيْ الْمُسَمَّى هَلْ مِثْلُ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِصِحَّتِهِ تَقْلِيدُ الزَّوْجِ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّتِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْمُسَمَّى يَنْبَغِي نَعَمْ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ(1/124)
) أَيْ يُوجِبُ الْوَطْءُ فِيهِ أَرْشَ الْبَكَارَةِ ( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ لَا الْحَدُّ ) لَكِنْ يُعَزَّرُ مُعْتَقِدُ تَحْرِيمِهِ مَا لَمْ يَحْكُمْ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ , أَوْ بِبُطْلَانِهِ وَإِلَّا فَكَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَيَمْتَنِعُ حِينَئِذٍ عَلَى مُخَالَفَةِ نَقْضِهِ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ يَرَاهُ إلَخْ ) شَامِلٌ لِحُكْمِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : الْآتِي أَمَّا عَلَى الْأَصَحِّ فَيُبَاحُ إلَخْ فَتَأَمَّلْهُ ( قَوْلُهُ : فَيُبَاحُ لِمُقَلِّدِهِ وَغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهِ ) أَيْ فَلَا يُحَدُّ هُنَا وَلَا يُعَزَّرُ أَيْ وَلَا أَثَرَ لِاعْتِقَادِهِ التَّحْرِيمَ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ حِينَئِذٍ ( قَوْلُهُ : لَا مُعْتَقِدِ الْإِبَاحَةِ ) عَطْفٌ عَلَى مُعْتَقِدِ ( قَوْلُهُ : إذْ مَا يَنْقُضُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ ) لَا يَخْفَى إشْكَالُ هَذَا الْكَلَامِ إذْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادُ تَقْلِيدِ اتِّبَاعِ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ فِيمَا تَقُولُ بِنَقْضِهِ فَلْيُحَرَّرْ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ طَلَّقَ أَحَدَهُمَا ) أَيْ مُعْتَقِدُ التَّحْرِيمِ وَمُعْتَقِدُ الْحِلِّ ( قَوْلُهُ : وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ ) أَيْ الْغَلَطِ ( قَوْلُهُ : أَوْ لَا مَذْهَبَ لَهُ ) مَعْنَاهُ مَا عَبَّرَ بِهِ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا يَقَعُ لَهُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ تَارَةً وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى , وَهَكَذَا انْتَهَى وَقَدْ بَيَّنَ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ فِي رِسَالَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ تَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ , وَإِنْ صَحَّحَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ خِلَافَهُ فَقَالَ(1/125)
عَطْفًا عَلَى مَعْمُولِ الْأَصَحِّ , وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ قَالَ الْمَحَلِّيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ انْتَهَى ( قَوْلُهُ قَالَ ) أَيْ بَعْضُهُمْ ( قَوْلُهُ إلَّا الْقَاضِيَ إلَخْ ) هَذَا الْإِطْلَاقُ مُشْكِلٌ إدّ لَوْ رَفَعَ إلَيْهِ مَالِكِيٌّ تَوَضَّأَ بِمُسْتَعْمَلٍ أَوْ صَلَّى بِدُونِ تَسْبِيعِ الْمُغَلَّظَةِ مَثَلًا كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ) بَيَّنَ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ فِي رِسَالَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اقْتِصَارُ الشَّارِحِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى قَوْلِهِ مَا نَصُّهُ قَالَ الْهَرَوِيُّ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ أَيْ مُعَيَّنٌ يَلْزَمُهُ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ انْتَهَى لَكِنْ صَحَّحَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ خِلَافَ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ فَمَنْ نَكَحَ مُخْتَلَفًا فِيهِ ) أَيْ كَنِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ ( قَوْلُهُ : وَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهُ ) ظَاهِرُهُ , وَإِنْ حَكَمَ بِبُطْلَانِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ( قَوْلُهُ : أَيْضًا وَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهُ ) هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ لَهُ تَقْلِيدُهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى فَلَا تَلْفِيقَ م ر ( قَوْلُهُ : لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ) يَحْتَمِلُ أَنَّ مَحَلَّ عَدَمِ الْقَبُولِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِعَدَمِ التَّقْلِيدِ بِأَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِتَقْلِيدِ الْقَائِلِ بِالْبُطْلَانِ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ(1/126)
حُضُورُهُ إلَخْ ) يَنْبَغِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْحُضُورِ بِلَا تَسَبُّبٍ مِنْهُ لَا مَنْعَ فِيهِ إذَا كَانَ الْمُتَعَاطُونَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ
( فُرُوعٌ ) فِي التَّقْلِيدِ يُضْطَرُّ إلَيْهَا مَعَ كَثْرَةِ الْخِلَافِ فِيهَا وَحَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ نَفْسِهِ لَا لِإِفْتَاءٍ , أَوْ قَضَاءٍ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ إجْمَاعًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي ; لِأَنَّهُ مَحْضُ تَشَبُّهٍ وَتَغْرِيرٍ , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ : إذَا قَصَدَ بِهِ الْمُفْتِي مَصْلَحَةً دِينِيَّةً جَازَ أَيْ : مَعَ تَبْيِينِهِ لِلْمُسْتَفْتِي قَائِلَ ذَلِكَ . وَعَلَى مَا اخْتَلَّ فِيهِ شَرْطٌ مِمَّا ذُكِرَ يُحْمَلُ قَوْلُ السُّبْكِيّ : مَا خَالَفَ الْأَرْبَعَةَ كَمُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ .(1/127)
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا اعْتِقَادُ أَرْجَحِيَّةِ مُقَلَّدِهِ , أَوْ مُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ لَكِنْ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَجَّحَاهُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَهُ عَامِّيًّا جَاهِلًا بِالْأَدِلَّةِ ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ لِحُصُولِهِ بِالتَّسَامُحِ وَنَحْوِهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ : مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ أَيْ : مُعَيَّنٌ يَلْزَمُهُ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ وَحَيْثُ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُتَبَحِّرَانِ أَيْ : فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ فَكَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدَيْنِ . ا هـ . وَقَضِيَّتُهُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْجُهِ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ , لَكِنْ فِي الرَّوْضَةِ لَيْسَ لِمُفْتٍ وَعَامِلٍ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ , أَوْ وَجْهَيْنِ أَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدَهُمَا بِلَا نَظَرٍ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ بَلْ يَبْحَثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا بِنَحْوِ تَأَخُّرِهِ إنْ كَانَا لِوَاحِدٍ . ا هـ . وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ لَكِنْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُفْتِي , وَالْقَاضِي ; لِمَا مَرَّ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِشَرْطِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمُسَاوَاةِ الْعَامِلِ لِلْمُفْتِي فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى عَامِلٍ مُتَأَهِّلٍ لِلنَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ وَعِلْمِ الرَّاجِحِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ عَنْ الْهَرَوِيِّ وَمَا يَأْتِي عَنْ فَتَاوَى السُّبْكِيّ ; لِأَنَّهُ فِي عَامِّيٍّ لَا يَتَأَهَّلُ لِذَلِكَ .(1/128)
وَإِطْلَاقُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ مَنْ لِإِمَامِهِ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَانِ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِي أَيِّهِمَا أَحَبَّ يَرُدُّهُ مَا تَقَرَّرَ وَمَا مَرَّ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ وَمَا فِي الرَّوْضَةِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ مَفْرُوضٌ كَمَا تَرَى فِيمَا إذَا كَانَا لِوَاحِدٍ , وَإِلَّا تَخَيَّرَ لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ تَرْجِيحَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ قَائِلِهِ الْأَهْلِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ أَيْضًا : اخْتِلَافُ الْمُتَبَحِّرَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدَيْنِ فِي الْفَتْوَى . وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْيِيرُ فِيهِمَا فِي الْعَمَلِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَرْجُوحِ قَوْلُ الْبُلْقِينِيِّ فِي مُقَلِّدِ مُصَحِّحِ الدَّوْرِ فِي السُّرَيْجِيَّةِ لَا يَأْثَمُ , وَإِنْ كُنْت لَا أُفْتِي بِصِحَّتِهِ ; لِأَنَّ الْفُرُوعَ الِاجْتِهَادِيَّةَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا . وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : يَمْتَنِعُ التَّقْلِيدُ فِي هَذِهِ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِيهَا : يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِصِحَّةِ الدَّوْرِ . وَمَرَّ أَنَّ مَا يُنْقَضُ لَا يُقَلَّدُ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَنْقُضُهُ يَمْنَعُ تَقْلِيدَهُ وَمَنْ لَا يَنْقُضُهُ يُجَوِّزُ تَقْلِيدَهُ .(1/129)
وَفِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ يَتَخَيَّرُ الْعَامِلُ فِي الْقَوْلَيْنِ أَيْ : إذَا لَمْ يَتَأَهَّلْ لِلْعِلْمِ بِأَرْجَحِهِمَا كَمَا مَرَّ , وَلَا وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ , لَكِنْ مَرَّ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مَا يُخَالِفُ بَعْضَ ذَلِكَ فَرَاجِعْهُ بِخِلَافِ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بَعْدَ عِلْمِ أَرْجَحِيَّتِهِ , وَصَرَّحَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُ الْعَمَلَ بِالْمَرْجُوحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ , وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَتَبَّعَ الرُّخَصَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ بِالْأَسْهَلِ مِنْهُ ; لِانْحِلَالِ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ مِنْ عُنُقِهِ حِينَئِذٍ , وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَوْجَهُ أَنَّهُ يُفَسَّقُ بِهِ . وَزَعْمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَخْصِيصُهُ بِمَنْ يَتَّبِعُ بِغَيْرِ تَقْلِيدٍ يَتَقَيَّدُ بِهِ لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَحِلِّ الْخِلَافِ بَلْ يُفَسَّقُ قَطْعًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ . وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِرُخَصِ الْمَذَاهِبِ , وَإِنْكَارُهُ جَهْلٌ لَا يُنَافِي حُرْمَةَ التَّتَبُّعِ , وَلَا الْفِسْقَ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ بِالتَّتَبُّعِ وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِرُخَصِ الْمَذَاهِبِ مُقْتَضِيًا لَهُ لِصِدْقِ الْأَخْذِ بِهَا مَعَ الْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ أَيْضًا وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا ; لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْعَزَائِمِ , وَالرُّخَصِ لَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مُتَتَبِّعٌ لِلرُّخَصِ لَا سِيَّمَا مَعَ النَّظَرِ لِضَبْطِهِمْ لِلتَّتَبُّعِ بِمَا مَرَّ فَتَأَمَّلْهُ .(1/130)
وَالْوَجْهُ الْمَحْكِيُّ بِجَوَازِهِ يَرُدُّهُ نَقْلُ ابْنِ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ , وَكَذَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُ مُحَقِّقِ الْحَنَفِيَّةِ ابْنِ الْهُمَامِ : لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الْعَقْلِ , وَالنَّقْلِ مَعَ أَنَّهُ اتِّبَاعُ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مَتْبُوعٍ , وَقَدْ { كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَلَى أُمَّتِهِ } , وَالنَّاسُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَسْأَلُونَ مَنْ شَاءُوا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِذَلِكَ . ا هـ . وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّلْفِيقِ أَيْضًا , وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَتَفَطَّنْ لَهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَنْ أَخَذَ بِكَلَامِهِ هَذَا الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ كَمَا تَقَرَّرَ وَفِي الْخَادِمِ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَاطِينَ الْأَوْلَى لِمَنْ بُلِيَ بِوَسْوَاسٍ الْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ , وَالرُّخَصِ ; لِئَلَّا يَزْدَادَ فَيَخْرُجُ عَنْ الشَّرْعِ وَلِضِدِّهِ الْأَخْذُ بِالْأَثْقَلِ ; لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ الْإِبَاحَةِ . وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا يُلَفِّقَ بَيْنَ قَوْلَيْنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ لَا يَقُولُ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا وَأَنْ لَا يَعْمَلَ بِقَوْلٍ فِي مَسْأَلَةٍ , ثُمَّ بِضِدِّهِ فِي عَيْنِهَا كَمَا مَرَّ بَسْطُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ مَعَ بَيَانِ حِكَايَةِ الْآمِدِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَنْعِ بَعْدَ الْعَمَلِ .(1/131)
وَنَقْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ مِثْلَهُ فِيهِ تَجَوُّزٌ , وَإِنْ جَرَيْت عَلَيْهِ ثَمَّ فَإِنَّهُ إنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ فِي عَامِّيٍّ لَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا قَالَ : فَإِنْ الْتَزَمَ مُعَيَّنًا فَخِلَافٌ , وَكَذَا صَرَّحَ بِالْخِلَافِ مُطْلَقًا الْقَرَافِيُّ وَقِيلَ : وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّفَاقِ اتِّفَاقُ الْأُصُولِيِّينَ لَا الْفُقَهَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الِانْتِقَالَ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ أَوْ لَا وَأَطْلَقَ الْأَئِمَّةُ جَوَازَ الِانْتِقَالِ . وَقَدْ أَخَذَ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ الْمَجْمُوعِ وَتَبِعُوهُ أَنَّ إطْلَاقَاتِ الْأَئِمَّةِ إذَا تَنَاوَلَتْ شَيْئًا , ثُمَّ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِمَا يُخَالِفُ فِيهِ فَالْمُعْتَمَدُ الْأَخْذُ فِيهِ بِإِطْلَاقِهِمْ .
((1/132)
قَوْلُهُ : وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ إلَخْ ) هَذَا مَعَ قَوْلِهِ الْآتِي : هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ نَفْسِهِ لَا لِإِفْتَاءٍ , أَوْ قَضَاءٍ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ فِيهِ إجْمَاعًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعَةِ مِمَّنْ حُفِظَ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عُرِفَتْ شُرُوطُهُ وَسَائِرُ مُعْتَبَرَاتِهِ يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُهُ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ الْإِفْتَاءِ , وَالْحُكْمِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ وَلْيُحْفَظْ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ ( قَوْلُهُ : وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّقْلِيدِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي ) قَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ تَقْلِيدِ مُقَلِّدِي بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا قُلْنَا بِنَقْضِهِ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ مَحْضُ تَشَهٍّ وَتَغْرِيرٍ ) كَيْفَ ذَلِكَ مَعَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ ؟ ( قَوْلُهُ : لَكِنْ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَجَّحَهُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ ) فِي الرَّوْضِ وَيَعْمَلُ أَيْ : الْمُسْتَفْتِي بِفَتْوَى عَالِمٍ مَعَ وُجُودِ أَعْلَمَ مِنْهُ جَهِلَهُ قَالَ فِي شَرْحِهِ : بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَهُ بِأَنْ اعْتَقَدَهُ أَعْلَمَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ إذَا جَهِلَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ عِلْمٍ , ثُمَّ قَالَ فِي الرَّوْضِ : فَإِنْ اخْتَلَفَا أَيْ : الْمُفْتِيَانِ جَوَابًا وَصِفَةً وَلَا نَصَّ قُدِّمَ الْأَعْلَمُ , وَكَذَا إذَا اعْتَقَدَ أَحَدَهُمَا أَعْلَمَ , أَوْ أَوْرَعَ أَيْ : قَدَّمَ مَنْ اعْتَقَدَهُ أَعْلَمَ , أَوْ أَوْرَعَ وَيُقَدِّمُ الْأَعْلَمَ عَلَى(1/133)
الْأَوْرَعِ انْتَهَى . فَانْظُرْ هَلْ يُخَالِفُ ذَلِكَ إطْلَاقَهُ جَوَازَ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ الْآتِي فِي الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَرْجَحَ التَّخْيِيرُ فِيهِمَا فِي الْعَمَلِ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : قَالَ الْهَرَوِيُّ : مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ إلَخْ ) بَيَّنَ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ فِي رِسَالَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّ مُقْتَضَى الرَّوْضَةِ تَرْجِيحُ مَا نَقَلَهُ الْهَرَوِيُّ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ . ( قَوْلُهُ : لَا مَذْهَبَ لَهُ ) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ تَرْكَ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا بَلْ مَعْنَاهُ مَا عَبَّرَ بِهِ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ : فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا يَقَعُ لَهُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ تَارَةً وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى وَهَكَذَا انْتَهَى . وَعِبَارَةُ السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ فَيُقَلِّدُ وَاحِدًا فِي مَسْأَلَةٍ وَآخَرَ فِي أُخْرَى انْتَهَى . وَلَعَلَّ الشَّارِحَ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَيْ : مُعَيَّنٌ إلَخْ . ((1/134)
قَوْلُهُ : أَيْ : مُعَيَّنٌ يَلْزَمُهُ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ ) لَا يُقَالُ : هَذَا لَا يَخُصُّ الْعَامِّيَّ ; لِأَنَّ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ جَوَازُ الِانْتِقَالِ , وَلَوْ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَعَلَّ الْأَوْجَهَ مَنْعُ مَا نَقَلَهُ الْهَرَوِيُّ ; لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالْعَامِّيِّ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ , أَوْ نَقُولُ : غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ الْعَامِّيِّ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ عَطْفًا عَلَى مَعْمُولِ الْأَصَحِّ : وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ ثَمَّ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُ أَقْوَالٌ إلَخْ زَادَ الْمَحَلِّيُّ عَقِبَ الْعَامِّيِّ مَا نَصُّهُ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ انْتَهَى . وَقَضِيَّتُهُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ إلَخْ هَذَا فِي الْعَامِّيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي : فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ عَنْ الْهَرَوِيِّ ; لِأَنَّهُ فِي عَامِّيٍّ إلَخْ . فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ : وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا اعْتِقَادُ أَرْجَحِيَّةِ مُقَلَّدِهِ إلَخْ شَامِلٌ لِلْعَامِّيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَهُ عَامِّيًّا إلَخْ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُمْنَعُ قَوْلُهُ : وَقَضِيَّتُهُ جَوَازُ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ إلَخْ وَيُقَالُ : بَلْ قَضِيَّتُهُ مَنْعُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : فَكَاخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدَيْنِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِهِ : لَكِنْ الْمَشْهُورُ إلَخْ . ( قَوْلُهُ : لَكِنْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ ) أَيْ : كَلَامَ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَ . ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمُسَاوَاةِ الْعَامِلِ لِلْمُفْتِي إلَخْ ) أَيْ : فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لِمُفْتٍ وَعَامِلٍ صَاحِبُ الرَّوْضِ . ((1/135)
قَوْلُهُ : فِي الْعَمَلِ ) أَخْرَجَ الْفَتْوَى , وَالْحُكْمَ . ( قَوْلُهُ : وَعَنْ غَيْرِهِ مَا يُخَالِفُ بَعْضَ ذَلِكَ فَرَاجِعْهُ ) وَمِمَّا يُخَالِفُهُ كَلَامُ الرَّوْضِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَأَهَّلْ لِلْعِلْمِ بِالرَّاجِحِ وَلَا وَجَدَ مَنْ يُخْبِرُهُ يَتَوَقَّفُ وَلَا يَتَخَيَّرُ حَيْثُ قَالَ هُنَا : لَيْسَ لَهُ أَيْ : لِكُلٍّ مِنْ الْعَامِلِ , وَالْمُفْتِي كَمَا فِي شَرْحِهِ الْعَمَلُ , وَالْفَتْوَى بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , أَوْ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ , أَوْ التَّخْرِيجِ اسْتَقَلَّ بِهِ مُتَعَرَّفًا ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ , وَالْمَآخِذِ وَإِلَّا تَلَقَّاهُ مِنْ نَقَلَةِ الْمَذْهَبِ فَإِنْ عَدِمَ التَّرْجِيحَ أَيْ : بِأَنْ لَمْ يُحَصِّلْهُ بِطَرِيقٍ تَوَقَّفَ أَيْ : حَتَّى يُحَصِّلَهُ إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ اخْتَلَفُوا أَيْ : الْأَصْحَابُ فِي الْأَرْجَحِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْ : كُلٌّ مِنْ الْعَامِلِ , وَالْمُفْتِي أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ اعْتَمَدَ مَا صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ , وَالْأَعْلَمُ وَإِلَّا أَيْ : وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحُوا شَيْئًا تَوَقَّفَ انْتَهَى .(1/136)
وَلَا يَخْفَى مُخَالَفَةُ هَذَا لِإِطْلَاقِ الْهَرَوِيِّ السَّابِقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : وَإِلَّا تَلَقَّاهُ مِنْ نَقَلَةِ الْمَذْهَبِ وَقَوْلَهُ فَإِنْ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ شَامِلٌ لِلْعَامِّيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا فِيهِ وَلَمْ يُخَيِّرْهُ , بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَعَرُّفَ الرَّاجِحِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَحِّرَيْنِ فِي غَيْرِ التَّرْجِيحِ , أَوْ كَلَامُ شَرْحِ الرَّوْضِ فِي غَيْرِ الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ وَمُخَالَفَتُهُ لِحَمْلِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ : فَالْوَجْهُ حَمْلُ إلَخْ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ تَعَرُّفَ الرَّاجِحِ وَمُخَالَفَتُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ التَّخْيِيرِ , إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي غَيْرِ التَّرْجِيحِ مَعَ التَّسَاوِي عِنْدَهُ , أَوْ عَلَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِيهِ عِنْدَهُ وَعَنْ السُّبْكِيّ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَوْجَهُ إلَخْ ) خِلَافُ الْأَوْجَهِ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ لَا يُفَسَّقُ بِتَتَبُّعِهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ . ( قَوْلُهُ : كَمَا مَرَّ بَسْطُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ إلَخْ ) عِبَارَتُهُ هُنَاكَ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ كَالْآمِدِيِّ : مَنْ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا .(1/137)
لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَعَ الثَّانِي تَرَكُّبُ حَقِيقَةٍ لَا يَقُولُ بِهَا كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , ثُمَّ رَأَيْت السُّبْكِيَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَتَاوِيهِ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ الْبَسْطِ فِيهِ , وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمْعٌ فَقَالُوا إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ بَعْدَ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا لَا مِثْلِهَا أَيْ : خِلَافًا لِلْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ كَأَنْ أَفْتَى بِبَيْنُونَةِ زَوْجَتِهِ فِي نَحْوِ تَعْلِيقٍ فَنَكَحَ أُخْتَهَا , ثُمَّ أَفْتَى بِأَنْ لَا بَيْنُونَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ لِلْأُولَى وَيُعْرِضَ عَنْ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ إبَانَتِهَا , وَكَأَنْ أَخَذَ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ تَقْلِيدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ فِي تَرْكِهَا فَيَمْتَنِعُ فِيهِمَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ حِينَئِذٍ فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ مَا مَرَّ انْتَهَى . وَبَيَّنَّا فِي هَامِشِ شَرْحِ الْخُطْبَةِ مَا فِي تَمْثِيلِهِ الْأَوَّلِ فَرَاجِعْهُ .
. ((1/138)
وَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادٍ ) وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ , أَوْ بِاجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ ( ثُمَّ بَانَ ) أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ ( خِلَافَ نَصِّ الْكِتَابِ , أَوْ السُّنَّةِ ) الْمُتَوَاتِرَةِ , أَوْ الْآحَادِ ( أَوْ ) بَانَ خِلَافَ ( الْإِجْمَاعِ ) , وَمِنْهُ مَا خَالَفَ شَرْطَ الْوَاقِفِ ( أَوْ ) خِلَافَ ( قِيَاسٍ جَلِيٍّ ) , وَهُوَ مَا يَعُمُّ الْأُولَى , وَالْمُسَاوِيَ قَالَ الْقَرَافِيُّ : أَوْ خَالَفَ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : أَوْ كَانَ حُكْمًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَيْ : قَطْعًا فَلَا نَظَرَ ; لِمَا بَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النَّقْضِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ قَالَ بِهَا غَيْرُهُمْ لِأَدِلَّةٍ عِنْدَهُ . قَالَ السُّبْكِيُّ : أَوْ خَالَفَ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ ; لِأَنَّهُ كَالْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ أَيْ : لِمَا يَأْتِي عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ ( نَقَضَهُ ) أَيْ : أَظْهَرَ بُطْلَانَهُ وُجُوبًا , وَإِنْ لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ ( هُوَ وَغَيْرُهُ ) بِنَحْوِ : نَقَضْته أَوْ أَبْطَلْته , أَوْ فَسَخْته إجْمَاعًا فِي مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ وَقِيَاسًا فِي غَيْرِهِ , وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ هُنَا الظَّاهِرُ عَلَى مَا فِي الْمَطْلَبِ عَنْ النَّصِّ لَا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ , وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ , وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ السُّبْكِيّ : فَمَتَى بَانَ الْخَطَأُ قَطْعًا , أَوْ ظَنًّا نُقِضَ الْحُكْمُ قَالَ : أَمَّا مُجَرَّدُ التَّعَارُضِ لِقِيَامِ بَيِّنَةٍ بَعْدَ الْحُكْمِ , بِخِلَافِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي حَكَمَ بِهَا فَلَا نَقْلَ فِيهِ .(1/139)
وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَا نَقْضَ فِيهِ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ وَكَأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَأْتِي عَنْهُ قُبَيْلَ فَصْلِ الْقَائِفِ مَعَ بَيَانِ أَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ قَطَعَ بِمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ أُبْطِلَ وَإِلَّا فَلَا عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِتَبَيُّنِ بُطْلَانِهِ إذَا بَانَ فِسْقُ شَاهِدِهِ أَوْ رُجُوعُهُ , أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ , لَكِنْ لَا يَرِدُ هَذَا عَلَى السُّبْكِيّ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَارِضًا بَلْ رَافِعًا وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا . وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : بِاجْتِهَادٍ خِلَافًا لِمَنْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ مَا لَوْ حَكَمَ بِنَصٍّ , ثُمَّ بَانَ نَسْخُهُ أَوْ خُرُوجُ تِلْكَ الصُّورَةِ عَنْهُ بِدَلِيلٍ . وَيُنْقَضُ أَيْضًا حُكْمُ مُقَلِّدٍ بِمَا يُخَالِفُ نَصَّ إمَامِهِ ; لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَلْحَقَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ حُكْمَ غَيْرِ مُتَبَحِّرٍ بِخِلَافِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَيْ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَقِ عَنْ رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ وَحُكْمَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ , وَإِنْ وَافَقَ الْمُعْتَمَدَ أَيْ : مَا لَمْ يَكُنْ قَاضِيَ ضَرُورَةٍ ; لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِالْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ . وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ , بِخِلَافِ الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ .(1/140)
وَبِعَدَمِ الْجَوَازِ وَصَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فَتَاوِيه فِي الْوَقْفِ وَأَطَالَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْحُكْمِ , بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَأْخُذُوا بِالرَّاجِحِ وَأَوْجَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَقْلِيدَهُمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِهِ , وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَ الْأَوَّلِينَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَيَجِبُ نَقْضُهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ عَنْ أَصْلِ الرَّوْضَةِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَبِعُوهُ : وَيَنْفُذُ حُكْمُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ إذَا رَجَّحَ قَوْلًا وَلَوْ مَرْجُوحًا فِي مَذْهَبِهِ بِدَلِيلٍ جَيِّدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَاذٍّ , أَوْ غَرِيبٍ فِي مَذْهَبِهِ إلَّا إنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَلَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ بِاللَّفْظِ , أَوْ الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ : عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ قَالَ : وَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فِي قَضَاءٍ , وَلَا إفْتَاءٍ , بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا . ا هـ . وَسَبَقَهُ إلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَاوَرْدِيُّ وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ .(1/141)
وَمَرَّ آنِفًا لِذَلِكَ مَزِيدٌ قَالَ الْبَغَوِيّ : وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِالصِّحَّةِ فِي قَضِيَّةٍ مِنْ بَعْضِ وُجُوهِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا فَلِمُخَالَفِهِ الْحُكْمُ بِفَسَادِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَصَغِيرَةٍ زَوَّجَهَا غَيْرُ مُجْبِرٍ بِغَيْرِ كُفْءٍ وَيَلْزَمُهُ التَّسْجِيلُ بِالنَّقْضِ إنْ سَجَّلَ بِالْمَنْقُوضِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ السُّبْكِيُّ : وَمَتَى نَقَضَ حُكْمَ غَيْرِهِ سُئِلَ عَنْ مُسْتَنَدِهِ وَقَوْلُهُمْ : لَا يُسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ مُسْتَنَدِهِ مَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ نَقْضًا أَيْ وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا , أَوْ جَاهِلًا كَمَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ . ( لَا ) مَا بَانَ خِلَافَ قِيَاسٍ ( خَفِيٍّ ) , وَهُوَ مَا لَا يَبْعُدُ احْتِمَالُ الْفَارِقِ فِيهِ كَقِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْبُرِّ فِي الرِّبَا بِجَامِعِ الطَّعْمِ فَلَا يَنْقُضُهُ لِاحْتِمَالِهِ .(1/142)
قَوْلُهُ : عَلَى مَا يَأْتِي عَنْهُ قُبَيْلَ فَصْلِ الْقَائِفِ ) عِبَارَتُهُ هُنَاكَ : وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِاحْتِيَاجِ نَحْوِ يَتِيمٍ لِبَيْعِ مَالِهِ وَأَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَبَاعَهُ الْقَيِّمُ بِهِ وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ ثُمَّ قَامَتْ أُخْرَى بِأَنَّهُ بَيْعٌ بِلَا حَاجَةٍ , أَوْ بِأَنَّ قِيمَتَهُ مِائَتَانِ نُقِضَ الْحُكْمُ وَحُكِمَ بِفَسَادِ الْبَيْعِ عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ قَالَ : لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِنَاءً عَلَى سَلَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ , وَلَمْ تَسْلَمْ فَهُوَ كَمَا لَوْ أُزِيلَتْ يَدُ دَاخِلٍ بِبَيِّنَةِ خَارِجٍ , ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَةً فَإِنَّ الْحُكْمَ يُنْقَضُ لِذَلِكَ وَخَالَفَهُ السُّبْكِيُّ قَالَ : لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ إذْ التَّقْوِيمُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ وَقَدْ تَطَّلِعُ بَيِّنَةُ الْأَقَلِّ عَلَى عَيْبٍ فَمَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِنَّمَا نُقِضَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْيَدِ أَيْ : الثَّابِتَةِ إلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ هُنَاكَ وَمِنْهُ هَذَا . وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ اعْتِمَادُهُ أَخْذًا مِنْ تَعْلِيلِ السُّبْكِيّ بِالشَّكِّ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَتْ الْعَيْنُ بِصِفَاتِهَا وَقُطِعَ بِكَذِبِ الْأُولَى , وَالثَّانِي عَلَى مَا إذَا تَلِفَتْ , وَلَا تَوَافُقَ وَلَمْ يُقْطَعْ بِكَذِبِ الْأُولَى . وَاعْتَمَدَ شَيْخُنَا كَلَامَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَرَّدَ كَلَامَ السُّبْكِيّ إلَخْ . ا هـ . بِاخْتِصَارٍ فَرَاجِعْهُ . ( قَوْلُهُ : غَيْرِ مُتَبَحِّرٍ ) أَخْرَجَ حُكْمَ الْمُتَبَحِّرِ بِمَا ذُكِرَ وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ : قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَتَبِعُوهُ إلَخْ .
وفي نهاية المحتاج :
((1/143)
وَهُوَ ) أَيْ الْمُحَرَّرُ ( كَثِيرُ الْفَوَائِدِ ) جَمْعُ فَائِدَةٍ , وَهِيَ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِهِ ( عُمْدَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ ) أَيْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْمَسَائِلِ مَجَازًا عَنْ مَكَانِ الذَّهَابِ ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ , وَإِطْلَاقُ الْمَذْهَبِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَدَاوَلَةِ مُقْتَصَرًا فِيهَا عَلَى مَا بِهِ الْفَتْوَى كَمَا هُنَا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى رُكْنِهِ الْأَعْظَمِ ; لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ لِلْفَقِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا ( مُعْتَمَدٌ لِلْمُفْتِي وَغَيْرِهِ ) كَالْقَاضِي وَالْمُدَرِّسِ ( مِنْ أُولِي الرَّغَبَاتِ ) أَيْ أَصْحَابِهَا وَهِيَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ جَمْعُ رَغْبَةٍ بِسُكُونِهَا , وَهُوَ بَيَانٌ لِغَيْرِهِ أَوْ لِكُلٍّ مِنْ سَابِقِيهِ ( وَقَدْ الْتَزَمَ مُصَنِّفُهُ رحمه الله وَأَنْ يَنُصَّ ) فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ( عَلَى مَا صَحَّحَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ فِيهَا ; لِأَنَّ نَقْلَ الْمَذْهَبِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ فَيُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ مِنْ اسْتِوَاءِ الْأَدِلَّةِ , وَيُطْلَقُ النَّصُّ الْمَنْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُنَا وَعَلَى الدَّلِيلِ كَقَوْلِهِمْ : لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ نَصٍّ , وَعَلَى اللَّفْظِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ ( وَوَفَى ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ ( بِمَا الْتَزَمَهُ ) وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَسْتَدْرِكُ عَلَى الْمُحَرَّرِ بِأَنَّهُ خَالَفَ الْأَكْثَرِينَ , وَعَلَى الرَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ يَجْزِمُ فِي الْمُحَرَّرِ بِشَيْءٍ وَيَكُونُ بَحْثًا لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ .(1/144)
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَفَى بِحَسَبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ , فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِدْرَاكَهُ التَّصْحِيحَ عَلَيْهِ فِي الْمَوَاضِعِ الْآتِيَةِ وَبِأَنَّهُ وَفَى غَالِبًا , وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْمُبَالَغَةِ فَنَزَّلَ الْقَلِيلَ جِدًّا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ , وَبِأَنَّهُ يَجْزِمُ فِي الْمُحَرَّرِ بِشَيْءٍ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَالتَّقْيِيدِ لِمَا أَطْلَقُوهُ تَسَاهُلًا بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ لَقَبِلُوهُ لِكَوْنِهِ مُرَادَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ تَصَانِيفِ السُّبْكِيّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ فَهِمَ عَنْ الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنُصُّ إلَّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ فَقَدْ أَخْطَأَ فَهْمُهُ , فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ فِي خُطْبَةِ الْمُحَرَّرِ : إنَّهُ نَاصٌّ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ مِنْ الْوُجُوهِ وَالْأَقَاوِيلِ , وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ لَا يَنُصُّ إلَّا عَلَى ذَلِكَ ( وَهُوَ ) أَيْ مَا الْتَزَمَهُ ( مِنْ أَهَمِّ ) الْمَطْلُوبَاتِ ( أَوْ ) هُوَ ( أَهَمُّ الْمَطْلُوبَاتِ ) لِطَالِبِ الْفِقْهِ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُصَحَّحِ مِنْ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلِهِ .(1/145)
ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ وَجْهِ اخْتِصَارِهِ فَقَالَ ( لَكِنْ فِي حَجْمِهِ ) أَيْ مِقْدَارِ الْمُحَرَّرِ ( كَبِرَ عَنْ حِفْظِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعَصْرِ ) أَيْ زَمَانِهِ الرَّاغِبِينَ فِي حِفْظِ مُخْتَصَرٍ فِي الْفِقْهِ ( إلَّا بَعْضَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ ) مِنْهُمْ فَلَا يَكْبَرُ : أَيْ يَعْظُمُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ , فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ الْأَكْثَرِ بَعْضَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ , وَأَمَّا الْأَقَلُّونَ فَلَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي كَلَامِهِ لَا فِي الْمُسْتَثْنَى وَلَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ , وَيَصِحُّ كَوْنُهُ مُنْقَطِعًا بِأَنْ يَكُونَ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِنَايَاتِ مِنْ الْأَقَلِّينَ ( فَرَأَيْت اخْتِصَارَهُ ) بِأَنْ لَا يَفُوتَ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِهِ مِنْ الرَّأْيِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ : أَيْ ظَهَرَ لِي أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ( فِي نَحْوِ نِصْفِ حَجْمِهِ ) هُوَ صَادِقٌ بِمَا وَقَعَ فِي الْخَارِجِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ بِيَسِيرٍ , فَإِنَّ نَحْوَ الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى مَا سَاوَاهُ أَوْ قَارَبَهُ مَعَ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ , وَالنِّصْفُ مُثَلَّثُ النُّونِ , وَيُقَالُ فِيهِ نَصِيفٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَزِيَادَةِ يَاءٍ قَبْلَ آخِرِهِ ( لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ ) أَيْ الْمُخْتَصَرِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ فِي حِفْظِ مُخْتَصَرٍ .(1/146)
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ : الْكِتَابُ يُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ وَيُبْسَطَ لِيُفْهَمَ , وَالِاخْتِصَارُ مَمْدُوحٌ شَرْعًا , قَالَ صلى الله عليه وسلم { : أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ , وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا } ( مَعَ مَا ) أَيْ مَصْحُوبًا ذَلِكَ الْمُخْتَصَرَ بِمَا ( أَضُمُّهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) فِي أَثْنَائِهِ وَبِذَلِكَ قَرُبَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أَصْلِهِ كَمَا قِيلَ ( مِنْ النَّفَائِسِ الْمُسْتَجَادَاتِ ) أَيْ الْمُسْتَحْسَنَاتِ بَيَانٌ لِمَا سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ مَوْصُولًا اسْمِيًّا أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً ( مِنْهَا ) الضَّمِيرُ لِلنَّفَائِسِ أَوْ لِمَا فِي قَوْلِهِ مَا أَضُمُّهُ , وَاعْتُبِرَ الْمَعْنَى وَالْحَاصِلُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْبَيَانِ أَوْ لِلْمُبَيِّنِ ( التَّنْبِيهُ عَلَى قُيُودٍ ) جَمْعُ قَيْدٍ .(1/147)
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا جِيءَ بِهِ لِجَمْعٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ بَيَانٍ وَاقِعٍ ( فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ) بِأَنْ تُذْكَرَ فِيهَا ( هِيَ مِنْ الْأَصْلِ مَحْذُوفَاتٌ ) بِالْمُعْجَمَةِ : أَيْ مَتْرُوكَاتٌ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهَا فِي الْمَبْسُوطَاتِ وَالتَّنْبِيهُ إعْلَامُ تَفْصِيلِ مَا تَقَدَّمَ إجْمَالًا فِيمَا قَبْلَهُ وَالْمَسَائِلُ جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَطْلُوبٌ خَبَرِيٌّ يُبَرْهَنُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كَسْبِيًّا ( وَمِنْهَا مَوَاضِعُ يَسِيرَةٌ ) نَحْوُ خَمْسِينَ مَوْضِعًا ( ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ فِي الْمَذْهَبِ ) الْآتِي ذِكْرُهُ فِيهَا مُصَحَّحًا ( كَمَا سَتَرَاهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) فِي خِلَافِهَا لَهُ نَظَرٌ لَلْمَدَارِكِ ( وَاضِحَاتٍ ) بِأَنْ أُبَيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا فِيهِ فَصَارَ حَاصِلُ كَلَامِهِ , وَمِنْهَا ذِكْرُ الْمُخْتَارِ فِي الْمَذْهَبِ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْمُحَرَّرِ عَلَى خِلَافِهِ ( وَمِنْهَا إبْدَالُ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِهِ غَرِيبًا ) أَيْ غَيْرَ مَأْلُوفِ الِاسْتِعْمَالِ , وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ ده يازده ; لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي أَلْسِنَةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَخْرَجَهَا عَنْ الْغَرَابَةِ ( أَوْ مُوهِمًا ) أَيْ مَوْقِعًا فِي الْوَهْمِ أَيْ الذِّهْنِ ( خِلَافَ الصَّوَابِ ) أَيْ الْإِتْيَانَ بَدَلَ ذَلِكَ ( بِأَوْضَحَ وَأَخْصَرَ مِنْهُ بِعِبَارَاتٍ جَلِيَّاتٍ ) أَيْ ظَاهِرَاتٍ فِي أَدَاءِ الْمُرَادِ .(1/148)
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّحْوِيُّونَ وَاللُّغَوِيُّونَ أَنَّ الْبَاءَ مَعَ الْإِبْدَالِ تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْرُوكِ لَا عَلَى الْمَأْتِيِّ بِهِ , قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } وَقَالَ { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَقَالَ { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الْآيَةَ , وَقَالَ { وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } وَحِينَئِذٍ فَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ : وَمِنْهَا إبْدَالُ الْأَوْضَحِ وَالْأَخْصَرِ بِمَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِهِ غَرِيبًا أَوْ مُوهِمًا خِلَافَ الصَّوَابِ . وَرَدَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّمْسُ الْقَايَاتِيُّ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهَا إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَأْخُوذِ فِي الْإِبْدَالِ مُطْلَقًا وَفِي التَّبْدِيلِ إنْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَ الْمَتْرُوكِ وَالْمَأْخُوذِ غَيْرُهُمَا , فَقَدْ نَقَلَ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ ثَعْلَبَ : أَبْدَلْت الْخَاتَمَ بِالْحَلْقَةِ إذَا نَحَّيْت هَذَا وَجَعَلْت هَذِهِ مَكَانَهُ , وَبَدَّلْت الْخَاتَمَ بِالْحَلْقَةِ إذَا أَذَبْته وَسَوَّيْته حَلْقَةً , أَمَّا إذَا ذُكِرَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا كَمَا فِي قوله تعالى { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } وَكَمَا فِي قَوْلِك بَدَّلَهُ بِخَوْفِهِ أَمْنًا فَدُخُولُهَا حِينَئِذٍ عَلَى الْمَتْرُوكِ كَمَا فِي الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبَدُّلِ وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ التَّبْدِيلِ وَالْإِبْدَالِ , بِأَنَّ التَّبْدِيلَ تَغْيِيرُ صُورَةٍ إلَى صُورَةٍ مَعَ بَقَاءِ الذَّاتِ , وَالْإِبْدَالُ تَغْيِيرُ الذَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ .(1/149)
وَلَمَّا كَانَ حَاصِلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ رَدَّ الِاعْتِرَاضِ مِنْ أَصْلِهِ لَمْ أَذْكُرْ كَلَامَ مَنْ سَلَّمَ الِاعْتِرَاضَ وَأَجَابَ عَنْهُ . ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ اصْطِلَاحٍ حَسَنٍ ابْتَكَرَهُ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فَقَالَ ( وَمِنْهَا بَيَانُ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ وَالطَّرِيقَيْنِ وَالنَّصِّ وَمَرَاتِبِ الْخِلَافِ ) قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْمَسَائِلِ ( فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ ) أَيْ حَالَةَ يُعَبِّرُ فِيهَا بِالْأَظْهَرِ أَوْ الْمَشْهُورِ أَوْ بِالْأَصَحِّ أَوْ الصَّحِيحِ فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ , أَمَّا مَا عَبَّرَ فِيهِ بِالْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لِبَيَانِ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ الطُّرُقِ أَوْ بِقِيلٍ لِبَيَانِ أَنَّهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَوْ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ , أَوْ بَقِيَ قَوْلٌ لِبَيَانِ أَنَّ الرَّاجِحَ خِلَافُهُ , أَوْ بِالنَّصِّ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ مُقَابِلَهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَوْ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ , أَوْ بِالْجَدِيدِ لِبَيَانِ أَنَّ الْقَدِيمَ خِلَافُهُ , أَوْ بِالْقَدِيمِ أَوْ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ لِبَيَانِ أَنَّ الْجَدِيدَ خِلَافُهُ , فَلَمْ يُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَرَاتِبَ الْخِلَافِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَيَّنَ بِهِ مُرَادَهُ بَعْدُ , وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُؤَلِّفَ وَفِيٌّ بِمَا الْتَزَمَهُ فِي جَمِيعِ اصْطِلَاحَاتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ ا هـ . فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ إنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ مَرْدُودٌ , وَأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ مَرَاتِبِ الْخِلَافِ أَشْيَاءُ مِنْهَا مَا عَبَّرَ فِيهِ بِالْمَذْهَبِ أَوْ النَّصِّ أَوْ الْجَدِيدِ أَوْ الْقَدِيمِ أَوْ فِي قَوْلِ كَذَا أَوْ قِيلَ كَذَا .(1/150)
وَمِنْ فَوَائِدِ ذِكْرِ الْمُجْتَهِدِ لِلْقَوْلَيْنِ إبْطَالُ مَا زَادَ لَا الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَبَيَانُ الْمُدْرَكِ , وَأَنَّ مَنْ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا مِنْ مُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ لَا يُعَدُّ خَارِجًا عَنْهُ ثُمَّ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا مَا نَصَّ عَلَى رُجْحَانِهِ وَإِلَّا فَمَا عُلِمَ تَأَخُّرُهُ وَإِلَّا فَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَإِلَّا فَمَا قَالَ عَنْ مُقَابِلِهِ مَدْخُولٌ أَوْ يَلْزَمُهُ فَسَادٌ وَإِلَّا فَمَا أَفْرَدَهُ فِي مَحَلٍّ أَوْ جَوَابٍ وَإِلَّا فَمَا وَافَقَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ لِتَقَوِّيهِ بِهِ فَإِنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ لِتَكَافُؤِ نَظَرَيْهِ , وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ وَشِدَّةِ الْوَرَعِ حَذَرًا مِنْ وَرْطَةِ هُجُومٍ عَلَى تَرْجِيحٍ مِنْ غَيْرِ وُضُوحِ دَلِيلٍ .(1/151)
وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَخْيِيرِ الْمُقَلِّدِ بَيْنَ قَوْلَيْ إمَامِهِ : أَيْ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ لَا الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا , وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ , وَإِلَّا فَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ مَنْعُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ دُونَ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ , وَبِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ : يَجُوزُ عِنْدَنَا , وَانْتَصَرَ لَهُ الْغَزَالِيُّ كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَسَاوِي جِهَتَيْنِ : أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ , وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَمْتَنِعُ إنْ كَانَا فِي حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ كَإِيجَابٍ وَتَحْرِيمٍ , بِخِلَافِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ , وَأَجْرَى السُّبْكِيُّ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ فِي الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ : أَيْ مِمَّا عَلِمْت نِسْبَتَهُ لِمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَجَمَعَ شُرُوطَهُ عِنْدَهُ , وَحَمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ : لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : أَيْ فِي إفْتَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ وَمَحَلِّ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مَا لَمْ يَتَتَبَّعْ الرُّخَصَ فِي سَائِرِ صُوَرِ التَّقْلِيدِ بِحَيْثُ تَنْحَلُّ رِبْقَةُ التَّكْلِيفِ مِنْ عُنُقِهِ وَإِلَّا أَثِمَ بِهِ , بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ فَسَقَ , وَالْأَوْجُهُ خِلَافُهُ .(1/152)
وَقِيلَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي حَالَةِ تَتَبُّعِهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ وَإِلَّا فَسَقَ قَطْعًا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ الْحَاجِبِ كَالْآمِدِيِّ مَنْ عَمِلَ بِمَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَعَ الثَّانِي تَرَكُّبُ حَقِيقَةٍ لَا يَقُولُ بِهَا كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ , كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ , وَمَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي الصَّلَاةِ فِي فَتَاوِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ مَعَ زِيَادَةِ إيضَاحٍ فِيهِ , وَتَبِعَهُ جَمْعٌ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالُوا : إنَّمَا يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا لَا مِثْلِهَا خِلَافًا لِلشَّارِحِ الْمَحَلِّيِّ كَأَنْ أَفْتَى شَخْصٌ بِبَيْنُونَةِ زَوْجَةٍ بِطَلَاقِهَا مُكْرَهًا ثُمَّ نَكَحَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أُخْتَهَا مُقَلِّدًا أَبَا حَنِيفَةَ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ , ثُمَّ أَفْتَاهُ شَافِعِيٌّ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ مُقَلِّدًا لِلْحَنَفِيِّ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ حِينَئِذٍ كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ الْوَالِدُ رحمه الله فِي فَتَاوِيهِ رَادًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ خِلَافَهُ مُغْتَرًّا بِظَاهِرِ مَا مَرَّ ( فَحَيْثُ أَقُولُ فِي الْأَظْهَرِ أَوْ الْمَشْهُورِ فَمِنْ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ ) لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه .(1/153)
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلَانِ جَدِيدَيْنِ أَوْ قَدِيمَيْنِ , أَوْ جَدِيدًا وَقَدِيمًا , وَقَدْ يَقُولُهُمَا فِي وَقْتَيْنِ أَوْ وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ لَا يُرَجَّحُ ( فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ ) لِقُوَّةِ مُدْرِكِهِ ( قُلْت الْأَظْهَرُ ) الْمُشْعِرُ بِظُهُورِ مُقَابِلِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ ضَعُفَ الْخِلَافُ ( فَالْمَشْهُورُ ) الْمُشْعِرُ بِغَرَابَةِ مُقَابِلِهِ لِضَعْفِ مُدْرِكِهِ ( وَحَيْثُ أَقُولُ الْأَصَحُّ أَوْ الصَّحِيحُ فَمِنْ الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْأَوْجُهِ ) لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَسْتَخْرِجُونَهَا مِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ يَجْتَهِدُونَ فِي بَعْضِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ أَصْلِهِ , ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْوَجْهَانِ لِاثْنَيْنِ وَقَدْ يَكُونَانِ لِوَاحِدٍ وَاَللَّذَانِ لِلْوَاحِدِ يَنْقَسِمَانِ كَانْقِسَامِ الْقَوْلَيْنِ ( فَإِنْ قَوِيَ الْخِلَافُ ) لِقُوَّةِ مُدْرِكِهِ ( قُلْت الْأَصَحُّ ) الْمُشْعِرُ بِصِحَّةِ مُقَابِلِهِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ ضَعُفَ الْخِلَافُ ( فَالصَّحِيحُ ) وَلَمْ يُعَبِّرْ بِذَلِكَ فِي الْأَقْوَالِ تَأَدُّبًا مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَ , فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْهُ مُشْعِرٌ بِفَسَادِ مُقَابِلِهِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَقْوَى مِنْ الْأَظْهَرِ , وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى مِنْ الْأَصَحِّ ( وَحَيْثُ أَقُولُ الْمَذْهَبُ فَمِنْ الطَّرِيقَيْنِ أَوْ الطُّرُقِ ) وَهِيَ اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فِي حِكَايَةِ الْمَذْهَبِ كَأَنْ يَحْكِيَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ أَوْ وَجْهَيْنِ لِمَنْ تَقَدَّمَ وَيَقْطَعَ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا , ثُمَّ الرَّاجِحُ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَذْهَبِ إمَّا طَرِيقُ الْقَطْعِ أَوْ الْمُوَافِقُ لَهَا مِنْ طَرِيقِ الْخِلَافِ أَوْ الْمُخَالِفِ لَهَا كَمَا(1/154)
سَيَظْهَرُ فِي الْمَسَائِلِ , وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مَمْنُوعٌ , وَإِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ إنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَاتُ الطَّرِيقَيْنِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ فِيهَا مَا يُوَافِقُ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ انْتَهَى . قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ : وَقَدْ تُسَمَّى طُرُقُ الْأَصْحَابِ وُجُوهًا وَذَكَرَ مِثْلَهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَجْمُوعِ فَقَالَ : وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ الطَّرِيقَيْنِ بِالْوَجْهَيْنِ وَعَكْسِهِ ( وَحَيْثُ أَقُولُ النَّصُّ فَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله ) مِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ إلَى الْإِمَامِ , أَوْ أَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَدْرِ لِتَنْصِيصِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ .(1/155)
وَالشَّافِعِيُّ هُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَسُلْطَانُ الْأَئِمَّةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ شَافِعِيٌّ لَا شَفْعَوِيٌّ , وُلِدَ بِغَزَّةَ الَّتِي تُوُفِّيَ بِهَا هَاشِمُ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ , ثُمَّ حُمِلَ إلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ , وَنَشَأَ بِهَا وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ , وَالْمَوْطَأَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ , تَفَقَّهَ بِمَكَّةَ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ , وَكَانَ شَدِيدَ الشُّقْرَةِ , وَأَذِنَ لَهُ مَالِكٌ فِي الْإِفْتَاءِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً , وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَى الْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ إلَى أَنْ أَتَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ شَهِيدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَلْخَ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ , وَفَضَائِلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى ( وَيَكُونُ هُنَاكَ ) أَيْ مُقَابِلَهُ ( وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَوْ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ ) مِنْ نَصٍّ لَهُ فِي نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَكَيْفِيَّةُ التَّخْرِيجِ , كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنْ يُجِيبَ الشَّافِعِيُّ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي صُورَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَصْلُحُ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا , فَيَنْقُلُ الْأَصْحَابُ جَوَابَهُ مِنْ كُلِّ صُورَةٍ إلَى الْأُخْرَى فَيَحْصُلُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ مَنْصُوصٌ وَمُخَرَّجٌ , الْمَنْصُوصُ فِي هَذِهِ(1/156)
هُوَ الْمُخَرَّجُ فِي تِلْكَ , وَالْمَنْصُوصُ فِي تِلْكَ هُوَ الْمُخَرَّجُ فِي هَذِهِ , وَحِينَئِذٍ فَيَقُولُونَ قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ أَيْ نَقْلُ الْمَنْصُوصِ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ إلَى تِلْكَ وَخُرِّجَ فِيهَا وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ , قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ الرِّوَايَةَ . وَالْمَعْنَى : أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الصُّورَتَيْنِ قَوْلًا مَنْصُوصًا وَآخَرَ مُخَرَّجًا , ثُمَّ الْغَالِبُ فِي مِثْلِ هَذَا عَدَمُ إطْبَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَى التَّخْرِيجِ , بَلْ يَنْقَسِمُونَ إلَى فَرِيقَيْنِ : فَرِيقٍ يُخَرِّجُ , وَفَرِيقٌ يَمْتَنِعُ وَيَسْتَخْرِجُ فَارِقًا بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ لِيَسْتَنِدَ إلَيْهِ . وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَرَّجَ لَا يُنْسَبُ لِلشَّافِعِيِّ إلَّا مُقَيَّدًا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْكُرُ فَرْقًا ظَاهِرًا لَوْ رُوجِعَ فِيهِ ( وَحَيْثُ أَقُولُ الْجَدِيدَ فَالْقَدِيمُ خِلَافُهُ , أَوْ الْقَدِيمُ أَوْ فِي قَوْلٍ قَدِيمٌ فَالْجَدِيدُ خِلَافُهُ ) وَالْقَدِيمُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْعِرَاقِ أَوْ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إلَى مِصْرَ , وَأَشْهَرُ رُوَاتِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالْكَرَابِيسِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ , وَقَدْ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ رضي الله عنه وَقَالَ : لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَاهُ عَنِّي . وَقَالَ الْإِمَامُ : لَا يَحِلُّ عَدُّ الْقَدِيمِ مِنْ الْمَذْهَبِ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ الصَّدَاقِ : غَيَّرَ الشَّافِعِيُّ جَمِيعَ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجَدِيدِ إلَّا الصَّدَاقَ فَإِنَّهُ ضَرَبَ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهُ وَزَادَ مَوَاضِعَ .(1/157)
وَالْجَدِيدُ مَا قَالَهُ بِمِصْرَ , وَأَشْهَرُ رُوَاتِهِ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ وَالرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ وَحَرْمَلَةُ وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَبُوهُ , وَلَمْ يَقَعْ لِلْمُصَنِّفِ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ وَفِي قَوْلٍ قَدِيمٍ , وَلَعَلَّهُ ظَنَّ صُدُورَ ذَلِكَ مِنْهُ فِيهِ , وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ فَالْجَدِيدُ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ , إلَّا فِي نَحْوِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً أَفْتَى فِيهَا بِالْقَدِيمِ . قَالَ بَعْضُهُمْ : وَقَدْ تُتُبِّعَ مَا أَفْتَى فِيهِ بِالْقَدِيمِ فَوُجِدَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا , وَقَدْ نَبَّهَ فِي الْمَجْمُوعِ عَلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إفْتَاءَ الْأَصْحَابِ بِالْقَدِيمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ أَدَّاهُمْ إلَيْهِ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ وَلَا يَلْزَمُ وَمِنْ ذَلِكَ نِسْبَتُهُ إلَى الشَّافِعِيِّ , قَالَ : وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى بِالْجَدِيدِ , وَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ مَا اقْتَضَاهُ الدَّلِيلُ فِي الْعَمَلِ وَالْفَتْوَى مُبَيِّنًا أَنَّ هَذَا رَأْيُهُ وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَذَا وَكَذَا , قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ فِي قَدِيمٍ لَمْ يُعَضِّدْهُ حَدِيثٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ , فَإِنْ اُعْتُضِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ , فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي .(1/158)
الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ الْقَدِيمَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ وَلَيْسَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَحَلُّهُ فِي قَدِيمِ نَصٍّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى خِلَافِهِ , أَمَّا قَدِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْجَدِيدِ لِمَا يُوَافِقُهُ وَلَا لِمَا يُخَالِفُهُ فَإِنَّهُ مَذْهَبُهُ , وَإِذَا كَانَ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ فَالْعَمَلُ بِمَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ , فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَبِأَحَدِهِمَا , وَإِنْ قَالَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَذَلِكَ قَلِيلٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ قَالَهُمَا أَوْ مُرَتِّبًا لَزِمَ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ , فَإِنْ أَشْكَلَ تَوَقَّفَ فِيهِ كَمَا مَرَّ إيضَاحُهُ ( وَحَيْثُ أَقُولُ وَقِيلَ كَذَا فَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ , وَالصَّحِيحُ أَوْ الْأَصَحُّ خِلَافُهُ , وَحَيْثُ أَقُولُ وَفِي قَوْلِ كَذَا فَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ ) وَيَتَبَيَّنُ قُوَّةُ الْخِلَافِ وَضَعْفُهُ فِي قَوْلِهِ وَحَيْثُ أَقُول الْمَذْهَبُ إلَى هُنَا مِنْ مُدْرِكِهِ ( وَمِنْهَا مَسَائِلُ ) جَمْعُ مَسْأَلَةٍ , وَهِيَ إثْبَاتٌ عَرْضِيٌّ ذَاتِيٌّ لِمَوْضُوعٍ , وَلَهُ اعْتِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْهُ , وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُقَالُ لَهُ مَسْأَلَةٌ , وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُطْلَبُ بِالدَّلِيلِ يُقَالُ لَهُ مَطْلُوبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ( نَفِيسَةٌ أَضُمُّهَا إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمُخْتَصَرِ . ((1/159)
يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْلَى الْكِتَابُ ) أَيْ الْمُخْتَصَرُ وَمَا يُضَمُّ إلَيْهِ ( مِنْهَا ) صَرَّحَ بِوَصْفِهَا الشَّامِلِ لَهُ مَا تَقَدَّمَ , وَزَادَ عَلَيْهِ إظْهَارًا لِلْعُذْرِ فِي زِيَادَتِهَا , فَإِنَّهَا فَارِيَةٌ عَنْ التَّنْكِيتِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا , وَلَفْظَةُ يَنْبَغِي مُحْتَمِلَةٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَتُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْقَرِينَةِ ( وَأَقُولُ فِي أَوَّلِهَا قُلْت وَفِي آخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) لِتَتَمَيَّزَ عَنْ مَسَائِلِ الْمُحَرَّرِ , وَقَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي اسْتِدْرَاكِ التَّصْحِيحِ عَلَيْهِ , وَقَدْ زَادَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ كَقَوْلِهِ فِي فَصْلِ الْخَلَاءِ وَلَا يَتَكَلَّمُ ( وَمَا وَجَدْته ) أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ ( مِنْ زِيَادَةِ لَفْظَةٍ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا فِي الْمُحَرَّرِ ) بِدُونِ قُلْت ( فَاعْتَمِدْهَا ) أَيْ اجْعَلْهَا عُمْدَةً فِي الْإِفْتَاءِ أَوْ نَحْوِهِ ( فَلَا بُدَّ مِنْهَا ) كَزِيَادَةِ كَثِيرٍ وَفِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ فِي قَوْلِهِ فِي التَّيَمُّمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِجُرْحِهِ دَمٌ كَثِيرٌ , أَوْ الشَّيْنُ الْفَاحِشُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ , وَكَزِيَادَةِ جَامِدٍ فِي قَوْلِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ , وَفِي مَعْنَى الْحَجَرِ كُلُّ جَامِدٍ طَاهِرٍ , وَقَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا : أَيْ لَا فِرَاقَ مِنْهَا أَوْ لَا مَحَالَةَ أَوْ لَا عِوَضَ ( وَكَذَا مَا وَجَدْته مِنْ الْأَذْكَارِ مُخَالِفًا لِمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فَاعْتَمِدْهُ , فَإِنِّي حَقَّقْته مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ ) فِي نَقْلِهِ كَالصَّحِيحَيْنِ وَبَقِيَّةِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ لِاعْتِنَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ , بِخِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّمَا يَعْتَنُونَ بِمَعْنَاهُ(1/160)
غَالِبًا , وَإِنَّمَا خَاطَبَ النَّاظِرَ بِهَذَيْنِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمَا وَقَعَا مِنْ النُّسَّاخِ أَوْ مِنْ الْمُصَنِّفِ سَهْوًا ( وَقَدْ أُقَدِّمُ بَعْضَ مَسَائِلِ الْفَصْلِ لِمُنَاسَبَةٍ أَوْ اخْتِصَارٍ , وَرُبَّمَا قَدَّمْت فَصْلًا لِلْمُنَاسَبَةِ ) كَتَقْدِيمِ فَصْلِ التَّخْيِيرِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى فَصْلِ الْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ ( وَأَرْجُو إنْ تَمَّ هَذَا الْمُخْتَصَرُ ) وَقَدْ تَمَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ( أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْحِ لِلْمُحَرَّرِ ) أَيْ لِدَقَائِقِهِ وَخَفِيِّ أَلْفَاظِهِ , وَبَيَانِ مُهْمَلِ صَحِيحِهِ وَمَرَاتِبِ خِلَافِهِ , وَمُهْمَلِ خِلَافِهِ هَلْ هُوَ قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ أَوْ طَرِيقَانِ , وَمَا يَحْتَاجُ مِنْ مَسَائِلِهِ إلَى قَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ تَصْوِيرٍ , وَمَا غَلِطَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا صَحَّحَ فِيهِ خِلَافَ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَمَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ( فَإِنِّي لَا أَحْذِفُ ) بِالْمُعْجَمَةِ : أَيْ أُسْقِطُ ( مِنْهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ أَصْلًا ) قَالَ بَعْضُهُمْ : لَعَلَّ الْمُرَادَ الْأُصُولُ , إذْ رُبَّمَا حَذَفَ الْمُفَرَّعَاتِ انْتَهَى .(1/161)
وَيُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ نَصْبِ قَوْلِهِ أَصْلًا عَلَى الْجَالِيَةِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْفِيِّ مَصْدَرًا : أَيْ مُسْتَأْصَلًا : أَيْ قَاطِعًا لِلْحَذْفِ مِنْ أَصْلِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ اسْتَأْصَلَهُ : قَطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ ( وَلَا مِنْ الْخِلَافِ وَلَوْ كَانَ وَاهِيًا ) أَيْ ضَعِيفًا جِدًّا مَجَازًا عَنْ السَّاقِطِ ( مَعَ مَا ) أَيْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَصْحُوبًا بِمَا ( أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ النَّفَائِسِ ) الْمُتَقَدِّمَةِ ( وَقَدْ شَرَعْت ) مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخْتَصَرِ ( فِي جَمْعِ جُزْءٍ لَطِيفٍ عَلَى صُورَةِ الشَّرْحِ لِدَقَائِقِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ) مِنْ جِهَةِ الِاخْتِصَارِ ( وَمَقْصُودِي بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْ عِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ , وَفِي إلْحَاقِ قَيْدٍ أَوْ حَرْفٍ ) فِي الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ , وَيَصِحُّ إبْقَاءُ الْحَرْفِ عَلَى بَابِهِ كَزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ فِي " أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ " ( أَوَ شَرَطَ لِلْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) مِمَّا بَيَّنْته ( وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ) أَيْ لَا غِنَى وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا , وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَكِنَّهُ حَسَنٌ كَمَا قَالَهُ فِي زِيَادَةِ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَيْضِ , فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَحِلَّ قَبْلَ الْغُسْلِ غَيْرُ الصَّوْمِ وَالطَّلَاقِ , فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ ( وَعَلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ اعْتِمَادِي ) أَيْ اتِّكَالِي فِي تَمَامِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ بِأَنْ يُقْدِرَنِي عَلَى إتْمَامِهِ كَمَا أَقْدَرَنِي عَلَى ابْتِدَائِهِ بِمَا تَقَدَّمَ(1/162)
عَلَى وَضْعِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ مَنْ سَأَلَهُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ ( وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي ) وَهُوَ رَدُّ أَمْرِي إلَيْهِ وَبَرَاءَتِي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ ( وَاسْتِنَادٌ ) فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخِيبُ مَنْ قَصَدَهُ وَاسْتَنَدَ إلَيْهِ , وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ , وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ خَبَرًا فَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ تُذْكَرُ لِأَغْرَاضٍ غَيْرِ إفَادَةِ مَضْمُونِهَا الَّذِي هُوَ فَائِدَةُ الْخَبَرِ وَغَيْرُ لَازِمٍ فَائِدَةُ الْخَبَرِ , ثُمَّ قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَطْلُوبِ بِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ ( وَأَسْأَلُهُ النَّفْعَ بِهِ ) أَيْ بِالْمُخْتَصَرِ فِي الْآخِرَةِ ( لِي ) بِتَأْلِيفِهِ ( وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ) أَيْ بَاقِيهمْ بِأَنْ يُلْهِمَهُمْ الِاعْتِنَاءَ بِهِ بَعْضَهُمْ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ كَكِتَابَةٍ , وَقِرَاءَةٍ وَتَفَهُّمٍ وَشَرْحٍ , وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ بِوَقْفٍ أَوْ نَقْلٍ إلَى الْبِلَادِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَنَفْعُهُمْ يَسْتَتْبِعُ نَفْعَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ .(1/163)
وَقَالَ الْجَوَالِيقِيُّ وَابْنُ بَرِّيٍّ وَغَيْرُهُمَا : إنَّ سَائِرَ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجَمِيعِ , وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوْهَرِيُّ غَيْرَهُ ( وَرِضْوَانُهُ عَنِّي وَعَنْ أَحِبَّائِي ) بِالتَّشْدِيدِ وَالْهَمْزَةِ جَمْعُ حَبِيبٍ : أَيْ مَنْ أَحَبَّهُمْ ( وَجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعَطْفُ اللُّغَوِيُّ تَكَرُّرٌ بِهِ الدُّعَاءَ لِذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي مِنْهُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله .
((1/164)
قَوْلُهُ : عُمْدَةٌ ) خَبَرٌ ثَانٍ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ فِيهِ ) أَيْ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ( قَوْلُهُ : مُعْتَمَدٌ ) خَبَرٌ ثَالِثٌ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : جَمْعُ رَغْبَةٍ بِسُكُونِهَا ) زَادَ ابْنُ حَجَرٍ : وَهِيَ الِانْهِمَاكُ عَلَى الْخَيْرِ طَلَبًا لِحِيَازَةِ مَعَالِيهِ ا هـ . وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الِانْهِمَاكَ عَلَى غَيْرِ الْخَيْرِ لَا يُسَمَّى رَغْبَةً وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ , فَفِي الْمُخْتَارِ رَغِبَ فِيهِ أَرَادَهُ وَبَابُهُ طَرِبَ وَرَغَّبَهُ أَيْضًا وَارْتَغَبَ فِيهِ مِثْلُهُ وَرَغَّبَ عَنْهُ لَمْ يُرِدْهُ , وَيُقَالُ رَغَّبَهُ تَرْغِيبًا وَأَرْغَبَ فِيهِ أَيْضًا ا هـ . فَمَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ لَعَلَّهُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالرَّغْبَةِ هُنَا ( قَوْلُهُ : أَوْ لِكُلٍّ مِنْ سَابِقِيهِ ) أَيْ الْمُفْتِي وَغَيْرِهِ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ الْتَزَمَ مُصَنِّفُهُ رحمه الله أَنْ يَنُصَّ إلَخْ ) [ تَنْبِيهٌ ] مَا أَفْهَمَهُ كَلَامُهُ مِنْ جَوَازِ النَّقْلِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَنِسْبَةُ مَا فِيهَا لِمُؤَلِّفِيهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ سَنَدُ النَّاقِلِ بِمُؤَلِّفِيهَا , نَعَمْ النَّقْلُ مِنْ نُسْخَةِ كِتَابٍ لَا يَجُوزُ إلَّا إنْ وُثِقَ بِصِحَّتِهَا أَوْ تَعَدَّدَتْ تَعَدُّدًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهَا أَوْ رَأَى لَفْظَهَا مُنْتَظِمًا وَهُوَ خَبِيرٌ فَطِنٌ يُدْرِكُ السَّقْطَ وَالتَّحْرِيفَ , فَإِنْ انْتَفَى ذَلِكَ قَالَ وَجَدْت كَذَا أَوْ نَحْوَهُ .(1/165)
وَمِنْ جَوَازِ اعْتِمَادِ الْمُفْتِي مَا يَرَاهُ فِي كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ , وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ , وَهُوَ أَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الشَّيْخَيْنِ لَا يُعْتَمَدُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ الْفَحْصِ وَالتَّحَرِّي حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ , وَلَا يُغْتَرُّ بِتَتَابُعِ كُتُبٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ قَدْ تَنْتَهِي إلَى وَاحِدٍ ; أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ الْقَفَّالِ أَوْ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ لَا يُفَرِّعُونَ وَيُؤَصِّلُونَ إلَّا عَلَى طَرِيقَتِهِ غَالِبًا وَإِنْ خَالَفَتْ سَائِرَ الْأَصْحَابِ فَتَعَيَّنَ سَبْرَ كُتُبِهِمْ , هَذَا كُلُّهُ فِي حُكْمٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا , وَإِلَّا فَاَلَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فَرَاجِعْهُ ( قَوْلُهُ : عَلَى مَا صَحَّحَهُ ) أَيْ مَا رَجَّحَهُ عَمِيرَةُ قَوْلُهُ : بِأَنَّهُ وَفِيٌّ بِحَسَبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ ) بِفَتْحِ السِّينِ وَفِي الْمُخْتَارِ : لِيَكُنْ عَمَلُك بِحَسَبِ ذَلِكَ بِالْفَتْحِ أَيْ عَلَى قَدْرِهِ وَعَدَدِهِ ( قَوْلُهُ : مِنْ الْوُجُوهِ ) بَيَانٌ لِمَا ( قَوْلُهُ : أَوْ هُوَ أَهَمُّ الْمَطْلُوبَاتِ ) أَيْ بَلْ هُوَ وَيَصِحُّ كَوْنُهَا لِلتَّرْدِيدِ إبْهَامًا عَلَى السَّامِعِ وَتَنْشِيطًا لَهُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ وَلِلتَّنْوِيعِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الرَّاجِحِ مَذْهَبٌ مِنْ الْأَهَمِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الْإِحَاطَةَ لمدا بارك وَهِيَ الْأَهَمُّ لِمَنْ يُرِيدُ مُجَرَّدَ الْإِفْتَاءِ أَوْ الْعَمَلَ ا هـ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله . ((1/166)
قَوْلُهُ : أَيْ مِقْدَارُ الْمُحَرَّرِ ) هَذَا تَفْسِيرٌ مُرَادٌ , وَإِلَّا فَالْحَجْمُ كَمَا فِي ابْنِ حَجَرٍ : جِرْمُ الشَّيْءِ النَّاتِئُ مِنْ الْأَرْضِ ا هـ وَفِي الْمُخْتَارِ : حَجْمُ الشَّيْءِ حَيْدُهُ , يُقَالُ لَيْسَ لِمِرْفَقِهِ حَجْمٌ : أَيْ نُتُوءٌ , وَعِبَارَةُ الْمُخْتَارِ فِي نَتَأَ فَهُوَ نَاتِئٌ ارْتَفَعَ وَبَابُهُ قَطَعَ وَخَضَعَ ا هـ . فَقَوْلُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ الْمُرَادُ حَجْمُ الشَّيْءِ النَّاتِئِ مِنْهُ ( قَوْلُهُ : بِأَنْ يَكُونَ اسْتَثْنَى بَعْضَ إلَخْ ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُمْ مِنْ الْأَقَلِّ أَوْ نَفْسَ الْأَقَلِّ ( قَوْلُهُ : وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ إلَخْ ) أَيْ جُعِلَ لِي قُدْرَةٌ عَلَى اخْتِصَارِ الْكَلَامِ ( قَوْلُهُ مَعَ مَا إلَخْ ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سَبْقِ الْخُطْبَةِ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ مَوْصُولًا ) أَيْ إنْ فُرِضَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَاحَظَ نَفَائِسَ مَخْصُوصَةً يُرِيدُ ضَمَّهَا وَمَوْصُوفَةً إنْ لَاحَظَ أَنَّهُ يَضُمُّ مَا يَجِدُهُ حَسَنًا حِينَ التَّأْلِيفِ ( قَوْلُهُ : التَّنْبِيهُ ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : مَنْ النُّبْهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَهِيَ الْفَطِنَةُ ا هـ .(1/167)
وَالْمُرَادُ هُنَا تَوْقِيفُ النَّاظِرِ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْقُيُودِ , وَفِي الْمُخْتَارِ نَبِهَ الرَّجُلُ شَرُفَ وَاشْتَهَرَ وَبَابُهُ ظَرُفَ , ثُمَّ قَالَ : وَنَبَّهَهُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ وَقَفَهُ عَلَيْهِ فَتَنَبَّهَ هُوَ عَلَيْهِ ا هـ ( قَوْلُهُ : أَوْ بَيَانٍ وَاقِعٍ ) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقُيُودِ كَمَا قَالَهُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ ( قَوْلُهُ : مَحْذُوفَاتٌ ) يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ هِيَ مِنْ الْأَصْلِ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ فِي الْمَبْسُوطَاتِ ) أَيْ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ا هـ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : وَالتَّنْبِيهُ إعْلَامٌ ) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلتَّنْبِيهِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ , لَا بِالنَّظَرِ لِمَا الْكَلَامُ فِيهِ فَإِنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْرِ ( قَوْلُهُ : إنْ كَانَ كَسْبِيًّا ) أَمَّا إذَا كَانَ بَدِيهِيًّا فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ ( قَوْلُهُ وَمِنْهَا مَوَاضِعُ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنْهَا التَّنْبِيهُ ا هـ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : فَصَارَ حَاصِلُ كَلَامِهِ ) أَيْ النَّوَوِيِّ ( قَوْلُهُ : أَيْ الْإِتْيَانُ ) تَفْسِيرٌ لِلْإِبْدَالِ وَأَخَّرَهُ لِيَرْتَبِطَ بِالْبَدَلِ ا هـ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : بِأَوْضَحَ وَأَخْصَرَ ) قَضِيَّتُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ إيضَاحٌ ا هـ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : بِعِبَارَاتٍ ) الْبَاءُ فِي بِعِبَارَاتٍ إمَّا سَبَبِيَّةٌ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ ا هـ عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : أَنَّ الْبَاءَ مَعَ الْإِبْدَالِ تَدْخُلُ ) أَيْ مَعَ مَا كَانَ مِنْ مَادَّتِهِ كَالتَّبْدِيلِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِدَلِيلِ أَمْثِلَتِهِ وَالتَّبَدُّلِ ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ ذُكِرَ مَعَ الْمَتْرُوكِ وَالْمَأْخُوذِ غَيْرُهُمَا أَمْ لَا ( قَوْلُهُ : كَمَا فِي الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبَدُّلِ ) أَيْ مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ(1/168)
مِنْ الْعِبَارَةِ , وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا فِي الِاسْتِبْدَالِ إلَخْ أَنَّ فِيهِمَا التَّفْصِيلَ الَّذِي فِي التَّبْدِيلِ , فَتَدْخُلُ عَلَى الْمَأْخُوذِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمَأْخُوذِ وَالْمَتْرُوكِ غَيْرُهُمَا , وَعَلَى الْمَتْرُوكِ إنْ كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا . وَعِبَارَةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَلْفِيَّةِ الْحَدِيثِ فِي الْعِلَلِ مَا نَصُّهُ : فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ تَشْبِيهًا لِلْإِبْدَالِ بِالتَّبَدُّلِ وَإِلَّا فَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّهَا إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَأْخُوذِ فِي الْإِبْدَالِ كَالتَّبْدِيلِ , وَعَلَى الْمَتْرُوكِ فِي الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبَدُّلِ إنْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَ الْمَتْرُوكِ وَالْمَأْخُوذِ غَيْرُهُمَا فِي الْأَرْبَعَةِ ا هـ . وَفِي ابْنِ حَجَرٍ مَا نَصُّهُ : وَإِدْخَالُ الْبَاءِ فِي حَيِّزِ الْإِبْدَالِ عَلَى الْمَأْخُوذِ , وَفِي حَيِّزِ بَدَلٍ وَالتَّبَدُّلُ وَالِاسْتِبْدَالُ عَلَى الْمَتْرُوكِ هُوَ الْفَصِيحُ ا هـ .(1/169)
وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي حَيِّزِ كُلٍّ عَلَى الْمَأْخُوذِ وَالْمَتْرُوكِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَفْصَحِ فَقَطْ , وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْمَتْرُوكِ وَالْمَأْخُوذِ غَيْرُهُمَا أَوْ لَا ( قَوْلُهُ : وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ التَّبْدِيلِ ) وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا الْفَارِقُ مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبَدُّلِ فَلْيُرَاجَعْ ( قَوْلُهُ : قُوَّةً وَضَعْفًا ) رَاجِعٌ لِمَرَاتِبِ الْخِلَافِ , وَقَوْلُهُ فِي الْمَسَائِلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ إلَخْ ا هـ عَمِيرَةُ بِالْمَعْنَى ( قَوْلُهُ : أَيْ حَالَةَ يُعَبِّرُ ) أَيْ النَّوَوِيُّ ( قَوْلُهُ : مُرَادُهُ بَعْدُ ) أَيْ بِقَوْلِهِ فَحَيْثُ أَقُولُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ ) أَيْ لِكَوْنِهِ عَامًّا مَخْصُوصًا بِقَرِينَةٍ بَيَانُهُ بَعْدُ ( قَوْلُهُ : وَبَيَانُ الْمُدْرَكِ ) قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ : الْمُدْرَكُ بِضَمِّ الْمِيمِ يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمَ زَمَانٍ وَمَكَانٍ , تَقُولُ أَدْرَكْته مُدْرَكًا : أَيْ إدْرَاكًا , وَهَذَا مُدْرَكُهُ : أَيْ مَوْضِعُ إدْرَاكِهِ أَوْ زَمَنُ إدْرَاكِهِ , وَمَدَارُك الشَّرْعِ مَوَاضِعُ طَلَبِ الْأَحْكَامِ , وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَلُّ بِالنُّصُوصِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ مَدَارِك الشَّرْعِ , وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي الْوَاحِدِ مَدْرَكٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ , وَلَيْسَ لِتَخْرِيجِهِ وَجْهٌ , وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى طَرْدِ الْبَابِ فَيُقَالُ مُفْعَلٌ بِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ أَفْعَلَ , وَاسْتَثْنَيْت كَلِمَاتٍ مَسْمُوعَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْقِيَاسِ ا هـ الْمُرَادُ مِنْهُ رحمه الله , لَكِنْ فِي حَوَاشِي الشَّنَوَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الشَّافِيَةِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ كَالْغَزِّيِّ(1/170)
عَلَى الْجَارْبُرْدِيِّ أَنَّ الْمَدْرَكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ ا هـ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا مَا نَصَّ ) أَيْ الشَّافِعِيُّ ( قَوْلُهُ : فَمَا قَالَ عَنْ مُقَابِلِهِ ) أَيْ الْمَذْهَبِ ( قَوْلُهُ : مَدْخُولٌ ) أَيْ فِيهِ دَخْلٌ أَيْ نَظَرٌ ( قَوْلُهُ : مَذْهَبُ مُجْتَهِدٍ ) أَيْ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ ( قَوْلُهُ : فَهُوَ لِتَكَافُؤِ نَظَرَيْهِ ) أَيْ فَلَا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ تَرْجِيحٌ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ وَلَا يَقْدَحُ فِي شَأْنِهِ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ ) أَيْ ذِكْرُ الْقَوْلَيْنِ ( قَوْلُهُ : مِنْ وَرْطَةِ هُجُومٍ إلَخْ ) أَيْ فِي مَفْسَدَةِ هُجُومٍ , وَالْوَرْطَةُ لُغَةً الْهَلَاكُ .(1/171)
قَالَ فِي الْمُخْتَارِ : الْوَرْطَةُ الْهَلَاكُ , وَأَوْرَطَهُ وَوَرَّطَهُ تَوْرِيطًا : أَوْقَعَهُ فِي الْوَرْطَةِ فَتَوَرَّطَ فِيهَا ا هـ ( قَوْلُهُ وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ ) أَيْ الْمَالِكِيُّ ( قَوْلُهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ إلَخْ ) أَيْ أَمَّا إذَا ظَهَرَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ , وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَاجِبٌ , فَمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ لِنَفْسِهِ بِالْأَوْجُهِ الضَّعِيفَةِ كَمُقَابِلِ الْأَصَحِّ غَيْرُ صَحِيحِ ( قَوْلُهُ : مُنِعَ ذَلِكَ ) أَيْ التَّخْيِيرُ ( قَوْلُهُ : وَقَوْلُ الْإِمَامِ ) أَيْ بَيْنَ قَوْلِ الْمَاوَرْدِيِّ وَقَوْلِ الْإِمَامِ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَأَجْرَى السُّبْكِيُّ ذَلِكَ ) أَيْ التَّفْصِيلَ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْمَذَاهِبِ ) أَيْ أَجْرَى التَّفْصِيلَ فِي غَيْرِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إلَخْ ( قَوْلُهُ : رِبْقَةُ التَّكْلِيفِ ) أَيْ عُقْدَةٌ ( قَوْلُهُ : وَالْأَوْجَهُ خِلَافُهُ ) أَيْ فَلَا يَكُونُ فِسْقًا وَإِنْ كَانَ حَرَامًا , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُرْمَةِ الْفِسْقُ ( قَوْلُهُ : خِلَافًا لِلشَّارِحِ الْمَحَلِّيِّ ) أَيْ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ ( قَوْلُهُ : بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَخْ ) لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ ابْنُ حَجَرٍ , وَزَادَهُ الشَّارِحُ إشَارَةً إلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ نِكَاحِ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ طَلَاقِ الْأُخْرَى انْقِضَاءَ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَمْ بَائِنًا ( قَوْلُهُ : فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى إلَخْ ) قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذِهِ وَالصَّلَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ حَالَ تَلَبُّسِهِ بِهَا لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ(1/172)
الْإِمَامَيْنِ بِصِحَّتِهَا وَحَالَةَ وَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَقُولُ فِيهَا بِالْجَوَازِ أَحَدُ الْإِمَامَيْنِ ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِمَامَيْنِ ) فِيهِ نَظَرٌ فِي الْأُولَى إذْ قَضِيَّةُ قَوْلِ الثَّانِي فِيهَا أَنَّ الزَّوْجَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ فِي عِصْمَتِهِ فَالرُّجُوعُ لِلْأُولَى وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ إبَانَةٍ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ ( قَوْلُهُ : مُغْتَرًّا بِظَاهِرِ مَا مَرَّ ) أَيْ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ ( قَوْلُهُ : لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه ) اسْتِعْمَالُ التَّرَضِّي فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ جَائِزٌ كَمَا هُنَا وَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ اسْتِعْمَالَ التَّرَضِّي فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمِ فِي غَيْرِهِمْ , ثُمَّ رَأَيْت فِي كَلَامِ الشَّارِحِ قُبَيْلَ بَابِ زَكَاةِ النَّبَاتِ مَا نَصُّهُ : وَيُسَنُّ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْأَخْيَارِ . قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ : وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ التَّرَضِّيَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمَ بِغَيْرِهِمْ ضَعِيفٌ انْتَهَى . ((1/173)
قَوْلُهُ : فَحَيْثُ أَقُولُ ) أَيْ وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَا أُبَيِّنُ فَحَيْثُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ يَجْتَهِدُونَ فِي بَعْضِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ مِنْ أَصْلِهِ ) أَيْ وَلَا بُدَّ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِأُصُولِهِ وَإِلَّا فَيُنْسَبُ إلَيْهِمْ , وَلَا يُعَدُّ مِنْ مَذْهَبِهِ رضي الله عنه كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ( قَوْلُهُ كَانْقِسَامِ الْقَوْلَيْنِ ) أَيْ فَيُقَالُ فِيهِمَا الْوَجْهَانِ إذَا كَانَا لِوَاحِدٍ فَقَدْ يَقُولُهُمَا فِي وَقْتَيْنِ أَوْ وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ لَا يُرَجَّحُ عَلَى مِنْوَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي انْقِسَامِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ يَقُولُهُمَا فِي وَقْتَيْنِ أَوْ وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ لَا يُرَجَّحُ .(1/174)
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : ثُمَّ إنْ كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ فَالتَّرْجِيحُ بِمَا مَرَّ فِي الْأَقْوَالِ أَوْ مِنْ أَكْثَرَ فَهُوَ بِتَرْجِيحِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ ( قَوْلُهُ : كَمَا قَالَ ) أَيْ قَالَهُ فِي الْإِشَارَاتِ فِي الرَّوْضَةِ ( قَوْلُهُ : وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى مِنْ الْأَصَحِّ ) أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّصْحِيحِ فَتَصْحِيحُ الْأَصَحِّ وَالْأَظْهَرِ أَقْوَى تَصْحِيحًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ ; لِأَنَّ قُوَّةَ مُقَابِلِهِمَا تُشْعِرُ بِصَرْفِ الْعِنَايَةِ لِلتَّصْحِيحِ صَرْفًا كُلِّيًّا , بِخِلَافِ الْمَشْهُورِ وَالصَّحِيحِ لِضَعْفِ مُقَابِلِهِمَا الْمُغْنِي عَنْ تَمَامِ صَرْفِ الْعِنَايَةِ لِلتَّصْحِيحِ انْتَهَى بَكْرِيٌّ رحمه الله تعالى ( قَوْلُهُ : وَهِيَ اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ ) قَالَ عَمِيرَةُ الظَّاهِرُ أَنَّ مُسَمَّى الطَّرِيقَةِ نَفْسُ الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ , وَقَدْ جَعَلَهَا الشَّارِحُ اسْمًا لِلِاخْتِلَافِ اللَّازِمِ لِحِكَايَةِ الْأَصْحَابِ انْتَهَى ( قَوْلُهُ : مُرَادُهُ الْأَوَّلُ ) هُوَ قَوْلُهُ إمَّا طَرِيقُ الْقَطْعِ ( قَوْلُهُ : وَذَكَرَ مِثْلَهُ ) أَيْ النَّوَوِيُّ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ الطَّرِيقِ ) أَيْ تَجَوُّزًا ( قَوْلُهُ : عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ) أَيْ مَنْصُوصٌ ( قَوْلُهُ : وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ شَافِعِيٌّ ) أَيْ لِقَاعِدَةِ أَنَّ الْمَنْسُوبَ لِلْمَنْسُوبِ يُؤْتَى بِهِ عَلَى صُورَةِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ , لَكِنْ بَعْدَ حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ وَإِثْبَاتِ بَدَلِهَا فِي الْمَنْسُوبِ ( قَوْلُهُ : لَا شَفْعَوِيٌّ ) أَيْ كَمَا قِيلَ بِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى لَهُ ذِكْرُهُ ( قَوْلُهُ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) أَيْ لَا جَدَّ الْإِمَامِ ( قَوْلُهُ : وَكَانَ شَدِيدَ الشُّقْرَةِ ) أَيْ ابْنُ(1/175)
خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ أَيْ فَلُقِّبَ بِضِدِّهَا فَقِيلَ لَهُ الزَّنْجِيُّ قَوْلُهُ وَيَكُونُ هُنَاكَ ) أَيْ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ : لَا يُعْمَلُ بِهِ ) أَيْ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ ( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ الرِّوَايَةَ ) أَيْ الْمَرْوِيَّ ( قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي إلَخْ ) أَيْ لِقَوْلِهِ قَالَ وَيَجُوزُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : إلَّا مُقَيَّدًا ) أَيْ بِكَوْنِهِ مُخَرَّجًا ( قَوْلُهُ رُبَّمَا يَذْكُرُ ) أَيْ الشَّافِعِيُّ ( قَوْلُهُ : وَحَيْثُ أَقُولُ الْجَدِيدَ ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَذْكُرُ الْجَدِيدَ أَوْ بِالرَّفْعِ حِكَايَةً لِأَوَّلِ أَحْوَالِهِ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ ) أَيْ لَا آذَنُ لَهُ فِي نَقْلِهِ ذَلِكَ عَنِّي بَلْ أَنْهَاهُ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ الْإِمَامُ ) أَيْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ( قَوْلُهُ إلَّا الصَّدَاقَ ) أَيْ كِتَابَ الصَّدَاقِ ( قَوْلُهُ : إلَّا فِي نَحْوِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ) عِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ إلَّا فِي نَحْوِ عِشْرِينَ مَسْأَلَةً , وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِنَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ انْتَهَى .(1/176)
وَقَدْ يُقَالُ : لَا مُنَافَاةَ بِأَنْ يُرَادَ بِالنَّحْوِ مَا يَقْرَبُ مِنْ السَّبْعَةَ عَشَرَ قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَبِأَحَدِهِمَا ) أَيْ لِنَصِّهِ دُونَ الْقَضَايَا وَالْإِفْتَاءِ كَمَا مَرَّ وَمَحَلُّهُ حَيْثُ تَكَافَآ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّسْخَةَ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ , أَمَّا عَلَى كَوْنِهَا بِآخِرِهِمَا فَالْمَعْنَى : إنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَلِمَ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ ( قَوْلُهُ : كَمَا مَرَّ إيضَاحُهُ ) أَيْ فِي قَوْلِهِ وَلَعَلَّهُ : أَيْ الْقَرَافِيَّ أَرَادَ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ إلَخْ ( قَوْلُهُ : فَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِبَيَانِ قُوَّةِ الْخِلَافِ وَضَعَّفَهُ فِيهِمَا لِعَدَمِ ظُهُورِهِ لَهُ . أَوْ لِإِغْرَاءِ الطَّالِبِ عَلَى تَأَمُّلِهِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ لِيَقْوَى نَظَرُهُ فِي الْمَدْرَكَ وَالْمَأْخَذِ , وَوَصَفَ الْوَجْهَ بِالضَّعْفِ دُونَ الْقَوْلِ تَأَدُّبًا انْتَهَى رحمه الله ( قَوْلُهُ : الشَّامِلُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ ) أَيْ فِي قَوْلِهِ مِنْ النَّفَائِسِ إلَخْ . ((1/177)
قَوْلُهُ : وَزَادَ عَلَيْهِ ) أَيْ زَاد قَوْلُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْلَى إلَخْ , وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ عَمِيرَةُ : أَنَّهُ يُطْلَبُ وَيَحْسُنُ شَرْعًا تَرْكُ خُلُوِّهِ مِنْهَا ( قَوْلُهُ وَتُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْقَرِينَةِ ) بَقِيَ مَا لَوْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ , وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى النَّدْبِ إنْ كَانَ التَّرَدُّدُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَإِلَّا فَعَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَاللِّيَاقَةِ ( قَوْلُهُ : وَأَقُولُ فِي أَوَّلِهَا إلَخْ ) الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ مَعْنَاهُمَا الْعُرْفِيُّ , فَيَصْدُقُ بِمَا اتَّصَلَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ , وَقَوْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَأَنَّهُ قَصَدَ التَّبَرِّي مِنْ دَعْوَى الْأَعْلَمِيَّةِ انْتَهَى عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ ) أُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ إطْلَاقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ , وَقَدْ عُلِمَ مِنْ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِ ( قَوْلُهُ : أَوْ لَا عِوَضَ ) هِيَ أَلْفَاظٌ مُتَسَاوِيَةٌ ( قَوْلُهُ مِنْ الْأَذْكَارِ ) جَمْعُ ذِكْرٍ , وَهُوَ لُغَةً : كُلُّ مَذْكُورٍ , وَشَرْعًا : قَوْلٌ سِيقَ لِثَنَاءٍ أَوْ دُعَاءٍ , وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ شَرْعًا أَيْضًا لِكُلِّ قَوْلٍ يُثَابُ قَائِلُهُ انْتَهَى ابْنُ حَجَرٍ .(1/178)
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَأْتِي فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ , وَلَا تَبْطُلُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ , إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الدُّعَاءَ فِي عِبَارَةِ الْمِنْهَاجِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ( قَوْلُهُ إنْ تَمَّ هَذَا الْمُخْتَصَرُ ) لَمْ يَقُلْ الْكِتَابَ مَعَ أَنَّهُ أَنْسَبُ , إذْ الْمَرْجُوُّ إتْمَامُ الْمُخْتَصَرِ وَمَا ضُمَّ إلَيْهِ لَا الْمُخْتَصَرُ فَقَطْ , كَمَا قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْلَى الْكِتَابُ مِنْهَا تَغْلِيبًا لِلْمُخْتَصَرِ عَلَى مَا ضُمَّ إلَيْهِ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ , وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ وَضْعِ الْخُطْبَةِ عَلَى وَضْعِ الْكِتَابِ كَمَا يَأْتِي انْتَهَى بَكْرِيٌّ رحمه الله .(1/179)
وَقَوْلُهُ عَلَى وَضْعِ الْكِتَابِ : أَيْ عَلَى وَضْعِ جُمْلَةِ الْكِتَابِ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَى وَضْعِ الْخُطْبَةِ ( قَوْلُهُ : فَإِنِّي لَا أَحْذِفُ ) فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ ( قَوْلُهُ : أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ ) أَيْ وَحَيْثُ قُصِدَتْ الْمُبَالَغَةُ فَلَا يَصِرْ حَذْفُهُ لِلْمُفَرَّعَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ عُمُومِ النَّفْيِ ( قَوْلُهُ : فِي الْكَلَامِ ) قُدِّرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يَحْسُنُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَسْأَلَةِ انْتَهَى عَمِيرَةُ رحمه الله ( قَوْلُهُ : وَالْمُرَادُ بِهِ ) أَيْ بِالْحَرْفِ ( قَوْلُهُ : وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّقَائِقِ النَّاشِئَةِ عَنْ الِاخْتِصَارِ انْتَهَى عَمِيرَةُ ( قَوْلُهُ : الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ ( قَوْلُهُ : وَلَا مَنْدُوحَةَ ) تَفْسِيرٌ لِلْأَغْنَى ( قَوْلُهُ : وَعَلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ اعْتِمَادِي ) اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْكَرِيمِ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحْسَنُهَا مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى أَنَّ الْكَرِيمَ هُوَ الَّذِي إذَا قَدَرَ عَفَا , وَإِذَا وَعَدَ وَفَى , وَإِذَا أَعْطَى زَادَ عَلَى مُنْتَهَى الرَّجَا , وَلَا يُبَالِي كَمْ أَعْطَى وَلَا لِمَنْ أَعْطَى , وَإِنْ رَفَعْت حَاجَتَك إلَى غَيْرِهِ لَا يَرْضَى , وَإِنْ جَافَاهُ عَاتِبٌ وَمَا اسْتَقْصَى , وَلَا يَضِيعُ مَنْ لَاذَ بِهِ وَالْتَجَأَ , وَيُغْنِيهِ عَنْ الْوَسَائِلِ وَالشُّفَعَا , فَمَنْ اجْتَمَعَ لَهُ ذَلِكَ لَا بِالتَّكَلُّفِ فَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ . وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : الْكَرِيمُ الصَّفُوحُ عَنْ الذَّنْبِ .(1/180)
وَقِيلَ الْمُرْتَفِعُ , يُقَالُ فُلَانٌ أَكْرَمُ قَوْمِهِ : أَيْ أَرْفَعُهُمْ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمُهُمْ قَدْرًا انْتَهَى مِنْ هَامِشِ نُسْخَةٍ مِنْ شَرْحِ الدَّمِيرِيِّ رحمه الله عَلَى الْمِنْهَاجِ ( قَوْلُهُ : بِأَنْ يُقْدِرَنِي عَلَى إتْمَامِهِ ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ مُضَارِعُ أَقْدَرَ لَا مُضَارِعَ التَّقْدِيرِ , إذْ يُقَالُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ , وَقَوْلُهُ كَمَا أَقْدَرَنِي قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى بَكْرِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَبَرَاءَتِي مِنْ الْحَوْلِ ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ ( قَوْلُهُ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ قَدَّرَ وُقُوعَ الْمَطْلُوبِ ) فِيهِ رَمْزٌ إلَى سُؤَالِ تَقْدِيرِهِ : كَيْفَ قَالَ وَأَسْأَلُهُ إلَخْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ , وَالسُّؤَالُ فِي النَّفْعِ بِالْمَعْدُومِ لَيْسَ مِنْ أَدَبِ الْعُقَلَاءِ . فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّرَ وُقُوعَ الْمَطْلُوبِ بِسَبَبٍ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ قَالَ ذَلِكَ ا هـ بَكْرِيٌّ ( قَوْلُهُ : بِأَنْ يُلْهِمَهُمْ الِاعْتِنَاءَ بِهِ ) بَيَانٌ لِتَقْدِيرِ وَجْهِ عُمُومِ النَّفْعِ وَهُوَ وَاضِحٌ . فَإِنْ قُلْت : هَلْ يُتَصَوَّرُ النَّفْعُ بِهِ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ النَّوَوِيِّ ؟ قُلْت : نَعَمْ بِأَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَتَعُودَ بَرَكَتُهُ عَلَى أَبِيهِ , أَوْ يَتَعَلَّمَ حُكْمًا مِنْهُ فَيَكُونَ كَذَلِكَ , أَوْ يَعْلَمَ مِنْهُ أَنَّ الْمَيِّتَ تَنْفَعُهُ الصَّدَقَةُ وَالدُّعَاءُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ ا هـ بَكْرِيٌّ رحمه الله ( قَوْلُهُ : الْبَعْضُ الَّذِي مِنْهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله ) قَالَ عَمِيرَةُ : مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا سَبَقَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْعَطْفُ اللُّغَوِيُّ ا هـ .(1/181)
أَقُولُ : دَفَعَ بِهِ مَا أُورِدَ عَلَى الشَّارِحِ مِنْ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عَطْفُهُ عَلَى الْيَاءِ فِي قَوْلِهِ عَنِّي لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ تَكَرَّرَ بِهِ الدُّعَاءُ إلَخْ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا تَكَرَّرَ فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمُصَنِّفِ لَا لِلْبَعْضِ الَّذِي مِنْهُ الْمُصَنِّفُ , وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَحِبَّائِي لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي تَكَرَّرَ الدُّعَاءُ لَهُ هُوَ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ لَا الَّذِي مِنْهُ الْمُصَنِّفُ
وفي الفصول في الأصول :
بَابٌ الْقَوْلُ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ(1/182)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : كَثِيرًا مِمَّا أَرَى لِأَبِي يُوسُفَ فِي إضْعَافِ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ : الْقِيَاسُ كَذَا , إلَّا أَنِّي تَرَكْته لِلْأَثَرِ , وَذَلِكَ الْآثَرُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ ( كَانَ ) يَرَى " أَنَّ " تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : أَمَّا أَنَا فَلَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْمَذْهَبُ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُحْفَظُ عَنْهُ ذَلِكَ , إنَّمَا الَّذِي يُحْفَظُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَالَ : إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى شَيْءٍ سَلَّمْنَاهُ لَهُمْ , وَإِذَا اجْتَمَعَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا .(1/183)
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : ( إنَّ الْقِيَاسَ ) فِيمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَقْتَ صَلَاةٍ : أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ , إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ ( عَنْ عَمَّارٍ : أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَى ) , فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ لِفِعْلِ عَمَّارٍ , وَكَانَ أَبُو عُمَرَ الطَّبَرِيُّ يَحْكِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ : أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ , يُتْرَكُ لَهُ الْقِيَاسُ , إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ , قَالَ : وَكَانَ يُحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّحَابِيِّ أَرْجَحُ مِنْ قِيَاسِنَا وَأَقْوَى , لِعِلْمِهِمْ بِأَحْوَالِ الْمَنْصُوصَاتِ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام فِي كَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوُقُوعِ مُخْبَرِهِ . كَذَلِكَ اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِنَا - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى رَأَيْنَا . قَالَ : وَأَيْضًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ نَصًّا وَتَوْثِيقًا , وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَهُ اجْتِهَادًا , فَصَارَ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِ , وَتَرْكِ قَوْلِنَا لِقَوْلِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ , وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ ( وَرَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ ) , عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , , وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ .(1/184)
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ , وَكَانَ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : بِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ , لِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَعْلَمُ وَأَعْرَفُ بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ , فَيَكُونُ تَقْلِيدُهُ إيَّاهُ ضَرْبًا مِنْ الِاجْتِهَادِ , يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ مَنْ قَلَّدَهُ أَقْوَى وَأَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يُقَوِّي مَا حَكَيْنَاهُ : مِنْ حِجَاجِ أَبِي سَعِيدٍ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ , وَيَكُونُ لِتَقْدِيمِ قِيَاسِ الصَّحَابِيِّ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى اجْتِهَادِنَا فَضْلُ مَزِيَّةٍ بِمُشَاهَدَتِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم , وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ النُّصُوصِ , وَمَا نَزَلَتْ فِيهِ , وَعِلْمِهِ بِتَصَارِيف الْكَلَامِ , وَوُجُوهِ الْخِطَابِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عِلْمُنَا وَمَعْرِفَتُنَا , فَيَكُونُ قِيَاسُهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ أَيْضًا : بِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرَ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا , إذَا اتَّفَقَا عَلَى قَوْلٍ , إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ : عَلَى أَنَّهُمَا إذَا خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْلِيدُهُمَا فَخَصَصْنَاهُ مِنْ اللَّفْظِ , , وَبَقِيَ حُكْمُهُ فِي لُزُومِ تَقْلِيدِهِمَا إذَا أَجْمَعَا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يُخَالِفْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِهِمَا , وَإِذَا لَزِمَ تَقْلِيدُهُمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا - لَزِمَ .(1/185)
تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا , وَأَحَدُ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ , لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا . وَيَدُلُّ أَيْضًا : قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ , وَأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِ هُدًى , وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ مَحْكُومًا لَهُ بِالْهُدَى لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ , وَلِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِي إثْبَاتِهِ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً , لَمَا جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُخَالَفَتُهُ , كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَمَّا كَانَا حُجَّةً يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمَا . فَقِيلَ لَهُ : بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ , وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ مَعَ كَوْنِ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً عَلَيْنَا . فَمَا أَنْكَرَتْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُجَّةً , وَيَكُونُ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ حُجَّةً عَلَيْنَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ , فَأَجَابَ بِأَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ لِلْجَمَاعَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ . قَالَ : وَنَظِيرُ مَا قُلْنَا : أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ , فَيُخَالِفُهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ إيَّاهُمْ , فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ , وَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَلَا يُنْقِضُهُ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ .(1/186)
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ , فَلَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ حُجَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ , فَلِذَلِكَ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُ . قَالَ : وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى تَقْلِيدِهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ . ( أَلَا تَرَى : أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَصَبْت الْحَقَّ , أَوْ كَلَامًا نَحْوَهُ , فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ , وَلَكِنْ لَمْ آلُ عَنْ الْحَقِّ ) وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , فِي قَضِيَّةٍ قَضَى بِهَا ( فِي الْجَدِّ ) : لَيْسَ رَأْيِي حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فِي نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ , فِي نَفْيِ لُزُومِ تَقْلِيدِهِمْ . فَإِذَا لَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ عَلَى النَّاسِ , فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يَحْتَمِلُ : أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ إنَّمَا مَنَعَتْ وُجُوبَ تَقْلِيدِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ , أَوْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فَأَخْبَرُوا : أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِيهَا , وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ دُونَ التَّقْلِيدِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرَى قَبُولَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ , ( لَازِمًا ) فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهَا مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ , وَالِاجْتِهَادِ .(1/187)
وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا , وَيَذْكُرُ مَسَائِلَ قَالُوا فِيهَا بِتَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ وَلُزُومِ قَبُولِ قَوْلِهِ , نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام : لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , وَمَا رُوِيَ عَنْهُ ( إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ ) وَنَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ : أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ , وَأَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ ( وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِ ( فِي أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا ) , وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِمِقْدَارِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ ) . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ وَكَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ أَوْ الِاتِّفَاقَ , ثُمَّ وَجَدْنَا الصَّحَابِيَّ قَدْ قَطَعَ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَهُ , دَلَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ : عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ تَوْقِيفًا , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ تَخْمِينًا وَتَظَنُّنًا , فَصَارَ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ إنَّمَا يَلْزَمُ قَبُولُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْوَاحِدِ فِيهِ , وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ تَوْقِيفًا .(1/188)
قَالَ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَالرَّأْيِ وَأَنَّ طَرِيقَهُ التَّوْقِيفُ : أَنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , لَيْسَ عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ ( بَيْنَ ) قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ , وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ , فَيَكُونُ مَوْكُولًا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ , وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأٌ , كَمَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ , الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ , وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ , وَمَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ , وَمِقْدَارِ الْجَلْدِ فِي الْحَدِّ , لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَقَايِيسِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ , كَذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تُثْبِتُونَ أَنْتُمْ مَقَادِيرَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى . فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ : ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ , وَقَالَ فِي الْغُلَامُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَشِيدًا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَهُ مَا لَمْ تَمْضِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا , وَلَا تَوْقِيفَ لَهُمْ فِي إثْبَاتِ ( شَيْءٍ مِنْ ) هَذِهِ الْمَقَادِيرِ , وَلَا اتِّفَاقَ , فَأَثْبَتُوهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ .(1/189)
وَإِذَا كَانَ الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ يَدْخُلُ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَقَادِيرِ , لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَالَتْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ الرَّأْيِ . فَلَا يَثْبُتُ بِهِ تَوْقِيفٌ . قِيلَ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ , لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى , لَا عَلَى , جِهَةِ إيجَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ , وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ عُرِفَ , أَوْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ , فَوَكَّلَ حُكْمَ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إلَى آرَائِنَا وَمَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ اجْتِهَادُنَا , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي ذَكَرْنَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا يُوجِبَانِ حَدَّ الزِّنَا ( مِائَةَ جَلْدَةٍ ) , وَلَا حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ , وَلَا يَدُلَّانِ عَلَى مَقَادِيرِ أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا , وَلَا عَلَى مَقَادِيرِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا , لِأَنَّهَا كُلُّهَا حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةٌ . كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي حَكَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ .(1/190)
وَمَتَى تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ لَا يُعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ مِنْ نُظَرَائِهِ , جَازَ أَنْ يُرَجَّحَ الَّذِي مَعَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ , وَيَكُونُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ . وَقَدْ حَكَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَبْلَ هَذَا : أَنَّهُ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ , إذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِ خِلَافُهُ , فَإِذَا عَاضَدَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ , كَانَ لِمَا عَاضَدَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَرَى أَيْضًا تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ , إذَا كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ .
