ححح
الاتفاق في العمل الإسلامي
الدواعي والوسائل
أ.د. الخضر علي إدريس
أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القرآن الكريم
وعميد المعهد العالي لعلوم الزكاة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهْده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلي الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
وبعد..
فهذا بحث موجز، تناولت فيه بالدراسة موضوعات رأيت أنها محققة لأهداف هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله.
ويمكن إجمال أهم هذه الموضوعات في الآتي:
الموضوع الأول: مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي:
حيث حصرت هذا المفهوم في مبدأين:
الأول: الوحدة هي الأصل والاختلاف أمر طارئ.
الثاني: التعاون على المتفق فيه والعذر في المختلف فيه.
الموضوع الثاني: دواعي الاتفاق.
وقد أجملتها في داعيين، وتحت كلٍ دواعٍ:
أولاً: الدواعي الشرعية.
ثانياً: الدواعي الواقعية.
الموضوع الثالث: الوسائل المعينة على الاتفاق والوحدة.
تناولتها من خلال وسيلتين:
الأولي: الالتزام بآداب الخلاف.
الثانية: الالتزام بآداب الحوار.
والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الموضوع الأول
مفهوم الاتفاق في العمل الإسلامي
الاتفاق بين العاملين في الحقل الإسلامي يعني: أن يتعاونوا علي البر والتقوى، وعلي محاربة الإثم والعدوان، وعلي الأمر بالمعروف، والنهي المنكر، وإصلاح المجتمع، ورده إلي الجادة.
وهذا لا يلزم منه أن يكونوا علي رأي واحد، ومذهب واحد في كل الشؤون، وأن تتطابق وجهات نظرهم فيها، بل لا بد أن تتباين آراؤهم في بعض المسائل والقضايا الفكرية، والمواقف الدعوية، والتراتيب الإدارية والتنظيمية.
وإذا كان هذا واقعاً لا محالة فإنه يقتضي من الدعاة الالتزام بمبدأين أساسين هامين.
أولهما: جعل الوحدة أصلاً والخلاف أمراً طارئاً.(1/1)
ثانيهما: التعاون على المتفق عليه والعذر في المختلف فيه، ومن خلال هذه الأسطر المعدودة نبيِّن بشيء من الإيجاز هذين المبدأين.
المبدأ الأول: الوحدة هي الأصل والخلاف أمر طارئ:
لا شك أن وحدة المسلمين هي الأصل الأصيل، والركن الركين، الذي كل فرع دونه يهون، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الخلاف مهما عظم شأنه، وعلت درجته، وتعاظمت مكانته، ومهما كانت موضوعاته ومسائله أصلاً في بابها؛ فإنها في مقابلة وحدة الصف، وتوحيد الكلمة أمر طارئ وقضية ثانوية يمكن معالجتها في إطار هذا الأصل؛ ذلك لأن الإسلام إنما جاء أصالة ليقيم جماعة، وينشئ أمة أفرادها متحابون ومتآخون ومتوادون؛ ليكونوا عبيداً لله، يخرجون من عبادة الهوى، وعبادة العبيد إلى عبادة الله وحده.
والإسلام كما أنه دعا إلى كلمة التوحيد فإنه كذلك دعا إلى توحيد الكلمة، ولا تتحقق كلمة التوحيد على أكمل وجهها إلا بتوحيد الكلمة، فالأمران متلازمان لا ينفكان عن بعضهما.
وهذا ما جاءت النصوص القرآنية والسنية تؤكده، ومن ذلك: قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)(1)، و قوله تعالى: (وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)(2).
__________
(1) سورة الأنبياء: 92.
(2) سورة المؤمنون:52.(1/2)
بل الله سبحانه وتعالى سمَّى الإيمان وِحْدَة وسمَّى التفرقة كفراً فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم)(1). فالله سبحانه هنا يحذر المؤمنين قائلاً لهم: إن تطيعوا فريقاً من الذين أتوا الكتاب يردّوكم بعد وحدتكم متفرقين، ولذا جاء بعد ذلك الاستفهام الإنكاري: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) فيكون المعنى: وكيف تتفرقون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله(2).
و يؤيد هذا التأويل ويؤكده سبب نزول هاتين الآيتين والآيات التي قبلها وبعدها، والتي نزلت في شأن الأوس والخزرج عندما كادوا يقتتلون بسبب فتنة ومكر من عدو الله اليهودي شاس بن قيس عندما ذكّرهم بيوم بُعاث، إلا أن الله عصمهم من هذا الشر قبل وقوعه بإدراك الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووعظه إياهم وإصلاحه ذات بينهم(3).
ويؤكد هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً سمَّى التفرقة كفراً عندما قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))(4). وفي رواية أخرى: ((لا ترتدوا بعدي كفاراً))(5).
__________
(1) سورة آل عمران: 100ــ 101.
(2) انظر الصحوة الاسلامية للقرضاوي ص22، ولقد مال إلى هذا التأويل قبله الإمام حسن البنا عليه رحمة الله.
(3) انظر هذه القصة في لباب النقول للسيوطي ص 84، وقال بعد ذكرها رواه ابن اسحاق وأبو الشيخ.
(4) رواه البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارا)) 13/32 ، حديث رقم 7078، ومسلم في الفتن في باب: ((إذا تواجه المسلمان بسيفهما)) 18/11.
(5) رواه البخاري في الباب نفسه 13/32 حديث رقم 7079.(1/3)
و مثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))(1).
و الله سبحانه وتعالى اعتبر التفرق والشقاق سلوكاً لمنهج الضالين والمنحرفين من الأمم التي سبقتنا، فقال محذراً لنا منه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات)(2)، وقال سبحانه: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون)(3). انظر كيف سماهم مشركين بسبب كفرهم.
و مثلها قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونُصلهِ جهنم وساءت مصيراً)(4).
و هذه المعاني جاءت تؤكدها السنة في أكثر من حديث، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(5).
و قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ...))(6).
و قوله صلى الله عليه سلم: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم))(7).
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان باب: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) 11/115، حديث رقم 31، ومسلم في الفتن باب: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما) 10/339.
(2) سورة آل عمران: 105.
(3) سورة الروم: 31،32
(4) سورة النساء: 115
(5) رواه مسلم في البر والصلة باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم، 10/17.
(6) رواه البخاري في الأدب باب: تعاون المسلمين بعضهم بعضاً، 10/551 حديث رقم 6026 ومسلم في البر والصلة باب: تراحم المسلمين..، 10/17.
(7) رواه أبو داود في الديات باب: إيقاد المسلم بالكافر، 4/179، حديث رقم 2683.(1/4)
و قوله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة الجاهلية))(1).
و قوله في رواية أخرى: ((... فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية))(2).
و في رواية أخرى: (... إن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة(3) الإسلام من عنقه))(4).
وقوله صلي الله عليه وسلم: ((... عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة (5) الجنة فليلزم الجماعة))(6).
و ليس معنى أن يتوحد الناس ويكونوا أمة واحدة، وجماعة واحدة، أن يكونوا في كل الشؤون على رأي واحد، ومذهب واحد، بل لا بد أن تتعدد مذاهبهم ووجهات نظرهم في بعض المسائل، وقد يكون البون في بعضها شاسعاً، ذلك لأن طبيعة البشر هكذا لا بد أن تتفاوت مداركهم ومعارفهم، وحدة أذهانهم في تصور القضايا، ثم الحكم عليها. فلو شاء الله لركَّب في جميع البشر عقلاً واحداً يفكر بطريقة واحدة، ومنهج واحد في جميع المسائل.
و هذا لا يعني أن الخلاف كله مشروع، بل منه ما هو مشروع ومنه ما هو مذموم.
__________
(1) رواه مسلم في الإمارة باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 12/139.
(2) رواه مسلم في الباب نفسه 12/240.
(3) الربقة هنا: هي ما يشد به المسلم نفسه من عرى الاسلام، أي: حدوده وأحكامه، وأوامره ونواهيه. وهي في الأصل عروة تجعل في حبل تجعل في رقبة البهيمة أو يدها تمسكها عن الحركة (انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 2/190).
(4) رواه أحمد في المسند 4/202، وقال صاحب مهذب العقيدة الطحاوية ص 303 سنده صحيح.
(5) بحبوحة الجنة: أوسطها وأرجحها.
(6) رواه الترمذي في الفتن باب: ما جاء في لزوم الجماعة، 4/404 و405 حديث رقم 2165 والنسائي في عشرة النساء.(1/5)
فالخلاف المذموم هو الذي يؤدي إلى الخلاف والشقاق، والشحناء والبغضاء، والعداوة بين المسلمين فهذا بلا شك محظور، وقد جاءت الكثرة الكاثرة من النصوص تنهي عنه وتحذر منه. ومن ذلك:
قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)(1).
وقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)(2).
و الأدلة والنصوص الواردة في شأن هذا الموضوع يصعب حصرها.
والخلاف المذموم إنما يتصور وجوده في حالتين اثنتين هما:
الأولى:الخلاف المترتب على مسائل قطعية لا يجوز الاجتهاد فيها، وهذا بلا شك باطل مردود على صاحبه وقد جاءت النصوص تنهي عنه وتحذر منه.
الثانية: الخلاف والشقاق المترتب على مسائل يجوز فيها الاجتهاد. وهذا النوع من الاجتهاد ليس منهياً عنه ابتداء من حيث هو اجتهاد،لأن الاجتهاد في الأصل مشروع، وجاءت النصوص الشرعية دالة على جوازه والإذن به، وإنما المنهي عنه ما يترتب عليه من شقاق وفرقة وشتات وتباغض وتدابر.
و ما دام هذا النوع ليس منهياً عنه ابتداء من حيث هو اجتهاد فإنه لا بد أن يترتب عليه اختلاف في وجهات النظر بين المجتهدين، وإذا كان الاختلاف مترتباً لا محالة على هذا النوع من الاجتهاد، والشأن فيه أنه مشروع، فلا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن يكون ما يترتب عليه من تعدد وتنوع في الآراء مذموماً ممقوتاً؛ إذ (لا بد من ما ليس منه بد)، فلو نهانا الشارع عن الاختلاف في هذا النوع لكلفنا شططاً وعنتاً، والشريعة إنما جاءت لرفع الحرج والعنت والضيق لا الأمر به، ألم تسمع لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(3).
وقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(4).
والاجتهاد الذي يترتب عليه مثل هذا الاختلاف المشروع، إنما يقع في الأحكام الشرعية في موضعين اثنين:
__________
(1) سورة الأنفال: 46.
(2) سورة الأنعام: 159.
(3) سورة الحج: 78.
(4) سورة البقرة: 185.(1/6)
الأول: في المسائل التي لم يرد نص بشأنها، بل سكت عنها الشارع وتركها ليتوصل المجتهدون إلى حكمها بواسطة أصول الشرع، وقواعده الكلية، متحرِّين المصلحة في ذلك.
الثاني: المسائل التي وردت بشأنها أدلة ظنية، سواء أكانت ظنية الثبوت، أو ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت والدلالة معاً، وهذه يتوصل إلى الحكم فيها عن طريق الموازنة بين هذه الأدلة سنداً ومتناً بواسطة قواعد تفسير النصوص، والتعارض والترجيح المعروفة وغيرها من القواعد المشابهة في علم أصول الفقه. وإنما يُمنع الاجتهاد في المسائل التي أدلتها قطعية الثبوت والدلالة معاً(1) وهذه نادرة في أدلة الشرع.
__________
(1) الدليل القطعي الثبوت: هو القرآن الكريم لثبوته ثبوتاً قطعياً عن طريق التواتر، ومثله الحديث المتواتر الذي يرويه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، والدليل الظني الثبوت: هو السنة التي رويت عن طريق الآحاد. أما الدليل القطعي الدلالة: فهو الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً كقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [سورة النور:2]. فقوله: (مائة جلدة) قطعي في دلالته على عدد الجلد حيث حدد بمائة، والمائة لا تحتمل تسعين ولا ثمانين ولا غيرها... أما الدليل الظني الدلالة فعكسه فهو يحتمل أكثر من معنى ولكنه راجح في أحد هذه المعاني دون الأخرى، كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [سورة البقرة:288]، فالقرء الوارد في هذه الآية يطلقه بعض علماء اللغة على الطهر، وبعضهم على الحيض، وبناء على هذا اختلف علماء الشرع، فمنهم من حمله على هذا ومنهم من حمله على ذاك. فمثل هذا لا يمكن أن تكون دلالته لأحد الطرفين قطعية ما دام أنه يحمل أكثر من معنى. هذا والدلالة الظنية تكون في القرآن كما تكون في السنة. انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتب أصول الفقه، فقد بسطت الكلام حول هذا الموضوع وفصّلته.(1/7)
وإذا كان الاجتهاد جائزاً شرعاً في الموضوعين المذكورين آنفاً فإنه لا بد ــ إذا وقع ــ أن يترتب عليه اختلاف في وجهات النظر بين المجتهدين وأن تتعدد تبعاً لذلك مذاهبهم في المسألة الواحدة أو المسائل موضوع النظر.