وفي المستصفى :
الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْقُطْبِ : فِي التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَحُكْمِ الْعَوَّام فِيهِ(1/191)
وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ : مَسْأَلَةٌ : التَّقْلِيدُ هُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ . وَلَيْسَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ وَذَهَبَ الْحَشَوِيَّةُ وَالتَّعْلِيمِيَّة إلَى أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ التَّقْلِيدُ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ وَأَنَّ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ حَرَامٌ . وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ مَسَالِكُ , الْأَوَّلُ : هُوَ أَنَّ صِدْقَ الْمُقَلِّدِ لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ . وَدَلِيلُ الصِّدْقِ الْمُعْجِزَةُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ الرَّسُولِ عليه السلام بِمُعْجِزَتِهِ وَصِدْقُ كَلَامِ اللَّهِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ صِدْقِهِ وَصِدْقُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ عَنْ عِصْمَتِهِمْ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْحُكْمُ بِقَوْلِ الْعُدُولِ لَا بِمَعْنَى اعْتِقَادِ صِدْقِهِمْ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى تَعَبُّدِ الْقُضَاةِ بِاتِّبَاعِ غَلَبَةِ الظَّنِّ صَدَقَ الشَّاهِدُ أَمْ كَذَبَ , وَيَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ اتِّبَاعُ الْمُفْتِي ; إذْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَوَّام اتِّبَاعُ ذَلِكَ كَذَبَ الْمُفْتِي أَمْ صَدَقَ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ . فَنَقُولُ : قَوْلُ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ لَزِمَ بِحُجَّةِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ فَلَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا , فَإِنَّا نَعْنِي بِالتَّقْلِيدِ قَبُولَ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ فَحَيْثُ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ وَلَمْ يُعْلَمْ الصِّدْقُ بِضَرُورَةٍ وَلَا بِدَلِيلٍ فَالِاتِّبَاعُ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْجَهْلِ .(1/192)
الْمَسْلَكُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : أَتُحِيلُونَ الْخَطَأَ عَلَى مُقَلَّدِكُمْ أَمْ تُجَوِّزُونَهُ ؟ فَإِنْ جَوَّزْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ شَاكُّونَ فِي صِحَّةِ مَذْهَبِكُمْ , وَإِنْ أَحَلْتُمُوهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ , وَلَا ضَرُورَةَ وَلَا دَلِيلَ ؟ فَإِنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي قَوْلِهِ : إنَّ مَذْهَبَهُ حَقٌّ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَهُ فِي تَصْدِيقِ نَفْسِهِ ؟ وَإِنْ قَلَّدْتُمْ فِيهِ غَيْرَهُ فَبِمَ عَرَفْتُمْ صِدْقَ الْمُقَلَّدِ الْآخَرِ ؟ وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إلَى قَوْلِهِ فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ سُكُونِ نُفُوسِكُمْ وَسُكُونِ نُفُوسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ ؟ وَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ مُقَلَّدِكُمْ : إنِّي صَادِقٌ مُحِقٌّ وَبَيْنَ قَوْلِ مُخَالِفِكُمْ ؟ وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا فِي إيجَابِ التَّقْلِيدِ : هَلْ تَعْلَمُونَ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ فَلِمَ قَلَّدْتُمْ وَإِنْ عَلِمْتُمْ فَبِضَرُورَةٍ أَمْ بِنَظَرٍ أَوْ تَقْلِيدٍ ؟ وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ السُّؤَالُ فِي التَّقْلِيدِ , وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فَلَا يَبْقَى إلَّا إيجَابُ التَّقْلِيدِ بِالتَّحَكُّمِ . فَإِنْ قِيلَ : عَرَفْنَا صِحَّتَهُ بِأَنَّهُ مَذْهَبٌ لِلْأَكْثَرِينَ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ . قُلْنَا : وَبِمَ أَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ يَقُولُ : الْحَقُّ دَقِيقٌ غَامِضٌ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا الْأَقَلُّونَ وَيَعْجَزُ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شُرُوطٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّفَرُّغِ لِلنَّظَرِ وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ وَالْخُلُوِّ عَنْ الشَّوَاغِلِ .(1/193)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ مُحِقًّا فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَهُوَ فِي شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى خِلَافِ الْأَكْثَرِينَ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } كَيْفَ وَعَدَدُ الْكُفَّارِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرُ ؟ ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَتَوَقَّفُوا حَتَّى تَدُورُوا فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَتَعُدُّوا جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ , فَإِنْ سَاوَوْهُمْ تَوَقَّفُوا وَإِنْ غَلَبُوا رَجَحُوا , كَيْفَ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ عليه السلام : { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ } وَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْكُنَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ { وَالشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } قُلْنَا : أَوَّلًا , بِمَ عَرَفْتُمْ صِحَّةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ تَقْلِيدٍ فَبِمَ تَتَمَيَّزُونَ عَنْ مُقَلَّدٍ اعْتَقَدَ فَسَادَهَا ؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَمُتَّبِعُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ بَلْ عَلِمَ بِقَوْلِ الرَّسُولِ وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ وَذَلِكَ قَبُولُ قَوْلٍ بِحُجَّةٍ وَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ . ثُمَّ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْإِجْمَاعِ " وَأَنَّهُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ أَوْ مُوَافَقَةِ الْإِجْمَاعِ . وَلَهُمْ شُبَهٌ : الشُّبْهَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُمْ : إنَّ النَّاظِرَ مُتَوَرِّطٌ فِي شُبُهَاتٍ وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ النَّاظِرِينَ فَتَرْكُ الْخَطَرِ وَطَلَبُ السَّلَامَةِ أَوْلَى .(1/194)
قُلْنَا : وَقَدْ كَثُرَ ضَلَالُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَبِمَ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ تَقْلِيدِكُمْ وَتَقْلِيدِ سَائِرِ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا : إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ؟ ثُمَّ نَقُولُ : إذَا وَجَبَتْ الْمَعْرِفَةُ كَانَ التَّقْلِيدُ جَهْلًا وَضَلَالًا فَكَأَنَّكُمْ حَمَلْتُمْ هَذَا خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ , كَمَنْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ عَطَشًا وَجُوعًا خِيفَةً مِنْ أَنْ يَغَصَّ بِلُقْمَةٍ أَوْ يَشْرَقَ بِشَرْبَةٍ لَوْ أَكَلَ وَشَرِبَ , وَكَالْمَرِيضِ يَتْرُكُ الْعِلَاجَ رَأْسًا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعِلَاجِ , وَكَمَنْ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَالْحِرَاثَةَ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ صَاعِقَةٍ فَيَخْتَارُ الْفَقْرَ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ . الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجِدَالِ فِي الْقَدَرِ وَالنَّظَرُ يَفْتَحُ بَابَ الْجِدَالِ قُلْنَا : نَهَى عَنْ الْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فَأَمَّا الْقَدَرُ فَنَهَاهُمْ عَنْ الْجِدَالِ فِيهِ ; إمَّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ وَقَفَهُمْ عَلَى الْحَقِّ بِالنَّصِّ فَمَنَعَهُمْ عَنْ الْمُمَارَاةِ فِي النَّصِّ أَوْ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَاحْتَرَزَ عَنْ أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُخَالِفُ فَيَقُولَ : هَؤُلَاءِ بَعْدُ لَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمُهُمْ فِي الدِّينِ أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَدْفُوعِينَ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُمْ .(1/195)
ثُمَّ إنَّا نُعَارِضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } , هَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَمْرٌ بِالْعِلْمِ , وَلِذَلِكَ عَظُمَ شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ عليه السلام : { يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ } وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِالتَّقْلِيدِ بَلْ بِالْعِلْمِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " لَا تَكُونَنَّ إمَّعَةً " قِيلَ : وَمَا إمَّعَةٌ ؟ قَالَ : " أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَنَا مَعَ النَّاسِ إنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ وَإِنْ اهْتَدَوْا اهْتَدَيْتُ , أَلَا لَا يُوَطِّنَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَكْفُرَ إنْ كَفَرَ النَّاسُ " .
مَسْأَلَةٌ : إنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ لَمْ يَجِبْ تَقْلِيدُهُمْ فَهَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ ؟(1/196)
قُلْنَا : أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُقَلِّدُهُمْ وَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنَّهُ إنْ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ , وَإِنْ حَرَّمْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ , فَقَالَ , فِي الْقَدِيمِ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ إذَا قَالَ قَوْلًا وَانْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُخَالِفْ , وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : يُقَلِّدُ , وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ , وَرَجَعَ فِي الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ صَحَابِيًّا كَمَا لَا يُقَلِّدُ عَالِمًا آخَرَ , وَنَقَلَ الْمُزَنِيّ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي بِهَا يَجُوزُ لِلصَّحَابَةِ الْفَتْوَى . وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا إذْ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ لَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ مَعَ ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَنَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .(1/197)
قُلْنَا هَذَا كُلُّهُ ثَنَاءٌ يُوجِبُ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ فِي عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَمَحَلِّهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا يُوجِبُ تَقْلِيدَهُمْ لَا جَوَازًا وَلَا وُجُوبًا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَثْنَى أَيْضًا عَلَى آحَادِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ أَوْ وُجُوبِهِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ الْعَالَمِينَ لَرَجَحَ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ قَدْ ضَرَبَ بِالْحَقِّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ يَقُولُ الْحَقَّ , وَإِنْ كَانَ مُرًّا } وَقَالَ لِعُمَرَ : { وَاَللَّهِ مَا سَلَكْتَ فَجًّا إلَّا سَلَكَ الشَّيْطَانُ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ } { وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ حَيْثُ نَزَلَتْ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ رَأْيِ عُمَرَ لَوْ نَزَلَ بَلَاءٌ مِنْ السَّمَاءِ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ مِنْكُمْ لَمُحْدِثِينَ وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ } وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقُولُونَ : مَا كُنَّا نَظُنُّ إلَّا أَنَّ مَلَكًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يُسَدِّدُهُ وَأَنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ عَلِيٍّ : { اللَّهُمَّ أَدِرْ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيْثُ دَارَ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ وَأَعْرَفُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } وَقَالَ عليه السلام : { رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ } وَقَالَ عليه السلام لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ { لَوْ اجْتَمَعَا عَلَى شَيْءٍ مَا خَالَفْتُهُمَا } وَأَرَادَ فِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ , وَكُلُّ ذَلِكَ ثَنَاءٌ(1/198)
لَا يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ أَصْلًا .
الْقِسْمُ الثَّانِي : فِي الْمُفْسِدَاتِ الظَّنِّيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ : الَّتِي نَعْنِي بِفَسَادِهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا وَفِي حَقِّنَا إذْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى ظَنِّنَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ , وَمَنْ قَالَ : الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فَيَقُولُ هِيَ فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا بِالْإِضَافَةِ , إلَّا أَنِّي أُجَوِّزُ أَنْ أَكُونَ أَنَا الْمُخْطِئُ , وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا تَأْثِيمَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَمَنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ فَهُوَ آثِمٌ . وَهَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ تِسْعٌ : الْأَوَّلُ : الْعِلَّةُ الْمَخْصُومَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ , صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ يَبْقَى ظَنُّهُ مَعَ التَّخْصِيصِ . الثَّانِي : عِلَّةٌ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ هِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ رَأَى تَقْدِيمَ الْعُمُومِ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّالِثُ : عِلَّةٌ عَارَضَتْهَا عِلَّةٌ تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : الْمُصِيبُ وَاحِدٌ , صَحِيحَةٌ عِنْدَ مَنْ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَهُمَا عَلَامَتَانِ لِحُكْمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدَيْنِ وَفِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ فَإِنْ اجْتَمَعَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ نَقُولُ : إنَّهُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ كَمَا سَيَأْتِي . الرَّابِعُ : أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهَا إلَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ وَقَدْ يُقَالُ : مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الِاطِّرَادِ فَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ . الْخَامِسُ : أَنْ يَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ .(1/199)
السَّادِسُ : الْقِيَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا مَا يُظَنُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ . السَّابِعُ : ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتِزَاعُ الْعِلَّةِ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ , وَهَذَا فَاسِدٌ وَلَا يَبْعُدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسَادُهُ مَقْطُوعًا بِهِ . الثَّامِنُ : عِلَّةٌ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ مَسْأَلَةً اجْتِهَادِيَّةً فَهَذَا مُجْتَهِدٌ فِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ : بُطْلَانُ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مَقْطُوعٌ بِهِ . التَّاسِعُ : أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا مَقْطُوعًا بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ خِلَافًا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/200)
هَذِهِ هِيَ الْمُفْسِدَاتُ , وَوَرَاءَ هَذَا اعْتِرَاضَاتٌ مِثْلَ الْمَنْعِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَالْفَرْقِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَالتَّعْدِيَةِ وَالتَّرْكِيبِ , وَمَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ تَصْوِيبُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ انْطَوَى تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ نَظَرٌ جَدَلِيٌّ يَتْبَعُ شَرِيعَةَ الْجَدَلِ الَّتِي وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ بِاصْطِلَاحِهِمْ , فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَشِحَّ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُضَيِّعَهَا بِهَا , وَتَفْصِيلُهَا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا فَائِدَةٌ مِنْ ضَمِّ نَشْرِ الْكَلَامِ وَرَدِّ كَلَامِ الْمُنَاظِرِينَ إلَى مَجْرَى الْخِصَامِ كَيْ لَا يَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ عَرْضًا وَطُولًا فِي كَلَامِهِ مُنْحَرِفًا عَنْ مَقْصِدِ نَظَرِهِ , فَهِيَ لَيْسَتْ فَائِدَةً مِنْ جِنْسِ أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْجَدَلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالنَّظَرِ وَلَا تُمْزَجَ بِالْأُصُولِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا تَذْلِيلُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُجْتَهِدِينَ . وَهَذَا آخِرُ الْقُطْبِ الثَّالِثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ إمَّا مِنْ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعِهِ أَوْ إشَارَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمَعْقُولِهِ وَمَعْنَاهُ , فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي كشف الأسرار :
( بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ ) ( النَّبِيِّ عليه السلام ) ( وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ) :(1/201)
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ قَالَ وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : لَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلَّدَ الْخُلَفَاءَ رضي الله عنهم وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله إنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رحمهما الله فِي الْحَامِلِ : إنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ : إنَّهُ ضَامِنٌ وَرَوَيَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالرَّأْيِ .
((1/202)
بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ) : ; لِأَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ السَّمَاعِ نَاسَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِآخِرِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ إذْ الشَّبَهُ بَعْدَ الْحَقِيقَةِ فِي الرُّتْبَةِ لَا خِلَافَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا كَانَ أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ حُجَّةٌ وَتَقْلِيدُهُ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِمَذْهَبِهِ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ , فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَهُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ لِيُسْتَدْرَكَ بِهِ عِلْمٌ أَوْ لِيُسْتَنْبَطَ وَآرَاؤُهُمْ أَوْلَى مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا ; لِأَنْفُسِنَا وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَى , فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما أَوْلَى وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْجِيحُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ وَالْأَكْبَرِ قِيَاسًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ عِلْمِهِ يُقَوِّي اجْتِهَادَهُ وَيُبْعِدُهُ عَنْ التَّقْصِيرِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا(1/203)
يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ عَلَى مَا يُشِيرُ تَقْرِيرُهُ فِي التَّقْوِيمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَيْ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَيْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً , وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَهَذَا اللَّفْظُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ , وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ التَّقْلِيدَ , وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ . وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ .(1/204)
وَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ يُخَالِفُ قَوْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : الْقِيَاسُ أَوْلَى وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدَ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَقَلَّدَ أَيْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَمْثَالِهِمْ أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ وَالتَّخْصِيصِ بِتَشْرِيفِ مِثْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهم وَمَنْ قَلَّدَ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَّدَ الشَّيْخَيْنِ لَا غَيْرُ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ أَقْرَانِهِ خِلَافُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ وَلَكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ . قَوْلُهُ ( وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا ) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رحمهم الله فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَذْهَبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِيهَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله فِي إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَيْ تَسْمِيَةِ مِقْدَارِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُشَارًا ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْعِبَارَةِ وَالتَّسْمِيَةِ .(1/205)
وَالْإِعْلَامُ بِالْعِبَارَةِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما خِلَافُهُ , فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله شَرَطَ الْإِعْلَامَ فِيمَا ذَكَرْنَا لِجَوَازِ السَّلَمِ وَقَالَ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رحمهما الله فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا غَيْرُ مَرْجُوٍّ إلَى زَمَانِ وَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مَرْجُوٍّ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ إلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَامَ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا مَقَامَ الطُّهْرِ أَوْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فِي كَوْنِهِ زَمَانَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ بِخِلَافِ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا مَرْجُوٌّ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الشَّهْرِ فِي حَقِّهَا مَقَامَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ , وَقَالَ مُحَمَّدٌ : رحمه الله لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رضي الله عنهم وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إلَّا بِالْعَمَلِ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ إنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا ضَاعَ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا , فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَرَقِ الْغَالِبِ وَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْعَامَّةِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَرَوَيَا ذَلِكَ أَيْ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه ,(1/206)
فَإِنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَيْ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِالرَّأْيِ فَقَالَ : إنَّهُ أَمِينٌ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا كَالْأَجِيرِ الْوَاحِدِ وَالْمُودِعِ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّمَانَ نَوْعَانِ : ضَمَانُ جَبْرٍ وَضَمَانُ شَرْطٍ لَا ثَالِثَ لَهُمَا , وَضَمَانُ الْجَبْرِ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ , وَضَمَانُ الشَّرْطِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ ; لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمَالِكِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً وَلَمْ يُوجَدْ عَقْدٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ أَيْضًا فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْهَلَاكِ كَالْوَدِيعَةِ .(1/207)
وَقَدْ اتَّفَقَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا بِالتَّقْلِيدِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ فَقَدْ قَالُوا فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ , وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَفْسَدُوا شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ عَمَلًا بِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَمَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ حَمْلًا لِذَلِكَ عَلَى التَّوْقِيفِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام لَا وَجْهَ لَهُ غَيْرَ هَذَا إلَّا التَّكْذِيبُ , وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَأَمَّا فِيمَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم مَشْهُورٌ وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ إنْ أَخْطَأْت فَمِنْ الشَّيْطَانِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ مِثْلَ مَا عَمِلُوا , وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ } الْخَبَرَ .
((1/208)
قَوْلُهُ وَقَدْ اتَّفَقَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا ) يَعْنِي الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّقْلِيدِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ أَيْ بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه وَقَدْ رَوَوْا أَكْثَرَ النِّفَاسِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّ النِّفَاسَ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ لِكَوْنِهِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عِنْدَ هَذَا الْقَائِل فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ وَرَوَوْا ذَلِكَ أَيْ تَعَدِّيَ الْحَيْضِ عَنْ أَنَسٍ وَعُثْمَانَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَهُ إلَى عُثْمَانَ صَرِيحًا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ : رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ } وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهم وَأَفْسَدُوا شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ يَعْنِي قَبْلَ أَخْذِ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ قَدْ تَمَّ بِالْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ بِمَا شَاءَ كَالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ وَكَالْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ مِنْهُ عَمَلًا بِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهُوَ مَا رَوَتْ أُمُّ يُونُسَ(1/209)
أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَالَتْ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ فَاحْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ جِهَادَهُ وَحَجَّهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا فَتَلَتْ قوله تعالى { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِهِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهَا تَعَيَّنَ جِهَةُ السَّمَاعِ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا جَعَلَتْ جَزَاءَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بُطْلَانَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَجْزِئَةُ الْجَرَائِمِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتِذَارُ زَيْدٍ إلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا , فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضًا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَمَا كَانَ يَعْتَذِرُ إلَى صَاحِبِهِ .(1/210)
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَقْوَالِ شَرَعَ فِي إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا وَبَدَأَ بِمَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ فِيهِ فَقَالَ : أَمَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ نَحْوُ الْمَقَادِيرِ وَغَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِيهِ حَمْلًا لِقَوْلِهِ عَلَى التَّوْقِيفِ أَيْ السَّمَاعِ وَالتَّنْصِيصِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ الْمُجَازَفَةَ فِي الْقَوْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ , فَإِنَّ طَرِيقَ الدِّينِ مِنْ النُّصُوصِ إنَّمَا انْتَقَلَ إلَيْنَا بِرِوَايَتِهِمْ وَفِي حَمْلِ قَوْلِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ قَوْلٌ بِفِسْقِهِمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ رِوَايَتَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّأْيُ وَالسَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي هَذَا الْبَابِ فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ وَصَارَ فَتْوَاهُ مُطْلَقَةً كَرِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ سَمَاعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فَكَذَا إذَا أَفْتَى بِهِ وَلَا طَرِيقَ لِفَتْوَاهُ إلَّا السَّمَاعُ , فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنَّهُ إنَّمَا أَفْتَى لِخَبَرٍ ظَنَّهُ دَلِيلًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَمَعَ جَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ كَالِاجْتِهَادِ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَالْمَسْمُوعِ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ .(1/211)
وَأَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ وَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا يُظَنُّ الْمُجَازَفَةُ فِي الْقَوْلِ بِالْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى الْكَذِبِ ثُمَّ لَا يَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ .(1/212)
قُلْنَا هَذَا مَحْمَلٌ فَاسِدٌ ; لِأَنَّ تَقَدُّمَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَاحْتِيَاطَهُمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَدِقَّةَ نَظَرِهِمْ فِيهَا يَرُدُّ ذَلِكَ كَيْفَ وَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ رِوَايَتِهِمْ وَتَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِمْ ; لِأَنَّ ظَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ لِلْفَتْوَى مِنْ بَابِ الْمُسَاهَلَةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ , وَرِوَايَةُ الْمُتَسَاهِلِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ بِهِمْ فَاسِدٌ لَا يُؤَدِّي إلَيْهِ كَذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِيهِ لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَالرَّأْيِ فَأَمَّا فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا جِهَةُ السَّمَاعِ فِيهِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْكُلِّ فَأَمَّا قَوْلُ التَّابِعِيِّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ اتِّصَالِ قَوْلِهِ بِالسَّمَاعِ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِدُونِهَا لَا يَثْبُتُ السَّمَاعُ بِوَجْهٍ فَأَمَّا الصَّحَابِيُّ فَقَدْ كَانَ مُصَاحِبًا لِمَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ السَّمَاعَ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلٌ مُنْقَطِعًا عَنْ السَّمَاعِ إلَّا إذَا ظَهَرَ دَلِيلٌ غَيْرُهُ وَهُوَ الرَّأْيُ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِطَاعُ بِالِاحْتِمَالِ إلَيْهِ أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الصَّحَابِيِّ قَطْعِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ فِي حَقِّنَا لِسَمَاعِهِ مِنْ الرَّسُولِ عليه السلام وَفِي حَقِّ التَّابِعِيِّ وَمَنْ(1/213)
دُونَهُ ظَنِّيٌّ لِتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِتَخَلُّلِهَا أَثَرًا فِي الضَّعْفِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْوَى فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ قَدْ وُجِدَ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ نَصٍّ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ إنَّمَا أَفْتَوْا بِنَصٍّ ظَهَرَ لَهُمْ أَيْ بِرَأْيٍ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ نَصٍّ وَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُمْ قَوْلٌ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَقُلْنَا : إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَقْلٍ وَلَجَعَلْنَاهُ حُجَّةً أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ .(1/214)
, فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ فِي الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ فِيهِ , فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله قَدَّرَ مُدَّةَ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ بِثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ مُدَّةَ وُجُوبِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ الَّذِي لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله مُدَّةَ تَمَكُّنِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا مَا يَطْهُرُ بِهِ الْبِئْرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دَلْوًا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ , وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ السَّمَاعِ فِي ذَلِكَ إذَا قَالَهُ صَحَابِيٌّ قُلْنَا : إنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا قُلْنَا الْمَقَادِيرَ الَّتِي تَثْبُتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً دُونَ مِقْدَارٍ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ , فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ فِي الْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ نَحْوُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ مِمَّا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِمَّا أَشَرْنَا إلَيْهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ , فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا وَأَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا ثُمَّ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي إزَالَةِ(1/215)
التَّرَدُّدِ وَهُوَ نَظِيرُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَمَعْرِفَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالتَّقْدِيرِ فِي النَّفَقَةِ , فَإِنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السَّفِيهِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .(1/216)
وَقَالَ { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِبَرِ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ مَعَهُ بِنَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله ذَلِكَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ , وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ نَتَيَقَّنُ لَهُ بِصِفَةِ الْكِبَرِ وَنَعْلَمُ إينَاسَ رُشْدٍ مَا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَلَغَ أَشُدَّهُ , فَإِنَّهُ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنَّهُ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَكَذَلِكَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله , فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ , فَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْمُدَّةِ فَاعْتُبِرَ الرَّأْيُ فِيهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ , فَإِنَّمَا عَرَفْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ فَتْوَى عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْ النَّزْحِ وَالْكَثِيرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَتِهِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رحمه الله ( قَوْلُهُ ) فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ كَذَا تَمَسَّكَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِيهِمْ(1/217)
الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ظُهُورًا لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ , وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَابِتٌ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مَعْصُومِينَ عَنْ الْخَطَأِ كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ كَقَوْلِ غَيْرِهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ فَتْوَاهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمَا جَازَ لَهُمْ الْمُخَالَفَةُ بِآرَائِهِمْ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ النَّاسِ إلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَمُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ حَرَامٌ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ وَاجِبَةٌ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ , فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ ثَابِتٌ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمْ يَجُزْ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ أَيْ تَقْلِيدُ مِثْلِ الصَّحَابِيِّ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ حَدِيثٍ عِنْدَهُ , فَإِنْ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ الْأَصْلُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَجِبُ(1/218)
عَلَيْهِمْ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُونَهُ لَا فَرْعُ أَصْلٍ آخَرَ فَيُخَالِفُونَهُ . وَإِنْ كَانَ عَنْ حَدِيثٍ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَأَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ وَبِدُونِ الْبَاقِي يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ فَلَا يَتْرُكُ الْحُجَّةَ بِالِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِمُشَاهَدَتِهِمْ التَّنْزِيلَ وَسَمَاعِهِمْ التَّأْوِيلَ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ عليه السلام وَمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ ( بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ } فَقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْجَرْيِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَخْذِهِمْ الْحُكْمَ مِنْ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لَا تَقْلِيدُهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه السلام شَبَّهَهُمْ بِالنُّجُومِ , وَإِنَّمَا يُهْتَدَى بِالنُّجُومِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّجْمِ يُوجِبُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي(1/219)
الْإِمَامُ هَذَا النَّصُّ عَمَّ الصَّحَابَةَ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَأَعْرَابٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْبَصَرِ وَأَهْلُ الْبَصَرِ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ بَعْدَ الْكِتَابِ فِي السُّنَّةِ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُزَاحِمْهُمْ فِي الرَّأْيِ كَانَ أُسْوَةَ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ السَّلَفِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَهُوَ دُونَهُمْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّوْقِيفِ فِيهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ شُرَيْحًا خَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَشُورَةِ قُلْ أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَبْظَرُ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي النَّذْرِ بِنَحْرِ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى فَتْوَاهُ وَلِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِمْ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ رضي الله عنهم أجمعين .(1/220)
قَوْلُهُ : ( وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ) كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ مِثْلَ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ التَّقْلِيدِ عَنْ الْبَعْضِ .(1/221)
ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ رحمه الله فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ فِي تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَالَ : لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَالثَّانِيَةُ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَأَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فَأَنَا أُقَلِّدُهُ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى صَارَ مِثْلَهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا تَحَاكَمَ إلَى شُرَيْحٍ وَكَانَ عُمَرُ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ فَخَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ لِلْقَرَابَةِ وَكَانَ مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ رضي الله عنه جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَوْجَبَ مَسْرُوقٌ فِيهِ شَاةً بَعْدَمَا أَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : سَلُوا عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : سَلُوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُسَوِّغُونَ الِاجْتِهَادَ لِلتَّابِعِينَ وَيَرْجِعُونَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَيَعُدُّونَهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَقْلِيدُهُمْ كَتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ(1/222)
إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَلِفَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَذَانِكَ مَفْقُودَانِ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ . وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَمْثِلَةِ ; لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَزَاحَمُوهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الصَّحَابَةَ سَلَّمُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ وَلَكِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّقْلِيدِ مِنْ احْتِمَالِ السَّمَاعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ التَّنْزِيلِ وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ عليه السلام مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ بِحَالٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا جَاءَنَا عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُ يَعْنِي فِي الْفَتْوَى فَنُفْتِي بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ بِاجْتِهَادِنَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَالشَّيْخُ اعْتَبَرَهَا وَأَثْبَتَ الْخِلَافَ , فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْوَالَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ قُلْنَا : إنَّمَا ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُخْتَرِعًا بَلْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ وَافَقَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ(1/223)
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ يُقَلِّدُهُمْ وَالْأَبْظَرُ هُوَ الَّذِي فِي شَفَتَيْهِ بُظَارَةٌ وَهِيَ هِنَّةٌ نَابِتَةٌ فِي وَسَطِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا وَلَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ الْأَبْظَرُ الصِّحَارُ الطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَجَعَلَهُ عَبْدًا ; لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ سَبْيُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/224)
وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ : الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ , وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ إنْ أَمْكَنَ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالنَّاسِخِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِمَا وَعِنْدَ الْعَجْزِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي وُقُوعِ الْمُعَارَضَةِ الْجَهْلُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ بَيْنَ آيَتَيْنِ أَوْ قِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ أَوْ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ أَوْ سُنَّةٍ وَآيَةٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَائِغٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِمَّا بَيْنَ قِيَاسَيْنِ أَوْ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا , وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ أَيْضًا , بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا لَمْ يَسْقُطَا بِالتَّعَارُضِ لِيَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ ; لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَانَ لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ وَجَبَ التَّخْيِيرُ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ نَفْسِ(1/225)
الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِاخْتِصَاصِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ . وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَجَهْلٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِلَا دَلِيلٍ هُوَ الْحَالُ , وَتَعَارُضُ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ فِي أَحَدِهِمَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي الْآخَرِ طَاهِرٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَمِلَ بِالتَّيَمُّمِ ; لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ , وَقَدْ وَقَعَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَقَعْ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ لَا ثَوْبَ مَعَهُ غَيْرُهُمَا عَمِلَ بِالتَّحَرِّي لِضَرُورَةِ الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ الْحَالُ وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَا دَلِيلَ مَعَهُ أَصْلًا عَمِلَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بَلْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ .(1/226)
قَوْله ( وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ ) كَذَا إذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالسَّبِيلُ فِيهِ الرُّجُوعُ إلَى طَلَبِ التَّارِيخِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ سَقَطَ حُكْمُ الدَّلِيلَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَبِأَحَدِهِمَا عَيْنًا ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْآخَرِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ أَيْضًا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ , وَإِذَا تَسَاقَطَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الْتَحَقَتْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ النَّصَّانِ بِتَسَاقُطِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ آخَرَ يُتَعَرَّفُ بِهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ . ثُمَّ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ إنْ وُجِدَتْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ إنْ لَمْ تُوجَدْ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ السُّنَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ , وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ , ثُمَّ عِنْدَ مَنْ أَوْجَدَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَفِيمَا لَا يُدْرَكُ بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِهِمْ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَإِلَى الْقِيَاسِ .(1/227)
وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ هُوَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى السُّنَّةِ وَاجِبٌ وَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَالْمَيْلُ إلَى الْقِيَاسِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَة , وَعِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قِيَاسٍ آخَرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ قِيَاسَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ التَّحَرِّي .(1/228)
ثُمَّ مُخْتَارُ الشَّيْخِ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ أَيْ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ السُّنَّتَيْنِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا عَلَى التَّسَاوِي , وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ لَا بِقَوْلِهِ إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَيْ الْكِتَابُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّنَّةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ يُصَارُ إلَى السُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهِمَا , وَقِيلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ , وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَإِنَّمَا قَالَ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ وَإِنْ كَانَ يُصَارُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ شُبْهَةُ السَّمَاعِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ .(1/229)
قَوْلُهُ ( وَعِنْدَ الْعَجْزِ ) يَعْنِي عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَصِيرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ , أَوْ يُوجَدُ التَّعَارُضُ فِي الْجَمِيعِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّصَّيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ , فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُعَارَضَةِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ إنْ أَمْكَنَ وَتَقْرِيرُ الْأُصُولِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَنَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ وَإِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ , وَإِنْ جَعَلْتَ الْمَصِيرَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ نَوْعًا وَاحِدًا وَتَقْرِيرَ الْأُصُولِ عِنْدَ الْعَجْزِ نَوْعًا آخَرَ فَلَهُ وَجْهٌ , وَبِالْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي سِرُّهُ .(1/230)
ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ فِي تَعَارُضِ السُّنَّتَيْنِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ التَّسَاوِي ثَابِتًا فِي عَدَدِ الْحُجَجِ بِأَنْ كَانَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَمِنْ جَانِبٍ دَلِيلَانِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ يَسْقُطُ بِالتَّعَارُضِ وَالدَّلِيلُ الْآخَرُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ يُتَمَسَّكُ بِهِ وَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّلَائِلِ , وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَقِلَّتِهِ فِي التَّعَارُضِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .(1/231)
ثُمَّ قِيلَ نَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى السُّنَّةِ قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِعُمُومِهِ يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي لِوُرُودِهِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَبِدَلَالَةِ السِّيَاقِ , وَالسِّيَاقُ الثَّانِي يَنْفِي وُجُوبَهَا عَنْهُ إذْ الْإِنْصَاتُ لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَيَتَعَارَضَانِ فَيُصَارُ إلَى الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَلَا يُعَارِضُهُمَا قَوْلُهُ عليه السلام { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ . وَنَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَمَا تُصَلُّونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ } وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها { أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ } فَإِنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ .(1/232)
قَوْلُهُ ( أَوْ قِرَاءَتَيْنِ ) مِثْلُ قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ , وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ لِلْجَهْلِ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِنُزُولِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَهُوَ زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ ; لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ نُزُولَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ الْإِذْنُ بِالْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ بِسُؤَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا نَزَلَتْ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِزَمَانٍ طَوِيلٍ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمِ الْأُولَى فِيمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا , إلَّا أَنَّا لَمَّا لَمْ نَعْرِفْ الْأُولَى مِنْ الثَّانِيَةِ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ . ((1/233)
قَوْلُهُ ) ; ( لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا ) أَيْ لَا يُصْلَحُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ أَصْلًا أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ , وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النَّصِّ أَيْضًا . وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَيْ بَيَانُ عَدَمِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ كَذَا يَعْنِي .(1/234)
الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا لِشَرْطِ التَّحَرِّي إذَا احْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْعَمَلِ يَتَوَقَّفُ فِيهِ , وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ , وَلِهَذَا صَارَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ وَأَقْوَالٌ وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ رُوِيَتَا عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى فَاسِدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ الْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا كَالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرِوَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّهُ عليه السلام قَدْ قَالَهُمَا فِي زَمَانَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ السَّابِقُ مِنْ اللَّاحِقِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ , فَصَارَ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعَارُضَ يَجْرِي بَيْنَ النَّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فَأَقَامَ الشَّيْخُ دَلِيلًا عَلَى الْحَاصِلِ فَقَالَ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَذَا .(1/235)
وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ النَّصَّيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ إلَّا وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّا جَهِلْنَاهُ وَالْجَهْلُ لَا يَصِيرُ عَمَلًا شَرْعِيًّا وَالِاخْتِيَارُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الْقِيَاسَانِ فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى طَرِيقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً يُعْمَلُ بِهِ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْطَأَهُ , وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي أَجْنَاسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ .(1/236)
قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ كِلَاهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ إصَابَةِ الْحَقِّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ عليه السلام { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } وَإِصَابَةُ الْحَقِّ غَيْبٌ فَتَصْلُحُ شَهَادَةُ الْقَلْبِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِمَا شَهِدَ بِهِ قَلْبُهُ , وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْإِصَابَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ صَارَا مُتَعَارِضَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَا ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ وَالْآخَرَ صَوَابٌ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا الصَّوَابُ كَمَا فِي النَّصَّيْنِ فَمِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ وَمِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ فَقُلْنَا يَحْكُمُ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَيَعْمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ . قَوْلُهُ ( فَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) أَيْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ . ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) : أَيْ الْقِيَاسَ . ((1/237)
وَضْعُ الشَّرْعِ ) : أَيْ دَلِيلٌ وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ الْقِيَاسَ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَنْصُوصِ وَيُبَيِّنَ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ وَيُحَافَظَ شَرَائِطَهُ فَيَكُونَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا بِوَضْعِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ بِنَاءً عَلَى الْجَهْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ أَيْ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً وَوُقُوعِ الْعِلْمِ فَلَا أَيْ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ طَرِيقًا إلَيْهِ فَيَكُونُ سَبَبَ التَّعَارُضِ الْجَهْلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . إلَّا أَنَّهُ : أَيْ لَكِنَّ الْقَايِسَ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ أَيْ اجْتِهَادِهِ أَخْطَأَ الْحَقَّ أَوْ أَصَابَ وَجَبَ التَّخْيِيرُ أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ : أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ , وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلْحَقِّ حَقِيقَةً ; لِأَنَّهُ وَاحِدٌ , وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَذَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ ; لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ شَهَادَةُ الْقَلْبِ دَلِيلٌ لِطَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ انْقِطَاعُ الْأَدِلَّةِ كَمَا فِي اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ , وَالْفِرَاسَةُ نَظَرُ الْقَلْبِ بِنُورٍ يَقَعُ فِيهِ .(1/238)
وَفِي الصِّحَاحِ الْفِرَاسَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ قَوْلِك تَفَرَّسْت فِيهِ خَيْرًا أَيْ أَبْصَرْت وَفَهِمْت وَهُوَ يَتَفَرَّسُ أَيْ يَتَثَبَّتُ وَيَنْظُرُ وَتَقُولُ مِنْهُ رَجُلٌ فَارِسُ النَّظَرِ وَأَنَا أَفَرَسُ مِنْهُ أَيْ أَعْلَمُ وَأَبْصَرُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ } . وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ : أَيْ التَّعَارُضُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَجَهْلٌ مَحْضٌ : أَيْ بِنَاءً عَلَى جَهْلٍ مَحْضٍ بِالنَّاسِخِ . بِلَا شُبْهَةٍ : أَيْ بِلَا شُبْهَةِ حَقِّيَّةَ فِي كِلَيْهِمَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بَلْ الْحَقُّ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ جَمِيعًا .(1/239)
قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ ) يَعْنِي إذَا قُلْنَا بِتَحَقُّقِ التَّعَارُضِ فِي الْقِيَاسَيْنِ فَلَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ تَرْتِيبِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّسَاقُطُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضْطَرُّ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْوَاقِعَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ وَحُجَّةٌ يَقِينًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ الْحُجَّةُ حَقِيقَةً أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ فَحَلَّ لَهُ الْعَمَلُ بِالْمُحْتَمَلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ , فَأَمَّا فِي تَعَارُضِ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ ; لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَهُوَ الْمَنْسُوخُ .(1/240)
قَوْلُهُ ( وَمِثَالُ ذَلِكَ ) أَيْ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّسَاقُطِ وَعَدَمِ التَّخْيِيرِ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ وَعَدَمِ التَّسَاقُطِ وَثُبُوتِ التَّخْيِيرِ بِشَرْطِ التَّحَرِّي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَتَا الْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ مِنْ الْمَاءِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَيْسَ لَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَاهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجَسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ ; لِأَنَّهُ أَيْ التَّيَمُّمَ أَوْ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ , وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ هَاهُنَا بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ لَمَّا أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوَضُّؤُ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي وَبِدُونِهِ فَهَذَا نَظِيرُ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ , وَنَظِيرُ تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَةُ الثَّوْبَيْنِ وَهِيَ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ وَلَيْسَ لَهُ ثَوْبٌ آخَرُ طَاهِرٌ وَلَا مَاءٌ يَغْسِلُهُمَا بِهِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِلسَّتْرِ بُدٌّ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَجَازَ لَهُ التَّحَرِّي لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِلشُّرْبِ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ(1/241)
الْعَطَشِ وَعَدَمِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَا خَلَفَ لَهُ فِي حَقِّ الشُّرْبِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي إقَامَةِ الشُّرْبِ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِلشُّرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ حَقِيقَةً عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالتَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ إصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ فِيهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ كَانَا نَجِسَيْنِ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِمَا وَلَوْ فَعَلَ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْخَلَفِ وَهُوَ التُّرَابُ وَفِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ لَوْ كَانَ كِلَاهُمَا نَجِسَيْنِ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي أَحَدِهِمَا وَيُجْزِيه وَذَلِكَ لِأَنَّ لَيْسَ لِلسَّتْرِ أَوْ لِلثَّوْبِ خَلَفٌ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ إصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ أَيْضًا .(1/242)
وَقَوْلُهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِالتَّحَرِّي الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ جَائِزٌ الْعَمَلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَاحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا إذَا وَجَدَ ثَوْبًا رُبْعُهُ طَاهِرٌ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالْعُدُولُ عَنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ فَاسِدٌ .(1/243)
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّحَرِّي وَوُجُوبِ التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ مَذْهَبُنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ تَحَرِّيه عَلَيْهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ; لِأَنَّ التُّرَابَ إنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ قَطْعًا وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ ; لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُصُولِ إلَى الطَّاهِرِ قَائِمٌ وَهُوَ التَّحَرِّي فَقِيَامُ الدَّلِيلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى بِتَوَضُّؤٍ بِالْمَاءِ الَّذِي تَحَرَّاهُ كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ وَجْهٍ وَمَتَى صَلَّى بِتَيَمُّمٍ كَانَتْ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَلَى أَصْلِهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى , وَإِنَّا نَقُولُ إنَّ التَّحَرِّيَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ التَّحْصِيلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , وَقَدْ أَمْكَنَهُ التَّحْصِيلُ بِالْخَلَفِ فَلَا يَكُونُ التَّحَرِّي مُعْتَبَرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , وَقَوْلُهُ إنَّهُ جُعِلَ خَلَفًا حَالَةَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْعَجْزَ عَنْهُ ثَابِتٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ إلَّا بِالتَّحَرِّي وَشَرْعُ الْخَلَفِ يَمْنَعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ حِلَّ الصَّلَاةِ بِتَيَمُّمٍ عُلِّقَ بِعَدَمِ ظُهُورٍ مُطْلَقٍ لَا بِعَدَمِ ظُهُورٍ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَصَارَ الْفَرْضُ أَنَّ الْخَصْمَ جَعْلُ الشَّرْعِ التَّحَرِّيَ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْخَلَفِيَّةِ لِلتُّرَابِ ; لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَثْبُتُ مَعَ التَّحَرِّي وَقُلْنَا التَّحَرِّي لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوَصِّلٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا(1/244)
اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَرُورَةِ فَقْدِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ فَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ خَلَفٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ ظُهُورَ حُجِّيَّةِ التَّحَرِّي فَيَثْبُتُ الْعَجْزُ فَإِذًا لَا يُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي حُجَّةً إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْخَلَفِ ; لِأَنَّ الْخَلَفَ أَقْوَى مِنْ التَّحَرِّي كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِأَبِي الْفَضْلِ .(1/245)
وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الطَّاهِرُ وَالنَّجِسُ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الْأَوَانِي الثَّلَاثَةِ نَجِسًا وَاثْنَانِ طَاهِرَانِ يَجِبُ التَّحَرِّي بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولَةٌ , ثُمَّ فِيمَا إذَا كَانَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ حَتَّى لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يُرِيقَ الْكُلَّ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ , وَإِنْ لَمْ يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ , وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يَخْلِطُ الْمَائِينَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْسَنُ ; لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يَسْقِيه دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانَ يَقُولُ يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا ; لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ الْحَدَثِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَقَاسَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا , وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَمُنَجِّسًا أَعْضَاءَهُ أَيْضًا خُصُوصًا(1/246)
رَأْسَهُ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَجِّسٍ , وَلِهَذَا لَوْ غُمِسَ الثَّوْبُ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .(1/247)
قَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ) عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبَيْنِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ يَعْمَلُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيْ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ , لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ إنَّ الصَّوَابَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ فَكَذَا الصَّوَابُ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جِهَةٍ صَوَابًا فِي انْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ , أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي مَوْضِعِهِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ إنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْ الظَّنَّيْنِ أَوْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا وَاحِدَةً , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بِإِيجَابِ التَّحَرِّي لِمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسَيْنِ حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ التَّحَرِّيَ صَارَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَا يُجْزِيه صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ , وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُ عَنْهُ
((1/248)
بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ ) ( النَّبِيِّ عليه السلام ) ( وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ) : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ قَالَ وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَقَالَ الْكَرْخِيُّ : لَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلَّدَ الْخُلَفَاءَ رضي الله عنهم وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله إنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رحمهما الله فِي الْحَامِلِ : إنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ : إنَّهُ ضَامِنٌ وَرَوَيَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالرَّأْيِ .
((1/249)
بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ) : ; لِأَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ السَّمَاعِ نَاسَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِآخِرِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ إذْ الشَّبَهُ بَعْدَ الْحَقِيقَةِ فِي الرُّتْبَةِ لَا خِلَافَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا كَانَ أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ حُجَّةٌ وَتَقْلِيدُهُ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِمَذْهَبِهِ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ , فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَهُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ لِيُسْتَدْرَكَ بِهِ عِلْمٌ أَوْ لِيُسْتَنْبَطَ وَآرَاؤُهُمْ أَوْلَى مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا ; لِأَنْفُسِنَا وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَى , فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما أَوْلَى وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْجِيحُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ وَالْأَكْبَرِ قِيَاسًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ عِلْمِهِ يُقَوِّي اجْتِهَادَهُ وَيُبْعِدُهُ عَنْ التَّقْصِيرِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا(1/250)
يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ عَلَى مَا يُشِيرُ تَقْرِيرُهُ فِي التَّقْوِيمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَيْ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَيْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً , وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَهَذَا اللَّفْظُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ , وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ التَّقْلِيدَ , وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ . وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ .(1/251)
وَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ يُخَالِفُ قَوْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ : قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : الْقِيَاسُ أَوْلَى وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدَ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَقَلَّدَ أَيْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَمْثَالِهِمْ أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ وَالتَّخْصِيصِ بِتَشْرِيفِ مِثْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهم وَمَنْ قَلَّدَ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَّدَ الشَّيْخَيْنِ لَا غَيْرُ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ أَقْرَانِهِ خِلَافُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ وَلَكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ . قَوْلُهُ ( وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا ) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رحمهم الله فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَذْهَبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِيهَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله فِي إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَيْ تَسْمِيَةِ مِقْدَارِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُشَارًا ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْعِبَارَةِ وَالتَّسْمِيَةِ .(1/252)
وَالْإِعْلَامُ بِالْعِبَارَةِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما خِلَافُهُ , فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله شَرَطَ الْإِعْلَامَ فِيمَا ذَكَرْنَا لِجَوَازِ السَّلَمِ وَقَالَ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رحمهما الله فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا غَيْرُ مَرْجُوٍّ إلَى زَمَانِ وَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مَرْجُوٍّ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ إلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَامَ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا مَقَامَ الطُّهْرِ أَوْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فِي كَوْنِهِ زَمَانَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ بِخِلَافِ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا مَرْجُوٌّ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الشَّهْرِ فِي حَقِّهَا مَقَامَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ , وَقَالَ مُحَمَّدٌ : رحمه الله لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رضي الله عنهم وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إلَّا بِالْعَمَلِ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ إنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا ضَاعَ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا , فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَرَقِ الْغَالِبِ وَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْعَامَّةِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَرَوَيَا ذَلِكَ أَيْ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه ,(1/253)
فَإِنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَيْ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِالرَّأْيِ فَقَالَ : إنَّهُ أَمِينٌ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا كَالْأَجِيرِ الْوَاحِدِ وَالْمُودِعِ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّمَانَ نَوْعَانِ : ضَمَانُ جَبْرٍ وَضَمَانُ شَرْطٍ لَا ثَالِثَ لَهُمَا , وَضَمَانُ الْجَبْرِ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ , وَضَمَانُ الشَّرْطِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ ; لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمَالِكِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً وَلَمْ يُوجَدْ عَقْدٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ أَيْضًا فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْهَلَاكِ كَالْوَدِيعَةِ .(1/254)
وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اقْتَدُوا بِاَلَّذِينً مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ وَقَدْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ هُوَ النِّهَايَةَ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ السُّنَّةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا وَشِبْهِهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ حُجَّةً وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ بِأَثَرِهِ الثَّابِتِ شَرْعًا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ عَامَّةً وُجُوهَ السُّنَنِ ثُمَّ مَالَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ إلَّا كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَجَعَلَ الِاحْتِيَاطَ مَدْرَجَةً إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ فَصَارَ الطَّرِيقُ الْمُتَنَاهِي فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا عَلَى الْكَمَالِ هُوَ طَرِيقَ أَصْحَابِنَا بِحَمْدِ اللَّهِ إلَيْهِمْ انْتَهَى الدِّينُ بِكَمَالِهِ وَبِفَتْوَاهُمْ قَامَ الشَّرْعُ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِخِصَالِهِ لَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَانِحٍ وَالشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ لَا يَجْمَعُهَا كُلُّ طَالِبٍ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ قَائِلِهِ فَسَكَتَ مُسَلِّمًا لَهُ , فَأَمَّا إذَا(1/255)
اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَقْوَالِهِمْ لَا يَعْدُوهُمْ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ بِالتَّعَارُضِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ سَقَطَ احْتِمَالُ التَّوْقِيفِ وَتَعَيَّنَ وَجْهُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ تَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ كَتَعَارُضِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ , وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِأَيِّهَا شَاءَ الْمُجْتَهِدُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا غَيْرُ ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ(1/256)
قَوْلُهُ ( وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ ) أَيْ وَمَنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عليه السلام { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ أَيْ اخْتِصَاصِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ بِفَضَائِلَ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ . وَكَلِمَةُ " مِنْ " فِي " مِمَّا " بَيَانٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَفِي مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ بَيَانٌ بِمَا رُوِيَ يَعْنِي لِلتَّمَسُّكِ وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ } { وَلِكُلِّ شَيْءٍ فَارِسٌ وَفَارِسُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ } { وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ } لَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُوجِبُ نَفْسَ الْفَضِيلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بِلَالٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَإِنَّ الْجَنَّةَ إلَى سَلْمَانَ أَشْوَقُ مِنْ سَلْمَانَ إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى زُهْدِ عِيسَى فَلْيَنْظُرْ إلَى زُهْدِ أَبِي ذَرٍّ } وَأَمْثَالُهَا .(1/257)
قَوْلُهُ ( وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ لَهُمْ هَذَا الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ إلَى رَأْيِهِمْ دُونَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ , فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ , فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } اتَّبَعُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَقِيلَ : يَقْتَدُونَ بِأَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ وَلَا يَقْتَدُونَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقِيلَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَيَذْكُرُونَ مَحَاسِنَهُمْ .(1/258)
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ احْتِمَالَ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثَابِتٌ بَلْ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالْخَبَرِ , وَإِنَّمَا يُفْتِي بِالرَّأْيِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَيُشَاوِرُ مَعَ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ , فَإِذَا لَمْ يَجِدْ اشْتَغَلَ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ السَّمَاعُ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَاحِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَصْلًا فِيهِمْ فَلَا يَجْعَلُ فَتْوَاهُمْ مُنْقَطِعَةً عَنْ السَّمَاعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَوْلُهُ ( وَكَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ مُبِينًا عَلَى السَّمَاعِ لَأَسْنَدَهُ إلَى النَّبِيِّ وَقَالَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ كِتْمَانُ مَا بُلِّغَ إلَيْهِمْ وَلَمَّا لَمْ يُسْنِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَقَالَ : قَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ كَمَا كَانُوا يُسْنِدُونَهُ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكِتْمَانِ إذْ الْوَاجِبُ بَيَانُ الْحُكْمِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَا غَيْرُ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْحُكْمِ فح يَجِبُ الْإِسْنَادُ , وَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يُوَافِقُهُ وَيُقِرُّهُ فَكَانَ(1/259)
تَقْدِيمُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الرَّأْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ . وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ : إنْ كَانَ صَادِرًا عَنْ الرَّأْيِ فَرَأْيُ الصَّحَابَةِ أَقْوَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا طَرِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَشَاهَدُوا الْأَحْوَالَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا النُّصُوصُ وَالْمَحَالَّ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِاعْتِبَارِهَا الْأَحْكَامُ وَلِأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةَ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ مَجْهُودِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ تَثْبِيتُ قِوَامِ الدِّينِ وَزِيَادَةَ احْتِيَاطٍ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَطَلَبِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ غَايَةَ التَّأَمُّلِ وَفَضْلَ دَرَجَةٍ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ } .(1/260)
وَقَوْلِهِ { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَقَوْلِهِ عليه السلام { أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي وَأَصْحَابِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي إصَابَةِ الرَّأْيِ وَكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ فَبِهَذِهِ الْمَعَانِي تَرَجَّحَ رَأْيُهُمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الرَّأْيَيْنِ إذَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ رَأْيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَرَأْيِ الْوَاحِدِ مِنَّا يَجِبُ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ عَلَى رَأْيِنَا لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي رَأْيِهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَظَهَرَ لِاتِّحَادِ مَكَانِهِمْ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَمُشَاوَرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ قُرَنَائَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ , وَلَوْ ظَهَرَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَوَصَلَ إلَيْنَا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لِنَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ يَجِبُ الْعَمَلُ قَطْعًا , فَإِذَا تَرَجَّحَ جِهَةُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقِيَاسٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِمَا ذَكَرْنَا خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ; لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَتْ(1/261)
الدَّلَائِلُ الْمُحْتَمَلَةُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا وَقَعَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَظْهَرْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافُ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ . , وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي مَرَّتْ .(1/262)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ , وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَمَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا كَانَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الرَّأْيِ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ , فَإِنَّهُ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ عَرَفَ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعَامِّيَّ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ الْمَعْنِيِّ الْمُجْتَهِدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله لَا يَدَعُ الْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَفِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ مِنَّا وَالْمُجْتَهِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ لَا يَخْفَى فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعُوا مِنْهُ , وَإِنَّمَا انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .(1/263)
, فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّحَابِيِّ لِلنَّصِّ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا : إنَّ التَّأْوِيلَ يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوهِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَلَا مِزْيَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْ مَعَانِي اللِّسَانِ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ , فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَمُّلُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلِأَجْلِهِ يَظْهَرُ لَهُمْ الْمِزْيَةُ بِمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ أُمُورٌ بَاطِنَةٌ , وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مُسْتَقِيمٌ عِنْدَنَا وَلَكِنْ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْبَاطِنِ فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ اعْتِبَارَهُمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَفِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ اعْتِبَارُهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى كَذَا قَرَّرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله .(1/264)
قَوْلُهُ ( فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ ) أَيْ إيجَابُ مُتَابَعَةِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْلِيدِهِمْ أَوْ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي بَابِ السُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ رِوَايَةً وَالْمَعْرُوفِ وَالْمَجْهُولِ وَإِيجَابِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ لِلسُّنَّةِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ وَالْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ وَغَيْرِهَا وَشَبَهِهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ أَيْ ثُمَّ يَكُونُ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ وَهِيَ الْإِحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالطَّرْدُ وَالْقِيَاسُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ حُجَّةً بَعْدَ جَمِيعِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ وَشَبَهِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَامَّةَ وُجُوهِ السُّنَنِ , فَإِنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الْأُولَى مَعَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عليه السلام لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ إعْرَاضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةُ السَّمَاعِ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ أَيْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ أَيْ لَمْ يُجَوِّزْ الْعَمَلَ بِهِ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثْلُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ الظَّاهِرِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَجَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الِاحْتِيَاطَ , فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ وَرِوَايَةَ الْمَجْهُولِ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ احْتِيَاطًا مَدْرَجَةً أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَفِي أَصْلِهِ(1/265)
شُبْهَةٌ أَيْ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ شُبْهَةٌ فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْلَى أَوْ جَعْلِهِ وَسِيلَةً إلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ نَفْسُ الْقِيَاسِ , وَإِنَّهُ مُظْهِرٌ وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ وَفِي أَصْلِهِ شَبَهٌ أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِهَا قَامَ الشَّرْعُ بِخِصَالِهِ أَيْ مُلْتَبِسًا بِخِصَالِهِ وَهِيَ مَحَاسِنُهُ وَأَحْكَامُهُ .(1/266)
فَإِنْ قِيلَ : إنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ شُبْهَةَ السَّمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ قَدَّمْتُمْ الْقِيَاسَ عَلَى حَقِيقَةِ السَّمَاعِ فِي حَدِيثِ الْمُصِرَّاتِ وَأَمْثَالِهِ مَعَ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْعَدَالَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ , وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ , فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ كُلِّ صَحَابِيٍّ وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو الْحَسَنِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فِي شَرْحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَفِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ , وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ(1/267)
عِنْدَنَا وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ } أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ أَيْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ فُقَهَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَى احْتِمَالِ السَّمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا إذَا رُوِيَ خَبَرٌ أَوْ عَلَى احْتِمَالِ عَدَمِهِ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا تَنَاقُضَ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا كَانَ مُقَدَّمًا فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ فَقِيهٍ إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ بِقَوْلِهِ بَابُ الرَّأْيِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ لَزِمَ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الرَّأْيِ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا إلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا الْعَلَامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَقَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كَذَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابِيِّ قَوْلٌ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تَحْتَمِلْ الِاشْتِهَارَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ بِهَا الْبَلْوَى وَالْحَاجَةُ لِلْكُلِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَا اُشْتُهِرَ عَادَةً(1/268)
ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي حَادِثَةٍ مِنْ حَقِّهَا الِاشْتِهَارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا تَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ بِأَنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ وَالْبَلْوَى يَعُمُّ الْعَامَّةَ وَاشْتُهِرَ مِثْلُهَا فِيمَا بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ فَهَذَا إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .(1/269)
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ وَلَا إنْكَارٌ وَرَدٌّ إذْ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ كَانَ إجْمَاعًا فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ رَدٌّ , وَإِنْكَارٌ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ أَوْ الْعَمَلَ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ بِأَيِّهَا شَاءَ وَعَدَمُ جَوَازِ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ أَيْ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فَوَجَبَ نَقْضُ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ كَانَ أُسْوَةً أَيْ مِثْلُ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ يُقَالُ : هُمْ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْ مُتَسَاوُونَ وَذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْأُسْوَةَ بِمَعْنَى التَّبَعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ .
وفي تبيين الحقائق :(1/270)
قَالَ رحمه الله ( وَأَكْثَرُ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ كُلَّ جِنْسٍ إلَى جِنْسِهِ فَيُقَرِّبُ لِلْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ أَوْ لِلْمُحْصَنِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صَرْفًا لِكُلِّ نَوْعٍ وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ مُضْطَرِبٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } فَيُعَزَّرُ مِنْ غَيْرِ تَبْلِيغِهِ حَدًّا بِالْإِجْمَاعِ غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ أَدْنَى الْحُدُودِ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ مُطْلَقَ مَا رَوَيْنَا يَتَنَاوَلُهُ وَأَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَدَّ الْأَحْرَارِ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْأُصُولُ وَأَقَلُّهُ ثَمَانُونَ فَنَقَصَ عَنْهُ سَوْطًا وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةً رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ فَعَلَهُ فَقَلَّدَهُ أَوْ اُعْتُبِرَ نَفْسُ الْجُرْمِ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجُرْمِ كَالْحَدِّ فَقَرُبَ الْجُرْمُ الْكَبِيرُ مِنْ أَكْثَرِ الْحَدِّ وَهُوَ مِائَةٌ وَالصَّغِيرُ مِنْ الْأَقَلِّ وَهُوَ ثَمَانُونَ سَوْطًا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْأَرْبَعِينَ .(1/271)
قَالَ رحمه الله ( وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ) أَيْ أَقَلُّ التَّعْزِيرِ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَلَا مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقَيِّمُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا تَفَاصِيلَهُ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .(1/272)
قَالَ رحمه الله ( وَصَحَّ حَبْسُهُ بَعْدَ الضَّرْبِ ) أَيْ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَهُ بَعْدَ مَا ضَرَبَهُ لِتَعْزِيرِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ لِمَا رَوَيْنَا وَقَدْ لَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الضَّرْبِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَضُمَّ الْحَبْسَ إلَيْهِ إذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصْلُحُ تَعْزِيرًا ابْتِدَاءً حَتَّى جَازَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ بِالتُّهْمَةِ فِي التَّعْزِيرِ لِكَوْنِهِ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَيَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّحَقُّقِ فَإِذَا صَلَحَ تَعْزِيرًا ابْتِدَاءً وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ جَازَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الضَّرْبِ مَا تَجُوزُ زِيَادَةُ الضَّرَبَاتِ فِيهِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ إلَيْهِ قَالَ رحمه الله ( وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ ) لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ وَيَتَّقِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُتَّقَى فِي الْحُدُودِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَضْرِبُ فِيهِ الظَّهْرَ وَالْأَلْيَةَ فَقَطْ ثُمَّ ذُكِرَ فِي حُدُودِ الْأَصْلِ تَفْرِيقُ التَّعْزِيرِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَفِي أَشْرِبَةِ الْأَصْلِ يُضْرَبُ فِي التَّعْزِيرِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ رِوَايَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَمَوْضُوعُ الْأَوَّلِ إذَا بَلَغَ بِالتَّعْزِيرِ أَقْصَاهُ وَمَوْضُوعُ الثَّانِي إذَا لَمْ يَبْلُغْ .
((1/273)
قَوْلُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ ) يَعْنِي فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ لَا فِي الْعَبِيدِ عَلَى مَا سَيَأْتِي آخِرَ الْمَقَالَةِ ا هـ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ . ا هـ . كَاكِيٌّ ( قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ ) أَيْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ . ا هـ . هِدَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَلَغَ حَدًّا } ) الرِّوَايَةُ بَلَغَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلُ خَطَأٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ الْحَدَّ فِي غَيْرِ الْحَدِّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ وَلَوْ قِيلَ بَلَّغَ بِالتَّشْدِيدِ لَصَارَ الْمَعْنَى مَنْ بَلَّغَ الْحَدَّ إلَى غَيْرِ الْحَدِّ وَلَا خَفَاءَ فِي بُطْلَانِهِ وَلَوْ قَدَّرْت الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ مَحْذُوفًا لَاحْتَمَلَ الصِّحَّةَ أَيْ بَلَغَ التَّعْزِيرُ حَدًّا وَيَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } أَيْ بَلِّغْ النَّاسَ . ا هـ .(1/274)
مُسْتَصْفَى قَالَ الْأَتْقَانِيُّ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَ صَاحِبُ الْأَجْنَاسِ عَنْ حُدُودِ الْأَصْلِ لَا يُمَدُّ فِي التَّعْزِيرِ , وَيُضْرَبُ وَالْمَضْرُوبُ قَائِمًا أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَا يَبْلُغُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ بِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَالَ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا لَكِنَّ هَذَا فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ أَمَّا فِي تَعْزِيرِ الْعَبْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُنْقِصَ خَمْسَةً عَنْ أَرْبَعِينَ كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةٍ قَوْلُهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ كَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَلِفِ وَقَوْلُ زُفَرَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ هَكَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَوْلَ زُفَرَ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ الْأَصْلُ هُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } مَعْنَاهُ مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِيمَا لَيْسَ بِحَدٍّ يَعْنِي فِي التَّعْزِيرِ إذَا بَلَغَ حَدًّا فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ أَيْ مِنْ الْمُجَاوِزِينَ فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدِ الْجَلْدِ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ الْحَدِّ وَذَلِكَ يَحْصُلُ(1/275)
بِنُقْصَانِ سَوْطٍ عَنْ الْأَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام { مَنْ بَلَغَ حَدًّا } بِلَفْظِ النَّكِرَةِ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَدِّ وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ لِأَنَّهُ أَدْنَى حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ حَدَّ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الرِّقَّ عَارِضٌ فَنَقَصَ سَوْطًا عَنْهُ عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ عَنْ الثَّمَانِينَ سَوْطًا وَلَا فِقْهَ فِيهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ قَالُوا إنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يُعَزِّرُ رَجُلًا وَقَدْ أَمَرَ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَكَانَ يَعْقِدُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ عَقْدًا بِأُصْبُعِهِ فَعَقَدَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَمْ يَعْقِدْ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ الْخَمْسَةِ فَظَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ وَكَانَ يَعْرِفُ يُضْرَبُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِهَذَا وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي هَذَا نَقْلٌ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَعْتَبِرْ أَبُو حَنِيفَةَ التَّعْزِيرَ بِحَدِّ الْعَبْدِ وَقِيلَ إنَّ نُقْصَانَ الْخَمْسَةِ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا لِأَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالنِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْعَبِيدِ وَأَكْثَرُ حَدِّ الْأَحْرَارِ مِائَةٌ وَأَكْثَرُ حَدِّ الْعَبِيدِ خَمْسُونَ فَأَخَذَ نِصْفًا مِنْ هَذَا وَنِصْفًا مِنْ هَذَا قُلْت(1/276)
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِائَةَ حَدُّ هَذَا وَالْخَمْسُونَ حَدُّ ذَاكَ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ التَّعْزِيرِ بِتَنْصِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّنْصِيفِ جَزْمًا لَا سِيَّمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا دَلِيلَ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ أَكْثَرِ الْحَدَّيْنِ وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ عِنْدِي لِتَيَقُّنِ الْأَقَلِّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَخَذَ بِقَوْلِ زُفَرَ وَعَلَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ نِصْفُ الْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ عَمَّتْ ( قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ ) الرِّوَايَةُ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ وَلِلتَّشْدِيدِ وَجْهٌ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ أَيْ مَنْ بَلَغَ التَّأْدِيبَ أَوْ بَلَغَ الضَّرْبَ حَدًّا فِيمَا لَيْسَ بِحَدٍّ أَيْ فِي التَّعْزِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مَنْ بَلَغَ التَّعْزِيرَ حَدًّا وَذَلِكَ مُلَوِّثٌ لِلصِّمَاخِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدٍّ التَّعْزِيرُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَنْ بَلَغَ التَّعْزِيرَ حَدًّا فِي التَّعْزِيرِ فَيَرِدُ مَا قُلْنَا ا هـ مَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ ( فُرُوعٌ ) رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا مُنَافِقُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ أَوْ يَا حِمَارُ أَوْ يَا لِصُّ أَوْ يَا لُوطِيُّ أَوْ يَا آكِلَ الرِّبَا أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ أَوْ يَا دَيُّوثُ أَوْ يَا(1/277)
مُخَنَّثُ أَوْ يَا خَائِنُ أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ أَوْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُوجَبُ فِيهِ التَّعْزِيرَ أَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ قَالَ لَهُ يَا زَانِي أَوْ أَمَةٌ ادَّعَتْ أَنَّهُ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ أَوْ ادَّعَى أَمْرًا يَجِبُ فِيهِ الْأَدَبُ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ضَرَبَنِي أَوْ شَتَمَنِي أَوْ لَطَمَنِي وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَّفَهُ الْقَاضِي لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِبْرَاءُ وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ وَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي وَلَا يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِالْإِقَامَةِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يُؤَدِّبُ الْمَرْأَةَ وَالْمَوْلَى يُؤَدِّبُ الْعَبْدَ وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْهَاهُ وَيَمْنَعَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَيَضْرِبَهُ إنْ كَانَ لَا يَنْزَجِرُ بِالْمَنْعِ بِاللِّسَانِ فَيَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ قَاضِي خَانْ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى قُبَيْلَ بَابِ مَا يُبْطِلُ دَعْوَى الْمُدَّعِي قَوْلُهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَّفَهُ الْقَاضِي أَيْ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ ذَكَرَهُ الْعِمَادِيُّ فِي الْفَصْلِ وَتَمَامُهُ فِيهِ ا هـ .