وهذا التعدد والاختلاف ــ الذي بمثابة تنوع لا تضاد ــ ليس منهياً عنه شرعاً، بل رتب الشارع عليه الأجر والثواب للمصيب والمخطئ معاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))(1).
و إذا كان هذا النوع ليس منهياً عنه، فإن الخلاف فيه كما تقدم لا يُعد مذموماً إلا إذا أدى إلى الشقاق والنزاع والتباغض والتدابر. ولهذا نجد أن مثل هذا الاختلاف قد وقع في جميع الحقب ابتداء من عهده صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا، وقد حفلت كتب أهل العلم بالكثير منه.
المبدأ الثاني: التعاون على المتفق عليه والعذر في المختلف فيه:
تقدم معنا في الفقرة الماضية أن الخلاف فيما يحتمل الخلاف ينبغي أن لا يفسد للود قضية، وأنه مشروع وليس بمذموم.
وما دام أن الأمر كذلك، فينبغي أن تدرك الجماعات هذا المبدأ، وأن تتسامح في مسائل الخلاف، وأن ترفع الملام فيها، وأن يعذر بعضها بعضاً، وأن تتعاون وتتوحد كلمتها حول قضايا الوفاق، وهي كثيرة والحمد لله. وهذا ما كان عليه الصالحون من أئمة وعلماء هذه الأمة.
وحتى يتحقق هذا المبدأ وتؤدي الجماعات العاملة في الساحة الدور المناط بها في تحقيق وحدة الصف وتوحيد الكلمة، أرى أنه لا بد من توفير ثلاثة شروط هي أساس في هذا الموضوع، وهي:
__________
(1) رواه البخاري في الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد وأصاب أو أخطأ 13/393، حديث رقم 7352، ومسلم في الأقضية، باب بيان أمر الحاكم إذا اجتهد وأصاب أو أخطأ 7/269.(1/8)
الشرط الأول: أن تري الجماعة نفسها أنها جماعة من المسلمين، تسعى لتوحيد صفوفهم، ولمِّ شملهم، وأنها ليست هي وحدها جماعة المسلمين كما تصرح بهذا بعض الجماعات، وكما يدل على ذلك تصرفات الأكثر، كما أنه لا بد من أن يكون هذا المبدأ عقيدة راسخة ثابتة عند كل جماعة.
وإنما كان هذا الشرط ضرورياً لأن كل جماعة إذا صرحت بأنها هي الجماعة الوحيدة ــ بالقول أو كانت تصرفاتها مع غيرها تدل على هذا الفهم ــ فإنه ستكون علاقتها مع غيرها من الجماعات ــ شاءت أم أبت ــ علاقة عداء وشحناء وبغضاء.
الشرط الثاني: أن تعترف بالجماعات الأخرى العاملة معها في الساحة مهما اختلفت معها، سواء كان ذلك الخلاف فكرياً في بعض المسائل والفروع، أم خلافاً تنظيمياً في بعض الوسائل والسبل المؤدية إلى المقصود.
الشرط الثالث: أن تجتمع هذه الجماعات وتتعاون، بل وتتعاضد في تحقيق القضايا المتفق عليها وهي كثيرة جداً لا حصر لها، وأن يعذر بعضها بعضاً في مسائل الخلاف مع إدارة النقاش والحوار العلمي حولها بالحسنى.
وليس معنى إدارة الحوار والنقاش حولها بالحسنى أن نجعلها محور نشاطنا بل ينظر إليها بحسب أهميتها وضرورتها الوقتية، فإن كانت مسألة ينبني عليها عمل الآن، أو يتوقف على حسمها موضوع ذو بال فيمكن مناقشتها في إطار ما ذكر من تعاون وتواد، بشرط أن يقوم بذلك أهل الذكر والاختصاص في كل مجال، من أهل العلم والفقه بالمسألة، أو المسائل موضوع النظر.(1/9)
هذا هو المنهج الذي ــ في رأيي ــ ينبغي أن يتبع، لكن الناظر لحال أغلب الجماعات اليوم يرى أن أكثرها قد بَعُدَ عن هذا الفهم حتى أصبحت هذه الجماعات معاول هدم، بدلاً من أن تكون أدوات بناء وإصلاح. فمنها التي سلكت مسالك التكفير والتفسيق والتضليل للأفراد أو الجماعات أو الهيئات، ومنها التي ما لبثت بعد إنشائها أن سلكت مسلك ما يعرف في زماننا هذا (بالأحزاب العقائدية)؛ فنجدها تفسر وتحلل كل مجريات الأحداث من حولها بناء على مقولاتها العقدية حتى تحولت اجتهاداتها وبرامجها إلى عقائد يجب الإيمان بها، ويحرم التعامل مع سواها.
ومنها التي أقامت بنيانها من أول يوم على أسلوب المعارضة الغربي فتراها ضد كل حاكم وحكومة، بل ربما جعلت هذا من كمال التصور الإسلامي!! وليتها كانت ضده فيما فيه معصية فقط، بل تجدها ضده في كل شيء مع أن الله سبحانه وتعالى يحذرنا من سلوك مثل هذه المسالك حين يقول: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)(1).
ألم تر أن الله سبحانه وتعالى أنصف قائل الحق حتى ولو كان كافراً؟ أليس هو القائل في شأن بلقيس عندما قالت: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)(2)؟ أليس هو القائل: (وكذلك يفعلون)(3) تقريراً وتصديقاً لما قالت؟ مع أنها قالت هذه العبارة في حق سيدنا سليمان ومعلوم أن سيدنا سليمان لا كسائر الملوك بل كان الملك النبي عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
__________
(1) سورة المائدة: 8.
(2) سورة النمل: 34.
(3) سورة النمل: 34.(1/10)
وهناك نماذج ونماذج أخرى منتشرة في عالمنا الإسلامي من الجماعات التي لها مسالك ووسائل مشابهة لهذه، وبعضها أشد نكارة منها. ولكن المنهج الذي أراه محققاً لوحدة المسلمين وتجميع صفوفهم هو المنهج الذي يوحد ولا يفرق، والذي يجمع الناس على الحد الأدنى، ويبذل أصحابه قصارى جهدهم ووسعهم في تقريب شقة الخلاف ومعالجته، ولا يكون ذلك ولا يتم إلا بتعميق روح الإخاء والمحبة، والتسامح، والإعلاء من شأن الوحدة أولاً ثم بعد ذلك معالجة ما قد يوجد من تقصير أو خطأ في إطار هذا الحب والإخاء والوحدة.
ما أحوج الدعاة اليوم إلى الوقوف كثيراً أمام هذا الشعار الذي أصبح يتردد لمجرد الهتاف فقط من غير بذل جهد لتحقيقه في الواقع، وهو: "نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"(1).
وخلاصة الأمر فإن المسلم عليه أن يسعى ما وسعه الجهد لتوحيد الصفوف وجمع الشمل، وأن يقوم بما تيسر له من ذلك، وأن يتقي الله ما استطاع.
فنحن الآن في عهد لعله لم يبلغ في البعد ذلك المبلغ الذي خاف منه حذيفة رضي الله عنه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل إذا أدركه وهو: عدم وجود الجماعة والإمام فلعلنا نحن الآن في عهد: الجماعةُ فيه موجودة ولكن بلا إمام. صحيح أن وجود الجماعة فيه شيء من العوج والدخن، ولكن هذا يوجب علينا السعي لإصلاح هذا العوج، وإزالة هذا الدخن لا العكس، وهذا يلزمنا أن نحافظ على هذه الجماعة من حيث هي جماعة، على أي كيفية ودرجة وجدناها، ثم بعد ذلك نسعى للرفع من شأنها حتى نرد الإمام والسلطان إليها وإلى الإسلام رداً جميلاً.
الموضوع الثاني
__________
(1) قال الشيخ الدكتور القرضاوي في كتابه: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ص159:إن أول من أطلق هذا الشعار هو المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا. ثم استحسنه الإمام الشهيد حسن البنا فجعله شعاراً له ولإخوانه ولأتباعه يحضهم به على الالتقاء والتعاون مع الآخرين.(1/11)
دواعي الاتفاق
الاتفاق والوحدة والإخاء بين الجماعات العاملة في الساحة الدعوية تفرضه وتمليه دواع كثيرة، منها الشرعية ومنها الواقعية، ويمكن تلخيص أهم هذه الدواعي فيما يلي:
أولاً: الدواعي الشرعية:
وأعني بالدواعي الشرعية هنا: ما ورد من أدلة شرعية توجب علي الأمة وعلمائها ودعاتها التوحد والتعاضد والتعاون علي البر والتقوي. ويمكن جمع هذه الدواعي في الآتي:
(1) الوجوب الشرعي للوحدة:
مما لا شك فيه أن التوحد والتعاون بين المسلمين أفراداً وجماعات واجب شرعي تمليه عليهم العقيدة قبل الشريعة؛ ذلك لأن التفرق أخو الكفر والتوحد أخو الإيمان. وقد ذكرنا ذلك بما لا حاجة لتكراره هنا عند تناولنا للمبدأ الأول من الموضوع الأول. وقد ذكرنا هناك نصوصاً من القرآن والسنة نؤكد هذا المعني وتجعله أصلاً أصيلاً وركناً ركيناً لا تتم وحدة المسلمين إلا به.
(2) مقتضى عقيدة الولاء والبراء:
ومما يحتم علي الدعاة أمر الوحدة بين جماعاتهم وتنظيماتهم المختلفة هذه العقيدة العظيمة (عقيدة الولاء والبراء) أو (المولاة والمعاداة) أو (الحب والبغض)، ذلك لأن الوحدة لا تكون إلا إذا والى المؤمن أخاه المؤمن بغض النظر عن فكره، أو مذهبه، أوجماعته، أو قبيلته، أو إقليمه الذي انحدر منه، يواليه ويحبه، ويبغض أعداء الله ويتبرأ منهم حيثما وجدوا، وأينما كانوا، ولقد تواترت النصوص القرآنية والسنية المؤيدة لهذا المعني ومن ذلك:
قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)(1).
__________
(1) سورة التوبة: 71.(1/12)
وحتى لا يتهاون المسلم في أمر الموالاة لإخوانه المسلمين، ويتشاغل عنها بما هو دونها، نبهه الله سبحانه وتعالى ولفت نظره إلى حال أهل الكفر وعلاقتهم مع بعضهم، وأنهم يتوالون ويتآخون ويتناصرون ضده، وأنه إذا لم يقابلهم بما يكافئ هذا الصنيع وهو موالاته لإخوانه، وموادته ومناصرته لهم تقع الفتنة في الأرض والفساد الكبير.
وذلك في قول الله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(1).
وهذا سمة مميزة وطبع مركوز في أعداء الله ورسوله، إنهم هكذا يتحالفون ويتآزرون ضد أولياء الله وحزبه في كل عصر وفي كل مصر. وهذا ما نشاهده اليوم فانظر إلى حالهم ثم انظر إلى حالنا وما نحن فيه من فرقة وشتات. وليتنا وقفنا عند هذا الحد بل أصبح بأسنا بيننا شديداً.
ثم إن الموالاة لأولياء الله وحزبه ليست هي وحدها المطلوبة، بل لا بد معها من معاداة أعداء الله، وقطع أية صلة ولاء بينهم وبين المسلم، ما دامت هذه صفتهم ــ أعني معاداة المسلمين ــ، اسمع معي إلى قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة... الآية)(2).
وهذه الآية بالإضافة إلى وضوح معناها فإن سبب نزولها يزيد هذا المعنى إيضاحاً حيث نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أسرَّ لبعض مشركي مكة بنية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوهم.