وفي شرح التلويح على التوضيح :
( فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا مُسَلِّمِينَ , وَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا ثَبَتَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ , وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا )(1/278)
, وَهُوَ مَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُهُمْ , وَلَا اخْتِلَافُهُمْ . ( فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى لَا يَجِبُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْفَعْهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ , وَفِي الِاجْتِهَادِ هُمْ وَسَائِرُ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ ) لِعُمُومِ قوله تعالى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ; وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ . ( وَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَجِبُ لِقَوْلِهِ : عليه السلام { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ إنْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي } ) تَمَامُ الْحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . ( وَلِأَنَّ أَكَثَرَ أَقْوَالِهِمْ مَسْمُوعٌ مِنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ , وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَرَأْيُهُمْ أَصْوَبُ ; لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مَوَارِدَ النُّصُوصِ وَلِتَقَدُّمِهِمْ فِي الدِّينِ , وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَكَوْنِهِمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ , وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ يَجِبُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا السَّمَاعُ أَوْ الْكَذِبُ . وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لَا فِيمَا يُدْرَكُ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ مَشْهُورٌ , وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ , وَيُصِيبُ , وَالِاقْتِدَاءُ فِي الْبَعْضِ بِمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ : الِاقْتِدَاءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ نُقَلِّدَهُمْ , وَنَأْخُذَ بِقَوْلِهِمْ ( وَفِي الْبَعْضِ ) أَيْ : فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ( بِأَنْ نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ ) أَيْ : فِي الِاجْتِهَادِ ( وَنَجْتَهِدَ كَمَا اجْتَهَدُوا ) , وَهَذَا اقْتِدَاءٌ أَيْضًا , وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ : عليه السلام { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ } . ((1/279)
وَأَيْضًا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ , وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَالصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ ; لِأَنَّهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ إيَّاهُ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ كَشُرَيْحٍ خَالَفَ عَلِيًّا رضي الله عنه وَرَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ ) وَكَانَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ . ( وَابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ) وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ إذْ هِيَ الدِّيَةُ فَرَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ , وَهِيَ أَنْ يَجِبَ ذَبْحُ شَاةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا ) مَحَلُّ الْخِلَافِ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ . ( قَوْلُهُ : وَأَمَّا التَّابِعِيُّ ) مَا ذَكَرَهُ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ , وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَقْلِيدَ إذْ هُمْ رِجَالٌ , وَنَحْنُ رِجَالٌ بِخِلَافِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَزِيَادَةِ الْإِصَابَةِ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِقَوْلِ التَّابِعِيِّ . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابِيِّ حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى لَا يُعْتَدُّ بِهِ
((1/280)
بَابُ ) الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ إذَا وَرَدَ دَلِيلَانِ يَقْتَضِي أَحَدُهُمْ عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَسَاوَيَا قُوَّةً , أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ فَبَيْنَهُمَا الْمُعَارَضَةُ وَالْقُوَّةُ الْمَذْكُورَةُ رُجْحَانٌ , وَإِنْ كَانَ أَقْوَى بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ لَا يُسَمَّى رُجْحَانًا , فَلَا يُقَالُ النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ : عليه الصلاة والسلام { زِنْ وَأَرْجِحْ } . ( وَالْمُرَادُ الْفَضْلُ الْقَلِيلُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الرِّبَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا ) ; لِأَنَّهُ لِقِلَّتِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَابِلِ . ( وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْآخَرِ وَاجِبٌ فِي الصُّورَتَيْنِ ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ وَفِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ ( وَإِذَا تَسَاوَيَا قُوَّةً ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ كَالنَّصِّ مَعَ الْقِيَاسِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى يُوصَفُ بِمَا هُوَ تَابِعٌ كَمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ فَقِيهٌ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ غَيْرُ فَقِيهٍ .(1/281)
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ قُوَّةً فَفِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْآخَرِ وَاجِبٌ , وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَأْتِي حُكْمُهُ هُنَا , وَهُوَ قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ , وَإِذَا تَسَاوَيَا قُوَّةً فَالْمُعَارَضَةُ تَخْتَصُّ بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِمَعْزِلٍ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَاجِبًا لَكِنْ لَا يُسَمَّى هَذَا تَرْجِيحًا فَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ فَيَخْتَصُّ بِالْقِسْمِ الثَّانِي . ( فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ) أَيْ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ السُّنَّةَ ( يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى فَسْخِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ إذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْجَهْلِ ) . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقِيقَةَ التَّعَارُضِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إذَا اتَّحَدَ زَمَانُ وُرُودِهِمَا , وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّارِعَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مُنَزَّهٌ عَنْ تَنْزِيلِ دَلِيلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يُنَزِّلُ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ مُتَأَخِّرًا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لَكِنَّا لَمَّا جَهِلْنَا الْمُتَقَدِّمَ وَالْمُتَأَخِّرَ تَوَهَّمْنَا التَّعَارُضَ لَكِنْ فِي الْوَاقِعِ لَا تَعَارُضَ . فَقَوْلُهُ : يُحْمَلُ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّعَارُضِ وَالْمُرَادُ صُورَةُ التَّعَارُضِ وَهِيَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ . ((1/282)
فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ ) جَوَابٌ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ ( وَإِلَّا يُطْلَبْ الْمُخَلِّصُ ) أَيْ يَدْفَعُ الْمُعَارَضَةَ ( وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ وَيُسَمَّى عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ فَإِنْ تَيَسَّرَ فِيهَا وَإِلَّا يُتْرَكْ وَيُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ وَمِنْهَا إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَإِلَّا يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأَصْلِ عَلَى مَا كَانَ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآثَارِ ) رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ نَجِسٌ , وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ طَاهِرٌ , وَأَيْضًا قَدْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ فِي حُرْمَةِ لَحْمِهِ وَحِلِّهِ , فَلَمَّا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ , وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا فَيَكُونُ طَاهِرًا , وَلَا يُزِيلُ الْحَدَثَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ , فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ . ((1/283)
وَهُوَ ) أَيْ التَّعَارُضُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ( إمَّا بَيْنَ آيَتَيْنِ , أَوْ قِرَاءَتَيْنِ , أَوْ سُنَّتَيْنِ , أَوْ آيَةٍ , أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ وَالْمُخَلِّصُ إمَّا مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ وَالْمَحَلِّ , أَوْ الزَّمَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يُوَزَّعَ الْحُكْمُ كَقِسْمَةِ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْمُدَّعِينَ , أَوْ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغَايُرِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } الْآيَةَ اللَّغْوُ فِي الْأُولَى ضِدُّ كَسْبِ الْقَلْبِ ) أَيْ السَّهْوُ . ( بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِهِ ) أَيْ بِكَسْبِ الْقَلْبِ حَيْثُ قَالَ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ( وَفِي الثَّانِيَةِ ضِدُّ الْعَقْدِ ) أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ : قوله تعالى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } بِاللَّغْوِ ضِدِّ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِالْعَقْدِ . ((1/284)
وَالْعَقْدُ قَوْلٌ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فَاللَّغْوُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ وَقَدْ جَاءَ اللَّغْوُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ فَاللَّغْوُ يَكُونُ شَامِلًا لِلْغَمُوسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتَقْتَضِي هَذِهِ الْآيَةُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَمُوسِ وَالْآيَةُ الْأُولَى تَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْغَمُوسِ ; لِأَنَّ الْغَمُوسَ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ وَالْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةٌ فِي كَسْبِ الْقَلْبِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فِي الْغَمُوسِ , وَهَذَا مَا قَالَهُ فِي الْمَتْنِ . ( فَاللَّغْوُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ يَشْمَلُ الْغَمُوسَ إذْ هُوَ مَا يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ كَقَوْلِهِ : تَعَالَى : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } : وقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } فَأَوْجَبَ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْأُولَى فِي الْآخِرَةِ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ وَفِي الثَّانِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَيْ بِالْكَفَّارَةِ فَقَالَ فَكَفَّارَتُهُ . وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى يَحْمِلُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الثَّانِيَةِ أَيْ فِي الدُّنْيَا ) أَيْ يَحْمِلُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ . ((1/285)
وَالْعَقْدَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْأُولَى ) أَيْ يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى الْعَقْدَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ حَتَّى يَكُونَ اللَّغْوُ هُوَ عَيْنُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى , وَهُوَ السَّهْوُ , فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ وَاقِعًا لَكِنْ مَا قُلْنَا أَوْلَى مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ مُجْرًى عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَأَيْضًا الدَّلِيلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا بِكَسْبِ الْقَلْبِ , وَهُوَ يَحْمِلُهَا عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ , وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِنَّ اللَّغْوَ جَاءَ لِمَعْنَيَيْنِ فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ وَتُحْمَلُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الدُّنْيَوِيَّةِ , أَوْ الْأُخْرَوِيَّةِ . ( وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا وَاللَّغْوُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ , وَهُوَ ضِدُّ الْكَسْبِ ; لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَمُوسِ وَالْمُؤَاخَذَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ سَكَتَ عَنْ الْغَمُوسِ وَذَكَرَ الْمُنْعَقِدَةَ وَاللَّغْوَ وَقَالَ الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْكَفَّارَةُ ) هَذَا وَجْهٌ وَقَعَ فِي خَاطِرِي لِدَفْعِ التَّعَارُضِ .(1/286)
وَاللَّغْوُ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ , وَهُوَ السَّهْوُ أَمَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَبِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ , وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الْخَالِي عَنْ الْفَائِدَةِ الَّذِي يَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَعْنِي الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَقُولَ : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالسَّهْوِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ ; لِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ وَالْمُؤَاخَذَةِ . وَقَوْلُهُ : { فَكَفَّارَتُهُ } لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ السِّتَارَةُ أَيْ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِالْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ السَّهْوِ وَعَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمُنْعَقِدَةِ وَهِيَ سَاكِتَةٌ عَنْ الْغَمُوسِ فَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِنَا , وَهُوَ عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ . ((1/287)
وَأَمَّا الثَّانِي ) وَهُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْمَحَلِّ ( فَبِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغَايُرِ الْمَحَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فَبِالتَّخْفِيفِ يُوجِبُ الْحِلَّ بَعْدَ الطُّهْرِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ وَبِالتَّشْدِيدِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ فَحَمَلْنَا الْمُخَفَّفَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَالْمُشَدَّدَ عَلَى الْأَقَلِّ ) وَإِنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْعَكْسِ ; لِأَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ الْكَامِلَةُ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْعَوْدِ , وَإِذَا طَهُرَتْ لِأَقَلَّ مِنْهَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ , فَلَمْ تَحْصُلْ الطَّهَارَةُ الْكَامِلَةُ فَاحْتِيجَ إلَى الِاغْتِسَالِ لِتَتَأَكَّدَ الطَّهَارَةُ . ( وَأَمَّا الثَّالِثُ ) أَيْ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ ( فَإِنَّهُ إذَا كَانَ صَرِيحَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ يَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَا إنْ كَانَ دَلَالَتُهُ كَنَصَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُحَرِّمٌ وَالْآخَرُ مُبِيحٌ يُجْعَلُ الْمُحَرِّمُ نَاسِخًا ; لِأَنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ وَالْمُبِيحُ وَرَدَ لِإِبْقَائِهِ ثُمَّ الْمُحَرِّمُ نَسَخَهُ , وَلَوْ جَعَلْنَا عَلَى الْعَكْسِ يَتَكَرَّرُ النَّسْخُ ) أَيْ لَوْ قُلْنَا إنَّ الْمُحَرِّمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُبِيحِ فَالْمُحَرِّمُ كَانَ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ثُمَّ الْمُبِيحُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُحَرِّمِ فَيَتَكَرَّرُ النَّسْخُ , فَلَا يَثْبُتُ التَّكْرَارُ بِالشَّكِّ وَفِيهِ نَظَرٌ ( لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا , فَلَا تَكُونُ الْحُرْمَةُ بَعْدَهُ نَسْخًا ) .(1/288)
وَبَيَانُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لَكَانَ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ نَاسِخًا لَهَا إنْ قَدْ وَرَدَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ دَالٌّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْمُحَرِّمِ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْمُبِيحِ لَكِنْ وَرَدَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ غَيْرَ مُسَلَّمٍ , فَلَا يَكُونُ الْمُحَرِّمُ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْمُبِيحِ لِمَا عَرَفْت مِنْ تَعْرِيفِ النَّسْخِ وَيُمْكِنُ إتْمَامُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا النَّظَرُ , وَهُوَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَعَ الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُرُودِ مَا يُحَرِّمُهُ , أَوْ يُبِيحُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فَإِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إنْ انْتَفَعَ بِمَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ وُرُودِ مُحَرِّمِهِ , أَوْ مُبِيحِهِ لَا يُعَاقَبُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْمُحَرِّمُ فَقَدْ غَيَّرَ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ , وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ ثُمَّ إذَا وَرَدَ الْمُبِيحُ فَقَدْ نَسَخَ ذَلِكَ الْمُحَرِّمَ فَيَلْزَمُ مِنَّا تَغْيِيرَانِ وَأَمَّا عَلَى الْعَكْسِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ فَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ فَتَقَرَّرَ الدَّلِيلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ , أَوْ نَقُولُ عَنَيْنَا بِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى لَا النَّسْخَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ .(1/289)
وَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رحمه الله تعالى هَذَا أَيْ تَكَرُّرَ النَّسْخِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا هَذَا أَيْ كَوْنُ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُحَرِّمُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَوُقُوعِ التَّحْرِيفَاتِ فِي التَّوْرَاةِ , فَلَمْ يَبْقَ الِاعْتِمَادُ وَالْوُثُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ , وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُحَرِّمٌ , وَلَا مُبِيحٌ .
((1/290)
قَوْلُهُ : بَابُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ ) لَمَّا كَانَتْ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ قَدْ تَتَعَارَضُ , فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِهَا إلَّا بِالتَّرْجِيحِ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ جِهَاتِهِ عَقِبَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ بِمَبَاحِثِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ تَتْمِيمًا لِلْمَقْصُودِ , وَتَعَارُضُ الدَّلِيلَيْنِ كَوْنُهُمَا بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا ثُبُوتَ أَمْرٍ وَالْآخَرُ انْتِفَاءَهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ , أَوْ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ . وَاحْتَرَزَ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ عَمَّا يَقْتَضِي حِلَّ الْمَنْكُوحَةِ وَحُرْمَةَ أُمِّهَا وَبِاتِّحَادِ الزَّمَانِ عَنْ مِثْلِ حِلِّ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ قَبْلَ الْحَيْضِ وَحُرْمَتِهِ عِنْدَ الْحَيْضِ وَبِالْقَيْدِ الْأَخِيرِ عَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِالذَّاتِ كَالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ اقْتِضَاءُ أَحَدِهِمَا عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِيجَابُ وَارِدًا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّفْيُ , فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ لِتَغَايُرِ حِلِّ الْمَنْكُوحَةِ وَحِلِّ أُمِّهَا , وَكَذَا الْحِلُّ قَبْلَ الْحَيْضِ , وَعِنْدَهُ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ أُمُورٍ أُخْرَى مِثْلَ اتِّحَادِ الْمَكَانِ وَالشَّرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ .(1/291)
وَجَوَابُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ وَتَنْصِيصٍ عَلَى مَا هُوَ مِلَاكُ الْأَمْرِ فِي بَابِ التَّنَاقُضِ , فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْدَفِعُ التَّرْجِيحُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ , ثُمَّ التَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْقَطْعِيَّيْنِ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْمُتَنَافِيَيْنِ , وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ ; لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّفَاوُتِ فِي احْتِمَالِ النَّقِيضِ , فَلَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الظَّنِّيَّيْنِ . وَفِي قَوْلِهِ : فَإِنْ تَسَاوَيَا قُوَّةً إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ هُوَ التَّوَقُّفُ وَجَعْلُ الدَّلِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ لَا يُلْزِمُ اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ , أَوْ ارْتِفَاعَهُمَا , أَوْ التَّحَكُّمَ كَمَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ . وَالتَّرْجِيحُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا أَيْ فَاضِلًا زَائِدًا وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ .(1/292)
وَفِي الِاصْطِلَاحِ بَيَانُ الرُّجْحَانِ أَيْ الْقُوَّةِ الَّتِي لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : هُوَ اقْتِرَانُ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ بِأَمْرٍ يَقْوَى بِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ وَاشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا حَتَّى لَوْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ لَهُ لَا يَكُونُ رُجْحَانًا , فَلَا يُقَالُ : النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ لِعَدَمِ التَّعَارُضِ , وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ , وَهُوَ إظْهَارُ زِيَادَةِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا لَا أَصْلًا مِنْ قَوْلِك رَجَّحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْت جَانِبَ الْمَوْزُونِ حَتَّى مَالَتْ كِفَّتُهُ , فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ التَّمَاثُلِ أَوَّلًا , ثُمَّ ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ وَالْوَصْفِ بِحَيْثُ لَا تَقُومُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ ابْتِدَاءً , وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَزْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ قَصْدًا فِي الْعَادَةِ .(1/293)
قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله تعالى : لَا تُسَمَّى زِيَادَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ رُجْحَانًا ; لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقُومُ بِهِ لَا أَصْلًا وَتُسَمَّى زِيَادَةُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا رُجْحَانًا ; لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَقُومُ بِهَا عَادَةً , وَهَذَا مِنْ { قَوْلِهِ : عليه الصلاة والسلام لِلْوَزَّانِ حِينَ اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ : زِنْ وَأَرْجِحْ , فَإِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ } فَمَعْنَى أَرْجِحْ زِدْ عَلَيْهِ فَضْلًا قَلِيلًا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ كَزِيَادَةِ الْجَوْدَةِ لَا قَدْرًا يُقْصَدُ بِالْوَزْنِ عَادَةً لِلُزُومِ الرِّبَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً لِبُطْلَانِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ جَعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْدَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى ; لِأَنَّهُ أَوْفَى بِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ . ( قَوْلُهُ : وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى ) يَعْنِي إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ وَالْآخَرُ عَلَى انْتِفَائِهِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ , أَوْ لَا وَعَلَى الثَّانِي إمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ , أَوْ لَا فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى مُعَارَضَةٌ , وَلَا تَرْجِيحَ . وَفِي الثَّانِيَةِ مُعَارَضَةٌ مَعَ تَرْجِيحٍ .(1/294)
وَفِي الثَّالِثَةِ لَا مُعَارَضَةَ حَقِيقَةً , فَلَا تَرْجِيحَ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّعَارُضِ الْمُنْبِئِ عَنْ التَّمَاثُلِ , وَحُكْمُ الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْأَقْوَى وَيُتْرَكَ الْأَضْعَفُ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقْوَى , وَأَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى أَعْنِي تَعَارُضَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُوَّةِ سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعَدَدِ كَالتَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ , أَوْ لَا كَالتَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَتَيْنِ , أَوْ سُنَّةٍ وَسُنَّتَيْنِ , أَوْ قِيَاسَ وَقِيَاسَيْنِ , فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ إذْ لَا تَرْجِيحَ , وَلَا قُوَّةَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى لَا يُتْرَكَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ بِالدَّلِيلَيْنِ فَحُكْمُهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ يُعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَ آيَتَيْنِ , أَوْ قِرَاءَتَيْنِ , أَوْ سُنَّتَيْنِ قَوْلِيَّيْنِ , أَوْ فِعْلِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , أَوْ آيَةٍ وَسُنَّةٍ فِي قُوَّتِهَا كَالْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ , فَإِنْ عَمَّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَنَاسِخٌ إذْ لَوْ لَمْ يَصْلُحْ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْكِتَابِ , أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ , فَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ التَّسَاوِي بَلْ الْمُتَقَدِّمُ رَاجِحٌ وَإِلَّا فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ مُخَلِّصٍ مِنْ الْحُكْمِ , أَوْ الْمَحَلِّ , أَوْ الزَّمَانِ فَذَاكَ وَإِلَّا يُتْرَكْ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَحِينَئِذٍ إنْ أَمْكَنَ الْمَصِيرُ مِنْ الْكِتَابِ , إلَى السُّنَّةِ , وَمِنْهَا إلَى الْقِيَاسِ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ يُصَارُ إلَيْهِ وَإِلَّا(1/295)
تَقَرَّرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلَيْنِ , وَهَذَا مَعْنَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ . وَفِي الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ , وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ دَلِيلٍ آخَرَ قَطْعِيٍّ مِنْ نَصٍّ , أَوْ إجْمَاعٍ إذْ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ مُخَالِفٌ لِقَطْعِيٍّ , وَأَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بَلْ هُمَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يُعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَرْطِ التَّحَرِّي كَمَا فِي الْقِيَاسَيْنِ , وَعِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ , وَلَوْ لَمْ يُدْرَكْ بِالْقِيَاسِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ , أَوَّلًا , ثُمَّ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ رحمه الله تعالى فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ مِنْ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابِيِّ , وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَالْمَيْلُ إلَى الْقِيَاسِ , وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ . مِثَالُ الْمَصِيرِ إلَى السُّنَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ قوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } وقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } تَعَارَضَا فَصِرْنَا إلَى قَوْلِهِ : عليه الصلاة والسلام { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } .(1/296)
وَمِثَالُ الْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَّتَيْنِ مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَمَا تُصَلُّونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ } تَعَارَضَا فَصِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ , وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِقُوَّتِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي جَانِبٍ آيَةٌ وَفِي جَانِبٍ آيَتَانِ , أَوْ فِي جَانِبٍ حَدِيثٌ وَفِي الْآخَرِ حَدِيثَانِ لَا يُتْرَكُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ , أَوْ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ بَلْ يُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ , وَمِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقِيَاسِ إذْ لَا تَرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَرْجِيحُ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْآيَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ , وَكَذَا تَرْجِيحُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ عَلَى حَدِيثَيْنِ , وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَقَوِّي الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ , أَوْ تَقَوِّي السُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ , فَإِذَا جَازَ تَقَوِّي الدَّلِيلِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَقَوِّيهِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ , وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَسَاقُطِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَوُقُوعِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ , أَوْ الْقِيَاسِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَسَاقُطُ الْآيَتَيْنِ وَوُقُوعُ الْعَمَلِ بِالْآيَةِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ , وَكَذَا فِي السُّنَّةِ .(1/297)
وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْأَدْنَى يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لِلْأَقْوَى فَيُرَجِّحُهُ بِخِلَافِ الْمُمَاثِلِ , أَوْ يُقَالَ : إنَّ الْقِيَاسَ يُعْتَبَرُ مُتَأَخِّرًا عَنْ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةَ عَنْ الْكِتَابِ فَالْمُتَعَارَضَانِ يَتَسَاقَطَانِ وَيَقَعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله تعالى . ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إذَا اتَّحَدَ زَمَانُ وُرُودِهِمَا ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تَعَارُضَ الدَّلِيلَيْنِ وَتَنَاقُضَ الْقَضِيَّتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى اتِّحَادِ زَمَانِ وُرُودِهِمَا وَالتَّكَلُّمِ بِهِمَا عَلَى مَا سَبَقَ إلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّحَادِ الزَّمَانِ فِي التَّنَاقُضِ زَمَانُ التَّكَلُّمِ بِالْقَضِيَّتَيْنِ , وَإِنَّمَا الْمُرَادُ زَمَانُ نِسْبَةِ الْقَضِيَّتَيْنِ حَتَّى لَوْ قِيلَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ : زَيْدٌ قَائِمٌ الْآنَ زَيْدٌ لَيْسَ بِقَائِمٍ غَدًا لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا , وَلَوْ قِيلَ : زَيْدٌ قَائِمٌ وَقْتَ كَذَا , ثُمَّ قِيلَ : بَعْدَ سَنَةٍ : إنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ تَنَاقُضًا بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إنَّمَا يَتَعَارَضَانِ بِحَيْثُ يُحْتَاجُ إلَى مُخَلِّصٍ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَوْ عُلِمَ لَكَانَ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَدَافِعَيْنِ لَا يَصْدُرَانِ مِنْ الشَّارِعِ إلَّا كَذَلِكَ . ((1/298)
قَوْلُهُ : كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ ) قِيلَ : الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ كَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ ؟ قَالَ نَعَمْ .(1/299)
وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ ؟ } قَالَ لَا وَرَوَى أَنَسٌ رضي الله تعالى عنه { أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ , فَإِنَّهَا رِجْسٌ } , وَهَذَا يُوجِبُ نَجَاسَةَ السُّؤْرِ لِمُخَالَطَةِ اللُّعَابِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ اللَّحْمِ النَّجِسِ , فَإِنْ أُوثِرَتْ الطَّهَارَةُ قِيَاسًا عَلَى الْعَرَقِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أُوثِرَتْ النَّجَاسَةُ قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَقِيلَ : الشَّكُّ فِي الطَّهُورِيَّةِ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فِي حُرْمَةِ لَحْمِ الْحِمَارِ وَإِبَاحَتِهِ وَالِاشْتِبَاهُ فِي اللَّحْمِ يُورِثُ الِاشْتِبَاهَ فِي السُّؤْرِ لِمُخَالَطَتِهِ اللُّعَابَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ , وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْإِبَاحَةِ لَا تُسَاوِي أَدِلَّةَ الْحُرْمَةِ فِي الْقُوَّةِ حَتَّى أَنَّ حُرْمَتَهُ مِمَّا يَكَادُ يُجْمَعُ عَلَيْهِ , كَيْفَ وَلَوْ تَعَارَضَتَا لَكَانَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ رَاجِحًا كَمَا فِي الضَّبُعِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ , وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الطَّهُورِيَّةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْآثَارِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَعَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ وَالْمُتَوَضِّئُ مُحْدِثٌ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ طَهَارَةُ الْمَاءِ وَلَا حَدَثُ الْمُتَوَضِّئِ , وَإِنَّمَا لَمْ يُحْكَمْ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ بِالشَّكِّ إذْ لَا مَعْنَى لِلطَّهُورِيَّةِ إلَّا هَذَا فَيَكُونُ إهْدَارًا لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا(1/300)
تَقْرِيرًا لِلْأُصُولِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَدْنَى عُدُولٍ عَنْ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ فِي الْمَاءِ وَالْحَدَثِ فِي الْمُتَوَضِّئِ أُخِذَ بِالْأَقَلِّ وَالْتُزِمَ الْحُكْمُ بِسَلْبِ الطَّهُورِيَّةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إهْدَارُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا حُكِمَ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَارُبِ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ , أَوْ الطَّهُورِيَّةِ وَعَدَمِهَا يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله تعالى حَيْثُ صَرَّحَ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَأَشَارَ ثَانِيًا إلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الطَّهُورِيَّةِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يُزِيلُ الْحَدَثَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ فَظَهَرَ أَنَّ لَيْسَ مَعْنَى الشَّكِّ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ , وَلَا مَظْنُونٍ بَلْ مَعْنَاهُ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ حَيْثُ لَا مَاءَ سِوَاهُ , ثُمَّ ضَمَّ التَّيَمُّمَ إلَيْهِ , وَهَذَا حُكْمٌ مَعْلُولٌ , وَكَذَا الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَا يُورِثُ الِاشْتِبَاهَ كَمَا إنْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِطَهَارَتِهِ وَآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ , فَإِنَّهُ طَاهِرٌ , وَلَا إشْكَالَ فِي حُرْمَةِ لَحْمِهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْجُسْ الْمَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى إذْ الْحِمَارُ يُرْبَطُ فِي الدُّورِ وَالْأَفْنِيَةِ فَيَشْرَبُ مِنْ الْأَوَانِي إلَّا أَنَّ الْهِرَّةَ تَدْخُلُ الْمَضَايِقَ فَتَكُونُ الضَّرُورَةُ فِيهَا أَشَدَّ فَالْحِمَارُ لَمْ يَبْلُغْ فِي الضَّرُورَةِ(1/301)
حَدَّ الْهِرَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ , وَلَا فِي عَدَمِ الضَّرُورَةِ حَدَّ الْكَلْبِ حَتَّى يُحْكَمَ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ فَبَقِيَ أَمْرُهُ مُشْكِلًا , وَهَذَا أَحْوَطُ مِنْ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُضَمُّ إلَى التَّيَمُّمِ فَيَلْزَمُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الطَّهُورِ احْتِمَالًا . ( قَوْلُهُ : وَهُوَ إمَّا بَيْنَ آيَتَيْنِ , أَوْ قِرَاءَتَيْنِ ) يَعْنِي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَقِرَاءَتَيْ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ فِي قوله تعالى : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } , فَإِنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي مَسْحَ الرِّجْلِ وَالثَّانِيَةَ غَسْلَهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ . فَإِنْ قِيلَ : الْجَرُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ , وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَغْسُولِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ : جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ وَقَوْلِ زُهَيْرٍ : لَعِبَ الرِّيَاحُ بِهَا وَغَيَّرَهَا بَعْدِي سَوَافِي الْمَوْرِ وَالْقَطْرِ , فَإِنَّ الْقَطْرَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَوَافِي وَالْجَرُّ بِالْجِوَارِ وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ : فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ إلَى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبٍ بِخَفْضِ خَاطِبٍ عَلَى الْجِوَارِ مَعَ عَطْفِهِ عَلَى رَاكِبٍ عُورِضَ بِأَنَّ النَّصْبَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَحَلِّ جَمْعًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا قَوْلُهُ : يَذْهَبْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا عَلَى مَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ , وَهُوَ إعْرَابٌ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَطْفِ عَلَى الْأَقْرَبِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ .(1/302)
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعْطُوفٌ عَلَى رُءُوسِكُمْ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلِ هُوَ الْغَسْلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } إذْ الْمَسْحُ يُضْرَبُ لَهُ غَايَةٌ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : قُلْت اُطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا . وَفَائِدَتُهُ التَّحْذِيرُ عَنْ الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذْ الْأَرْجُلُ مَظِنَّةُ الْإِسْرَافِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا فَعُطِفَتْ عَلَى الْمَمْسُوحِ لَا لِتُمْسَحَ لَكِنْ لِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ : وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ غَسْلًا خَفِيفًا شَبِيهًا بِالْمَسْحِ فَالْمَسْحُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْغَسْلِ هُوَ الْمُقَدَّرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ , فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ , وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ فِي الْوُضُوءِ مَعَ أَنَّ فِي الْغَسْلِ مَسْحًا وَزِيَادَةً إذْ لَا إسَالَةَ بِدُونِ الْإِصَابَةِ , وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوُضُوءِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَذَلِكَ فِي الْغَسْلِ , وَمَسْحُ الرَّأْسِ خَلَفٌ عَنْهُ تَخْفِيفًا فَفِي إيثَارِ الْغَسْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمُوَافَقَةٌ لِلْجَمَاعَةِ وَتَحْصِيلٌ لِلطَّهَارَةِ وَخُرُوجٌ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ . ((1/303)
قَوْلُهُ : وَالْمُخَلِّصُ ) يَعْنِي قَدْ اُعْتُبِرَ فِي التَّعَارُضِ اتِّحَادُ الْحُكْمِ وَالْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ , فَإِذَا تَسَاوَى الْمُتَعَارِضَانِ , وَلَمْ يُمْكِنْ تَقْوِيَةُ أَحَدِهِمَا يُطْلَبُ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ , أَوْ الْمَحَلِّ , أَوْ الزَّمَانِ بِأَنْ يُدْفَعَ اتِّحَادُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : التَّوْزِيعُ بِأَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ أَفْرَادِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَبَعْضَهَا مَنْفِيًّا بِالْآخَرِ كَقِسْمَةِ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بِحُجَّتَيْهِمَا .(1/304)
وَثَانِيهِمَا : التَّغَايُرُ بِأَنْ يُبَيِّنَ مُغَايَرَةَ مَا ثَبَتَ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ لِمَا انْتَفَى بِالْآخَرِ كَمَا فِي قوله تعالى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } , وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } فَالْأُولَى تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ ; لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ أَيْ الْقَصْدِ وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ اللَّغْوِ , وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ وَفَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْغَمُوسِ وَالْمُخَلِّصُ أَنْ يُقَالَ : الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي تُوجِبُهَا الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْغَمُوسِ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَاَلَّتِي تَنْفِيهَا الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي اللَّغْوِ وَيُؤَاخِذُكُمْ بِهَا فِي الْمَعْقُودَةِ , ثُمَّ فَسَّرَ الْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } الْآيَةَ , وَلَمَّا تَغَايَرَتْ الْمُؤَاخَذَتَانِ انْدَفَعَ التَّعَارُضُ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يُحْمَلُ الْعَقْدُ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ مِنْ عَقَدْت عَلَى كَذَا عَزَمْت عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْغَمُوسَ وَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدًا , وَهُوَ نَفْيُ الْكَفَّارَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْمَعْقُودِ وَالْغَمُوسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ مُفَسَّرٌ وَالْعَقْدَ مُجْمَلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَيَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ وَرُدَّ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ :(1/305)
الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ رَبْطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَبْطِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ عَزْمِ الْقَلْبِ , فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ مَجَازًا . وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَى الرَّبْطِ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي , فَهُوَ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادَهُ بِمَعْنَى رَبْطِهِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ فِي الْفِقْهِ , فَإِنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ . الثَّانِي : أَنَّ اقْتِرَانَ الْكَسْبِ بِالْمُؤَاخَذَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُدَّ بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا فِي الْحُقُوقِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ تَكْرَارٌ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِفَادَةَ خَيْرٌ مِنْ الْإِعَادَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ سَوْقَ الثَّانِيَةِ لِبَيَانِ الْكَفَّارَةِ , فَلَا تَكْرَارَ . ((1/306)
قَوْلُهُ : وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا ) وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى فِي دَفْعِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْخَالِي عَنْ الْقَصْدِ وَبِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي الْمَكْسُوبَةِ لَا فِي الْمَعْقُودَةِ , وَلَا فِي اللَّغْوِ فَالْآيَةُ الْأُولَى أَوْجَبَتْ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ وَالثَّانِيَةُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَا نَفْيًا , وَلَا إثْبَاتًا , فَلَا تَعَارُضَ لَهَا أَصْلًا , وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله حَيْثُ قَالَ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَأَثْبَتَهَا فِي الْغَمُوسِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِثْمُ وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا فِي الْمَعْقُودَةِ وَفَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا بِالْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الْغَمُوسِ بِالْإِثْمِ , وَفِي اللَّغْوِ لَا مُؤَاخَذَةَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ رحمه الله تعالى حَمَلَ الْمُؤَاخَذَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا عَلَى الْإِثْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَارَ الْمُؤَاخَذَةِ إنَّمَا هِيَ دَارُ الْآخِرَةِ .(1/307)
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : { فَكَفَّارَتُهُ } تَفْسِيرٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخْتَصُّ بِالْآخِرَةِ إنَّمَا هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْعِقَابُ وَجَزَاءُ الْإِثْمِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ إذَا حَصَلَ الْإِثْمُ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَوَجْهُ دَفْعِهِ وَسَتْرِهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى آخِرِهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّائِقَ بِنَظْمِ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِنَا لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِكَذَا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مُقَابِلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى إدْرَاكِ الْغَمُوسِ فِي اللَّغْوِ , أَوْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ , وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ خِلْوًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْغَمُوسِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ عُلِمَ حُكْمُهَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ قُلْنَا , وَكَذَلِكَ اللَّغْوُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لَيْسَ بِحَسَبِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ إذْ لَا اخْتِلَافَ فِي الْمَفْهُومِ بَلْ فِي الْأَفْرَادِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ عُقُوبَةً كَانَتْ , أَوْ كَفَّارَةً فِي اللَّغْوِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِهِمَا , أَوْ بِأَحَدِهِمَا فِي الْمَكْسُوبَةِ وَالْمَعْقُودَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ . ((1/308)
قَوْلُهُ : فَبِالتَّخْفِيفِ ) أَيْ قِرَاءَةُ : { يَطْهُرُونَ } بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَالْهَاءِ تُوجِبُ حِلَّ الْقُرْبَانِ بَعْدَ حُصُولِ الطُّهْرِ سَوَاءٌ حَصَلَ الِاغْتِسَالُ , أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحِلَّ مُسْتَفَادٌ مِنْ قوله تعالى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } قَوْلًا بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ , فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا وَالنَّهْيَ قَدْ انْقَضَى بِالطُّهْرِ فَبَقِيَ الْحِلُّ الثَّابِتُ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ النَّهْيِ إيَّاهُ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ رَفْعِ الْآيَةِ الْحِلَّ بِإِيجَابِهَا إيَّاهُ تَجَوُّزًا . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ حَقِيقَةَ الطُّهْرِ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ " فَإِذَا طَهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ " فَاتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى : { يَطْهُرْنَ } أَيْ اغْتَسَلْنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : حَتَّى يَطْهُرْنَ يَغْتَسِلْنَ أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فَحَقِيقَةٌ , وَأَمَّا عَلَى التَّخْفِيفِ فَمَجَازٌ بِإِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ ضَرُورَةَ لُزُومِ الْغُسْلِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ فَيَكُونُ حُرْمَةُ الْقُرْبَانِ عِنْدَ الدَّمِ مَعْلُومَةً مِنْ قوله تعالى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } وَيَكُونُ قوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ } . .(1/309)
الْآيَةَ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ وَعَوْدِ الْحِلِّ بِهِ أُجِيبَ بِأَنْ تَفَعَّلَ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَّلَ كَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ إذْ فِي الِانْقِطَاعِ عَلَى الْعَشَرَةِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الزَّوْجِ إلَى الِاغْتِسَالِ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَوَضَّأْنَ أَيْ صِرْنَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ . وَفِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ صَرْفًا لِلْخِطَابِ إلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ وَانْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا يَكُونُ الِاغْتِسَالُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا مَعْنَاهُ يَغْتَسِلْنَ مَجَازًا , وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي الْكُلِّ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لَيْسَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ . ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا ) .(1/310)
فَإِنْ قِيلَ : هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } قُلْنَا إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَّيْنِ الْمَفْرُوضَيْنِ أَعْنِي الْمُحَرِّمَ وَالْمُبِيحَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ : فَإِنَّهُ أَيْ الْمُحَرِّمَ إنَّمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ إنْ قَدْ وَرَدَ أَيْ إنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي أَيْ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَمَانِ وُرُودِ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ دَالٌّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّ وُرُودَ هَذَا الدَّلِيلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَفِي جَمِيعِ الصُّوَرِ بَلْ قَدْ , وَقَدْ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ بِوَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّظَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى لَيْسَ بِتَمَامٍ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ وُرُودِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَتَغْيِيرُهُ بِالنَّصِّ الْمُحَرِّمِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ إلَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمُحَرِّمُ عَنْ دَلِيلِ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ , وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَبِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّسْخِ كَوْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا عِنْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ , وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى دَلِيلِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ . ((1/311)
قَوْلُهُ : عَنَيْنَا بِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى ) أَيْ تَكَرُّرِ التَّغْيِيرِ سَوَاءٌ كَانَ تَغْيِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ , أَوْ لَا , فَإِنَّ تَكْرَارَ التَّغْيِيرِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْسِ التَّغْيِيرِ , فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ
وفي البحر المحيط :
النَّظَرُ وَاجِبٌ شَرْعًا . قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ : بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَامَ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ , وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : الْأَصَحُّ : أَنَّ النَّظَرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا شَاكِّينَ فِيمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فَيَلْزَمُهُمْ الْبَحْثُ عَنْهُ , وَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى أَنْ يَعْتَقِدُوهُ , أَوْ يَعْرِفُوهُ . قَالَ : وَمَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصَّةِ , وَهُمْ قَائِمُونَ بِهِ عَنْ الْعَامَّةِ لَا فِي تَعْرِيفِ ذَلِكَ لَهُمْ وَمِنْ الْمَشَقَّةِ الظَّاهِرَةِ , وَإِنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِاعْتِقَادِهِ , وَقَالَ بَعْضُ نُبَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مِنْ وُجُوبِ النَّظَرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ ابْتِدَاءً غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ حَتَّى يَنْظُرَ , وَيَسْتَدِلَّ , فَيَكُونُ النَّظَرُ أَوَّلَ الطَّاعَاتِ وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ , بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ , فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ قَطُّ إنْسَانٌ إلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَلَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُقِرًّا حَتَّى يَنْظُرَ وَيَسْتَدِلَّ .(1/312)
اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا أَفْسَدَ فِطْرَتَهُ ابْتِدَاءً , فَيَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى النَّظَرِ . نَعَمْ النَّظَرُ الصَّحِيحُ يُقَوِّي الْمَعْرِفَةَ , وَيُثَبِّتُهَا فَإِنَّ الْمَعَارِفَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ عَلَى الْأَصَحِّ . قُلْتُ : وَهَذَا جُمُوحٌ إلَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ ضَرُورِيَّةٌ لَا نَظَرِيَّةٌ , وَالصَّحِيحُ : الْأَوَّلُ , إذْ لَوْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهَا مُحَالًا , وَنَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ تَفْرِيقًا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا . أَحَدُهَا : أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ , وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ النَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ , وَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ , وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي إسْحَاقَ . وَالثَّالِثُ : الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فِي الْإِرْشَادِ " . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , ثُمَّ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى ذَلِكَ , وَهُوَ اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَالْخَامِسُ : قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ الشَّكُّ , وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ ; لِامْتِنَاعِ النَّظَرِ مِنْ الْعَالِمِ , فَإِنَّ الْحَاصِلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الشَّاكِّ . وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ الْهُجُومُ عَلَى النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَرَدُّدٍ . وَالسَّادِسُ : الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ .(1/313)
وَالسَّابِعُ : النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَالثَّامِنُ : قَبُولُ الْإِسْلَامِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَمَلِ , ثُمَّ النَّظَرُ بَعْدَ الْقَبُولِ . وَالتَّاسِعُ : اعْتِقَادُ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ , وَالْعَاشِرُ : التَّقْلِيدُ . وَالْحَادِيَ عَشَرَ : النَّظَرُ وَلَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ الشَّكِّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ , فَيَلْزَمُ الْبَحْثُ عَنْهُ حَتَّى يَعْتَقِدَهُ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ رُبَّمَا تَتَدَاخَلُ وَتَخْتَلِفُ فِي الْعِبَارَةِ . وَقَالَ الرَّازِيَّ فِي التَّحْصِيلِ " الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَاجِبِ الْوَاجِبُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً وَالنَّظَرُ عِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُهَا مَقْدُورَةً . وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ الْوَاجِبِ كَيْفَ كَانَ , فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْقَصْدُ . قُلْت : بَلْ مَعْنَوِيٌّ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهُ دُونَ مَنْ لَا يُوجِبُهُ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ " إنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ النَّظَرُ فَمَنْ أَمْكَنَهُ زَمَانٌ يَسَعُ النَّظَرَ التَّامَّ , وَلَمْ يَنْظُرْ فَهُوَ عَاصٍ , وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَصْلًا , فَهُوَ كَالصَّبِيِّ . وَمَنْ أَمْكَنَهُ مَا يَسَعُ لِبَعْضِ النَّظَرِ دُونَ تَمَامِهِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ , وَالْأَظْهَرُ : عِصْيَانُهُ كَالْمَرْأَةِ تُصْبِحُ طَاهِرَةً فَتُفْطِرُ , ثُمَّ تَحِيضُ . فَإِنَّهَا عَاصِيَةٌ , وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ يُمْكِنْهَا إتْمَامُ الصَّوْمِ .(1/314)
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ : بِسَبَبِ هَذَا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ أَهِيَ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ كَسْبِيَّةٌ ؟ فَمَنْ قَالَ : ضَرُورِيَّةٌ قَالَ : أَوَّلُ فَرْضٍ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ , وَمَنْ قَالَ : كَسْبِيَّةٌ قَالَ : أَوَّلُ فَرْضٍ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى الْمَعْرِفَةِ , وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْقِيَاسِ : أَنْكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ , وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ قَوْلَ أَهْلِ الْكَلَامِ : إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ النَّظَرُ , وَقَالُوا : إنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ . وَلَوْ قَالَ الْكَافِرُ : أَمْهِلُونِي ; لِأَنْظُرَ فَأَبْحَثَ فَإِنَّهُ لَا يُمْهَلُ , وَلَا يُنْظَرُ , وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : أَسْلِمْ فِي الْحَالِ , وَإِلَّا فَأَنْتَ مَعْرُوضٌ عَلَى السَّيْفِ . قَالَ : وَلَا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ : انْتَهَى , وَهُوَ عَجِيبٌ , فَقَدْ حَكَوْا فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ وَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ , فَقَالَ : عَرَضَتْ لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا ; لِأَعُودَ إلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ . هَلْ يُنَاظَرُ لِإِزَالَتِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .(1/315)
وَقَالَ : الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ " : إذَا تَرَكَ الْمُكَلَّفُ أَوَّلَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ , وَعَلَى تَرْكِ مَا بَعْدَهُ , وَيَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ عِقَابًا أَعْظَمَ مِنْ عِقَابِ تَرْكِ النَّظَرِ الثَّانِي : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلِ الْأَوَّلِ غَيْرَ أَنَّ عِقَابَهُ عَظِيمٌ يَجْرِي مَجْرَى الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ كُلِّ النَّظَرِ .(1/316)
نَعَمْ , هُنَا مَسْأَلَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) : بِالنِّسْبَةِ إلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ , و ( الثَّانِيَةُ ) : بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِهِ , وَالْقَاضِي إنَّمَا حَكَى الِاتِّفَاقَ فِي الْأُولَى , وَحَكَى الْخِلَافَ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَ : وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّحَابِيِّ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَبِذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَهُمْ , لِتَسَاوِي أَحْوَالِهِمْ . قَالَ : وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ تَقْلِيدَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضًا , وَاحْتَجُّوا بِإِجَابَةِ عُثْمَانَ إلَى تَقْلِيدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْأَحْكَامِ , وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْ وُجُوبَ ذَلِكَ . انْتَهَى . وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ . و يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ الْوُجُوبُ , وَكَلَامُ الشَّيْخِ فِي اللُّمَعِ " يَقْتَضِي ذَلِكَ , فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا أَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ بَنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا . فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ , وَلَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , بَلْ يَرْجِعُ إلَى الدَّلِيلِ . وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ حُجَّةٌ فَهَاهُنَا دَلِيلَانِ تَعَارَضَا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , أَوْ يَكُونُ فِيهِ إمَامٌ . انْتَهَى . ثُمَّ هَذَا الِاتِّفَاقُ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِهِمْ .(1/317)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ تَزُولُ إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ اتِّبَاعُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ , وَتَعَلَّقُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ , لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدِهِمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ ؟ وَفِيهِ أَقْوَالٌ . الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا , كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ . و يُومِئُ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَزَعَمَ عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ , لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ فَقَالَ : وَلَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ , إنَّمَا هُوَ خَطَأٌ أَوْ صَوَابٌ . الثَّانِي : أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ , وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ . قَالَ صَاحِبُ " التَّقْوِيمِ " : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ : تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ , يُتْرَكُ بِقَوْلِهِ الْقِيَاسُ , وَعَلَيْهِ أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا . وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ شَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ .(1/318)
وَاحْتَجَّ بِأَثَرِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - وَالْقِيَاسِ , وَقَالَ : وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : " إذَا أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ , وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ , لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ , فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِدُونِ إجْمَاعٍ . انْتَهَى . وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ , لَمَّا ذَكَرَ الصَّحَابَةَ رضوان الله عليهم : وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ فِيهِ عِلْمٌ أَوْ اُسْتُنْبِطَ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَجْمَلُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا . وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أَوْ حَكَى لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ سُنَّةٌ إلَى قَوْلِهِمْ إنْ أَجْمَعُوا , وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا . فَهَكَذَا نَقُولُ : إذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ , وَإِنْ قَالَ وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نَخْرُجُ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَوْلِ أَحَدِهِمْ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رضي الله عنهم - أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَقُولَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ أُخَالِفَهُمْ , مِنْ قَبْلُ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحِكَايَةٍ .(1/319)
ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ - يَعْنِي مِنْ الصَّحَابَةِ - وَلَا دَلِيلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ , نَظَرْنَا إلَى الْأَكْثَرِ , فَإِنْ تَكَافَئُوا نَظَرْنَا إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ اُشْتُهِرَ نَقْلُهُ عَنْ الْقَدِيمِ , وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ أَيْضًا , وَقَدْ نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ , وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِ الْأُمِّ " , فِي بَابِ خِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ , وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ فَلْنَذْكُرْهُ بِلَفْظِهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : مَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ صِرْنَا إلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ أَوْ وَاحِدِهِمْ , وَكَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رضوان الله عليهم - أَحَبَّ إلَيْنَا إذَا صِرْنَا إلَى التَّقْلِيدِ , وَلَكِنْ إذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ , لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ النَّاسَ وَمِنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَظْهَرُ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ وَالنَّفَرَ , وَقَدْ يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ وَقَدْ يَدَعُهَا , وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ , وَلَا يَعْنِي الْخَاصَّةَ بِمَا قَالُوا : عِنَايَتُهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ .(1/320)
ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ , وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنْ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدِهِمْ . وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ , وَالسُّنَّةُ إذَا ثَبَتَتْ السُّنَّةُ . وَالثَّانِيَةُ : الْإِجْمَاعُ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا فِيهِمْ . وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ . وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ . وَلَا يُصَارُ إلَى شَيْءٍ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى . هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ . وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ الْأَصَمِّ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْهُ . وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ , كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ , فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ فِي الْجَدِيدِ , وَأَحَدُهُمَا مُوَافِقٌ لِلْقَدِيمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ غَفَلَ عَنْ نَقْلِهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ .(1/321)
وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا كَانَ الْحُجَّةُ فِي قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إذَا وَجَدَ عَنْهُمْ , لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ , وَهُوَ اشْتِهَارُ قَوْلِهِمْ وَرُجُوعُ النَّاسِ إلَيْهِمْ , وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الْأُمِّ " فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ( مِنْهَا ) قَالَ فِي كِتَابِ الْحُكْمِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مَا نَصُّهُ : وَكُلُّ مِنْ يَحْبِسُ نَفْسَهُ بِالتَّرَهُّبِ تَرَكْنَا قَتْلَهُ , اتِّبَاعًا لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا اتِّبَاعًا لَا قِيَاسًا , وَقَالَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " فِي بَابِ الْغَصْبِ : أَنَّ عُثْمَانَ قَضَى فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَرَاءَةَ فِي الْعُيُوبِ فِي الْحَيَوَانِ . قَالَ : وَهَذَا يَذْهَبُ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إلَى هَذَا تَقْلِيدًا . وَإِنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ عَدَمُ الْبَرَاءَةِ . وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ : إنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ حُجَّةً . انْتَهَى . وَقَالَ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَقْلِيدًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه . الثَّالِثُ : أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ , فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ . نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ " فَقَالَ : وَأَقْوَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عليه السلام - إذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ مِنْهَا إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ , أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ .(1/322)
وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقَوْلُ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ مُوَافَقَةٌ وَلَا خِلَافًا صِرْتُ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ . وَإِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ , أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ . هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ . وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ " : حَكَى الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرَى فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ إذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ . وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : نَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ . انْتَهَى . وَكَذَا قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ , فَقَالَ : قَالَ فِي الْجَدِيدِ : إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ يَقْوَى بِمُوَافَقَتِهِ إيَّاهُ . وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " فِي بَابِ الْقَوْلِ فِي مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالَمِ : إنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ , وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ , وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيّ فَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ الرِّبَا : عِنْدَنَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ لَهُ قَوْلٌ وَكَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَالْمُضِيُّ إلَى قَوْلِهِ أَوْلَى , خُصُوصًا إذَا كَانَ إمَامًا , وَلِهَذَا مَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِهِ , لِأَثَرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه .(1/323)
قُلْت : وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما , ثُمَّ قَالَ : وَفِي مَذْهَبِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى ثُمَّ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ الْوُسْطَى أَعَادَ الْوُسْطَى وَلَمْ يُعِدْ الْأُولَى , وَهُوَ دَلِيلٌ فِي قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ تَقْطِيعَ الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهُ , كَمَا فِي الْجَمْرَةِ . انْتَهَى . فَاسْتَدَلَّ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ الْمُعْتَضَدِ لِلْقِيَاسِ , وَهُوَ رَمْيُ الْجِمَارِ , وَعَلَى الْغُسْلِ أَيْضًا , كَمَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ . .
الثَّانِي : الشَّرْعِيُّ : وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفُرُوعِ وَالْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ :
فِرْقَةٌ أَوْجَبَتْ التَّقْلِيدَ وَفِرْقَةٌ حَرَّمَتْهُ وَفِرْقَةٌ تَوَسَّطَتْ .
[(1/324)
الْأَوَّلُ ] فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا , كَالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ , وَوَافَقَهُمْ ابْنُ حَزْمٍ , وَكَادَ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّقْلِيدِ , قَالَ وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : ( أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ , فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي , فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ , وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ ) وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فِيهَا بِرَأْيٍ سَوْطًا , عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السِّيَاطِ قَالَ : فَهَذَا مَالِكٌ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ , وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا , فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , أَتَأْخُذُ بِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت عَلَيَّ زُنَّارًا ؟ أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا مِنْ كَنِيسَةٍ ؟ حَتَّى تَقُولَ لِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَتَأْخُذُ بِهَذَا ؟ وَلَمْ يَزَلْ رحمه الله فِي كُتُبِهِ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ , هَكَذَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ " مُخْتَصَرِهِ " عَنْهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَمْنُوعٌ , وَإِنَّمَا نَهَوْا الْمُجْتَهِدَ خَاصَّةً عَنْ تَقْلِيدِهِمْ , دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الرُّتْبَةَ , قَالَ الْقَرَافِيُّ : مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ , وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِقَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ أَرْبَعَ عَشْرَةَ صُورَةً لِلضَّرُورَةِ : وُجُوبَ التَّقْلِيدِ عَلَى الْعَوَّام , وَتَقْلِيدَ الْقَائِفِ , إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ .(1/325)
وَالثَّانِي يَجِبُ مُطْلَقًا , وَيَحْرُمُ النَّظَرُ , وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ .
وَالثَّالِثُ : وَهُوَ الْحَقُّ , وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ , وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ , وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : " لَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ " مُرَادُهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سَأَلْت أَبِي , الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ , فِيهَا قَوْلُ الرَّسُولِ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَلَيْسَ لَهُ بَصِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الْمَتْرُوكِ وَلَا الْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ مِنْ الضَّعِيفِ , هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيُفْتِي بِهِ ؟ قَالَ : لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يُؤْخَذُ بِهِ مِنْهَا . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فَرْضَهُ التَّقْلِيدُ وَالسُّؤَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . انْتَهَى . وَأَمَّا تَحْرِيمُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ , فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } يَعْنِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمَّا { قَالَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ , قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ , إلَى مَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ } .(1/326)
قَالُوا فَصَوَّبَهُ فِي ذَلِكَ , وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ جُمْلَتِهِ التَّقْلِيدَ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْرُمُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . قَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِهِ فَسَادِ التَّأْوِيلِ " : تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُعَاذٍ فِي اجْتِهَادِهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُهُ عِنْدَنَا إنَّمَا هُوَ لِنَظَرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَفَرْضَ مَا رَأَيْت فِي الْحَادِثَةِ , لَوَجَبَ فَرْضُ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ , قَالَ : وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } وَقَوْلِهِ : { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَإِنَّمَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ } قَالَ : وَيُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ : هَلْ لَك مِنْ حُجَّةٍ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ , أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ , لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ , قِيلَ لَهُ : فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ , وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ , وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْت , وَإِنْ لَمْ أَعْرِفْ الْحُجَّةَ , لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ .(1/327)
قِيلَ لَهُ : تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك , لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْ مُعَلِّمِهِ كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ قَدْ خَفِيَتْ عَنْك , فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ , وَكَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْعَالِمِ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ , وَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا , وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ } . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ { : لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ , رَجُلًا , فَإِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ } . وَأَمَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْعَامَّةِ , فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } فَأَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ , وَلَوْلَا أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لَمَا كَانَ لِلنِّذَارَةِ مَعْنًى , وَلِقَضِيَّةِ الَّذِي شُجَّ , فَأَمَرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ , وَقَالُوا : لَسْنَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ وَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : { قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ , إنَّمَا كَانَ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ } فَبَانَ بِذَلِكَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ .(1/328)
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي إذَا قَامَ بِهَا الْبَعْضُ , سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ , وَلَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ , لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ . وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ , وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ , وَلِأَنَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُجْتَهِدُ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ , إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي فِي الْحُكْمِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ , وَإِنْ كَانَ يَذْكُرُ لَهُ مَا يَكْفِي , فَأَسْنَدَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ , الْتَزَمَهُ قَطْعًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ , فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ : لَوْ وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ التَّحْقِيقُ دُونَ التَّقْلِيدِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَعْطِيلِ الْمَعَاشِ , وَخَرَابِ الدُّنْيَا , فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُقَلِّدًا , وَبَعْضُهُمْ مُعَلِّمًا , وَبَعْضُهُمْ مُتَعَلِّمًا , وَلَمْ تَرْفَعْ دَرَجَةُ أَحَدٍ فِي الْجِنَانِ لِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ ثُمَّ دَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ وَقَالَ : الْمَصِيرُ فِي الْمُوجِبِ لِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ , عَدَمُ آلَةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَعَذُّرُهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ , وَالْتِمَاسُ أُصُولِ ذَلِكَ , فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى يَعْلَمَ جَمِيعَهَا , وَيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا لَتَعَطَّلَتْ الْفَرَائِضُ مِنْ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرُوا كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ , وَهَذَا فَاسِدٌ , فَرَخَّصَ لَهُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ .(1/329)
وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ , وَمِنْ هَذَا امْتَنَعَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِمِثْلِهِ , لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِدَفْعِ التَّقْلِيدِ وُجُودُ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا . قُلْت : وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَائِدِ , أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْعَقَائِدِ الْعِلْمُ , وَالْمَطْلُوبَ فِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ , وَالتَّقْلِيدُ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ , وَلِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَهَمُّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ . وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شُبْهَةً لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ , قَالَ : إنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ , وَيَتَمَسَّكُونَ بِالظَّوَاهِرِ , وَيَقُولُونَ : حُكْمُ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ , وَفِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ , وَلَا يُتْرَكُ هَذَا إلَّا لِنَصٍّ قَاطِعِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَالْعَامِّيُّ الذَّكِيُّ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَإِلَّا نَبَّهَهُ الْمُفْتِي عَلَيْهِ , وَعَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ فِي الْوَاقِعَةِ إنْ جَهِلَهُ , وَلَا يُقَالُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي الِاشْتِغَالُ عَنْهَا يُفْضِي إلَى خَرَابِ الْعَالَمِ , لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إيجَابَ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ , وَلَا يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَهِيَ سَهْلَةٌ , بِخِلَافِ الْفُرُوعِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا , لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ الْجَلِيِّ , فَقَدْ قَلَّدَ فِي بَعْضِهَا , فَيَكُونُ مُقَلِّدًا فِي النَّتِيجَةِ , وَإِنْ عَلِمَهَا وَمَا يَرِدُ فَقَدْ حَصَلَ الِاشْتِغَالُ .(1/330)
وَجَوَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْلِيلِ الْأَدِلَّةِ , فَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَمُمَارَسَةٍ , وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْعَامِّيِّ . إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمٍ يَجْمَعُ أَفْرَادَ الْمَسْأَلَةِ , وَيَضْبِطُ شُعَبَهَا , فَنَقُولُ : الْعُلُومُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَشْتَرِك فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ , وَيُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , كَالْمُتَوَاتِرِ , فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ لِأَحَدٍ , كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ , وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ , وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ , وَالزِّنَى , وَاللِّوَاطِ , فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشُقُّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ , وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ أَعْمَالِهِ , وَكَذَا فِي أَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي . وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَاصَّةِ , وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ : مُجْتَهِدٌ , وَعَامِّيٌّ , وَعَالِمٌ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ . أَحَدُهَا : الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ : وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِفْتَاءُ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا , وَلَا يَنْفَعُهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعُلُومِ لَا تُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ , وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ , وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا , وَأَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ , نَقَلَ لَك مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بِغَيْرِهِ بِمَعْنًى مَا يَدِينُ بِهِ . انْتَهَى .(1/331)
وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ , كَالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ , وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عَلَى طَرِيقِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ , وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْعَالِمِ , إلَّا لِتَنْبِيهِهِ عَلَى أُصُولِهَا , وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ , عَنْ الْجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ , وَابْنِ حَرْبٍ مِنْهُمْ عَنْ الْجُبَّائِيُّ : يَجُوزُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ مَا طَرِيقُهُ الْقَطْعُ , فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْوِهِ . قَوْلُ الْأُسْتَاذِ : يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ عِلْمِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِي الْفِقْهِ يُدْرِكُهَا الْقَطْعُ , وَيَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِي ظَنِّيَّاتِهِ إلَى الْقَطْعِيَّاتِ , الْفُرُوعُ بِالْأُصُولِ . وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ , فَقَالَ : مَنْ صَارَ لَهُ التَّقْلِيدُ , لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ الدَّلِيلِ , وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قَالَ : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلِهَا . وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا دُونَ الْخَفِيَّةِ . انْتَهَى . وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ وَظِيفَةَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ جَاءَ الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ هَلْ هُوَ تَقْلِيدٌ حَقِيقَةً ؟ فَالْقَاضِي يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ إنَّمَا مُسْتَدِلٌّ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ الْعَالِمِ , وَهُوَ خِلَافٌ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ , لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْلِيدِ لَمْ يَرَ إلَّا هَذَا , وَلَكِنَّ لِسَانَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى عَلَى صِحَّةِ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ , وَالنَّهْيُ عَنْ إطْلَاقِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ .(1/332)
الْمَسْأَلَةُ ] السَّابِعَةُ [ إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ ]
قَالَ الْقَاضِي أَبُو خَازِمٍ - بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ حُجَّةٌ , وَحَكَمَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَضِدِ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ زَيْدٍ , وَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعْتَضِدُ ذَلِكَ , وَرَدَّهَا إلَيْهِمْ , وَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى الْآفَاقِ , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ : وَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرَاذِعِيَّ كَانَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ . قَالَ : وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعُدُّ هَذَا خِلَافًا عَلَى الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ , وَقَدْ حَكَمْت بِرَدِّ هَذَا الْمَالِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ بِالنَّسْخِ . ا هـ . وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ , قَالَ الْمُوَفَّقُ فِي الرَّوْضَةِ " : نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ عَنْ قَوْلِهِمْ إلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ , وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا . قُلْت : وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَيْضًا , وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ , وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ أَصْحَابِنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ , فَإِنَّهُ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .(1/333)
قَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ هُنَا : إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَكَانَتْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ , فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ : يُصَارُ إلَى قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ , وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ , وَيُطْلَبُ دَلَالَةُ سِوَاهُمَا . انْتَهَى . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو حَازِمٍ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ , وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْهُ . وَقِيلَ : إجْمَاعُ الشَّيْخَيْنِ وَحْدَهُمَا حُجَّةٌ . لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ فِي الْفَرَائِضِ انْفَرَدَ بِهَا , وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ , وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ . وَاحْتَجَّ أَبُو حَازِمٍ بِحَدِيثِ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ } وَعُورِضَ بِحَدِيثِ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا , فَإِنَّ الْأَوَّلَ : يَقْتَضِي أَنْ يُقْتَدَى بِالْخُلَفَاءِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : الْأَمْرُ لِلْمُقَلِّدِ بِالتَّخْيِيرِ , وَاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَالصَّحَابَةِ , فَلَا يُعَارِضُهُ . سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ , لَكِنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ , وَالثَّانِيَ ضَعِيفٌ .(1/334)
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَرَادُوا التَّرْجِيحَ لِقَوْلِهِمْ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ , لِفَضْلِ سَبْقِهِمْ وَتَعَدُّدِهِمْ , وَطُولِ صُحْبَتِهِمْ , وَعِنْدَنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ . فَائِدَةٌ [ عُقُودُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَحِمَاهُمْ ] إذَا عَقَدَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ عَقْدًا , أَوْ حَمَوْا حِمًى لَزِمَ , وَلَا يُنْتَقَضُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي " الرَّوْنَقِ " , وَمِمَّنْ حَكَى الْقَوْلَ فِيهِ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ " فِي بَابِ الْإِحْيَاءِ , وَاسْتَقَرَّ بِهِ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِهِ " , وَقَالَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى قِيَاسِ التَّقْدِيمِ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ . وَأَمَّا أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَسَوَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ . ا هـ . وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الرَّوْنَقِ " .(1/335)
خَاتِمَةٌ [ قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً ] قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً كَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ . مِنْهَا : مَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ إذَا انْحَصَرَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ . وَمِنْهَا : تَسْوِيغُ الذَّهَابِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا . وَمِنْهَا : كَوْنُ الْجَمِيعِ صَوَابًا إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , وَغَيْرُ ذَلِكَ . ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ . [ الِاخْتِلَافُ مَذْمُومٌ وَالِاجْتِمَاعُ مَحْمُودٌ ] وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ " : قَدْ ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ , وَلَوْ كَانَ مِنْ دِينِهِ مَا ذَمَّهُ , وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ حُكْمِهِ مَا رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ , وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا هُمَا بِهِ , وَمَا حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّتَهُ مِنْ الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ . قَالَ : وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً , لَكَانَ الِاجْتِمَاعُ عَذَابًا ; لِأَنَّ الْعَذَابَ خِلَافُ الرَّحْمَةِ , ثُمَّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله تعالى - الِاخْتِلَافُ وَجْهَانِ : فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا , لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ , وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا , فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوْ الْمُقَايِسُ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُ ذَلِكَ , وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ , لَمْ أَقُلْ إنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنْصُوصِ . قَالَ الْمُزَنِيّ : فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ضَيَّقَ الْخِلَافَ كَتَضْيِيقِهِ فِي الْمَنْصُوصِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/336)
نَعَمْ , الْمُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ نَفْسَهُ حُجَّةٌ , فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِيهِ , وَيُؤَوَّلُ حِينَئِذٍ هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى انْفِرَادِهِ . وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْقِيَاسِ , أَوْ فِي قَوْلِهِ , بَعْدَ أَنْ قَطَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ . وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قِيَاسَانِ , فَيَكُونُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ مَعَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْمُجَرَّدِ . قَالَ : وَهَذَا كَالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ , فَإِنَّهُ اجْتَذَبَهُ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا يُشْبِهُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا عَلِمَهُ , فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ فَمُمْتَنِعَةٌ . وَهَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ الْحَيَوَانِ أَنْ يُوجِبَ قِيَاسًا آخَرَ , وَهُوَ أَنَّ الْحَيَوَانَ مَخْصُوصٌ بِمَا سِوَاهُ مِنْ حَيْثُ يُغْتَذَى بِالصِّحَّةِ وَالسُّقُمِ وَيُخْفِي عُيُوبَهُ , صَارَ إلَى تَقْلِيدِ عُثْمَانَ مَعَ هَذَا الْقِيَاسِ . وَالثَّانِي : كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ : إنَّهُ لَا يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ فَاسْتَحْسَنَ الْعِبَارَةَ فَقَالَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ مَعَهُ الْقِيَاسُ . انْتَهَى .(1/337)
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ حُجَّةٌ إذَا كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ , وَالْقِيَاسُ فِي نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَحْدَهُ ؟ قِيلَ : اجْتَذَبَ الْمَسْأَلَةَ وَجْهَانِ مِنْ الْقِيَاسِ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ , فَقَوِيَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ بِقَوْلِ عُثْمَانَ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْقِيَاسَانِ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ كَانَ إمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيَسْقُطَا , أَوْ يَصِحُّ أَحَدُهُمَا فَيَبْطُلُ الْآخَرُ . وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مَعَ الصَّحِيحِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ . قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا نَقُولُ : إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ قَوْلُهُ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُنْشَرْ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ فَكَانَ أَدْوَنُ هَذِهِ الْمَنَازِلِ إذَا عَضَّدَهُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ مُلْحَقَةً بِمَنْزِلَةِ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّبَهُ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً . فَأَمَّا أَوْلَى الْقِيَاسَيْنِ فَلَا يَسْلَمُ مِنْ مُعَارَضَةِ مَا تَبْطُلُ مَعَهُ دَلَالَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَا مُخَالِفَ لَهُ مُقْتَرِنًا بِالشَّبَهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .(1/338)
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ " : مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ , أَنَّهُ إذَا تَجَاذَبَ الْمَسْأَلَةُ أَصْلَانِ مُحْتَمَلَانِ يُوَافِقُ أَحَدُهُمَا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ , فَيَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي مَعَهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى فِي هَذَا عَلَى التَّقْوِيَةِ وَأَنَّهُ أَقْوَى الْمَذْهَبَيْنِ فَلَا يُغْلَطُ عَلَى الشَّافِعِيِّ . هَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ تَقْلِيدَهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُهُ وَيُعَضِّدُهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقِيَاسِ . وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مُقَوٍّ لِلْقِيَاسِ وَمُغَلِّبٌ لَهُ كَمَا يُغَلَّبُ بِكَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ . وَظَاهِرُ نَصِّ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقْتَضِي تَسَاوِي الْقِيَاسَيْنِ , لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قِيَاسٍ وَقِيَاسٍ . نَعَمْ , قَوْلُهُ : وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ ظَاهِرٌ فِي تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ , وَهُوَ مُسْتَنَدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي قَوْلِهِ : إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ : الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ . وَلَمَّا حَكَى الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : الْقَوْلَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ أَصْلًا , فَإِنْ كَانَ مَعَ قَوْلِهِ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَقَوْلُهُ مَعَهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَجَمَاعَةٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدِي , لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ لِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِانْفِرَادِهِ , وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الضَّعِيفُ , فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ . ضَعِيفَانِ غَلَبَا الْقَوِيَّ ؟ انْتَهَى .(1/339)
وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَفَّالِ حَكَاهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ , ثُمَّ خَطَّأَهُ , وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " عَنْ حِكَايَةِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ ضَعِيفٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ قَوْلًا وَاحِدًا , ثُمَّ ضَعَّفَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ . وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ الْحَاوِي " عَنْ الْقَدِيمِ . لَكِنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ مَعَ الْجَلِيِّ , وَأَنَّ الْخَفِيَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْجَلِيِّ إذَا كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ . قَالَ : ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ , وَقَالَ : الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ أَوْلَى . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا فِي الْحَاوِي " فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ إذَا انْضَمَّ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْجُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " . قُلْت : وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ فِي الرِّسَالَةِ " . وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ : إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا وَعَارَضَهُ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى , لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ .(1/340)
وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ وَقَدْ عَارَضَهُ الْقِيَاسُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : إنَّ قَوْلَهُ يُقَدَّمُ , لِعِلْمِهِ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ , وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : أَوْلَى , وَلِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى الْكِتَابِ , وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ . لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لَهُ إلَّا التَّوَقُّفُ , وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ فَيُعْلَمْ أَنَّهُ مَا قَالَهُ إلَّا تَوْقِيفًا . قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ . قَالَ : وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رضي الله عنهما - تَدُلُّ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ غَلَّظَ الدِّيَةَ بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ بِأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ , وَقَدَّرَ دِيَةَ الْمَجُوسِيِّ بِقَوْلِ عُمَرَ , وَأَبَا حَنِيفَةَ قَدَّرَ الْجُعْلَ فِي رَدِّ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِهِ " هُوَ أَشْبَهُ الْمَذَاهِبِ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : هَذَا الْمَذْهَبُ لَا يَخْتَصُّ الصَّحَابِيَّ , فَكُلُّ عَالِمٍ عَدْلٍ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ظُنَّ بِهِ الْمُخَالَفَةُ لِلتَّوْقِيفِ . وَالظَّاهِرُ إصَابَتُهُ فِي شُرُوطِهِ . قُلْت : وَقَدْ طَرَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي . ثُمَّ قَالَ : ثُمَّ هُوَ لَا يَخْتَصُّ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ الْمُخَالِفُ صَحَابِيًّا , فَيَجِبُ إذًا عَلَى الصَّحَابِيِّ الِاقْتِدَاءُ بِالصَّحَابِيِّ الْمُخَالِفِ لِلْقِيَاسِ .(1/341)
وَالْحَاصِلُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ , وَهُوَ مِنْ الْجَدِيدِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ مُطْلَقًا , وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ الْجَدِيدُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قِيَاسٌ , فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ , كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ " . ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ . وَتَقَدَّمَ فِي نَقْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُ فِي قَوْلِ تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ ب " الْقِيَاسُ يُعْتَضَدُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ " الْقِيَاسَ الْخَفِيِّ , وَيَكُونُ فِيمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ قَوْلٌ رَابِعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْلِهَا . وَتَقَدَّمَ أَيْضًا عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ : إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسِ التَّقْرِيبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ التَّحْقِيقِ . وَعَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ : إذَا اعْتَضَدَ بِقِيَاسٍ ضَعِيفٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ , فَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ إنْ جَعَلْنَا الْقِيَاسَ الضَّعِيفَ أَعَمَّ مِنْ قِيَاسِ التَّقْرِيبِ وَغَيْرِهِ , وَإِلَّا فَقَوْلٌ خَامِسٌ .(1/342)
وَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَدَّمَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ قَطْعًا وَخَصَّ الْقَدِيمَ بِمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ , فَإِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْقَدِيمِ . وَفِي كِتَابِ الرَّضَاعِ , فِي الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَدَدِ , حِكَايَةٌ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ تَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا حُجَّةٌ , فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَجَبْتُهُ مِنْ الْقُرْآنِ , فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا . فَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ , فَقَالَ : أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ فَذَكَرَ قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وَقَوْلُهُ عليه السلام : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } وَقَدْ سُئِلَ عُمَرُ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَزِمَ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ الشَّيْخَيْنِ عِنْدَهُ حُجَّةٌ . وَمَذْهَبُهُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ . انْتَهَى . وَقَالَ السِّنْجِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ " : قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مُخَالِفٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ كَانَ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهَا . وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : فَقِيلَ : لَا , لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ .(1/343)
وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ عَلَى اللَّهِ بِصِحَّتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ كَافَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الْجُعَلُ وَمَنْ تَابَعَهُ فَقَالُوا : لَا يَكُون حُجَّةً . قَالَ : فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ : الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ , وَالْجَدِيدُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ وَقَالَ فِي الْقَوَاطِعِ " : إذَا لَمْ يَنْتَشِرْ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ . إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا : هَلْ الْحُجَّةُ فِي الْقِيَاسِ أَوْ فِي قَوْلِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَأَمَّا إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ أَوْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ , وَالْجَلِيُّ مُخَالِفٌ مِثْلَهُ , فَهَذَا مَوْضِعُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَفِي الْقَدِيمِ : قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ , وَفِي الْجَدِيدِ : الْقِيَاسُ أَوْلَى . وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ " : إنْ انْتَشَرَ وَرَضُوا بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا , وَهَلْ يُسَمَّى إجْمَاعًا ؟ وَجْهَانِ . وَإِنْ انْتَشَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِهِ فَوَجْهَانِ . وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى طَرِيقَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) : أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْجَدِيدُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ . وَ ( الثَّانِيَةُ ) : أَنَّهُ إنْ لَنْ يَنْتَشِرَ فِي الْبَاقِينَ فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَحِينَئِذٍ قَوْلٌ خَفِيٌّ . انْتَهَى . وَقَالَ إلْكِيَا : إنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ .(1/344)
فَإِذَا اخْتَلَفُوا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ . وَقِيلَ : يَحْتَجُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ " , لِأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وَقَالَ : إنْ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ أَوْ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ بِذَلِكَ , وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لَهُ . قَالَ إلْكِيَا : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَ أَنْ يَخْتَلِفُوا أَوْ لَا , لِأَنَّ فَقْدَ مَعْرِفَةِ الْخِلَافِ لَا يَنْتَهِضُ إجْمَاعًا . .
وفي البحر الزخار :
( مَسْأَلَةٌ ) وَلَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ أَعْلَمَ ( مد ) ح وث : يَجُوزُ مُطْلَقًا , مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ فَقَطْ ابْنُ شُرَيْحُ : يَجُوزُ إذَا عُدِمَ وَجْهُ اجْتِهَادٍ . ( ع قشا ) : يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ لَا غَيْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْرَفَ مِنْهُ وَقِيلَ : يَجُوزُ فِيمَا يُخَصِّصُهُ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ , لَنَا : إنَّمَا يُكَلَّفُ بِظَنِّهِ حَيْثُ لَهُ طَرِيقٌ فَلَيْسَ لَهُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ إلَّا الدَّلِيلُ , وَلَا دَلِيلَ , فَأَمَّا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا .
وفي مغني المحتاج :(1/345)
ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْمَفْقُودِ فَقَالَ ( وَمَنْ غَابَ ) عَنْ زَوْجَتِهِ أَوْ لَمْ يَغِبْ عَنْهَا , بَلْ فُقِدَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ , أَوْ انْكَسَرَتْ بِهِ سَفِينَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ( وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ ) بِأَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ ( لَيْسَ لِزَوْجَتِهِ نِكَاحٌ ) لِغَيْرِهِ ( حَتَّى يُتَيَقَّنَ مَوْتُهُ ) أَوْ يَثْبُتَ بِمَا مَرَّ فِي الْفَرَائِضِ ( أَوْ ) يُتَيَقَّنَ ( طَلَاقُهُ ) عَلَى الْجَدِيدِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله تعالى عنه عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : وَامْرَأَةُ الْمَفْقُودِ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ وَلَا تَنْكِحْ حَتَّى يَأْتِيَهَا " يَعْنِي مَوْتَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبِهِ نَقُولُ , وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ , وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ , وَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ مَا ذُكِرَ بِعَدْلَيْنِ كَفَى وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّهَادَاتِ الِاكْتِفَاءُ فِي الْمَوْتِ بِالِاسْتِفَاضَةِ مَعَ عَدَمِ إفَادَتِهَا الْيَقِينَ , وَلَوْ أَخْبَرَهَا عَدْلٌ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً بِمَوْتِ زَوْجِهَا حَلَّ لَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَتَزَوَّجَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ .(1/346)
تَنْبِيهٌ : أَطْلَقَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا الْجَدِيدِ هُنَا وَقَيَّدَاهُ فِي الْفَرَائِضِ بِمَا إذَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ فَوْقَهَا قَالَا : فَإِنْ مَضَتْ فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ لَهَا التَّزْوِيجَ كَمَا يُقَسَّمُ مَالُهُ قَطْعًا , وَهَذَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ ( وَفِي الْقَدِيمِ تَرَبَّصُ ) بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ تَتَرَبَّصُ زَوْجَةُ الْغَائِبِ الْمَذْكُورِ ( أَرْبَعَ سِنِينَ ) مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ خَبَرِهِ ( ثُمَّ تَعْتَدُّ لِوَفَاةٍ ) بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرِ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ ( وَتَنْكِحُ ) غَيْرَهُ لِقَضَاءِ عُمَرَ رضي الله عنه بِذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم , وَلِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ مِنْ النِّكَاحِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ , وَهُوَ هُنَا حَاصِلٌ .(1/347)
تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَرْبَعِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ قَاضٍ , وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ , وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي وَإِذَا ضَرَبَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَالِ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمِهِ بِوَفَاتِهِ وَبِحُصُولِ الْفُرْقَةِ , وَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَفَسْخِهِ بِالْعُنَّةِ أَوْ بَاطِنًا فَقَطْ ؟ وَجْهَانِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ أَصَحُّهُمَا - وَتَرَكَ بَيَاضًا وَلَمْ يُصَحِّحْ شَيْئًا - قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْأَشْبَهُ بِالْمَذْهَبِ تَرْجِيحُ نُفُوذِهِ ظَاهِرًا فَقَطْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَالْمُسْتَوْلَدَة كَالزَّوْجَةِ , وَأَنَّ الزَّوْجَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الْخَبَرُ كَالزَّوْجِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا ( فَلَوْ حَكَمَ بِالْقَدِيمِ ) أَيْ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ وُجُوبِ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَمِنْ الْحُكْمِ بِوَفَاتِهِ وَبِحُصُولِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ( قَاضٍ نُقِضَ ) حُكْمُهُ ( عَلَى الْجَدِيدِ فِي الْأَصَحِّ ) لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ , فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِوَفَاتِهِ فِي قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ وَعِتْقِ أُمِّ وَلَدِهِ قَطْعًا , وَلَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ فُرْقَةِ النِّكَاحِ قَالَ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ : رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْقَدِيمِ , وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : إنْ حَكَمَ بِهِ قَاضٍ نُقِضَ قَضَاؤُهُ إنْ بَانَ لَهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ , وَالثَّانِي : لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ .(1/348)
تَنْبِيهٌ : حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ نَفَذَ فِي الزَّوْجَةِ طَلَاقُ الْمَفْقُودِ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ لِلْحُكْمِ بِحَيَاتِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ أَمْ بَعْدَهَا , وَيَسْقُطُ بِنِكَاحِهَا غَيْرَهُ نَفَقَتُهَا عَنْ الْمَفْقُودِ ; لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَيَسْتَمِرُّ السُّقُوطُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمَفْقُودُ عَوْدَهَا إلَى طَاعَتِهِ وَأَنَّهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَاعْتَدَّتْ وَعَادَتْ إلَى مَنْزِلِهِ ; لِأَنَّ النُّشُوزَ إنَّمَا يَزُولُ حِينَئِذٍ , وَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي , إذْ لَا زَوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ إلَّا فِيمَا أَنْفَقَهُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ ( وَلَوْ نَكَحَتْ ) زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ ( بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَ ) بَعْدَ ( الْعِدَّةِ ) وَقَبْلَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ أَوْ طَلَاقِهِ ( فَبَانَ ) الزَّوْجُ ( مَيِّتًا ) وَقْتَ الْحُكْمِ بِالْفُرْقَةِ ( صَحَّ ) نِكَاحُهَا ( عَلَى الْجَدِيدِ ) أَيْضًا ( فِي الْأَصَحِّ ) اعْتِبَارًا بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ فَبَانَ مَيِّتًا وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ لِفَقْدِ الْعِلْمِ بِالصِّحَّةِ حَالَ الْعَقْدِ , وَقِيَاسُ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُرْتَابَةِ إذَا حَصَلَتْ الرِّيبَةُ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ نَكَحَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَقْرَاءِ مَعَ بَقَاءِ الرِّيبَةِ وَإِنْ بَانَ أَنَّ النِّكَاحَ صَادَفَ الْبَيْنُونَةَ , وَأَيْضًا فَقَدْ جَعَلُوا الشَّكَّ فِي حَالِ الْمَنْكُوحَةِ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ , وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى(1/349)
حُكْمِ حَاكِمٍ خَفَّ أَمْرُهُ أَمَّا إذَا بَانَ حَيًّا بَعْدَ أَنْ نَكَحَتْ فَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ بَاقٍ عَلَى زَوْجِيَّتِهِ , لَكِنْ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَعْتَدَّ مِنْ الثَّانِي , وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدَّعِهِ الْمَفْقُودُ لَحِقَ بِالثَّانِي عِنْدَ الْإِمْكَانِ لِتَحَقُّقِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْمَفْقُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ , وَلَوْ لَمْ تَتَزَوَّجْ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمَفْقُودِ لِذَلِكَ , فَإِنْ قَدِمَ الْمَفْقُودُ وَادَّعَاهُ لَمْ يُعْرَضْ عَلَى الْقَائِفِ حَتَّى يَدَّعِيَ وَطْئًا مُمْكِنًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ , فَإِنْ انْتَفَى عَنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الدَّعْوَى بِهِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْقَائِفِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ إرْضَاعِهِ غَيْرَ اللِّبَإِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ إنْ وَجَدَ مُرْضِعَةً غَيْرَهَا وَإِلَّا فَلَا يَمْنَعُهَا مِنْهُ , وَإِذَا جَازَ لَهُ الْمَنْعُ وَمَنَعَهَا فَخَالَفَتْ وَأَرْضَعَتْهُ فِي مَنْزِلِ الْمَفْقُودِ وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ وَلَا وَقَعَ خَلَلٌ فِي التَّمْكِينِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا عَنْهُ وَإِلَّا سَقَطَتْ
وفي بريقة محمودية :
((1/350)
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ ) الدَّالَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَاخْتِيَارِهِ فَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَهِيَ قَوْلُهُ ( الْإِخْبَارُ ) الْأَوَّلُ ( د ) مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ( عَنْ الْعِرْبَاضِ ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ ( بْنِ سَارِيَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ } ) أَيْ نَفْسَ يَوْمٍ أَوْ لَفْظَةُ ذَاتَ مُقْحَمَةٌ لِتَحْسِينِ اللَّفْظِ وَالتَّأْكِيدِ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْمُسَمَّى إلَى اسْمِهِ مِثْلُ ذَاتَ مَرَّةٍ وَمُؤَنَّثُ ذُو أَصْلُهَا ذَوِي فَحُذِفَتْ الْيَاءُ مِنْهُ فَبَقِيَ ذُو وَعُوِّضَ التَّاءُ عَنْهَا فَصَارَتْ ذَوَتْ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ أَلْفًا فَصَارَ ذَاتَ وَقَدْ قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالْوَصْفِيَّةِ وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إلَيْهَا ذَاتِيٌّ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ . وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَهُوِيَّتِه وَعَلَى مَا يُقَابِلُ الْوَصْفَ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ وَلِذَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ ( { ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا } ) قِيلَ نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ فِي وَجْهِ لَفْظِ ثُمَّ إنَّ الْإِقْبَالَ بَعْدَ الْأَذْكَارِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَسْنُونُ الْمُتَوَارَثُ مِنْ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّحْمِيدَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْبَالَ لَيْسَ بَعْدَهَا بَلْ عِنْدَهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ بِمَعْنَى الْفَاءِ .(1/351)
كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَوْ مُقْحَمٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَخْفَشِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هُنَا مُهْلَةٌ كَمَا فِي نَحْوِ { - وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ } - فَتَأَمَّلَ ( { بِوَجْهِهِ } ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ ( { فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً } ) عَظِيمَةً ( { بَلِيغَةً } ) أَيْ مُجْتَهِدًا غَيْرَ قَاصِرٍ فِيهَا أَوْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ فَصِيحٍ أَوْ مَوْعِظَةٍ تَامَّةٍ كَامِلَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ مُطَابِقٍ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مَعَ فَصَاحَتِهِ ( { ذَرَفَتْ فِيهَا الْعُيُونُ } ) سَالَ دَمْعُهَا مِنْ الْبُكَاءِ وَقِيلَ لَفْظُ فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ { عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ } . ( { وَوَجِلَتْ } ) بِكَسْرِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ ( { مِنْهَا } ) تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْضًا ( { الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ } ) مِنْ الْحَاضِرِينَ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ خِلَافَ عَادَتِهِ ( { يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ } ) الْمَوْعِظَةَ ( { مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ } ) أَيْ كَمَوْعِظَةِ مُوَدِّعٍ أَوْ هِيَ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ لِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ حِينَ إرَادَةِ السَّفَرِ بِنَصَائِحَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ فَرْطًا لِحُبِّهِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضِلَّ بَعْدَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ .(1/352)
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مُوَدِّعٍ لِهَوَاهُ مُوَدِّعٍ لِعُمْرِهِ وَسَائِرٌ إلَى مَوْلَاهُ وَقِيلَ يَعْنِي صَلِّ صَلَاةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ بَعْدَهُ فَيُصَلِّي بِاسْتِفْرَاغٍ فِي إحْكَامِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْتَفْرِغَ جَهْدَهُ فِي إفَادَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ وَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْوِيفُ وَالتَّشْدِيدُ أَحْيَانًا ( { فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا } ) أَيْ تُوصِينَا . قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْعَهْدُ الْوَصِيَّةُ ( { قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ } ) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي آخَرَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ ( { وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ } ) لِوُلَاةِ الْأُمُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { - وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } يُقَالُ فُلَانٌ سَمِعَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ امْتَثَلَ ( { وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا } ) يَعْنِي وَلَوْ كَانَ أَمِيرُكُمْ حَقِيرًا ذَلِيلًا كَالْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ يَجِبُ عَلَيْكُمْ الطَّاعَةُ لَكِنْ هَذَا إنْ كَانَ أَمْرُهُ عَلَى نَهْجِ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَلَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ .(1/353)
قَالَ فِي الْفَتَاوَى وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِإِطَاعَةِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ إنْ عَلَى الشَّرْعِ فَبِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ أَدَّى عِصْيَانُهُ إلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ فَيُطِيعُ فِيهِ أَيْضًا إذْ الضَّرَرُ الْأَخَفُّ يُرْتَكَبُ لِلْخَلَاصِ مِنْ الضَّرَرِ الْأَشَدِّ وَالْأَعْظَمِ وَكَذَا فِي كُلِّ مَفْسَدَتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ إتْيَانُهُ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ لِجَوَابِ الْمُجِيبِ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ ( { فَإِنَّهُ } ) أَيْ الشَّأْنَ ( { مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا } ) . الظَّاهِرُ مِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ كَمَا فِي عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله تعالى عنهما وَمِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي مُطْلَقِ الْأُمُورِ كَخِلَافِيَّاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ مَا قَالَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ ( { فَعَلَيْكُمْ } ) أَيْ الْزَمُوا ( { بِسُنَّتِي } ) . الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطْلَقِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْهَمُ الْمُطْلَقَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ الْمُقَيَّدُ خَاصٌّ وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ فَالتَّقْرِيبُ تَامٌّ فَافْهَمْ ( { وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ } ) أَيْ خُلَفَائِي فِي الْقَامُوسِ الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ .(1/354)
وَعَنْ الرَّاغِبِ الْخِلَافَةُ النِّيَابَةُ عَنْ الْغَيْرِ لِغَيْبَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ عَجْزِهِ أَوْ تَشْرِيفِ الْمُسْتَخْلَفِ وَعَلَى الْأَخِيرِ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُرَادُ الْخِلَافَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا قَوْلُهُ صلى الله تعالى عليه وسلم { الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً } الَّتِي انْتَهَتْ بِشَهَادَةِ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه فَمَا قِيلَ مِنْ تَجْوِيزِ مَنْ بَعْدَهُمْ إنْ سَارُوا سِيرَتَهُمْ مِنْ الْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ فَكَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ الْآخَرَ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ { ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ } . وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَقَدْ يُزَادُ { عَضُوضًا } يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ ذَيْلَ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنْ قِيلَ الْمَرْجِعُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ إلَى السُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ مَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ أَقُولُ لَعَلَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شُمُولِ السُّنَّةِ بِهَا وَلَوْ مَجَازًا أَيْ بِطَرِيقَتَيْ وَلَوْ قِيَاسًا . ( {(1/355)
الرَّاشِدِينَ } ) الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ( { الْمَهْدِيِّينَ } ) صِيغَةُ مَفْعُولٍ قِيلَ أَيْ هَدَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَاهْتَدَوْا لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ أَمْرِ السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُلَفَاءِ وَتَمْهِيدٌ لِبَعْضِ الْأَمْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( { تَمَسَّكُوا بِهَا } ) أَيْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ السُّنَّتَيْنِ كَأَنَّهُ تَكْرِيرٌ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتٍ وَتَأْكِيدٍ لِصُعُوبَةِ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ خُصُوصًا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ وَفِي إفْرَادِ الضَّمِيرِ إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى سُنَّتِهِ عليه الصلاة والسلام وَأَخْذِهَا مِنْهَا لَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ قِيلَ اتِّخَاذُ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إمَّا لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَ أَوْ لِكَوْنِهِمْ رَاشِدِينَ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ عَدَمُ الِاتِّخَاذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَ خِلَافَتِهِمْ وَأَيْضًا يَجْرِي فِي سَائِرِ الْخُلَفَاءِ وَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي اتِّخَاذَ سُنَّةِ كُلِّ مَنْ كَانَ رَاشِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً .(1/356)
وَعَلَى الثَّالِثِ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ بَلْ كَلَامُهُمْ فِي مُطْلَقِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَصَحَابِيٍّ نَعَمْ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْمَاعِ إجْمَاعُهُمْ لَكِنَّهُ خِلَافُ الصَّحِيحِ وَلَوْ خُصَّ بِأُمُورِ الْخِلَافَةِ كَالسِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ أَوْ تَدْبِيرِ نِظَامِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَا يُلَائِمُ السِّيَاقَ وَالسِّيَاقَ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ أَوْ سُنَّةٍ لِرَسُولٍ إشَارَةٌ إلَى الدِّينِيِّ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى الْعَادِيِّ وَالْوَصْفَانِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَبَعِيَّتَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِمْ عَلَى الرُّشْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَبَعْدُ فِيهِ تَأَمُّلٌ . ( {(1/357)
وَعَضُّوا عَلَيْهَا } ) أَيْ مُطْلَقِ السُّنَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى تَيْنِك السَّنَتَيْنِ ( { بِالنَّوَاجِذِ } ) هِيَ أَقْصَى الْأَضْرَاسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ هِيَ الْأَنْيَابُ أَوْ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ أَوْ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا جَمْعُ نَاجِذَةٍ وَالنَّجْذُ شِدَّةُ الْعَضِّ بِهَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الِاسْتِمْسَاكِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى غَايَةِ إتْعَابِ الْمُسْتَمْسِكِ بِالسُّنَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْمُجَاهِدِينَ مَعَ الْمُخَالِفِينَ وَتَصْعُبُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَيَتْعَبُ فِي الْحَلَالِ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ كَمَا هُوَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْأُصُولِ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا هِيَ لِلْخُلَفَاءِ لَا الصَّحَابِيِّ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ وَوِفَاقِهِمْ . وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ فَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ عَدَمِ خِلَافِهِمْ فَيَجِبُ إجْمَاعًا نَعَمْ قَالُوا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ( { وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ } ) أَيْ اتَّقُوا وَاحْذَرُوا الْأَخْذَ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا إشَارَةَ لَهَا بِالْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ وَسَيُفَصِّلُ . ( {(1/358)
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } ) هَذَا شَكْلٌ أَوَّلٌ مَذْكُورُ الْمُقَدَّمَتَيْنِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُبَاحًا وَوَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا وَالتَّخْصِيصُ بِالدِّينِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ إذْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ إنَّمَا هِيَ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَفَائِدَتُهُ إنَّمَا تَظْهَرُ لَا الْعَادِيَّاتُ أَقُولُ سَيُوَضِّحُهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِإِذْنٍ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا بِدْعَةَ مُطْلَقًا . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ( { وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } ) قِيلَ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ عَامٌّ خَصَّهُ حَدِيثُ { فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } وَحَدِيثُ { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ } فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ عَلَى حَسَنِهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَوْهُ حَسَنًا لَيْسَ بِضَلَالَةٍ بَلْ مَثُوبَةٌ كَصَلَاةِ الْقَدْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَالتَّصْلِيَةِ وَالتَّرْضِيَةِ حَالَ الْخُطْبَةِ وَالْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ وَدَوَرَانِ الصُّوفِيَّةِ .(1/359)
وَالذِّكْرِ عِنْدَ الْجِنَازَةِ وَالْعَرَائِسِ وَالسُّؤَالِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَاتِّخَاذِ الطَّعَامِ لِرُوحِ الْمَيِّتِ فِي الْأَيَّامِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي أَصْلِهِ وَمُثَابٌ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ثُمَّ قَالَ فَنَهْيُ الْمُصَنِّفِ فِتْنَةً فِي الدِّينِ ثُمَّ أُجِيبَ عَنْ تَفَاصِيلِ كُلِّ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ أَقُولُ بِإِجْمَالِ يُقْنَعُ بِهِ عَنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْكَامِلِ وَالْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ انْصِرَافِ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ الْكَامِلَةَ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ عَلَى مَنْعٍ وَخِلَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ هُوَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ لَا النُّصُوصُ إذْ اسْتَخْرَجَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ قَالُوا إذَا تَعَارَضَ النَّصُّ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ النَّصِّ اجْتِهَادِيًّا وَلَهُ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ وَتَأْوِيلٌ وَتَخْصِيصٌ وَنَاسِخٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْمُجْتَهِدُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ الْمَنْعُ عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ صَرِيحٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ .
((1/360)
تَنْبِيهٌ ) : قَالَ الْقَنَوِيُّ سِرُّ عَدِّ الْمَلِكِ الْكَذَّابِ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَذِبَ قِسْمَانِ ذَاتِيٌّ وَصِفَاتِيٌّ فَالصِّفَاتِيُّ مَحْصُورٌ فِي مُوجِبَيْنِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ , وَالْمَلِكُ مَحِلُّهُمَا ظَاهِرًا وَلَيْسَ حُكْمُهُ مَعَ الرَّعِيَّةِ بِصُورَةِ رَهْبَةٍ مِنْهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكَذِبِ فَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ كَذَّابًا فَلَا مُوجِبَ إلَّا لُؤْمُ الطَّبْعِ فَهُوَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ , وَالْأَوْصَافُ الذَّاتِيَّةُ الْجِبِلِّيَّةُ تَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ تُنَاسِبُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ . وَعَنْ الْأَرْبَعِينَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ وَبُغْضُهُ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ أَشَدُّ أَوَّلُهَا يُبْغِضُ الشُّبَّانَ الْفُسَّاقَ وَبُغْضُهُ لِلشُّيُوخِ الْفُسَّاقِ أَشَدُّ وَالثَّانِي يُبْغِضُ الْبُخَلَاءَ وَبُغْضُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ الْبُخَلَاءِ أَشَدُّ وَالثَّالِثُ يُبْغِضُ الْمُتَكَبِّرِينَ وَبُغْضُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ أَشَدُّ } . وَيُقَالُ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ وَحُبُّهُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَشَدُّ أَوَّلُهَا يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَحُبُّهُ لِلشُّبَّانِ الْأَتْقِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّانِي يُحِبُّ الْأَسْخِيَاءَ وَحُبُّهُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَسْخِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّالِثُ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ وَحُبُّهُ لِلْأَغْنِيَاءِ الْمُتَوَاضِعِينَ أَشَدُّ } انْتَهَى ( حَكَّ ) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ . ((1/361)
عَنْ طَارِقٍ ) رضي الله تعالى عنه ( أَنَّهُ خَرَجَ عُمَرُ ) مُتَوَجِّهًا ( إلَى الشَّامِ ) إقْلِيمٍ مَعْرُوفٍ أَوَّلُهُ نَابُلُسُ وَآخِرُهُ الْعَرِيشُ ( وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ ) بْنُ الْجَرَّاحِ ( فَأَتَوْا ) أَيْ عُمَرُ مَعَ عَسْكَرِهِ ( عَلَى مَخَاضَةٍ ) مَوْضِعِ خَوْضِ الْمَاءِ ( وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ ) عَنْهَا لِتَمَامِ نَوْبَةِ الرُّكُوبِ فَأَرْكَبَ غُلَامَهُ عَلَيْهَا ( وَخَلَعَ خُفَّيْهِ ) مِنْ قَدَمَيْهِ ( فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ ) تَوَاضُعًا ( وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ ) فِي الْمَاءِ ( فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ) أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِهِ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه وَلَمْ يُلَقَّبْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ ( أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا ؟ ) بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ لِلتَّعَجُّبِ ( مَا يَسُرُّنِي ) مَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلُ مِنْك ( فَإِنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ ) أَيْ الشَّامِ ( اسْتَشْرَفُوك ) يُقَالُ اسْتَشْرَفَ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى حَاجِبَيْهِ يَعْنِي : أَنَّ الْقَوْمَ يَنْظُرُونَ إلَيْك وَيُحَقِّرُونَ ذَلِكَ ( فَقَالَ أَوَّهْ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ ( وَلَمْ يَقُلْ ذَا ) إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَحَدٌ ( غَيْرُك ) يَا ( أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْته ) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ ( نَكَالًا ) سَبَبَ نَكَالٍ وَعَذَابٍ ( لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم ) لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ بِالْمَرَاكِبِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَلَابِسِ الْفَاخِرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ الْكِبْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَشِّي , وَأَنَا أَقُولُ(1/362)
إنَّهُمْ أُسْوَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُتَابَعَتِهِمْ بِلِسَانِ الرِّسَالَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ( إنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ ) كَمَا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي جَهَالَةٍ وَقِيلَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَرَبَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ طَاعَةِ الْفُرْسِ وَكَانَ سُلْطَانُهُمْ يَتَوَلَّى وَيُعْزَلُ بِأَمْرِ كِسْرَى وَكَانَتْ الشَّوْكَةُ حِينَئِذٍ لِلرُّومِ وَفَارِسَ ( فَأَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ ) بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِشَرَفِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ ( فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا ) مِنْ نَحْوِ الْمَرَاكِبِ وَالْمَلَابِسِ ( أَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ) مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ( أَذَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّهُ اعْتِزَازٌ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَمَنْ سَلَكَ إلَى غَيْرِ طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ ضَلَّ سَعْيُهُ وَخَسِرَ كَدَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعِزَّ بِالْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ الْعِزُّ بِغَيْرِهِ أَذَلَّهُ اللَّهُ فَأَفَادَ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه أَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِزٌّ وَرِفْعَةٌ وَالْكِبْرُ خِلَافُهُ فَإِنْ قِيلَ سُؤَالُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَارِدٌ عَلَى نَهْجِ الْقِيَاسِ .(1/363)
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا أَوْ مُفْتِيًا أَوْ حَاكِمًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ يَلْزَمُ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ تَحْقِيقِيًّا لَا إلْزَامِيًّا وَإِقْنَاعِيًّا , وَفَقَاهَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ سَبَبِ فِعْلِهِ لَا الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ وَأَمَّا وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيُّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَبِي الْيُسْرِ فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ مُطْلَقًا . وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ فَلَا يُقَلَّدُ إلَّا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَاحْتِجَاجُ الْمُصَنِّفُ إمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَنْعِ كَوْنِ سُؤَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ هُوَ التَّوَاضُعُ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ الْخَلِيفَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ بِلَا إيجَابٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَكَانُوا سَاكِتِينَ ثُمَّ السَّامِعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ وَقَابِلِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا وَسَلَّمُوا .(1/364)
وَفِي كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَقَعَ الرِّوَايَةُ هَكَذَا عَنْ طَارِقٍ أَنَّ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ لَقِيَهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ وَقَدْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَجَعَلَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ , قَالُوا لَهُ الْآنَ يَلْقَاك الْجُنُودُ , قَالَ إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ .(1/365)
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قِرْبَةً عَلَى عُنُقِهِ فَقِيلَ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا قَالَ نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي فَأَرَدْت أَذِلُّهَا وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ طَافَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ وَحَوْلَهَا صِبْيَانٌ يَبْكُونَ وَإِذَا قِدْرٌ يَغْلِي عَلَى النَّارِ بِالْمَاءِ فَسَأَلَ عَنْ بُكَائِهِمْ , فَقَالَتْ لِلْجُوعِ فَسَأَلَ عَنْ الْمَاءِ , فَقَالَتْ لِأُرِيَهُمْ مَرَقَةً وَأُعَلِّلَهُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ النَّوْمُ , فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ جَاءَ إلَى دَارِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ فِي غِرَارَةٍ طَعَامًا وَلِبَاسًا وَدَرَاهِمَ , فَقَالَ يَا أَسْلَمُ احْمِلْ عَلَيَّ فَقُلْت أَنَا أَحْمِلُهُ فَقَالَ إنِّي أَنَا الْمَسْئُولُ فِي الْآخِرَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَجَاءَ مَنْزِلَ الْمَرْأَةِ وَجَعَلَ فِي الْقِدْرِ دَقِيقًا وَشَحْمًا وَتَمْرًا وَحَرَّكَهُ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَيَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ خِلَالِ لِحْيَتِهِ حَتَّى طَبَخَ لَهُمْ فَأَطْعَمَهُمْ بِيَدِهِ فَخَرَجَ فَاطَّلَعَ عَلَى ضَحِكِ الصِّبْيَانِ وَسُرُورِهِمْ , فَقَالَ الْآنَ طَابَتْ نَفْسِي وَلِتَوَاضُعِهِ أَيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا مَعَ سَائِرِ مَنَاقِبِهِ فِي شَرْحِ وَصَايَا إمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( ت ) التِّرْمِذِيُّ ( عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ( عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ) عَبْدِ اللَّهِ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ } ) النَّمْلِ الصَّغِيرِ فِي الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ جَزَاءً عَلَى وِفَاقِ(1/366)
عَمَلِهِمْ ( { فِي صُوَرِ الرِّجَالِ } ) زِيَادَةً فِي ذُلِّهِمْ وَحَقَارَتِهِمْ يَعْنِي جُثَّتَهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرَّةِ وَصُورَتَهُمْ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ ( { يَغْشَاهُمْ } ) يُحِيطُهُمْ ( { الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان } ) يَتَضَاعَفُ ذُلُّهُمْ وَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ; لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ( { يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ } ) بِالزَّجْرِ وَالْقَهْرِ وَالسَّائِقُونَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ غِلَاظٌ شِدَادٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } الْآيَاتِ ( { يُقَالُ لَهُ بُولَسٌ } ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ آخِرُهُ مُهْمَلَةٌ , كَذَا قِيلَ عَنْ النِّهَايَةِ وَقِيلَ فُوعِلٌ مِنْ الْإِبْلَاسِ بِمَعْنَى الْيَأْسِ وَلَعَلَّ السِّجْنَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ ; لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهِ يَئِسَ مِنْ الْخَلَاصِ عَمَّا قَرِيبٌ وَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا فَلَعَلَّهُ أَعْجَمِيٌّ إذْ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مِثَالُهُ أَقُولُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَأَمَّلْ فِيهِ ( { يَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ } ) يَغْشَاهُمْ وَيُحِيطُهُمْ نَارُ النِّيرَانِ فِي الْقَامُوسِ النَّارُ تُجْمَعُ عَلَى أَنْيَارٍ ( { يُسْقَوْنَ } ) عَلَى الْمَفْعُولِ ( { مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ } ) مَا يُعْصَرُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ لَعَلَّهَا الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ . ( {(1/367)
طِينَةِ الْخَبَالِ } ) بَدَلٌ مِنْ عُصَارَةِ وَالْخَبَالُ الْفَسَادُ أَيْ الطِّينَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ فَسَادِ أَبْدَانِ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ كَالْحَوْضِ وَقِيلَ السُّمُّ الْقَاتِلُ وَالْهَلَاكُ وَالْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ ( م ) مُسْلِمٌ ( عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ ) يُنَصِّبُ خَلِيفَةً ( فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَشُقُّ السُّوقَ ) يَعْنِي يَنْشَقُّ أَهْلُ السُّوقِ لَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيَمُرَّ هُوَ ( وَ ) الْحَالُ ( هُوَ يَقُولُ جَاءَ الْأَمِيرُ ) لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالِيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِمَارَةِ عَادَةً فَيَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَهْلُ السُّوقِ عَزْلَهُ مِنْ صَنِيعِ حَالِهِ وَلِيُفَسَّحَ لَهُ الطَّرِيقُ فَيُتِمَّ مَصْلَحَتَهُ وَيَقْضِيَ مَهَامَّ الْمُسْلِمِينَ ( وَفِي رِوَايَةٍ ) يَقُولُ ( طَرِّقُوا ) أَيْ أَعْطُوا طَرِيقًا ( لِلْأَمِيرِ حَتَّى يَنْظُرَ النَّاسُ إلَيْهِ ) وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي تَوَاضُعِهِ مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ لِلتَّرْغِيبِ وَلِتَعْلِيمِ شَرَفِ التَّوَاضُعِ وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِهَا ( خ ) الْبُخَارِيُّ ( عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ } ) أَيْ التَّكَبُّرِ ( { خُسِفَ بِهِ } ) فِي الْأَرْضِ ( { فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ } ) يَتَحَرَّك وَيَضْطَرِبُ يَعْنِي يَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا ( { فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ(1/368)
الْقِيَامَةِ } ) قِيلَ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِجَرِّ إزَارِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِكِبْرِهِ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكِبْرِ إذَا جُوزِيَ بِمَا تَرَى فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُ الْكِبْرَ صَنْعَةً وَيَأْتِي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ فَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ , وَالْعَاقِلُ يَنْزَجِرُ وَيَعْتَبِرُ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } ( ت ) التِّرْمِذِيُّ ( عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ) رضي الله تعالى عنه ( أَنَّهُ قَالَ يَقُولُونَ فِي ) بِالتَّشْدِيدِ ( التِّيهُ ) أَيْ يَنْسُبُونَ إلَيَّ الْكِبْرَ أَوْ يَكُونُونَ فِي الْكِبْرِ ( وَ ) الْحَالُ أَنِّي ( قَدْ رَكِبْت الْحِمَارَ ) . وَمَا أَنِفْت مِنْ رُكُوبِهِ ( وَلَبِسْت الشَّمْلَةَ ) أَيْ الصُّوفَ ( وَقَدْ حَلَبْت الشَّاةَ وَقَدْ { قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ } ) أَيْ الثَّلَاثَةَ ( { فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ شَيْءٌ } ) لِأَنَّهَا مِنْ عَادَاتِ أَسَافِلِ النَّاسِ غَالِبًا . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ لُبْسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ .(1/369)
قَالَ الْمُنَاوِيُّ يَعْنِي بِقَصْدٍ صَالِحٍ لَا لِإِظْهَارِ الزُّهْدِ وَإِيهَامًا لِمَزِيدِ التَّعَبُّدِ وَمُجَالَسَةُ الْفُقَرَاءِ بِقَصْدِ إينَاسِهِمْ وَالتَّوَاضُعُ مَعَهُمْ وَنَحْوُ رُكُوبِ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالِ الْعَنْزِ يَعْنِي اعْتِقَالَ الْعَنْزِ لِيَحْلُبَ لَبَنَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُبْعِدَةٌ عَنْ الْكِبْرِ
((1/370)
وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَاحِدٌ ) قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَبِالْعَكْسِ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَمَرْجِعُهُمَا إلَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لَكِنْ لِتَغْيِيرِ مَفْهُومِهِمَا قَدْ يَتَعَاطَفَانِ مِثْلُ { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } - { وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا } وَلِإِطْلَاقِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ , قَدْ ثَبَتَ مَعَ الْإِسْلَامِ نَفْيُ الْإِيمَانِ مِثْلُ - { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } - وَلِكَوْنِ السُّؤَالِ عَنْ مُتَعَلِّقِ الْإِيمَانِ وَعَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ } إلَى آخِرِهِ { وَالْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ . ((1/371)
وَهُوَ ) أَيْ هَذَا الْوَاحِدُ ( تَصْدِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) وَالتَّصْدِيقُ إدْرَاكُ الْحُكْمِ أَيْ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّا وُقُوعٍ يَعْنِي الْجُزْءَ الْأَخِيرَ لِلْقَضِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ وَالْمِيزَانِيُّ وَالْإِيمَانِيُّ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلِ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ لقوله تعالى - { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } - وَقَوْلُهُ - { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } - وَقَوْلُهُ - { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } - لَكِنْ أَوْرَدَ بِأَنَّ عَدَمَ إيمَانِهِمْ لِنَحْوِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَقُولُ : يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ رُكْنٍ آخَرَ لِلْإِيمَانِ أَوْ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَالْإِقْرَارِ شَطْرًا أَوْ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ أَوْ لِإِنْكَارِ مَا عَلِمَهُ أَوْ لِإِنْكَارِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَقَدَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَأَقُولُ : لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْإِذْعَانُ فِي الْمِيزَانِيِّ وَكَانَ عِلْمًا مُجَرَّدًا لَزِمَ عَدَمُ كَوْنِ الْإِيمَانِ الِاسْتِدْلَالِيِّ إيمَانًا إذْ اللَّازِمُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ حِينَئِذٍ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِلَا قَبُولٍ وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ مَعَ الْقَبُولِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ رَئِيسِهِمْ ابْنِ سِينَا اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِي التَّصْدِيقِ فَمَا يُقَالُ فِي الْجَوَابِ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا يَعْنِي الْقَبُولَ تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَخِلَافُ(1/372)
نَصِّ رَئِيسِهِمْ وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ مَكَانَ التَّصْدِيقِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ . قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ : وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ نَقْلٌ وَلِهَذَا يَمْتَثِلُونَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَاسْتِفْسَارٍ وَإِنَّمَا خَصَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ مَخْصُوصَةٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ إلَى مَعْنًى آخَرَ لَمَا جَازَ الْخِطَابُ بِلَا بَيَانٍ وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ فَإِنْ قِيلَ : التَّصْدِيقُ قِسْمٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ فِي مُخْتَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَأْمُورًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا قُلْنَا : قَالَ فِي التَّهْذِيبِ : لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ أَنْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ وَكَسْبِهِ بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةً كَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَغَايَتُهُ كَوْنُ التَّصْدِيقِ حَاصِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَأَمَّا أَنَّهُ مَعْنًى غَيْرُ مَا جُعِلَ فِي الْمَنْطِقِ مُقَابِلًا لِلتَّصَوُّرِ وَفُسِّرَ بكر ويدن فَلَا فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا اُعْتُبِرَ الِاخْتِيَارُ فِي التَّصْدِيقِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ إيمَانُ نَحْوِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ لَزِمَهُ التَّصْدِيقُ ضَرُورَةً بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْمُعْجِزَةِ قُلْنَا : إمَّا مُكْتَسِبٌ بِالِاخْتِيَارِ غَايَتُهُ لَا يَعْلَمُ كَسْبَهُ أَوْ مَأْمُورٌ بَعْدَ ذَلِكَ(1/373)
بِتَحْصِيلِهِ بِالِاخْتِيَارِ ( فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا خَفِيَ كَالِاجْتِهَادِيَّاتِ ( مَجِيئُهُ بِهِ ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فُسِّرَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ بِقَوْلِهِ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ بِلَا افْتِقَارٍ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَوُجُودِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَيَكْفِي الْإِجْمَالُ فِيمَا لُوحِظَ إجْمَالًا فَلَا يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ وَيُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ فِيمَا لُوحِظَ تَفْصِيلًا حَتَّى لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ كَانَ كَافِرًا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا لَوْ جَهِلَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ ( وَالْإِقْرَارُ بِهِ ) أَيْ بِذَلِكَ الْجَمِيعِ بِاللِّسَانِ حَقِيقَةً لِلْقَادِرِ أَوْ حُكْمًا لِلْعَاجِزِ كَالْأَخْرَسِ اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ هُوَ مِنْ الْمَاهِيَّاتِ الْبَسِيطَةِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلَمِ الْهُدَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ لَعَلَّ هَذَا مَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا وَعَبَّرَ عَنْهُ حَفِيدُهُ هُوَ مُخْتَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ إقْرَارٌ بِلَا تَرْكٍ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَمُسْلِمٌ أَوْ مِنْ الْمُرَكَّبَةِ وَحِينَئِذٍ إمَّا ثُنَائِيَّةٌ أَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَلَوْ مَرَّةً وَخَفِيَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله(1/374)
تعالى قَالَ فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَقَالَ حَفِيدٌ السَّعْدُ : مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ قَالَ فِي الْأُصُولِ التَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ قَدْ يَحْتَمِلُهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ وَأَمَّا فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ فَالتَّصْدِيقُ بَاقٍ فِي الْقَلْبِ غَايَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ وَأَنَّ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَافِيهِ فَهُوَ بَاقٍ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ . قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ هُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجِنَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ . قَالَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ : هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَيَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرُ النَّوَافِلِ فَمَنْ أَخَلَّ بِالِاعْتِقَادِ فَمُنَافِقٌ وَبِالْإِقْرَارِ فَكَافِرٌ وَبِالْأَعْمَالِ فَفَاسِقٌ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي لَا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ ( وَالْأَعْمَالُ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ ) لَا عَنْ كَمَالِهِ كَمَا عَرَفْت خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ .(1/375)
قَالَ الدَّوَانِيُّ : هُنَا احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا جُزْءٌ مُقَوِّمٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى أَنْ يُعْدَمَ بِعَدَمِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا جُزْءٌ مُكَمِّلٌ وَمُحَسِّنٌ لَا يُعْدَمُ بِعَدَمِهَا كَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فَالْإِيمَانُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِيمَانِ مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي إلَّا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنْ يَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ هُنَا مَذَاهِبُ أُخَرَ فَإِنَّهُ عِنْدَ الشِّيعَةِ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَعِنْدَ النَّظَّامِيَّةِ التَّسْلِيمُ فَقَطْ بِخَبَرِ إنْسَانٍ وَعِنْدَ الْكَرَّامِيَّةِ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِدُونِ التَّصْدِيقِ وَعِنْدَ الرَّقَاشِيِّ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ بِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الْقَطَّانِ فَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ تَحْقِيقًا وَاعْتِبَارًا أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّهُ إمَّا بَسِيطٌ وَهُوَ سَبْعَةٌ التَّصْدِيقُ فَقَطْ وَالْإِقْرَارُ فَقَطْ بِلَا شَرْطٍ وَبِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالُ فَقَطْ وَالْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَالتَّسْلِيمُ فَقَطْ وَإِمَّا ثُنَائِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَكَوْنُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا ثُلَاثِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ(1/376)
وَالْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ كَمَالِهِ نُقِلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ الْكَلِمَةُ فَإِذَا قَالَهَا حَكَمْنَا بِإِيمَانِهِ اتِّفَاقًا وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ خَارِجَةً عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ ( فَلَا يَزِيدُ ) حَقِيقَتُهُ بِالطَّاعَاتِ ( وَلَا يَنْقُصُ ) بِالْمَعَاصِي فَهَذَا فَرْعُ خُرُوجِ الْأَعْمَالِ عَنْ مَاهِيَّتِه كَمَا نُقِلَ عَنْ الرَّازِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله تعالى عنه وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ الْبَالِغِ حَدَّ الْجَزْمِ وَالْإِذْعَانِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ احْتِمَالَ النَّقِيضِ وَالتَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ لَا يَحْتَمِلُهُ وَأَنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ تَقْتَضِي نُقْصَانَ الْكُفْرِ وَنُقْصَانُهُ زِيَادَةَ الْكُفْرِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى يَزِيدُ وَيَنْقُصُ .(1/377)
قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ وَالْحَقُّ قَبُولُ التَّصْدِيقِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ وَأُمَّتِهِ وَإِيمَانِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُقَلِّدِ بَلْ إيمَانِ الْوَاصِلِ بِالْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } وَقَدْ قَسَّمُوا الْيَقِينَ إلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ لَكِنَّ الشَّرِيفَ الْعَلَّامَةَ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْعَضُدُ عَلَى إرَادَةِ بَيَانِ مُرَادِهِ صَرَّحَ بِعَدَمِ التَّفَاوُت قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الظُّنُونِ وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ كَوْنُهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَهُمْ فَرْعُ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت التَّحْقِيقَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ مِنْ كَمَالِهِ وَكَوْنُهَا جُزْءًا مِنْ الْكَمَالِ لَيْسَ مَنْفِيًّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ مُتَّفَقٌ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَرَّحَ إمَامُنَا الْأَعْظَمُ رحمه الله تعالى فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ إيمَانُ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ لَا مِنْ قُوَّةِ ذَاتِهِ وَضَعْفِهِ وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ ذِكْرُ لُزُومِ الْجَزْمِ الْيَقِينِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّيَّاتِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَلِمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ(1/378)
الْأَصْلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْحَقُّ الْيَقِينِيُّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخَالِفُهُ بَاطِلًا يَقِينًا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ - { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } - وَقَوْلِهِ - { إنْ نَظُنُّ إلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } - وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ بِالْبَالِ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ التَّقْلِيدِيَّ رَاجِعٌ إلَى الظَّنِّ حَقِيقَةً . وَفِي شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ الِاعْتِقَادُ الْمَشْهُورُ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّهُ الرَّاجِعُ إلَى الظَّنِّ وَلَا نِزَاعَ فِي كِفَايَةِ الظَّنِّ فِي بَعْضِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَصِفَةِ التَّكْوِينِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ إثْبَاتِ صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا جَعَلُوا التَّصْدِيقَ الْإِيمَانِيَّ وَالْمِيزَانِيَّ مُتَّحِدَيْنِ وَالْمِيزَانِيُّ شَامِلٌ لِلظَّنِّ أَيْضًا وَأَنَّ اللَّازِمَ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ قَدْ يَكُونُ ظَنًّا فَلْيُتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ . ((1/379)
وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا ) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ ( فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ( وَلَا يَنْبَغِي ) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ ( أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ .(1/380)
وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ ( وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى ) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ( مَخْلُوقٌ ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ( كَسْبِيٌّ ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ ( وَأَمَّا ) الْإِيمَانُ ( بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى مَعْرِفَتِهِ ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ ( فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ ) لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ : عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ . قَالَ النَّسَفِيُّ الْإِيمَانُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِهِدَايَةِ الرَّبِّ فَمَا مِنْ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَمَا مِنْ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ( وَإِيمَانُ الْمُقَلِّدِ ) لِلْغَيْرِ كَالْآبَاءِ وَأَفْوَاهِ الرِّجَالِ فِي الْأَسْوَاقِ بِلَا اسْتِدْلَالٍ .(1/381)
قَالَ فِي التتارخانية الْمُقَلِّدُ هُوَ الَّذِي اعْتَقَدَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِلَا دَلِيلٍ ( صَحِيحٌ ) عِنْدَنَا إنْ كَانَ مُصِيبًا جَازَ مَا فِي الْحَالِ وَإِنْ احْتَمَلَ نَقِيضَهُ فِي الْمَآلِ لَكِنْ عِنْدَ خُطُورِ ذَلِكَ النَّقِيضِ بِنَحْوِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ يَكْفُرُ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ قِيلَ : وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَنُسِبَ إلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَلِذَا قِيلَ : الْمُقَلِّدُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَصْلًا وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي قوله تعالى - { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } - قُوَّةُ هَذِهِ الْآيَةِ تُعْطِي إبْطَالَ التَّقْلِيدِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إبْطَالِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لَا ضَالَّ أَضَلَّ مِنْ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي التَّوْحِيدِ أَقُولُ حُكِيَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِحَّةَ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ ابْنِ نَاجِيٍّ وَأَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ نِسْبَةُ الصِّحَّةِ إلَى الْجُمْهُورِ قِيلَ : إنَّ عَلَيْهِ مُحَقِّقِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ : الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قوله تعالى - { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْت مُؤْمِنًا } - وَقَوْلُهُ صلى الله تعالى عليه وسلم { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَدَخَلَ مَسْجِدَنَا(1/382)
وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ } وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُطْلَقُ التَّصْدِيقِ لَا التَّصْدِيقُ الْمُقَيَّدُ بِحُصُولِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ رضي الله تعالى عنهم يَكْتَفُونَ بِالْإِقْرَارِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ طَلَبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَيْفَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَظَاهِرُ عَدَمِ حُصُولِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ أَصْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَنْفِي كَمَالَهُ وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا كَمَا هُوَ الْمُلْتَزَمُ هُنَا وَأَيْضًا عَدَمُ الصِّحَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِكْفَارِ جَمِيعِ الْعَوَّام وَارْتِدَادِهِمْ وَحُرْمَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَأَنْكِحَتِهِمْ ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ مُرَادَ النَّافِينَ نَفْيُ الصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إثْمٌ وَمُرَادُ الْمُصَحِّحِينَ هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ ( وَلَكِنَّهُ ) أَيْ الْمُقَلِّدَ ( آثِمٌ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ ) لِتَرْكِهِ النَّظَرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ . قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ أَجْمَعَ السَّلَفُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ شَرْعًا .(1/383)
وَقَالَ الدَّوَانِيُّ لقوله تعالى - { فَانْظُرْ إلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } - { قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } - إلَى آخِرِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ مَا يُقَالُ : إنَّهُ لَيْسَ بِآثِمٍ أَصْلًا وَأَمَّا مَا يُقَالُ : إنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ فَهْمِ النَّظَرِ فَلَعَلَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْقُشَيْرِيِّ وَالْعَارِفِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَابْنِ رَشِيدٍ وَجَمَاعَةٍ غَيْرِ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ فَقَطْ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُحَرَّرَةِ بِتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرِعَايَةِ شَرَائِطِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ تَفْصِيلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كِفَايَةً وَإِلَّا فَإِمَّا يَلْزَمُ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ أَوْ جَهَالَةُ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ فَالنَّظَرُ نَحْوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا ذُكِرَ وَالْآخَرَ أَنْ يَحْصُلَ إجْمَالُ النَّظَرِ وَمَآلُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْرِيرِهِ عِنْدَ السُّؤَالِ بِعِبَارَةٍ مُهَذَّبَةٍ كَالِانْتِقَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ .(1/384)
قِيلَ : هَذَا حَاصِلٌ لِأَكْثَرِ الْعَوَّام حَتَّى الصِّبْيَانِ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا فِي التتارخانية الْإِيمَانُ بِالتَّفْصِيلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ إذَا آمَنَ فِي الْجُمْلَةِ كَفَى وَفِيهِ عَنْ النَّوَازِلِ إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعِبَارَةَ وَهُوَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ قَرَّرَ الْمُعْتَقِدَاتِ وَقَالَ : كُنْت عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَا دِينَ لَهُ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ نِكَاحَهُ وَفِيهِ أَيْضًا وَإِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ كَلِمَاتِ الْإِيمَانِ وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ لَا دِينَ لَهُ وَإِذَا آمَنَ جَدَّدَ نِكَاحَهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَلِمَ جَمِيعَ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُهَا وَلَكِنْ يَتَعَقَّلُ أَمْرَ مَعَاشِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ وَلَا يَرِثُ مِنْ أَبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ الكواشي عَنْ الْفَتَاوَى لَا يَصِحُّ نِكَاحُ بَالِغَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى وَصْفِ الْإِيمَانِ بِوَلَدْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَوْ بَلَغَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ نِكَاحُهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَهَذِهِ بَلْوَى عَظِيمَةٌ وَلَهَا كَثْرَةُ عُمُومٍ وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْت مُنَافٍ لِمَا فِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ رحمهم الله مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِسْبَةِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ وَنِسْبَةِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَحُرْمَةِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ إلَى طَائِفَةٍ قُلْنَا : ذَلِكَ لَا(1/385)
يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ إذْ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ إثْمًا . قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ هَلَّا تَدُلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ حِينَ سُئِلَ : بِمَ عَرَفْت رَبَّك ؟ عَرَفْت بِوَارِدَاتٍ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا . وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ : - عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفْت اللَّهَ تَعَالَى بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَفَسْخِ الْهِمَمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ . وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاكْتِفَاءَ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ جَازَ فِي أَصْلِهِ لَكِنْ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ الزَّوَالِ إذْ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِمُجَرَّدِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ سِيَّمَا عِنْدَ ضَعْفِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَقُوَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ أَعَاذَنَا اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وفي فتح العلي المالك :(1/386)
مَا قَوْلُكُمْ ) فِيمَنْ كَانَ مُقَلِّدًا لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رضي الله تعالى عنهم وَتَرَكَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَحْكَامَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَارِكًا لِكُتُبِ الْفِقْهِ مَائِلًا لِقَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ بِذَلِكَ قَائِلًا إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِنْ الْخَطَأِ وَفِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَيْفَ تَتْرُكُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَتُقَلِّدُ الْأَئِمَّةَ فِي اجْتِهَادِهِمْ الْمُحْتَمَلِ لِلْخَطَأِ وَقَائِلًا أَيْضًا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ قَالَ مَالِكٌ أَوْ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْ خَلِيلٌ فَتُقَابِلُونَ كَلَامَ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ مِنْ الْخَطَأِ بِكَلَامِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ , وَمِنْ أَفْعَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي مَسَافَةِ نِصْفِ يَوْمٍ وَفِطْرُ رَمَضَانَ فِيهَا وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ بِلَا وُضُوءٍ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ جَهْرًا وَالْقَبْضُ فِيهَا وَتَأْخِيرُ الصُّبْحِ إلَى الْإِسْفَارِ الْبَيِّنِ .(1/387)
وَمِنْهَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ نَزَلَتْ بِبَرْقَةَ وَبَنَتْ بِهَا زَاوِيَةً وَجَعَلَتْ لَهَا حِمًى مَدَّ الْبَصَرِ وَصَارُوا إذَا رَأَوْا فَرَسًا فِيهِ لِغَيْرِهِمْ رَبَطُوهَا بِلَا أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا يَفْدِيهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ تَمُوتُ صَبْرًا وَإِنْ رَأَوْا فِيهِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ذَكُّوهُ وَأَكَلُوهُ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ صَاحِبُهُ وَيَفْدِهِ بِدَرَاهِمَ وَرَأَوْا ذَاتَ يَوْمٍ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ بِهِ فَبَادَرُوا إلَيْهِ مُتَدَاعِينَ بِلَفْظِ الْإِخْوَانِ وَذَبَحُوا مِنْهُ جُمْلَةً وَاقْتَسَمُوا لَحْمَهَا ثُمَّ أَتَى رَبُّهُ فَوَقَعَ عَلَى شَيْخِهِمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَاقِيَ . وَمِنْهَا أَنَّ شَخْصًا أَعْمَى قَدِمَ إلَيْهِمْ بِأَوْلَادِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً فَلَمْ يُعْجِبْهُ حَالُهُمْ فَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى عَازِمًا عَلَى الرُّجُوعِ لِوَطَنِهِ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ شَيْخُهُمْ وَرَدَّهُ وَقَالَ لَهُ سَتُسَافِرُ فِي غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَقَاهُ شَيْئًا فَاشْتَكَى مِنْ حِينِهِ وَمَاتَ فِي ثَانِي يَوْمٍ وَلَمَّا قَدِمَ شَيْخُهُمْ إلَى مِصْرَ ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَدُ الْمَيِّتِ وَسَأَلَهُ عَنْ تَرِكَتِهِ فَقَالَ لَهُ إنِّي وَضَعْتهَا عِنْدَ فُلَانٍ وَسَأَكْتُبُ لَهُ يُرْسِلُهَا لَك وَلَمَّا تَرَدَّدَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ أَعْطَاهُ خَمْسَةَ رِيَالَاتٍ لَا غَيْرَ . وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ نَفَى عِصْمَةَ أَبِينَا آدَمَ صلوات الله وسلامه عليه بَلْ وَكُلِّ نَبِيٍّ وَرَدَتْ فِيهِ آيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِهَا زَاعِمًا أَنَّهُ نَصٌّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ نَثْرًا وَنَظْمًا .(1/388)
وَمِنْهَا أَنَّ شَيْخَهُمْ أَخْبَرَ أَهْلَ سِيوَى بِخُسُوفِ الْقَمَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مُوهِمًا لَهُمْ الْمُكَاشَفَةَ وَرَدَّهُمْ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى شَيْخِهِمْ إنَّهُ الْمَهْدِيُّ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ نَبِيٌّ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَى مَقَامًا مِنْ عَبْدِ الْقَادِرِ وَنَحْوِهِ وَيُسَمُّونَ طَرِيقَتَهُمْ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَيَظْهَرُونَ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ فَهَلْ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ ضَلَالٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُبَادَرَةُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ أَفِيدُوا الْجَوَابَ .(1/389)
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ أَنْ يَتْرُكَ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَأْخُذَ الْأَحْكَامَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْأُصُولِ لَا تُوجَدُ فِي أَغْلِبْ الْعُلَمَاءِ وَلَا سِيَّمَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي عَادَ الْإِسْلَامُ فِيهِ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مَا ظَاهِرُهُ صَرِيحُ الْكُفْرِ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ رضي الله تعالى عنه الْحَدِيثُ مَضَلَّةٌ إلَّا لِلْفُقَهَاءِ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَحْمِلُ الشَّيْءَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَهُ تَأْوِيلٌ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ أَوْ دَلِيلٌ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْجَبَ تَرْكَهُ غَيْرَ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا مَنْ اسْتَبْحَرَ وَتَفَقَّهَ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى إنَّمَا فَسَدَتْ الْأَشْيَاءُ حِينَ تُعُدِّيَ بِهَا مَنَازِلُهَا وَلَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْأَمْرِ الْمَاضِي الْمَعْرُوفِ الْمَعْمُولِ بِهِ .(1/390)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ رضي الله تعالى عنه السُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ سُنَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى الْعَمَلُ أَثْبَتُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَالَ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ التَّابِعِينَ تَبْلُغُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ الْأَحَادِيثُ فَيَقُولُونَ مَا نَجْهَلُ هَذَا وَلَكِنْ مَضَى الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ جَرِيرٍ رُبَّمَا قَالَ لَهُ أَخُوهُ لِمَ لَمْ تَقْضِ بِحَدِيثِ كَذَا فَيَقُولُ لَمْ أَجِدْ النَّاسَ عَلَيْهِ . قَالَ النَّخَعِيُّ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَأَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ وَقَدْ بَنَى مَالِكٌ رضي الله تعالى عنه مَذْهَبَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ آيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَالثَّانِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَالِمٌ مِنْ الْمُعَارَضَةِ الثَّالِثُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الرَّابِعُ اتِّفَاقُ جُمْهُورِهِمْ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ حَسْبَمَا فِي الدِّيبَاجِ لِلْإِمَامِ ابْنِ فَرْحُونٍ رحمه الله تعالى وَعُمْدَةِ الْمُرِيدِ لِلشَّيْخِ اللَّقَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .(1/391)
فَإِنْ قُلْت إنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ شَيْخَهُمْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ وَفَاقَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ لَيْسَ فِيهِ الشُّرُوطُ . قُلْت لَا بِمُشَاهَدَةِ عَدَمِهَا فِيهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُقْصِرُونَ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بَلْ يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَعَلَى إرْخَاءِ الْعَنَانِ نَقُولُ لَهُمْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ وَاسْتَخْرِجُوا لَنَا أَحْكَامًا مِنْ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ غَيْرَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اسْتَخْرَجَتْهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَهَذَا مَأْخَذُهُ قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } الْآيَةُ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ . وَذَكَرَ عَنْ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ ادِّعَاءُ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ إلَّا لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْمُزَنِيِّ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّمَا كَانَ اجْتِهَادًا مُنْتَسِبًا لِمَذْهَبٍ .(1/392)
وَقَوْلُهُمْ إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِنْ الْخَطَأِ إنْ أَرَادُوا أَنَّهَا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَرْكِ جَمِيعِهَا فَهُوَ تَكْذِيبٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهَادَتِهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْخَطَأِ وَتَضْلِيلٌ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ أَرَادُوا فِي بَعْضِهَا مُعِينًا فَلْيُنْهَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ لَا عَنْ الْجَمِيعِ بَلْ الْوَاجِبُ بَيَانُهُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ مُعِينٍ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْحَقُّ وَاحِدٌ قُلْنَا هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي الْأُصُولِ وَمَنْ قَالَ الْحَقُّ وَاحِدٌ لَمْ يُنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ إذْ الْخَطَأُ غَيْرُ الْمُعِينِ لَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ .(1/393)
وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّعْرَانِيِّ حَيْثُ جَعَلَ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةً دَائِرَةً عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَهُوَ كَلَامٌ مُنَوِّرٌ لِلْبَصَائِرِ وَمُزِيلٌ لِرَيْنِ الضَّمَائِرِ جَزَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ بِمَنِّهِ وَقَوْلُهُمْ فِيهَا أَحْكَامٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ لَا تَقْدَحُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَلَا تُوجِبُ تَرْكَهَا لِابْتِنَاءِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَثْبَتَ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأَشَدُّ النَّاسِ تَمَسُّكًا بِهَا وَوُقُوفًا عِنْدَ حُدُودِهَا فَعَمَلُهُمْ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى نَسْخِهِ وَرُجُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَعَمَلُهُمْ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا عَمِلُوا بِهِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ النَّخَعِيِّ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهَلْ يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ وَأَحَادِيثِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَاشَا وَكَلَّا .(1/394)
قَالَ فِي الْمَدْخَلِ : وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ صلوات الله وسلامه عليه فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَيْفَ خَصَّهُمْ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْقُرُونِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ لَكِنْ اخْتَصَّتْ تِلْكَ الْقُرُونُ بِمَزِيَّةٍ لَا يُوَازِيهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّهُمْ لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ خَصَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخُصُوصِيَّةٍ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْحَقَ غُبَارَ أَحَدِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ بِرُؤْيَةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام وَمُشَاهَدَتِهِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ غَضًّا طَرِيًّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَتَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام وَخَصَّهُمْ بِالْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ وَنُصْرَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَإِخْمَادِهِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَامِهِ وَحَفَّظَهُمْ آيَ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا فَأَهَّلَهُمْ اللَّهُ لِحِفْظِهِ حَتَّى لَمْ يَضِعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ وَيَسَّرُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالْأَقَالِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدُوا لَهُمْ وَحَفِظُوا أَحَادِيثَ نَبِيِّهِمْ عليه الصلاة والسلام فِي صُدُورِهِمْ وَأَثْبَتُوهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى إذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ تَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَرْنِهِمْ بَلْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَمَا بَالُك بِهِمْ وَهُمْ خَيْرُ الْخِيَارِ(1/395)
وَوَصْفُهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِمْ خَيْرًا لَقَدْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى الدَّعْوَةَ وَذَبُّوا عَنْ دِينِهِ بِالْحَمِيَّةِ . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا اخْتَارَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ ا هـ .(1/396)
وَقَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فَصْلٌ فِي بَيَانِ اسْتِحَالَةِ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا قَوَاعِدَ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَرْتَبَتَيْ الشَّرِيعَةِ كَمَا بَنَوْا عَلَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا لَا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَصِحُّ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَمَنْ نَازَعَنَا فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَقَامِ الْأَئِمَّةِ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِالْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ مَعًا وَأَنَّ فِي قُدْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْشُرَ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى مَذْهَبِهِ , وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ بِحُكْمِ مَرْتَبَتَيْ الْمِيزَانِ فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ بَعْدَهُ إلَى النَّظَرِ فِي أَقْوَالِ مَذْهَبٍ آخَرَ لَكِنَّهُمْ رضي الله تعالى عنهم كَانُوا أَهْلَ إنْصَافٍ وَأَهْلَ كَشْفٍ فَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَقِرُّ عَلَى عِدَّةِ مَذَاهِبَ مَخْصُوصَةٍ لَا عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ فَأَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ لِمَنْ بَعْدَهُ عِدَّةَ مَسَائِلَ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْكَشْفِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ فَتَرَكَ الْأَخْذَ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الْإِنْصَافِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا أَطْلَعَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ كَشْفِهِمْ لَا مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالرَّغْبَةِ عَنْ السُّنَّةِ .(1/397)
وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ لَا يَصِحُّ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا عِنْدَ أَهْلِ الْكَشْفِ قَاطِبَةً وَكَيْفَ يَصِحُّ خُرُوجُهُمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ مَعَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَوَادِّ أَقْوَالِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَعَ اجْتِمَاعِ رُوحِ أَحَدِهِمْ بِرُوحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ تَوَقَّفُوا فِيهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ هَلْ هَذَا مِنْ قَوْلِك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لَا يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَبْلَ أَنْ يُدَوِّنُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَيُدِينُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَيَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فَهِمْنَا كَذَا مِنْ آيَةِ كَذَا وَفَهِمْنَا كَذَا مِنْ قَوْلِك فِي الْحَدِيثِ الْفُلَانِيِّ كَذَا فَهَلْ تَرْضَاهُ أَمْ لَا وَيَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَإِشَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَوَقَّفَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَشْفِ الْأَئِمَّةِ وَمِنْ اجْتِمَاعِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ الْأَرْوَاحُ قُلْنَا لَهُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِيَقِينٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُونَ أَوْلِيَاءَ فَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلِيٌّ أَبَدًا وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَقَامِ بِيَقِينٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا وَيُصَدِّقُهُمْ أَهْلُ عَصْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ كَسَيِّدِي الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقُنَاوِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ(1/398)
الْمَغْرِبِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي السُّعُودِ بْنِ أَبِي الْعَشَائِرِ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الْمَتْبُولِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَحْمَدَ الزَّوَاوِيِّ الْبُحَيْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ ذَكَرْنَاهُمْ فِي طَبَقَاتِ الْأَوْلِيَاءِ . وَرَأَيْت وَرَقَةً بِخَطِّ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ عِنْدَ أَحَدِ أَصْحَابِهِ هُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الشَّاذِلِيُّ مُرَاسَلَةً لِشَخْصٍ سَأَلَهُ فِي شَفَاعَةٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَايِتْبَاي اعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي قَدْ اجْتَمَعْت بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وَقْتِي هَذَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ مَرَّةً يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَلَوْلَا خَوْفِي مِنْ احْتِجَابِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِّي بِسَبَبِ دُخُولِي لِلْوُلَاةِ لَطَلَعْت الْقَلْعَةَ وَشَفَعْتُ فِيك عِنْدَ السُّلْطَانِ وَإِنِّي رَجُلٌ مِنْ خُدَّامِ حَدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ضَعَّفَهَا الْمُحَدِّثُونَ مِنْ طَرِيقِهِمْ وَلَا شَكَّ أَنْ نَفْعَ ذَلِكَ أَرْجَحُ مِنْ نَفْعِك يَا أَخِي انْتَهَى .(1/399)
وَيُؤَيِّدُ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمَادِحِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَلَمَّا حَجَّ كَلَّمَهُ مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مَقَامَهُ حَتَّى طَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ مِنْ التَّحْرَارِيَّةِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطِهِ فَانْقَطَعَتْ عَنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَمْ يَزَلْ يَتَطَلَّبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَةَ حَتَّى تَرَاءَى لَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ تَطْلُبُ رُؤْيَتِي مَعَ جُلُوسِك عَلَى بِسَاطِ الظَّلَمَةِ لَا سَبِيلَ لَك إلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ انْتَهَى .(1/400)
وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَتِلْمِيذِهِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ احْتَجَبَتْ عَنَّا رُؤْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عَدَدْنَا أَنْفُسَنَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَ آحَادِ الْأَوْلِيَاءِ فَالْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ أَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ رحمه الله تعالى يَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِمُقَلِّدٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ وَيُطَالِبَهُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ فِي حَقِّهِمْ وَكَيْفَ يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ عَنْ الْعَمَلِ بِأَقْوَالٍ قَدْ بُنِيَتْ عَلَى صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ بِالْكَشْفِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا فَإِنَّ عِلْمَ الْكَشْفِ إخْبَارٌ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهَا وَهَذَا إذَا حَقَّقْته وَجَدْته لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ الشَّرِيعَةُ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْبِرُ إلَّا بِالْوَاقِعِ لِعِصْمَتِهِ مِنْ الْبَاطِنِ وَالظَّنِّ انْتَهَى .(1/401)
وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ رحمه الله تعالى يَقُولُ مِرَارًا كَانَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ رضي الله عنهم وَارِثِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلْمِ الْأَحْوَالِ وَعِلْمِ الْأَقْوَالِ مَعًا خِلَافَ مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَرِثُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا عِلْمَ الْقَالِ فَقَطْ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ جَمِيعُ مَا عَلِمَهُ الْمُجْتَهِدُونَ كُلُّهُمْ رُبُعُ عِلْمِ رَجُلٍ كَامِلٍ عِنْدَنَا فِي الطَّرِيقِ إذْ الرَّجُلُ لَا يَكْمُلُ عِنْدَنَا حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي مَقَامِ وِلَايَتِهِ بِعُلُومِ الْحَضَرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي قوله تعالى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَهَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا بِسِوَى عِلْمِ حَضْرَةِ اسْمِهِ الظَّاهِرِ فَقَطْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِعُلُومِ حَضْرَةِ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ وَلَا بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ انْتَهَى .(1/402)
قُلْت : وَهَذَا كَلَامٌ جَاهِلٌ بِأَحْوَالِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَوْتَادُ الْأَرْضِ فِي قَوَاعِدِ الدِّينِ وَسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ كُلُّ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَجَدَ مَذَاهِبَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ كُلَّهَا تَتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ الظَّاهِرِ بِالْعَنْعَنَةِ وَمِنْ طَرِيقِ إمْدَادِ قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ قُلُوبِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ فَمَا اتَّقَدَ مِصْبَاحُ عَالِمٍ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ نُورِ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعْته يَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى مَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ إلَّا وَيَنْتَهِي سَنَدُهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِجِبْرِيلَ ثُمَّ بِحَضْرَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّتِي تَجِلُّ عَنْ التَّكَيُّفِ مِنْ طَرِيقِ السَّنَدِ الظَّاهِرِ وَالسَّنَدِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْحَقِيقَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعِصْمَةِ فَمَنْ نَقَلَ عِلْمَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ خَطَأٌ فِي قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي طَرِيقِ الْأَخْذِ عَنْهُ فَقَطْ فَكَمَا نَقُولُ إنَّ جَمِيعَ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ الْمُتَّصِلِ يَنْتَهِي سَنَدُهُ إلَى حَضْرَةِ الْحَقِّ - جَلَّ وَعَلَا - فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِيمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْكَشْفِ الصَّحِيحِ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَصَابِيحِ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ قَدْ اتَّقَدَتْ مِنْ نُورِ الشَّرِيعَةِ فَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ إلَّا وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ لَا شَكَّ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ(1/403)
انْتَهَى . وَسَمِعْت أَخِي الشَّيْخَ أَفْضَلَ الدِّينِ وَقَدْ جَادَلَهُ فَقِيهٌ فِي مَسْأَلَةٍ يَقُولُ , وَاَللَّهِ مَا بَنَى أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ مَذْهَبَهُ إلَّا عَلَى قَوَاعِدِ الْحَقِيقَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْكَشْفِ الصَّحِيحِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ أَبَدًا وَإِنَّمَا تَتَخَلَّفُ الْحَقِيقَةُ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الزُّورِ الَّذِينَ اعْتَقَدَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ فَلَوْ كَانُوا شُهُودَ عَدَالَةٍ مَا تَخَلَّفَتْ الْحَقِيقَةُ عَنْ الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ حَقِيقَةٍ شَرِيعَةٌ وَعَكْسُهُ وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَنَا بِإِجْرَاءِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ وَنَهَانَا أَنْ نَتْعَبَ وَنَنْظُرَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي } وَلَا تَسْبِقُ الرَّحْمَةُ الْغَضَبَ إلَّا بِكَثْرَةِ وُقُوعِ النَّاسِ فِي الْمَعَاصِي وَالزُّورِ وَزِيَادَةِ ذَلِكَ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالصِّدْقِ فَافْهَمْ .(1/404)
وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ إجْرَاءُ أَحْكَامِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ عَلَى الشَّرْعِ الْمُقَرَّرِ بِتَقْرِيرِ الشَّارِعِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ اكْتِفَاؤُنَا مِنْ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلِ التَّكَالِيفِ ظَاهِرًا , وَقَدْ يَكُونُ فِي بَاطِنِهِ زِنْدِيقًا عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ لَنَا وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الشَّارِعِ بِشَرِيعَتِهِ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ مَا وَافَقَ فِيهِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنَ فَمَنْ شَهِدَ أَوْ صَلَّى غَيْرَ مُؤْمِنٍ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْعٍ مُطْلَقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يُقَابَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الدِّينِ وَقَدْ يَنْتَصِرُ الْحَقُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِمُنْصِفِ الشَّرْعِ فَيُنَفِّذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فَيُسَامِحُ شُهُودَ الزُّورِ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْفُو عَنْهُمْ وَيُمَشِّي حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسْأَلَتِهِمْ كَمَا تَمْشِي شَهَادَةُ الْعُدُولِ وَيُرْضِي الْخُصُومَ كُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ - تَعَالَى - وَرَحْمَةٌ لِعِبَادِهِ وَسِتْرٌ عَلَى فَضَائِحِهِمْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ لَا يَكْمُلُ إيمَانُ الْعَبْدِ بِأَنَّ سَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ إلَّا إنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْقَوْمِ , وَأَمَّا أَصْحَابُ الْحُجُبِ الْكَثِيفَةِ مِنْ غَالِبِ الْمُقَلِّدِينَ فَمَنْ لَازَمَهُمْ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِي غَيْرِ إمَامِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ لَهُ قَوْلَهُ وَفِي قَلْبِهِمْ مِنْهُ حَزَازَةٌ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُكَلِّفُوا أَحَدًا مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الشَّرِيفِ فِي غَيْرِ إمَامِهِمْ إلَّا بَعْدَ السُّلُوكِ وَإِنْ شَكَكْت فِي هَذَا فَاعْرِضْ عَلَيْهِمْ(1/405)
أَقْوَالَ الْمَذَاهِبِ وَقُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ اعْمَلْ بِقَوْلِ غَيْرِ إمَامِك فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيك فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَك أَنْتَ تُرِيدُ تَهْدِمُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُ بَلْ وَلَوْ سَلَّمَ لَك ظَاهِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى انْشِرَاحِ قَلْبِهِ بَاطِنًا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ جَمَاعَةً مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ يُفْطِرُونَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِيَتَقَوَّوْا عَلَى الْجِدَالِ وَإِدْحَاضِ بَعْضِهِمْ حُجَجَ بَعْضٍ انْتَهَى .(1/406)
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا سُمُّوا بِذَلِكَ إلَّا لِبَذْلِ أَحَدِهِمْ وُسْعَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْكَامِنَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْجَهْدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إتْعَابِ الْفِكْرِ وَكَثْرَةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ لَوْلَا اسْتَنْبَطُوا لِلْأُمَّةِ الْأَحْكَامَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَمِعْت شَيْخَنَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا رحمه الله تعالى يَقُولُ لَوْلَا بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُجْتَهِدِينَ لَنَا مَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَّا عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَوْلَا بَيَّنَ لَنَا بِسُنَّتِهِ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ مَا اهْتَدَيْنَا لِكَيْفِيَّتِهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا قَدَرْنَا عَلَى اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالصَّلَوَاتِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَبَيَانِ أَنْصِبَتِهَا وَشُرُوطِهَا وَبَيَانِ فَرْضِهَا مِنْ سُنَّتِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَرَدَتْ مُجْمَلَةً فِي الْقُرْآنِ فَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ لَنَا ذَلِكَ مَا عَرَفْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَسْرَارٌ وَحِكَمٌ يَعْرِفُهَا الْعَارِفُونَ انْتَهَى .(1/407)
قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ النَّاسَ الْآنَ يَصِلُونَ إلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْكَشْفِ فَقَطْ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامٌ لَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ ذَلِكَ وَجَمِيعُ مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا مُرَادُهُ الْمُطْلَقُ الْمَذْهَبِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ إمَامِهِ كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبُغَ مَعَ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَعَ الشَّافِعِيِّ إذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَبْتَكِرَ الْأَحْكَامَ وَيَسْتَخْرِجَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ أَبَدًا وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ اسْتَخْرِجْ لَنَا شَيْئًا لَمْ يَسْبِقْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتِخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ انْتَهَى . وَكَانَ ابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ جَمِيعُ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْدُودٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ خَفِيَ دَلِيلُهُ عَنْ الْعَوَّام وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَ الْأَئِمَّةَ إلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُمْ يُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَذَلِكَ ضَلَالٌ مِنْ قَائِلِهِ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ لَوْلَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مَا شَرَعُوهُ انْتَهَى .(1/408)
وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ يَقُولُ مَا ثَمَّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ إلَّا وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكِنْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَرِيحِ الْآيَاتِ أَوْ الْأَخْبَارِ أَوْ الْآثَارِ , وَمِنْهُ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ مِنْ الْمَفْهُومِ فَمِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ قَرِيبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَعِيدٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ وَمَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنْ شُعَاعِ نُورِهَا وَمَا ثَمَّ لَنَا فَرْعٌ يَتَفَرَّعُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ أَبَدًا , وَإِنَّمَا الْعَالِمُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ ضَعُفَ نُورُ أَقْوَالِهِ بِالنَّظَرِ إلَى نُورِ أَوَّلِ مُقْتَبِسٍ مِنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهَا وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ إذَا سَأَلَهُ إنْسَانٌ عَنْ التَّقَيُّدِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ الْآنَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا يَقُولُ يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مَا دُمْتَ لَا تَصِلُ إلَى شُهُودِ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى فَهُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ لِأَنَّك تَرَى اتِّصَالَ جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ بِهَا وَلَيْسَ مَذْهَبٌ أَوْلَى بِهَا مِنْ مَذْهَبٍ وَيَرْجِعُ الْأَمْرُ عِنْدَك حِينَئِذٍ إلَى مَرْتَبَتَيْ التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِشَرْطِهِمَا انْتَهَى .(1/409)
وَسَمِعْت شَيْخَنَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا رحمه الله تعالى يَقُولُ مِرَارًا عَيْنُ الشَّرِيعَةِ كَالْبَحْرِ فَمِنْ أَيِّ الْجَوَانِبِ اُغْتُرِفَ مِنْهُ فَهُوَ وَاحِدٌ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إيَّاكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْلِ مُجْتَهِدٍ أَوْ تَخْطِئَتِهِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَتِكُمْ بِأَمْثِلَةِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا وَمَعْرِفَتِكُمْ بِجَمِيعِ لُغَاتِ الْعَرَبِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ وَمَعْرِفَتِكُمْ بِمَعَانِيهَا وَطُرُقِهَا فَإِذَا أَحَطْتُمْ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ تَجِدُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ فِيهَا فَحِينَئِذٍ لَكُمْ الْإِنْكَارُ , وَأَنَّى لَكُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا { إنَّ شَرِيعَتِي جَاءَتْ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ طَرِيقَةٍ مَا سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقَةً مِنْهَا إلَّا نَجَا , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وفي رد المحتار :(1/410)
بَابُ التَّعْزِيرِ ( هُوَ ) لُغَةً التَّأْدِيبُ مُطْلَقًا , وَقَوْلُ الْقَامُوسِ إنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ضَرْبِهِ دُونَ الْحَدِّ غَلَطٌ نَهَرٌ . وَشَرْعًا ( تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا , وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ) لَوْ بِالضَّرْبِ , وَجَعَلَهُ فِي الدُّرَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَفْوِيضِهِ لِلْحَاكِمِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى إطْلَاقِهَا , فَإِنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ لَوْ ضَرَبَ غَيْرَهُ فَأَدْمَاهُ لَا يَكْفِي تَعْزِيرُهُ بِالْإِعْلَامِ , وَأَرَى أَنَّهُ بِالضَّرْبِ صَوَابٌ ( وَلَا يُفَرِّقُ الضَّرْبَ فِيهِ ) وَقِيلَ يُفَرِّقُ . وَوُفِّقَ بِأَنَّهُ إنْ بَلَغَ أَقْصَاهُ يُفَرِّقُ وَإِلَّا لَا شَرْحُ وَهْبَانِيَّةٍ ( وَيَكُونُ بِهِ وَ ) بِالْحَبْسِ وَ ( بِالصَّفْعِ ) عَلَى الْعُنُقِ ( وَفَرْكِ الْأُذُنِ , وَبِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ , وَبِنَظَرِ الْقَاضِي لَهُ بِوَجْهٍ عَبُوسٍ , وَشَتْمٍ غَيْرِ الْقَذْفِ ) مُجْتَبَى وَفِيهِ عَنْ السَّرَخْسِيِّ : لَا يُبَاحُ بِالصَّفْعِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى مَا يَكُونُ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ , فَيُصَانُ عَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ( لَا بِأَخْذِ مَالٍ فِي الْمَذْهَبِ ) بَحْرٌ . وَفِيهِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ : وَقِيلَ يَجُوزُ , وَمَعْنَاهُ أَنْ يُمْسِكَهُ مُدَّةً لِيَنْزَجِرَ ثُمَّ يُعِيدَهُ لَهُ , فَإِنْ أَيِسَ مِنْ تَوْبَتِهِ صَرَفَهُ إلَى مَا يَرَى . وَفِي الْمُجْتَبَى أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ .(1/411)
بَابُ التَّعْزِيرِ لَمَّا ذَكَرَ الزَّوَاجِرَ الْمُقَدَّرَةَ شَرَعَ فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَةِ , وَأَخَّرَهَا لِضَعْفِهَا , وَأَلْحَقَهُ بِالْحُدُودِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مَحْضَ حَقِّ الْعَبْدِ لِمَا أَنَّهُ عُقُوبَةٌ , وَتَمَامُهُ فِي النَّهْرِ ( قَوْلُهُ هُوَ لُغَةً التَّأْدِيبُ مُطْلَقًا ) أَيْ بِضَرْبٍ وَغَيْرِهِ دُونَ الْحَدِّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ . وَيُطْلَقُ عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ , وَمِنْهُ - { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } - فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ ( قَوْلُهُ غَلَطٌ ) لِأَنَّ هَذَا وَضْعٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ إذْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ , فَكَيْفَ نُسِبَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ الْجَاهِلِينَ بِذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ . وَاَلَّذِي فِي الصِّحَاحِ بَعْدَ تَفْسِيرِهِ بِالضَّرْبِ , وَمِنْهُ سُمِّيَ ضَرْبُ مَا دُونَ الْحَدِّ تَعْزِيرًا , فَأَشَارَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْقُولَةٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ الضَّرْبِ دُونَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ , فَهُوَ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا الْمَنْقُولَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهَا وَزِيَادَةٍ , وَهَذِهِ دَقِيقَةٌ مُهِمَّةٌ تَفَطَّنَ لَهَا صَاحِبُ الصِّحَاحِ وَغَفَلَ عَنْهَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ , وَقَدْ وَقَعَ لَهُ نَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ غَلَطٌ يَتَعَيَّنُ التَّفَطُّنُ لَهُ . ا هـ . نَهْرٌ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ .(1/412)
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَلْفَاظَ اللُّغَوِيَّةَ فَقَطْ , بَلْ يَذْكُرُ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةَ وَالِاصْطِلَاحِيَّة وَكَذَا الْأَلْفَاظَ الْفَارِسِيَّةَ تَكْثِيرًا لِلْفَوَائِدِ , وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ كِتَابَةَ مَوْضُوعٍ لِبَيَانِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ , فَحَيْثُ ذَكَرَ غَيْرَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُوقِعَ النَّاظِرَ فِي الِاشْتِبَاهِ ( قَوْلُهُ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ أَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ وَالتَّعْزِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ , وَأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالتَّعْزِيرَ يَجِبُ مَعَهَا , وَأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالتَّعْزِيرَ شُرِعَ عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحَدَّ يُطْلَقُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالتَّعْزِيرَ يُسَمَّى عُقُوبَةً لَهُ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ تَتَارْخَانِيَّةٌ . وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَدَّ مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ وَالتَّعْزِيرَ يَفْعَلُهُ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى وَكُلُّ مَنْ رَأَى أَحَدًا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ , وَأَنَّ الرُّجُوعَ يُعْمَلُ فِي الْحَدِّ لَا فِي التَّعْزِيرِ , وَأَنَّهُ يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ فِي الْحَدِّ لَا فِي التَّعْزِيرِ , وَأَنَّ الْحَدَّ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ وَأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَهِيَ عَشَرَةٌ .(1/413)
قُلْت : وَسَيَجِيءُ غَيْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ ( قَوْلُهُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ) لِحَدِيثِ " { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } " وَحَدُّ الرَّقِيقِ أَرْبَعُونَ فَنَقَصَ عَنْهُ سَوْطًا . وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ حُدُودِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ فَنَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ تَنْقِيصُ خَمْسَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ . وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ لَكِنَّهُ غَرِيبٌ عَنْ عَلِيٍّ وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ . وَفِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَكْثَرُهُ فِي الْعَبْدِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ; وَفِي الْحُرِّ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا وَبِهِ نَأْخُذُ ا هـ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصَحَّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ بَحْرٌ . قُلْت : يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ وَبِهِ نَأْخُذُ تَرْجِيحٌ لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِكَوْنِ الثَّانِيَةِ هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَرْجِيحُ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا الَّذِي عَلَيْهِ مُتُونُ الْمَذْهَبِ مَعَ نَقْلِ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ تَصْحِيحَهُ عَنْ الْأَئِمَّةِ , وَلِذَا لَمْ يُعَوِّلْ الشَّارِحُ عَلَى مَا فِي الْبَحْرِ .(1/414)
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَرَّبُ كُلُّ جِنْسٍ إلَى جِنْسِهِ , فَيُقَرَّبُ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ أَوْ الْمُحْصَنِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صَرْفًا لِكُلِّ نَوْعٍ إلَى نَوْعِهِ : وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ زَيْلَعِيٌّ ( قَوْلُهُ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ) أَيْ أَقَلُّ التَّعْزِيرِ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ , فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ , فَلَا مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا تَفَاصِيلَهُ , وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى زَيْلَعِيٌّ , وَنَحْوُهُ فِي الْهِدَايَةِ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ , وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ .(1/415)
وَمُقْتَضَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُكْمِلُ لَهُ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ , فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ أَقَلُّهُ , إذْ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَقَلِّ شَيْءٌ ثَمَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزَجِرُ بِعِشْرِينَ كَانَتْ أَقَلَّ مَا يَجِبُ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْهَا , فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ صَارَ أَكْثَرُهُ أَقَلَّ الْوَاجِبِ , وَتَبْقَى فَائِدَةُ تَقْدِيرِ الْأَكْثَرِ بِهَا أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْهَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا , وَيُبَدِّلُ ذَلِكَ الْأَكْثَرَ بِنَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَبْسُ مَثَلًا ( قَوْلُهُ لَوْ بِالضَّرْبِ ) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ التَّعْزِيرِ بِمَا ذَكَرَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَوْ رَأَى الْقَاضِي تَعْزِيرَهُ بِالضَّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَكْثَرِ , فَلَا يُنَافِي مَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ , بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْوِيضُ أَنْوَاعِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَنَحْوِهِ كَمَا يَأْتِي ( قَوْلُهُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ ) تَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ , وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْعَلَوِيَّةُ بِالْإِعْلَامِ , بِأَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي بَلَغَنِي أَنَّك تَفْعَلُ كَذَا فَيَنْزَجِرُ بِهِ . وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ , وَهُمْ نَحْوُ الدَّهَاقِينِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ . وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ , وَهُمْ السُّوقَةُ بِالْجَرِّ وَالْحَبْسِ . وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّاءِ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِالضَّرْبِ ا هـ وَمِثْلُهُ فِي الْفَتْحِ عَنْ الشَّافِي وَالزَّيْلَعِيِّ عَنْ النِّهَايَةِ , وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ .(1/416)
وَالدَّهَاقِينُ : جَمْعُ دِهْقَانٍ بِكَسْرِ الدَّالِ وَقَدْ تُضَمُّ وَهُوَ مُعَرَّبٌ يُطْلَقُ عَلَى رَئِيسِ الْقَرْيَةِ , وَالتَّاجِرِ , وَمَنْ لَهُ مَالٌ وَعَقَارٌ مِصْبَاحٌ ( قَوْلُهُ وَكُلُّهُ مَبْنِيٌّ إلَخْ ) أَيْ كُلُّ مَا ذَكَرَ مِنْ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ , وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرْجَعَ إلَى مَا فِي الْمَتْنِ أَيْضًا لِأَنَّ مَا ذَكَرَ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلِ بِالتَّفْوِيضِ وَعَدَمِهِ كَمَا عَلِمْت فَافْهَمْ . ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ بِالتَّفْوِيضِ هُوَ مَا فَهِمَهُ فِي الْبَحْرِ حَيْثُ قَالَ : وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِ الْمُنَاسِبِ لِمُسْتَحِقِّهِ وَظَاهِرُ الْأَوَّلِ : أَيْ الْقَوْلِ بِالتَّفْوِيضِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ا هـ .(1/417)
قُلْت : وَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ قَرِيبًا ( قَوْلُهُ فَإِنَّ مَنْ كَانَ إلَخْ ) سَنَذْكُرُ مَا يُؤَيِّدُهُ قَرِيبًا ( قَوْلُهُ وَلَا يُفَرِّقُ الضَّرْبَ فِيهِ ) بَلْ يَضْرِبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ , فَلَوْ خَفَّفَ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ أَيْضًا يَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْزِجَارِ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ يُفَرِّقُ ) ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي حُدُودِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي أَشْرِبَةِ الْأَصْلِ ( قَوْلُهُ وَوُفِّقَ إلَخْ ) فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ , بَلْ اخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ , وَهَذَا التَّوْفِيقُ مَذْكُورٌ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ ( قَوْلُهُ وَإِلَّا لَا ) أَيْ إنْ لَمْ يَبْلُغْ الْأَكْثَرَ بَلْ كَانَ بِالْأَدْنَى كَثَلَاثٍ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْعُضْوُ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْصَى الْأَكْثَرُ أَوْ مَا قَارَبَهُ مِمَّا يُخْشَى مِنْ جَمْعِهِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ إفْسَادُهُ فَافْهَمْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : وَيَتَّقِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُتَّقَى فِي الْحُدُودِ . أَيْ كَالرَّأْسِ وَالْمَذَاكِيرِ ( قَوْلُهُ وَيَكُونُ ) أَيْ التَّعْزِيرُ بِهِ : أَيْ بِالضَّرْبِ إلَخْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَصْرَ أَنْوَاعِهِ فِيمَا ذَكَرَ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ الْآتِي وَيَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنْ الْبَدَائِعِ .(1/418)
قُلْت : وَيَكُونُ أَيْضًا بِالتَّشْهِيرِ وَالتَّسْوِيدِ لِشَاهِدِ الزُّورِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ آخِرَ الْبَابِ ( قَوْلُهُ وَبِالصَّفْعِ ) هُوَ أَنْ يَبْسُطَ الرَّجُلُ كَفَّهُ فَيَضْرِبُ بِهَا قَفَا الْإِنْسَانِ أَوْ بَدَنَهُ , فَإِذَا قَبَضَ كَفَّهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَلَيْسَ بِصَفْعٍ بَلْ يُقَالُ ضَرَبَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ مِصْبَاحٌ ( قَوْلُهُ فَيُصَانُ عَنْهُ أَهْلُ الْقِبْلَةِ ) وَإِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ . مَطْلَبٌ فِي التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَالِ ( قَوْلُهُ لَا بِأَخْذِ مَالٍ فِي الْمَذْهَبِ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ لِلسُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ . وَعِنْدَهُمَا وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ . ا هـ . وَمِثْلُهُ فِي الْمِعْرَاجِ , وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ . قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ : وَلَا يُفْتَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَسْلِيطِ الظَّلَمَةِ عَلَى أَخْذِ مَالِ النَّاسِ فَيَأْكُلُونَهُ ا هـ وَمِثْلُهُ فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ عَنْ ابْنِ وَهْبَانَ ( قَوْلُهُ وَفِيهِ إلَخْ ) أَيْ فِي الْبَحْرِ , حَيْثُ قَالَ : وَأَفَادَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ إمْسَاكُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ مُدَّةً لِيَنْزَجِرَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْحَاكِمُ إلَيْهِ , لَا أَنْ يَأْخُذَهُ الْحَاكِمُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الظَّلَمَةُ إذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ .(1/419)
وَفِي الْمُجْتَبَى لَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَأَرَى أَنْ يَأْخُذَهَا فَيُمْسِكَهَا , فَإِنْ أَيِسَ مِنْ تَوْبَتِهِ يَصْرِفُهَا إلَى مَا يَرَى . وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ : التَّعْزِيرُ بِالْمَالِ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ . ا هـ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ التَّعْزِيرِ بِأَخْذِ الْمَالِ , وَسَيَذْكُرُ الشَّارِحُ فِي الْكَفَالَةِ عَنْ الطَّرَسُوسِيِّ أَنَّ مُصَادَرَةَ السُّلْطَانِ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِعُمَّالِ بَيْتِ الْمَالِ : أَيْ إذَا كَانَ يَرُدُّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ
وفي الموسوعة الفقهية :
تَقْلِيدٌ التَّعْرِيفُ :(1/420)
1 - التَّقْلِيدُ لُغَةً : مَصْدَرُ قَلَّدَ , أَيْ جَعَلَ الشَّيْءَ فِي عُنُقِ غَيْرِهِ مَعَ الْإِحَاطَةِ بِهِ . وَتَقُولُ : قَلَّدْت الْجَارِيَةَ : إذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهَا الْقِلَادَةَ , فَتَقَلَّدَتْهَا هِيَ , وَقَلَّدْت الرَّجُلَ السَّيْفَ فَتَقَلَّدَهُ : إذَا جَعَلَ حَمَائِلَهُ فِي عُنُقِهِ . وَأَصْلُ الْقَلْدِ , كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ , لَيُّ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ , نَحْوُ لَيُّ الْحَدِيدَةِ الدَّقِيقَةِ عَلَى مِثْلِهَا , وَمِنْهُ : سِوَارٌ مَقْلُودٌ . وَفِي التَّهْذِيبِ : تَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهَا عُرْوَةُ مَزَادَةٍ , أَوْ حِلَقُ نَعْلٍ , فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ . وَقَلَّدَ فُلَانًا الْأَمْرَ إيَّاهُ . وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوُلَاةِ الْأَعْمَالَ . وَيُسْتَعْمَلُ التَّقْلِيدُ فِي الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِمَعْنَى الْمُحَاكَاةِ فِي الْفِعْلِ , وَبِمَعْنَى التَّزْيِيفِ , أَيْ صِنَاعَةِ شَيْءٍ طِبْقًا لِلْأَصْلِ الْمُقَلَّدِ . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّقْلِيدِ لِلْمُجْتَهِدِينَ , لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِ الْمُقَلَّدِ دُونَ أَنْ يَدْرِيَ وَجْهَهُ . وَالْأَمْرُ التَّقْلِيدِيُّ مَا يُفْعَلُ اتِّبَاعًا لِمَا كَانَ قَبْلُ , لَا بِنَاءً عَلَى فِكْرِ الْفَاعِلِ نَفْسِهِ , وَخِلَافُهُ الْأَمْرُ الْمُبْتَدَعُ . وَيَرِدُ التَّقْلِيدُ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ بِأَرْبَعَةِ مَعَانٍ : أَوَّلُهَا : تَقْلِيدُ الْوَالِي أَوْ الْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا , أَيْ تَوْلِيَتُهُمَا الْعَمَلَ , وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَوْلِيَةٌ ) . ثَانِيهَا : تَقْلِيدُ الْهَدْيِ بِجَعْلِ شَيْءٍ فِي رَقَبَتِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ هَدْيٌ . ثَالِثُهَا : تَقْلِيدُ التَّمَائِمِ وَنَحْوِهَا .(1/421)
رَابِعُهَا : التَّقْلِيدُ فِي الدِّينِ وَهُوَ الْأَخْذُ فِيهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ . أَوْ هُوَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْإِشْعَارُ : 2 - الْإِشْعَارُ حَزُّ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهَا الدَّمُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ لِلْكَعْبَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا أَحَدٌ .
ثَالِثًا : تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ : 10 - التَّقْلِيدُ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ , كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ مِنْ الْمُجْتَهِدِ فَالرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ تَقْلِيدًا , وَالرُّجُوعُ إلَى الْإِجْمَاعِ لَيْسَ تَقْلِيدًا كَذَلِكَ , لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ إلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ فِي نَفْسِهِ .
حُكْمُ التَّقْلِيدِ :
11 - أَهْلُ التَّقْلِيدِ لَيْسُوا طَبَقَةً مِنْ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ , فَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ فَقِيهًا , فَإِنَّ الْفِقْهَ مَمْدُوحٌ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّقْلِيدُ مَذْمُومٌ , وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ التَّقْصِيرِ .(1/422)
أ - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ : 12 - التَّقْلِيدُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْعَقَائِدِ , كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَوُجُوبِ إفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ , وَمَعْرِفَةِ صِدْقِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ , وَمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ . وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقِيدَةِ بِمِثْلِ قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } , وَلَمَّا نَزَلَ قوله تعالى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ . وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا } . وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى مُقَلَّدِهِ , وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي إخْبَارِهِ , وَلَا يَكْفِي التَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى سُكُونِ النَّفْسِ إلَى صِدْقِ الْمُقَلَّدِ , إذْ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سُكُونِ أَنْفُسِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَلَّدُوا أَسْلَافَهُمْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ , فَعَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ , وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى الظَّاهِرِيَّةِ .(1/423)
ثُمَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يُلْحَقُ بِالْعَقَائِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ كُلُّ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , فَلَا تَقْلِيدَ فِيهِ , لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يَحْصُلُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ , وَمِنْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ .
ب - حُكْمُ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ :(1/424)
13 - اُخْتُلِفَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى رَأْيَيْنِ : الْأَوَّلُ : جَوَازُ التَّقْلِيدِ فِيهَا وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ , قَالُوا : لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِيهَا إمَّا مُصِيبٌ وَإِمَّا مُخْطِئٌ مُثَابٌ غَيْرُ آثِمٍ , فَجَازَ التَّقْلِيدُ فِيهَا , بَلْ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ , وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا خَفَاءٌ يُحْوِجُ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ , وَتَكْلِيفُ الْعَوَّامِ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ , وَتَعْطِيلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ , فَيُؤَدِّي إلَى الْخَرَابِ , وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانَ يُفْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَيُفْتُونَ غَيْرَهُمْ , وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ فِي قوله تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } . الثَّانِي : إنَّ التَّقْلِيدَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ . قَالَ بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ , وَابْنُ الْقَيِّمِ , وَالشَّوْكَانِيُّ , وَغَيْرُهُمْ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ , وَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ , قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ .(1/425)
وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ : اخْتَصَرْت هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ , وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ إعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيُنْظَرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا تُقَلِّدْنِي , وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ , وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ , وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا . وَفِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ التَّقْلِيدَ الَّذِي يَرَى امْتِنَاعَهُ هُوَ ( اتِّخَاذُ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلٍ سِوَاهُ , بَلْ لَا إلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ , إلَّا إذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ . قَالَ فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ , وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ ) . وَأَثْبَتَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالشَّوْكَانِيُّ فَوْقَ التَّقْلِيدِ مَرْتَبَةً أَقَلَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ , هِيَ مَرْتَبَةُ الِاتِّبَاعِ , وَحَقِيقَتُهَا الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مَعَ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ , عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا ) . غَيْرَ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . وَمِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَظْفَرْ الْعَالِمُ بِنَصٍّ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ , وَلَمْ يَجِدْ إلَّا قَوْلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , فَيُقَلِّدُهُ .(1/426)
أَمَّا التَّقْلِيدُ الْمُحَرَّمُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ , ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُ إلَى التَّقْلِيدِ , فَهُوَ كَمَنْ يَعْدِلُ إلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى . وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ , أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدْ الْوَقْتَ لِذَلِكَ , فَهِيَ حَالُ ضَرُورَةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ . وَقَدْ أَفْتَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ , وَقَالَ : إذَا سُئِلْت عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ أَعْرِفْ فِيهَا خَبَرًا أَفْتَيْت فِيهَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ , لِأَنَّهُ إمَامٌ عَالِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا , فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلَأُ طِبَاقَ الْأَرْضِ عِلْمًا } .
شُرُوطُ مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ :(1/427)
14 - لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَسْتَفْتِيَ إلَّا مَنْ يَعْرِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ , أَمَّا مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ فَلَا يَسْأَلُهُ اتِّفَاقًا , وَكَذَا لَا يَسْأَلُ مَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِمَا يَرَاهُ مِنْ انْتِصَابِهِ لِلْفُتْيَا وَأَخْذِ النَّاسِ عَنْهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَمَا يَلْمَحُهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالسَّتْرِ , أَوْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى إلَّا مَنْ يُفْتِي بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ . أَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إذْ قَدْ يَكُونُ أَجْهَلَ مِنْ السَّائِلِ . وَأَمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ فِي الْعَدَالَةِ فَقَدْ قِيلَ : لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ كَذِبَهُ وَتَدْلِيسَهُ , وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ عَنْ الْعَدَالَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ . وَلَا يُقَلِّدُ مُتَسَاهِلًا فِي الْفُتْيَا , وَلَا مَنْ يَبْتَغِي الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ , وَلَا مَنْ يَذْهَبُ إلَى الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ :(1/428)
15 - تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إذَا اسْتَشْعَرَ الْفَوَاتَ لَوْ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ , فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا . فَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ لَوْ أَرَادَ التَّقْلِيدَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ . وَدَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُضَاهِي النَّصَّ , فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ إمْكَانِهِ , كَمَا لَا يَعْدِلُ عَنْ النَّصِّ إلَى الْقِيَاسِ . أَمَّا إنْ اجْتَهَدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ , فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَصِيرَ إلَى الْعَمَلِ أَوْ الْإِفْتَاءِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ , قَالَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ : " إجْمَاعًا " أَيْ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ , لِأَنَّ مَا عَلِمَهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ . وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ نَفَذَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةٍ , وَلَمْ يَنْفُذْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى , وَلَا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا , وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .(1/429)
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ أَنْ يُقَلِّدَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ , فَيَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْبَعْضِ مُقَلِّدًا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ , وَلَكِنْ قِيلَ : إنَّهُ مَا دَامَ عَالِمًا فَلَا يُقَلِّدُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصِّحَّةِ , بِأَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ . وَأَيْضًا قَدْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الثُّبُوتِ , كَمَنْ قَلَّدَ الْبُخَارِيَّ فِي تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ , ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدَّلَالَةِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَ غَيْرِهِ .