إلا أنه لما بيَّن للنبي صلي الله عليه وسلم السبب الذي حمله على ذلك قال صلي الله عليه وسلم راداً علي عمر رضي الله عنه الذي طلب منه أن يأذن له في قتله: ((إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
__________
(1) سورة الأنفال: 73.
(2) سورة الممتحنة: 1.(1/13)
ويكفي موالاة الأعداء جرماً أن الله اعتبرها منافية للإيمان ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه... الآية)(1).
والآيات والأحاديث في هذا المعني كثيرة محفوظة.
ثانياً: الدواعي الواقعية:
وأعني بالدواعي الواقعية هنا: الظروف المحيطة بالأمة والتي جعلت عقد وحدتها ينفرط وبنيانه يتصدع ويمكن تلخيص أهم هذه الدواعي في الآتي:
الأول: الأعداء:
لا شك أن من أقوي الدواعي على تكاتف المسلمين عموماً والدعاة والعلماء، خصوصاً ما تعانيه الأمة اليوم من شتات وتمزق، واختلاف وشقاق، وبعد عن منهج الله في كل الشئون.
هذا بالإضافة إلي تداعي الأمم عليهم كتداعي الأكلة إلي قصعتها، وتكالب الطامعين على أوطانهم وثرواتهم، وحقدهم عليهم، وعلي دينهم، وسعيهم الحثيث لضربهم، في عقيدتهم وصرفهم عنها.
وعلي رأس هؤلاء الذين يؤججون ــ قديماً وحديثاً ــ نيران الخلاف ويذكونها بين المسلمين ابتداءً من يهود ومنافقين قديماً، وصليبين ومستعمرين ويهود حديثاً، وأكبر من أسهم في هذا بقسط وافر، الاستعمار الغربي الحديث الذي أجَّج نيران الفرقة والشتات والصراع بين القبائل والطوائف والجماعات في القطر الواحد بل ربما أنشأ جماعات بوعي منها أو بدون وعي لأجل هذا الغرض؛ وذلك كله إعمالاً لقاعدته الشهيرة: (فرق تسد)،وذلك لم يتم له على أكمل وجه إلا بعد أن قطع أوصال ما تبقى من جسم الخلافة، هذا بالإضافة إلى تنحيته الكاملة لما بقى من أحكام الإسلام في شئون الحياة العامة من واقع الناس.
الثاني: التعصب للجماعات والهيئات:
__________
(1) سورة المجادلة: 22.(1/14)
وأعني بها الجماعات والهيئات التي نشأت لأهداف وأغراض جزئية محدودة تضيق أو تتسع، كأن تنشأ خصيصاً لخدمة أفرادها مثلاً، أو التمكين لفكرها دون غيره، أو لمذهبها العقدي، أو السياسي الذي يوجد ما يخالفه، وبالتالي عدم التقائها مع الآخرين، بل المحاربة لهم، ومحاولة القضاء عليهم وعلى فكرهم. فتجدها تنظر إلى غيرها من الجماعات والهيئات والأفراد نظرة احتقار، تتتبع عيوبها، وتسعى لكشف عوراتها، وتفخيم وتضخيم أخطائها، وإفشال مجهوداتها وخططها، والطعن في زعمائها وقادتها، ورميهم بكل منقصة وقد يصل أحياناً إلى اتهامهم بالمروق والخروج.
وتبعاً لذلك تنظر لنفسها بأنها على الحق الصراح الذي دونه الكفر البواح، والصواب الذي دونه الخطأ الماحق، وأنها الطائفة المنصورة الموعودة بالتمكين والنصرة، والمعصومة من الخطأ فنجدها تبرر لنفسها كل ما تفعل، وتحكم على جميع تصرفاتها بالشرعية والجواز حتى ولو كانت خطأً بيناً حتى يقودها هذا لأن تجعل من الجماعة غاية في ذاتها، لا يمكن تجاوزها لخير غيرها من الجماعات. وقد يتعدى الأمر أكثر من هذا ــ عند بعضها ــ حتى ترى نفسها هي جماعة المسلمين، وإمامها هو إمامهم، ومن كان على خلاف نهجها فهو كافر مشرك متبع للطاغوت والهوى، وإن كل جماعة سوى جماعتهم جماعة جاهلية... إلخ.
وقد تنشأ جماعة لغرض حميد طيب، ولكن تنْزلق وتتعثر في منتصف الطريق، فتقع في مثل هذه المحاذير، وقد تنشأ بقصد نشر فكر أو مذهب تراه صحيحاً، ولكنها تقضي جل وقتها إن لم يكن كله في النقاش والجدال والمراء الفكري مع المخالفين حتى تترتب علاقاتها معهم على هذا النحو. وهناك نماذج ونماذج ظاهرة للعيان تملأ الساحة الدعوية الآن.(1/15)
كل هذا يحدث بين الجماعات الآن مع أن الناظر المنصف إذا بحث نقاط الخلاف ونظر فيها نظرة فاحصة محايدة لا يجد خلافاً جوهرياً، بل يجد ما يجمع أكثر مما يشتت للجهد ويبعثر، وما يوحد أكثر مما يفرِّق، ولذلك كان الصالحون من المؤسسين للجماعات المعاصرة عندما رأوا أن ما اجتمع في الإسلام من كمال وشمول تفرَّق على هذه الجماعات رأوا ــ وهم محقون ــ أن كل جماعة يمكن أن تكون مكمِّلة وخادمة للأخرى من خلال ميدانها الذي تعمل فيه، وبالتالي تعتبر محققه لجزء من أهدافها وبرامجها.
ومما لا شك فيه أن هذا التعصب الممقوت من أقوي الدواعي الواقعية على ضرورة الاتفاق والوحدة والتلاقي بين العاملين في حقل الدعوة.
الموضوع الثالث
الوسائل المعينة علي الاتفاق والوحدة
لا شك أن الوسائل المعينة على وحدة الصف ونبذ التفرقة والشقاق كثيرة، وقد ذكرنا طرفاً منها فيما سبق، وفي هذه الصفحات المحدودة لا يمكننا حصرها وإحصاؤها، ولكن يمكننا الإشارة إلي أهمها في هذه الأسطر من خلال وسيلتين:
الوسيلة الأولى: ضرورة الالتزام بآداب الاختلاف:
هناك آداب لا بد من مراعاتها بين المختلفين والالتزام بها الآن ــ إضافة لما ذكر ــ وذلك قبل أن يخوض الخائض في مسائل الخلاف والحوار حولها أجملها فيما يلي:
أولاً: لا بد من التأكيد على أن المسلمين أمة واحدة يجمعهم دين واحد ورسول واحد وكتاب واحد، وقبلة واحدة، وأنهم مهما اختلفوا ينبغي أن يعتصموا بهذه الوحدة الجامعة وأن يجعلوا منها صخرة تتكسر عندها كل دواعي الفرقة والشتات ولقد سبق مزيد تفصيل لهذا الموضوع في أكثر من موضع.
ثانياً: لا بد من الإعلان الصريح والقوى عن حرية الرأي والفكر، وأن الإسلام أعلى من شأنها، والإعلان تبعاً لذلك بأن الخلاف في الرأي ــ فيما يحتمل الخلاف ــ ظاهرة صحية. وأن الله سبحانه وتعالى تعبَّدنا بالاجتهاد وبلوغ غاية الوسع فيه للوصول إلى الحق في مثل هذه المسائل.(1/16)
ثالثاً: لا بد من الاعتراف بالواقع الحالي للمسلمين وعدم القفز فوقه، أو الهروب منه وهذا يستلزم الاعتراف بتعدد الجماعات، والأحزاب والمذاهب، والطوائف الموجودة الآن أو التي ستوجد لاحقاً والتعامل والتعاون معها للوصول إلى الغايات المبتغاة. وهذا يلزم منه الصبر على الأدواء الموجودة والتماس الأدوية المناسبة لها ومعالجتها بها في تدرج، ومرحلية، وسعة صدر، مع البعد كل البعد عن طي المراحل دعك من حرقها، كما يقولون،كل ذلك مع السعي الحثيث لتوحيد الكلمة بالحسنى.
رابعاً: الحكم على المخالف في الرأي بمقتضى مذهبه هو لا بمقتضى مذهبك أنت، خاصة في المسائل التي يلزم من القول بها على مذهبك كفرٌ أو معصية غليظة، أو لعن يلحق بالفاعل، بينما لا يلزم شيء من ذلك بناء على مقتضى مذهبه هو.(1/17)
ولهذا أمثله عديدة من مسائل الخلاف الموروثة منها علي سبيل المثال: ما لو كان مخالفك يرى جواز أو وجوب الاستثناء في الإيمان(1) بينما أنت ترى حرمته أو كفر قائله؛ فعلى مقتضى مذهبك أنت فهو إما واقع في معصية غليظة، أو مقترف لكفر، أما على مذهبه هو فلا يلزم شيء من ذلك. ومثله أيضاً ما لو كان مخالفك يرى صحة النكاح من غير ولي، وأنت ترى الولي ركناً في النكاح، فعلى مقتضى مذهبك النكاح باطل يُفسح بينما على مقتضى مذهبه هو صحيح نافذ، ولذلك عند حكمك عليه لا يحل لك أن تحكم عليه بأنه يعاشر من لا تحل له، أو تحكم عليه بأنه واقع في الإثم والمعصية واللعن وما شاكل ذلك. بل لولا اعتبار هذا الأصل لما صحت عبادة أو معاملة قط؛ ذلك لأن ما يرجحه إمام في شأن عبادة أو معاملة معينة يكون مرجوحاً عند غيره وحينئذ لا تتحقق صحة عبادة أو معاملة، وإليك هذا المثال الذي يدل دلالة واضحة على ما قلنا وهو متعلق بعبادة واحدة فقط.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)(2).
يقول الشيخ الدكتور القرضاوي تعليقاً على هذه الآية: "كم في هذه الآية من آراء وأقوال للفقهاء اختلفت باختلاف أفهامهم، وتعدد تفسيراتهم. وجلها يتعلق بأمور لغوية.
__________
(1) الاستثناء في الايمان هو: قول الشخص أنا مؤمن إن شاء الله، وينسب القول به للشافعية انظر تفاصيل هذا الموضوع في مهذب شرح العقيدة الطحاوية ص 271ــ273.
(2) سورة المائدة: 7.(1/18)
هل الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة مغسولة وممسوحة فرض أم لا؟ وهل الغاية في قوله: (إلى المرافق)، وقوله: إلى (الكعبين) داخلة أو لا؟ وهل الباء في قوله: (برؤوسكم) تفيد الإلصاق، أو التبعيض، أو هي زائدة؟ وما تأويل قراءة: (وأرجلكم) بالجر.
والمراد بقوله تعالى: (أو لامستم النساء) أهو لمس البشرة بالبشرة أم كناية عن جماعه كما يقول ابن عباس؟.
وما المراد بالصعيد في التيمم؟ أهو التراب؟ أم كل ما كان من جنس الأرض؟
وما المراد باليد في قوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) أهي مجرد الكفين؟ أم ما ذكر وهو ما يصل إلى المرفقين؟
وما معنى قوله: (فلم تجدوا ماء)؟ أيدخل فيه فقدان الماء حكماً، وإن وجد الماء حقيقة؟ كما إذا كان محتاجاً إليه لشرب أو عجن أو طبخ؟
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي أخذ بكل منها إمام من الأئمة"(1).
فتأمل معي كيف إن هذه العبادة الواحدة، والتي هي مفتاح أكثر العبادات تعددت مذاهب العلماء فيها تبعاً لاختلافهم في الدلالات اللغوية لبعض العبارات، مع أن النص من حيث الثبوت قطعي إجماعاً، ولا شك أننا إذا لم نراعِ مذهب كل إمام وما أداه إليه اجتهاده لحكمنا على وضوئه أو تيممه بالبطلان، ولحكمنا تبعاً لذلك على وضوئنا أو تيممنا نحن بالبطلان كذاك؛ لأن ما تراه أنت فيه وفي وضوئه أو تيممه يراه هو فيك وفي وضوئك أو تيممك، وليس أحد الحكمين بأولى من الآخر، ولذلك كان علماؤنا الأجلاء رحمهم الله يجادلون في مسائل الخلاف بالحسنى للوصول إلى الصواب، ولا يخطِّئون بل ولا ينكرون تبعاً لقاعدتهم المعروفة (لا إنكار في مسائل الخلاف)(2).