تَعَدُّدُ الْمُفْتِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى الْمُقَلِّدِ :
تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ :(1/430)
17 - قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّقْلِيدِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ , فَقَالَ جَمَاعَةٌ : يَلْزَمُهُ , وَاخْتَارَهُ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَلْزَمُهُ , وَرَجَّحَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَالنَّوَوِيُّ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَبَعْضِهِمْ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ مَنْ شَاءُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ , إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ , وَلَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ عَنْهُ بِتَقْلِيدٍ سَائِغٍ , أَيْ بِتَقْلِيدِ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَفْتَاهُ . 16 - إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ وَجَبَ عَلَى الْمُقَلِّدِ مُرَاجَعَتُهُ وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ .(1/431)
وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُفْتُونَ وَكُلُّهُمْ أَهْلٌ , فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ , وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاجَعَةُ الْأَعْلَمِ , وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ أَنَّ الْعَوَامَّ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ , وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَى أَحَدٍ فِي سُؤَالِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَلَا يَلْزَمُ إلَّا مُرَاعَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ . لَكِنْ إذَا تَنَاقَضَ قَوْلُ عَالِمَيْنِ , فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْآخَرُ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مِنْهُمَا فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ . فَوَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُقَلَّدِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . قَالَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى : يَحْرُمُ الْحُكْمُ وَالْفُتْيَا بِقَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي التَّرْجِيحِ إجْمَاعًا . وَهَذَا لِأَنَّ الْغَلَطَ عَلَى الْأَعْلَمِ أَبْعَدُ وَمِنْ الْأَقَلِّ عِلْمًا أَقْرَبُ . وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ , وَخَاصَّةً إذَا تَتَبَّعَ الرُّخَصَ لِيَأْخُذَ بِمَا يَهْوَاهُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي . وَذَلِكَ كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ وَاجِبُهُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَلَيْسَ لَهُ التَّخَيُّرُ مِنْهَا اتِّفَاقًا . وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا التَّخَيُّرَ - وَهُمْ قِلَّةٌ - إنَّمَا أَجَازُوهُ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ التَّرْجِيحِ . وَيُنْظَرُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ , إذْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ .
أَثَرُ الْعَمَلِ بِالتَّقْلِيدِ الصَّحِيحِ :(1/432)
18 - مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَا إنْكَارَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ . وَدَعْوَى الْحِسْبَةِ أَيْضًا لَا تَدْخُلُ فِيهَا , وَلِذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مَا فَعَلَ . وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ضَرَرُهُ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ نَفْسِهِ , كَمَنْ مَسَّ فَرْجَهُ ثُمَّ صَلَّى دُونَ أَنْ يَتَوَضَّأَ . لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي فِعْلِهِ ضَرَرٌ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ , فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحَاكِمَ أَوْ الْمُحْتَسِبَ إنْ كَانَ يَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ مَعْنَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِتَقْلِيدٍ صَحِيحٍ تَرْكَ الْبَيَانِ لَهُ مِنْ عَالِمٍ يَرَى مَرْجُوحِيَّةَ فِعْلِهِ , وَكَانَ الْبَيَانُ دَأْبَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَزَالُ , فَضْلًا عَنْ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَقَدْ يُخَطِّئُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَخَاصَّةً مَنْ خَالَفَ نَصًّا صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْمُعَارَضَةِ . وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ , وَهُمْ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ . إلَّا أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَحِفْظِ رُتْبَتِهِ وَإِقَامَةِ هَيْبَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَيْضًا لَا تَمْنَعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مُقَلِّدٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَمْرُهُ بِمَا يَرَاهُ طِبْقًا لِاجْتِهَادِهِ , إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ(1/433)
إفْتَاءُ الْمُقَلِّدِ : 19 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا , وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطَ صِحَّةٍ وَلَكِنَّهُ شَرْطُ أَوْلَوِيَّةٍ , تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ . وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ إفْتَاءَ الْمُقَلِّدِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ , وَقَيَّدَهُ ابْنُ حَمْدَانَ - مِنْ الْحَنَابِلَةِ - بِالضَّرُورَةِ . وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي أَهْلًا لِلنَّظَرِ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ مَا يُفْتِي بِهِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْتِيًا فِي تِلْكَ الْحَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ , فَيَحْتَاجُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا بِخَبَرِهِ لَا بِفُتْيَاهُ . وَصَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الْمُقَلِّدُ عَنْ مُقَلَّدِهِ إلَى الْمُسْتَفْتِي لَيْسَ مِنْ الْفُتْيَا فِي شَيْءٍ , وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ نَقْلِ قَوْلٍ . قَالَ : الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْمُفْتِيَ الْمُقَلِّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ , أَوْ عَنْ الْحَقِّ , أَوْ عَمَّا يَحِلُّ لَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يَدْرِي بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ , بَلْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا الْمُجْتَهِدُ . وَهَذَا إنْ سَأَلَهُ السَّائِلُ سُؤَالًا مُطْلَقًا . وَأَمَّا إنْ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ فُلَانٍ وَرَأْيِ فُلَانٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُلَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيَرْوِيهِ لَهُ إنْ كَانَ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ .(1/434)
وَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ وَالرُّويَانِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ , ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ فِي صُورَةِ مَا يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ , بَلْ يُضَيِّفُهُ وَيَحْكِيهِ عَنْ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ . قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : فَعَلَى هَذَا مَنْ عَدَدْنَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمُفْتِينَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُفْتِينَ , وَلَكِنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ .
هَلْ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ ؟
20 - يَرَى جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُعْتَبَرُ فَقِيهًا , وَلِذَا قَالُوا : إنَّ رَأْيَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ , إذْ الْجَامِعُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ الرَّأْيُ , وَلَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ رَأْيٌ إذْ رَأْيُهُ هُوَ عَنْ رَأْيِ إمَامِهِ . وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى أَسَاسِ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ , يُعْتَدُّ بِالْمُقَلِّدِ فِي الْإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجْتَهِدُ فِيهَا .(1/435)
قَضَاءُ الْمُقَلِّدِ : 21 - يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فِي الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا . وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ , وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وقوله تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَفَاقِدُ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يَعْرِفُ الرَّدَّ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ بِقَوْلِ سِوَاهُ , سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ , وَسَوَاءٌ ضَاقَ الْوَقْتُ أَمْ لَمْ يَضِقْ . وَقَالَ سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُقَلِّدًا , لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَحْكَامُ النَّاسِ , وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ غَرَضَ الْقَضَاءِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ بِالتَّقْلِيدِ جَازَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ جَازَ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يُوَلِّيَهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ , بِخِلَافِ نَائِبِ السُّلْطَانِ , كَالْقَاضِي الْأَكْبَرِ , فَلَا تُعْتَبَرُ تَوْلِيَتُهُ لِقَاضٍ مُقَلِّدٍ ضَرُورَةً . وَيَحْرُمُ عَلَى السُّلْطَانِ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ . ثُمَّ لَوْ زَالَتْ الشَّوْكَةُ انْعَزَلَ الْقَاضِي بِزَوَالِهَا .(1/436)
الثَّانِي : أَنْ لَا يُوجَدَ مُجْتَهِدٌ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ , فَإِنْ وُجِدَ مُجْتَهِدٌ صَالِحٌ لِلْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ تَوْلِيَةُ الْمُقَلِّدِ , وَلَمْ تَنْفُذْ تَوْلِيَتُهُ . وَعَلَى قَاضِي الضَّرُورَةِ أَنْ يُرَاجِعَ الْعُلَمَاءَ , وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ , وَعَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَهُ فِي أَحْكَامِهِ .
مَا يَفْعَلُهُ الْمُقَلِّدُ إذَا تَغَيَّرَ الِاجْتِهَادُ :
22 - إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ الْمُقَلِّدُ طِبْقًا لِمَا أَفْتَاهُ بِهِ , لَمْ يَلْزَمْ الْمُقَلِّدَ مُتَابَعَةُ الْمُقَلَّدِ فِي اجْتِهَادِهِ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفٍ أَمْضَاهُ , كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِلَا وَلِيٍّ - مَثَلًا - مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ يَرَى صِحَّةَ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ , ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ إلَى الْبُطْلَانِ , وَهَذَا كَمَا لَوْ حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ بِذَلِكَ , إذْ لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِمِثْلِهِ . وَلَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ أَنْ يُعْلِمَ مَنْ قَلَّدَهُ بِذَلِكَ . وَهَذَا إنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ مُعْتَبَرًا , بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا , بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنْ الْمُعَارَضَةِ , أَوْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ , أَوْ لِقِيَاسٍ جَلِيٍّ , فَيُنْقَضُ . وَقِيلَ بِالتَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ , فَفِي النِّكَاحِ يُنْقَضُ وَفِي غَيْرِهِ لَا يُنْقَضُ . أَمَّا قَبْلَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُقَلِّدُ بِنَاءً عَلَى الْفُتْيَا , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْفُتْيَا مُسْتَنَدَهُ الْوَحِيدَ .(1/437)
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ التَّعْرِيفُ :
1 - الْقَوْلُ فِي اللُّغَةِ : كُلُّ لَفْظٍ نَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ , تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا . وَيُطْلَقُ عَلَى الْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ , يُقَالُ : هَذَا قَوْلُ فُلَانٍ فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ رَأْيُهُ فِيهَا , وَسَبَبُ تَسْمِيَةِ الْآرَاءِ أَقْوَالًا : أَنَّ الْآرَاءَ تَخْفَى فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْقَوْلِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ , فَلَمَّا كَانَتْ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْقَوْلِ سُمِّيَتْ قَوْلًا . وَالْقَوْلُ اصْطِلَاحًا لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . وَالصَّحَابِيُّ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الصُّحْبَةِ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ وَالْمُجَالَسَةُ وَالْمُعَاشَرَةُ . وَالصَّحَابِيُّ اصْطِلَاحًا : مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ : هُوَ مَا نُقِلَ عَمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلٍ لَمْ يَرْفَعْهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ : 2 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ , مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ إمَامًا , أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا , وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , وَفِيهِ أَقْوَالٌ : .(1/438)
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَيُومِئُ إلَيْهِ أَحْمَدُ , وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : إنَّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَاتِّبَاعِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ صَحِيحُ النَّظَرِ , فَقَالَ : لَيْسَ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ سَعَةٌ , إنَّمَا هُوَ : خَطَأٌ أَوْ صَوَابٌ . الثَّانِي : أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ , وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ , وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ : تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ , يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ , وَأَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا عَلَيْهِ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مَذْهَبٌ ثَابِتٌ , وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ , وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ - ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ - فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ بِدُونِ إجْمَاعٍ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْقِيَاسُ , فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ , وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدِ , وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ . وَقَالَ : وَأَقْوَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام إذَا تَفَرَّقُوا نَصِيرُ مِنْهَا إلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ , أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ , أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ .(1/439)
وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا صِرْت إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ . إذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا , وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا يُحْكَمُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ; لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لِمُخَالَفَتِهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ , فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَا قَالَهُ إلَّا تَوْقِيفًا , وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ , قَالَ : وَمَسَائِلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ تَدُلُّ عَلَيْهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .
وقال ابن تيمية :(1/440)
مَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُنَا فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ وَأَدَامَ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ رَأَيْت السَّائِلَ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى الْجَوَابِ كَتَبَ وَرَقَةً أُخْرَى صُورَةُ مَا فِيهَا أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ شَعْر رُءُوسِكُمْ وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ الْحَذْفِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِضْمَارُ أَوْ الْحَذْفُ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ أَوْ شِبْهِهِ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى مُحَصَّلٍ كَمَا فِي قوله تعالى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } قَالَ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ إذَا أَسْنَدْت لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ فَهَهُنَا إضْمَارٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } أَيْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ .(1/441)
وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ حَلَقْت رَأْسِي يَصِحُّ وَيُفِيدُ مِنْ غَيْرِ التَّقْدِيرِ بَلْ التَّقْدِيرُ فِيهِ قَبِيحٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلْقِ إزَالَةُ الشَّعْرِ لَا الْإِزَالَةُ الْمُطْلَقَةُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَلَقْت الدَّنَسَ مِنْ بَدَنِي فَلَا يُقَالُ فِي صَحِيحِ الْكَلَامِ حَلَقْت شَعْرَ رَأْسِيِّ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ التَّجْرِيدِ فَإِذَا تَعَلَّقَ هَذَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إلَى مَحِلِّهِ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَحِلِّ كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْمَسْحِ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَاءُ مَوْجُودَةٌ لَكَانَ الْوَاجِبُ مَسْحَ الْكُلِّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ تَعَلَّقَ بِمَحَلِّهِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا يُنَافِي مَا أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ اسْمُ جِنْسٍ كَمَا قَالَ بِهِ الْقَائِلُ فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى عَلَى نِصْفِ شَعْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ يُطْلَقُ عَلَى قَطْرَةٍ أَوْ قَطْرَتَيْنِ .(1/442)
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَمْعٌ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَأَيْضًا الْعُرْفُ يُنَافِيهِ فَإِنَّ إطْلَاقَ الشَّعْرِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ حَلْق شَعْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ فَلَا يَثْبُتُ فِي وُجُوبِ حَلْقِ الثَّلَاثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى حَلْقًا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبُعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْفَعُهُ إذْ الْخَصْمُ يَقُولُ لَا يُقَالُ بِحَلْقِ الرُّبْعِ وَحَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَلْقِ الرُّبْعِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ إسْنَادَ حَلْقٍ لَا يَجُوزُ إلَى الرُّبْعِ وَثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت حَلَقَ رَأْسَهُ حَلَقَ رُبْعَهُ أَوْ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْضِ مِنْ قَبِيلِ قوله تعالى { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ } الْآيَةَ .(1/443)
وَلَوْ كَانَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَقِيقَةً لَكَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَيْضًا صِحَّةُ قَوْلِهِ يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضْمَارِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّقْدِيرُ حَلَقْت شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ رُبْعِهِ وَشَعْرَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفُ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَيْ حَلْقَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَصْلًا كَمَا عَرَفْت .(1/444)
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَالْوَاجِبُ فِي الْحَلْقِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَأْبَى عَنْهُ كَتَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفُقَهَاؤُهَا وَاَلَّذِي هُوَ مَشْهُورٌ وَمَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ حَلْقُ الْكُلِّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَا يَتِمُّ نُسُكُ الْحَلْق إلَّا بِجَمِيعِ الرَّأْسِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ اُقْتُصِرَ عَلَى الْبَعْضِ فَكَالْعَدِمِ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَإِذَا قَصَّرَ الرَّجُلُ فَلْيَأْخُذْ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَكَذَا فِي حَقِّ الصَّبِيَّانِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا التَّقْصِيرُ وَلْتَأْخُذْ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِهَا وَلَا يَجْزِيهِمَا أَنْ يُقَصِّرَا بَعْضًا وَيُبْقِيَا بَعْضًا وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ الْمَعْمُولَ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ حَلْقُ الْكُلِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَتَأَتَّى الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ حَلْقِ الْكُلِّ مُرَادًا مِنْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْصُلُ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ إجْمَاعًا عَدِمَ احْتِيَاجَ تَبْيِينِ الْقَرِينَةِ فِي إرَادَتِهِمْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْآيَةِ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهَا مَمْنُوعٌ إذْ عَلَى الْفَقِيهِ بَحْثُ مَعْرِفَةِ مَأْخَذِ مَسَائِلِهِمْ وَطُرُقِ اسْتِنْبَاطِهِمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَإِلَّا يَكُنْ مَحْضَ التَّقْلِيدِ وَلَا يُسَمَّى فَقِيهًا .(1/445)
وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنْ يُقَاسَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَلْقَ الْكُلِّ يُجَزِّئهُ حَلْقُ الْبَعْضِ وَلَا يُقَاسُ عَلَى التَّقْصِيرِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ لَهُ لِأَنَّ النُّسُكَ وَاحِدٌ وَالْمَحَلَّ وَاحِدٌ وَلَا مَعْنَى بِأَنْ يَقُولُ حَلْقُ الْكُلِّ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ وَحَلْقُ الْبَعْضِ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَالتَّقْصِيرُ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ بَلْ الْوَاجِبُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِقَ الْكُلَّ ثُمَّ اكْتَفَى بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِ الْبَعْضِ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَوَّلًا الْحَلْقَ ثُمَّ قَصَّرَ يُجَزِّئهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَمَمْنُوعٌ فَفِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى النَّاقِلِ وَهُوَ نَاقِلٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ تَصْحِيحُ النَّقْلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَوَجُّهِ الْمَنْعِ هَذَا الْمَنْعُ لَا يَضُرُّ إذْ الْإِشْكَالُ بَاقٍ لِأَنَّ نَظِيرَهُ عَلَى أَنَّ إرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ بَعْضِهِمْ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَالْقِيَاسُ لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ .(1/446)
وَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ فِي كُتُبِ كُلٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَحْتَمِلهُ الْمَقَامُ وَأَمَّا تَجْوِيزُ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْآيَةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ النَّقْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَلْقٍ أَوْ الرَّأْسِ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ لَا يَكُونُ إلَّا اسْمًا وَحَلَقَ هُنَا لَمْ يُنْقَلْ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَكَذَا الثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّقْلَ وَضْعٌ ثَانٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضُوعٌ لِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ هَذَا حَالُ أُصُولِ مُقَدِّمَاتِهِ وَفُرُوعُهَا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَالْحَقُّ وَالْإِنْصَافُ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ مُوَجَّهٌ لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ لِهَذِهِ الْمُقَدَّمَاتِ وَلَيْسَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ وَأَمَّا وَجْهُ إرَادَةِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبْعَ فَلِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي الْبَابَيْنِ عِنْدَهُمْ مُتَّحِدٌ كَمَالِكٍ .(1/447)
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ تَعَلَّقَ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ بِمَحَلِّهِ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ وَهُوَ الرَّأْسُ وَلِهَذَا يُوجِبَانِ إمْرَارَ الْمُوسَى عَلَى الرَّأْسِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّعْرِ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله فِي الْأَوَّلِ الْكُلُّ كَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْ الثَّانِي وَكَمَا أَنَّ الْمُرَاد عِنْد أَبِي حَنِيفَة رحمه الله فِي الْأَوَّل الرُّبْع كَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَكَذَا عِنْد أَحْمَدَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ يَجِب حَلْقُ الْكُلِّ وَهُوَ صَحِيحٌ وَالْأَكْثَر لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكُلِّ كَمَا فِي الْمَسْحِ فَإِنَّ عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا الصَّحِيحُ مَسْحُ الْكُلِّ وَرُوِيَ عَنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَكْثَرِ وَوَجْهُ إرَادَةِ الرُّبْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ الْبَاءُ فِي صِلَةِ الْمَسْحِ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ الْكُلِّ بِالْأَكْثَرِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ صَارَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فَجَعَلُوهَا مُبَيَّنَةً بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ } وَعَلَى إمَّا لِتَأْكِيدِ الِاسْتِيعَابِ أَوْ زَائِدَةٌ .(1/448)
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ نَاصِيَتَهُ } عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِعْلُ الْمَسْحِ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَحَلِّ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ كَمَا بُيِّنَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ثُمَّ قَدْ بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الرَّأْسَ مُرَكَّب مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ النَّاصِيَةِ وَالْفَوْدَيْنِ وَالْعَقِبِ فَالنَّاصِيَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هِيَ صُغْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ لَكِنْ قَدَّرُوهَا تَخْمِينًا بِالرُّبْعِ لِلِاحْتِيَاطِ خَوْفَ التَّنْقِيصِ مِنْ الْأَصْلِ وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِبَارِ تَخْمِينًا أَوْ تَقْرِيبًا شَائِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ الْمُجِيبِ لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ فَمُرَادُهُ مِنْ الْجِنَايَةِ الدَّمُ وَهُوَ الْعُرْفُ فِي الْمَنَاسِكِ وَدُونَ الدَّمِ يُسَمُّونَهُ صَدَقَةً وَإِيرَادُهَا فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ لِطَلَبِ الِاخْتِصَارِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ فَلَمَّا رُفِعَتْ الْوَرَقَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا ذَلِكَ لِشَيْخِنَا فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ كَتَبَ عَلَيْهَا جَوَابًا صُورَتُهُ اعْلَمْ أَنَّ مُنْشَأَ هَذِهِ الرُّدُودِ وَالْإِشْكَالَاتِ عَدَمُ صِدْقِ التَّأَمُّلِ مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ مِمَّا سَامَرَهُ .(1/449)
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْبَسْطِ فِيهِ لِمَا أَنَّ الْمَقَامَ مُحْوِجٌ إلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِضْمَارَ وَالْحَذْفُ لَا يَكُونُ إلَخْ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَإِنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ قَاضِيَةٌ بِرَدِّهِ سِيَّمَا نَصُّ إمَامِهِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لِأَنَّهُ آثَرَ الْإِضْمَارَ عَلَى النَّقْلِ فِي قوله تعالى { وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَقَالَ أَيْ أَخْذَهُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا فَإِذَا أُسْقِطَ صَحَّ الْبَيْعُ وَارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَعَكَسَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ ذَلِكَ فَآثَرُوا النَّقْلَ عَلَى الْإِضْمَارِ فَقَالُوا نَقْلُ الرِّبَا شَرْعًا إلَى الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَإِنْ أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مَثَلًا وَالْإِثْمُ فِيهَا بَاقٍ فَانْظُرْ كَوْنَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَضْمَرَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورِهِ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قوله تعالى { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } أَنَّ فِيهِ إضْمَارًا أَيْ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ سِتُّونَ مُدًّا فَيَجُوز إعْطَاؤُهُ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ سِتِّينَ مُدًّا .(1/450)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ اُعْتُرِضَ الْقَوْلُ بِالْإِضْمَارِ بِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُضَافِ الْمُضْمَرِ وَأُلْغِيَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ الظَّاهِرَةِ قَصَدَهُ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ أَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رضي الله عنهم فِي قوله تعالى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } فَقَدَّرَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مُضْمَرًا أَيْ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الِانْكِفَافُ عَنْ الْقَتْلِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَامًّا وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا فِي الْقِصَاصِ نَفْسِهِ حَيَاةٌ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ الْمُقْتَصِّينَ بِدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ الَّذِي صَارَ عَدُوًّا لَهُمْ فَيَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَتَأَمَّلْ صَنِيعَ الْأَئِمَّةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِي النُّصُوصِ بِالْإِضْمَارِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ فَازْدَدْ بِذَلِكَ تَعَجُّبًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَمِنْ فِرَارِهِ عَنْ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ هَذِهِ وَأَمْثَالِهَا إلَى النَّقْلِ عَمَّنْ لَا يُجْدِيهِ النَّقْلُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إذْ أَهْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَنْ دَانَاهُمْ .(1/451)
فَإِنْ قُلْت إنَّمَا سَلَكَ الْإِضْمَارَ مَنْ ذَكَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ اللَّفْظُ لِمُقْتَضَى مَا ظَهَرَ لَهُ إلَّا بِالْإِضْمَارِ كَانَ الْإِضْمَارُ مُتَعَيِّنًا وَلَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِدُونِهِ فَهُوَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُسْتَشْكِلُ فَلَا يَرِدُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ نَقْضًا قُلْت بَلْ هُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِ نَقْضًا وَرَدًّا لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ إذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُتَوَقِّفِ هُوَ عَلَيْهِ كَانَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ فَأَضْمَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَلَا يُقَالُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَتَوَجَّهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ يُفَوَّضُ إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ سَوَاءٌ أَظَهَرَ دَلِيلُهُ أَمْ لَا كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَضْمَرْنَا فِيهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَصِحُّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِكَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ الْمُصَرِّحِ بِأَنَّ الْحَلْقَ إذَا أُطْلِقَ لُغَةً يَكُونُ لِمُطْلَقِ الْإِزَالَةِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُسْتَشْكِلُ وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَلَقْتُ الدَّنَسَ عَنْ ثَوْبِي يُقَالُ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عُرْفًا فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُجْدِيهِ هُنَا أَوْ لُغَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ .(1/452)
وَالنُّصُوصُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى اللُّغَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَعَلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فَالْخَاصِّ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِحْيَاءِ , وَالْحِرْزُ فِي السَّرِقَةِ وَالْقَبْضُ فِي الْمَبِيعِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ ضَابِطٌ لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْحَلْقُ لَا يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَى الرَّأْسِ الْمُرَادِ بِهِ الْبَشَرَةُ فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَا يُتِمُّ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ وَهُوَ شَعْرٌ وَحِينَئِذٍ انْدَفَعَ قَوْلُهُ إنْ حَلَقْت رَأْسِي يُفِيدُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَقَوْلُهُ بَلْ التَّقْدِيرُ فِيهِ قَبِيحٌ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا الِاسْتِقْبَاحُ مَعَ تَعْلِيلِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ مَحْضُ ادِّعَاءٍ سِيَّمَا مَعَ مَنْ يُنَازِعُهُ فِيهِ وَيَقُولُ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا مَعَ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ إنْ حَلَقَ هُنَا لَا يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَى مَفْعُولِهِ أَيْ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ الْمُرَادُ بِهِ الْبَشَرَةُ إلَّا بِإِضْمَارٍ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ مَا زَعَمَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلْقِ إلَى قَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ التَّحْدِيدِ .(1/453)
إمَّا يَدْفَعُ قَوْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الصِّحَاحِ الْمُبَيِّنِ لِلْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ وَقَوْلُهُ وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَجَازًا يَرُدُّهُ أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا تَقَرَّرَ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ لَا يُقَالُ أَيْضًا وَقَعَ حَلْقُ رَأْسِهِ فَمَا الرَّاجِحُ لِأَنَّا نَقُولُ حَلَقَ شَعْرَهُ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ وَلَا فِي احْتِيَاجِهِ لِتَقْدِيرٍ بِخِلَافِ حَلْق رَأْسِهِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ وَقَوْلُهُ كَمَا قَالُوهُ فِي آيَةِ الْمَسْحِ إلَخْ قَدْ تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ بُطْلَانُ قِيَاسِ مَا هُنَا عَلَى الْمَسْحِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمَسْحِ ثُمَّ بِالرَّأْسِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ إجْمَاعًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْبَشَرَةَ أَوْ الشَّعْرَ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُسْتَشْكِلُ وَهُنَا لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْحَلْقِ بِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَشَرَةُ إلَّا بِتَقْدِيرٍ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ الْمُقَدَّرُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ .(1/454)
فَإِنْ قُلْت بَلْ يَقْتَضِيه لِأَنَّهُ مُضَافٌ فَيَعُمُّ قُلْت مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّا إذَا أَضْمَرْنَاهُ يَكُونُ مُضَافًا بَلْ يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ نَكِرَةً مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ أَيْ شَعْرٌ مَنْ رُءُوسِكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا يُنَافِي مَا أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ اسْمُ جِنْسٍ إلَخْ فَفِيهِ تَلْبِيسٌ وَتَمْوِيهٌ وَغَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إمَّا جَمْعِيٌّ أَوْ إفْرَادِيٌّ فَالْأَوَّلُ كَشَعْرٍ وَتَمُرُّ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ وَالثَّانِي كَمَاءٍ وَعَسَلٍ فِي حُكْمٍ الْمُفْرَدِ وَحِينَئِذٍ فَانْظُرْ إلَى مَا فِي غُضُونِ كَلَامِهِ هَذَا مِنْ الْإِيهَامِ وَالتَّمْوِيهِ سِيَّمَا قَوْلُهُ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَمْعٌ إلَخْ فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ إنَّهُ جَمْعٌ عَلَى أَنَّ اللُّغَوِيِّينَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَالصَّرْفِيُّونَ وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَيْ جَمْعِيٌّ وَاسْمُ الْجِنْسِ الْجَمْعِيُّ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ .(1/455)
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ التُّرَابِ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ إفْرَادِيٍّ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ لِأَنَّهُ سُمِعَ تُرَابَةٌ وَقَعَ ثَلَاثٌ وَحِينَئِذٍ بَطَلَ قَوْلُهُ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ حَلْقُ شَعْرَة إلَخْ عَلَى أَنَّ لَنَا احْتِمَالًا بَعِيدًا بَلْ شَاذًّا لَا يُعَدُّ مِنْ الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ يُجْزِئُ حَلْقُ شَعْرَةٍ تَخْرِيجًا مِنْ لُزُومِ الْفِدْيَةِ بِحَلْقِهَا لَا لِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْمُجْتَهِدِينَ تَنْبُو عَنْهُ وَغَلِطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا وَغَيْرُهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ تَخْرِيجَ الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْحَلْقِ هُنَا فَأَوْجَبُوا مَسْحَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ قِيَاسًا عَلَى لُزُومِ حَلْقِهَا .(1/456)
وَرَدَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْحَلْقِ الشَّعْرُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ مُحَلِّقِينَ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ وَالشَّعْرُ أَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ فِي الْحَلْقِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالشَّعْرِ وَيَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا التَّخْرِيجِ وَتَزْيِيفِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْفَعُهُ إذْ الْخَصْمُ يَقُولُ إلَخْ فَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَ الْخَصْمِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْحَلْقُ الرُّبْعُ وَحَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ الْمُرَادَ بِهِ الْبَشَرَةُ غَيْرُ مُرَادٍ لِاسْتِحَالَتِهِ بِدُونِ الْمُضْمَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِهِ بُطْلَانُ إرَادَةِ الْكُلِّ الَّذِي زَعَمَهُ هَذَا الْخَصْمُ وَبُطْلَانُ قَوْلِهِ . وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَلْقِ الرُّبْعِ إلَخْ إذْ لَا مَجَازَ فِي ذَلِكَ بَلْ إسْنَادُهُ إلَى الشَّعْرِ حَقِيقَةٌ وَكَذَا إلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ أَوْ الْأَكْثَرِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُسْأَلُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ سَبَبُ التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثِ وَبِالرُّبْعِ .(1/457)
فَأَمَّا الثَّلَاثُ فَقَدْ وَجَّهْنَاهُ فِيمَا مَرَّ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ وَمَا عَدَاهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِيجَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا الرُّبْعُ فَلَمْ يُبْدِ الْمُسْتَشْكِلُ عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ مَعْنَى يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا يَأْتِي وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى إلَخْ مُجَرَّدُ دَعْوَى بِلَا مُسْتَنَدٍ إلَيْهِ بَلْ كَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِهَا وَمَنْ ذَا الَّذِي صَرَّحَ بِالتَّلَازُمِ بَيْنَ كَوْنِ التَّابِعِ بَدَلَ بَعْضٍ وَكَوْنِهِ مَجَازًا الْمُصَرَّحُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَشْكِلِ هَذَا مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ فَعَلَى مَنْ ادَّعَاهُ بَيَانُهُ وَلَا تَظْفَرُ بِهِ وَمِمَّا يُبْطِلُهُ تَمْثِيلُهُمْ لِبَدَلِ الْبَعْضِ بِأَكَلْتُ الرَّغِيفَ أَكَلْت ثُلُثَهُ فَهَلْ هَذَا الثَّانِي مَجَازٌ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عُكِسَ لَرُبَّمَا اسْتَقَامَ كَلَامُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هُنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَدَلِ هُوَ الثَّانِي وَتَأَمَّلْ مَا فِي قَوْلِنَا الْأَصْلِيِّ مِنْ الْجَوَابِ عَلَى الْإِيرَادِ الطَّوِيلِ الْمُقَرَّرِ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفَنِّ فَفِي الْمِثَالِ السَّابِقِ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ أَصَالَةُ الْإِسْنَادِ إلَى الثُّلُثِ فَهُوَ إلَى الرَّغِيفِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُ كَمَا بَيَّنَهُ ذِكْرُ الْبَدَلِ فَمَعَ هَذَا الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَاضِلٍ كَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مُجَازَانِ الْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ .(1/458)
ثُمَّ رَأَيْتُ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقَالَ وَالْفَائِدَةُ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ وَالِاشْتِمَالِ الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْسِيرُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ تَحَقَّقَ بِالثَّانِي بَعْدَ التَّجَوُّزِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْأَوَّلِ تَقُولُ أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ فَتَقْصِدُ بِالرَّغِيفِ ثُلُثَ الرَّغِيفِ ثُمَّ تُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِك ثُلُثَهُ ا هـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَبِهِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَا قُلْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَيْضًا صِحَّةُ قَوْلِهِ يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضْمَارِ إلَخْ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ التَّقْدِيرُ إلَخْ . وَهَذَا التَّلَازُمُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ أَيْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ شَائِعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ اثْنَانِ مِنْهَا يَحْتَاجَانِ إلَى إضْمَارٍ بِخِلَافِ الثَّالِثِ وَظَنَّ الْمُسْتَشْكِلُ أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الثَّالِثِ أَيْضًا فَأَفْسَدَهُ بِقَوْلِهِ وَشَعْرُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَمَا دَرَى أَنَّ الْإِضْمَارَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِقَ بِالْبَشَرَةِ الَّتِي هِيَ الرَّأْسُ أَوْ بِبَعْضِ الْبَشَرَةِ .(1/459)
وَأَمَّا إذَا عَلِقَ بِالشَّعْرِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ كَمَا صَرَّحْنَا بِهِ فِيمَا سَبَقَ فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَسُوغُ لِفَاضِلٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ صِحَّةَ قَوْلِنَا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ حَلَقَ شَعْرَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ هَذَا تَمْوِيهٌ عَظِيمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَقِبَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إلَخْ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا وَإِنْ سَلَّمَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَيْ حَلْقَ الرَّأْسِ لِمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ أَيْ لِخَفَاءِ الْأَوَّلِ وَظُهُورِ الثَّانِي عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا مُرَادُهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ مُنْدَفِعٌ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا نَفْيَ التَّسْمِيَةِ حَقِيقَةً فَهَذَا لَا يُسَمَّى حَلْقُ الرَّأْسِ بِدُونِ أَكْثَرِهِ وَلَا بِدُونِ أَقَلِّهِ فَقَوْلُهُمْ بِدُونِ أَكْثَرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِيهَامِهِ أَنَّهُ يَسُمَّاهُ بِدُونِ أَقَلِّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .(1/460)
وَإِنْ أَرَادُوا نَفْيَ التَّسْمِيَةِ مَجَازًا فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ فَاتَّضَحَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَدْفَعُ كَلَامَ النَّوَوِيِّ وَأَنَّ هَذَا الْمُسْتَشْكِلَ لَوْ سُكِتَ عَنْهُ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَأْبَى عَنْهُ كُتُبُ الْمَالِكِيَّةِ إلَخْ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ الثِّقَةُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ فِيمَا يَنْقُلُهُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنْ صَحَّ مَا ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ نَفْسِهِمَا تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ أَجْمَعْنَا وَمَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَإِجْمَاعُ الْأَكْثَرِ قَدْ يَكُونُ قَرِينَةً وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَطَأَ إلَى الْقَلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْكَثِيرِ وَأُوضِحَ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْقَوْلَ عِنْدَهُمْ بِوُجُوبِ التَّعْمِيمِ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَإِنَّمَا اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إلَى فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤَيَّدِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ إلَّا إنْ نَظَرُوا لِمَا أَبْدَاهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ لَكِنْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ .(1/461)
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ تَبْيِينِ الْقَرِينَةِ إلَخْ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَهِيَ عَدَمُ دَلَالَتِهَا عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ وَالرُّبْعِ وَظُهُورُهَا فِي إرَادَةِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٌّ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ فَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجِبْهُ فَأَيُّ قَرِينَةٍ يُطْلَبُ بَيَانُهَا مَعَ ذِكْرِنَا هَذَا هُنَا مُخْتَصَرًا وَفِيمَا مَرَّ مَبْسُوطًا وَقَوْلُهُ مِمَّا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هُوَ كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ فَهْمِك لَهُ وَإِحَاطَتِك بِهِ وَرُبَّمَا أُشِيرَ إلَيْهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْآيَةِ أَنَّ قِسْمًا يَحْلِقُ وَقِسْمًا يُقَصِّرُ فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ لَفْظِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَلْقَ الْأَفْضَلَ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ بَعْدَ إرَادَتِهِ لَهُ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ إلَى التَّقْصِيرِ .(1/462)
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ جَوَازَ التَّقْصِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ بِالْحَلْقِ لِمَنْ أَرَادَهُ لِأَنَّهُ يَحْتَاطُ فِي الْفَاضِلِ مَا لَا يَحْتَاطُ فِي الْمَفْضُولِ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يُشْبِهُ الْعَزِيمَةَ وَالتَّقْصِيرَ يُشْبِهُ الرُّخْصَةَ وَقِيَاسُ تِلْكَ عَلَى هَذِهِ مَمْنُوعٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْ إيضَاحَ رَدِّ جَوَابِ الْبَعْضِ الَّذِي ذَكَرْته مُنْتَصِرًا لَهُ بِمَا لَا يَنْصُرُهُ وَقَوْلُهُ فَفِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى النَّاقِلِ يُقَالُ عَلَيْهِ بَلْ إذَا أَسْنَدَ حُكْمًا إلَى كُتُبِ قَوْمٍ وَلَيْسَ فِيهَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ أَوْ التَّسَاهُلِ فِي النَّقْلِ وَمَذْهَبُنَا لَمْ يَجْرِ فِيهِ قَوْلٌ بِأَنَّ الْبَابَيْنِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ إذْ الْإِشْكَالُ بَاقٍ إلَخْ مَمْنُوعٌ لِأَنَّا وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْآيَةِ لَا إشْكَالَ فِيهَا بِوَجْهٍ بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ السَّابِقَةِ مِنْ أَنَّ فِيهَا إضْمَارًا وَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٌّ وَأَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ فَظَاهِرُهَا لَا يُنَافِي مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنَافِي مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ فَإِشْكَالُكُمْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْنَا بَلْ عَلَيْكُمْ لَكِنْ لَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا بَلْ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ الشَّعْرَ الْمُضْمَرَ يَشْمَلُ الثَّلَاثَ وَأَكْثَرَ فَقَصْرُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الثَّلَاثِ وَقَصْرُ الْأَكْثَرِ مِنْهَا عَلَى الرُّبْعِ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ .(1/463)
وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجِنَايَةِ فِي الْحَجِّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ فِي الْأَصْلِ مُنَازَعٌ فِيهِ أَيْضًا إذْ لَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلَهُ فِيمَا عَلِمْت فَكَيْفَ يَتَأَتَّى الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُنَازَعٍ فِيهِ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ وَالْمُسْتَدِلُّ وَلَا ظَهَرَ دَلِيلُهُ وَقَوْلُهُ إنَّ تَجْوِيزَ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْآيَةِ لَا مَعْنَى لَهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَغَفْلَةٍ عَنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَوْ عَنْ فَهْمِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ تَعَارُضِ التَّخْصِيصِ وَالِاشْتِرَاكِ قوله تعالى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْ مَا وَطِئُوهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ فَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ مَزْنِيَّةُ أَبِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْ مَا عَقَدُوا عَلَيْهِ فَلَا يَحْرُمُ قَالُوا وَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ الِاشْتِرَاكُ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيَّ أَيْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ نَحْو حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَاشْتِرَاطُ الْوَطْءِ فِي هَذِهِ عُلِمَ مِنْ السُّنَّةِ وَيَلْزَمُ الثَّانِيَ التَّخْصِيصُ حَيْثُ قَالَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ فَاسِدًا كَالصَّحِيحِ وَقِيلَ لَا فَانْظُرْ إلَى إلْزَامِ الْأَوَّلِ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ أَنَّهُ قَائِلُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ لَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ(1/464)
فَأُلْزِمَ بِالِاشْتِرَاكِ لِذَلِكَ . وَمِنْ تَعَارُضِ الْإِضْمَارِ وَالِاشْتِرَاكِ قوله تعالى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } أَيْ أَهْلَهَا وَقِيلَ الْقَرْيَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَهْلِ كَالْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمِعَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ وَالنَّقْلِ قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أَيْ الْعِبَادَةَ الْمَخْصُوصَةَ فَقِيلَ هِيَ مَجَازٌ فِيهَا عَنْ الدُّعَاءِ بِخَيْرٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ نُقِلَ شَرْعًا إلَيْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ مُؤَيِّدًا لِمَا ذَكَرْته مِنْ احْتِمَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي احْتِمَالِهِمَا تَحَقُّقُهُمَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ إذَا احْتَمَلَ لَفْظٌ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْضٍ أَنْ يَكُونَ فِي آخَرَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً وَمَنْقُولًا فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْ الْمَنْقُولِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ الْمُؤَدِّي إلَى الِاشْتِرَاكِ فَالْأَوَّلُ كَالنِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ وَقِيلَ الْعَكْسُ وَقِيلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مُحَصِّلٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْآخَرِ .(1/465)
وَالثَّانِي كَالزَّكَاةِ حَقِيقَةٌ فِي النَّمَاءِ أَيْ الزِّيَادَةِ مُحْتَمَلٌ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَالِ لَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْضًا أَيْ لُغَوِيَّةً وَمَنْقُولًا شَرْعًا فَكَذَلِكَ نَقُولُ الرَّأْسُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَشَرَةِ مُحْتَمَلٌ فِي الشَّعْرِ لَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْضًا أَيْ لُغَوِيَّةً أَوْ مَنْقُولًا شَرْعِيًّا فَتَأَمَّلْ هَذَا مَعَ مَا مَرَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَرْيَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمِعَةِ يَظْهَرُ لَك مَا زَعَمَهُ هَذَا الْمُسْتَشْكِلُ سِيَّمَا قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّقْلَ وَضْعٌ ثَانٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّأْسُ مَوْضُوعٌ لِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي زَعَمَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّقْلِ أَوْ الِاشْتِرَاكِ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ وَضْعِهِمْ لِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي حَقِيقَةً أَوْ مَنْقُولًا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا كَمَا عَلِمْته وَقَوْلُهُ هَذَا حَالُ أُصُولِ مُقَدِّمَاتِهِ وَفُرُوعِهَا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَالُ عَلَيْهِ قَدْ بَانَ أَنَّ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ مِنْهَا وَأَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا مَبْنِيٌّ إمَّا عَلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَوْ عَلَى الْوَهْمِ فِي فَهْمِهِ وَإِمَّا عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى كَمَا بَانَ ذَلِكَ وَاتَّضَحَ .(1/466)
وَقَوْلُهُ فَالْحَقُّ وَالْإِنْصَافُ إلَخْ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا زَعَمَهُ وَقَدْ بَانَ وَاتَّضَحَ بُطْلَانُ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ مَعًا فِيمَا سَبَقَ وَفِي هَذَا الثَّانِي أَيْضًا وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجْهُ إرَادَةِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبْعُ إلَخْ فَيُقَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ فِيهِ بِطَائِلٍ يَنْفَعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ لَا يَشْهَدُ لَهُ سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ عَلَى مُؤَكِّدَةً لِلِاسْتِيعَابِ أَوْ زَائِدَةً لِأَنَّ النَّاصِيَةَ لُغَةً وَشَرْعًا مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ وَهُوَ دُونَ نِصْفِ الرُّبْعِ بِكَثِيرٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فَكَيْفَ يَتَأَتَّى الِاحْتِيَاطُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُ الْمَسْحِ إذَا عَلِقَ بِالْمَحَلِّ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا مُنَازَعَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا الْمُنَازَعَةُ فِي أَنَّ اسْتِيعَابَ النَّاصِيَةِ يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ بِالرُّبْعِ وَهِيَ دُونَ نِصْفِهِ بِكَثِيرٍ .(1/467)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ فَغَيْرُ نَافِعٍ لَهُ بَلْ هُوَ اخْتِرَاعُ طَرِيقَةٍ لَمْ تُؤْلَفْ قَبْلَهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ حُبُّ التَّكَثُّرِ وَالتَّشَيُّعِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { الْمُتَشَيِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } وَعَجِيبٌ ظَنُّهُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ يَنْفَعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَنَّهُمْ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ سِيَّمَا فِي الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ تُرِكَ ذِكْرُ مَا قَالُوهُ لَكَانَ أَوْلَى بِهَذَا وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ عَلَى أَنْ أَبْقَى فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُؤْذِنَةِ حَوَادِثُهَا بِتَغَيُّرِ الْعَالَمِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْدِيَةٍ لِلْفَضْلِ لَمْ تَزَلْ بِالْعُلَمَاءِ عَامِرَةٌ وَرِيَاضُ التَّحْقِيقِ يَانِعَةٌ أَشْجَارُهَا مُثْمِرَةٌ أَجِلَّاءٌ يَتَحَادَثُونَ أَزِمَّةَ الْأَدِلَّةِ وَيَتَجَاوَزُونَ فِي الْبَحْثِ الْأَقْيِسَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ مَعَ إبْدَاءِ كُلِّ مَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَدَرٍ بَيْنَهُمْ وَإِنْ سَلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ حَدَّهُ لِمَا أَنَّهَا سُيُوفٌ لَا تُسَلّ إلَّا فِي الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا بِحَسَبِ مَا رَأَى كُلٌّ مِنْهُمْ وَاسْتَظْهَرَ وَهِيَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مُؤْتَلِفَةٌ جَحَدَ ذَلِكَ مَنْ جَحَدَهُ وَعَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْجَوَادَ أَنْ يَمْنَحَنَا رِضَاهُ فِي دَارَيْ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
**************
وجوب اتباع الدليل
وفي المستصفى :(1/468)
مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْأَكْثَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ
وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ حُجَّةٌ وَقَالَ قَوْمٌ : إنْ بَلَغَ عَدَدُ الْأَقَلِّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ انْدَفَعَ الْإِجْمَاعُ وَإِنْ نَقَصَ فَلَا يَنْدَفِعُ . وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْأُمَّةِ بِكُلِّيَّتِهَا , وَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعَ الْجَمِيعِ بَلْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ } فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تُطْلَقُ الْأُمَّةُ وَيُرَادُ بِهَا الْأَكْثَرُ , كَمَا يُقَالُ بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ وَيُكْرِمُونَ الضَّيْفَ , وَيُرَادُ الْأَكْثَرُ . قُلْنَا مَنْ يَقُولُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيعِ , وَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالتَّحَكُّمِ بَلْ بِدَلِيلٍ وَضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا , وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْأَقَلَّ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ الْبَعْضُ الْمُرَادُ عَمَّا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا بُدَّ مِنْ إجْمَاعِ الْجَمِيعِ لَيُعْلَمَ أَنَّ الْبَعْضَ الْمُرَادَ دَاخِلٌ فِيهِ , كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ أَهْلِ الْحَقِّ حَيْثُ قَالَ { وَهُمْ يَوْمَئِذٍ الْأَقَلُّونَ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { سَيَعُودُ الدِّينُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا } وَقَالَ تَعَالَى { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } الْآيَةَ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَابِطٌ وَلَا مَرَدٌّ فَلَا خَلَاصَ إلَّا بِاعْتِبَارِ قَوْلِ الْجَمِيعِ .(1/469)
الدَّلِيلُ الثَّانِي إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْخِلَافِ لِلْآحَادِ , فَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ قَدْ انْفَرَدَ فِيهَا الْآحَادُ بِمَذْهَبٍ كَانْفِرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْعَوْلِ فَإِنَّهُ أَنْكَرَهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَ بِتَحْلِيلِ الْمُتْعَةِ وَأَنَّ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ , وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى ابْنِ أَرْقَمَ مَسْأَلَةَ الْعِينَةِ , وَأَنْكَرُوا عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَهُ : " النَّوْمُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَعَلَى أَبِي طَلْحَةَ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْلَ الْبَرَدِ لَا يُفْطِرُ وَذَلِكَ لِانْفِرَادِهِمْ بِهِ قُلْنَا لَا بَلْ لِمُخَالَفَتِهِمْ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ فِيهِ الْمَشْهُورَةَ بَيْنَهُمْ أَوْ لِمُخَالَفَتِهِمْ أَدِلَّةً ظَاهِرَةً قَامَتْ عِنْدَهُمْ . ثُمَّ نَقُولُ : هَبْ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا انْفِرَادَ الْمُنْفَرِدِ , وَالْمُنْفَرِدُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ إنْكَارَهُمْ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ , فَلَا حُجَّةَ فِي إنْكَارِهِمْ مَعَ مُخَالَفَةِ الْوَاحِدِ . وَلَهُمْ شُبْهَتَانِ : الشُّبْهَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُمْ : قَوْلُ الْوَاحِدِ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُوَرِّثُ الْعِلْمَ , فَكَيْفَ يَنْدَفِعُ بِهِ قَوْلُ عَدَدٍ حَصَلَ الْعِلْمُ بِإِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِبُلُوغِهِمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ ؟ وَعَنْ هَذَا قَالَ قَوْمٌ : عَدَدُ الْأَقَلِّ إلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ يَدْفَعُ الْإِجْمَاعَ . وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . الْأَوَّلُ : أَنَّ صِدْقَ الْأَكْثَرِ وَإِنْ عُلِمَ فَلَيْسَ ذَلِكَ صِدْقَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَاتِّفَاقَهُمْ وَالْحُجَّةُ فِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ , فَسَقَطَتْ الْحُجَّةُ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ .(1/470)
الثَّانِي : أَنَّ كَذِبَ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَلَعَلَّهُ صَادِقٌ , فَلَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اتِّفَاقًا مِنْ جَمِيعِ الصَّادِقِينَ إنْ كَانَ صَادِقًا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَى مَا يُضْمِرُونَ بَلْ التَّعَبُّدُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُظْهِرُونَ فَهُوَ مَذْهَبُهُمْ وَسَبِيلُهُمْ لَا مَا أَضْمَرُوهُ , فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تُضْمِرَ الْأُمَّةُ خِلَافَ مَا تُظْهِرُ ؟ قُلْنَا : ذَلِكَ إنْ كَانَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ تَقِيَّةٍ وَإِلْجَاءٍ وَذَلِكَ يَظْهَرُ وَيَشْتَهِرُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ فَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ضَلَالَةٍ وَبَاطِلٍ , وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِدَلِيلِ السَّمْعِ . الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَاحِدِ شُذُوذٌ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , فَقَدْ وَرَدَ ذَمُّ الشَّاذِّ وَأَنَّهُ كَالشَّاذِّ مِنْ الْغَنَمِ عَنْ الْقَطِيعِ . قُلْنَا : الشَّاذُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْخَارِجِ عَنْ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا , وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِجْمَاعِ لَا يُقْبَلُ خِلَافُهُ بَعْدَهُ وَهُوَ الشُّذُوذُ , أَمَّا الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا فَلَا يُسَمَّى شَاذًّا . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ عليه السلام : { عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ عَنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } . قُلْنَا : أَرَادَ بِهِ الشَّاذَّ الْخَارِجَ عَلَى الْإِمَامِ بِمُخَالَفَةِ الْأَكْثَرِ عَلَى وَجْهٍ يُثِيرُ الْفِتْنَةَ وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ عَنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ } أَرَادَ بِهِ الْحَثَّ عَلَى طَلَبِ الرَّفِيقِ فِي الطَّرِيقِ , وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام : { وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ } .(1/471)
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ . وَهُوَ مُتَحَكِّمٌ بِقَوْلِهِ إنَّهُ حُجَّةٌ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مُرَادِي بِهِ أَنَّ اتِّبَاعَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى . قُلْنَا : هَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأَخْبَارِ وَفِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ إذَا لَمْ يَجِدْ تَرْجِيحًا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ سِوَى الْكَثْرَةِ , وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ دُونَ الْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ إنْ خَالَفَهُ وَاحِدٌ لَمْ يَلْزَمْهُ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ مُخَالِفٌ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاتِّبَاعُ .
وقال ابن تيمية :
الْمَقَامُ السَّادِسُ : أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَاذَا ؟(1/472)
مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَإِصَابَتُهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُهُ لَا إصَابَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَحَظَ جَانِبًا , وَجَمْعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إصَابَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ , وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ النَّاظِرُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الطَّلَبِ , أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فَادِحَةً وَمِقْدَارًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ , وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ فِي الْفَتْوَى بِالِاجْتِهَادِ كَثِيرًا وَيَخْشَوْنَ اللَّهَ ; لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُعْذَرُونَ مَعَهَا وَمِقْدَارَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمْ الْقَوْلَ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ أَصَابَ الْحُكْمَ بِلَا دَلِيلٍ رَاجِحٍ فَقَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَأَخْطَأَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ . وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْحَقِّ هُوَ الرَّاجِحُ , لَكِنْ يَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلًا , وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالدَّلِيلُ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ حَقِيقَةً عَلَى الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ كَمَا يَجُوزُ خَطَأُ الشَّاهِدِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَظْهَرَ لَهُ غَيْرُهُ .
وفي البحر المحيط :
الِاسْتِحْسَانُ(1/473)
وَقَدْ نُوزِعَ فِي ذِكْرِهِ فِي جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعَقْلِيَّ لَا مَجَالَ لَهُ فِي الشَّرْعِ , وَالِاسْتِحْسَانُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ , فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ ؟ وَهُوَ لُغَةً : اعْتِمَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا , سَوَاءٌ كَانَ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا , وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ , فَإِنَّهُ لَا يُنَبِّئُ عَنْ انْتِحَالِ مَذْهَبٍ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ , وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هُوَ الدِّينُ سَوَاءٌ اسْتَحْسَنَهُ نَفْسُهُ أَمْ لَا . وَنَسَبَ الْقَوْلَ بِهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ , وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ , وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَنْكَرَ أَصْحَابُهُ مَا حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُ , وَنَسَبَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى مَالِكٍ , وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ : لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ . وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ , حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ : " مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ " . وَهِيَ مِنْ مَحَاسِنِ كَلَامِهِ . قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْصِبَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ شَرْعِ الْمُصْطَفَى . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَمَنْ شَرَّعَ فَقَدْ كَفَرَ . وَسَكَتَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُقَدَّمَةِ الثَّانِيَةِ لِوُضُوحِهَا . قَالَ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " : مُرَادُهُ لَوْ جَازَ الِاسْتِحْسَانُ بِالرَّأْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لَكَانَ هَذَا بَعْثَ شَرِيعَةٍ أُخْرَى عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى خِلَافِ الْعَادَاتِ , وَعَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمِيلُ إلَيْهَا .(1/474)
وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ , وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانُ مَا فِي الْعَادَاتِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " : الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ , وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ جَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَجَازَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ , وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدِ لِنَفْسِهِ شَرْعًا , وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ . وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَى فِي الزَّوَايَا . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا رَجْمَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّا نَرْجُمُهُ اسْتِحْسَانًا . وَقَالَ فِي آخَرِ " الرِّسَالَةِ " : " تَلَذُّذٌ " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ بِمَا يَقَعُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى طَرِيقَةٍ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ , وَهُوَ مَا اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلٍ , فَقَالُوا بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهِمْ حَتَّى قَالُوا فِي الْجَزَاءِ : إنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَة , وَالِاسْتِحْسَانُ : شَاةٌ , وَقَالُوا فِي الشُّهُودِ بِالزَّوَايَا : الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا . قَالَ : وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَنْ بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام , حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا وَدَلَّهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ , وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الِاسْتِحْسَانَ .(1/475)
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَمِمَّنْ أَنْكَرُوا الِاسْتِحْسَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الطَّحْطَاوِيُّ , حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا حُرِّرَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ زَالَ التَّشْنِيعُ , وَأَبُو حَنِيفَةَ بَرِيءَ إلَى اللَّهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ بِلَا حُجَّةٍ . قَالَ الْفَارِضُ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ " : وَقَدْ جَرَتْ لَفْظَةُ ( الِاسْتِحْسَانِ ) لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ , وَلِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي كِتَابِهِ , وَلِلشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ . انْتَهَى . وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ , قَالَ مَالِكٌ : تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ . قَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ : الِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ الْقِيَاسِ . ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ " الْمُسْتَخْرَجَةِ " نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْأَحْكَامِ " . وَقَالَ الْبَاجِيُّ : ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ : هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ , كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ , وَتَخْصِيصُ الرُّعَافِ دُونَ الْقَيْءِ بِالْبِنَاءِ , لِلْحَدِيثِ فِيهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَرِدْ سُنَّةٌ بِالْبِنَاءِ فِي الرُّعَافِ لَكَانَ فِي حُكْمِ الْقَيْءِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ , لِأَنَّ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي تَتَابُعَ الصَّلَاةِ , فَإِذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي الرُّخْصَةِ بِتَرْكِ التَّتَابُعِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِرْنَا إلَيْهِ , وَأَبْقَيْنَا الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ . قَالَ : وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ , فَإِنْ سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ . انْتَهَى .(1/476)
وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ : الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ , لَا عَلَى مَا سَبَقَ , بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ , فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْقِيَاسِ . وَمِثَالُهُ : لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ . فَقِيلَ : يُرَدُّ , وَقِيلَ : يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ . قَالَ أَشْهَبُ : الْقِيَاسُ الْفَسْخُ , وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يَمْضِ إذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِ نَصِيبِ الرَّادِّ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قُلْت لِمَالِكٍ : لَمْ يَقْضِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ وَلَيْسَ بِمَالٍ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنَّاهُ . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى الْأَمْوَالِ . وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ : بَحَثْت عَنْ مَوَارِدِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَذْهَبِنَا فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ إلَى تَرْكِ الدَّلِيلِ بِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارِضُهُ بَعْضُ مُقْتَضَاهُ , كَتَرْكِ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ فِي رَدِّ الْأَيْمَانِ إلَى الْعُرْفِ أَوْ الْمُصَالَحَةِ , كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ , وَلِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا فِي إيجَابِ غُرْمِ الْقِيمَةِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْحَاكِمِ , أَوْ فِي الْيَسِيرِ , كَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ كَمَا جَازَ التَّفَاضُلُ الْيَسِيرُ فِي الْمُرَاطَلَةِ , وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَعْنَى لَيْسَ فِي سُلُوكِهِ إبْطَالُ الْقَوَاعِدِ , وَلَا يَجْرِي عَلَيْهَا جَرْيًا مُخْلِصًا , كَمَا فِي مَسْأَلَةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ .(1/477)
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ , وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ . ثُمَّ حَكَى كَلَامُ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ دَلِيلٍ يُعَارِضُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ , حَتَّى كَانَ الْقِيَاسُ غَيْرَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ , وَكَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِاسْتِحْسَانِهِمْ تَرْكَ الْقِيَاسِ أَوْ الْوُقُوفَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَوْقَهُ فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ أَوْ مِثْلِهِ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إلَّا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ قِيَاسًا , وَاَلَّذِي قَالَ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا كَمَا مَيَّزَ أَهْلُ النَّحْوِ بَيْنَ وُجُوهِ النَّصْبِ فَقَالُوا : هَذَا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ , وَهَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ . ثُمَّ نَبَّهَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ , فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ . وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ إنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ . فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ . لَكِنْ هَذَا الِاسْمُ لَا نَعْرِفُهُ اسْمًا لِمَا يُقَالُ بِهِ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ لِمَعَانِيهَا فَهُوَ حَسَنٌ , لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَتَحْسِينِ الدَّلَائِلِ , فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ .(1/478)
وَإِنْ كَانَ مَا يُقَبَّحُ فِي الْوَهْمِ مِنْ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ بِحُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ وَنَظِيرٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ . وَقَالَ السِّنْجِيُّ : الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ , وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوْ الْعَقْلِيُّ عَلَى حُسْنِهِ , كَالْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ , وَقِدَمِ الْمُحْدِثِ , وَبَعْثِهِ الرُّسُلَ وَإِثْبَاتِ صِدْقِهِمْ , وَكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ حُجَّةً عَلَيْهِمْ , وَمِثْلُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ , لِهَذَا الضَّرْبِ يَجِبُ تَحْسِينُهُ , لِأَنَّ الْحُسْنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ , وَالْقُبْحُ مَا قَبَّحَهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ إبَاحَتُهُ , وَيَكُونُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ , وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ , فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ . وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسًا اُسْتُحْسِنَ تَرْكُهُمَا وَالْأَخْذُ بِالْعَادَاتِ , كَقَوْلِهِ فِي خَبَرِ الْمُتَبَايِعَيْنِ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ , فَرَدَّ الْخَبَرَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَعَادَةِ النَّاسِ . وَكَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الزَّوَايَا . انْتَهَى .(1/479)
إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ : وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ , كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ , لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ الْأَحْسَنُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ , كَمَا خَصَّ خُرُوجَ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ مِنْ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا , وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " الْعُنْوَانِ " . قَالَ شَارِحُهُ : وَفِي حَصْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى نَظَرٌ عِنْدِي , وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَالَ الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ : نَحْنُ نُخَالِفُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِنْدَنَا . قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ : وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ إلَى الْقِيَاسِ , كَمَا لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمُخَصِّصِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَرَكَ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ بِأَضْعَفِهِمَا إذَا كَانَ حَتْمًا , كَمَا قَالَ فِي شُهُودِ الزِّنَى : الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ , وَلَكِنْ أَحَدَّهُ اسْتِحْسَانًا . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ يُخَالِفُ فِيهِ , لِأَنَّ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ أَضْعَفِهِمَا , وَلِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوَايَا لَا قِيَاسَ أَصْلًا وَلَا خَبَرًا .(1/480)
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ , حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ , وَلِأَجْلِهِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يُسْنِدُونَ لِمَا يَرَوْنَهُ إلَى خَبَرٍ , كَمَصِيرِهِمْ إلَى أَنَّ النَّاسِي بِالْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ , لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ . الْخَامِسُ : قَالَ إلْكِيَا : وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ , مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ أَنَّهُ قَطَعَ الْمَسَائِلَ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِيهِ إلَى الثَّانِي , سَوَاءٌ كَانَ قِيَاسًا أَوْ نَصًّا , يَعْنِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَعْدِلُ عَنْ الْحُكْمِ مِنْ مَسْأَلَةٍ بِمَا يَحْكُمُ فِي نَظَائِرِهَا إنَّ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ , لِوَجْهٍ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْهُ , كَتَخْصِيصِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ الْقَائِلِ : مَا لِي صَدَقَةٌ عَلَى الزَّكَاةِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ عَامٌّ فِي التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ , لقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِمْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ , فَعَدَلَ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِزَكَوِيٍّ بِمَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْحُكْمِ , لِدَلِيلٍ اقْتَضَى الْعُدُولَ وَهُوَ الْآيَةُ .(1/481)
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ : هُوَ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , قَالَ : وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَصْحَابُنَا , فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ : يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي اقْتَضَى إلْحَاقَهَا بِنَظَائِرِهَا , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ , وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَذْهَبُهُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا , لِأَنَّهُ عُدُولٌ بِالْخَاصِّ عَنْ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِدَلِيلٍ . وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِأَدَقِّ الْقِيَاسَيْنِ . وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ " : الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِهِ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ . وَقَدْ قَسَّمَهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ , كَمَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ . الثَّانِي : اتِّبَاعُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ , كَمَا قَالُوا فِي أُجْرَةِ الْعَبْدِ الْآبِقِ بِأَرْبَعِينَ , اتِّبَاعًا لِابْنِ عَبَّاسٍ . الثَّالِثُ : اتِّبَاعُ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ , كَالْمُعَاطَاةِ , فَإِنَّ اسْتِمْرَارَهَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ , وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ . الرَّابِعُ : اتِّبَاعُ مَعْنَى خَفِيٍّ هُوَ أَخَصُّ بِالْمَقْصُودِ , كَمَا فِي إيجَابِ الْحَدِّ بِشُهُودِ الزَّوَايَا , لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ فَعْلَةً وَاحِدَةً كَأَنْ يَزْحَفُ فِيهَا . قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْقِيَاسِ وَجَبَ عِنْدَنَا , لَكِنَّ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ يُتَّبَعُ عِنْدَنَا .(1/482)
وَأَمَّا أَنَّ الْأَعْصَارَ . لَا تَتَفَاوَتُ فَمَرْدُودٌ , لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ فِي الْكَثْرَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ . فَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَفِيُّ إذَا كَانَ أَخَصَّ فَهُوَ مُتَّبَعٌ . وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكْتَفِ بِمُوجِبِهِ حَتَّى أَتَى بِالْعَجَبِ فَقَالَ : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى أَرْبَعُ زَوَايَا , كُلُّ وَاحِدٍ يَشْهَدُ عَلَى زَاوِيَةٍ . قَالَ : وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَزَحَّفُ فِي زَنْيَةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي سَفْكِ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِهَذَا الْخَيَالِ . انْتَهَى . وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الثَّالِثِ , فَقَالَ : الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَّبِعُ مَا اُسْتُحْسِنَ بِالْعَادَةِ وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ . وَمَثَّلَهُ بِشُهُودِ الزِّنَى . انْتَهَى . وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " أَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ قَالَ : وَلَا عَيْبَ إذَنْ فِي إطْلَاقِهِ , بَلْ الْعَيْبُ عَلَى مَنْ جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وَقَالَ بِهِ مِنْ حَيْثُ عِيبَ عَنْ قَائِلِهِ . قَالَ : وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ قَالَ : حَدَّثَنِي بَعْضُ قُضَاةِ مَدِينَةِ السَّلَامِ مِمَّنْ كَانَ يَلِي الْقَضَاءَ فِي زَمَانِ الْمُسْتَعِينِ بِاَللَّهِ , قَالَ : سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ جَابِرٍ , وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْعِلْمِ , صَنَّفَ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ , وَكَانَ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ .(1/483)
قُلْت لَهُ : مَا الَّذِي أَوْجَبَ عِنْدَك الْقَوْلَ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَأْت كِتَابَ إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ " لِلشَّافِعِيِّ , فَرَأَيْتُهُ صَحِيحًا فِي مَعْنَاهُ , إلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا احْتَجَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ , وَصَحَّ بِهِ عِنْدِي بُطْلَانُهُ . قَالَ : فَهَذِهِ حِكَايَةٌ تُنَادِي عَلَى الْخَصْمِ أَنَّهُ يَقُولُ بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّقْضِ . قُلْت : إنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ كَمَا نَقُولُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ , فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِك بِهِ بِاسْمٍ آخَرَ . وَلَئِنْ قُلْت : لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ قُلْنَا : هُنَا يُوهِمُ أَنَّهُ دَلِيلٌ غَيْرُ الْقِيَاسِ , فَقُلْ : هُوَ قِيَاسٌ فِي الْمَعْنَى . وَلَهُ اسْمٌ آخَرُ فِي اللَّفْظِ , وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ , وَحِينَئِذٍ فَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ . السَّادِسُ : أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَقْتَصِرُ عَنْهُ عِبَارَتُهُ , فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ . قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله : وَهَذَا هُوَ بَيِّنٌ , لِأَنَّ مَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرُ عَنْهُ لَا يَدْرِي هُوَ وَهْمٌ أَوْ تَحْقِيقٌ . وَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ : بِأَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ مَجْمُوعِ قَرَائِنِ الْأَقْوَالِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ , لَا يَتَأَتَّى عَنْ دَلِيلِهِ عِبَارَةٌ مُطَابِقَةٌ لَهُ . ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاخْتِلَالِ بِالْعِبَارَةِ الْإِخْلَالُ بِالْمُعَبَّرِ عَنْهُ , فَإِنَّ تَصْحِيحَ الْمَعَانِي بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لَا بِالنُّطْقِ اللَّفْظِيِّ , قَالَ : وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا أَشْبَهَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الِاسْتِحْسَانُ .(1/484)
قُلْت : وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ . أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ خَطَؤُهُ مِنْ صَوَابِهِ . وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي " الْكَافِي " : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً , إذْ لَا شَاهِدَ لَهُ . السَّابِعُ : أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَحَدِيثِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ . وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ , وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ " , قَالَ : وَأَنْكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَقَالَ الشَّيْخُ الشِّيرَازِيُّ : إنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عَنْهُ . وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ : " مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ " . وَهَذَا مَرْدُودٌ , لِأَنَّهُ قَوْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي , وَمُخَالِفٌ لقوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ } لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّفْسِيرَ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ . قُلْت : وَهُوَ الصَّوَابُ فِي النَّقْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَفْد صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ كِتَابًا فِي الْأُمِّ " فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ , وَقَالَ مِنْ جُمْلَتِهِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا رَدَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بَيْنَ الْمُتَتَابِعَيْنِ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ , فَتَرَكَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِهَذَا التَّخْمِينِ .(1/485)
وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الزَّوَايَا : الْقِيَاسُ أَنَّهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ , لَكِنْ اسْتَحْسَنَ قَبُولَهَا . وَرَجْمَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى : وَأَيُّ اسْتِحْسَانٍ فِي قَتْلِ مُسْلِمِينَ ؟ , وَقَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَقَاذَفَا , قَالَ لَهَا : يَا زَانِيَةُ , فَقَالَتْ : بَلْ أَنْتَ زَانٍ , لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ , لِأَنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ أُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحُدُّهَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَقْبَحُ مِنْهُ تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا . انْتَهَى . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالِاسْتِحْسَانِ هَذَا , فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ . وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى بُطْلَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } إلَى { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَجَعَلَ الْأَحْسَنَ مَا كَانَ كَذَلِكَ , وَقَوْلُهُ : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ } وَلَمْ يَقُلْ : إلَى الِاسْتِحْسَانِ . وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ دُونَ الِاسْتِحْسَانِ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ .(1/486)
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } , وَقَوْلُهُ عليه السلام : { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } , وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَحْكَامٍ عَدَلُوا عَنْ الْأُصُولِ فِيهَا إلَى الِاسْتِحْسَانِ : ( مِنْهَا ) دُخُولُ الْوَاحِدِ إلَى الْحَمَّامِ لِيَسْتَعْمِلَ مَاءً غَيْرَ مُقَدَّرٍ . وَيَشْتَرِي الْمَأْكُولَ بِالْمُسَاوَمَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْسَانَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُجَّةٍ . وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَخْذَ بِالْأَحْسَنِ دُونَ الْمُسْتَحْسَنِ , وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا غَيْرُهُمَا . وَالْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ . وَعَنْ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالِاسْتِحْسَانِ .
وفي فتح القدير :
( وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ الصَّدَقَةُ , وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ )(1/487)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رحمه الله لَا يَجِبُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ نَائِمًا ; لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْهُ . وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ النَّوْمِ وَالْإِكْرَاهِ يَنْتَفِي الْمَأْثَمُ دُونَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ , وَهُوَ مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ حَتْمًا , بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ حَيْثُ يَتَخَيَّرُ ; لِأَنَّ الْآفَةَ هُنَاكَ سَمَاوِيَّةٌ وَهَاهُنَا مِنْ الْعِبَادِ , ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسَهُ عَلَى الْحَالِقِ ; لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ فِي حَقِّ الْعُقْرِ , وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي حَقِّ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ , وَأَمَّا الْحَالِقُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوَجْهَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ . لَهُ أَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِحَلْقِ شَعْرِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ . وَلَنَا أَنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ; لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَمَانَ بِمَنْزِلَةِ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ شَعْرِهِ وَشَعْرِ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ الْجِنَايَةِ فِي شَعْرِهِ ( فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ) وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا .(1/488)
وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ ارْتِفَاقٍ ; لَأَنْ يَتَأَذَّى بِتَفَثِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الطَّعَامُ ( وَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ وَإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ , فَإِذَا قَلَّمَهَا كُلَّهَا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ , وَلَا يُزَادُ عَلَى دَمٍ إنْ حَصَلَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ , فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله ; لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّدَاخُلِ فَأَشْبَهَ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إلَّا إذَا تَخَلَّلَتْ الْكَفَّارَةُ لِارْتِفَاعِ الْأُولَى بِالتَّكْفِيرِ . وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمهما الله تَجِبُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَلَّمَ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يَدًا أَوْ رِجْلًا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي آيِ السَّجْدَةِ .
((1/489)
وَقَدْ وَجَدَ إزَالَةَ التَّفَثِ عَنْ عُضْوٍ كَامِلٍ ) يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي حَقِّ الْحِجَامَةِ كَامِلٌ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ ) الْفَاعِلُ ضَمِيرُ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الضَّمَائِرَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا مِثْلَ فَإِنْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ , فَإِنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مَخِيطًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ إذْ قَالَ إذَا تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ الْحَالِقُ حَالًّا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ , إلَّا أَنَّ تَعْيِينَ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ بِنَفْيِ اخْتِلَافِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُفِيدٍ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَالَّيْنِ , أَوْ الْحَالِقُ مُحْرِمًا وَالْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ حَلَالًا أَوْ قَلْبُهُ , وَفِي كُلِّ الصُّوَرِ عَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَا حَلَالَيْنِ وَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَلَا يَتَخَيَّرُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا ; لِأَنَّهُ عُذْرٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ , بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا حَلَقَ الْحَلَالُ رَأْسَ مُحْرِمٍ فَقَدْ بَاشَرَ قَطْعَ مَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِالْإِحْرَامِ , إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ { لَا تَحْلِقُوا حَتَّى تَحِلُّوا } وَبَيْنَ { لَا تَعْضُدُوا شَجَرَ الْحَرَمِ } , فَإِذَا اسْتَحَقَّ الشَّجَرُ نَفْسُهُ الْأَمْنَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْتَحَقَّ الشَّعْرُ أَيْضًا الْأَمْنَ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ الْكَفَّارَةُ بِالصَّدَقَةِ .(1/490)
وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ فَالِارْتِفَاقُ الْحَاصِلُ لَهُ بِرَفْعِ تَفَثِ غَيْرِهِ , إذْ لَا شَكَّ فِي تَأَذِّي الْإِنْسَانِ بِتَفَثِ غَيْرِهِ يَجِدُهُ مَنْ رَأَى ثَائِرَ الرَّأْسِ شَعِثَهَا وَسِخَ الثَّوْبِ تَفْلَ الرَّائِحَةِ , وَمَا سُنَّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ بَلْ مَا كَانَ وَاجِبًا إلَّا لِذَلِكَ التَّأَذِّي إلَّا أَنَّهُ دُونَ التَّأَذِّي بِتَفَثِ نَفْسِهِ فَقَصُرَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ . وَالْمُصَنِّفُ أَجْرَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي هَذَا , وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّعْرِ الْأَمْنَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْإِحْرَامُ حَالِقًا أَوْ مَحْلُوقًا , فَإِنَّ خِطَابَ لَا تَحْلِقُوا لِلْمُحْرِمِينَ فَلِذَا خَصَّصْنَا بِهِ الْأَوَّلَ . بَقِيَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا حَلَقَ رَأْسَ الْمُحْرِمِ اجْتَمَعَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ الْمُسْتَحَقِّ , وَالِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ تَفَثِ غَيْرِهِ , وَقَدْ كَانَ كُلُّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مُوجِبًا لِلصَّدَقَةِ , فَرُبَّمَا يُقَالُ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الِاجْتِمَاعِ فَتَقْتَضِي وُجُوبَ الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الْبَحْتِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدَّمَ لِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ لَوْ انْفَرَدَ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يُوجِبْهُ كَتَلْيِينِ الشَّعْرِ وَأَصَالَتِهِ لِلطِّيبِ وَقَتْلِ الْهَوَامِّ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَوَجَبَ الدَّمُ . وَتَقْرِيرُ الْخِلَافِ مَعَ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ , فَمَبْنَى عَدَمِ إلْزَامِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا إذَا كَانَ غَيْرَ مُخْتَارٍ بِالتَّقَدُّمِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ أَنَّ عَدَمَهُ يَسْقُطُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا .(1/491)
وَمَبْنَى عَدَمِهِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِقِ مُطْلَقًا عَدَمُ الْمُوجِبِ , أَمَّا إنْ كَانَ حَلَالًا فَلِأَنَّ الْحَلْقَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَهُوَ الْمُوجَبُ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ بَاشَرَ أَمْرًا مَحْظُورًا , وَهُوَ إعَانَةُ الْمَحْلُوقِ الْمُحْرِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ وَبِغَيْرِ اخْتِبَارِهِ أَوْلَى . قُلْنَا : الْمَعَاصِي إنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِعُقُوبَةِ الْإِحْلَالِ , وَلَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تُوجِبُ جَزَاءً فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إلَّا بِالنَّصِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِقِ فَنَقُولُ : أَمَّا الْحَالُّ فَأَلْحَقْنَاهُ بِقَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ بِجَامِعِ تَفْوِيتِ أَمْنٍ مُسْتَحَقٍّ مُسْتَعْقِبٍ لِلْجَزَاءِ . وَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ نَصًّا . وَأَمَّا الْمُحْرِمُ فَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ لِلْجَزَاءِ فِي حَقِّهِ هُوَ نَيْلُ الِارْتِفَاقِ بِقَضَاءِ التَّفَثِ , فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ كَانَ الْجَزَاءُ دَمًا وَإِلَّا فَصَدَقَةً . وَقَيْدُ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ مُلْغَى إذَا لَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُهُ وَعَقْلِيَّةُ اسْتِقْلَالِ مَا سِوَاهُ ثَابِتَةٌ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَفْسَهُ مَحَلٌّ وَالْمَحَلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ , وَإِلَّا امْتَنَعَ الْقِيَاسُ , فَالْأَصْلُ إلْغَاءُ الْمُحَالِ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ لَا مَرَدَّ لَهُ , خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ الْمُنَاسِبِ فَيَتَعَدَّى مِنْ نَفْسِهِ إلَى غَيْرِهِ إذَا وَجَدَ فِيهِ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ وَقُصُورَهَا رَدَّهَا إلَى الصَّدَقَةِ .(1/492)
وَقَدْ يُقَالُ : مُبَاشَرَةُ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ قَضَاءُ التَّفَثِ إنْ كَانَ جُزْءُ الْعِلَّةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَأْذَنَ الْمُحْرِمُ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لَزِمَ عَدَمُ الْجَزَاءِ عَلَى النَّائِمِ بِحَلْقِ رَأْسِهِ وَإِلَّا لَزِمَ الْجَزَاءُ إذَا نَظَرَ إلَى ذِي زِينَةٍ مَقْضِيِّ التَّفَثِ , فَإِنْ اُخْتِيرَ الثَّانِي وَادَّعَى أَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةٍ كَمَا قُلْنَا بِنَفْيِ الْجَزَاءِ فِي مُجَرَّدِ اللُّبْسِ لِذَلِكَ عَكَرَهُ مَا لَوْ فَرَضَ طُولَهَا يَوْمًا مَعَ مُحَادِثَتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِ طِيبِهِ , وَلَوْ كَانَ إلَى شَيْءٍ لَقُلْت بِاخْتِيَارِ الْأَوَّلِ وَنَفْيِ الْجَزَاءِ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُكْرَهِ , وَلَا يَلْزَمُنِي هَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ; لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا مَثَلًا عُلِّقَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْكَلَامِ مَثَلًا , وَهُنَا قَدْ فَرَضَ تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ بِالِارْتِفَاقِ الْكَائِنِ عَنْ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَوْ حُكْمًا .(1/493)
قَوْلُهُ : فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ ) يَعْنِي كَمَا لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بِحُرِّيَّةِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهَا إذَا ظَهَرَتْ أَمَةً بَعْدَ الدُّخُولِ ; لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ مَا نَالَهُ مِنْ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ حَصَلَ لِلْمَغْرُورِ فَيَكُونُ الْبَدَلُ الْآخَرُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَارِّ , كَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ عَلَى الْحَالِقِ بِغَيْرِ إذْنٍ ; لِأَنَّ سَبَبَهُ اخْتَصَّ بِهِ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِ حَالٍّ أَوْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَطْعَمَ مَا شَاءَ ) أَمَّا فِي الشَّارِبِ فَلَا شَكَّ , وَأَمَّا فِي قَلْمِ الْأَظَافِيرِ فَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ , فَأَصْلُ الْجَوَابِ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ هُنَا كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ , وَفِي الْمُحِيطِ أَيْضًا قَالَ : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ . هَذَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ لَا يَضْمَنُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ . وَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ عِبَارَةِ الْأَصْلِ فِي الْمَبْسُوطِ . وَفِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ فِي الْحَالِقِ هَكَذَا : وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَالٍّ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ , وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ مُحْرِمٍ آخَرَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ وَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ ا هـ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تَقْتَضِي لُزُومَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فِيمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ مُحْرِمٍ , وَأَمَّا فِي الْحَالِّ فَتَقْتَضِي أَنْ يُطْعِمَ أَيَّ شَيْءٍ شَاءَ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ , وَإِرَادَةُ الْمُقَدَّرَةِ فِي عُرْفِ إطْلَاقِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ صَدَقَةٍ فَقَطْ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ .(1/494)
ثُمَّ بَعْدَ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَالِقِ قَالَ : وَالْجَوَابُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ مُقْتَضَى عُرْفِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَاقِعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ أَيْضًا جَارِيًا فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ فَيَصْدُقُ مَا فِي الْهِدَايَةِ ; لِأَنَّهُ فَرَضَ الصُّورَةَ فِي قَلْمِ أَظْفَارِ الْحَلَالِ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ قَصَّ أَظَافِيرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ) ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ ارْتِفَاقٍ يَكُونُ بِالْقَصِّ , وَقَصُّ يَدٍ وَاحِدَةٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَفِيهِ الدَّمُ أَيْضًا , فَقَصُّ الْكُلِّ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَلُبْسِ كُلِّ الثِّيَابِ وَحَلْقِ شَعْرِ كُلِّ الْبَدَنِ فِي مَجْلِسٍ لَا يُوجِبُ غَيْرَ دَمٍ وَاحِدٍ . ( فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسِ فَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) أَيْ دَمٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى لَزِمَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَاتُ بِالْفِطْرِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ , وَإِنْ كَفَّرَ لِلسَّابِقَةِ كَفَّرَ لِلَّاحِقَةِ كَذَا هُنَا . ((1/495)
قَوْلُهُ : وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ إنْ قَصَّ فِي كُلِّ مَجْلِسِ طَرَفًا مِنْ أَرْبَعَتِهِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ) خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فَيَتَقَيَّدُ التَّدَاخُلُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ , غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ , وَالْمُثْبِتُ لَهَا لُزُومُ الْكَفَّارَةِ شَرْعًا مَعَ الْأَعْذَارِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْذَارَ مُسْقِطَةٌ لِلْعُقُوبَاتِ , وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ لَازِمَ تَرَجُّحِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَدَمُ التَّدَاخُلِ ; لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْجُودِ , إلَّا أَنْ يُوجِبَهُ مُوجِبٌ آخَرُ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي آيِ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ لَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ وَلَا مُوجِبُ هُنَا .(1/496)
وَالْإِلْحَاقُ بِآيِ السَّجْدَةِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِي تَقَيُّدِ التَّدَاخُلِ بِالْمَجْلِسِ لَا فِي إثْبَاتِ التَّدَاخُلِ نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ بِلَا جَامِعٍ ; لِأَنَّ مُوجِبَهُ فِي الْأَصْلِ : أَعْنِي آيَ السَّجْدَةِ لُزُومُ الْحَرَجِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ لِلدِّرَايَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ لِلِاتِّعَاظِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ , فَلَوْ لَمْ يَتَدَاخَلْ لَزِمَ الْحَرَجُ , غَيْرَ أَنَّ مَا تَنْدَفِعُ هَذِهِ الْحَاجَاتُ بِهِ مِنْ التَّكْرَارِ يَكُونُ غَالِبًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَتَقَيَّدَ التَّدَاخُلُ بِهِ , وَلَيْسَ سَبَبُ لُزُومِ الْحَرَجِ لَوْلَا التَّدَاخُلُ هُنَا قَائِمًا , إذْ لَا دَاعِيَ لِمَنْ أَرَادَ قَصَّ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى تَفْرِيقِ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ فَلَا عَادَةَ مُسْتَمِرَّةَ فِي ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ التَّدَاخُلِ عَلَى تَقْدِيرِ قَصِّ كُلِّ طَرَفٍ فِي مَجْلِسٍ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ . وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ قَصَّ إحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ الْأُخْرَى فِي الْمَجْلِسِ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ وَإِبْطَيْهِ أَوْ جَامَعَ مِرَارًا قَبْلَ الْوُقُوفِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نِسْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ , وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجَالِسُ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ مَجْلِسٍ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيهِ عِنْدَهُمَا .(1/497)
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ أَيْضًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأُولَى وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الطِّيبِ اعْتَبَرَهُ بِمَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ رُبُعَ رَأْسِهِ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ رُبُعَهُ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى حَلَقَ كُلَّهُ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ . وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْحَلْقِ وَاحِدَةٌ ; لِاتِّحَادِ مَحَلِّهَا وَهُوَ الرَّأْسُ .
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام :
قَاعِدَةٌ فِيمَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَمَنْ تَجُوزُ طَاعَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ(1/498)
لَا طَاعَةَ لِأَحَدِ الْمَخْلُوقَيْنِ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي طَاعَتِهِ كَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالسَّادَاتِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْمُسْتَأْجَرِينَ فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالصِّنَاعَاتِ , وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا , فَمَنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ لَهُ , إلَّا أَنْ يُكْرِهَ إنْسَانًا عَلَى أَمْرٍ يُبِيحُهُ الْإِكْرَاهُ فَلَا إثْمَ عَلَى مُطِيعِهِ , وَقَدْ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَا لِكَوْنِهِ آمِرًا بَلْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ مَا يُهَدِّدُهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى بُضْعٍ , وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ إنْسَانًا بِمَا يَعْتَقِدُ الْآمِرُ حِلَّهُ وَالْمَأْمُورُ تَحْرِيمَهُ فَهَلْ لَهُ فِعْلُهُ نَظَرًا إلَى رَأْيِ الْآمِرِ أَوْ يَمْتَنِعُ نَظَرًا إلَى رَأْيِ الْمَأْمُورِ , فِيهِ خِلَافٌ , وَهَذَا مُخْتَصٌّ فِيمَا لَا يَنْقَضِ حُكْمُ الْآمِرِ بِهِ , فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَضِ حُكْمُهُ بِهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ , وَكَذَلِكَ لَا طَاعَةَ لِجَهَلَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ إلَّا فِيمَا يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ .(1/499)
وَتَفَرَّدَ الْإِلَهُ بِالطَّاعَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِنِعَمِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِبْقَاءِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ , فَمَا مِنْ خَيْرٍ إلَّا هُوَ جَالِبُهُ , وَمَا مِنْ ضَيْرٍ إلَّا هُوَ سَالِبُهُ , وَلَيْسَ بَعْضُ الْعِبَادِ بِأَنْ يَكُونَ مُطَاعًا بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ , إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إنْعَامٌ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْته فِي حَقِّ الْإِلَهِ , وَكَذَلِكَ لَا حُكْمَ إلَّا لَهُ فَأَحْكَامُهُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَالِاسْتِدْلَالَات الْمُعْتَبَرَةِ , فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَحْسِنَ وَلَا أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً , وَلَا أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَقْلِيدِهِ : كَالْمُجْتَهِدِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ , وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } .(1/500)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعَامَّةُ فَإِنَّ وَظِيفَتَهُمْ التَّقْلِيدُ لِعَجْزِهِمْ عَنْ التَّوَصُّلِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ , بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْحُكْمِ , وَمَنْ قَلَّدَ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ , وَالْمُخْتَارُ التَّفْصِيلُ , فَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ إلَيْهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ ; فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ نَقْضُهُ إلَّا لِبُطْلَانِهِ , فَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ يُقَلِّدُونَ مَنْ اتَّفَقَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوْلَى , لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَقْلِيدُهُ لَمَا قَلَّدَ النَّاسُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ , بَلْ كَانُوا مُسْتَرْسِلِينَ فِي تَقْلِيدِ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ وَلَمْ يَكُنْ الْأَفْضَلُ يَدْعُو الْكُلَّ إلَى تَقْلِيدِ نَفْسِهِ , وَلَا الْمَفْضُولُ يَمْنَعُ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ وُجُودِ الْفَاضِلِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ .(2/1)
وَمِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ , وَيَتْرُكُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ , بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَنْ مُقَلِّدِهِ , وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِنْ اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ بَلْ لِمَا أَلِفَه مِنْ تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَجُّبِهِ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ , فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا , وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ , فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ , وَلَمْ يَعْلَمْ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ , فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ أَعْمَى التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ , وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَنْ(2/2)
ظَهَرَ , وَأَيْنَ هَذَا مِنْ مُنَاظَرَةِ السَّلَفِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَمُسَارَعَتِهِمْ إلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ , وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت أَحَدًا إلَّا قُلْت اللَّهُمَّ أَجْرِ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ , فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي اتَّبَعَنِي وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ اتَّبَعْته . ( فَائِدَةٌ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْلِيدِ الْحَاكِمِ الْمُجْتَهِدِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقَّ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ فَإِذَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ظَنِّهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الشَّرْعِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ أَنْبَلَ وَأَفْضَلَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ , وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ , وَقَالُوا ثِقَةٌ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ وَمِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ , وَخَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ , وَهَذَا ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ إذَا قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .
وفي أنوار البروق :
((2/3)
الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافُ يَتَقَرَّرُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ يَبْطُلُ الْخِلَافُ فِيهَا وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُ وَاحِدٍ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ )
وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَرْجِعُ الْمُخَالِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ وَتَتَغَيَّرُ فُتْيَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ لَا يَرَى وَقْفَ الْمُشَاعِ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ وَقْفِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ لِمَنْ كَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ نَفَّذَهُ وَأَمْضَاهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِبُطْلَانِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا وَحَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ فَاَلَّذِي كَانَ يَرَى لُزُومَ الطَّلَاقِ لَهُ يُنْفِذُ هَذَا النِّكَاحَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفْتِيَ بِالطَّلَاقِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُرَدُّ وَلَا يُنْقَضُ وَأَفْتَى مَالِكٌ فِي السَّاعِي إذَا أَخَذَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ خَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ شَاةً أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ يُفْتِي إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي الْمَالِكِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ مَظْلِمَةً مِمَّنْ أُخِذَتْ(2/4)
مِنْهُ وَعَلَّلَ مَالِكٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ فَأَبْطَلَ مَا كَانَ يُفْتِي بِهِ عِنْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ مَالِكٌ وَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تُصَلَّى إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُفِعَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يَنْفُذُ وَلَا يَنْقُضُهُ وَيَتْرُكُهُ عَلَى حَالِهِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّنْفِيذِ لِوَجْهَيْنِ وَهُمَا الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَقَرَّتْ لِلْحُكَّامِ قَاعِدَةٌ وَلَبَقِيَتْ الْخُصُومَاتُ عَلَى حَالِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يُوجِبُ دَوَامَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ وَانْتِشَارِ الْفَسَادِ وَدَوَامِ الْعِنَادِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُصِبَ الْحُكَّامُ وَثَانِيهِمَا وَهُوَ أَجَلُّهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ فَهُوَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَالْإِبَاحَةُ فِيمَا يُبَاحُ كَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ الَّذِي ذَهَبَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُفْتِي بِأَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ كَالْمُتَرْجِمِ مَعَ الْحَاكِمِ وَالْحَاكِمُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَنَائِبِ الْحَاكِمِ مَعَهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ يُنْشِئُ(2/5)
بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ وَالْمُتَرْجِمُ لَا يَتَعَدَّى صُورَةَ مَا وَقَعَ فَيَنْقُلُهُ . وَقَدْ بَسَطْت هَذَا الْمَعْنَى بِشُرُوطِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ مَعْنَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إنْشَاءَ الْحُكْمِ فَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ حُكْمُهُ وَهُوَ كَالنَّصِّ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَيَصِيرُ الْحَالُ إلَى تَعَارُضِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَقْرِيبُهُ بِالْمِثَالِ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله تَعَالَى دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ يَلْزَمُ وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ صُوَرًا لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا رُفِعَتْ صُورَةٌ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَإِبْطَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ كَانَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ نَصًّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَدَ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ .(2/6)
وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَازِمٌ وَقَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَالْعِصْمَةُ فِيهَا تَسْتَمِرُّ لَقُلْنَا هَذَانِ نَصَّانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ فَنُقَدِّمُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا لَوْ قَالَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ فَإِنَّا نَقْتُلُ الْمُشْرِكِينَ وَنَتْرُكُ الرُّهْبَانَ كَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ أُعْمِلُ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَتَبْقَى بَقِيَّةُ الصُّوَرِ عِنْدِي لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّعْلِيقُ قَبْلَ النِّكَاحِ جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَمَنْ فَهِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ وَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَاصٌّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا مَا قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا خَفِيًّا جِدًّا حَتَّى إنِّي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُحَقِّقُهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُوجِبْ تَنْفِيذَ أَقْضِيَةِ الْحُكَّامِ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَيْنَ قَاعِدَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيعَابَهُ فَلْيَقِفْ عَلَى كِتَابِ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إلَّا هَذَا الْفَرْقُ لَكِنَّهُ مَبْسُوطٌ فِي أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً مُنَوَّعَةً حَتَّى صَارَ الْمَعْنَى فِي غَايَةِ الضَّبْطِ وَالْجَلَاءِ
((2/7)
الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخِلَافُ يَتَقَرَّرُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ يَبْطُلُ الْخِلَافُ فِيهَا وَيَتَعَيَّنُ قَوْلُ وَاحِدٍ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَهُوَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ ) بِمَعْنَى أَنَّ الْمُفْتِي الْمُخَالِفَ إذَا اسْتَفْتَى فِي عَيْنِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا لَا تَسُوغُ لَهُ الْفَتْوَى فِيهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ فِيهَا الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ قَائِلٍ وَمَضَى الْعَمَلُ بِهَا أَمَّا إذَا اسْتَفْتَى فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ فِيهَا فَإِنَّهُ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ خَاصَّةً مَثَلًا وَقْفُ الْمُشَاعِ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ الْوَاقِعَةُ عَيْنَهَا لِمَنْ لَا يَرَى صِحَّتَهُ وَكَانَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ فَهُوَ لَا يَرُدُّهُ وَلَا يَنْقُضُهُ وَنِكَاحُ مَنْ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ مَسْأَلَتُهُ عَيْنُهَا لِمَنْ كَانَ يَرَى لُزُومَ الطَّلَاقِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرُدَّ هَذَا النِّكَاحَ وَلَا يَنْقُضَهُ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله تعالى وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يُرَدُّ وَلَا يُنْقَضُ وَأَفْتَى مَالِكٌ فِي السَّاعِي الشَّافِعِيِّ إذَا أَخَذَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ خَلِيطَيْنِ فِي الْغَنَمِ شَاةً بِأَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا(2/8)
بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبْطَلَ مَا كَانَ يُفْتِي بِهِ وَيَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الشَّاةَ تَكُونُ مَظْلِمَةً مِمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِخِلَافِهِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لِحُكْمِهِ بِرَدٍّ وَلَا نَقْضٍ وَوَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ إذَا حَكَمَ الْإِمَامُ فِيهَا لَا تُصَلَّى إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ وِفَاقًا قَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا مِنْ الْحَاكِمِ بِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادُ ا هـ . لَكِنْ قَالَ الْأَصْلُ وَوَقَعَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُفِعَ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ لَا يُنَفِّذُهُ أَيْ لَا يُقِرُّهُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ بَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يُقِرُّهُ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْحَاكِمِ .(2/9)
وَلَا يَنْقُضُهُ بَلْ يُزْجَرُ عَنْ الْخُصُومَةِ فِيهِ نَظَرًا لِوَجْهَيْنِ هُمَا سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَقَرَّتْ لِلْحُكَّامِ قَاعِدَةٌ وَلَبَقِيَتْ الْخُصُومَاتُ عَلَى حَالِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يُوجِبُ دَوَامَ التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ وَانْتِشَارِ الْفَسَادِ وَدَوَامِ الْعِنَادِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُصِبَ الْحُكَّامُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ اقْتَصَرَ الْمَحَلِّيُّ حَيْثُ قَالَ إذْ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ لَجَازَ نَقْضُ النَّقْضِ وَهَلُمَّ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ نَصْبِ الْحَاكِمِ مِنْ فَصْلِ الْحُكُومَاتِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنْشِئَ الْحُكْمَ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ إمَامِهِ الَّذِي قَلَّدَهُ فَهُوَ مُنْشِئٌ لِحُكْمِ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَلْزَمُ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا يُبَاحُ كَالْقَضَاءِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ الَّذِي ذَهَبَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْشَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ بَلْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ إمَّا نَفْسُ حُكْمِهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِمَّا أَنَّهُ كَالنَّصِّ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ مِنْ جِهَةِ مَنْعِهِ تَعَالَى مِنْ نَقْضِ أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّصْوِيبِ فَيَئُولُ الْحَالُ فِيهَا إلَى مَا يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ(2/10)
بِوَجْهٍ مَا فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَثَلًا دَلَّ الدَّلِيلُ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله تعالى عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مِلْكِ الْعِصْمَةِ يَلْزَمُ وَهَذَا الدَّلِيلُ يَشْمَلُ صُوَرًا لَا نِهَايَةَ لَهَا فَإِذَا رُفِعَتْ صُورَةٌ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَإِبْطَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ كَانَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ كَالنَّصِّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْوَارِدِ مِنْ خُصُوصِ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَكُونُ الْحَالُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ لَازِمٌ وَقَالَ التَّعْلِيقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَالْعِصْمَةُ فِيهَا تَسْتَمِرُّ فَقُلْنَا هَذَانِ نَصَّانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ فَنُقَدِّمُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ فَكَمَا أَنَّ مَالِكًا رحمه الله تعالى يَقُولُ فِيمَا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ .(2/11)
وَقَالَ لَا تَقْتُلُوا الرُّهْبَانَ إنَّا نَقْتُلُ الْمُشْرِكِينَ وَنَتْرُكُ الرُّهْبَانَ جَمْعًا بَيْنَ نَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ كَذَلِكَ يَقُولُ مَالِكٌ رحمه الله تعالى هُنَا أَعْمَلُ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَتَبْقَى بَقِيَّةُ الصُّورَةِ عِنْدِي يَصِحُّ فِيهَا التَّعْلِيقُ قَبْلَ النِّكَاحِ جَمْعًا بَيْنَ مَا هُوَ كَنَصَّيْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَلِيُّ الْمُفْتِي كَالْحَاكِمِ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ وَمُخْبِرٌ وَمُعَرِّفٌ بِالْحُكْمِ اُنْظُرْ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ لِلْأَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( تَنْبِيهٌ ) الشَّرْطُ فِي كَوْنِ حُكْمِ الِاجْتِهَادِيَّاتِ لَا يَنْقُضُ أَنْ يَكُونَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَلِمْت وَإِلَّا نُقِضَ قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَشَرْحِهِ لِلْمَحَلِّيِّ . ( فَإِنْ خَالَفَ ) الْحُكْمُ ( نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا جَلِيًّا وَلَوْ قِيَاسًا ) وَهُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ نُقِضَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النَّقْضِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَعَزَاهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى إلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مِمَّا نَقْطَعُ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ قِيَاسًا مَظْنُونًا مَعَ كَوْنِهِ جَلِيًّا فَلَا وَجْهَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ظَنٍّ وَظَنٍّ ا هـ . ((2/12)
أَوْ حَكَمَ ) حَاكِمٌ ( بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ ) قَلَّدَ غَيْرَهُ فِيهِ أَوْ لَا نُقِضَ حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِاجْتِهَادِهِ وَامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ ( أَوْ حَكَمَ ) حَاكِمٌ ( بِخِلَافِ نَصِّ إمَامِهِ غَيْرِ مُقَلِّدٍ غَيْرَهُ ) مِنْ الْأَئِمَّةِ ( حَيْثُ يَجُوزُ ) لِمُقَلِّدِ إمَامٍ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ بِأَنْ لَمْ يُقَلِّدْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا لِاسْتِقْلَالِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ أَوْ قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَ إمَامِهِ حَيْثُ يُمْتَنَعُ تَقْلِيدُهُ ( نُقِضَ ) حُكْمُهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ إمَامِهِ الَّذِي هُوَ فِي حَقِّهِ لِالْتِزَامِهِ تَقْلِيدَهُ كَالدَّلِيلِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ أَمَّا إذَا قَلَّدَ فِي حُكْمِهِ غَيْرَ إمَامِهِ حَيْثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لِعَدَالَتِهِ إنَّمَا حَكَمَ بِهِ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ ا هـ . بِزِيَادَةٍ مِنْ حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ قَالَ الْعَطَّارُ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي التَّمْهِيدِ نَقْلًا عَنْ الْغَزَالِيِّ إذَا تَوَلَّى مُقَلِّدٌ لِلضَّرُورَةِ فَحَكَمَ بِمَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ بَلْ عَلَيْهِ إتْبَاعُ مُقَلِّدِهِ نُقِضَ حُكْمُهُ وَإِنْ قُلْنَا لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ لَمْ يُنْقَضْ ا هـ .(2/13)
وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الدَّامَغَانِيَّ قَاضِيَ بَغْدَادَ الْحَنَفِيَّ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ وَلَّى ابْنُ سُرَيْجٍ الْقَضَاءَ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ ا هـ وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مَا يُقَابِلُ الظَّاهِرَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِجْمَاعُ الْقَطْعِيُّ وَفِي الظَّاهِرِ الظَّنِّيِّ وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي النَّصِّ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ حَدَثَ بَعْدَهُ وَهُوَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَضْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيُقَاسُ بِالنَّصِّ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ ا هـ زَكَرِيَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
((2/14)
الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ ) اعْلَمْ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَهُ أَحْوَالٌ الْحَالَةُ الْأُولَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُخْتَصَرٍ مِنْ مُخْتَصَرَاتِ مَذْهَبِهِ فِيهِ مُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ فِي غَيْرِهِ وَعُمُومَاتٌ مَخْصُوصَةٌ فِي غَيْرِهِ وَمَتَى كَانَ الْكِتَابُ الْمُعَيَّنُ حَفِظَهُ وَفَهِمَهُ كَذَلِكَ أَوْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ وَإِنْ أَجَادَهُ حِفْظًا وَفَهْمًا إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ يُقْطَعُ فِيهَا أَنَّهَا مُسْتَوْعَبَةُ التَّقْيِيدِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْنًى آخَرَ مِنْ كِتَابٍ آخَرَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا لِمَنْ يَحْتَاجُهَا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَتَكُونُ هِيَ عَيْنَ الْوَاقِعَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا لَا أَنَّهَا تُشْبِهُهَا وَلَا تُخَرَّجُ عَلَيْهَا بَلْ هِيَ هِيَ حَرْفًا بِحَرْفٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَالِكَ فُرُوقٌ تَمْنَعُ مِنْ الْإِلْحَاقِ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ تَقْيِيدٌ يَمْنَعُ مِنْ الْفُتْيَا بِالْمَحْفُوظِ فَيَجِبُ الْوَقْفُ .(2/15)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّسِعَ تَحْصِيلُهُ فِي الْمَذْهَبِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشُّرُوحَاتِ وَالْمُطَوَّلَاتِ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقَاتِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَضْبِطْ مَدَارِكَ إمَامِهِ وَمُسْنَدَاتِهِ فِي فُرُوعِهِ ضَبْطًا مُتْقَنًا بَلْ سَمِعَهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مِنْ أَفْوَاهِ الطَّلَبَةِ وَالْمَشَايِخِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِجَمِيعِ مَا يَنْقُلُهُ وَيَحْفَظُهُ فِي مَذْهَبِهِ اتِّبَاعًا لِمَشْهُورِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ بِشُرُوطِ الْفُتْيَا وَلَكِنَّهُ إذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَيْسَتْ فِي حِفْظِهِ لَا يُخَرِّجُهَا عَلَى مَحْفُوظَاتِهِ وَلَا يَقُولُ هَذِهِ تُشْبِهُ الْمَسْأَلَةَ الْفُلَانِيَّةَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ أَحَاطَ بِمَدَارِكِ إمَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَأَقْيِسَتِهِ وَعِلَلِهِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مُفَصَّلَةً وَمَعْرِفَةِ رُتَبِ تِلْكَ الْعِلَلِ وَنِسْبَتِهَا إلَى الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ الْحَاجِيَّةِ أَوْ التَّتْمِيمِيَّةِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَهَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ الَّتِي هِيَ أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَتْ لَهَا أُصُولُ الشَّرْعِ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْ الْمُنَاسِبِ أَوْ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ أَوْ قِيَاسِ الْإِحَالَةِ أَوْ الْمُنَاسِبِ الْقَرِيبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْيِسَةِ وَرُتَبِ الْعِلَلِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي مَذْهَبِهِ(2/16)
وَالْمُخَرِّجَ عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ نِسْبَتُهُ إلَى مَذْهَبِهِ وَإِمَامِهِ كَنِسْبَةِ إمَامِهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي اتِّبَاعِ نُصُوصِهِ وَالتَّخْرِيجِ عَلَى مَقَاصِدِهِ فَكَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيسَ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْفَارِقَ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ الْبَاطِلُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى مَقَاصِدِ إمَامِهِ فَرْعًا عَلَى فَرْعٍ نَصَّ عَلَيْهِ إمَامُهُ مَعَ قِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ الْفُرُوقَ إنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ رُتَبِ الْعِلَلِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْأَقْيِسَةِ فَإِذَا كَانَ إمَامُهُ أَفْتَى فِي فَرْعٍ بُنِيَ عَلَى عِلَّةٍ اُعْتُبِرَ فَرْعُهَا فِي نَوْعِ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ هُوَ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى أَصْلِ إمَامِهِ فَرْعًا مِثْلَ ذَلِكَ الْفَرْعِ لَكِنَّ عِلَّتَهُ مِنْ قَبِيلِ مَا شَهِدَ جِنْسُهُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ فَإِنَّ النَّوْعَ عَلَى النَّوْعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَقْوَى اعْتِبَارُ الْأَضْعَفِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ إمَامُهُ قَدْ اعْتَبَرَ مَصْلَحَةً سَالِمَةً عَنْ الْمُعَارِضِ لِقَاعِدَةٍ أُخْرَى فَوَقَعَ لَهُ هُوَ فَرْعٌ فِيهِ عَيْنُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى أَوْ بِقَوَاعِدَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ لِقِيَامِ الْفَارِقِ أَوْ تَكُونُ مَصْلَحَةُ إمَامِهِ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ فَيُفْتِي هُوَ بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهَا مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ وَهَاتَانِ ضَعِيفَتَانِ مَرْجُوحَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى وَلَعَلَّ إمَامَهُ رَاعَى خُصُوصَ تِلْكَ الْقَوِيَّةِ(2/17)
وَالْخُصُوصُ فَائِتٌ هُنَا وَمَتَى حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي ذَلِكَ وَالشَّكُّ . وَجَبَ التَّوَقُّفُ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ وَجَدَ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَمَصْلَحَةٍ مِنْ بَابِ الضَّرُورِيَّاتِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ أَوْ التَّتِمَّاتِ لِأَجْلِ قِيَامِ الْفَارِقِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُقَلِّدُ لَهُ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ فِي التَّخْرِيجِ كَنِسْبَةِ إمَامِهِ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ وَالضَّابِطُ لَهُ وَلِإِمَامِهِ فِي الْقِيَاسِ وَالتَّخْرِيجِ أَنَّهُمَا مَتَى جَوَّزَا فَارِقًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا حَرُمَ الْقِيَاسُ وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ إلَّا بَعْدَ الْفَحْصِ الْمُنْتَهِي إلَى غَايَةٍ أَنَّهُ لَا فَارِقَ هُنَاكَ وَلَا مُعَارِضَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَهْمَا جَوَّزَ الْمُقَلِّدُ فِي مَعْنًى ظَفِرَ بِهِ فِي فَحْصِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ قَصَدَهُ أَوْ يُرَاعِيهِ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ فَلَا يَجُوزُ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ إلَّا لِمَنْ هُوَ عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْأَقْيِسَةِ وَالْعِلَلِ وَرُتَبِ الْمَصَالِحِ وَشُرُوطِ الْقَوَاعِدِ وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا وَمَا لَا يَصْلُحُ وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ أُصُولَ الْفِقْهِ مَعْرِفَةً حَسَنَةً فَإِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَحَصَلَ لَهُ هَذَا الْمَقَامُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مَقَامٌ آخَرُ وَهُوَ النَّظَرُ وَبَذْلُ الْجَهْدِ فِي تَصَفُّحِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَتِلْكَ الْمَصَالِحِ وَأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَتَفَاصِيلِهَا فَإِذَا بَذَلَ جَهْدَهُ فِيمَا(2/18)
يَعْرِفُهُ وَوَجَدَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ إمَامُهُ فَارِقًا أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا وَهُوَ لَيْسَ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي يَرُومُ تَخْرِيجَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّخْرِيجُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَتَمَامِ الْمَعْرِفَةِ جَازَ لَهُ التَّخْرِيجُ حِينَئِذٍ . وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إمَامِهِ مَعَ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي بَعْضُهَا مَا تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُهُ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ الْمُخْرَجِ ثُمَّ بَعْدَ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ يَنْتَقِلُ إلَى مَقَامِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَتَفَاصِيلِ الْمَدَارِكِ فَإِذَا بَذَلَ جَهْدَهُ وَوَجَدَ حِينَئِذٍ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَارِقًا أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا قَائِمًا فِي الْفَرْعِ الَّذِي يَرُومُ قِيَاسَهُ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَوَجَبَ التَّوَقُّفُ .(2/19)
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْفَرْعَ مُسَاوٍ لِلصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِلْحَاقُ حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ مُقَلِّدُهُ وَحِينَئِذٍ بِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُخَرِّجَ فَرْعًا أَوْ نَازِلَةً عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ وَمَنْقُولَاتِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ مَنْقُولَاتُهُ جِدًّا فَلَا تُفِيدُ كَثْرَةُ الْمَنْقُولَاتِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا تَقَدَّمَ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ كَثُرَتْ مَحْفُوظَاتُهُ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالتَّخْرِيجُ عَلَى الْمَنْصُوصَاتِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَلْ حَرُمَ عَلَيْهِ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ لِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ فَرْعُ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَهَذَا الْبَابُ الْمُجْتَهِدُونَ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيهِ سَوَاءٌ فِي امْتِنَاعِ التَّخْرِيجِ بَلْ يُفْتِي كُلُّ مُقَلِّدٍ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ ضَبْطُ مُطْلَقَاتِ إمَامِهِ بِالتَّقْيِيدِ وَضَبْطُ عُمُومَاتِ مَذْهَبِهِ بِمَنْقُولَاتِ مَذْهَبِهِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْرِيجٍ إذَا فَاتَهُ شَرْطُ التَّخْرِيجِ كَمَا أَنَّ إمَامَهُ لَوْ فَاتَهُ شَرْطُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَحِفْظِ النُّصُوصِ وَاسْتَوْعَبَهَا يَصِيرُ مُحَدِّثًا نَاقِلًا فَقَطْ لَا إمَامًا مُجْتَهِدًا كَذَلِكَ هَذَا الْمُقَلِّدُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَالنَّاسُ مُهْمِلُونَ لَهُ إهْمَالًا شَدِيدًا وَيَقْتَحِمُونَ عَلَى الْفُتْيَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّخْرِيجِ عَلَى قَوَاعِدِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ شُرُوطِ التَّخْرِيجِ(2/20)
وَالْإِحَاطَةِ بِهَا فَصَارَ يُفْتِي مَنْ لَمْ يُحِطْ بِالتَّقْيِيدَاتِ وَلَا بِالتَّخْصِيصَاتِ مِنْ مَنْقُولَاتِ إمَامِهِ وَذَلِكَ لَعِبٌ فِي دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَفُسُوقٌ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُهُ أَوَ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْبَرَ عَنْهُ مَعَ ضَبْطِ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَاذِبِ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى امْرُؤٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَقْدُمُ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ شَرْطِهِ .
((2/21)
الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ كَمَا فِي تَحْرِيرِ الْكَمَالِ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْفَقِيهُ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ مَوْضُوعٌ لِمَنْ قَامَ لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ فِي السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَمْ يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هُوَ مَنْ اُسْتُكْمِلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عَنْ التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكْرِ وَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ السُّنَّةِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ فِي دِينِهِ وَهُوَ آثِمٌ مِنْ الْأَوَّلِ ا هـ .(2/22)
لَكِنْ قَالَ مَنْ وَصَفَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي تَوْشِيحِ التَّرْشِيحِ بِالْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوْقِيفُ الْفُتْيَا عَلَى حُصُولِ الْمُجْتَهِدِ يُفْضِي إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ وَاسْتِرْسَالِ الْخَلْقِ فِي أَهْوَائِهِمْ فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا كَانَ عَدْلًا مُتَمَكِّنًا مِنْ فَهْمِ كَلَامِ الْإِمَامِ ثُمَّ حَكَى لِلْمُقَلَّدِ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفُتْيَا هَذَا مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يَرْجِعْنَ فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ أَزْوَاجُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حِينَ أَرْسَلَ الْمِقْدَادَ فِي قِصَّةِ الْمَذْيِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَظْهَرُ فَإِنَّ مُرَاجَعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ ذَاكَ مُمْكِنَةٌ وَمُرَاجَعَةُ الْمُقَلِّدِ الْآنَ لِلْأَئِمَّةِ السَّابِقِينَ مُتَعَذِّرَةٌ وَقَدْ أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْقُضَاةِ مَعَ عَدَمِ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ الْيَوْمَ أَيْ لِطُولِ الْمُدَّةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ ضَعْفِ الْعِلْمِ وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ سِيَّمَا وَقَدْ ادَّعَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ إمَامًا جَلِيلًا مُتَضَلِّعًا مِنْ الْعُلُومِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَمِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بُلُوغَهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ فَمَا(2/23)
بَالُك بِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْبَعِيدَةِ كَمَا فِي رِسَالَةِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ لِشَيْخِ شُيُوخِنَا السَّيِّدِ أَحْمَدَ دَخْلَانَ وَفِي الْحَطَّابِ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ اسْتِعَاذَةَ الْفَخْرِ فِي الْمَحْصُولِ وَتَبِعَهُ السَّرَّاجُ فِي تَحْصِيلِهِ وَالتَّاجُ فِي حَاصِلِهِ فِي قَوْلِهِمْ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مَا نَصُّهُ وَلَوْ بَقِيَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَاحِدٌ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً ا هـ . وَإِنْ بَنَى عَلَى بَقَاءِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِمْ وَالْفَخْرُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّمِائَةٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا فِي كِتَابِ الِاسْتِفْتَاءِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِي زَمَانِنَا عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ إذْ لَا مُجْتَهِدَ فِيهِ ا هـ وَإِذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ فَكَيْفَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْأَوْلَى فِي الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَقَدْ قَالَ الْعَطَّارُ وَفِي عَصْرِنَا وَهُوَ الْقَرْنُ الثَّالِثَ عَشَرَ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ بِتَرَاكُمِ عَظَائِمِ الْخُطُوبِ نَسْأَلُ السَّلَامَةَ ا هـ .(2/24)
ثُمَّ قَالَ السُّبْكِيُّ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ مَرَاتِبُ إحْدَاهَا أَنْ يَصِلَ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَيَّدِ فَيَسْتَقِلُّ بِتَقْرِيرِ مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَنُصُوصِهِ أُصُولًا يَسْتَنْبِطُ مِنْهَا نَحْوُ مَا يَفْعَلُهُ بِنُصُوصِ الشَّارِعِ وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ قِيَامَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ فُتْيَا هَؤُلَاءِ وَأَنْتَ تَرَى عُلَمَاءَ الْمَذْهَبِ مِمَّنْ وَصَلَ إلَى هَذِهِ الرُّتْبَةِ هَلْ مَنَعَهُمْ أَحَدٌ الْفَتْوَى أَوْ مَنَعُوا هُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْهَا ; الثَّانِيَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظٌ لِلْمَذْهَبِ قَائِمٌ بِتَقْرِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَضْ فِي التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ كَارْتِيَاضِ أُولَئِكَ وَقَدْ كَانُوا يُفْتُونَ وَيُخَرِّجُونَ كَأُولَئِكَ ا هـ وَفِي جَوَازِ إفْتَاءِ مَنْ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَثَالِثُهَا عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا حَكَاهُ شَافِعِيٌّ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ الثَّالِثَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمِقْدَارَ وَلَكِنَّهُ حَافِظٌ لِوَاضِحَاتِ الْمَسَائِلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهَا فَعَلَى هَذَا الْإِمْسَاكُ فِيمَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ فِيمَا لَا نَقْلَ عِنْدَهُ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي حَكَيْنَا فِيهِ الْخِلَافَ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى الْمَأْخَذِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ عَوَامَّ ا هـ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ لَهُ الْإِفْتَاءَ فِيمَا لَا يَغْمُضُ فَهْمُهُ قَالَ مُتَأَخِّرٌ شَافِعِيٌّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ ا هـ .(2/25)
وَثَانِي الْأَقْوَالِ فِيهِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَثَالِثُهَا الْجَوَازُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ وَقِيلَ الصَّوَابُ إنْ كَانَ السَّائِلُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى عَالِمٍ يَهْدِيهِ السَّبِيلَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اسْتِفْتَاءُ مِثْلِ هَذَا وَلَا يَحِلُّ لِهَذَا أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى مَعَ وُجُودِ هَذَا الْعَالِمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ أَوْ نَاحِيَتِهِ غَيْرُهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ رُجُوعَهُ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى الْعَمَلِ بِلَا عِلْمٍ أَوْ يَبْقَى مُرْتَبِكًا فِي حَيْرَتِهِ مُتَرَدِّدًا فِي عَمَاهُ وَجَهَالَتِهِ بَلْ هَذَا هُوَ الْمُسْتَطَاعُ مِنْ تَقْوَاهُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . ((2/26)
أَمَّا الْعَامِّيُّ ) إذَا عَرَفَ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَيَسُوغَ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ فَفِيهِ أَوْجُهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَحَدُهَا لَا مُطْلَقًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ وَمَا يُعَارِضُهُ وَلَعَلَّهُ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا وَهَذَا فِي بَحْرِ الزَّرْكَشِيّ الْأَصَحُّ ثَانِيهَا نَعَمْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ كَمَا لِلْعَالِمِ وَتَمَيُّزِ الْعَالِمِ عَنْهُ لِقُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ ثَالِثُهَا إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُمَا وَإِرْشَادُ غَيْرِهِ إلَيْهِ رَابِعُهَا إنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ وَإِلَّا فَلَا قَالَ السُّبْكِيُّ ( وَأَمَّا الْعَامِّيُّ ) الَّذِي عَرَفَ مِنْ الْمُجْتَهِدِ حُكْمَ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَدْرِ دَلِيلَهَا كَمَنْ حَفِظَ مُخْتَصَرًا مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الْفِقْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ سِوَاهُ أَوْلَى مِنْ الِارْتِبَاكِ فِي الْحَيْرَةِ . وَكُلُّ هَذَا فِي مَنْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْ غَيْرِهِ أَمَّا النَّاقِلُ فَلَا يُمْنَعُ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَامِّيُّ أَنَّ فُلَانًا الْمُفْتِيَ أَفْتَانِي بِكَذَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ نَقْلِ هَذَا الْقَدْرِ . ا هـ .(2/27)
لَكِنْ لَيْسَ لِلْمَذْكُورِ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا فِي الزَّرْكَشِيّ لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى مُفْتٍ لِعَامِّيٍّ مِثْلِهِ أَفَادَ جَمِيعَ هَذَا أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ شَرْحِهِ عَلَى التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ مَعَ زِيَادَةٍ وَتَوْضِيحِ الْمَقَامِ عَلَى مَا يُرَامُ أَنَّ الْإِفْتَاءَ كَانَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } مِنْ خَوَاصِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ وَالْفَقِيهُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ وَتَحَقُّقُ مَاهِيَةِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِشُرُوطٍ مِنْهَا مَا هِيَ صِفَةٌ فِيهِ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ بِقَوْلِهِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِنْ شَرْحِ الْمَحَلِّيّ وَغَيْرِهِ ( هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ ) أَيْ ذُو الْمَلَكَةِ الَّتِي يُدْرِكُ بِهَا الْمَعْلُومَ أَيْ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ ( فَقِيهُ النَّفْسِ ) أَيْ شَدِيدُ الْفَهْمِ بِالطَّبْعِ لِمَقَاصِدِ الْكَلَامِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ ( الْعَارِفُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ) أَيْ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ بِهِ فِي الْحُجِّيَّةِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّا مُكَلَّفُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِاسْتِصْحَابِ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ إلَى أَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ( ذُو الدَّرَجَةِ الْوُسْطَى ) أَوْ الْكَامِلَةِ لُغَةً وَعَرَبِيَّةً مِنْ نَحْوٍ وَتَصْرِيفٍ وَأُصُولًا بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ وَبَلَاغَةٍ مِنْ(2/28)
مَعَانٍ وَبَيَانٍ وَمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ الْمُتُونَ لِيَتَأَتَّى لَهُ الِاسْتِنْبَاطُ الْمَقْصُودُ بِالِاجْتِهَادِ أَمَّا عِلْمُهُ بِآيَاتِ الْأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِهَا أَيْ مَوَاقِعِهَا . وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا فَلِأَنَّهَا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَعْرِفُ بِهِ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ وَغَيْرَهَا لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَأَمَّا عِلْمُهُ بِالْبَاقِي فَلِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ لَا صِفَةٌ فِي الْمُجْتَهِدِ وَهِيَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ عَنْ وَالِدِهِ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مِنْ كَوْنِهِ خَبِيرًا بِمَوَاقِع الْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يَخْرِقَهُ وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي وَبِأَسْبَابِ النُّزُولِ لِتُرْشِدَهُ إلَى فَهْمِ الْمُرَادِ وَبِشَرْطِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ الْمُحَقِّقِ لَهُمَا لِيُقَدِّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي وَبِالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْ مَاصَدَقَاتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالضَّعِيفَةِ لَا مَفَاهِيمُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لِيُقَدِّمَ مَاصَدَق الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ عَلَى مَاصَدَق الضَّعِيفَةِ وَبِحَالِ الرُّوَاةِ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لِيُقَدِّمَ الْمَقْبُولَ عَلَى الْمَرْدُودِ وَيُشْتَرَطُ لِاعْتِمَادِ قَوْلِهِ لَا لِاجْتِهَادِهِ الْعَدَالَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ كَالْمُخَصَّصِ وَالْمُقَيَّدِ وَالنَّاسِخِ .(2/29)
وَعَنْ اللَّفْظِ هَلْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَسْلَمَ مَا يَسْتَنْبِطُهُ عَنْ تَطَرُّقِ الْخَدْشِ إلَيْهِ لَوْ لَمْ يَبْحَثْ وَاجِبًا أَوْ أَوْلَى فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ عَلَى الْأَصَحِّ ا هـ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْلِيمِ تَحَقُّقِهَا فِي عُلَمَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ وَلَمْ يُعَارِضُوا مَنْ ادَّعَى الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ مِنْهُمْ . وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْقَرْنِ الرَّابِعِ وَعُلَمَاءُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْقُرُونِ إلَى هَذَا الْقَرْنِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَسْلِيمِ تَحَقُّقِ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِهِمْ وَعَدَمِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ فَادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ تَحَقُّقَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ وَأَنَّهُ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا قَوْلُ ابْنِ السُّبْكِيّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ مَعَ تَوْضِيحٍ مِنْ الْمَحَلِّيّ وَيَكْفِي الْخِبْرَةُ بِحَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا الرُّجُوعُ إلَى أَئِمَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَعَذُّرِهِمَا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَهُمْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ .
((2/30)
الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ ) فَالزُّهْدُ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالْوَرَعُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ , وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ : عليه السلام { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ سَلِمَ } , وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ , وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي , وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ , وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ : هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :(2/31)
هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنْ نَقُولَ إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ; لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ , وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ , وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً الدَّالُّ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ هَذَا أَمْرٌ لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ , وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ , وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ , وَلَا تَفْصِيلٍ , وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ لَا(2/32)
يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مُثِّلَ بِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ , وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ , فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ , وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي , وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دِينَارٌ , وَقَالَتْ الْأُخْرَى : لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ ; لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ , وَلَيْسَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ)(2/33)
فَالزُّهْدُ هُوَ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ , وَالْوَرَعُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ , وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ : صلى الله عليه وسلم { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } , وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ) قُلْت : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَمِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَوَاجِبَةٌ , فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ(2/34)
عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ; لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ , وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ , وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ , وَهَذَا مَعَ تَقَارُبِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ , وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً ) قُلْت : لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ يَكُونُ وَرَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ لِتَوَقُّعِ الْعِقَابِ وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ .(2/35)
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعِلْمُ بِهِ عَادَةً , وَإِنْ عَنَى كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ سَبْعِمِائَةٍ بِمَكَّةَ , وَقَالَتْ الْأُخْرَى : رَأَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا تَعَارُضٌ , وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا بِالتَّرْجِيحِ , وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الصُّورَةُ الْأُولَى فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ ثَبَتَ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ كَالْمُجْتَهَدِينَ , وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ , وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَا وَرَعَ بِاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَلَا بُدَّ لِمَنْ حُكْمُهُ التَّقْلِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِالتَّقْلِيدِ , فَإِذَا قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَتَمَكَّنُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ , وَفِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ , وَلَا أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ , وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ , وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ فَلَا يَصِحُّ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ مَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ فِي حَقِّهِ ,(2/36)
وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْوَرَعِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ , وَلَا فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَرَعُ فِي حَقِّهِ , وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الزُّهْدِ وَقَاعِدَةِ الْوَرَعِ ) وَهُوَ أَنَّ الزُّهْدَ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ هَيْئَةٌ فِي الْقَلْبِ , وَعَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ , وَأَمَّا الْوَرَعُ فَفِي الْأَصْلِ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ , وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ هُوَ اجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ , وَقِيلَ : هِيَ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْجَمِيلَةِ . ا هـ .(2/37)
قُلْت : وَمَآلُ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَرَعَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ , وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ : عليه الصلاة والسلام { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } أَيْ سَلِمَ دِينُهُ وَعِرْضُهُ , وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَصْلِ وَالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّبَايُنُ الْكُلِّيُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْدِ عَلَى الثَّانِي مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ الْمُتَقَدِّمِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ وَالزُّهْدُ هُوَ الْأَعَمُّ فَلْيُتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَفِي الْعَزِيزِيِّ بَعْدَ مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَمَّا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { إذَا أُعْطِيت شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ } قَالَ الْمُنَاوِيُّ إرْشَادٌ يَعْنِي انْتَفِعْ بِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْمَبْذُولِ عِلْمُ حِلِّهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعَلْقَمِيِّ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ حِلَّهُ اُسْتُحِبَّ الْقَبُولُ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ حَرُمَ الْقَبُولُ , وَإِنْ شَكَّ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ , وَهُوَ الْوَرَعُ . ا هـ .(2/38)
قَالَ الْحِفْنِيُّ : أَوْ مِنْ الشُّبْهَةِ لَكِنْ مَحِلُّهُ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ حُبُّ الثَّنَاءِ كَأَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ زَاهِدٌ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ يَرُدُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ حِينَئِذٍ أَخَّرَ مِنْ قَبُولِهِ ا هـ وَفِي الْعَزِيزِيِّ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ طَبَقًا فَلَا يَقْبَلُهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ فَلَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ } الْمُرَادُ أَهْدَى إلَيْهِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْكِبَهُ دَابَّتَهُ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا لَهُ فَلَا يَرْكَبُهَا أَيْ لَا يَسْتَعْمِلُهَا بِرُكُوبٍ وَلَا غَيْرِهِ قَالَ الْعَلْقَمِيُّ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنَزُّهِ وَالْوَرَعِ أَيْ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ( وَصْلٌ ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اخْتَلَفَ الْأَصْلُ وَابْنُ الشَّاطِّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ هَلْ يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ أَوْ لَا يُعَدُّ مِنْهُ فَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْهُ , وَقَالَ : فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فِعْلٍ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ , أَوْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ حَرَامٌ فَالْوَرَعُ التَّرْكُ , أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ حَذَرًا مِنْ(2/39)
الْعِقَابِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ , وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يَضُرُّهُ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّافِي , وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ , وَذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَمَالِكٌ يَقُولُ : لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ , وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : هِيَ مَشْرُوعَةٌ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِتَيَقُّنِ الْخُلُوصِ مِنْ إثْمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَالْبَسْمَلَةِ قَالَ مَالِكٌ : هِيَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْوَرَعُ الْفِعْلُ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ وَاجِبٌ فَالْعِقَابُ مُتَوَقَّعٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَرَعَ إلَّا أَنْ تَقُولَ : إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ ; لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ , وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ , وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ , وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ , وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ , وَهَذَا مَعَ تَقَارُبُ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ ,(2/40)
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً . ا هـ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ , وَقَالَ : لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشِّهَابُ لِوُجُوهٍ ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ تَوَقُّعُ الْعِقَابِ , وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ , وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : كَيْفَ يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ , وَلَا تَفْصِيلٍ , وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم , وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مَثَّلَ بِهِ الشِّهَابُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ(2/41)
وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ , فَإِنْ أَقْدَمَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ , وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ , فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ , وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ , فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ , أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ : وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا لَنَا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الثَّانِي , وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دَيْنًا وَقَالَتْ الْأُخْرَى : لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ ; لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ .(2/42)
وَلَيْسَ نَفْيُهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِهِ عَادَةً , وَإِنْ عَنَى كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ رَأَيْنَاهُ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ عَامِ سَبْعِمِائَةٍ بِمَكَّةَ وَقَالَتْ الْأُخْرَى : رَأَيْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا تَعَارُضٌ , وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا بِالتَّرْجِيحِ , وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا الصُّورَةُ الْأُولَى , فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ ثَبَتَ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ كَالْمُجْتَهِدِينَ , وَكُلُّ مَنْ رَجَحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَا وَرَعَ بِاعْتِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَلَا بُدَّ لِمَنْ حُكْمُهُ التَّقْلِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِالتَّقْلِيدِ , فَإِذَا قَلَّدَ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَتَمَكَّنُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ , وَفِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ , وَلَا أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْمُكَلَّفُونَ كُلُّهُمْ دَائِرُونَ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ , وَالْمُجْتَهِدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ , وَالْمُقَلِّدُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْأَخْذِ بِاَلَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ مَذْهَبِ مُقَلِّدِهِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ الْوَرَعُ الَّذِي يَقْتَضِي خِلَافَ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّهِ وَخِلَافَ مَذْهَبِ الْمُقَلِّدِ فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْوَرَعِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ ,(2/43)
وَلَا فِي حَقِّ الْمُقَلِّدِينَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَا ثَالِثَ يَصِحُّ ذَلِكَ الْوَرَعُ فِي حَقِّهِ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلُزُومُ عَمَلِ الْمُجْتَهِدِ , وَمُقَلِّدِهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا يَمْنَعُ حُصُولُ الْوَرَعِ فِي اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ; إذْ يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ فِي الْأَوَّلِ .(2/44)
وَالتَّرْكُ فِي الثَّانِي كَذَلِكَ يَمْنَعُ حُصُولُهُ فِي اخْتِلَافِهَا بِالْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْلِيلِ أَوْ بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مُشْتَرَكَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ وَالِاثْنَانِ مُشْتَرَكَانِ فِي رُجْحَانِ التَّرْكِ وَأَنَّ تَوَهُّمَ صِحَّةِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ اللُّزُومَ الْمَذْكُورَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْمُقَلِّدِ : إنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا لَا بِعَيْنِهِ , وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ , وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا قَالَ : وَمَا وَجَّهَ بِهِ الشِّهَابُ تَسْوِيغَ تَقْلِيدِ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا مِنْ أَنَّ مُقَلِّدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَقِدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبَ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبَ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ , وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ وَالْوُجُوبُ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ أَضْدَادًا لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقُ , وَالْإِضَافَةُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ مَعَ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ كَمَا هُنَا فَإِنَّهُ كَمَا عَلِمْت اعْتَقَدَ مَسْحَ الرَّأْسِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ وَالْإِضَافَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ زَيْدًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبٌ لِعَمْرٍو , وَلَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ . ا هـ .(2/45)
فَهُوَ وَإِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ التَّنَاقُضَ وَالتَّضَادَّ لَا يَتَحَقَّقَانِ إلَّا بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ , وَالْمُتَعَلَّقِ وَالْإِضَافَةِ لَا صِحَّةَ لَهُ , وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ صَحِيحًا , وَذَلِكَ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ وَمُقَلِّدَهُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ , وَعَلَى مُقَلِّدِهِ مُخَالَفَتُهُ فَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يُدْخِلُ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ ; لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ . ا هـ . وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ .(2/46)
وَهَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دُخُولَ الْوَرَعِ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ قَالُوا : لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ , وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يُورِدُونَ فِيهِ هَذَا السُّؤَالَ , وَلَيْسَ بِوَارِدٍ بِسَبَبِ أَنَّا نَقُولُ : يُعْتَقَدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبُ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَالْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَضْدَادٌ لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلِّقُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ فَلَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ , وَالْبِغْضَةُ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ , وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ الْعَدَاوَةُ لِلْكَافِرِينَ , وَالصَّدَاقَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَحَبَّةُ لِلصَّالِحِينَ , وَالْبِغْضَةُ لِلطَّالِحِينَ بِسَبَبِ أَنَّ مُتَعَلَّقَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ غَيْرُ مُتَعَلَّقِ الْآخَرِ كَذَلِكَ هَا هُنَا اخْتَلَفَتْ الْإِضَافَةُ فَنَقُولُ : اعْتَقَدَ هَذَا الْفِعْلَ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَيَجْمَعُهُمَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ كَمَا يَصْدُقُ أَنَّ زَيْدًا(2/47)
أَبٌ لِعَمْرٍو لَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ , وَقَدْ أَجْمَعَ أَرْبَابُ الْمَعْقُولِ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ اتِّحَادَ الْإِضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ فِي الْأُبُوَّةِ , فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْإِضَافَةُ اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ وَالضِّدَّانِ , وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْتَمِعُ فِي الذِّهْنِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِ خَمْسَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصَوَّرْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْوَرَعُ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فَتَأَمَّلْهُ فَقَدْ نَازَعَنِي فِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ(2/48)
قَالَ ( وَهَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ دُخُولَ الْوَرَعِ فِي مَسْحِ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا جَمِيعَ رَأْسِهِ قَالُوا : لِأَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ فَقَدْ تَرَكَ النَّدْبَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَقَطْ , وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْوُجُوبَ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ إلَّا بِنِيَّةِ النَّدْبِ فَمَا حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ , وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيُّ إذَا بَسْمَلَ , وَكُلُّ مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يُورِدُونَ فِيهِ هَذَا السُّؤَالَ , وَلَيْسَ بِوَارِدٍ ; لِأَنَّا نَقُولُ : يُعْتَقَدُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ كُلِّهِ النَّدْبُ عَلَى رَأْيِ الشَّافِعِيِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ فَإِنَّ النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ وَالْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ أَضْدَادٌ وَلَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا اتَّحَدَ الْمُتَعَلَّقُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَمَّا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَقَطْ فَلَا يَمْتَنِعُ ; لِأَنَّ الصَّدَاقَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ , وَالْبِغْضَةُ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ , وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ الْعَدَاوَةُ لِلْكَافِرِينَ وَالصَّدَاقَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمَحَبَّةُ لِلصَّالِحِينَ , وَالْبِغْضَةُ لِلطَّالِحِينَ بِسَبَبِ أَنَّ مُتَعَلَّقَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ غَيْرُ مُتَعَلَّقِ الْآخَرِ كَذَلِكَ هَا هُنَا اخْتَلَفَتْ الْإِضَافَةُ فَنَقُولُ : اعْتِقَادُ هَذَا الْفِعْلِ وَاجِبًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَمَنْدُوبًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَيَجْمَعُهَا فِي ذِهْنِهِ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ وَإِضَافَتَيْنِ كَمَا يَصْدُقُ(2/49)
أَنَّ زَيْدًا أَبٌ لِعَمْرٍو , وَلَيْسَ أَبًا لِخَالِدٍ فَاجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ , وَقَدْ أَجْمَعَ أَرْبَابُ الْمَعْقُولِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ اتِّحَادَ الْإِضَافَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ فِي الْأُبُوَّةِ , فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْإِضَافَةُ اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ وَالضِّدَّانِ , وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْتَمِعُ فِي الذِّهْنِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِ خَمْسَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصَوَّرْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْمَقَاصِدِ وَالْوَرَعُ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فَتَأَمَّلْهُ فَقَدْ نَازَعَنِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ ) قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَرَعَ لَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ لِلُزُومِ الْمَذْهَبِ لِلْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ جَمِيعًا لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ ; إذْ يَتَعَيَّنُ الْفِعْلُ فِي الْأَوَّلِ , وَالتَّرْكُ فِي الثَّانِي , وَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالتَّحْلِيلِ أَوْ فِي التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مُشْتَرَكَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ , وَالِاثْنَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي رُجْحَانِ التَّرْكِ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ لُزُومُ عَمَلِ الْمُجْتَهِدِ , وَمُقَلِّدُهُ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْمُقَلِّدِ : إنَّهُ(2/50)
يَسُوغُ لَهُ تَقْلِيدُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ مَثَلًا لَا بِعَيْنِهِ وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ , وَلَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا , وَمَا وَجْهُ الشِّهَابِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّنَاقُضَ وَالتَّضَادَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ , وَالْمُتَعَلَّقُ وَالْإِضَافَةُ لَا يَصِحُّ لَهُ , وَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطُ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ صَحِيحًا ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ وَمُقَلِّدَهُ مُوَافَقَةُ اجْتِهَادِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى مُقَلِّدِهِ مُخَالَفَتُهُ فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ هُوَ قَوْلُ مُنَازِعِي الشِّهَابِ فِي ذَلِكَ - وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ
وفي كشف الأسرار :
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَالْإِصَابَةُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ(2/51)
حَتَّى قُلْنَا إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ , وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا الْحَقُّ وَاحِدٌ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ , وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ : الْحُقُوقُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحُقُوقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِوَائِهَا فِي الْمَنْزِلَةِ , وَقَالَ عَامَّتُهُمْ : بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً فِيمَا طَلَبَهُ , وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا , وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ , وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قُلْنَا احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا لَمَّا كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي وُسْعِهِمْ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِ التَّكْلِيفِ كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ حَتَّى تَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِخَطَأِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ كَمَا(2/52)
صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ , وَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ قَالَ : لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ ; لِأَنَّهَا إذَا اسْتَوَتْ أُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ وَسَقَطَتْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ , وَأَنَّ اخْتِيَارَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَزِيمَةِ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا أَحَقُّ وَوَجْهُ قَوْلِنَا : إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } , وَإِذَا اخْتَصَّ سُلَيْمَانَ صلوات الله وسلامه عليه بِالْفَهْمِ , وَهُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ الْآخَرُ خَطَأً { , وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اُحْكُمْ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ } , وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إنْ أَصَبْتُ فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي , وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ , وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام { إذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ } , وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُقُوقِ مُمْتَنِعٌ اسْتِدْلَالًا(2/53)
بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ وَضْعٍ لِدَرْكِ الْحُكْمِ فَمَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ لَا يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَغْيِيرًا حِينَئِذٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ , وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى لَوْ تَوَهَّمْنَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مُتَعَدِّدًا وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ صِيغَتُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِالتَّعْلِيلِ , وَفِيهِ تَغْيِيرٌ وَيَصِيرُ الْفَرْعُ بِهِ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْفِطْرَ وَالصَّوْمَ , وَفَسَادَ الصَّلَاةِ وَصِحَّتَهَا , وَفَسَادَ النِّكَاحِ وَصِحَّتَهُ وَوُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ , وَقِيَامَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ تَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ , وَلَا يَصْلُحُ الْمُسْتَحِيلُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ , وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً .(2/54)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ شُهُودَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ; لِأَنِّي لَا أَكْفُلُ الْمُدَّعِيَ , وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ , وَهُوَ جَوْرٌ سَمَّاهُ جَوْرًا , وَهُوَ اجْتِهَادٌ ; لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ , وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ , وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ الْحُكْمُ , وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى , وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَتَحَرُّوا الْقِبْلَةَ وَاخْتَلِفُوا فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ حَالَ إمَامِهِ , وَهُوَ مُخَالِفُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ صَوَابًا وَالْجِهَاتُ قِبْلَةً لَمَا فَسَدَتْ وَلَمَا كُلِّفُوا التَّحَرِّيَ وَالطَّلَبَ كَالْجَمَاعَةِ إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ .(2/55)
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ يَقِينًا بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ابْتِلَاءٌ فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِلَاءُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ رَجَاءِ الْإِصَابَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ , وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ , وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ , وَالْمُخْطِئُ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ , وَمَسْأَلَتَنَا سَوَاءٌ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ أَعَادَ صَلَاتَهُ فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ { وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ قوله تعالى { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ } الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ } وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَالْحُكْمُ وَالْعِلْمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ فَمِنْ أَحَدِهِمَا , وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لِمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدُ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَصَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ فِيمَا سُبِقَا مِنْ رَكْعَتَيْ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُكَلَّفُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَاسْتَوْجَبَ(2/56)
الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ وَحَرُمَ الصَّوَابُ وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ إمَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ حِرْمَانًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً . وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فَكَيْفَ يَكُونُ خَطَأً إلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ رُخْصَةً . وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضَلَّلُ وَلَا يُعَاتَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا فَيُعَاتَبُ , وَإِنَّمَا نَسَبْنَا الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ , وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ , وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمْ وَالْمُخْتَارُ مِنْ الْعِبَارَاتِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَعَلَيْهِ مَضَى أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَسَقَطَتْ الْمِحْنَةُ وَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَهَذَا .(2/57)
قَوْلُهُ : ( فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ ) أَرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَسَائِلَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا , وَكَلَّمُوا بِالِاجْتِهَادِ يَعْنِي مَحَلَّ النِّزَاعِ الْحَوَادِثُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُجْتَهَدُ فِيهَا لَا الْمَسَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس . وَمُضَلَّلٌ مُبْتَدِعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ , وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ مِنْهَا كُفْرٌ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ مُصِيبٌ , وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ مُطَابِقٌ لِلْحَقِّ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا وَغَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةٌ تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ وَخَارِجَةٌ عَنْ إرَادَتِهِ , وَالرُّؤْيَةُ مُمْكِنَةٌ وَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ , وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ , وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ .(2/58)
وَزَادَ الْجَاحِظُ أَنَّ مُخَالِفَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس إنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ , وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْضًا , وَإِنْ عَانَدَ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ آثِمٌ مُعَذَّبٌ , وَاحْتَجَّا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا , وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ , وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ , وَلَازَمُوا عَقَائِدَهُمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . قَالَ الْعَنْبَرِيُّ الْآيَاتُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مُتَشَابِهَةٌ , وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّ فَرِيقٍ ذَهَبَ إلَى أَنَّ آرَاءَهُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , وَكَلَامِ رَسُولِهِ , وَأَلْيَقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ , وَإِثْبَاتِ دِينِهِ فَكَانُوا مَعْذُورِينَ . وَكَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ , وَفِي نُفَاةِ الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ .(2/59)
وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَذَمَّهُمْ عَلَى إصْرَارِهِمْ عَلَى عَقَائِدِهِمْ , وَلِذَلِكَ قَاتَلَ جَمِيعَهُمْ , وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ عَوْرَةِ مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ لِيَقْتُلَهُ وَيُعَذِّبَهُ وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمُعَانِدَ الْعَارِفَ مِمَّا يَقِلُّ , وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ مُقَلِّدُهُ اعْتَقَدُوا دِينَ آبَائِهِمْ , وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ وَصِدْقَهُ . وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا مِمَّا لَا يُحْصَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } { إنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } وَعَلَى الْجُمْلَةِ ذَمُّ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ أَقْدَرُهُمْ عَلَى إصَابَةِ الْحَقِّ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَنَصَبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعَثَ مِنْ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِينَ نَبَّهُوا الْغُفُولَ وَحَرَّكُوا دَوَاعِيَ النَّظَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ .(2/60)
, وَمَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى ذَمِّ الْمُبْتَدِعَةِ , وَمُهَاجَرَتِهِمْ , وَقَطْعِ الصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَتَشْدِيدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَرْكِ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ . وَرَفْعِ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ إنَّمَا كَانَ ; لِأَنَّ الْمَعْقُودَ مِنْهَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا , وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ , وَلَمْ يَحْصُلْ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَدِلَّةَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ مُتَوَافِرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِيهَا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين :
بسم الله الرحمن الرحيم(2/61)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ أَطْوَارًا , وَصَرَّفَهُمْ فِي أَطْوَارِ التَّخْلِيقِ كَيْف شَاءَ عِزَّةً وَاقْتِدَارًا , وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلَى الْمُكَلَّفِينَ إعْذَارًا مِنْهُ وَإِنْذَارًا , فَأَتَمَّ بِهِمْ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ سَبِيلَهُمْ نِعْمَتَهُ السَّابِغَةَ , وَأَقَامَ بِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَنَاهِجَهُمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ , فَنَصَبَ الدَّلِيلَ , وَأَنَارَ السَّبِيلَ , وَأَزَاحَ الْعِلَلَ , وَقَطَعَ الْمَعَاذِيرَ , وَأَقَامَ الْحُجَّةَ , وَأَوْضَحَ الْمُحَجَّةَ , وَقَالَ : { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } وَهَؤُلَاءِ رُسُلِي { مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } , فَعَمَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ حُجَّةً مِنْهُ وَعَدْلًا , وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نِعْمَةً وَفَضْلًا , فَقِيلَ : نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ سَابِقَةُ السَّعَادَةِ وَتَلَقَّاهَا بِالْيَمِينِ , وَقَالَ : { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمَتْ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدِيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } , وَرَدَّهَا مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهَا رَأْسًا بَيْنَ الْعَالَمِينَ , فَهَذَا فَضْلُهُ وَعَطَاؤُهُ { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } وَلَا فَضْلُهُ بِمَمْنُونٍ , وَهَذَا عَدْلُهُ وَقَضَاؤُهُ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ , وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ , وَأَوْدَعَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ , إنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ ,(2/62)
وَتَبَارَكَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْدَلُ شَاهِدٍ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ فَاضَلَ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ حَتَّى عَدَلَ الْآلَافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهُمْ بِالرَّجُلِ الْوَاحِدِ , ذَلِكَ لِيَعْلَمَ عِبَادُهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ التَّوْفِيقَ مَنَازِلَهُ , وَوَضَعَ الْفَضْلَ مَوَاضِعَهُ , وَأَنَّهُ { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } , { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أَحْمَدُهُ وَالتَّوْفِيقُ لِلْحَمْدِ مِنْ نِعَمِهِ , وَأَشْكُرُهُ وَالشُّكْرُ كَفِيلٌ بِالْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرْمِهِ وَقَسَمِهِ , وَاسْتَغْفِرْهُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تُوجِبُ زَوَالَ نِعَمِهِ وَحُلُولَ نِقَمِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ , وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ , وَعَلَيْهَا أُسِّسَتْ الْمِلَّةُ , وَنُصِبَتْ الْقِبْلَةُ , وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ , وَبِهَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ الْعِبَادِ ; فَهِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا , وَمِفْتَاحُ عُبُودِيَّتِهِ الَّتِي دَعَا الْأُمَمَ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ إلَيْهَا , وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ ; وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ , وَأَسَاسُ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ , وَمَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ , وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ , وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ , أَرْسَلَهُ رَحْمَةً(2/63)
لِلْعَالَمَيْنِ , وَقُدْوَةً لِلْعَالَمَيْنِ , وَمُحَجَّةً لِلسَّالِكِينَ , وَحُجَّةً عَلَى الْمُعَانِدِينَ , وَحَسْرَةً عَلَى الْكَافِرِينَ , أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدَيْنِ الْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا , وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا , وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ نِعْمَةً لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهَا شَكُورًا , فَأَمَدَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ , وَأَيَّدَهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُبِينَ , الْفَارِقَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ , فَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ , وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ , وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ , وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصِّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ , وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ , وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ فَإِذَا ذُكِرَ ذُكِرَ مَعَهُ كَمَا فِي الْخُطَبِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّأْذِينِ , وَافْتَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهِ , وَسَدَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا إلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِهِ ; فَهُوَ الْمِيزَانُ الرَّاجِحُ الَّذِي عَلَى أَخْلَاقِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ تُوزَنُ الْأَخْلَاقُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ , وَالْفُرْقَانُ الْمُبِينُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُمَيَّزُ أَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ , وَلَمْ يَزَلْ صلى الله عليه وآله وسلم مُشَمِّرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ , صَادِعًا بِأَمْرِهِ لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ , إلَى أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأَمَةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ الْجِهَادِ , فَأَشْرَقَتْ(2/64)
بِرِسَالَتِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ ظُلُمَاتِهَا , وَتَأَلَّفَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ شَتَاتِهَا , وَامْتَلَأَتْ بِهِ الْأَرْضُ نُورًا وَابْتِهَاجًا , وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , فَلَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ , وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ , اسْتَأْثَرَ بِهِ وَنَقَلَهُ إلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى , وَالْمَحِلِّ الْأَسْنَى , وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ , وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحَةِ الْغَرَّاءِ , فَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَالصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا وَحَّدَ اللَّهَ وَعَرَّفَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ بِهِ الْمُتَنَافِسُونَ , وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلَبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُونَ , مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا , وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا , وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِمَا , وَلَا نَجَاةَ لَهُ إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا , فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ , وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرُ كُلُّهُ حُرِمَ , وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ , وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنْ الْفَاجِرِ وَالتَّقِيُّ مِنْ الْغَوِيِّ وَالظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ , وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لِلْعَمَلِ قَرِينًا وَشَافِعًا , وَشَرَفُهُ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ تَابِعًا , كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ , وَأَنْفَعُهَا عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ , وَلَا(2/65)
سَبِيلَ إلَى اقْتِبَاسِ هَذَيْنِ النُّورَيْنِ , وَتَلَقِّي هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ , إلَّا مِنْ مُشَكَّاةِ مَنْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى عِصْمَتِهِ , وَصَرَّحَتْ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ , وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ; إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى وَلَمَّا كَانَ التَّلَقِّي عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ بِوَاسِطَةٍ , وَنَوْعٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ , وَكَانَ التَّلَقِّي بِلَا وَاسِطَةٍ حَظَّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبَّاقِ , وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمَدِ فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي اللِّحَاقِ , وَلَكِنْ الْمُبْرِزُ مَنْ اتَّبَعَ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمَ , وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ الْقَوِيمَ وَالْمُتَخَلِّفُ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ , فَذَلِكَ الْمُنْقَطِعُ التَّائِهُ فِي بَيْدَاءِ الْمَهَالِكِ وَالضَّلَالِ , فَأَيُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ لَمْ يَسْبِقُوا إلَيْهَا ؟ وَأَيُّ خُطَّةِ رُشْدٍ لَمْ يُسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا ؟ تَاللَّهِ لَقَدْ وَرَدُوا رَأْسَ الْمَاءِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلَالًا , وَأَيَّدُوا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَدَعُوا لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالًا , فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِعَدْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ , وَالْقُرَى بِالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ , وَأَلْقَوْا إلَى التَّابِعِينَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ مُشَكَّاةِ النُّبُوَّةِ خَالِصًا صَافِيًا , وَكَانَ سَنَدُهُمْ فِيهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَنَدًا صَحِيحًا عَالِيًا , وَقَالُوا : هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَقَدْ(2/66)
عَهِدْنَا إلَيْكُمْ , وَهَذِهِ وَصِيَّةُ رَبِّنَا وَفَرْضُهُ عَلَيْنَا وَهِيَ وَصِيَّتُهُ وَفَرْضُهُ عَلَيْكُمْ , فَجَرَى التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْقَوِيمِ , وَاقْتَفُوا عَلَى آثَارِهِمْ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمِ , ثُمَّ سَلَكَ تَابِعُو التَّابِعِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ الرَّشِيدَ , { وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } , وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ : { ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ } ثُمَّ جَاءَتْ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمُفَضَّلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , فَسَلَكُوا عَلَى آثَارِهِمْ اقْتِصَاصًا , وَاقْتَبَسُوا هَذَا الْأَمْرَ عَنْ مِشْكَاتِهِمْ اقْتِبَاسًا , وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ , وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ , مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا , فَطَارَ لَهُمْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِينَ , وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ , ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِمْ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ , زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ , وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ , يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ , وَيَسْتَقِلُّونَ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ , إذَا بَدَا لَهُمْ الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا ,(2/67)
وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا , وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ , وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا وَكُلٌّ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ , جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ , وَرُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ , وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَالُوا : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } , وَالْفَرِيقَانِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ الصَّوَابِ , وَلِسَانُ الْحَقِّ يَتْلُو عَلَيْهِمْ : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } , قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , قَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَأَنَّ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ , وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله تعالى : فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ الدَّلِيلِ , وَأَمَّا بِدُونِ الدَّلِيلِ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ إخْرَاجَ(2/68)
الْمُتَعَصِّبِ بِالْهَوَى وَالْمُقَلِّدِ الْأَعْمَى عَنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ , وَسُقُوطَهُمَا بِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهُمَا الْفُرُوضَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ , فَإِنَّ { الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ , فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا , وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ , فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ } , وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ وَرَثَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَجْهَدُ وَيَكْدَحُ فِي رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ إلَى قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ , وَيُضَيِّعُ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى وَلَا يَشْعُرُ بِتَضْيِيعِهِ تَاللَّهِ إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ , وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ , رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ , وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ , وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا , وَكَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا , وَلَمَّا عَمَّتْ بِهَا الْبَلِيَّةُ , وَعَظُمَتْ بِسَبَبِهَا الرَّزِيَّةُ , بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ سِوَاهَا , وَلَا يُعِدُّونَ الْعِلْمَ إلَّا إيَّاهَا , فَطَالِبُ الْحَقِّ مِنْ مَظَانِّهِ لَدَيْهِمْ مَفْتُونٌ , وَمُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ عِنْدَهُمْ مَغْبُونٌ , نَصَبُوا لِمَنْ خَالَفَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ الْحَبَائِلَ , وَبَغَوْا لَهُ الْغَوَائِلَ , وَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسِ الْجَهْلِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ , وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ : إنَّا نَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ فَحَقِيقٌ بِمَنْ لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَقِيمَةٌ , أَلَا يَلْتَفِتَ إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا يَرْضَى لَهَا بِمَا لَدَيْهِمْ , وَإِذَا رُفِعَ لَهُ عِلْمُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ شَمَّرَ(2/69)
إلَيْهِ وَلَمْ يَحْبِسْ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ , فَمَا هِيَ إلَّا سَاعَةٌ حَتَّى يُبَعْثَرَ مَا فِي الْقُبُورِ , وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ , وَتَتَسَاوَى أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ , وَيَنْظُرُ كُلُّ عَبْدٍ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ , وَيَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ , وَيَعْلَمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ
وفي إعلام الموقعين :
ذِكْرُ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي التَّقْلِيدِ وَانْقِسَامِهِ إلَى مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ فِيهِ وَالْإِفْتَاءُ بِهِ , وَإِلَى مَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ , وَإِلَى مَا يَسُوغُ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ .
[ أَنْوَاعُ مَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ ] فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :(2/70)
أَحَدُهَا : الْإِعْرَاضُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ . الثَّانِي : تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمُقَلِّدُ أَنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ . الثَّالِثُ : التَّقْلِيدُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْمُقَلَّدِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَوَّلَ قَلَّدَ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ , وَهَذَا قَلَّدَ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ لَهُ ; فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَمَا فِي قوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَذُمُّ فِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ وَقَنَعَ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ .(2/71)
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا ذَمَّ مَنْ قَلَّدَ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ , وَلَمْ يَذُمَّ مَنْ قَلَّدَ الْعُلَمَاءَ الْمُهْتَدِينَ , بَلْ قَدْ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ , وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدُهُمْ , فَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذَا أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَعْلَمُ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ أَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَهُ إلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ , وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّقْلِيدِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى ذَمِّهِ وَتَحْرِيمِهِ , وَأَمَّا تَقْلِيدُ مَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَقَلَّدَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ , وَمَأْجُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ , كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ التَّقْلِيدِ الْوَاجِبِ وَالسَّائِغِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .(2/72)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا سَيَأْتِي , وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْمُنَزَّلِ خَاصَّةً , وَالْمُقَلِّدُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَزَّلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ فِي خِلَافِ قَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَقْلِيدَهُ فِي خِلَافِهِ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ الْمُنَزَّلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَمَنَعَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِ رَسُولِهِ , وَهَذَا يُبْطِلُ التَّقْلِيدَ .(2/73)
وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } وَلَا وَلِيجَةَ أَعْظَمُ مِمَّنْ جَعَلَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ مُخْتَارًا عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ سَائِرِ الْأُمَّةِ , يُقَدِّمُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ , وَيَعْرِضُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا قَبِلَهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِقَوْلِهِ وَمَا خَالَفَهُ مِنْهَا تَلَطَّفَ فِي رَدِّهِ وَتَطَلَّبَ لَهُ وُجُوهَ الْحِيَلِ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ وَلِيجَةً فَلَا نَدْرِي مَا الْوَلِيجَةُ , وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَهَذَا نَصٌّ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ .(2/74)
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا فِيهِ ذَمُّ مَنْ قَلَّدَ مَنْ أَضَلَّهُ السَّبِيلَ , أَمَّا مَنْ هُدَاهُ السَّبِيلَ فَأَيْنَ ذَمَّ اللَّهُ تَقْلِيدَهُ ؟ قِيلَ : جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ فِي نَفْسِ السُّؤَالِ , فَإِنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ مُهْتَدِيًا حَتَّى يَتْبَعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ; فَهَذَا الْمُقَلِّدُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ مُهْتَدٍ , وَلَيْسَ بِمُقَلِّدٍ , وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ , فَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى فِي تَقْلِيدِهِ ؟ وَهَذَا جَوَابُ كُلِّ سُؤَالٍ يُورِدُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَنَّهُمْ [ إنْ كَانُوا ] إنَّمَا يُقَلِّدُونَ أَهْلَ الْهُدَى فَهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ عَلَى هُدًى . فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الدِّينِ عَلَى هُدًى , فَمُقَلَّدُوهُمْ عَلَى هُدًى قَطْعًا ; لِأَنَّهُمْ سَالِكُونَ خَلْفَهُمْ . قِيلَ : سُلُوكُهُمْ خَلْفَهُمْ مُبْطِلٌ لِتَقْلِيدِهِمْ لَهُمْ قَطْعًا ; فَإِنَّ طَرِيقَتَهُمْ كَانَتْ اتِّبَاعَ الْحُجَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَنْهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ , فَمَنْ تَرَكَ الْحُجَّةَ وَارْتَكَبَ مَا نَهَوْا عَنْهُ وَنَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ قَبْلَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ . وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مَنْ اتَّبَعَ الْحُجَّةَ , وَانْقَادَ لِلدَّلِيلِ , وَلَمْ يَتَّخِذْ رَجُلًا بِعَيْنِهِ سِوَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُهُ مُخْتَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْرِضُهُمَا عَلَى قَوْلِهِ .(2/75)
وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ فَهْمِ مَنْ جَعَلَ التَّقْلِيدَ اتِّبَاعًا , وَإِيهَامَهُ وَتَلْبِيسَهُ , بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِتْبَاعِ . وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بَيْنَهُمَا كَمَا فَرَّقَتْ الْحَقَائِقُ بَيْنَهُمَا , فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمُتَّبِعِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ .
[ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ ]
.(2/76)
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي الْجَامِعِ : بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِتْبَاعِ , قَوْلُ أَبُو عُمَرَ : قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } } رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ : لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ , وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ . وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ , فَقَالَ : { يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِك , وَانْتَهَيْت إلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا , قَالَ : بَلَى , أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أُحِلَّ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ ؟ فَقُلْت : بَلَى , قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ } . قُلْت : الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا . وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَمَّا إنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ , وَلَكِنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرِّبَوِيَّةُ .(2/77)
وَقَالَ وَكِيعٌ : ثنا سُفْيَانُ وَالْأَعْمَشُ جَمِيعًا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } : أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ ؟ فَقَالَ : لَا , وَلَكِنْ كَانُوا يَحِلُّونَ لَهُمْ الْحَرَامَ فَيَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ .(2/78)
وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } فَمَنَعَهُمْ الِاقْتِدَاءَ بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ , فَقَالُوا : إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ , وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِنْ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى مُعَاتِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } وَقَالَ { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ , وَقَدْ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أُولَئِكَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ , وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ , كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرَ فَأَذْنَبَ وَقَلَّدَ آخَرَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ(2/79)
ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْآثَامُ فِيهِ , وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } . قَالَ : فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا , وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ , ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي إلَّا مِنْ أَعْمَالِ ثَلَاثَةٍ , قَالُوا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ , وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ , وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { تَرَكْت فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ اللَّهِ , وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم } " .
[ مَضَارُّ زَلَّةِ الْعَالِمِ ](2/80)
قُلْت : وَالْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ جَمَعُوا بَيْنَ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَإِبْطَالِهِ وَبَيَانِ زَلَّةِ الْعَالِمِ لِيُبَيِّنُوا بِذَلِكَ فَسَادَ التَّقْلِيدِ , وَأَنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَزِلُّ وَلَا بُدَّ ; إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ , فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ كُلِّ مَا يَقُولُهُ , وَيُنَزَّلُ قَوْلُهُ مَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَعْصُومِ ; فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ , وَحَرَّمُوهُ , وَذَمُّوا أَهْلَهُ وَهُوَ أَصْلُ بَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ وَفِتْنَتِهِمْ , فَإِنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ الْعَالِمَ فِيمَا زَلَّ فِيهِ وَفِيمَا لَمْ يَزِلَّ فِيهِ , وَلَيْسَ لَهُمْ تَمْيِيزٌ بَيْنَ ذَلِكَ , فَيَأْخُذُونَ الدِّينَ بِالْخَطَأِ - وَلَا بُدَّ - فَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَيُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يُشَرِّعْ , وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةً عَمَّنْ قَلَّدُوهُ , وَالْخَطَأُ وَاقِعٌ مِنْهُ وَلَا بُدَّ . وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ كَثِيرٍ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا : { اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ , وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ } . وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَشَدُّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثٌ : زَلَّةُ عَالِمٍ , وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ , وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ } . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَخُوفَ فِي زَلَّةِ الْعَالِمِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا ; إذْ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَخَفْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ .(2/81)
فَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا زَلَّةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْخَطَأِ عَلَى عَمْدٍ , وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا زَلَّةٌ فَهُوَ أَعْذَرُ مِنْهُ , وَكِلَاهُمَا مُفْرِطٌ فِيمَا أُمِرَ بِهِ , وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : قَالَ عُمَرُ : يُفْسِدُ الزَّمَانَ ثَلَاثَةٌ : أَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ , وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ , وَالْقُرْآنُ حَقٌّ , وَزَلَّةُ الْعَالِمِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ إلَّا قَالَ حِينَ يَجْلِسُ : اللَّهُ حَكَمُ قِسْطٍ , هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ - الْحَدِيثَ , وَفِيهِ : " وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلَالَةُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ , وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ " . قُلْت لِمُعَاذٍ : مَا يُدْرِينِي رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ ؟ قَالَ لِي : اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْبِهَاتِ الَّتِي يُقَالُ مَا هَذِهِ , وَلَا يُثْنِيَك ذَلِكَ عَنْهُ , فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ , وَتَلْقَ الْحَقَّ إذَا سَمِعْته , فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا .(2/82)
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ , قِيلَ : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ ؟ قَالَ : يَقُولُ الْعَالِمُ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ , ثُمَّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدَعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ , وَفِي لَفْظٍ : فَيَلْقَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَيُخْبِرُهُ فَيَرْجِعُ وَيَقْضِي الْأَتْبَاعُ بِمَا حَكَمَ . وَقَالَ تَمِيمٌ الدَّارِيِّ : اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ , فَسَأَلَهُ عُمَرُ : مَا زَلَّةُ الْعَالِمِ ؟ قُلْ : يَزِلُّ بِالنَّاسِ فَيُؤْخَذُ بِهِ , فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ الْعَالِمُ وَالنَّاسُ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ . وَقَالَ شُعْبَةُ : عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ : دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ , وَزَلَّةُ عَالِمٍ , وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ , فَسَكَتُوا , فَقَالَ : أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ , وَإِنْ اُفْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنْهُ إيَاسَكُمْ ; فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْتَتِنُ ثُمَّ يَتُوبُ , وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَهُ مَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ , وَمَا شَكَكْتُمْ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ , وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ , وَمَنْ لَا فَلَيْسَ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ .(2/83)
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قَالَ سَلْمَانُ : كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ : زَلَّةُ عَالِمٍ , وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ , وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ ؟ فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ , وَأَمَّا مُجَادَلَةُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوهُ , وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ , وَأَمَّا دُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَتُشَبَّهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ ; لِأَنَّهَا إذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَإِذَا صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَزِلُّ وَيُخْطِئُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ . وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُمَرَ : كَمَا أَنَّ الْقُضَاةَ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ فَالْمَفْتُونَ ثَلَاثَةٌ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي كَوْنِ الْقَاضِي يُلْزَمُ بِمَا أَفْتَى بِهِ , وَالْمُفْتِي لَا يُلْزَمُ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اُغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ .(2/84)
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : فَسَأَلْت سُفْيَانَ عَنْ الْإِمَّعَةِ , فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَدْعُو الْإِمَّعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إلَى الطَّعَامِ فَيَأْتِي مَعَهُ بِغَيْرِهِ , وَهُوَ فِيكُمْ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ .(2/85)
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو النَّصْرِيُّ : ثنا أَبُو مُسْهِرٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ : إنَّ حَدِيثَكُمْ شَرُّ الْحَدِيثِ , إنَّ كَلَامَكُمْ شَرُّ الْكَلَامِ ; فَإِنَّكُمْ قَدْ حَدَّثْتُمْ النَّاسَ حَتَّى قِيلَ : قَالَ فُلَانٌ وَقَالَ فُلَانٌ , وَيَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ , مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَائِمًا فَلْيَقُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ , وَإِلَّا فَلْيَجْلِسْ ; فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ لِأَفْضَلِ قَرْنٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ , فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ مَا أَصْبَحْنَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ؟ , فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ , [ كَلَامُ عَلِيٍّ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ ] قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ - لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ , يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ - : يَا كُمَيْلُ , إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ , فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ , وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ , وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ , وَهَمَجٌ رَعَاعٌ , أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ , يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ , لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يَلْجَئُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ .(2/86)
ثُمَّ قَالَ : آهْ إنَّ هَهُنَا عِلْمًا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ - لَوْ أَصَبْت لَهُ حَمَلَةٌ , بَلْ قَدْ أَصَبْت لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ , يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ الدُّنْيَا , وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ , أَوْ حَامِلُ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إحْيَائِهِ , يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ , لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ , إنْ قَالَ أَخْطَأَ , وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ , مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ , فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ , وَإِنَّ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ , وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ . [ نَهْيُ الصَّحَابَةِ عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ ] وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ , فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ , وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ , فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ , فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ , فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَا يُقَلِّدْنَ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ , فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ .(2/87)
قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ , ثُمَّ يَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا , يَسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ , فَيَضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ } قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ , وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَنْ فَهِمَهُ وَهُدًى لِرُشْدِهِ . ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ : اضْطَجَعَ رَبِيعَةُ مُقَنِّعًا رَأْسَهُ وَبَكَى , فَقِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيَك ؟ فَقَالَ : رِيَاءٌ ظَاهِرٌ , وَشَهْوَةٌ خَفِيَّةٌ , وَالنَّاسُ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ كَالصِّبْيَانِ فِي إمَامِهِمْ : مَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ انْتَهَوْا , وَمَا أُمِرُوا بِهِ ائْتَمَرُوا . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ : لَا فَرْقَ بَيْنَ بَهِيمَةٍ تَنْقَادُ وَإِنْسَانٌ يُقَلِّدُ .(2/88)
ثُمَّ سَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَامِعِ بْنِ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي نُعَيْمَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ , وَمَنْ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ , وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ } وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ , فَإِنَّهُ إفْتَاءٌ بِغَيْرِ ثَبْتٍ ; فَإِنَّ الثَّبْتَ الْحُجَّةُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ [ الِاحْتِجَاجُ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجٍ نَظَرِيَّةٍ ] وَقَدْ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجِ نَظَرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ , فَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ , وَأَنَا أُورِدُهُ , قَالَ : يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ : هَلْ لَك مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا حَكَمْت بِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " بَطَلَ التَّقْلِيدُ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ . وَإِنْ قَالَ : " حَكَمْت بِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ " قِيلَ لَهُ : فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَأَتْلَفْت الْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أَيْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا .(2/89)
فَإِنْ قَالَ : " أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْت وَإِنْ لَمْ أَعْرِفْ الْحُجَّةَ لِأَنِّي قَلَّدْت كَبِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ " قِيلَ لَهُ : إذَا جَازَ تَقْلِيدُ مُعَلِّمِك لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْك فَتَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى مُعَلِّمِك كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْك , فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلَّمِهِ , وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ أَعْلَى حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نَقَضَ قَوْلَهُ , وَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَلَا تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ عِلْمًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ؟ فَإِنْ قَالَ : " لِأَنَّ مُعَلِّمِي وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِهِ فَهُوَ أَبْصَرُ بِمَا أُخِذَ وَأَعْلَمُ بِمَا تُرِكَ " قِيلَ لَهُ : وَكَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمِك فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مُعَلِّمِك وَعِلْمَ مَنْ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِهِ , فَيَلْزَمُك تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك , وَكَذَلِكَ أَنْتَ أَوْلَى أَنْ تُقَلِّدَ نَفْسَك مِنْ مُعَلِّمِك ; لِأَنَّك جَمَعْت عِلْمَ مُعَلِّمِك وَعِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إلَى عِلْمِك , فَإِنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ جَعَلَ الْأَصْغَرَ وَمَنْ يُحَدِّثُ مِنْ صِغَارِ الْعُلَمَاءِ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ , وَالتَّابِعُ مِنْ(2/90)
دُونِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ , وَالْأَعْلَى لِلْأَدْنَى أَبَدًا , وَكَفَى بِقَوْلٍ يُؤَوِّلُ إلَى هَذَا تَنَاقُضًا وَفَسَادًا . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ : قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ , فَمَنْ بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ , قَالُوا : وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ , وَمِنْ هَهُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْبَخْتَرِيُّ : عَرَفَ الْعَالِمُونَ فَضْلَكَ بِالْعِلْمِ وَقَالَ الْجُهَّالُ بِالتَّقْلِيدِ وَأَرَى النَّاسَ مُجْمِعِينَ عَلَى فَضْلِكَ مِنْ بَيْنِ سَيِّدٍ وَمَسُودِ
[ التَّقْلِيدُ وَالِاتِّبَاعُ ](2/91)
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ : التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلَةِ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ , وَالِاتِّبَاعُ : مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ : كُلُّ مَنْ اتَّبَعْت قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْك قَبُولُهُ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ , وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ , وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّلِيلَ عَلَيْك اتِّبَاعُ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ , وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ , وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ .(2/92)
وَقَالَ : وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي أَخْبَارِ سَحْنُونِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْهُ قَالَ : كَانَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إلَى ابْنِ هُرْمُزَ , فَكَانَ إذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا , وَإِذَا سَأَلَهُ ابْنُ دِينَارٍ وَذَوُوه لَا يُجِيبُهُمْ , فَتَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دِينَارٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا بَكْرٍ لِمَ تَسْتَحِلُّ مِنِّي مَا لَا يَحِلُّ لَك ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أَخِي , وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : يَسْأَلُك مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا وَأَسْأَلُك أَنَا وَذَوِيَّ فَلَا تُجِيبُنَا ؟ فَقَالَ : أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِك ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : إنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي , وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي , وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ , إذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ , وَإِنْ سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ , وَأَنْتَ وَذَوُوك مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ .(2/93)
قَالَ ابْنُ حَارِثٍ : هَذَا وَاَللَّهِ الدِّينُ الْكَامِلُ , وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ , لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ , وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ مِنْ الْعِقَابِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ , قَالَ أَبُو عُمَرَ : يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ : لِمَ قُلْت بِهِ وَخَالَفْت السَّلَفَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا ؟ فَإِنْ قَالَ : " قَلَّدْت لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ , وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُحْصِهَا , وَاَلَّذِي قَلَّدْته قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ , فَقَلَّدْت مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي " قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْعُلَمَاءُ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ أَوْ حِكَايَةٍ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ , وَلَكِنْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا قَلَّدْت فِيهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ , فَمَا حُجَّتُك فِي تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَكُلُّهُمْ عَالِمٌ ؟ وَلَعَلَّ الَّذِي رَغِبْت عَنْ قَوْلِهِ أَعْلَمُ مَنْ الَّذِي ذَهَبْت إلَى مَذْهَبِهِ , فَإِنْ قَالَ : " قَلَّدْته لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ " قِيلَ لَهُ : عَلِمْت ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ , وَطُولِبَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ , وَإِنْ قَالَ : " قَلَّدْته لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي " قِيلَ لَهُ : فَقَلِّدْ كُلَّ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك , فَإِنَّك تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا , وَلَا تَخُصَّ مَنْ قَلَّدْته إذْ عِلَّتُك فِيهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْك , فَإِنْ قَالَ : " قَلَّدْته لِأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ " قِيلَ لَهُ : فَإِنَّهُ إذًا أَعْلَمُ مِنْ(2/94)
الصَّحَابَةِ , وَكَفَى بِقَوْلٍ مِثْلِ هَذَا قُبْحًا , فَإِنْ قَالَ : " أَنَا أُقَلِّدُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ " قِيلَ لَهُ : فَمَا حُجَّتُك فِي تَرْكِ مَنْ لَمْ تُقَلِّدْ مِنْهُمْ , وَلَعَلَّ مَنْ تَرَكْت قَوْلَهُ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَخَذْت بِقَوْلِهِ , عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ لِفَضْلِ قَائِلِهِ , وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ قَالَ : عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : لَيْسَ كَمَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يَتْبَعُ عَلَيْهِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . فَإِنْ قَالَ : " قِصَرِي وَقِلَّةُ عِلْمِي يَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ " قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ عَالِمًا يُتَّفَقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ فَيَصْدُرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْبَرُهُ فَمَعْذُورٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ , وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ , وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمٍ فِيمَا جَهِلَهُ ; لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .(2/95)
وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَيُصَيِّرُهَا إلَى غَيْرِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ صِحَّتَهُ وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ , وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ , وَأَنَّ مُخَالَفَةً فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبُ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ ؟ فَإِنْ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَنْ جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى لِحِفْظِهِ الْفُرُوعَ لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ , وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَرَدًّا لِلْقُرْآنِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ : { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ , وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ , وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا . ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنْهَا كَانَ إثْمُهَا عَلَيْهِ } مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا . قَالَ وَهْبٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } .(2/96)
قَالَ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي فَسَادِ التَّقْلِيدِ , ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو عُثْمَانَ بْنُ مُسِنَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ الْعِلْمَ بَدَأَ غَرِيبًا , وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ , فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ } وَمِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا , وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ , فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ } وَكَانَ يُقَالُ : الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ . ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ : بِالْعِلْمِ , وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } قَالَ : يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتَوْا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . وَرَوَى هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } قَالَ : بِالْعِلْمِ , وَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . فَصْلٌ [ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ] .(2/97)
وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ , وَذَمُّوا مَنْ أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ; فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ , يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي , ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ . وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ : اخْتَصَرَتْ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ , وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ , لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ , مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطُ فِيهِ لِنَفْسِهِ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : الْأَوْزَاعِيُّ هُوَ أَتْبَعُ مِنْ مَالِكٍ ؟ قَالَ : لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ , مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَخُذْ بِهِ , ثُمَّ التَّابِعِيُّ بَعْدَ الرَّجُلِ فِيهِ مُخَيَّرٌ . وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فَقَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعَتْهُ يَقُولُ : الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ , ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ , وَقَالَ أَيْضًا : لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ , وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا . وَقَالَ : مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ . وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا .(2/98)
وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلِهِ ؟ , وَقَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ : حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ قَالَ : قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا وَضَعُوا كُتُبًا يَقُولُ أَحَدُهُمْ : ثنا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِكَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ بِكَذَا , وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ مَالِكٌ : وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ عُمَرَ ؟ قُلْت : إنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ كَمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ , فَقَالَ مَالِكٌ : هَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
. فَصْلٌ فِي عَقْدِ [ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ ](2/99)
فِي عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ . قَالَ الْمُقَلِّدُ : نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا , وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ , فَقَالَ فِي { حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ : أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا , إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ : " وَإِنَّى سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ " فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ , فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ : أَقْضِي فِيهَا , فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ , هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ , وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ . وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ .(2/100)
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ : كَانَ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفْتُونَ النَّاسَ : ابْنُ مَسْعُودٍ , وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَعَلِيٌّ , وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ , وَأَبُو مُوسَى , وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ , وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ , وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ . وَقَالَ جُنْدُبٌ : مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : إنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً , فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا } فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ , وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ . قَالَ الْمُقَلَّدُ : وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ - وَهُمْ الْعُلَمَاءُ , أَوْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ - وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ , فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لَهُمْ , فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } .(2/101)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ , فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ , أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا , وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا , وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا , قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ , فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ , وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي } وَقَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ , وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ } وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ : أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ . وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ , وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا , وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك , فَقَالَ : لَوْ فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً . وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ , وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ .(2/102)
وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا ; إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ .(2/103)
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ , فَقَالَ : أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا } فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا , وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْلِيدِهِ لَهُ , وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ , وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ . وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللَّحْمَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا , وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ , وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ , وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ , وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا , وَالْقَدَرُ قَدْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ . وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يُهْدِينَ إلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ فِي كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتَهُ . وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ , وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ , وَمَا يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ .(2/104)
وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ , وَيُبَاحُ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا , وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ . { وَقَدْ قَالَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ : أَرْضَعْتُك وَأَرْضَعْت امْرَأَتَك , فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ } . وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ , فَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ , سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ : إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ . وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ فَقَالَ : فِي الضَّبُعِ بَعِيرٌ , قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ . وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ : قُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ . وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ : إنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ , ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا قُلْت بِقَوْلِ زَيْدٍ , وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْجَدِيدِ : قُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ . وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله قَالَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ : لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إلَّا تَقْلِيدُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ التَّابِعِينَ فِيهَا .(2/105)
وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَيُصَرِّحُ فِي مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا , وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا . وَيَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : مَا رَأَيْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَفْعَلُهُ . وَلَوْ جَمَعْنَا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَطَالَ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحَابَةِ : رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا , وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ مَعَهُ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا .(2/106)
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذَيْنِ وَالْمُعَلِّمِينَ , وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ , إلَّا بِهَذَا , وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ , وَقَدْ فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبَدَانِ , فَلَا يُحْسَنُ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ وَالْجَوَابَ عَنْ مُعَارِضِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا ; وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ , بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ هَذَا عَالِمًا , وَهَذَا مُتَعَلِّمًا , وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ , بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ , وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا لَهُ يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ ؟ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ , فَهَلْ فَرَضَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَتِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا ؟ وَهَلْ ذَلِكَ فِي إمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا ؟ وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ , وَكَانَ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ , وَلَا يَقُولُونَ لَهُ : عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ , وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَلْبَتَّةَ ,(2/107)
وَهَلْ التَّقْلِيدُ إلَّا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ . وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ , وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا . وَنَقُولُ لِمَنْ احْتَجَّ عَلَى إبْطَالِهِ : كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا ; إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى صِدْقِهِمْ , فَلَيْسَ بِيَدِك إلَّا تَقْلِيدَ الرَّاوِي , وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ , وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ , فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَك تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ وَمَنْعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ , وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ , وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ , فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ , وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ , وَفُرِضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا سَمِعَهُ , وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةُ مَا عَقَلَهُ , وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا ؟ ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنْ التَّقْلِيدِ : أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلَّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ , ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ .(2/108)
وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ , وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةً لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا , فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ , وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ .(2/109)
قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ : عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلَّدِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ , كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ ؟ فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ ؟ وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ ؟ وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّعِينَ بِمَا لَمْ تُعْطُوهُ , نَاطِقِينَ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ ؟ وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ , وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ , فَأَخْبِرُونَا : هَلْ صِرْتُمْ إلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إلَيْهِ , وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ , فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ , وَكُنْتُمْ بِهِ عَنْ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ , أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ؟ وَلَيْسَ إلَى خُرُوجِكُمْ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَبِيلٌ , وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ , وَالرُّجُوعُ إلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ , وَنَحْنُ إنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ قُلْت : لَسْنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ , وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ .(2/110)
وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ , وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ , حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ , وَلَوْ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ , فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إلَيْهِ , وَبُرْهَانٌ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ , وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ , وَلَا الْحَالِيَّ مِنْ الْعَاطِلِ . وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ , وَقَالُوا : نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ , وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ , فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ , وَنَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ , وَأَوْصَوْهُمْ إذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتَّبِعُوهُ , فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ , وَقَالُوا : نَحْنُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ , وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ , وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ .(2/111)
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَتَحْرِيمِهِ , وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ , وَلَوْ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ , وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتُهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ , وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَفَسَادِهِ ; إذْ طَرِيقُ ذَلِكَ مَسْدُودَةٌ عَلَيْهِ , ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَتْبُوعِهِ لَا يُفَارِقُ قَوْلَهُ , وَيَتْرُكُ لَهُ كُلَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَتْبُوعِهِ أَوْ نَظِيرِهِ , وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ . وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ فَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا , وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا .(2/112)
وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ , فَلْيَكْذِبْنَا الْمُقَلَّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَالْمُقَلَّدُونَ لِمَتْبُوعِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ يُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ , وَيُحَرِّمُونَهَا , وَلَا يَدْرُونَ أَذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ , عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ , وَلَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ مَوْقِفٌ شَدِيدٌ يَعْلَمُ فِيهِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ .(2/113)
وَأَيْضًا فَنَقُولُ لِكُلِّ مَنْ قَلَّدَ وَاحِدًا مِنْ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِ : مَا الَّذِي خَصَّ صَاحِبَك أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : " لِأَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ عَصْرِهِ " وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مَعَ جَزْمِهِ الْبَاطِلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بَعْدَهُ أَعْلَمُ مِنْهُ , قِيلَ لَهُ : وَمَا يُدْرِيك وَلَسْت مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَهَادَتِك عَلَى نَفْسِك أَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ ؟ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْمَذَاهِبَ وَأَدِلَّتَهَا وَرَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا فَمَا لِلْأَعْمَى وَنَقْدِ الدَّرَاهِمِ ؟ , وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ آخَرُ مِنْ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ , وَيُقَالُ لَهُ ثَانِيًا فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم أَعْلَمُ مِنْ صَاحِبِك بِلَا شَكٍّ , فَهَلَّا قَلَّدْتهمْ وَتَرَكْته ؟ بَلْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَمْثَالُهُمْ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ بِلَا شَكٍّ , فَلِمَ تَرَكْتَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ الْأَجْمَعِ لِأَدَوَاتِ الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَرَغِبْت عَنْ أَقْوَالِهِ وَمَذَاهِبِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : " لِأَنَّ صَاحِبِي وَمَنْ قَلَّدْته أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي , فَتَقْلِيدِي لَهُ أَوْجَبَ عَلَيَّ مُخَالَفَةَ قَوْلِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته ; لِأَنَّ وُفُورَ عِلْمِهِ وَدِينِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لِدَلِيلٍ صَارَ إلَيْهِ هُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ "(2/114)
قِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُك الَّذِي زَعَمْت أَنْتَ أَنَّهُ صَاحِبُك أَوْلَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ نَظِيرُهُ ؟ وَقَوْلَانِ مَعًا مُتَنَاقِضَانِ لَا يَكُونَانِ صَوَابًا , بَلْ أَحَدُهُمَا هُوَ الصَّوَابُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظَفَرَ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ بِالصَّوَابِ أَقْرَبُ مِنْ ظَفَرِ مَنْ هُوَ دُونَهُ . فَإِنْ قُلْت : " عَلِمْت ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ " فَهَهُنَا إذًا قَدْ انْتَقَلْت عَنْ مَنْصِبِ التَّقْلِيدِ إلَى مَنْصِبِ الِاسْتِدْلَالِ , وَأَبْطَلْت التَّقْلِيدَ . ثُمَّ يُقَالُ لَك ثَالِثًا : هَذَا لَا يَنْفَعُك شَيْئًا أَلْبَتَّةَ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَإِنَّ مَنْ قَلَّدْته وَمَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك قَدْ اخْتَلَفَا , وَصَارَ مَنْ قَلَّدَهُ غَيْرُك إلَى مُوَافَقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ دُونَ مَنْ قَلَّدْته , فَهَلَّا نَصَحْت نَفْسَك وَهُدِيت لِرُشْدِك وَقُلْت : هَذَانِ عَالِمَانِ كَبِيرَانِ , وَمَعَ أَحَدِهِمَا مَنْ ذُكِرَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِتَقْلِيدِي إيَّاهُ . وَيُقَالُ لَهُ رَابِعًا إمَامٌ بِإِمَامٍ , وَيَسْلَمُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ , فَيَكُونُ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ .(2/115)
وَيُقَالُ خَامِسًا : إذَا جَازَ أَنْ يَظْفَرَ مَنْ قَلَّدْته بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَذَوِيهِمْ فَأَحَقُّ وَأَحَقُّ وَأَجْوَزُ وَأَجْوَزُ أَنْ يَظْفَرَ نَظِيرُهُ وَمَنْ بَعْدَهُ بِعِلْمٍ خَفِيَ عَلَيْهِ هُوَ ; فَإِنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ نَظِيرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ أَقْرَبُ بِكَثِيرٍ مِنْ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَنْ قَلَّدْته وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْخَفَاءُ عَلَى مَنْ قَلَّدْته أَقْرَبُ مِنْ الْخَفَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ . وَيُقَالُ سَادِسًا : إذَا سَوَّغْت لِنَفْسِك مُخَالِفَةَ الْأَفْضَلِ الْأَعْلَمِ لِقَوْلِ الْمَفْضُولِ فَهَلَّا سَوَّغْت لَهَا مُخَالَفَةَ الْمَفْضُولِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ ؟ وَهَلْ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي وَيَجِبُ إلَّا عَكْسُ مَا ارْتَكَبْت ؟ وَيُقَالُ سَابِعًا : هَلْ أَنْتَ فِي تَقْلِيدِ إمَامِك وَإِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَنَقْلِهَا عَمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ أُمَّتِهِ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؟ فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ بُطْلَانَهُ , وَإِنْ قَالَ : " لَا " فَقَدْ كَفَانَا مُؤْنَتَهُ , وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ .(2/116)
وَيُقَالُ ثَامِنًا : تَقْلِيدُك لِمَتْبُوعِك يَحْرُمُ عَلَيْك تَقْلِيدُهُ ; فَإِنَّهُ نَهَاك عَنْ ذَلِكَ , وَقَالَ : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ بِقَوْلِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ , وَنَهَاك عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ , فَإِنْ كُنْت مُقَلِّدًا لَهُ فِي جَمِيعِ مَذْهَبِهِ فَهَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ , فَهَلَّا اتَّبَعْته فِيهِ ؟ وَيُقَالُ تَاسِعًا : هَلْ أَنْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي أَنَّ مَنْ قَلَّدْته أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ سَائِرِ مَنْ رَغِبْت مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ أَمْ لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : " أَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ " قَالَ : مَا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ , وَإِنْ قَالَ : " لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ " وَهُوَ الْحَقُّ قِيلَ لَهُ : فَمَا عُذْرُك غَدًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ حِينَ لَا يَنْفَعُك مَنْ قَلَّدْته بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ , وَلَا يَحْمِلُ عَنْك سَيِّئَةً وَاحِدَةً , إذَا حَكَمْت وَأَفْتَيْت بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا لَسْت عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ , هَلْ هُوَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ ؟ وَيُقَالُ عَاشِرًا : هَلْ تَدَّعِي عِصْمَةَ مَتْبُوعِك أَوْ تُجَوِّزُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ ؟ وَالْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ , بَلْ تُقِرُّ بِبُطْلَانِهِ ; فَتَعَيَّنَ الثَّانِي , وَإِذَا جَوَّزْت عَلَيْهِ الْخَطَأَ فَكَيْفَ تُحَلِّلُ وَتُحَرِّمُ وَتُوجِبُ وَتُرِيقُ الدِّمَاءَ وَتُبِيحُ الْفُرُوجَ وَتَنْقُلُ الْأَمْوَالَ وَتَضُرُّ الْأَبْشَارَ بِقَوْلِ مَنْ أَنْتَ مُقِرٌّ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مُخْطِئًا .(2/117)
وَيُقَالُ حَادِي عَشَرَ : هَلْ تَقُولُ إذَا أَفْتَيْت أَوْ حَكَمْت بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْته : إنَّ هَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ وَشَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَلَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ ؟ أَوْ تَقُولُ : إنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ خِلَافُهُ ؟ أَوْ تَقُولُ : لَا أَدْرِي ؟ وَلَا بُدَّ لَك مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ , وَلَا سَبِيلَ لَك إلَى الْأَوَّلِ قَطْعًا ; فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ سِوَاهُ لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُ , وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ مُخَالِفِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْآثِمِينَ , وَالثَّانِي لَا تَدَّعِيهِ , فَلَيْسَ لَك مَلْجَأٌ إلَّا الثَّالِثُ , فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , كَيْفَ تُسْتَبَاحُ الْفُرُوجُ وَالدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ وَتُحَلَّلُ وَتُحَرَّمُ بِأَمْرٍ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ وَأَفْضَلُهَا " لَا أَدْرِي " ؟ فَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وَإِنْ كُنْت تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ .(2/118)
وَيُقَالُ ثَانِي عَشَرَ : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمْ أَقْوَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ ؟ وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ , بَلْ جَعَلْتُمُوهَا أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ , أَفَكَانَ النَّاسُ قَبْلَ وُجُودِ هَؤُلَاءِ عَلَى هُدًى أَوْ عَلَى ضَلَالَةٍ ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُقِرُّوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى , فَيُقَالُ لَهُمْ : فَمَا الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ غَيْرُ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ , وَتَقْدِيمِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا , وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهَا دُونَ قَوْلِ فُلَانٍ أَوْ رَأْيِ فُلَانٍ , وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْهُدَى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ؟ فَإِنْ قَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ , وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : صَاحِبُنَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ , وَاقْتَفَى مَنَاهِجَهُمْ , وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ , قِيلَ لَهُمْ : فَمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ هَلْ شَارَكَ صَاحِبَكُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُكُمْ بِالِاتِّبَاعِ وَحُرِمَهُ مَنْ عَدَاهُ ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ , فَإِنْ قَالُوا بِالثَّانِي فَهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنْ الْأَنْعَامِ , وَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ فَيُقَالُ : فَكَيْفَ وَفَّقْتُمْ لِقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِكُمْ كُلِّهِ , وَرَدِّ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ كُلِّهِ , فَلَا يُرَدُّ لِهَذَا قَوْلٌ , وَلَا يُقْبَلُ لِهَذَا قَوْلٌ , حَتَّى كَأَنَّ الصَّوَابَ وَقْفٌ عَلَى صَاحِبِكُمْ وَالْخَطَأَ وَقْفٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ ,(2/119)
وَلِهَذَا أَنْتُمْ مُوَكَّلُونَ بِنُصْرَتِهِ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ , وَبِالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ , وَهَذِهِ حَالُ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى مَعَكُمْ . وَيُقَالُ ثَالِثَ عَشَرَ : فَمَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَدْ نَهَوْكُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ , يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ , وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ , وَهُوَ لَا يَدْرِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِنَا , حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَاهُ . وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا تُقَلِّدْ دِينَك أَحَدًا .(2/120)
وَيُقَالُ رَابِعَ عَشَرَ : هَلْ أَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّكُمْ غَدًا مَوْقُوفُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ , وَتُسْأَلُونَ عَمَّا قَضَيْتُمْ بِهِ فِي دِمَاءِ عِبَادِهِ وَفُرُوجِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , وَعَمَّا أَفْتَيْتُمْ بِهِ فِي دِينِهِ مُحَرِّمِينَ وَمُحَلِّلِينَ وَمُوجِبِينَ ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ : " نَحْنُ مُوقِنُونَ بِذَلِكَ " فَيُقَالُ لَهُمْ : فَإِذَا سَأَلَكُمْ : " مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ ذَلِكَ ؟ " فَمَاذَا جَوَابُكُمْ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : " جَوَابُنَا إنَّا حَلَّلْنَا وَحَرَّمْنَا وَقَضَيْنَا بِمَا فِي كِتَابِ الْأَصْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِمَّا رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ , وَبِمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ , وَبِمَا فِي الْأُمِّ مِنْ رِوَايَةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ , وَبِمَا فِي جَوَابَاتِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ رَأْيٍ وَاخْتِيَارٍ , وَلَيْتَكُمْ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ صَعِدْتُمْ إلَيْهِ أَوْ سَمَتْ هِمَمُكُمْ نَحْوَهُ , بَلْ نَزَلْتُمْ عَنْ ذَلِكَ طَبَقَاتٍ , فَإِذَا سُئِلْتُمْ : هَلْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِي أَوْ أَمْرِ رَسُولِي ؟ فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُكُمْ إذًا ؟ فَإِنْ أَمْكَنَكُمْ حِينَئِذٍ أَنْ تَقُولُوا " فَعَلْنَا مَا أَمَرْتنَا بِهِ وَأَمَرَنَا بِهِ رَسُولُك " فُزْتُمْ وَتَخَلَّصْتُمْ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولُوا : لَمْ تَأْمُرْنَا بِذَلِكَ وَلَا رَسُولُك وَلَا أَئِمَّتُنَا , وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْجَوَابَيْنِ , وَكَأَنْ قَدْ .(2/121)
وَيُقَالُ خَامِسَ عَشَرَ : إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا , فَبِمَذْهَبِ مَنْ يَحْكُمُ ؟ وَبِرَأْيِ مَنْ يَقْضِي ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ وَلَا يَقْضِي إلَّا بِشَرِيعَةِ نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ ; فَذَلِكَ الَّذِي يَقْضِي بِهِ أَحَقُّ , وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْضُوا بِهِ وَتُفْتُوا , وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْضِيَ وَلَا يُفْتِيَ بِشَيْءٍ سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ . فَإِنْ قُلْتُمْ : نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ سَوَاءٌ , قِيلَ : أَجَلْ , وَلَكِنْ نَفْتَرِقُ فِي الْجَوَابِ فَنَقُولُ : يَا رَبَّنَا إنَّك تَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عِيَارًا عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك , وَنَرُدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَنَتَحَاكَمُ إلَى قَوْلِهِ وَنُقَدِّمُ أَقْوَالَهُ عَلَى كَلَامِك وَكَلَامِ رَسُولِك وَكَلَامِ أَصْحَابِ رَسُولِك , وَكَانَ الْخَلْقُ عِنْدَنَا أَهْوَنَ أَنْ نُقَدِّمَ كَلَامَهُمْ وَآرَاءَهُمْ عَلَى وَحْيِكَ , بَلْ أَفْتَيْنَا بِمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِك , وَبِمَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِك وَبِمَا أَفْتَى بِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّك , وَإِنْ عَدَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَخَطَأٌ مِنَّا لَا عَمْدٌ , وَلَمْ نَتَّخِذْ مِنْ دُونِك وَلَا دُونِ رَسُولِك وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً , وَلَمْ نُفَرِّقْ دِينَنَا وَنَكُونُ شِيَعًا , وَلَمْ نُقَطِّعْ أَمْرَنَا بَيْنَنَا زُبُرًا .(2/122)
وَجَعَلْنَا أَئِمَّتَنَا قُدْوَةً لَنَا , وَوَسَائِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِك فِي نَقْلِهِمْ مَا بَلَّغُوهُ إلَيْنَا عَنْ رَسُولِك فَاتَّبَعْنَاهُمْ فِي ذَلِكَ , وَقَلَّدْنَاهُمْ فِيهِ , إذْ أَمَرْتَنَا أَنْتَ وَأَمَرَنَا رَسُولُك بِأَنْ نَسْمَعَ مِنْهُمْ , وَنَقْبَلَ مَا بَلَّغُوهُ عَنْك وَعَنْ رَسُولِك , فَسَمْعًا لَك وَلِرَسُولِك وَطَاعَةً , وَلَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا نَتَحَاكَمُ إلَى أَقْوَالِهِمْ , وَنُخَاصِمُ بِهَا , وَنُوَالِي وَنُعَادِي عَلَيْهَا , بَلْ عَرَضْنَا أَقْوَالَهُمْ عَلَى كِتَابِك وَسُنَّةِ رَسُولِك , فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلْنَاهُ , وَمَا خَالَفَهُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ وَتَرَكْنَاهُ , وَإِنْ كَانُوا أَعْلَمَ مِنَّا بِك وَبِرَسُولِك , فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ رَسُولِك كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ , فَهَذَا جَوَابُنَا , وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ : هَلْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ حَتَّى يُمْكِنُكُمْ هَذَا الْجَوَابُ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيْهِ , وَلَا يَرُوجُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ ؟ وَيُقَالُ سَادِسَ عَشَرَ : كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ مَعَاشِرَ طَوَائِفِ الْمُقَلَّدِينَ , قَدْ أَنْزَلْت جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ التَّابِعِينَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَجَمِيعَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ إلَّا مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ فِي مَكَانِ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ , وَلَا يُنْظَرُ فِي فَتَاوَاهُ , وَلَا يُشْتَغَلُ بِهَا , وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا , وَلَا وَجْهَ لِلنَّظَرِ فِيهَا إلَّا لِلتَّمَحُّلِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ وَكَدِّهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إذَا خَالَفَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ , وَهَذَا هُوَ الْمُسَوِّغُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ(2/123)
عِنْدَهُمْ , فَإِذَا خَالَفَ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ نَصًّا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْوَاجِبُ التَّمَحُّلُ وَالتَّكَلُّفُ فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ النَّصِّ عَنْ دَلَالَتِهِ , وَالتَّحَيُّلُ لِدَفْعِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُ مَتْبُوعِهِمْ , فَيَا لِلَّهِ لِدِينِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِبِدْعَةٍ كَادَتْ تَثُلُّ عَرْشَ الْإِيمَانِ وَتَهُدُّ رُكْنَهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِهَذَا الدِّينِ أَنْ لَا يُزَالُ فِيهِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِأَعْلَامِهِ وَيَذُبُّ عَنْهُ , فَمَنْ أَسْوَأُ ثَنَاءً عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَشَدُّ اسْتِخْفَافًا بِحُقُوقِهِمْ , وَأَقَلُّ رِعَايَةً لِوَاجِبِهِمْ , وَأَعْظَمُ اسْتِهَانَةً بِهِمْ , مِمَّنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَلَا إلَى فَتْوَاهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ , وَيُقَالُ سَابِعَ عَشَرَ : مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكُمْ أَيُّهَا الْمُقَلِّدُونَ أَنَّكُمْ اعْتَرَفْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ , مَعَ سُهُولَتِهِ وَقُرْبِ مَأْخَذِهِ , وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْبَيَانِ , وَاسْتِحَالَةِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ ; فَهُوَ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ قَائِلٍ مَعْصُومٍ , وَقَدْ نَصَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْحَقِّ وَبَيَّنَ لِعِبَادِهِ مَا يَتَّقُونَ , فَادَّعَيْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا نَصَبَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ وَتَوَلَّى بَيَانَهُ , ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ صَاحِبَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ(2/124)
غَيْرِهِ , وَأَنَّهُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا فِي زَمَانِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا , وَغُلَاةُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تُوجِبُ اتِّبَاعَهُ وَتُحَرِّمُ اتِّبَاعَ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ فِي كُتُبِ أُصُولِهِمْ , فَعَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ فِيمَا نَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْحَقِّ , وَلَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا , وَاهْتَدَى إلَى أَنَّ مَتْبُوعَهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ مِمَّنْ عَدَاهُ , وَلَمْ يَنْصِبْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَاحِدًا .(2/125)
وَيُقَالُ ثَامِنَ عَشَرَ : أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مِنْ شَأْنِكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّكُمْ إذَا وَجَدْتُمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تُوَافِقُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ أَظْهَرْتُمْ أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ بِهَا , وَالْعُمْدَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَالَهُ , لَا عَلَى الْآيَةِ , وَإِذَا وَجَدْتُمْ آيَةً نَظِيرَهَا تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهَا , وَتَطَلَّبْتُمْ لَهَا وُجُوهَ التَّأْوِيلِ وَإِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا حَيْثُ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ , وَهَكَذَا تَفْعَلُونَ فِي نُصُوصِ السُّنَّةِ سَوَاءً , وَإِذَا وَجَدْتُمْ حَدِيثًا صَحِيحًا يُوَافِقُ قَوْلَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ , وَقُلْتُمْ : " لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَيْت وَكَيْت " , وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ بَلْ وَأَكْثَرَ تُخَالِفُ قَوْلَهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَى حَدِيثٍ مِنْهَا , وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فَتَقُولُونَ : لَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا , وَإِذَا وَجَدْتُمْ مُرْسَلًا قَدْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَخَذْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً هُنَاكَ , وَإِذَا وَجَدْتُمْ مِائَةَ مُرْسَلٍ تُخَالِفُ رَأْيَهُ أَطَرَحْتُمُوهَا كُلَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا , وَقُلْتُمْ : لَا نَأْخُذُ بِالْمُرْسَلِ . وَيُقَالُ تَاسِعَ عَشَرَ : أَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّكُمْ إذَا أَخَذْتُمْ بِالْحَدِيثِ مُرْسَلًا كَانَ أَوْ مُسْنَدًا مُوَافَقَتَهُ رَأْيَ صَاحِبِكُمْ ثُمَّ وَجَدْتُمْ فِيهِ حُكْمًا يُخَالِفُ رَأْيَهُ لَمْ تَأْخُذُوا بِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ , وَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ , وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِيمَا وَافَقَ رَأْيَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ , وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَ رَأْيَهُ .(2/126)
وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا طَرَفًا فَإِنَّهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ .
[ طَرَفٌ مِنْ تَخَبُّطِ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْأَخْذِ بِبَعْضِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ بَعْضِهَا الْآخَرِ ] :
فَاحْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي سَلْبِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : { نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الرَّجُلِ } . وَقَالُوا : الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ أَعْضَائِهِمَا هُوَ فَضْلُ وُضُوئِهِمَا . وَخَالَفُوا نَفْسَ الْحَدِيثِ ; فَجَوَّزُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَضَّأَ بِفَضْلِ طَهُورِ الْآخَرِ , وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِيثِ , فَإِنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ إذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ , وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ لِلْخَلْوَةِ أَثَرٌ , وَلَا لِكَوْنِ الْفَضْلَةِ فَضْلَةَ امْرَأَةٍ أَثَرٌ , فَخَالَفُوا نَفْسَ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ , وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ ; إذْ فَضْلُ الْوُضُوءِ بِيَقِينٍ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي فَضَلَ مِنْهُ , لَيْسَ هُوَ الْمَاءَ الْمُتَوَضَّأَ بِهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ لَهُ فَضْلُ الْوُضُوءِ , فَاحْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَمْ يُرِدْ بِهِ , وَأَبْطَلُوا الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ , ثُمَّ قَالُوا : لَوْ بَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَمْ يُنَجِّسْهُ حَتَّى يَنْقُصَ عَنْ قُلَّتَيْنِ .(2/127)
وَاحْتَجُّوا عَلَى نَجَاسَتِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } ثُمَّ قَالُوا : لَوْ غَمَسَهَا قَبْلَ غَسْلِهَا لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهَا , وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْمِسَهَا قَبْلَ الْغَسْلِ فَعَلَ . وَاحْتَجُّوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِحَفْرِ الْأَرْضِ الَّتِي بَالَ فِيهَا الْبَائِلُ وَإِخْرَاجِ تُرَابِهَا , ثُمَّ قَالُوا : لَا يَجِبُ حَفْرُهَا , بَلْ لَوْ تُرِكَتْ حَتَّى يَبِسَتْ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ طَهُرَتْ . وَاحْتَجُّوا عَلَى مَنْعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ } يَعْنِي الزَّكَاةَ . ثُمَّ قَالُوا : لَا تَحْرُمُ الزَّكَاةُ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ السَّمَكَ الطَّافِيَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْبَرِّ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ { بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ بِعَيْنِهِ وَقَالُوا : لَا يَحِلُّ مَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ مِنْ السَّمَكِ , وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا فِيهِ أَصْلًا غَيْرُ السَّمَكِ . وَاحْتَجَّ أَهْلُ الرَّأْيِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَوُلُوغِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ } ثُمَّ قَالُوا : لَا يَجِبُ غَسْلُهُ سَبْعًا , بَلْ يُغْسَلُ مَرَّةً , وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ثَلَاثًا .(2/128)
وَاحْتَجُّوا عَلَى تَفْرِيقِهِمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ بَيْنَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَغَيْرِهِ بِحَدِيثٍ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ غُطَيْفٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ : { تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ } . ثُمَّ قَالُوا : لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ فِي الزَّكَاةِ فِي زِيَادَةِ الْإِبِلِ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَوَّلِ الْفَرِيضَةِ فَيَكُونُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ , وَخَالَفُوهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْهُ , ثُمَّ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ } وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فِي نَصِّ مَا فِيهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ , وَهَذَا مِنْ إحْدَى الْعَجَائِبِ ; فَإِنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إنْكَارًا لَهُ , وَلَا يَقُولُونَ بِهِ , فَإِنْ كَانَ حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي تَقْدِيرِ الثَّلَاثِ , مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِخِيَارِ الشَّرْطِ ; فَاَلَّذِي أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَالَفُوهُ , وَاَلَّذِي احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ .(2/129)
وَاحْتَجُّوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا { بِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ الَّذِي كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبَيْعِ , فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } . وَخَالَفُوا الْخَبَرَ كُلَّهُ , فَلَمْ يُثْبِتُوا الْخِيَارَ بِالْغَبْنِ وَلَوْ كَانَ يُسَاوِي عُشْرَ مِعْشَارٍ مَا بَذَلَهُ فِيهِ , وَسَوَاءٌ قَالَ الْمُشْتَرِي : " لَا خِلَابَةَ " أَوْ لَمْ يَقُلْ , وَسَوَاءٌ غُبِنَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا , لَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ . وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِأَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَفِّرَ , ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا : إنْ اسْتَفَّ دَقِيقًا أَوْ بَلَعَ عَجِينًا أَوْ إهْلِيلِجًا أَوْ طِيبًا أَفْطَرَ , وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْقَيْءَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ , ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا : إنْ تَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْدِيدِ مَسَافَةِ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ } وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ فَقَدْ خَالَفُوهُ نَفْسَهُ فَقَالُوا : يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ وَمَحْرَمٍ .(2/130)
وَاحْتَجُّوا عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { فِي الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ جَازَ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَقَدْ بَطَلَ إحْرَامُهُ . وَاحْتَجُّوا عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَكْلِهَا وَبِالْجَزَاءِ عَلَى قَاتِلِهَا , وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ فَقَالُوا : لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا . وَاحْتَجُّوا فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَأَعْطَى ابْنَةَ لَبُونٍ تُسَاوِي ابْنَةَ مَخَاضٍ أَوْ حِمَارًا يُسَاوِيهَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ وَفِيهِ : { مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ , وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ ; فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ , وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّاعِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا } . وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ , وَيُسْتَدَلُّونَ بِهِ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا أُرِيدَ بِهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُ أَسْبَابَهَا بِحَدِيثِ : { لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ } وَفِي لَفْظٍ : " فِي السَّفَرِ " وَلَمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ ; فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَا أَثَرَ لِلسَّفَرِ وَلَا لِلْغَزْوِ فِي ذَلِكَ .(2/131)
وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ الْأُضْحِيَّةِ بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { : أَمَرَ بِالْأُضْحِيَّةِ , وَأَنْ يُطْعَمَ مِنْهَا الْجَارُ وَالسَّائِلُ } فَقَالُوا : لَا يَجِبُ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهَا جَارٌ وَلَا سَائِلٌ . وَاحْتَجُّوا فِي إبَاحَةِ مَا ذَبَحَهُ غَاصِبٌ أَوْ سَارِقٌ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { : دُعِيَ إلَى الطَّعَامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , فَلَمَّا أَخَذَ لُقْمَةً قَالَ : إنِّي أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنِّي أَخَذْتهَا مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ بِغَيْرِ عِلْمِ زَوْجِهَا , فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطْعَمَ الْأَسَارَى . } وَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ , فَقَالُوا : ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ حَلَالٌ , وَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ بِجِنَايَةِ الْمَوَاشِي , ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ , فَقَالُوا : مَنْ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ قَادَهَا أَوْ سَاقَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَنْ عَضَّتْ بِفَمِهَا , وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَتْلَفَتْ بِرِجْلِهَا . وَاحْتَجُّوا عَلَى تَأْخِيرِ الْقَوَدِ إلَى حِينِ الْبُرْءِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ آخَرَ فِي رُكْبَتِهِ بِقَرْنٍ , فَطَلَبَ الْقَوَدَ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَبْرَأَ , فَأَبَى , فَأَقَادَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ } الْحَدِيثَ , وَخَالَفُوهُ فِي الْقِصَاصِ مِنْ الطَّعْنَةِ فَقَالُوا : لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا .(2/132)
وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الزَّانِي بِأَمَةِ ابْنِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } وَخَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا : لَيْسَ لِلْأَبِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ , وَلَمْ يُبِيحُوا لَهُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ عُودَ أَرَاكٍ فَمَا فَوْقَهُ , وَأَوْجَبُوا حَبْسَهُ فِي دَيْنِهِ وَضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُكَبِّرُ إذَا قَالَ الْمُقِيمُ : " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " بِحَدِيثِ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَسْبِقُنِي بِآمِينَ } وَبِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِمَرْوَانَ : " لَا تَسْبِقُنِي بِآمِينَ " ثُمَّ خَالَفُوا الْخَبَرَ جِهَارًا فَقَالُوا : لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ وَلَا الْمَأْمُومُ . وَاحْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ , وَلَا أَثَرَ لِلْمَسْحِ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ ; فَإِنَّ الْفَرْضَ سَقَطَ بِالنَّاصِيَةِ , وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ عِنْدَهُمْ . وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ فِي اسْتِحْبَابِ مُسَاوَاةِ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ } قَالُوا : وَالِائْتِمَامُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فِعْلِهِ سَوَاءً .(2/133)
ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ , فَإِنَّ فِيهِ : { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا , وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا , وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ , وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الصَّلَاةِ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ : { اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } وَخَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ { : ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا } . وَقَوْلُهُ : { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } فَقَالُوا : مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَدْ صَلَّى , وَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهَا فَرْضًا لَازِمًا , مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ بِهَا وَبِالْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فِي الْحَدِيثِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ جَلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ بِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِيهِ , وَخَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ . وَاحْتَجُّوا عَلَى إسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ , بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { فَإِذَا قُلْت ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك } ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ , فَقَالُوا : صَلَاتُهُ تَامَّةٌ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ .(2/134)
وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ { بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلدَّاخِلِ : أَصَلَّيْت يَا فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ } وَخَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ , فَقَالُوا : مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ جَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ . وَاحْتَجُّوا عَلَى كَرَاهِيَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : مَا بَالُهُمْ رَافِعِي أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ فِيهِ : { إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ , السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ } فَقَالُوا : لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ وَيَكْفِيه غَيْرُهُ مِنْ كُلِّ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ . وَاحْتَجُّوا فِي اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ إذَا أَحْدَثَ بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ , وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ } , ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ , فَقَالُوا : مَنْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ , وَأَبْطَلُوا صَلَاةَ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ , وَأَبْطَلُوا الْعَمَلَ بِهِ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ .(2/135)
وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ إنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى جَالِسًا لِمَرَضٍ صَلَّى الْمَأْمُومُونَ خَلْفَهُ قِيَامًا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّهُ خَرَجَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَائِمًا , فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ ; وَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ } , ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ , وَقَالُوا : إنْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ لِغَيْرِ حَدَثٍ , وَتَقَدَّمَ الْآخَرُ بَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامَيْنِ وَصَلَاةُ جَمْعِ الْمَأْمُومِينَ . وَاحْتَجُّوا عَلَى بُطْلَانِ صَوْمِ مَنْ أَكَلَ يَظُنُّهُ لَيْلًا فَبَانَ نَهَارًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ , فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ , } ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِي نَفْسِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بِاللَّيْلِ , لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ . ثُمَّ خَالَفُوهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى , فَإِنَّ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ : { وَكَانَ ابْنُ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْت أَصْبَحْت } , وَعِنْدَهُمْ مَنْ أَكَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَطَلَ صَوْمُهُ . وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِالْغَائِطِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا } وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ وَجَوَّزُوا اسْتِقْبَالَهَا وَاسْتِدْبَارَهَا بِالْبَوْلِ .(2/136)
وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ شَرْطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ { أَنَّهُ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفِيَ بِنَذْرِهِ } , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ ; فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ لَا يَنْعَقِدُ , وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى الرَّدِّ بِحَدِيثِ : { تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَوَارِيثَ ; عَتِيقَهَا , وَلَقِيطَهَا , وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ } وَلَمْ يَقُولُوا - بِالْحَدِيثِ فِي حِيَازَتِهَا - مَالَ لَقِيطِهَا , وَقَدْ قَالَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَهُوَ الصَّوَابُ . وَاحْتَجُّوا فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ : { الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَا رَحِمٍ فَلَمْ يَجِدُوا , فَقَالَ : أَعْطُوهُ الْكُبْرَ مِنْ خُزَاعَةَ } وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ فِي أَنَّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يُعْطَى مَالُهُ لِلْكُبْرِ مِنْ قَبِيلَتِهِ .(2/137)
وَاحْتَجُّوا فِي مَنْعِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ بِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { لَا يَرِثُ قَاتِلٌ , وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } فَقَالُوا بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ دُونَ آخِرِهِ وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْجِنَازَةِ إذَا خَافَ فَوْتَهَا بِحَدِيثِ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ فِي تَيَمُّمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَدِّ السَّلَامِ , ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَيَمَّمَ بِوَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ دُونَ ذِرَاعَيْهِ , وَالثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكْرَهُوا رَدَّ السَّلَامِ لِلْمُحْدِثِ وَلَمْ يَسْتَحِبُّوا التَّيَمُّمُ لِرَدِّ السَّلَامِ . وَاحْتَجُّوا فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى حَجَرَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لَهُ : ائْتِنِي بِأَحْجَارٍ , فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ , فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ , وَقَالَ : هَذِهِ رِكْسٌ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فِيمَا هُوَ نَصٌّ فِيهِ , فَأَجَازُوا الِاسْتِجْمَارَ بِالرَّوْثِ , وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِحَجَرَيْنِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ مَسَّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ { بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ إذَا قَامَ حَمَلَهَا وَإِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ وَضَعَهَا } , ثُمَّ قَالُوا : مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ .(2/138)
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : وَمِنْ الْعَجَبِ إبْطَالُهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَصْحِيحُهُمْ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةِ { مُدْهَامَّتَانِ } بِالْفَارِسِيَّةِ ثُمَّ يَرْكَعُ قَدْرَ نَفَسٍ , ثُمَّ يَرْفَعُ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ , أَوْ لَا يَرْفَعُ بَلْ يَخِرُّ كَمَا هُوَ سَاجِدًا , وَلَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ يَدَيْهِ وَلَا رِجْلَيْهِ , وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ صَحَّ ذَلِكَ , وَلَا جَبْهَتَهُ , بَلْ يَكْفِيهِ وَضْعُ رَأْسِ أَنْفِهِ كَقَدْرِ نَفَسٍ وَاحِدٍ , ثُمَّ يَجْلِسُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ , ثُمَّ يَفْعَلُ فِعْلًا يُنَافِي الصَّلَاةَ مِنْ فُسَاءٍ أَوْ ضُرَاطٍ أَوْ ضَحِكٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ , وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } ثُمَّ خَالَفُوا صَرِيحَهُ فَقَالُوا : إنْ أَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا وَقَدْ وَطِئَهَا الْبَارِحَةَ حَلَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا اللَّيْلَةَ . وَاحْتَجُّوا فِي ثُبُوتِ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَةِ { بِخَبَرِ بِنْتِ حَمْزَةَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا } ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا : لَوْ تَزَوَّجَتْ الْخَالَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِلْبِنْتِ كَابْنِ عَمِّهَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا . وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي نَهْيِهِ عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا , ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا : لَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ إذَا وَقَعَ كَذَلِكَ , وَفِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ .(2/139)
وَاحْتَجُّوا عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِخَبَرٍ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَادَ يَهُودِيًّا مِنْ مُسْلِمٍ لَطَمَهُ } . ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا : لَا قَوَدَ فِي اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ لَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : مَنْ لَطَمَ عَبْدَهُ فَهُوَ حُرٌّ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا : لَا يَعْتِقُ بِذَلِكَ , وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ : { مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ } فَقَالُوا : لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَوَدَ , ثُمَّ قَالُوا : لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ { : فِي الْعَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ : مِنْهَا قَوْلُهُ : { وَفِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَوْضِعِهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ } , وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { فِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى بَعْضٍ بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَفِيهِ : { أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي } ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ : { إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ } وَفِي لَفْظٍ : { إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ } فَقَالُوا : بَلْ هَذَا يَصْلُحُ وَلَيْسَ بِجَوْرٍ , وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ .(2/140)
وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ بِحَدِيثِ : { إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الْأَذَى بِنَعْلَيْهِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ } ثُمَّ خَالَفُوهُ فَقَالُوا : لَوْ وَطِئَ الْعَذِرَةَ بِخُفَّيْهِ لَمْ يُطَهِّرْهُمَا التُّرَابُ . وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِحَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ , ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا فَقَالُوا : لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ , بَلْ إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ الصَّحِيحِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ , وَلَا يَتَيَمَّمُ , وَإِمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى التَّيَمُّمِ إنْ كَانَ الْجَرِيحُ أَكْثَرَ , وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ . وَاحْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ تَوْلِيَةِ أُمَرَاءَ أَوْ حُكَّامٍ أَوْ مُتَوَلِّينَ مَرَّتَيْنِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ , فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ , فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ } ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فَقَالُوا : لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ بِالشَّرْطِ , وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةِ مِنْ أَصَحِّ وِلَايَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ , وَأَنَّهَا أَصَحُّ مِنْ كُلِّ وِلَايَاتِهِمْ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا . وَاحْتَجُّوا عَلَى تَضْمِينِ الْمُتْلِفِ مَا أَتْلَفَهُ وَيَمْلِكُ هُوَ مَا أَتْلَفَهُ بِحَدِيثِ { الْقَصْعَةِ الَّتِي كَسَرَتْهَا إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَاحِبَةِ الْقَصْعَةِ نَظِيرَتَهَا } , ثُمَّ خَالَفُوهُ جِهَارًا فَقَالُوا : إنَّمَا يَضْمَنُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , وَلَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ .(2/141)
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِخَبَرِ الشَّاةِ الَّتِي ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا , وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا , ثُمَّ خَالَفُوهُ صَرِيحًا , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُمَلِّكْهَا الذَّابِحَ , بَلْ أَمَرَ بِإِطْعَامِهَا الْأَسَارَى . وَاحْتَجُّوا فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ الْفَوَاكِهِ وَمَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ بِخَبَرِ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا أَنَّ فِيهِ : { فَإِذَا آوَاهُ إلَى الْجَرِينِ فَفِيهِ الْقَطْعُ } وَعِنْدَهُمْ لَا قَطْعَ فِيهِ آوَاهُ إلَى الْجَرِينِ أَوْ لَمْ يُؤْوِهِ , الثَّانِي أَنَّهُ قَالَ : { إذَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ كَانَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ , وَعِنْدَهُمْ لَا يُقْطَعُ فِي هَذَا الْقَدْرِ , الثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَيْسَ الْجَرِينُ حِرْزًا ; فَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ ثَمَرًا يَابِسًا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ لَمْ يُقْطَعْ . وَاحْتَجُّوا فِي مَسْأَلَةِ الْآبِقِ يَأْتِي بِهِ الرَّجُلُ أَنَّ لَهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِخَبَرٍ فِيهِ { أَنَّ مَنْ جَاءَ بِآبِقٍ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ } , وَخَالَفُوهُ جَهْرَةً فَأَوْجَبُوا أَرْبَعِينَ . وَاحْتَجُّوا عَلَى خِيَارِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِحَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ : { الشُّفْعَةُ كَحِلِّ الْعِقَالِ , وَلَا شُفْعَةَ لِصَغِيرٍ وَلَا لِغَائِبٍ , وَمَنْ مُثِّلَ بِهِ فَهُوَ حُرٌّ } فَخَالَفُوا جَمِيعَ ذَلِكَ إلَّا قَوْلَهُ : { الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ } .(2/142)
وَاحْتَجُّوا عَلَى امْتِنَاعِ الْقَوَدِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالسَّيِّدِ وَالْعَبْدِ بِحَدِيثِ : { لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ وَلَا سَيِّدٌ بِعَبْدِهِ } وَخَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ فَإِنَّ تَمَامَهُ : { وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ فَهُوَ حُرٌّ } . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ دُونَ الزَّانِي بِحَدِيثِ ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وَفِيهِ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } ثُمَّ خَالَفُوا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ صَرِيحًا فَقَالُوا : الْأَمَةُ لَا تَكُونُ فِرَاشًا , وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَضَاءُ فِي أَمَةٍ , وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَوَطِئَهَا لَمْ يُحَدَّ لِلشُّبْهَةِ , وَصَارَتْ فِرَاشًا بِهَذَا الْعَقْدِ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ , وَأُمُّ وَلَدِهِ وَسَرِيَّتُهُ الَّتِي يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَيْسَتْ فِرَاشًا لَهُ , وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا عَلَى جَوَازِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ يُنْشِئُهَا مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ غَدَاءٍ ؟ فَتَقُولُ : لَا , فَيَقُولُ : فَإِنِّي صَائِمٌ } ثُمَّ قَالُوا : لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ , وَالْحَدِيثُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّعِ نَفْسِهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ بِأَنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ , وَفِي بَيْعِهِ إبْطَالٌ لِذَلِكَ , وَأَجَابُوا عَنْ بَيْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَبَّرَ بِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ خِدْمَتَهُ . ثُمَّ قَالُوا : لَا يَجُوزُ بَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ أَيْضًا .(2/143)
وَاحْتَجُّوا عَلَى إيجَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْأَرَاضِي وَالْأَشْجَارِ التَّابِعَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ } ثُمَّ خَالَفُوا نَصَّ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ , فَإِنَّ فِيهِ : { وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ , فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } فَقَالُوا : يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ إذْنِهِ , وَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَحَيَّلَ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ , وَإِنْ بَاعَ بَعْدَ إذْنِ شَرِيكِهِ فَهُوَ أَحَقُّ أَيْضًا بِالشُّفْعَةِ , وَلَا أَثَرَ لِلِاسْتِئْذَانِ وَلَا لِعَدَمِهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ أَقَلُّ مِنْ الزَّيْتِ الْمُفْرَدِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ , ثُمَّ خَالَفُوهُ نَفْسَهُ , فَقَالُوا : يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ نَوْعِهِ وَغَيْرِ نَوْعِهِ . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ الْمُنْجَزَةَ كَالْوَصِيَّةِ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي الثُّلُثِ { بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ , فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ , فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً } . ثُمَّ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ ; فَقَالُوا : لَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ أَلْبَتَّةَ , وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسَهُ .(2/144)
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا , وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّقْلِيدَ حَكَمَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ , وَقَادَكُمْ إلَيْهِ قَهْرًا , وَلَوْ حَكَّمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى التَّقْلِيدِ لَمْ تَقَعُوا فِي مِثْلِ هَذَا ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إنْ كَانَتْ حَقًّا وَجَبَ الِانْقِيَادُ لَهَا , وَالْأَخْذُ بِمَا فِيهَا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا , فَإِمَّا أَنْ تُصَحَّحَ وَيُؤْخَذَ بِهَا فِيمَا وَافَقَ قَوْلَ الْمَتْبُوعِ , وَتُضَعَّفُ أَوْ تُرَدُّ إذَا خَالَفَتْ قَوْلَهُ , أَوْ تُؤَوَّلُ ; فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَأِ وَالتَّنَاقُضِ . فَإِنْ قُلْتُمْ : عَارَضَ مَا خَالَفْنَاهُ مِنْهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ , وَلَمْ يُعَارِضْ مَا وَافَقْنَاهُ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْهُ وَاطِّرَاحَهُ . قِيلَ : لَا تَخْلُو هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً أَوْ مُحْكَمَةً , فَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً لَمْ يُحْتَجَّ بِمَنْسُوخٍ أَلْبَتَّةَ , وَإِنْ كَانَتْ مُحْكَمَةً لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَةُ شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ . فَإِنْ قِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ فِيمَا خَالَفْنَاهَا فِيهِ , وَمُحْكَمَةٌ فِيمَا وَافَقْنَاهَا فِيهِ .(2/145)
قِيلَ : هَذَا مَعَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ يَتَضَمَّنُ مَا لَا عِلْمَ لِمُدَّعِيهِ بِهِ , [ فَمُدَّعِيهِ ] قَائِلٌ مَا لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ , فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّ مُعَارِضًا لَوْ قَلَبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا سَوَاءٌ لَكَانَتْ دَعْوَاهُ مِنْ جِنْسِ دَعْوَاهُ , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ , وَلَا فَرْقَ , وَكِلَاهُمَا مُدَّعٍ مَا لَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ ; فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إلَيْهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نَسْخِ الْمَنْسُوخِ مِنْهَا , أَوْ نَجْمَعَ الْأُمَّةَ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ شَيْءٍ مِنْهَا , وَهَذَا الثَّانِي مُحَالٌ قَطْعًا , فَإِنَّ الْأُمَّةَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَمْ تُجْمِعْ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ , إلَّا سُنَّةً ظَاهِرَةَ النَّسْخِ مَعْلُومٌ لِلْأُمَّةِ نَاسِخُهَا , وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ دُونَ الْمَنْسُوخِ , وَأَمَّا أَنْ تَتْرُكَ السُّنَنُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا , كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ .
[ خَالَفَ الْمُقَلِّدُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّتِهِمْ ](2/146)
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ : أَنَّ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ قَدْ ارْتَكَبَتْ مُخَالِفَةَ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَحْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ , وَسَلَكُوا ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ , أَمَّا أَمْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ , وَالْمُقَلِّدُونَ قَالُوا : إنَّمَا نَرُدُّهُ إلَى مَنْ قَلَّدْنَاهُ ; وَأَمَّا أَمْرُ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْأَخْذِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , وَأَمَرَ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا , وَيُعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ , وَقَالَ الْمُقَلِّدُونَ : بَلْ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدْنَاهُ , وَنُقَدِّمُهُ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ , وَأَمَّا هَدْيُ الصَّحَابَةِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ شَخْصٌ وَاحِدٌ يُقَلِّدُ رَجُلًا وَاحِدًا فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ , وَيُخَالِفُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ بِحَيْثُ لَا يَرُدُّ مِنْ أَقْوَالِهِ شَيْئًا , وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ شَيْئًا , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ وَأَقْبَحِ الْحَوَادِثِ ; وَأَمَّا مُخَالِفَتُهُمْ لِأَئِمَّتِهِمْ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَحَذَّرُوا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْهُمْ .(2/147)
وَأَمَّا سُلُوكُهُمْ ضِدَّ طَرِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّ طَرِيقَهُمْ طَلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَضَبْطُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا وَعَرْضُهَا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقْوَالِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ , فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبِلُوهُ , وَدَانُوا اللَّهَ بِهِ , وَقَضَوْا بِهِ , وَأَفْتَوْا بِهِ , وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ , وَرَدُّوهُ , وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ لَا وَاجِبَةَ الِاتِّبَاعِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمُوا بِهَا أَحَدًا , وَلَا يَقُولُوا : إنَّهَا الْحَقُّ دُونَ مَا خَالَفَهَا , هَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ سَلَفًا وَخَلَفًا , وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْخَلَفُ فَعَكَسُوا الطَّرِيقَ , وَقَلَبُوا أَوْضَاعَ الدِّينِ , فَزَيَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ , فَعَرَضُوهَا عَلَى أَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ , فَمَا وَافَقَهَا مِنْهَا قَالُوا لَنَا وَانْقَادُوا لَهُ مُذْعِنِينَ , وَمَا خَالَفَ أَقْوَالَ مَتْبُوعِهِمْ مِنْهَا قَالُوا : احْتَجَّ الْخَصْمُ بِكَذَا وَكَذَا , وَلَمْ يَقْبَلُوهُ , وَلَمْ يَدِينُوا بِهِ .(2/148)
وَاحْتَالَ فُضَلَاؤُهُمْ فِي رَدِّهَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ , وَتَطَلَّبُوا لَهَا وُجُوهَ الْحِيَلِ الَّتِي تَرُدُّهَا , حَتَّى إذَا كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَذَاهِبِهِمْ وَكَانَتْ تِلْكَ الْوُجُوهُ بِعَيْنِهَا قَائِمَةً فِيهَا شَنَّعُوا عَلَى مُنَازِعِهِمْ , وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ رَدَّهَا بِتِلْكَ الْوُجُوهِ بِعَيْنِهَا , وَقَالُوا : لَا تُرَدُّ النُّصُوصُ بِمِثْلِ هَذَا , وَمَنْ لَهُ هِمَّةٌ تَسْمُو إلَى اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ وَنَصْرِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَيْنَ كَانَ وَمَعَ مَنْ كَانَ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَسْلَكِ الْوَخِيمِ وَالْخُلُقِ الذَّمِيمِ . [ ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّقْلِيدِ بِأَعْيَانِهِمْ , بِخِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يُفَرِّقُوا دِينَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شِيَعًا , بَلْ شِيعَةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ , وَإِيثَارِهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ , وَتَقْدِيمِهِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ , فَهُمْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ اتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهُمْ وَطَرِيقُهُمْ ; فَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ , وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ , وَالْمُقَلَّدُونَ بِالْعَكْسِ : مَقَاصِدُهُمْ شَتَّى , وَطُرُقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ , فَلَيْسُوا مَعَ الْأَئِمَّةِ فِي الْقَصْدِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ . [(2/149)
ذَمَّ اللَّهُ الَّذِينَ تُقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ زُبُرًا ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الَّذِينَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ , وَالزُّبُرُ : الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ الَّتِي رَغِبُوا بِهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ , فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقْطَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فَأَمَرَ تَعَالَى الرُّسُلَ بِمَا أَمَرَ بِهِ أُمَمَهُمْ : أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ , وَأَنْ يَعْمَلُوا صَالِحًا , وَأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ , وَأَنْ يُطِيعُوا أَمْرَهُ وَحْدَهُ , وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ ; فَمَضَتْ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ , مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ , قَابِلِينَ لِرَحْمَتِهِ , حَتَّى نَشَأَتْ خُلُوفٌ قَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ مِمَّا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ , فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَزَّلَهَا عَلَى الْوَاقِعِ تَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةَ الْحَالِ , وَعَلِمَ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .(2/150)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفَلَاحِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ , وَالدَّاعُونَ إلَى الْخَيْرِ هُمْ الدَّاعُونَ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , لَا الدَّاعُونَ إلَى رَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ . [ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ التَّحَاكُمِ إلَيْهِ ] الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْرَضَ وَرَضِيَ بِالتَّحَاكُمِ إلَى غَيْرِهِ , وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ التَّقْلِيدِ , قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْت الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْك صُدُودًا } فَكُلُّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ الدَّاعِي لَهُ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ ; فَمُسْتَكْثِرٌ وَمُسْتَقِلٌّ . [(2/151)
الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنْ يُقَالَ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ : " دِينُ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي الْقَوْلِ وَضِدِّهِ , فَدِينُهُ هُوَ الْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُتَضَادَّةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا , كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ " ؟ فَإِنْ قَالُوا : " بَلَى , هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمُتَضَادَّةُ الْمُتَعَارِضَةُ الَّتِي يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا كُلُّهَا دِينُ اللَّهِ " خَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ أَئِمَّتِهِمْ ; فَإِنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ , كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ , وَخَرَجُوا عَنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ , وَجَعَلُوا دِينَ اللَّهِ تَابِعًا لِآرَاءِ الرِّجَالِ . وَإِنْ قَالُوا : " الصَّوَابُ الَّذِي لَا صَوَابَ غَيْرُهُ أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ , وَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ , كَمَا أَنَّ نَبِيَّهُ وَاحِدٌ وَقِبْلَتَهُ وَاحِدَةٌ , فَمَنْ وَافَقَهُ فَهُوَ الْمُصِيبُ وَلَهُ أَجْرَانِ , وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ لَا عَلَى خَطَئِهِ " . قِيلَ لَهُمْ : فَالْوَاجِبُ إذَا طَلَبَ الْحَقَّ , وَبَذَلَ الِاجْتِهَادَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى الْخَلْقِ تَقْوَاهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ . وَتَقْوَاهُ : فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ مَا أُمِرَ بِهِ لِيَفْعَلَهُ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ لِيَجْتَنِبَهُ وَمَا أُبِيحَ لَهُ لِيَأْتِيَهُ .(2/152)
وَمَعْرِفَةُ هَذَا لَا تَكُونُ إلَّا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ وَطَلَبٍ وَتَحَرٍّ لِلْحَقِّ , فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ , وَيَلْقَى اللَّهَ وَلَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ . [ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ عَامَّةٌ ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ دَعْوَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَّةٌ لِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ , وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَكَيْفِيَّاتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِضُونَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَقْوَالِ عُلَمَائِهِمْ , بَلْ لَمْ يَكُنْ لِعُلَمَائِهِمْ قَوْلٌ غَيْرُ قَوْلِهِ , وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَتَوَقَّفُ فِي قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَى مُوَافَقَةِ مُوَافِقٍ أَوْ رَأْيِ ذِي رَأْيٍ أَصْلًا , وَكَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ , وَهُوَ بِعَيْنِهِ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ لَمْ يُنْسَخْ بَعْدَ مَوْتِهِ , وَلَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ ; فَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ نَفْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
[ الْأَقْوَالُ لَا تَنْحَصِرُ وَقَائِلُوهَا غَيْرُ مَعْصُومِينَ ](2/153)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءَهُمْ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ , وَلَمْ تُضْمَنْ لَهَا الْعِصْمَةُ إلَّا إذَا اتَّفَقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا ; فَلَا يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ إلَّا حَقًّا , وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا يَنْحَصِرُ , وَلَمْ يَضْمَنْ لَنَا عِصْمَتَهُ مِنْ الْخَطَأِ , وَلَمْ يُقِمْ لَنَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْقَائِلِينَ أَوْلَى بِأَنْ نَأْخُذَ قَوْلَهُ كُلَّهُ مِنْ الْآخَرِ , بَلْ يُتْرَكُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ وَيُؤْخَذُ قَوْلُ هَذَا كُلِّهِ . هَذَا مُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ أَوْ يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَائِلِينَ رَسُولًا وَالْآخَرُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ فَالْفَرْضُ حِينَئِذٍ مَا يَعْتَمِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِمْ وَمُخَالِفَيْهِمْ . [ الْعِلْمُ يُقَالُ ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا , وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ } وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِلْمَ يَقِلُّ , فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُتُبَ الْمُقَلَّدِينَ قَدْ طَبَّقَتْ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا , وَلَمْ تَكُنْ فِي وَقْتٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ .(2/154)
وَنَحْنُ نَرَاهَا فِي كُلِّ عَامٍ فِي ازْدِيَادٍ وَكَثْرَةٍ , وَالْمُقَلِّدُونَ يَحْفَظُونَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِحُرُوفِهِ , وَشُهْرَتُهَا فِي النَّاسِ خِلَافُ الْغُرْبَةِ , بَلْ هِيَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ; فَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَكَانَ الدِّينُ كُلَّ وَقْتٍ فِي ظُهُورٍ وَزِيَادَةٍ وَالْعِلْمُ فِي شُهْرَةٍ وَظُهُورٍ , وَهُوَ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْمُقَلِّدِينَ وَأَقْوَالِهِمْ , وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ , بَلْ هُوَ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا , وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَلِّدَ زَيْدًا دُونَ عَمْرٍو , بَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا إلَى تَقْلِيدِ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ , فَإِنْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا هُوَ الْحَقَّ لَا سِوَاهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ لَهُ الِانْتِقَالَ عَنْ الْحَقِّ إلَى خِلَافِهِ , وَهَذَا مُحَالٌ . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْحَقَّ وَحْدَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ الْإِقَامَةَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ . وَإِنْ قُلْتُمْ : " الْقَوْلَانِ الْمُتَضَادَّانِ الْمُتَنَاقِضَانِ حَقٌّ " فَهُوَ أَشَدُّ إحَالَةً , وَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .(2/155)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ : بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدْته دُونَ مَنْ لَا تُقَلِّدُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ " عَرَفْته بِالدَّلِيلِ " فَلَيْسَ بِمُقَلَّدٍ , وَإِنْ قَالَ : " عَرَفْته تَقْلِيدًا لَهُ ; فَإِنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ وَدَانَ بِهِ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ وَحُسْنُ ثَنَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْحَقِّ " قِيلَ لَهُ : أَفَمَعْصُومٌ هُوَ عِنْدَك أَمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ ؟ فَإِنْ قَالَ بِعِصْمَتِهِ أَبْطَلَ , وَإِنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ قِيلَ لَهُ : فَمَا يُؤَمِّنُك أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا قَلَّدْته فِيهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : وَإِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مَأْجُورٌ , قِيلَ : أَجَلْ هُوَ مَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ , وَأَنْتَ غَيْرُ مَأْجُورٍ لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ بِمُوجِبِ الْأَجْرِ , بَلْ قَدْ فَرَّطْت فِي الِاتِّبَاعِ الْوَاجِبِ فَأَنْتَ إذًا مَأْزُورٌ . فَإِنْ قَالَ : كَيْفَ يَأْجُرُهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ وَيَمْدَحُهُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ يُعْقَلُ هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَفْتِي إنْ هُوَ قَصَّرَ وَفَرَّطَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْحَقَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَالْوَعِيدُ , وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا , وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا .(2/156)
وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ عِيَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ يَزِنُهَا بِهِ فَمَا وَافَقَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ مِنْهَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُ رَدَّهُ , فَهَذَا إلَى الذَّمِّ وَالْعِقَابِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْأَجْرِ وَالصَّوَابِ ; وَإِنْ قَالَ وَهُوَ الْوَاقِعُ : اتَّبَعَتْهُ وَقَلَّدَتْهُ وَلَا أَدْرِي أَعْلَى صَوَابٍ هُوَ أَمْ لَا , فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْقَائِلِ , وَأَنَا حَاكٍ لِأَقْوَالِهِ , قِيلَ لَهُ : فَهَلْ تَتَخَلَّصُ بِهَذَا مِنْ اللَّهِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَك عَمَّا حَكَمْت بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَأَفْتَيْتهمْ بِهِ , فَوَاَللَّهِ إنَّ لِلْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ لَمَوْقِفًا لِلسُّؤَالِ لَا يَتَخَلَّصُ فِيهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ وَأَفْتَى بِهِ , وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا فَسَيَعْلَمُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ .
[ مَا عِلَّةُ إيثَارِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ ؟ ] :(2/157)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنْ نَقُولَ : أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ فُلَانٍ ; لِأَنَّ فُلَانًا قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ " لِأَنَّ فُلَانًا قَالَهُ " جَعَلْتُمْ قَوْلَ فُلَانٍ حُجَّةً , وَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ , وَإِنْ قُلْتُمْ : " لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ " كَانَ هَذَا أَعْظَمَ وَأَقْبَحَ ; فَإِنَّهُ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْوِيلِكُمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ , وَهُوَ أَيْضًا كَذِبٌ عَلَى الْمَتْبُوعِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَقَدْ دَارَ قَوْلُكُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا جَعْلُ قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ حُجَّةً , وَإِمَّا تَقْوِيلُ الْمَعْصُومِ مَا لَمْ يَقُلْهُ , وَلَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ قُلْتُمْ : " بَلْ مِنْهُمَا بُدٌّ , وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ , وَهُوَ أَنَّا قُلْنَا كَذَا ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَّا , وَنَسْأَلَ أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ , وَنَرُدَّ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ إلَى اسْتِنْبَاطِ أُولِي الْعِلْمِ ; فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعُونَ مَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا " قِيلَ : وَهَلْ نُدَنْدِنُ إلَّا حَوْلَ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم , فَحَيَّهَلَا بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ , فَنُنَاشِدُكُمْ بِاَلَّذِي أَرْسَلَهُ إذَا جَاءَ أَمْرُهُ وَجَاءَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَتْرُكُونَ قَوْلَهُ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَضْرِبُونَ بِهِ الْحَائِطَ وَتُحَرِّمُونَ(2/158)
الْأَخْذَ بِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ الْمُتَابَعَةُ كَمَا زَعَمْتُمْ , أَمْ تَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَتُفَوِّضُونَ أَمْرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلَى اللَّهِ , وَتَقُولُونَ : هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَّا , وَلَمْ يُخَالِفْ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ ؟ فَتَجْعَلُونَ قَوْلَ الْمَتْبُوعِ مُحْكَمًا وَقَوْلَ الرَّسُولِ مُتَشَابِهًا ; فَلَوْ كُنْتُمْ قَائِلِينَ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِ الرَّسُولِ أَمَرَكُمْ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِهِ لَقَدَّمْتُمْ قَوْلَ الرَّسُولِ أَيْنَ كَانَ .(2/159)
ثُمَّ نَقُولُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ : وَأَيْنَ أَمَرَكُمْ الرَّسُولُ بِأَخْذِ قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِعَيْنِهِ , وَتَرْكِ قَوْلِ نَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَقْرَبُ إلَى الرَّسُولِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا نِسْبَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ قَطُّ ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ , وَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ نَبِيِّهِ أَنْ يَذْكُرْنَهُ بِقَوْلِهِ { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } فَهَذَا هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ , وَأَمَرَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَهُ , وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُخْبِرُوهُ بِهِ , فَإِذَا أَخْبَرُوهُ بِهِ لَمْ يَسَعْهُ غَيْرُ اتِّبَاعِهِ , وَهَذَا كَانَ شَأْنُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُقَلَّدٌ مُعَيَّنٌ يَتْبَعُونَهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ ; فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ الصَّحَابَةَ عَمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فَعَلَهُ أَوْ سَنَّهُ , لَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانُوا يَسْأَلُونَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا عَائِشَةَ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ , وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ كَانُوا يَسْأَلُونَ الصَّحَابَةَ عَنْ شَأْنِ نَبِيِّهِمْ فَقَطْ , وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ(2/160)
كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنِّي ; فَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كَانَ أَوْ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا , وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَطُّ يَسْأَلُ عَنْ رَأْيِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَذْهَبِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ وَحْدَهُ وَيُخَالِفُ لَهُ مَا سِوَاهُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَرْشَدَ الْمُسْتَفْتِينَ كَصَاحِبِ الشَّجَّةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ وَسُنَّتِهِ , فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ } فَدَعَا عَلَيْهِمْ لَمَّا أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عِلْمًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فَإِنَّ مَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَاعِلِهِ فَهُوَ حَرَامٌ , وَذَلِكَ أَحَدُ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ ; فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ , وَكَذَلِكَ سُؤَالُ أَبِي الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجَرِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّهُمْ لَمَّا اخْبَرُوهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِكْرِ الزَّانِي أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ ; فَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ .
[ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ يُقَلِّدُ أَبَا بَكْرٍ ؟ ](2/161)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُمْ : إنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لَهُ , فَجَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ اخْتَصَرُوا الْحَدِيثَ وَحَذَفُوا مِنْهُ مَا يُبْطِلُ اسْتِدْلَالَهُمْ , وَنَحْنُ نَذْكُرُهُ بِتَمَامِهِ . قَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ إنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ " أَقْضِي فِيهَا بِرَأْيِي , فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ , وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ , هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ " .(2/162)
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " إنِّي لِأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ " فَاسْتَحَى عُمَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِرَافِهِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ كَلَامُهُ كُلُّهُ صَوَابًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ الْخَطَأُ , وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ بِشَيْءٍ , وَقَدْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا , الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ خِلَافَ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ كَمَا خَالَفَهُ فِي سَبْيِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَسَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَخَالَفَهُ عُمَرُ وَبَلَغَ خِلَافُهُ إلَى أَنْ رَدَّهُنَّ حَرَائِرَ إلَى أَهْلِهِنَّ إلَّا مَنْ وَلَدَتْ لِسَيِّدِهَا مِنْهُنَّ , وَنَقَضَ حُكْمَهُ , وَمِنْ جُمْلَتِهِنَّ خَوْلَةُ الْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْمُقَلِّدِينَ بِمَتْبُوعِهِمْ ؟ , وَخَالَفَهُ فِي أَرْضِ الْعَنْوَة فَقَسَمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَوَقَفَهَا عُمَرُ , وَخَالَفَهُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي الْعَطَاءِ فَرَأَى أَبُو بَكْرٍ التَّسْوِيَةَ وَرَأَى عُمَرُ الْمُفَاضَلَةَ , وَمِنْ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ , فَقَالَ : إنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ , وَإِنْ لَمْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَخْلِفْ .(2/163)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يَعْدِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا , وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ ; فَهَكَذَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ حِينَ تَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُ غَيْرِهِ , لَا يَعْدِلُونَ بِالسُّنَّةِ شَيْئًا سِوَاهَا , لَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ صُرَاحًا , وَخِلَافُهُ لَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ مَعْلُومٌ أَيْضًا . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُسْتَرَاحٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ هُوَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِمَّنْ لَا يُدَانِي الصَّحَابَةَ وَلَا يُقَارِبُهُمْ , فَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمْتُمْ لَكُمْ أُسْوَةٌ بِعُمَرَ فَقَلِّدُوا أَبَا بَكْرٍ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ غَيْرِهِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ عِبَادِهِ يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ مَا لَا يَحْمَدُونَكُمْ عَلَى تَقْلِيدِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّتِهِمْ لَمْ يَسْتَحْيُوا مِمَّا اسْتَحْيَا مِنْهُ عُمَرُ ; لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَهُ - وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ ذَلِكَ - لِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ , بَلْ قَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ .(2/164)
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ الَّذِي أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْنَا شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ نَلْقَاهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ عَنْ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِهِمَا وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا قَوْلٌ وَأَطْبَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَنَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ حَرَّمَ تَقْلِيدَهُمَا وَأَوْجَبَ تَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَوْ صَحَّ تَقْلِيدُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَاحَةٌ لِمُقَلِّدِي مَنْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ بِتَقْلِيدِهِ , وَلَا جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ , وَلَا هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ كَذَلِكَ . الْخَامِسُ : أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنْ يَكُونَ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ , فَهَلْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَقْوَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ بَلْ وَلَا إلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ إلَّا إذَا وَافَقَتْ نُصُوصَ قَوْلِهِ ؟ , فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ , وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ .(2/165)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُمْ : إنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ ; فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا سَمِعَ النَّاسَ يَقُولُونَ كَلِمَةً تَكْفِي الْعَاقِلَ فَاقْتَصَرَ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ , وَاكْتَفَى بِهَا , وَالْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِهِ ; فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : جَاءَ وَفْدُ بُزَاخَةَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَ الصُّلْحَ , فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ , فَقَالُوا : هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْمُخْزِيَةُ ؟ قَالَ : نَنْزِعُ مِنْكُمْ الْحَلْقَةَ وَالْكُرَاعَ , وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا لَكُمْ , وَتَرُدُّونَ لَنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا , وَتَدُونَ لَنَا قَتْلَانَا , وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ , وَتَتْرُكُونَ أَقْوَامًا يَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ , فَعَرَضَ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ عَلَى الْقَوْمِ , فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ : قَدْ رَأَيْت رَأْيًا سَنُشِيرُ عَلَيْك : أَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت , وَمَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا فَنِعْمَ مَا ذَكَرْت , وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ أَنْ تَدُونَ قَتْلَانَا وَتَكُونُ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ فَإِنَّ قَتْلَانَا قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ أُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لَهَا دِيَاتٌ , فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ , فَهَذَا هُوَ(2/166)
الْحَدِيثُ الَّذِي فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ { قَدْ رَأَيْت رَأْيًا وَرَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ } فَأَيُّ مُسْتَرَاحٍ فِي هَذَا لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ ؟ , [ لَمْ يَكُنْ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقَلِّدُ عُمَرَ ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُمْ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ , فَخِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِعُمَرَ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفُ إيرَادُهُ , وَإِنَّمَا كَانَ يُوَافِقُهُ كَمَا يُوَافِقُ الْعَالِمُ الْعَالِمَ , وَحَتَّى لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ نَعُدُّهَا , وَكَانَ مِنْ عُمَّالِهِ وَكَانَ عُمَرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , وَأَمَّا مُخَالِفَتُهُ لَهُ فَفِي نَحْوِ مِائَةِ مَسْأَلَةٍ : مِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا , وَمِنْهَا : أَنَّهُ كَانَ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ مَاتَ , وَعُمَرُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ , وَمِنْهَا : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَام : هِيَ يَمِينٌ , وَعُمَرُ يَقُولُ : طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ , وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَرِّمُ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي أَبَدًا , وَعُمَرُ كَانَ يُتَوِّبُهُمَا وَيَنْكِحُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ , وَمِنْهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَرَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا , وَعُمَرُ يَقُولُ : لَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ , إلَى قَضَايَا كَثِيرَةٍ .(2/167)
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا لَا يَرَوْنَ تَقْلِيدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا تَقْلِيدَ عُمَرَ , وَتَقْلِيدُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَحَبُّ إلَيْهِمْ وَآثَرُ عِنْدَهُمْ , ثُمَّ كَيْفَ يُنْسَبُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ تَقْلِيدُ الرِّجَالِ وَهُوَ يَقُولُ : لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ , وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْت إلَيْهِ . قَالَ شَقِيقٌ : فَجَلَسْت فِي حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا سَمِعْت أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَكَانَ يَقُولُ : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ , وَمَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ , وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْت إلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ : كُنَّا حِينًا وَمَا نَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ . وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ : وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ بَعْدَهُ أَعْلَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْقَائِمِ , فَقَالَ أَبُو مُوسَى : لَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ إذَا مَا غِبْنَا , وَيُؤْذَنُ لَهُ إذَا مَا حُجِبْنَا .(2/168)
وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ : إنِّي بَعَثْت إلَيْكُمْ عَمَّارًا أَمِيرًا وَعَبْدَ اللَّهِ مُعَلِّمًا وَوَزِيرًا , وَهُمَا مِنْ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ , فَخُذُوا عَنْهُمَا , وَاقْتَدُوا بِهِمَا ; فَإِنِّي آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللَّه عَلَى نَفْسِي , وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَفْتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فِي " أَلْبَتَّةَ " وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ , وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا لَهُ , بَلْ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ فِيهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ ; فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الصَّحَابَةُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : اُغْدُ عَالَمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا , وَلَا تَكُونَنَّ إمَّعَةً , فَأَخْرَجَ الْإِمَّعَةَ - وَهُوَ الْمُقَلَّدُ - مِنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ , وَهُوَ كَمَا قَالَ رضي الله عنه ; فَإِنَّهُ لَا مَعَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مَعَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ , كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ . [(2/169)
لَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يُقَلِّدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ] الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُمْ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ , وَأَبُو مُوسَى كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ , وَزَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , فَجَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدَعُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ السُّنَّةِ تَقْلِيدًا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَفْعَلُهُ فِرْقَةُ التَّقْلِيدِ , بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ الْقَوْمِ رَأَى أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ السُّنَّةُ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَعُ قَوْلَ عُمَرَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ السُّنَّةُ , وَابْنُ عَبَّاسٍ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُعَارِضُ مَا بَلَغَهُ مِنْ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَيَقُولُ : يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ , أَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَتَقُولُونَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ; فَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَرَضِيَ عَنْهُ , فَوَاَللَّهِ لَوْ شَاهَدَ خَلْفَنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; قَالُوا : قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ , لِمَنْ لَا يُدَانِي الصَّحَابَةَ وَلَا قَرِيبًا مِنْ قَرِيبٍ , وَإِنَّمَا كَانُوا يَدَعُونَ أَقْوَالَهُمْ لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْقَوْلَ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ ; فَيَكُونُ الدَّلِيلُ مَعَهُمْ فَيَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ وَيَدَعُونَ أَقْوَالَهُمْ , كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِمَّا سِوَاهُ , وَهَذَا عَكْسُ طَرِيقَةِ فِرْقَةِ أَهْلِ التَّقْلِيدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , وَهَذَا هُوَ(2/170)
الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَسْرُوقٍ : مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . [ مَعْنَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ مُعَاذٍ ] الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ : قَوْلُهُمْ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَاتَّبِعُوهُ } فَعَجَبًا لِمُحْتَجٍّ بِهَذَا عَلَى تَقْلِيدِ الرِّجَالِ فِي دِينِ اللَّهِ , وَهَلْ صَارَ مَا سَنَّهُ مُعَاذٌ سُنَّةً إلَّا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " فَاتَّبِعُوهُ " كَمَا صَارَ الْأَذَانُ سُنَّةً بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقْرَارِهِ وَشَرْعِهِ , لَا بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ ؟ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ مُعَاذًا فَعَلَ فِعْلًا جَعَلَهُ اللَّهُ لَكُمْ سُنَّةً , وَإِنَّمَا صَارَ سُنَّةً لَنَا حِينَ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم , لَا لِأَنَّ مُعَاذًا فَعَلَهُ فَقَطْ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاثٍ : دُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ , وَزَلَّةُ عَالِمٍ , وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ ; فَأَمَّا الْعَالِمُ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ وَإِنْ اُفْتُتِنَ فَلَا تَقْطَعُوا مِنْهُ إيَاسَكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُفْتَتَنُ ثُمَّ يَتُوبُ , وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّ لَهُ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ أَحَدًا .(2/171)
وَمَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ , وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ فَقَدْ أَفْلَحَ وَمِنْ لَا فَلَيْسَتْ بِنَافِعَتِهِ دُنْيَاهُ , فَصَدَعَ رضي الله عنه بِالْحَقِّ , وَنَهَى عَنْ التَّقْلِيدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ , وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ , وَأَنْ لَا يُبَالِيَ بِمَنْ خَالَفَ فِيهِ , وَأَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ فِيمَا أَشْكَلَ , وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ طَرِيقَةِ الْمُقَلِّدِينَ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ ](2/172)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ , وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ ; فَجَوَابُهُ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ قِيلَ : هُمْ الْأُمَرَاءُ , وَقِيلَ : هُمْ الْعُلَمَاءُ , وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَالتَّحْقِيقُ , أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الطَّائِفَتَيْنِ , وَطَاعَتُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ , لَكِنْ خَفِيَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ إذَا أَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَكَانَ الْعُلَمَاءُ مُبَلِّغِينَ لِأَمْرِ الرَّسُولِ , وَالْأُمَرَاءُ مُنَفِّذِينَ لَهُ , فَحِينَئِذٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَأَيْنَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيثَارُ التَّقْلِيدِ عَلَيْهَا ؟ , الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ , وَأَعْظَمِهَا إبْطَالًا لِلتَّقْلِيدِ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا : الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ , الثَّانِي : طَاعَةُ رَسُولِهِ , وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهَا لِأَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُمْكِنْهُ تَحْقِيقُ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَلْبَتَّةَ ; الثَّالِثُ : أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ(2/173)
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَذَكَرْنَاهُ نَصًّا عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَحِينَئِذٍ فَطَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بَطَلَ التَّقْلِيدُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بَطَلَ الِاسْتِدْلَال , الرَّابِعُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ , وَالْمَنْعِ مِنْ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى رَأْيٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ تَقْلِيدٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا هِيَ طَاعَتُهُمْ الْمُخْتَصَّةُ بِهِمْ ; إذْ لَوْ كَانُوا إنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا لَهُمْ ؟ قِيلَ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ , وَطَاعَتُهُمْ إنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لَا اسْتِقْلَالٌ , وَلِهَذَا قَرَنَهَا بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَلَمْ يُعِدْ الْعَامِلَ , وَأَفْرَدَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَأَعَادَ الْعَامِلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يُطَاعُ تَبَعًا كَمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ تَبَعًا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ اسْتِقْلَالًا , سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ . [(2/174)
الثَّنَاءُ عَلَى التَّابِعِينَ , وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ تَابِعِينَ ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَثْنَى عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَتَقْلِيدُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُهُمْ بِإِحْسَانٍ , فَمَا أَصْدَقَ الْمُقَدَّمَةَ الْأُولَى , وَمَا أَكْذَبَ الثَّانِيَةَ , بَلْ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ رَدًّا عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ ; فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ , وَقَدْ نَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ إمَّعَةً , وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ , وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ وَعَافَاهُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ يَرُدُّ النُّصُوصَ لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْلِيدُهَا ; فَهَذَا ضِدُّ مُتَابَعَتِهِمْ , وَهُوَ نَفْسُ مُخَالَفَتِهِمْ ; فَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ حَقًّا هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَعْقُولًا وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ , وَلَا يَجْعَلُونَ مَذْهَبَ أَحَدٍ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ ; فَهَؤُلَاءِ أَتْبَاعُهُمْ حَقًّا , جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ . [(2/175)
مَنْ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ لَوْ كَانُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ هُمْ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَكَانَ سَادَاتُ الْعُلَمَاءِ الدَّائِرُونَ مَعَ الْحُجَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , وَالْجُهَّالُ أَسْعَدُ بِأَتْبَاعِهِمْ مِنْهُمْ , وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ , بَلْ مَنْ خَالَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِلْحُجَّةِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لَهُ , دُونَ مَنْ أَخَذَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ آرَاءَهُمْ مَنْزِلَةَ النُّصُوصِ , بَلْ يَتْرُكُونَ لَهَا النُّصُوصَ ; فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , وَإِنَّمَا أَتْبَاعُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ .(2/176)
وَلَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَدْرِيسِهِ بِمَدْرَسَةِ ابْنِ الْحَنْبَلِيِّ وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْحَنَابِلَةِ , وَالْمُجْتَهِدُ لَيْسَ مِنْهُمْ , فَقَالَ : إنَّمَا أَتَنَاوَلُ مَا أَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا عَلَى مَعْرِفَتِي بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ , لَا عَلَى تَقْلِيدِي لَهُ , وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ دُونَ أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَهُمْ , فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ ابْنُ وَهْبٍ وَطَبَقَتُهُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ الْحُجَّةَ وَيَنْقَادُ لِلدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ , وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ , وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَتْبَعُ لَهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ الْمَحْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ , وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْعِلْمِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . [ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُهُمْ : يَكْفِي فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الْجَزَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا .(2/177)
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُفْرِحٍ حَدَّثَهُمْ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ قَالَ : قَالَ لَنَا الْبَزَّارُ : وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ : فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ تَرْكَ تَقْلِيدِ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَقَلَّدْتُمْ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ ; فَكَانَ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ آثَرُ عِنْدَكُمْ مِنْ تَقْلِيدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ؟ فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ خَالَفْتُمُوهُ صَرِيحًا , وَاسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِوَجْهٍ .(2/178)
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ الْجَدَّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْهُمْ وَمَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِهِ مَعًا , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : الْحَرَامُ يَمِينٌ , وَمَنْ قَالَ : هُوَ طَلَاقٌ , وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَمَنْ أَبَاحَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكْلَ الْبَرَدِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : تَعْتَدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ , وَمَنْ قَالَ : بِوَضْعِ الْحَمْلِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ مِنْ الْإِكْسَالِ وَتَقْلِيدَ مَنْ أَسْقَطَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَنْ أَسْقَطَهُمْ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى التَّحْرِيمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ مَنَعَ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ وَمَنْ أَوْجَبَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَاحِدًا وَمَنْ رَآهُ ثَلَاثًا , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهَا , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى النَّقْضَ بِمَسِّ الذَّكَرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ وَقَفَ الْمُولِي عِنْدَ الْأَجَلِ وَمَنْ لَمْ يَقِفْهُ , وَأَضْعَافَ أَضْعَافَ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنْ سَوَّغْتُمْ هَذَا فَلَا(2/179)
تَحْتَجُّوا لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ وَمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ , بَلْ اجْعَلُوا الرَّجُلَ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِأَيِّ قَوْلٍ شَاءَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ , وَلَا تُنْكِرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَكُمْ وَاتَّبَعَ قَوْلَ أَحَدِهِمْ , وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوهُ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ , وَمُخَالِفٍ لَهُ , وَقَائِلٍ بِضِدِّ مُقْتَضَاهُ , وَهَذَا مِمَّا لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ . الرَّابِعُ : أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَالْقَبُولُ مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا إلَيْهِمَا مِنْهُمْ ; فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ التَّقْلِيدَ , وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ وَتَحْكِيمَ الدَّلِيلِ , كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ رضي الله عنهم , وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . [ الصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاسْتِنَانِ بِهِمْ ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُكُمْ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا مِنْكُمْ فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ , أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ , فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوهٍ : فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالْأَحْيَاءِ , وَأَنْتُمْ تُقَلِّدُونَ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ . الثَّانِي : أَنَّهُ عَيَّنَ الْمُسْتَنَّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَبَرُّ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُهُمْ , وَهُمْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم , وَأَنْتُمْ - مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ - لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَهُمْ وَلَا الِاسْتِنَانَ بِهِمْ , وَإِنَّمَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ بِكَثِيرٍ .(2/180)
الثَّالِثُ : أَنَّ الِاسْتِنَانَ بِهِمْ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ , وَهُوَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمُقْتَدِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ , وَيَفْعَلَ كَمَا فَعَلُوا , وَهَذَا يُبْطِلُ قَبُولَ قَوْلِ أَحَدٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ . الرَّابِعُ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ صَحَّ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إمَّعَةً لَا بَصِيرَةَ لَهُ ; فَعَلِمَ أَنَّ الِاسْتِنَانَ عِنْدَهُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُكُمْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُهْدِيَيْنِ مِنْ بَعْدِي } وَقَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ فِي بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ خِلَافُ سُنَّتِهِمْ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ السُّنَّةَ إذَا ظَهَرَتْ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهَا قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ , وَطَرِيقَةُ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ خِلَافُ ذَلِكَ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ سُنَّتَهُمْ بِسُنَّتِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ , وَالْأَخْذُ بِسُنَّتِهِمْ لَيْسَ تَقْلِيدًا لَهُمْ , بَلْ اتِّبَاعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَذَانِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ .(2/181)
وَالْأَخْذُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَ الْمَسْبُوقَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمُعَاذٍ , بَلْ اتِّبَاعًا لَمَّا أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ بِذَلِكَ , فَأَيْنَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ; فَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْأَخْذَ بِسُنَّتِهِمْ وَلَا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاجِبًا , وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ عِنْدَكُمْ حُجَّةً , وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِكُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ , وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ , فَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُكُمْ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ النَّاسِ خِلَافًا لَهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ : أَنَّ الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , فَإِنَّهُ أَمَرَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ , وَأَمَرْتُمْ أَنْتُمْ بِرَأْيِ فُلَانٍ وَمَذْهَبِ فُلَانٍ . الثَّانِي : أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي تُرِكَ لَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيُعْرَضُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مِعْيَارًا عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي بَرَّأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرُونَ الَّتِي فَضَلَّهَا وَخَيَّرَهَا عَلَى غَيْرِهَا .(2/182)
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ أَحَدُهُمْ لِلْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ : لَيْسَتْ سُنَّتُهُمْ حُجَّةً , وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهَا ؟ .
[ أَخْبَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ اخْتِلَافُ كَثِيرٌ ](2/183)
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَهَذَا ذَمٌّ لِلْمُخْتَلِفِينَ , وَتَحْذِيرٌ مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ , وَإِنَّمَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ , وَهُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا الدِّينَ وَصَيَّرُوا أَهْلَهُ شِيَعًا , كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْصُرُ مَتْبُوعَهَا , وَتَدْعُو إلَيْهِ , وَتَذُمُّ مَنْ خَالَفَهَا , وَلَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ , يَدْأَبُونَ وَيَكْدَحُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ , وَيَقُولُونَ : كُتُبُهُمْ , وَكُتُبُنَا وَأَئِمَّتُهُمْ وَأَئِمَّتُنَا , وَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُنَا .(2/184)
هَذَا وَالنَّبِيُّ وَاحِدٌ وَالْقُرْآنُ وَاحِدٌ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ ; فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَنْقَادُوا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ , وَأَنْ لَا يُطِيعُوا إلَّا الرَّسُولَ , وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ أَقْوَالُهُ كَنُصُوصِهِ , وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ; فَلَوْ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَانْقَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمَنْ دَعَاهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحَاكَمُوا كُلُّهُمْ إلَى السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ لَقَلَّ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ لَمْ يَعْدَمْ مِنْ الْأَرْضِ ; وَلِهَذَا تَجِدُ أَقَلَّ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ; فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا وَأَقَلَّ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ لِمَا بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , وَكُلَّمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ عَنْ الْحَدِيثِ أَبْعَدَ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ , فَإِنَّ مَنْ رَدَّ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ وَجْهُ الصَّوَابِ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَذْهَبُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } .
[ أَمَرَ عُمَرُ شُرَيْحًا بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ ](2/185)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ إنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ : " أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ " فَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْحُكْمَ بِالْكِتَابِ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجَدَهُ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهَا , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ قَضَى بِمَا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ . وَنَحْنُ نُنَاشِدُ اللَّهَ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ : هَلْ هُمْ كَذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ حَدَّثَ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يُنَفِّذُهُ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخَذَهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي السُّنَّةِ أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَفْتَى بِهِ الصَّحَابَةُ ؟ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَأْخُذُونَ حُكْمَهَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ , وَإِنْ اسْتَبَانَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ , وَلَمْ يَأْخُذُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ ; فَكِتَابُ عُمَرَ مِنْ أَبْطَلْ الْأَشْيَاءِ وَأَكْسَرِهَا لِقَوْلِهِمْ , وَهَذَا كَانَ سَيْرَ السَّلَفِ الْمُسْتَقِيمَ وَهَدْيَهُمْ الْقَوِيمَ . [(2/186)
طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ ] فَلَمَّا انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَى الْمُتَأَخِّرِينَ سَارُوا عَكْسَ هَذَا السَّيْرِ , وَقَالُوا : إذَا نَزَلَتْ النَّازِلَةُ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا : هَلْ فِيهَا اخْتِلَافٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا اخْتِلَافٌ لَمْ يَنْظُرْ فِي كِتَابٍ وَلَا فِي سُنَّةٍ , بَلْ يُفْتِي وَيَقْضِي فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ , وَإِنْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ اجْتَهَدَ فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إلَى الدَّلِيلِ فَأَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ . وَهَذَا خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَكِتَابُ عُمَرَ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ . وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ مَأْمُورٌ , فَإِنْ عِلْمَ الْمُجْتَهِدُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَسْهَلُ عَلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنْ عِلْمِهِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا عَلَى الْحُكْمِ .(2/187)
وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فَهُوَ أَصْعُبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ إلَّا فِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ , فَكَيْفَ يُحِيلُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا لَا وُصُولَ لَنَا إلَيْهِ وَيُتْرَكُ الْحَوَالَةَ عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ اللَّذَيْنِ هَدَانَا بِهِمَا , وَيَسَّرَهُمَا لَنَا , وَجَعَلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِمَا طَرِيقًا سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ مِنْ قُرْبٍ ؟ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ فَلَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ , وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنِّزَاعِ عِلْمًا بِعَدَمِهِ , فَكَيْفَ يُقَدِّمُ عَدَمَ الْعِلْمِ عَلَى أَصْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِ ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إلَى أَمْرٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَوْهُومًا , وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ شَكًّا مُتَسَاوِيًا أَوْ رَاجِحًا ؟ ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ : انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ ؟ فَمَا لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُمْ فَلِمَنْ نَشَأَ فِي زَمَنِهِمْ أَنْ يُخَالِفَهُمْ , فَصَاحِبُ هَذَا السُّلُوكِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ انْقَرَضَ وَلَمْ يَنْشَأْ فِيهِ مُخَالِفٌ لِأَهْلِهِ ؟ وَهَلْ أَحَالَ اللَّهُ الْأُمَّةَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ وَلَا اطِّلَاعَ لِأَفْرَادِهِمْ عَلَيْهِ ؟ وَتَرْكِ إحَالَتِهِمْ عَلَى مَا هُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْهُ , وَهَذَا مِنْ أَمْحَلْ الْمُحَالِ , وَحِينَ نَشَأَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ(2/188)
تَوَلَّدَ عَنْهَا مُعَارَضَةُ النُّصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ الْمَجْهُولِ , وَانْفَتَحَ بَابُ دَعْوَاهُ , وَصَارَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ : هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ , وَعَابُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهُ , وَكَذَّبُوا مَنْ ادَّعَاهُ ; فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ , لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا , هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ , وَلَكِنْ يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا , أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ : كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ : " أَجْمَعُوا ؟ " إذَا سَمِعْتهمْ يَقُولُونَ : " أَجْمَعُوا " فَاتَّهِمْهُمْ , لَوْ قَالَ : " إنِّي لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا " كَانَ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : هَذَا كَذِبٌ , مَا عِلْمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ : " مَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا " فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ : إجْمَاعُ النَّاسِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ , لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا . [ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَدِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ] وَلَمْ يَزُلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَقْدِيمِ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ , وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَجَعْلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ , قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْحُجَّةُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّفَاقُ الْأَئِمَّةُ .(2/189)
وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ , الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ , ثُمَّ الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ , الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ : فَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , الرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ , وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ ; فَقَدَّمَ النَّظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ , ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْإِجْمَاعِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً , وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ .(2/190)
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ : الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ , وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ , وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ , فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ , فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ , ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَّامٍ انْتَهَى . فَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ , جَعَلَ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّيَمُّمِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ; فَعَدَلَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُقَلِّدُونَ إلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَاءُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ التَّيَمُّمِ بِكَثِيرٍ .(2/191)
ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ فِرْقَةٌ هُمْ أَعْدَاءُ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ فَقَالُوا : إذَا نَزَلَتْ بِالْمُفْتِي أَوْ الْحَاكِمِ نَازِلَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ بَلْ إلَى مَا قَالَهُ مُقَلَّدُهُ وَمَتْبُوعُهُ وَمَنْ جَعَلَهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ; فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ أَفْتَى بِهِ وَحَكَمَ بِهِ , وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَلَا يَقْضِيَ بِهِ , وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَرَّضَ لِعَزْلِهِ عَنْ مَنْصِبِ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ , وَاسْتَفْتَى لَهُ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ وَالْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُنْتَسَبُ إلَى مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ يُقَلِّدُهُ دُونَ غَيْرِهِ , ثُمَّ يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ , هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِيهِ أَمْ لَا ؟ فَيُنْغِضُ الْمُقَلِّدُونَ رُءُوسَهُمْ , وَيَقُولُونَ لَهُ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ , وَيَقْدَحُ فِيهِ .(2/192)
وَلَعَلَّ الْقَوْلَ الَّذِي عَدَلَ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَمْثَالِهِمْ ; فَيُجِيبُ هَذَا الَّذِي انْتَصَبَ لِلتَّوْقِيعِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَقْوَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ , وَإِنْ كَانَ مَعَ أَقْوَالِهِمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ جِنَايَاتِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى الدِّينِ , وَلَوْ أَنَّهُمْ لَزِمُوا حَدَّهُمْ وَمَرْتَبَتَهُمْ وَأَخْبَرُوا إخْبَارًا مُجَرَّدًا عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ السَّوَادِ فِي الْبَيَاضِ مِنْ أَقْوَالٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصَحِيحِهَا مِنْ بَاطِلِهَا لَكَانَ لَهُمْ عُذْرٌ مَا عِنْدَ اللَّهِ , وَلَكِنْ هَذَا مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ , وَهَذِهِ مُعَادَاتُهُمْ لِأَهْلِهِ وَلِلْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . [ هَلْ قَلَّدَ الصَّحَابَةُ عُمَرَ ؟ ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " مَنَعَ عُمَرُ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ تَقْلِيدًا لَهُ , بَلْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ : إنِّي رَأَيْت ذَلِكَ تَقْلِيدًا لِعُمَرَ .(2/193)
الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ كُلُّهُمْ فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ يُخَالِفُهُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ , وَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ فِي الْإِلْزَامِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ , وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ فَالْحَاكِمُ هُوَ الْحُجَّةُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ فِي اتِّبَاعِ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ لَوْ فُرِضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَا يُسَوِّغُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِكَثِيرٍ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَتَرْكِ قَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَمَنْ هُوَ فَوْقَهُ وَأَعْلَمُ مِنْهُ , فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ الِاسْتِدْلَالِ , وَهُوَ تَعَلُّقٌ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فَقَلِّدُوا عُمَرَ وَاتْرُكُوا تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ , فَأَمَّا وَأَنْتُمْ تُصَرِّحُونَ بِأَنَّ عُمَرَ لَا يُقَلَّدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ يُقَلَّدُونَ فَلَا يُمْكِنُكُمْ الِاسْتِدْلَال بِمَا أَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ , فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا لَا يَقُولُ بِهِ ؟ .(2/194)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا احْتَلَمَ : خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك , فَقَالَ : لَوْ فَعَلْت صَارَتْ سُنَّةً " فَأَيْنَ فِي هَذَا مِنْ الْإِذْنِ مِنْ عُمَرَ فِي تَقْلِيدِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؟ وَغَايَةُ هَذَا أَنَّهُ تَرَكَهُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ يَرَاهُ , وَيَفْعَلَ ذَلِكَ , وَيَقُولَ : لَوْلَا أَنَّ هَذَا سُنَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فَعَلَهُ عُمَرُ ; فَهَذَا هُوَ الَّذِي خَشِيَهُ عُمَرُ , وَالنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِعُلَمَائِهِمْ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا , فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ تَفْصِيلٌ . [(2/195)
مَا اسْتَبَانَ فَاعْمَلْ بِهِ وَمَا اشْتَبَهَ فَكِلْهُ لِعَالِمِهِ ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " قَدْ قَالَ أُبَيٌّ : مَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ " فَهَذَا حَقٌّ , وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ سِوَى الرَّسُولِ ; فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ , وَكُلُّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكِلَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ صَارَ عَالِمًا مِثْلُهُ , وَإِلَّا وَكَّلَهُ إلَيْهِ , وَلَمْ يَتَكَلَّفْ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ; فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ , وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمًا ; فَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَقِّ فَوَكَلَهُ إلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَقَدْ أَصَابَ , فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَاِتِّخَاذِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِعْيَارًا عَلَى ذَلِكَ وَتَرْكِ النُّصُوصِ لِقَوْلِهِ وَعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَقَبُولِ كُلِّ مَا أَفْتَى بِهِ وَرَدِّ كُلِّ مَا خَالَفَهُ ؟ وَهَذَا الْأَثَرُ نَفْسُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ , فَإِنَّ أَوَّلَهُ : " مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ , وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ " وَنَحْنُ نُنَاشِدْكُمْ اللَّهَ إذَا اسْتَبَانَتْ لَكُمْ السُّنَّةُ هَلْ تَتْرُكُونَ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ لَهَا وَتَعْمَلُونَ بِهَا وَتُفْتُونَ أَوْ تَقْضُونَ بِمُوجِبِهَا , أَمْ تَتْرُكُونَهَا وَتَعْدِلُونَ عَنْهَا إلَى قَوْلِهِ وَتَقُولُونَ : هُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَّا ؟ فَأَبِيَ رضي الله(2/196)
عنه مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ , وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلتَّقْلِيدِ قَطْعًا , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . ثُمَّ نَقُولُ : هَلْ وَكَلْتُمْ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَى عَالِمِهَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; إذْ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا أَمْ تَرَكْتُمْ أَقْوَالَهُمْ وَعَدَلْتُمْ عَنْهَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِمَّنْ يُوَكَّلُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَالصَّحَابَةُ أَحَقُّ أَنْ يُوَكَّلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ .
[ فَتْوَى الصَّحَابَةِ وَالرَّسُولُ حَيٌّ تَبْلِيغٌ عَنْهُ ](2/197)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْ الْمُسْتَفْتِينَ لَهُمْ " وَجَوَابُهُ أَنَّ فَتْوَاهُمْ إنَّمَا كَانَتْ تَبْلِيغًا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِينَ فَقَطْ , لَمْ تَكُنْ فَتْوَاهُمْ تَقْلِيدًا لِرَأْيِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ خَالَفَتْ النُّصُوصَ ; فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَ فِي فَتْوَاهُمْ , وَلَا يُفْتُونَ بِغَيْرِ النُّصُوصِ , وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفْتُونَ لَهُمْ يَعْتَمِدُونَ إلَّا عَلَى مَا يَبْلُغُونَهُمْ إيَّاهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ فَيَقُولُونَ : أَمَرَ بِكَذَا , وَفَعَلَ كَذَا , وَنَهَى عَنْ كَذَا , هَكَذَا كَانَتْ فَتْوَاهُمْ ; فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ كَمَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْتَفْتِينَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ وَعَدَمِهَا , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ وَأَنَّ مُسْتَفْتِيَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا إلَّا بِمَا عَلِمُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ وَسَمِعُوهُ مِنْهُ , هَؤُلَاءِ بِوَاسِطَةٍ وَهَؤُلَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ قَوْلَ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يُحَلِّلُ مَا حَلَّلَهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ وَيَسْتَبِيحُ مَا أَبَاحَهُ , وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ , كَمَا أَنْكَرَ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ وَكَذَّبَهُ , وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِرَجْمِ الزَّانِي الْبِكْرِ , وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاغْتِسَالِ الْجَرِيحِ حَتَّى مَاتَ ,(2/198)
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَمَنْ يُفْتِي بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ , وَأَخْبَرَ أَنَّ إثْمَ الْمُسْتَفْتِي عَلَيْهِ , فَإِفْتَاءُ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : كَانَ يَبْلُغُهُ وَيُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ , فَهُوَ حُجَّةٌ بِإِقْرَارِهِ لَا بِمُجَرَّدِ إفْتَائِهِمْ , الثَّانِي : مَا كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ , فَهُمْ فِيهِ رُوَاةٌ لَا مُقَلِّدُونَ وَلَا مُقَلَّدُونَ .
[ الْمُرَادُ مِنْ إيجَابِ اللَّهِ قَبُولَ إنْذَارِ مَنْ نَفَرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ](2/199)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ } فَأَوْجَبَ قَبُولَ نِذَارَتِهِمْ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ , فَأَيْنَ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِفِرْقَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى تَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى الْوَحْيِ ؟ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَوَّعَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَقِيَامَهُمْ بِأَمْرِهِ إلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَفِيرُ الْجِهَادِ , وَالثَّانِي : التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ , وَجَعَلَ قِيَامَ الدِّينِ بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ , وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ ; فَالنَّافِرُونَ يُجَاهِدُونَ عَنْ الْقَاعِدِينَ , وَالْقَاعِدُونَ يَحْفَظُونَ الْعِلْمَ لِلنَّافِرِينَ , فَإِذَا رَجَعُوا مِنْ نَفِيرِهِمْ اسْتَدْرَكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِإِخْبَارِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهُنَا لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ ; أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَعْنَى " فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ الْقَاعِدَةَ " فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ , وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ , وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى قَوْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ .(2/200)
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ تُجَاهِدُ لِتَتَفَقَّهَ الْقَاعِدَةُ وَتُنْذِرَ النَّافِرَةَ لِلْجِهَادِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ الْوَحْيِ " وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ , وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ النَّفِيرَ إنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي الْمُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْغَائِبِينَ عَنْهُ , وَالْمُقِيمُونَ مُرَادُونَ وَلَا بُدَّ فَإِنَّهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ , فَكَيْفَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ اللَّفْظُ ؟ وَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصًّا بِالْغَائِبِينَ عَنْهُ فَقَطْ , وَالْمَعْنَى " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ , فَلَوْلَا نَفَرَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ " وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ , وَإِخْرَاجٌ لِلَفْظِ النَّفِيرِ عَنْ مَفْهُومِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ , بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَى فَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ ; فَإِنَّ الْإِنْذَارَ إنَّمَا يَقُومُ بِالْحُجَّةِ , فَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ , كَمَا أَنَّ النَّذِيرَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ , فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ , فَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْأَسْمَاءِ , وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّقْلِيدَ بِهَذَا الْمَعْنَى , فَسَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ , وَإِنَّمَا نُنْكِرُ نَصْبَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ(2/201)
يُجْعَلُ قَوْلُهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ ; فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ مِنْهَا قُبِلَ وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يُقْبَلْ , وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , وَيُرَدُّ قَوْلُ نَظِيرِهِ أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ وَالْحُجَّةُ مَعَهُ , فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرْنَاهُ , وَكُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُعْلِنُ إنْكَارَهُ وَذَمَّهُ وَذَمَّ أَهْلِهِ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فَقَالَ : أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا - يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه - فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا " فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّافِيَةِ الَّتِي لَا مَطْمَعَ فِي دَفْعِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَدِّ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ تَقْلِيدًا , بَلْ أَضَافَ الْمَذْهَبَ إلَى الصِّدِّيقِ لِيُنَبِّهَ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِهِ , وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقَاسَ غَيْرُهُ بِهِ , لَا لِيُقْبَلَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَتَتْرُكُ الْحُجَّةُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ ; فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَتْقَى لِلَّهِ , وَحُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَلِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَقَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ : " إنَّ الصِّدِّيقَ أَنْزَلَهُ أَبًا " مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مَعًا .
[(2/202)
لَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا لَهُ ]
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُكُمْ : " وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي آفَاتِ التَّقْلِيدِ غَيْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لَكَفَى بِهِ بُطْلَانًا , وَهَلْ قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ إلَّا بِنَصِّ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَهُ حُجَّةً يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهَا كَمَا يَحْكُمُ بِالْإِقْرَارِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُقِرِّ أَيْضًا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَقَبُولُهُ تَقْلِيدٌ لَهُ , كَمَا سَمَّيْتُمْ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا , فَسَمَّوْهُ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ , وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْأَحْكَامِ ; فَالْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَوْ تَرَكْنَا تَقْلِيدَ الشَّاهِدِ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ حُكْمٌ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي بِالشَّاهِدِ وَبِالْإِقْرَارِ , وَذَلِكَ حُكْمٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا بِالتَّقْلِيدِ ; فالاستدلالة بِذَلِكَ عَلَى التَّقْلِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ , وَتَقْدِيمِ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَيْهَا , وَتَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّجُلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَاطِّرَاحِ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ جُمْلَةً , مِنْ بَابِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَانْتِكَاسِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ , وَبِالْجُمْلَةِ فَنَحْنُ إذَا قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ لَمْ نَقْبَلْهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ شَهِدَ بِهِ , بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا(2/203)
بِقَبُولِ قَوْلِهِ , فَأَنْتُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَبِلْتُمْ قَوْلَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَبِلْتُمُوهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِقَبُولِ قَوْلِهِ وَطَرْحِ قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ .
[ لَيْسَ مِنْ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِفِ وَنَحْوِهِ ](2/204)
الْوَجْهُ السِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " وَقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ , وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ " أَتَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ تَقْلِيدٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ أَوْ تَقْلِيدٌ لَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ ؟ فَإِنْ عَنَيْتُمْ الْأَوَّلَ فَهُوَ بَاطِلٌ , وَإِنْ عَنَيْتُمْ الثَّانِيَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا تَسْتَرْوِحُونَ إلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ , وَقَبُولُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ وَالشَّاهِدِ , لَا مِنْ بَابِ قَبُولِ الْفُتْيَا فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا , بَلْ لِمُجَرَّدِ إحْسَانِ الظَّنِّ بِقَائِلِهَا مَعَ تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ , فَأَيْنَ قَبُولُ الْإِخْبَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَقَارِيرِ إلَى التَّقْلِيدِ فِي الْفَتْوَى ؟ , وَالْمُخْبِرُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ إدْرَاكُهُ بِالْحَوَاسِّ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ , وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ وَالْعَدَالَةِ . وَطَرْدُ هَذَا , وَنَظِيرُهُ قَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ قَالَ أَوْ فَعَلَ , وَقَبُولُ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ , وَهَلُمَّ جَرًّا ; فَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ .(2/205)
وَأَمَّا تَقْلِيدُ الرَّجُلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ ظَنِّهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ ظَنُّهُ وَاجْتِهَادُهُ ; فَتَقْلِيدُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيدِنَا لَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَإِدْرَاكِهِ , فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَوْ يُسَوِّغُ لَنَا أَنْ نُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ نَحْكُمَ بِهِ وَنُدِينَ اللَّهَ بِهِ , وَنَقُولُ : هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهُ بَاطِلٌ , وَنَتْرُكُ لَهُ نُصُوصَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَ مَنْ عَدَاهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَقْلِيدُ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ وَدُخُولِ الْوَقْتِ لِغَيْرِهِ , وَقَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ , وَيُقَالُ : أَصْبَحْت أَصْبَحْت , وَكَذَلِكَ تَقْلِيدُ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ , وَتَقْلِيدُ مَنْ فِي الْمَطْمُورَةِ لِمَنْ يُعْلِمُهُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ وَالصَّوْمِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْلِيدُ فِي قَبُولِ التَّرْجَمَةِ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ .(2/206)
كُلُّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِقَبُولِ الْمُخْبِرِ بِهَا إذَا كَانَ عَدْلًا صَادِقًا , وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْهَدِيَّةِ وَإِدْخَالِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا , وَقَبُولِ خَبَرِ الْمَرْأَةِ ذِمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ مُسْلِمَةً فِي انْقِطَاعِ دَمِ حَيْضِهَا لِوَقْتِهِ وَجَوَازِ وَطْئِهَا وَإِنْكَاحِهَا بِذَلِكَ , وَلَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ , وَإِذَا كَانَ تَقْلِيدًا لَهَا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ لَنَا أَنْ نَقْبَلَ قَوْلَهَا وَنُقَلِّدَهَا فِيهِ , وَلَمْ يَشْرَعْ لَنَا أَنْ نَتَلَقَّى أَحْكَامَهُ عَنْ غَيْرِ رَسُولِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَتْرُكَ سُنَّةَ رَسُولِهِ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَنُقَدِّمَ قَوْلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ مِنْ الْأُمَّةِ .(2/207)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللُّحْمَانِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ , بَلْ هُوَ اكْتِفَاءً بِقَبُولِ قَوْلِ الذَّابِحِ وَالْبَائِعِ , وَهُوَ اقْتِدَاءٌ وَاتِّبَاعٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , حَتَّى لَوْ كَانَ الذَّابِحُ وَالْبَائِعُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ فَاجِرًا اكْتَفَيْنَا بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ , وَلَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ أَسْبَابِ الْحِلِّ , كَمَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نَاسًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا , فَقَالَ : سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا } فَهَلْ يَسُوغُ لَكُمْ تَقْلِيدُ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ فِي الدِّينِ كَمَا تُقَلِّدُونَهُمْ فِي الذَّبَائِحِ وَالْأَطْعِمَةِ ؟ فَدَعُوا هَذِهِ الِاحْتِجَاجَاتِ الْبَارِدَةَ وَادْخُلُوا مَعَنَا فِي الْأَدِلَّةِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ; لِنَعْقِدَ مَعَكُمْ عَقْدَ الصُّلْحِ اللَّازِمِ عَلَى تَحْكِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْهِمَا وَتَرْكِ أَقْوَالِ الرِّجَالِ لَهُمَا , وَأَنْ نَدُورَ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ , وَلَا نَتَحَيَّزُ إلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الرَّسُولِ : نَقْبَلُ قَوْلَهُ كُلَّهُ , وَنَرُدُّ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهُ كُلَّهُ , وَإِلَّا فَاشْهَدُوا بِأَنَّا أَوَّلُ مُنْكَرٍ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَرَاغِبٍ عَنْهَا دَاعٍ إلَى خِلَافِهَا , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[(2/208)
هَلْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ ؟ ]
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " لَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ ضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ وَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ شَرْعًا وَقَدَرًا " فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا : أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنَا وَرَأْفَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا بِالتَّقْلِيدِ , فَلَوْ كَلَّفَنَا بِهِ لَضَاعَتْ أُمُورُنَا , وَفَسَدَتْ مَصَالِحُنَا , لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ نَدْرِي مَنْ نُقَلِّدُ مِنْ الْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ , وَهُمْ عَدَدٌ فَوْقَ الْمِئَتَيْنِ , وَلَا يَدْرِي عَدَدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللَّهُ , فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مَلَئُوا الْأَرْضَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا , وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَبَلَغَ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ , فَلَوْ كُلِّفْنَا بِالتَّقْلِيدِ لَوَقَعْنَا فِي أَعْظَمِ الْعَنَتِ وَالْفَسَادِ , وَلَكُلِّفْنَا بِتَحْلِيلِ الشَّيْءِ وَتَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِ الشَّيْءِ وَإِسْقَاطِهِ مَعًا إنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ كُلِّ عَالِمٍ , وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ فَمَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ مِنْ الْأَحْكَامِ أَسْهَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّقْلِيدِ , وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَالِمِ الرَّاسِخِ فَضْلًا عَنْ الْمُقَلِّدِ الَّذِي هُوَ كَالْأَعْمَى .(2/209)
وَإِنْ كُلِّفْنَا بِتَقْلِيدِ الْبَعْضِ وَكَانَ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى تَشَهِّينَا وَاخْتِيَارِنَا صَارَ دِينُ اللَّهِ تَبَعًا لِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا وَشَهَوَاتِنَا , وَهُوَ عَيْنُ الْمُحَالِ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ قَوْلِهِ وَتَلَقِّي الدِّينِ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ , وَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحَيِّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ هَذَا الْمَنْصِبَ لِسِوَاهُ بَعْدَهُ أَبَدًا . الثَّانِي : أَنَّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ صَلَاحَ الْأُمُورِ لَا ضَيَاعَهَا , وَبِإِهْمَالِهِ وَتَقْلِيدِ مَنْ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ إضَاعَتُهَا وَفَسَادُهَا كَمَا الْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا مَأْمُورٌ بِأَنْ يُصَدِّقَ الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ , وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ , وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ . وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأُمَّةِ إلَّا مَا فِيهِ حِفْظُ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا وَصَلَاحُهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا , وَبِإِهْمَالِ ذَلِكَ تَضِيعُ مَصَالِحُهَا وَتَفْسُدُ أُمُورُهَا , فَمَا خَرَابُ الْعَالِمِ إلَّا بِالْجَهْلِ , وَلَا عِمَارَتُهُ إلَّا بِالْعِلْمِ , وَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ فِي بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ قَلَّ الشَّرُّ فِي أَهْلِهَا , وَإِذَا خَفَى الْعِلْمُ هُنَاكَ ظَهَرَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ . وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا .(2/210)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَلَوْلَا الْعِلْمُ كَانَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ , وَقَالَ : النَّاسُ أَحْوَجُ إلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ . الرَّابِعُ : أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا لَا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَلَا تَعْطِيلٌ لِمَعَاشِهِمْ ; فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم قَائِمِينَ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَعِمَارَةِ حُرُوثِهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِمَتَاجِرِهِمْ وَالصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ , وَهُمْ أَهْدَى الْعُلَمَاءِ الَّذِي لَا يَشُقُّ فِي الْعِلْمِ غُبَارُهُمْ .(2/211)
الْخَامِسُ : أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَمَسَائِلِ الْخَرْصِ وَالْأَلْغَازِ , وَذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْسَرُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ تَحْصِيلُهُ وَحِفْظُهُ وَفَهْمُهُ , فَإِنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : قَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ : هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ ؟ وَلَمْ يَقُلْ : فَتَضِيعُ عَلَيْهِ مَصَالِحُهُ وَتَتَعَطَّلُ مَعَايِشُهُ عَلَيْهِ , وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ , وَأُصُولُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ , وَفُرُشُهَا وَتَفَاصِيلُهَا نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ وَالْمَشَقَّةِ مُقَدَّرَاتِ الْأَذْهَانِ وَأُغْلُوطَاتِ الْمَسَائِلِ وَالْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ الَّتِي كُلُّ مَا لَهَا فِي نُمُوٍّ وَزِيَادَةٍ وَتَوْلِيدٍ , وَالدِّينُ كُلُّ مَا لَهُ فِي غُرْبَةٍ وَنُقْصَانٍ , وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِمَنْ يُهْدِي إلَيْهِ زَوْجَتَهُ لَيْلَةَ الدُّخُولِ , وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ , وَتَقْلِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ , وَتَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ , وَتَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ فِي انْقِطَاعِ دَمِهَا وَوَطْئِهَا وَتَزْوِيجِهَا " .
[ أُمُورٌ قِيلَ هِيَ تَقْلِيدٌ وَلَيْسَتْ بِهِ ](2/212)
فَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِدْلَالَكُمْ بِهَذَا مِنْ بَابِ الْمَغَالِيطِ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي شَيْءٍ , وَنَحْنُ لَمْ نَرْجِعْ إلَى أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَخْبَرُوا بِهَا , بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِهِمْ وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ ; فَإِخْبَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ , فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُسَوِّغُ التَّقْلِيدَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَنَصْبَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِيزَانًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : { أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَخْبَرَتْهُ بِأَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَتَهُ } فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ فَأَنْتُمْ لَا تُقَلِّدُونَهَا فِي ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا تَأْخُذُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ , وَتَتْرُكُونَهُ تَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ , وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ ؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ خَبَرِ الْمُخْبِرِ عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ يُخْبِرُ بِهِ , وَبِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الشَّاهِدِ ؟ وَهَلْ كَانَ مُفَارَقَةُ عُقْبَةَ لَهَا تَقْلِيدًا لِتِلْكَ الْأَمَةِ أَوْ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا ؟ فَمِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ أَنَّكُمْ لَا تَأْمُرُونَهُ بِفِرَاقِهَا , وَتَقُولُونَ : هِيَ زَوْجَتُك حَلَالٌ وَطْؤُهَا , وَأَمَّا نَحْنُ فَمِنْ حُقُوقِ الدَّلِيلِ عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ(2/213)
هَذِهِ الْوَاقِعَةُ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ سَوَاءٌ , وَلَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ تَقْلِيدًا لِأَحَدٍ .
[ الرَّدُّ عَلَى دَعْوَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا : بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ ]
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " قَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ : إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ , وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ , وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ " .(2/214)
جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّكُمْ إنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ , فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ , وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُقَلِّدَ الْإِمَّعَةَ وَمُحْقِبُ دِينَهُ , كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْإِمَّعَةُ الَّذِي يُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ , وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَعْمَى الَّذِي لَا بَصِيرَةَ لَهُ , وَيُسَمُّونَ الْمُقَلِّدِينَ أَتْبَاعَ كُلِّ نَاعِقٍ , يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ صَائِحٍ , لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يَرْكَنُوا إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ , كَمَا قَالَ فِيهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ , وَكَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ حَاطِبُ لَيْلٍ , وَنَهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ ; فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا , لَقَدْ نَصَحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُسْلِمِينَ وَدَعَا إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِمَا دُونَ قَوْلِهِ , وَأَمَرَنَا بِأَنْ نَعْرِضَ أَقْوَالَهُ عَلَيْهِمَا فَنَقْبَلُ مِنْهَا مَا وَافَقَهُمَا وَنَرُدُّ مَا خَالَفَهُمَا ; فَنَحْنُ نُنَاشِدُ الْمُقَلِّدِينَ : هَلْ حَفِظُوا فِي ذَلِكَ وَصِيَّتَهُ وَأَطَاعُوهُ أَمْ عَصَوْهُ وَخَالَفُوهُ ؟ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَكَانَ مَا رَأَى .(2/215)
الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ رَغْبَةً عَنْ التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعًا لِلْحُجَّةِ وَمُخَالَفَةً لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ , فَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَعْلَمُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَمِنْ أَبِي يُوسُفَ وَخِلَافُهُمَا لَهُ مَعْرُوفٌ , وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا . الثَّالِثُ : أَنَّكُمْ مُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ , وَقُمْتُمْ وَقَعَدْتُمْ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : قُلْته تَقْلِيدًا لِعُمَرَ , وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ , وَقُلْته تَقْلِيدًا لِعَطَاءٍ , وَاضْطَرَبْتُمْ فِي حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ الِاجْتِهَادِ أَشَدَّ الِاضْطِرَابِ , وَادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ لَمْ يُقَلِّدْ زَيْدًا فِي الْفَرَائِضِ , وَإِنَّمَا اُجْتُهِدَ فَوَافَقَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُ . وَوَقَعَ الْخَاطِرُ عَلَى الْخَاطِرِ , حَتَّى وَافَقَ اجْتِهَادُهُ فِي مَسَائِلِ الْمُعَادَّةِ حَتَّى فِي الْأَكْدَرِيَّةِ , وَجَاءَ الِاجْتِهَادُ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ , فَكَيْفَ نَصَبْتُمُوهُ مُقَلَّدًا هَهُنَا ؟ وَلَكِنَّ هَذَا التَّنَاقُضَ جَاءَ مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ , وَلَوْ اتَّبَعْتُمْ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقْتَدَيْتُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَعَلْتُمْ الْحُجَّةَ إمَامًا لَمَا تَنَاقَضْتُمْ هَذَا التَّنَاقُضَ وَأَعْطَيْتُمْ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .(2/216)
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ ; فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ صَرَّحَ بِتَقْلِيدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَطَاءٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ , وَأَنْتُمْ - مَعَ إقْرَارِكُمْ بِأُنْسِكُمْ مِنْ الْمُقَلَّدِينَ - لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ , بَلْ إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ - فَضْلًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ - تَرَكْتُمْ تَقْلِيدَ هَؤُلَاءِ وَقَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ , وَهَذَا عَيْنُ التَّنَاقُضِ ; فَخَالَفْتُمُوهُ مِنْ حَيْثُ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَلَّدْتُمُوهُ , فَإِنْ قَلَّدْتُمْ الشَّافِعِيَّ فَقَلِّدُوا مَنْ قَلَّدَهُ الشَّافِعِيُّ , فَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ قَلَّدْنَاهُمْ فِيمَا قَلَّدَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ , قِيلَ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا مِنْكُمْ لَهُمْ , بَلْ تَقْلِيدًا لَهُ , وَإِلَّا فَلَوْ جَاءَ عَنْهُمْ خِلَافُ قَوْلِهِ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ , الْخَامِسُ : أَنَّ مَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُقَلِّدُوا تَقْلِيدَكُمْ , وَلَا سَوَّغُوهُ بَتَّةً , بَلْ غَايَةُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لَمْ يَظْفَرُوا فِيهَا بِنَصٍّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا سِوَى قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَقَلَّدُوهُ , وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ ; فَإِنَّ التَّقْلِيدَ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ , وَأَمَّا مَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ إلَى التَّقْلِيدِ فَهُوَ كَمَنْ عَدَلَ إلَى الْمَيْتَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمُذَكَّى ; فَإِنَّ(2/217)
الْأَصْلَ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ , فَجَعَلْتُمْ أَنْتُمْ حَالَ الضَّرُورَةِ رَأْسَ أَمْوَالِكُمْ .
[ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْأَئِمَّةِ وَحَالِ الْمُقَلِّدِينَ ]
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ : " قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ : رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا " جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ , وَلَا تَرَوْنَ رَأْيَهُمْ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ , بَلْ تَقُولُونَ : رَأْيُ الْأَئِمَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ خَيْرٌ لَنَا مِنْ رَأْيِ الصَّحَابَةِ لَنَا , فَإِذَا جَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَجَاءَتْ الْفُتْيَا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ تَرَكْتُمْ مَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَخَذْتُمْ بِمَا أَفْتَى بِهِ الْأَئِمَّةُ , فَهَلَّا كَانَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ لَكُمْ خَيْرًا مِنْ رَأْيِ الْأَئِمَّةِ لَكُمْ لَوْ نَصَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ .(2/218)
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ تَقْلِيدِ مَنْ سِوَى الصَّحَابَةِ ; لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْفَضْلِ وَالْفِقْهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِمْ وَشَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنُزُولِ الْوَحْيِ بِلُغَتِهِمْ وَهِيَ غَضَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ تَشِبَّ , وَمُرَاجَعَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى يُجْلِيَهُ لَهُمْ ; فَمَنْ لَهُ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ بَعْدَهُمْ ؟ وَمَنْ شَارَكَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَتَّى يُقَلَّدَ كَمَا يُقَلَّدُونَ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِ وَسُقُوطِ تَقْلِيدِهِمْ أَوْ تَحْرِيمِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غُلَاتُهُمْ ؟ وَتَاللَّهِ إنَّ بَيْنَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ مِنْ الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ , فِي الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ وَذَكَرَ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ : وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتَدْرَكَ بِهِ عَلَيْهِمْ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا .(2/219)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ , وَسَبَقَ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ } , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي , فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ , ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَرَأَى قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ , فَاخْتَارَهُمْ لِصُحْبَتِهِ , وَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ , فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ , وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ " وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَبِالِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَتَيْنِ .(2/220)
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : { كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ مَسْعُودٍ بِالْعِلْمِ , وَدَعَا لِابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ يُفَقِّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ وَيَعْلَمَهُ التَّأْوِيلَ , وَضَمَّهُ إلَيْهِ مَرَّةً وَقَالَ : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ } وَتَأَوَّلَ عُمَرُ فِي الْمَنَامِ الْقَدَحَ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى رَأَى الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ وَأَوَّلَهُ بِالْعِلْمِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْمَ إنْ أَطَاعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ , وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ .(2/221)
وَقَالَ : { رَضِيت لَكُمْ مَا رَضِيَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ } , يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ , وَفَضَائِلُهُمْ وَمَنَاقِبُهُمْ وَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْفَضْلِ , أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ , فَهَلْ يَسْتَوِي تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ وَتَقْلِيدُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَا يُدَانِيهِمْ وَلَا يُقَارِبُهُمْ ؟ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ حُجَّةً , وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بَلْ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ قَلَّدْتُمُوهُ أَنَّ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ : يَجِبُ اتِّبَاعُهَا , وَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْهَا كَمَا سَيَأْتِي حِكَايَةُ أَلْفَاظِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ , وَأَبْلَغُهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ , وَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ , وَنَذْكُرُ نُصُوصَهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ , وَأَنَّ مَنْ حَكَى عَنْهُ قَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَكَى ذَلِكَ بِلَازِمِ قَوْلِهِ , لَا بِصَرِيحِهِ , وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فَقَبُولُ قَوْلِهِ حُجَّةٌ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ , وَقَبُولُ قَوْلِ مَنْ سِوَاهُ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ سَائِغًا , فَقِيَاسُ أَحَدِ الْقَائِلِينَ عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَأَبْطَلَهُ .
[(2/222)
مَا رَكَزَهُ اللَّهُ فِي فِطْرِ عِبَادِهِ مِنْ تَقْلِيدِ الْأُسْتَاذِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ ] : الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ " وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْأُسْتَاذَيْنِ فِي جَمِيعِ الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ إلَى الْآخِرَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ , وَلَكِنْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ صِحَّةَ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ , وَقَبُولَ قَوْلِ الْمَتْبُوعِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ , وَتَقْدِيمَ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَتَرْكِ الْحُجَّةِ لِقَوْلِهِ , وَتَرْكِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِقَوْلِهِ ؟ فَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي فِطْرَةِ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ ؟ ثُمَّ يُقَالُ : بَلْ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ طَلَبُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لِقَوْلِ الْمُدَّعِي , فَرَكَزَ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ قَوْلَ مَنْ لَمْ يُقِمْ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ , وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ وَالْحُجَجَ السَّاطِعَةَ وَالْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَقَطْعًا لِلْمَعْذِرَةِ , هَذَا وَهُمْ أَصْدَقُ خَلْقِهِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَبَرُّهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ , فَأَتَوْا بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ مَعَ اعْتِرَافِ أُمَمِهِمْ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ , فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ عَدَاهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ ؟ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ(2/223)
قَبُولَ قَوْلِهِمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَظُهُورِ الْآيَاتِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُمْ ; لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ , وَقَبُولِ قَوْلِ صَاحِبِهَا , وَهَذَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَبَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ الِانْقِيَادِ لِلْحُجَّةِ وَتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا , وَإِنْ خَالَفُوهُ عِنَادًا وَبَغْيًا فَلِفَوَاتِ أَغْرَاضِهِمْ بِالِانْقِيَادِ ; وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ : أَبِنْ وَجْهَ قَوْلِ الْحَقِّ فِي قَلْبِ سَامِعٍ وَدَعْهُ فَنُورُ الْحَقِّ يَسْرِي وَيُشْرِقُ سَيُؤْنِسُهُ رُشْدًا وَيَنْسَى نِفَارَهُ كَمَا نَسِيَ التَّوْثِيقَ مَنْ هُوَ مُطْلِقُ فَفِطْرَةُ اللَّهِ وَشَرْعُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ .
[ تَفَاوُتُ الِاسْتِعْدَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّقْلِيدَ فِي كُلِّ حُكْمٍ ](2/224)
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ " إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْأَبْدَانِ , فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ , إلَى آخِرِهِ " فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ , وَلَا نَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ دِقِّهِ وَجُلِّهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا مَا أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , مِنْ نَصْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَجَعْلِ فَتَاوِيهِ بِمَنْزِلَةِ نُصُوصِ الشَّارِعِ , بَلْ تَقْدِيمِهَا عَلَيْهِ وَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ , وَالِاكْتِفَاءِ بِتَقْلِيدِهِ عَنْ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ , وَأَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , وَهَذَا مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلشَّهَادَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُ الشَّاهِدُ , وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ , وَالْإِخْبَارِ عَمَّنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَتْبُوعِي هُوَ الْمُصِيبُ .(2/225)
أَوْ يَقُولُ : كِلَاهُمَا مُصِيبٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَقَدْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهُمَا , فَيَجْعَلُ أَدِلَّةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَعَارِضَةً مُتَنَاقِضَةً , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يَحْكُمُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , وَدِينُهُ تَبَعٌ لِآرَاءِ الرِّجَالِ , وَلَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ , فَهُوَ إمَّا أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الْمَسْلَكَ أَوْ يُخَطِّئَ مَنْ خَالَفَ مَتْبُوعَهُ , وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ , وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ . إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا وَنَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَتَّقُوهُ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ , وَأَصْلُ التَّقْوَى مَعْرِفَةُ مَا يُتَّقَى ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ ; فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَّقِيهِ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ , ثُمَّ يَلْتَزِمَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِيهِ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ عَدَا الرَّسُولِ ; فَكُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ , وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا لَا يُطِيقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَمْرِهِ , فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا اسْتَطَاعَهُ وَبَلَغَتْهُ قُوَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَعَذَرَهُ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ .(2/226)
فَأَخْطَأَ أَوْ قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَأَنْ يَخْتَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَجُلًا يَنْصِبُهُ مِعْيَارًا عَلَى وَحْيِهِ , وَيُعْرِضُ عَنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ وَاقْتِبَاسِهَا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ ; فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ , وَيُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ وَهَجْرِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[ فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمَأْمُومِ ](2/227)
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ : قَوْلُكُمْ " : إنَّكُمْ فِي تَقْلِيدِكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالْمَتْبُوعِ مَعَ التَّابِعِ فَالرَّكْبُ خَلْفَ الدَّلِيلِ " جَوَابُهُ إنَّا وَاَللَّهِ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ , وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْإِمَامِ وَالدَّلِيلِ وَالْمَتْبُوعِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَنْ تَأْتَمَّ بِهِ وَتَتْبَعَهُ وَتَسِيرَ خَلْفَهُ , وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِعِزَّتِهِ أَنَّ الْعِبَادَ لَوْ أَتَوْهُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَوْ اسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا خَلْفَهُ ; فَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ إمَامُ الْخَلْقِ وَدَلِيلُهُمْ وَقَائِدُهُمْ حَقًّا . وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ بَعْدَهُ إلَّا لِمَنْ دَعَا إلَيْهِ , وَدَلَّ عَلَيْهِ , وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ , وَيَأْتَمُّوا بِهِ , وَيَسِيرُوا خَلْفَهُ , وَأَنْ لَا يَنْصِبُوا لِنُفُوسِهِمْ مَتْبُوعًا وَلَا إمَامًا وَلَا دَلِيلًا غَيْرَهُ , بَلْ يَكُونُ الْعُلَمَاءُ مَعَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُصَلِّينَ , كُلُّ وَاحِدٍ يُصَلِّي طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ , وَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ مُتَعَاوِنُونَ مُتَسَاعِدُونَ بِمَنْزِلَةِ الْوَفْدِ مَعَ الدَّلِيلِ , كُلُّهُمْ يَحُجُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ , لَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي لِأَجْلِ كَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي , بَلْ هُوَ يُصَلِّي صَلَّى إمَامُهُ أَوْ لَا . بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّهُ قَالَهُ , لَا لِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَارَ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ أَيْنَ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا .(2/228)
فَاحْتِجَاجُهُمْ بِإِمَامِ الصَّلَاةِ وَدَلِيلِ الْحَاجِّ مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّبْعُونَ : أَنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ , وَأَنَّهُ وَإِمَامَهُ فِي وُجُوبِهَا سَوَاءٌ , وَأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ هُوَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ حَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا , وَأَنَّهُ هُوَ وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْفَرْضِ سَوَاءٌ , فَهُوَ لَمْ يَحُجَّ تَقْلِيدًا لِلدَّلِيلِ , وَلَمْ يُصَلِّ تَقْلِيدًا لِلْإِمَامِ . وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَلِيلًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لَمَّا هَاجَرَ الْهِجْرَةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ , وَصَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَأْمُومًا , وَالْعَالِمُ يُصَلِّي خَلْفَ مِثْلِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ , بَلْ خَلْفَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ , وَلَيْسَ مِنْ تَقْلِيدِهِ فِي شَيْءٍ .(2/229)
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ الْمَأْمُومَ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ الْإِمَامُ سَوَاءٌ , وَالرَّكْبُ يَأْتُونَ بِمِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ الدَّلِيلُ , وَلَوْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ هَذَا مُتَّبِعًا , فَالْمُتَّبِعُ لِلْأَئِمَّةِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ سَوَاءٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَتَقْدِيمِ الْحُجَّةِ وَتَحْكِيمِهَا حَيْثُ كَانَتْ وَمَعَ مَنْ كَانَتْ ; فَهَذَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ , وَأَمَّا مَعَ إعْرَاضِهِ عَنْ الْأَصْلِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ إمَامَتُهُمْ وَيَسْلُكُ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِهِمْ فَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ , وَيُقَالُ لَهُمْ { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
[ الصَّحَابَةُ كَانُوا يُبَلِّغُونَ النَّاسَ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ](2/230)
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ : " إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ , وَكَانَ النَّاسُ حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ , وَكَانُوا يُفْتُونَهُمْ , وَلَمْ يَقُولُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ : عَلَيْك أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ " جَوَابُهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِآرَائِهِمْ , وَإِنَّمَا بَلَّغُوهُمْ مَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ وَفَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ ; فَكَانَ مَا أَفْتَوْهُمْ بِهِ هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ الْحُجَّةَ , وَقَالُوا لَهُمْ : هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا , وَهُوَ عَهْدُنَا إلَيْكُمْ , فَكَانَ مَا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ هُوَ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْحُكْمُ ; فَإِنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْحُكْمُ وَهُوَ دَلِيلُ الْحُكْمِ , وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ , وَكَانَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إنَّمَا يَحْرِصُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ نَبِيُّهُمْ وَفَعَلَهُ وَأَمَرَ بِهِ , وَإِنَّمَا تُبَلِّغُهُمْ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ ; فَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَمَانٍ إنَّمَا يَحْرِصُ أَشْبَاهُ النَّاسِ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْآخَرُ فَالْآخَرُ , وَكُلَّمَا تَأَخَّرَ الرَّجُلُ أَخَذُوا كَلَامَهُ وَهَجَرُوا أَوْ كَادُوا يَهْجُرُونَ كَلَامَ مَنْ فَوْقَهُ , حَتَّى تَجِدَ أَتْبَاعَ الْأَئِمَّةِ أَشَدَّ النَّاسِ هَجْرًا لِكَلَامِهِمْ , وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ إنَّمَا يَقْضُونَ وَيُفْتُونَ بِقَوْلِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى إلَيْهِمْ وَكُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ ازْدَادَ كَلَامُ الْمُتَقَدِّمِ هَجْرًا وَرَغْبَةً عَنْهُ , حَتَّى إنَّ كُتُبَهُ لَا تَكَادُ تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِحَسَبِ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ , وَلَكِنْ أَيْنَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم(2/231)
لِلتَّابِعَيْنِ : لِيَنْصِبَ كُلٌّ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ رَجُلًا يَخْتَارُهُ وَيُقَلِّدُهُ دِينَهُ وَلَا يَلْتَفِتَ إلَى غَيْرِهِ , وَلَا يَتَلَقَّ الْأَحْكَامَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , بَلْ مِنْ تَقْلِيدِ الرِّجَالِ , فَإِذَا جَاءَكُمْ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْءٌ وَعَمَّنْ نَصَبْتُمُوهُ إمَامًا تُقَلِّدُونَهُ فَخُذُوا بِقَوْلِهِ , وَدَعَوْا مَا بَلَغَكُمْ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَوَاَللَّهِ لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَكُمْ وَحَقَّتْ الْحَقَائِقُ لَرَأَيْتُمْ نُفُوسَكُمْ وَطَرِيقَكُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ هَاشِمٍ وَنَزَلْت بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ وَكَمَا قَالَ الثَّانِي : سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ . وَكَمَا قَالَ الثَّالِثُ : أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا عَمْرُكَ اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا مَا اسْتَقَلَّتْ وَسُهَيْلٌ إذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِي .
[ لَيْسَ التَّقْلِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ ] :(2/232)
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ " إنَّ التَّقْلِيدَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ , وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ " جَوَابُهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمُنْكَرَ الْمَذْمُومَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ , وَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْقَدَرِ , بَلْ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ , كَمَا عَرَفَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَضْعَافِهَا , وَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ , وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَيْسَتْ تَقْلِيدًا , وَإِنَّمَا هِيَ مُتَابَعَةٌ وَامْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ , فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا تَسْمِيَتَهَا تَقْلِيدًا فَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ , وَهُوَ مِنْ الشَّرْعِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الَّذِي وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ مِنْ الشَّرْعِ , وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ , وَإِنَّمَا بُطْلَانُهُ مِنْ لَوَازِمِهِ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ مَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ فَبُطْلَانُ ضِدِّهِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ ; فَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ لَكَانَ بُطْلَانُ الِاسْتِدْلَالِ وَاتِّبَاعُ الْحُجَّةِ فِي مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ ; فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْآخَرِ , وَصِحَّةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْآخَرِ , وَتَحَرُّرَهُ دَلِيلًا فَنَقُولُ : لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ مِنْ الدِّينِ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَهُ .(2/233)
فَإِنْ قِيلَ : كِلَاهُمَا مِنْ الدِّينِ , أَوْ أَحَدُهُمَا أَكْمَلُ مِنْ الْآخَرِ ; فَيَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْمَفْضُولِ إلَى الْفَاضِلِ . قِيلَ : إذَا كَانَ قَدْ انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَكُمْ وَقَطَعْتُمْ طَرِيقَهُ وَصَارَ الْغَرَضُ هُوَ التَّقْلِيدُ فَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَا قَدْ سُدَّ بَابُهُ وَقُطِعَتْ طَرِيقُهُ يَكُونُ عِنْدَكُمْ مَعْصِيَةً وَفَاعِلُهُ آثِمًا , وَفِي هَذَا مِنْ قَطْعِ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَإِبْطَالِ حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ وَخُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ مَا يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَدْحَضُهُ , وَقَدْ ضَمِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا تُزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ , وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ; فَإِنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ , بِخِلَافِ الْأَعْمَى الَّذِي قَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ الْمُتَابَعَةُ وَالِاقْتِدَاءُ , وَتَقْدِيمُ النُّصُوصِ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ , وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .(2/234)
وَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النُّصُوصِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً فَبُطْلَانُهُ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ , وَلَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِإِنْكَارِهِ وَإِبْطَالِهِ , فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاتِّبَاعُ لَوْنٌ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
[ الرِّوَايَةُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ ] :(2/235)
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ " كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ احْتَجَجْتُمْ بِهَا عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فَأَنْتُمْ مُقَلِّدُونَ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا , وَلَيْسَ بِيَدِ الْعَالِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الرَّاوِي , وَلَا بِيَدِ الْحَاكِمِ إلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ , وَلَا بِيَدِ الْعَامِّيِّ إلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ , إلَى آخِرِهِ " . جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ تَقْلِيدًا هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا تَقْلِيدًا لَكَانَ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مُقَلِّدًا , بَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ نُظَرَائِهِمْ مُقَلِّدِينَ . وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ مُشَاغِبٍ أَوْ مُلَبِّسٍ يَقْصِدُ لَبْسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ , وَالْمُقَلِّدُ لِجَهْلِهِ أَخَذَ نَوْعًا صَحِيحًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْلِيدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى النَّوْعِ الْبَاطِلِ مِنْهُ لِوُجُودِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ , وَغَفَلَ عَنْ الْقَدْرِ الْفَارِقِ , وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْبَاطِلُ الْمُتَّفَقُ عَلَى ذَمِّهِ , وَهُوَ أَخُو هَذَا التَّقْلِيدِ الْبَاطِلِ , كِلَاهُمَا فِي الْبُطْلَانِ سَوَاءٌ . وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَبَرَ الصَّادِقِ حُجَّةً وَشَهَادَةَ الْعَدْلِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعُ الْحُجَّةَ مُقَلِّدًا , وَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ مُقَلِّدٌ لِلْحُجَّةِ فَجَهْلًا بِهَذَا التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ , وَهَلْ تُدَنْدِنُ إلَّا حَوْلَهُ ؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[ الْجَوَابُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ التَّقْلِيدَ أَسْلَمُ مِنْ طَلَبِ الْحُجَّةِ ](2/236)
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ : قَوْلُكُمْ " أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ بِأَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ , ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ , كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنْ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ " , جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مَنَعَ مِنْهُ , وَذَمَّ أَهْلَهُ فِي كِتَابِهِ , وَأَمَرَ بِتَحْكِيمِهِ وَتَحْكِيمِ رَسُولِهِ وَرَدِّ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ الْحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ , وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَدُونِ رَسُولِهِ وَلِيجَةً , وَأَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِكِتَابِهِ , وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَرْبَابًا يُحِلُّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ مَا أَحَلُّوهُ وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمُوهُ , وَجَعَلَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ , وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ إذَا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ طَاعَةً لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِأَمْرِهِ مُخْبِرِينَ بِهِ , وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ حَتَّى نُحَكِّمَ الرَّسُولَ خَاصَّةً فِيمَا شَجَرَ بَيْنَنَا لَا نُحَكِّمَ غَيْرَهُ ثُمَّ لَا نَجِدَ فِي أَنْفُسِنَا حَرَجًا مِمَّا حَكَمَ بِهِ(2/237)
كَمَا يَجِدُهُ الْمُقَلِّدُونَ إذَا جَاءَ حُكْمُهُ خِلَافَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدُوهُ , وَأَنْ نُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا , كَمَا يُسَلِّمُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ , بَلْ تَسْلِيمًا أَعْظَمَ مِنْ تَسْلِيمِهِمْ وَأَكْمَلَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَذَمَّ مَنْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ الرَّسُولِ , وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ , فَلَوْ كَانَ حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَتَحَاكَمْنَا إلَى غَيْرِهِ لَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ ; فَسُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لَمْ يَمُتْ , وَإِنْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَّةِ شَخْصُهُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يُفْقَدْ مِنْ بَيْنِنَا سُنَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ وَهَدْيُهُ , وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ بِحَمْدِ اللَّهِ مَكَانَهُمَا , مَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا , وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِفْظَ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ; فَلَا يَزَالُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ مُحْمِيًا بِحِمَايَتِهِ لِتَقُومَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ; إذْ كَانَ نَبِيُّهُمْ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ; فَكَانَ حِفْظُهُ لِدِينِهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُغْنِيًا عَنْ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَ خَاتَمِ الرُّسُلِ , وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَرَضَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ , وَهُوَ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ النَّسْخُ حَتَّى يَنْسَخَ اللَّهُ الْعَالِمَ أَوْ يَطْوِيَ الدُّنْيَا , وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ إذَا دُعِيَ إلَى مَا أَنْزَلَهُ(2/238)
وَإِلَى رَسُولِهِ صَدَّ وَأَعْرَضَ , وَحَذَّرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ مُصِيبَةٌ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ , وَحَذَّرَ مَنْ خَالَفَ عَنْ أَمْرِهِ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ; فَالْفِتْنَةُ فِي قَلْبِهِ , وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي بَدَنِهِ وَرُوحِهِ , وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ; فَمَنْ فُتِنَ فِي قَلْبِهِ بِإِعْرَاضِهِ عَمَّا جَاءَ بِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لَهُ إلَى غَيْرِهِ أُصِيبَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَلَا بُدَّ , وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا قَضَى أَمْرًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَمْرِهِ غَيْرَ مَا قَضَاهُ , فَلَا خِيَرَةَ بَعْدَ قَضَائِهِ لِمُؤْمِنٍ أَلْبَتَّةَ , وَنَحْنُ نَسْأَلُ الْمُقَلِّدِينَ : هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَمْ لَا ؟ , [ مَثَلٌ مِمَّا خَفِيَ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ ] : فَإِنْ قَالُوا : " لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ " أَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ; فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ ; فَهَذَا الصِّدِّيقُ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِهِ خَفِيَ عَلَيْهِ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا دِيَةَ لَهُ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِهِ عُمَرُ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِ .(2/239)
وَخَفِيَ عَلَى عُمَرَ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ فَقَالَ : لَوْ بَقِيَ شَهْرًا لَمْ يُصَلِّ حَتَّى يَغْتَسِلَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فَقَضَى فِي الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّ فِي كِتَابِ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهَا بِعَشْرٍ عَشْرٍ ; فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ إلَيْهِ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ أَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ - وَهُوَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا , وَخَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ حَتَّى سَأَلَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ سُقُوطُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ فَكَانَ يَرُدُّهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ثُمَّ يَطُفْنَ حَتَّى بَلَغَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ ذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ دِيَةِ الْأَصَابِعِ وَكَانَ يُفَاضِلُ بَيْنَهَا حَتَّى بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي التَّسْوِيَةِ فَرَجَعَ إلَيْهَا , وَخَفِيَ عَلَيْهِ شَأْنُ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَكَانَ يَنْهَى عَنْهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَأَمَرَ بِهَا .(2/240)
وَخَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ التَّسَمِّي بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَنَهَى عَنْهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ طَلْحَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَنَّاهُ أَبَا مُحَمَّدٍ فَأَمْسَكَ وَلَمْ يَتَمَادَ عَلَى النَّهْيِ , هَذَا وَأَبُو مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَبُو أَيُّوبَ مِنْ أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ , وَلَكِنْ لَمْ يَمُرَّ بِبَالِهِ رضي الله عنه أَمْرٌ هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَقَوْلُهُ { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } حَتَّى قَالَ : وَاَللَّهِ كَأَنِّي مَا سَمِعْتُهَا قَطُّ قَبْلَ وَقْتِي هَذَا , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ عَلَى مَهْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَنَاتِهِ حَتَّى ذَكَّرَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَقَالَ : كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَدِّ وَالْكَلَالَةِ وَبَعْضِ أَبْوَابِ الرِّبَا فَتَمَنَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْهِمْ فِيهَا عَهْدًا . وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ بِدُخُولِ مَكَّةَ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ لِذَاكَ الْعَامِ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .(2/241)
وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ جَوَازُ اسْتِدَامَةِ الطَّيِّبِ لِلْمُحْرِمِ وَتُطَيِّبُهُ بَعْدَ النَّحْرِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ صَحَّتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ , وَكَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْقُدُومِ عَلَى مَحَلِّ الطَّاعُونِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ حَتَّى أُخْبِرَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا , فَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ } هَذَا وَهُوَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " لَوْ وُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَجُعِلَ عِلْمُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ " قَالَ الْأَعْمَشُ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسَبُ عُمَرَ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ . وَخَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } مَعَ قَوْلِهِ { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فَرَجَعَ إلَى ذَلِكَ , وَخَفِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِيرَاثُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ السُّدُسُ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَهَا ذَلِكَ .(2/242)
وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ الْعَبَّاسِ تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَتَّى ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ , وَخَفِيَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حُكْمُ الْمُفَوِّضَةِ وَتَرَدَّدُوا إلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا فَأَفْتَاهُمْ بِرَأْيِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ النَّصُّ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهُ لَجَاءَ سِفْرًا كَبِيرًا , فَنَسْأَلُ حِينَئِذٍ فِرْقَةَ التَّقْلِيدِ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ بَعْضُ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى سَادَاتِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا يَخْفَى عَلَيْهِ " وَقَدْ خَفِيَ عَلَى الصَّحَابَةِ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بَلَغُوا فِي الْغُلُوِّ مَبْلَغَ مُدَّعِي الْعِصْمَةِ فِي الْأَئِمَّةِ , وَإِنْ قَالُوا : " بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ " وَهُوَ الْوَاقِعُ وَهُمْ مَرَاتِبُ فِي الْخَفَاءِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , قُلْنَا : فَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمْ اللَّهَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ , وَإِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا خَفِيَ عَلَى مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ هَلْ تَبْقَى لَكُمْ الْخِيَرَةُ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِهِ وَرَدِّهِ أَمْ تَنْقَطِعُ خِيَرَتُكُمْ وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ سِوَاهُ ؟ فَأَعِدُّوا لِهَذَا السُّؤَالِ جَوَابًا , وَلِلْجَوَابِ صَوَابًا ; فَإِنَّ السُّؤَالَ وَاقِعٌ , وَالْجَوَابَ لَازِمٌ .(2/243)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَنَا مِنْ التَّقْلِيدِ , فَأَيْنَ مَعَكُمْ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تَقْطَعُ الْعُذْرَ وَتُسَوِّغُ لَكُمْ مَا ارْتَضَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ التَّقْلِيدِ ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَكُمْ " صَوَابُ الْمُقَلِّدِ فِي تَقْلِيدِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ ; فَإِنَّهُ إذَا قَلَّدَ مَنْ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ نَظِيرُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ لَمْ يَدْرِ عَلَى صَوَابٍ هُوَ مِنْ تَقْلِيدِهِ أَوْ عَلَى خَطَأٍ , بَلْ هُوَ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - حَاطِبُ لَيْلٍ إمَّا أَنْ يَقَعَ بِيَدِهِ عُودٌ أَوْ أَفْعَى تَلْدَغُهُ , وَأَمَّا إذَا بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِمَّا أَنْ يُخْطِئَهُ فَلَهُ أَجْرٌ , فَهُوَ مُصِيبٌ لِلْأَجْرِ وَلَا بُدَّ , بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ الْمُتَعَصِّبِ فَإِنَّهُ إنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ , وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْإِثْمِ , فَأَيْنَ صَوَابُ الْأَعْمَى مِنْ صَوَابِ الْبَصِيرِ الْبَاذِلِ جَهْدَهُ ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ إذَا عَرَفَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُ دُونَ غَيْرِهِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا لَهُ , بَلْ مُتَّبِعًا لِلْحُجَّةِ , وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ بَاذِلِ جَهْدِهِ وَمُسْتَفْرِغِ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ ؟ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ عِنْدَ تَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ مَنْ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فَرَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ(2/244)
وَالسُّنَّةِ , وَأَمَّا مَنْ رَدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ ؟ , الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْمِثَالَ الَّذِي مَثَّلْتُمْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ ; فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ أَوْ سُلُوكَ طَرِيقٍ حِينَ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ , وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُهُ بِخِلَافِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ , فَإِنَّهُ لَا يَقْدُمُ عَلَى تَقْلِيدِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , بَلْ يَبْقَى مُتَرَدِّدًا طَالِبًا لِلصَّوَابِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ; فَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ مَعَ مُسَاوَاةِ الْآخَرِ لَهُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالدَّيَّانَةِ أَوْ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ عُدَّ مُخَاطِرًا مَذْمُومًا وَلَمْ يُمْدَحْ إنْ أَصَابَ , وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَوَقَّفَ أَحَدُهُمْ وَيَطْلُبَ تَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ الصَّوَابُ , وَلَمْ يُجْعَلْ فِي فِطَرِهِمْ الْهَجْمُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ وَاحِدٍ وَاطِّرَاحُ قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ .(2/245)
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنْ نَقُولَ لِطَائِفَةِ الْمُقَلِّدِينَ : هَلْ تُسَوِّغُونَ تَقْلِيدَ كُلِّ عَالِمٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَوْ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ؟ فَإِنْ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَ الْجَمِيعِ كَانَ تَسْوِيغُكُمْ لِتَقْلِيدِ مَنْ انْتَمَيْتُمْ إلَى مَذْهَبِهِ كَتَسْوِيغِكُمْ لِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ , فَكَيْفَ صَارَتْ أَقْوَالُ هَذَا الْعَالِمِ مَذْهَبًا لَكُمْ تُفْتُونَ وَتَقْضُونَ بِهَا وَقَدْ سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا مَا سَوَّغْتُمْ مِنْ تَقْلِيدِ الْآخَرِ ؟ فَكَيْفَ صَارَ هَذَا صَاحِبَ مَذْهَبِكُمْ دُونَ هَذَا ؟ وَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَقْوَالَ هَذَا وَتَقْبَلُوا أَقْوَالَ هَذَا وَكِلَاهُمَا عَالِمٌ يَسُوغُ اتِّبَاعُهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَاغَ لَكُمْ دَفْعُ الدِّينِ ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَالُهُ مِنْ الدِّينِ فَكَيْفَ سَوَّغْتُمْ تَقْلِيدَهُ ؟ وَهَذَا لَا جَوَابَ لَكُمْ عَنْهُ .
[ مَجِيءُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ كَمَجِيءِ قَوْلَيْنِ لِإِمَامَيْنِ ] :(2/246)
يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ إذَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلَانِ وَرِوَايَتَانِ سَوَّغْتُمْ الْعَمَلَ بِهِمَا , وَقُلْتُمْ : مُجْتَهِدٌ لَهُ قَوْلَانِ ; فَيَسُوغُ لَنَا الْأَخْذُ بِهَذَا وَهَذَا , وَكَانَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ , فَهَلَّا جَعَلْتُمْ قَوْلَ نَظِيرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَجَعَلْتُمْ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا مَذْهَبًا لَكُمْ , وَرُبَّمَا كَانَ قَوْلُ نَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَرْجَحَ مِنْ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَأَقْرَبَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ إذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِكُمْ مِمَّنْ قَلَّدْتُمُوهُ قَوْلًا خِلَافَ قَوْلِ الْمَتْبُوعِ أَوْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُمُوهُ وَجْهًا وَقَضَيْتُمْ وَأَفْتَيْتُمْ بِهِ وَأَلْزَمْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ , فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَوْ فَوْقَهُ قَوْلًا يُخَالِفُهُ لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ وَلَمْ تَعُدُّوهُ شَيْئًا , وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ نَظِيرُ مَتْبُوعِكُمْ أَجَلُّ مِنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ , فَقَدِّرُوا أَسْوَأَ الْمَقَادِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ وَجْهٍ فِي مَذْهَبِكُمْ . فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ , صَارَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ أَحَقَّ بِالْقَبُولِ مِمَّنْ أَفْتَى بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْكُمْ .(2/247)
وَتَمَامُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ : أَنَّكُمْ إنْ رُمْتُمْ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ , وَقُلْتُمْ : بَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ , وَقَالَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ : يَسُوغُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ , كَانَ أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةَ قَوْلِكُمْ بِقَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى فِي ضَرْبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ . ثُمَّ يُقَالُ : مَا الَّذِي جَعَلَ مَتْبُوعَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ مَتْبُوعِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى ؟ بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ؟ وَهَلْ تَقَطَّعَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهَا بَيْنَهَا زُبُرًا وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ إلَّا بِهَذَا السَّبَبِ ؟ , فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدْعُوا إلَى مَتْبُوعِهَا وَتَنْأَى عَنْ غَيْرِهِ وَتَنْهَى عَنْهُ , وَذَلِكَ مُفْضٍ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمَّةِ , وَجَعْلِ دِينِ اللَّهِ تَابِعًا لِلتَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ وَعُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ , وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِلِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ , وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ تَنَاقُضُ أَصْحَابِهِ وَمُعَارَضَةُ أَقْوَالِهِمْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ إلَّا إيجَابُهُمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِهِمْ وَتَحْرِيمُهُمْ تَقْلِيدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ .(2/248)
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ : أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ حَكَمُوا عَلَى اللَّهِ قَدَرًا وَشَرْعًا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ جِهَارًا الْمُخَالِفِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ فَأَخْلَوْا الْأَرْضَ مِنْ الْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ , وَقَالُوا : لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ عَالِمٌ مُنْذُ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ ; فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ . وَقَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ الْمَالِكِيُّ : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَقَالَ آخَرُونَ : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ , وَاخْتَلَفَ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ .(2/249)
وَجَعَلُوهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ : طَائِفَةٌ أَصْحَابُ وُجُوهٍ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَأَبِي حَامِدٍ , وَطَائِفَةٌ أَصْحَابُ احْتِمَالَاتٍ لَا أَصْحَابَ وُجُوهٍ كَأَبِي الْمَعَالِي , وَطَائِفَةٌ لَيْسُوا أَصْحَابَ وُجُوهٍ وَلَا احْتِمَالَاتٍ كَأَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ , وَاخْتَلَفُوا مَتَى انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ , وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ , وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعِلْمِ , وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا , وَلَا يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ بِمَا فِيهِمَا حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ , فَإِنْ وَافَقَهُ حَكَمَ بِهِ وَأَفْتَى بِهِ , وَإِلَّا رَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ . وَهَذِهِ أَقْوَالٌ - كَمَا تَرَى - قَدْ بَلَغَتْ مِنْ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ وَالتَّنَاقُضِ , وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ , وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ , وَالزُّهْدِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , وَتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا مَبْلَغَهَا , وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُصَدِّقَ قَوْلَ رَسُولِهِ .(2/250)
إنَّهُ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ , وَلَنْ تُزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ , وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُبْعَثُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا , وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنْ يُقَالَ لِأَرْبَابِهَا : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْتُمْ فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ اخْتِيَارُ تَقْلِيدِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ؟ وَكَيْفَ حَرَّمْتُمْ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْتَارَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , وَأَبَحْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ اخْتِيَارَ قَوْلِ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ , وَأَوْجَبْتُمْ عَلَى الْأُمَّةِ تَقْلِيدَهُ , وَحَرَّمْتُمْ تَقْلِيدَ مَنْ سِوَاهُ , وَرَجَحْتُمُوهُ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ سِوَاهُ ؟ فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ هَذَا الِاخْتِيَارَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ , وَحَرَّمَ اخْتِيَارَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ؟ وَيُقَالُ لَكُمْ : فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الِاخْتِيَارُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَك وَلَا عِنْدَ غَيْرِك فَمِنْ أَيْنَ سَاغَ لَك وَأَنْتَ لَمْ تُولَدْ إلَّا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةٍ أَنْ تَخْتَارَ قَوْلَ مَالِكٍ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ ؟ وَمُوجِبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ أَشْهَبَ وَابْنَ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْبَغَ بْنَ(2/251)
الْفَرَجِ وَسَحْنُونَ بْنَ سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ وَمَنْ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا إلَى انْسِلَاخِ ذِي الْحُجَّةِ مِنْ سَنَةِ مِائَتَيْنِ , فَلَمَّا اسْتَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ إحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَغَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ بِلَا مُهْلَةٍ مَا كَانَ مُطْلَقًا لَهُمْ مِنْ الِاخْتِيَارِ .(2/252)
وَيُقَالُ لِلْآخَرِينَ : أَلَيْسَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَعَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُكُمْ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ وَالْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ , ثُمَّ لَا تُجِيزُونَ الِاخْتِيَارَ وَالِاجْتِهَادَ لِحُفَّاظِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَفَتَاوَاهُمْ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَنُظَرَائِهِمْ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَالسَّقِيمِ وَتَحَرِّيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ وَلُطْفِ اسْتِخْرَاجِهِمْ لِلدَّلَائِلِ , وَمِنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ مِنْ أَقْرَبِ الْقِيَاسِ إلَى الصَّوَابِ , وَأَبْعَدِهِ عَنْ الْفَسَادِ , وَأَقْرَبِهِ إلَى النُّصُوصِ , مَعَ شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَمَا مَنَحَهُمْ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ وَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَائَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ لَهُمْ , فَإِنْ احْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِتَرْجِيحِ مَتْبُوعِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرَاجِيحِ مِنْ تَقَدُّمِ زَمَانٍ أَوْ زُهْدٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ لِقَاءِ شُيُوخٍ وَأَئِمَّةٍ لَمْ يَلْقَهُمْ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ لَمْ يَكُونُوا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ أَنْ يَبْدُوَا لِمَتْبُوعِهِمْ مِنْ التَّرْجِيحِ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ مَا هُوَ مِثْلُ هَذَا أَوْ فَوْقَهُ , وَأَمْكَنَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ جَمِيعًا : نُفُوذُ قَوْلِكُمْ هَذَا إنْ لَمْ تَأْنَفُوا مِنْ التَّنَاقُضِ(2/253)
يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا قَوْلَ مَتْبُوعِكُمْ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَعْلَمُ وَأَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَكْثَرُ اتِّبَاعًا وَأَجَلُّ , فَأَيْنَ أَتْبَاعُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بَلْ أَتْبَاعُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْجَلَالَةِ ؟ وَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَمَلَ الْعِلْمَ عَنْهُ ثَمَانُمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ , وَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ , وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِثْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ السَّعِيدَيْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَشُرَيْحٍ ؟ وَأَيْنَ فِي أَتْبَاعِهِمْ مِثْلُ نَافِعٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ فَمَا الَّذِي جَعَلَ الْأَئِمَّةَ بِأَتْبَاعِهِمْ أَسْعَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَتْبَاعِهِمْ ؟ وَلَكِنَّ أُولَئِكَ وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى قَدْرِ عَصْرِهِمْ فَعِظَمُهُمْ وَجَلَالَتُهُمْ وَكُبْرُهُمْ مَنَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ , وَقَالُوا بِلِسَانِ قَالِهِمْ وَحَالِهِمْ : هَؤُلَاءِ كِبَارٌ عَلَيْنَا لَسْنَا مِنْ زَبُونِهِمْ , كَمَا صَرَّحُوا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; فَإِنَّ أَقْدَارَهُمْ تَتَقَاصَرُ عَنْ تَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَقَالُوا : لَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ , لَا لِقُصُورِ الْكِتَابِ(2/254)
وَالسُّنَّةِ , وَلَكِنْ لِعَجْزِنَا نَحْنُ وَقُصُورِنَا , فَاكْتَفَيْنَا بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمَا مِنَّا , فَيُقَالُ لَهُمْ : فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ اقْتَدَى بِهِمَا وَحَكَّمَهُمَا وَتَحَاكَمَ إلَيْهِمَا وَعَرَضَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِمَا فَمَا وَافَقَهُمَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُمَا رَدَّهُ ؟ فَهَبْ أَنَّكُمْ لَمْ تَصِلُوا إلَى هَذَا الْعُنْقُودِ فَلِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ ؟ وَكَيْفَ تَحَجَّرْتُمْ الْوَاسِعَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ عُقُولِ الْعَالَمِينَ وَلَا اقْتِرَاحَاتِهِمْ , وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي عَصْرِكُمْ وَنَشَئُوا مَعَكُمْ وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ نَسَبٌ قَرِيبٌ فَاَللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ .(2/255)
وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ رَدَّ النُّبُوَّةَ بِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَهَا عَنْ عُظَمَاءِ الْقُرَى وَمِنْ رُؤَسَائِهَا وَأَعْطَاهَا لِمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّك خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : مَثَلُ أُمَّتِي كَالْمَطَرِ , لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ السَّابِقِينَ بِأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ , وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ , ثُمَّ قَالَ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .(2/256)
وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي الْقِيَاسِ وَالتَّقْلِيدِ , وَذَكَرْنَا مِنْ مَآخِذِهِمَا وَحُجَجِ أَصْحَابِهِمَا وَمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ مَا لَا يَجِدُهُ النَّاظِرُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْقَوْمِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا , وَلَا يَظْفَرُ بِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ أَبَدًا , وَذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَمَعُونَتِهِ وَفَتْحِهِ ; فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ , وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَوَابٍ فَمِنْ اللَّهِ , هُوَ الْمَانُّ بِهِ , وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ , وَلَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَدِينُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ وَالْحُكْمِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ , وَسُقُوطِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّصِّ , وَذِكْرِ إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ .
[(2/257)
الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا اجْتِهَادَ مَعَهُ ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } .(2/258)
وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } فَأَكَّدَ هَذَا التَّأْكِيدَ وَكَرَّرَ هَذَا التَّقْرِيرَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ , وَعُمُومِ مَضَرَّتِهِ , وَبَلِيَّةِ الْأُمَّةِ بِهِ , وَقَالَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا(2/259)
بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَأَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ حَاجَّ فِي دِينِهِ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَنَهَى أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ نَصًّا , وَأَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ , فَقَالَ : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ .(2/260)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَبْصِرُوهَا ; فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدْلَجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ , وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } يُرِيدُ - وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ - بِكِتَابِ اللَّهِ قوله تعالى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ } وَيُرِيدُ بِالشَّأْنِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ يَحُدُّهَا لِمُشَابِهَةِ وَلَدِهَا لِلرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ , وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ فَصَّلَ الْحُكُومَةَ , وَأَسْقَطَ كُلَّ قَوْلٍ وَرَاءَهُ , وَلَمْ يَبْقَ لِلِاجْتِهَادِ بَعْدَهُ مَوْقِعٌ . [ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى شَيْخٍ مِنْ زُهْرَةَ كَانَ يَسْكُنُ دَارَنَا , فَذَهَبْت مَعَهُ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه , فَسَأَلَهُ عَنْ وِلَادٍ مِنْ وِلَادِ الْجَاهِلِيَّةِ , فَقَالَ : أَمَّا الْفِرَاشُ فَلِفُلَانٍ , وَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلِفُلَانٍ ; فَقَالَ عُمَرُ : صَدَقْت , وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { قَضَى بِالْفَرْشِ } .(2/261)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ قَالَ : ابْتَعْت غُلَامًا , فَاسْتَغْلَلْته , ثُمَّ ظَهَرْت مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ , فَخَاصَمْت فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَقَضَى لِي بِرَدِّهِ , وَقَضَى عَلَيَّ بِرَدِّ غَلَّتِهِ , فَأَتَيْت عُرْوَةَ فَأَخْبَرْته , فَقَالَ : أَرُوحُ إلَيْهِ الْعَشِيَّةَ فَأُخْبِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " قَضَى فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّ { الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } فَعَجَّلْت إلَى عُمَرَ فَأَخْبَرْته بِمَا أَخْبَرَنِي بِهِ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ عُمَرُ : فَمَا أَيْسَرَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ قَضَاءٍ قَضَيْته , اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدْ فِيهِ إلَّا الْحَقَّ ; فَبَلَغَتْنِي فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرُدُّ قَضَاءَ عُمَرَ وَأُنَفِّذُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَرَاحَ إلَيْهِ عُرْوَةُ ; فَقَضَى لِي أَنْ آخُذَ الْخَرَاجَ مِنْ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيَّ لَهُ .(2/262)
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ : قَضَى سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَى رَجُلٍ بِقَضِيَّةٍ بِرَأْيِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ , فَأَخْبَرْته عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ , فَقَالَ سَعْدٌ لِرَبِيعَةَ : هَذَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ , وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ يُخْبِرُنِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ مَا قَضَيْت بِهِ , فَقَالَ لَهُ رَبِيعَةُ : قَدْ اجْتَهَدْت وَمَضَى حُكْمُك , فَقَالَ سَعْدٌ : وَاعْجَبَا , أُنَفِّذُ قَضَاءَ سَعْدِ بْنِ أُمِّ سَعْدٍ وَأَرُدُّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , بَلْ أَرُدُّ قَضَاءَ سَعْدِ بْنِ أُمِّ سَعْدٍ وَأُنَفِّذُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَدَعَا سَعْدٌ بِكِتَابِ الْقَضِيَّةِ فَشَقَّهُ وَقَضَى لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ , فَلْيَوْحَشْنَا الْمُقَلِّدُونَ , ثُمَّ أَوْحَشَ اللَّهُ مِنْهُمْ . وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الرَّسْمِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَسَأَلَهُ عَنْ امْرَأَةٍ حَاضَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَارَتْ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ , أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : لَا , فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْت بِهِ , فَقَامَ إلَيْهِ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدُّرَّةِ وَيَقُولُ لَهُ : لِمَ تَسْتَفْتِينِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ .(2/263)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ : ثنا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثنا سُفْيَانُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَتَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا رَأْيَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ , وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا وَلَمْ آخُذْ بِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ , وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(2/264)
وَقَالَ إسْرَائِيلُ : عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى أُمَّهَا فَأَعْجَبَتْهُ , فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا , فَقَالَ : لَا بَأْسَ , فَتَزَوَّجَهَا الرَّجُلُ , وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ; فَكَانَ يَبِيعُ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ يُعْطِي الْكَثِيرَ وَيَأْخُذُ الْقَلِيلَ , حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم , فَقَالُوا : لَا تَحِلُّ لِهَذَا الرَّجُلِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ , وَلَا تَصْلُحُ الْفِضَّةُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ , فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ انْطَلَقَ إلَى الرَّجُلِ فَلَمْ يَجِدْهُ , وَوَجَدَ قَوْمَهُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي أَفْتَيْت بِهِ صَاحِبَكُمْ لَا يَحِلُّ , وَأَتَى الصَّيَارِفَةَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ إنَّ الَّذِي كُنْت أُبَايِعُكُمْ لَا يَحِلُّ , لَا تَحِلُّ الْفِضَّةُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَذَاكَرُوا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلِ تَضَعُ عِنْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا , فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ , فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : تَحِلُّ حِينَ تَضَعُ , فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَأَنَا مَعَ ابْن أَخِي , فَأَرْسَلُوا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ : { قَدْ وَضَعَتْ سُبَيْعَةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِيَسِيرٍ , فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَزَوَّجَ } .(2/265)
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ رُجُوعِ عُمَرَ رضي الله عنه وَأَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ إلَى السُّنَّةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ . وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ : إنَّمَا نَأْخُذُ بِالرَّأْيِ مَا لَمْ نَجِدْ الْأَثَرَ , فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ تَرَكْنَا الرَّأْيَ , وَأَخَذْنَا بِالْأَثَرِ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ : لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَحَّ الْخَبَرُ عَنْهُ , وَقَدْ كَانَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ رحمه الله تعالى لَهُ أَصْحَابٌ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبَهُ , وَلَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا , بَلْ إمَامًا مُسْتَقِلًّا كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيِّ , قَالَ : طَبَقَاتُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ خَمْسَةٌ : الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنْبَلِيَّةُ , وَالرَّاهَوِيَّةُ , وَالْخُزَيْمِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا حَدَّثَ الثِّقَةُ عَنْ الثِّقَةِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ ثَابِتٌ , وَلَا يُتْرَكُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ أَبَدًا , إلَّا حَدِيثٌ وُجِدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَرُ يُخَالِفُهُ . وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِهِ مَعَ مَالِكٍ : مَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إلَّا بِإِتْيَانِهِمَا .(2/266)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ لِي قَائِلٌ : دُلَّنِي عَلَى أَنَّ عُمَرَ عَمِلَ شَيْئًا ثُمَّ صَارَ إلَى غَيْرِهِ لِخَبَرٍ نَبَوِيٍّ , قُلْت لَهُ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ , وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا , حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ } فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ , وَأَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو وَابْنُ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ شَيْئًا , فَقَامَ { حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ : كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي , فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمُسَطَّحٍ , فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا , فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ } , فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ لَمْ نَسْمَعْ فِيهِ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا , أَوْ قَالَ : إنْ كِدْنَا لِنَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا , فَتَرَكَ اجْتِهَادَهُ رضي الله عنه لِلنَّصِّ .
[ يُصَارُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَإِلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ] :(2/267)
وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ; إذْ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ , { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ , فَقَالَ : عِنْدَ الضَّرُورَةِ , ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَدْخَلِهِ . وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يَرَى لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ , وَتَنَاظَرَ فِي ذَلِكَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ , هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَرَجَعَ زَيْدٌ يَضْحَكُ وَيَقُولُ : مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقْت , ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا , حَتَّى زَعَمَ رَافِعٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا , فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَهَى عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ الْجَمْرَةِ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ , وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ , وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَتَرَكَ سَالِمٌ قَوْلَ جَدِّهِ لِرِوَايَتِهَا , قُلْت : لَا كَمَا تَصْنَعُ فِرْقَةُ التَّقْلِيدِ .(2/268)