__________
(1) الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 63 و64.
(2) انظر هذه القاعدة في الأشباه والنظائر للسيوطي ص 58.(1/19)
ولبيان هذا الموضوع يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لطائفة من أسباب الاختلاف بين العلماء: "... وإن كان الترك ــ أي ترك الدليل ــ يكون لبعض هذه الأسباب فإن جاء حديث صحيح فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن نعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب لكونه حلَّل الحرام، أو حرَّم الحلال أو حكم بغير ما أنزل الله"(1).
ثم بعد ذلك ذكر نماذج من العلماء ذهبوا مذاهب وتمسكوا بآراء مخالفة لبعض الأدلة بناء على الأسباب المتقدمة فقال: "... فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد لما كان لهم من العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أُخر"(2).
وقال رحمه الله في موضع آخر بعد أن ذكر كلاماً على نحو ما ذكر قال: ".. وهذا باب واسع فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأئمة لم تبلغهم أدلة التحريم فاستحلوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى رأوا رجحانها عليها مجتهدين في ذلك الترجيح بحسب عقلهم وعلمهم، فإن التحريم له أحكام من التأثيم، والذم والعقوبة، والفسق وغير ذلك لكن لها شروط وموانع. فقد يكون التحريم ثابتاً، وهذه الأحكام منتفية لفوات شرطها، أو وجود مانعها، أو يكون التحريم منتفياً في حق ذلك الشخص مع ثبوته في حق غيره..."(3).
وما ذكرناه من قاعدة، وما ذكر الشيخ رحمه الله من فروع يشهد له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر))(4).
__________
(1) رفع الملام ص 48 و49.
(2) المصدر نفسه ص 78.
(3) المصدر نفسه ص 85 ــ 86.
(4) رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 13/393، حديث رقم 7352، ومسلم في الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 7/269.(1/20)
وبناء على هذا الحديث فإن من اجتهد في مسألة فخالف الحق فيها فهو مخطئ معذور مأجور، وهذا لا يمنع أن يكون هذا الفعل الذي فعله هذا المجتهد المتأوِّل بعينه حراماً، لكن لا يترتب أثر التحريم عليه لعفو الله عنه فإنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها(1).
وخلاصة القول أن الاختلاف لم يمنعنا أن نعتقد تحريم ما ورد تحريمه في الدليل محتجين بهذا الدليل، كما أن مجيء هذا الدليل لا يمنعنا أن نعتقد أن هذا المتأوِّل معذور في ذلك لا يلحقه الوعيد(2).
وبناء على هذه القاعدة فرَّع الشيخ رحمه الله فروعاً كثيرة بثها ونثرها كالدرر في ثنايا كتابه مع التعليقات التعليلية الدقيقة عليها وإليك نماذج من هذه النقول:
? قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم))(3).
ومع ذلك من الفقهاء من يكره هذا الفعل كراهة تنزيه(4) لا تحريم ومعلوم أن كراهة التنزيه لا يترتب على فعلها إثم ولا عقاب.
? ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))(5).
فهذا الحديث يجب العمل به في تحريم قتال المؤمنين بغير حق، ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفين ليسوا في النار لأن لهم عذراً وتأويلاً في القتال، وحسنات منعت المقتضى أن يعمل عمله(6).
__________
(1) انظر رفع الملام ص 68.
(2) انظر المصدر نفسه ص 81 ــ 82.
(3) رواه البخاري في الأشربة، باب آنية الفضة 10/118، حديث رقم 5634، ومسلم في اللباس، باب تحريم استعمال الذهب والفضة 8/337.
(4) انظر رفع الملام ص 80.
(5) متفق عليه من حديث أبي بكرة وتقدم تخريجه ص 140.
(6) انظر رفع الملام ص 80 و81.(1/21)
? وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلِّل والمحلًّل له))(1). فهذا حديث صحيح روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن أصحابه رضى الله عنهم، ولكن مع ذلك هنالك طائفة من العلماء صححوا هذا النكاح مطلقاً ومنهم من صححه إذا لم يشترط في العقد، ولهم في ذلك أعذار معروفة، فنحن نعلم أن مثل هؤلاء لا يصيبه هذا الوعيد لو أنه فعل التحليل معتقداً حله على ذلك الوجه، ولا يمنعنا ذلك أن نعلم أن التحليل سبب لهذا الوعيد وإن تخلف في حق بعض الأشخاص لفوات شرط، أو لوجود مانع(2).
? ومن ذلك ما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "ثلاثة (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)"، قال: "قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات"، فقال أبو ذر: "خسروا وخابوا من هم يا رسول الله؟"؛ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"(3).
مع أن طائفة من الفقهاء يقولون الجرَّ والإسبال للخيلاء مكروه غير محرم(4).
__________
(1) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ: لعن رسول الله... في كتاب النكاح باب ما جاء في المحلل والمحلل له 3/428 و429 حديث رقم 1130: وقال: حسن صحيح. ورواه النسائي في الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثاًو ما فيه من التغليظ 6/149، ورواه أبو داود من حديث علي في النكاح، باب: التحليل 2/234 حديث رقم 2076، ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس في النكاح، باب: المحلل والمحلل له 1/622 حديث رقم 1934، ومن حديث علي 1/622 حديث رقم 1935، ومن حديث عقبة بن عامر 1/623 حديث رقم 1936.
(2) رفع الملام ص 82 ــ 83.
(3) رواه مسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم إسبال الأزار 1/449و450، ورواه أبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
(4) انظر رفع الملام ص 103.(1/22)
وخلاصة الأمر أن الذم لا يلحق المجتهد في مثل هذه المسائل، ما دام أنها قابلة للاجتهاد، وأنه معذور فيها. يقال كل هذا مع أن الجميع متفقون على أن محلل الحرام أعظم إثماً من فاعله ولكن مع ذلك: المعذور معذور(1) ولهذا لا يعتبر محلاً للحرام، وإن شابه مُحّل الحرام في الصورة؛ وذلك لأنه عندما حلله لم يحلله مع علمه بحرمته بل لم يثبت عنده التحريم كما مر.
وهذا باب عظيم يغفل عنه كثير من الناس الآن، حيث يحكمون على مخالفيهم بالتضليل والتفسيق، بل والتكفير أحياناً، ويرتبون في حقهم الوعيد بسبب خلافهم معهم في بعض المسائل، أو بسبب فعلهم لبعض المحظورات التي لا يرون أن حكمها كذلك.
وإذا كان الخلاف في مثل هذه المسائل متسامحاً فيه مع أهميتها؛ فمن باب أولى يكون التسامح فيما هو دونها في الأهمية، كالاختلاف في ترتيب الأوليات بين الجماعات، والخلافات الفكرية والتنظيمية بينها.. إلخ.
خامساً: إدارة الحوار والنقاش العلمي المنظم حول هذه الموضوعات من قبل الباحثين وأهل الاختصاص، مع وضع الضوابط التي تنظم هذا الحوار والنقاش بين الأطراف المتحاورة، مع الاستهداء في ذلك بالقواعد والأسس التي كان يستهدي بها العلماء الأوائل، كالتي صيغت ضمن: (علم البحث والمناظرة) وغيرها، مما يفيدنا في واقعنا المعاصر مع التنبيه على إنها مسائل علمية، والشأن فيها تركها لأهل الاختصاص ولا شأن للعامة فيها.
الوسيلة الثانية: ضرورة الالتزام بآداب الحوار:
سوف أشير هنا مجرد إشارات إلى قواعد يمكن أن تعيننا في هذا المجال في واقعنا المعاصر، وهي في جملتها مستخلصة من روح علم البحث والمناظرة المشار إليه قبل قليل لا من نصوصه.
__________
(1) انظر المصدر نفسه ص 106.(1/23)
أولاً: استعداد الطرفين للتخلي عن الرأي السابق متى ما ظهر أن الحق على خلافه، مع عدم استباق النتائج بتخطئة المخالف ابتداء وقبل نصب الأدلة والبراهين الدالة على ذلك، شعارهم في ذلك قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)(1).
يقول الفخر الرازي رحمه الله تعليقاً على هذه الآيات: "هذا إرشاد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في المناظرات الجارية في العلوم وغيرها لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت مخطئ يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ، والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع للحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب، وذلك لا يوجب نقصاً في المنزلة؛ لأنه أوهم بأنه في قوله شاك، ويدل عليه قوله:(وإنا أو إياكم) مع إنه لاشك في إنه هو الهادي وهو المهتدي، وهم الضالون والمضلون.
ثم قال تعالى: (قل لا تُسأَلون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون) أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم: (ولا نُسأل عما تعملون) ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع في الفهم. وقوله: (ولا تُسألون) (ولا نُسأل) زيادة حث على النظر، وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذاً بجرمه فإذا احترس نجا ولو كان البريءُ يؤاخذ بالجرم لما كَفَى النظر.
ثم قال تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم)(2) أكد ما يوجب النظر والتفكير، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب"(3).
__________
(1) سورة سبأ: 24ــ 26.
(2) 55) سورة سبأ: 26.
(3) التفسير الكبير 25/257ــ259.(1/24)
ثانياً: التقيُّد بالقول الحسن المهذب بعيداً عن الطعن والتجريح والسب واللعن ذلك لأن اللعن والسب ونحوهما ليس من خصال المؤمن الحق، اسمع معي إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))(1). كما أنه يلزم هنا: البعد عن الطعن في الأشخاص والهيئات ومهاتراتهم، وتحميل أقوالهم وأفعالهم ما لم تحتمله، مع مناقشة ظاهر أقوالهم وآرائهم دون اللجوء إلي لوازمها وتأويلاتها البعيدة، بل الأولى حملها المحمل الحسن ما أمكن ذلك. ثم اسمع معي إلى هذه التوجيهات الربانية القوية الدلالة في هذا الموضوع: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)(2).
وقوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين)(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن فإن الظن اكذب الحديث))(4)، ويكون الحذر أشد عندما يجتمع اتباع الظن مع اتباع الهوى كالذي ذم الله به المشركين في قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)(5)، وقوله تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)(6).
ومن أخطر الأدواء في هذا الجانب اتهام النيات والمقاصد والحكم على سرائر الناس، ويزداد الأمر سوءً عندما يرتب المرء حكماً بناءً على هذه التهم، ولعل نموذجاً سنياً واحداً في هذا المقام يكفي كدلالة على بشاعة وشناعة مثل هذا الصنيع.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 5/322 حديث رقم 3839.
(2) سورة الحجرات: 12.
(3) سورة النور: 12.
(4) رواه البخاري في الأدب، باب: ما نهي عن التحاسد والتدابر 10/589 حديث رقم 6064، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم والتجسس 19/400.
(5) سورة النجم: 23.
(6) سورة القصص: 50.(1/25)
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله. وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: ((يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!))، قال قلت: "يا رسول الله إنما كان متعوذاً". قال: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت إني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(1).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أشققت قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))(2).
والآداب المتعلقة بهذا الموضوع يصعب حصرها(3).
ثالثاً: الحوار بالتي هي أحسن: إذا كان الأدب الإسلامي مع المخالف يمنعك أن تتهم نيته، ويمنعك من الطعن فيه والتنقيص من شأنه؛ فإن الشارع لم يكتف بهذا، بل قرنه بأدب آخر وهو الجدال بالتي هي أحسن، ولم يقل بالحسنى، ذلك لأن لأفعل التفضيل هنا فائدة عظيمة فما من زيادة في المبنى إلا ولها زيادة في المعنى، وخاصة في الخطاب القرآني، فالله سبحانه وتعالى هنا ينهانا من مجادلة أهل الكتاب إذا لم نستطع مجادلتهم بأحسن الأساليب، حيث يقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(4). ومما يقوي ويعضد هذا إنه سبحانه عندما قرن الموعظة مع الجدال أمرنا أن نعظ بالحسنى أما الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن اسمع معي إلى قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(5).
__________
(1) رواه البخاري في المغازي، باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة... 7/658 حديث رقم 4269، ورواه مسلم في الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله 1/437.
(2) رواه مسلم في الكتاب والباب نفسيهما 1/437.
(3) لمزيد من التوسع في هذا الأدب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 223ــ 228.
(4) سورة العنكبوت: 46.
(5) سورة النحل: 125.(1/26)
و المعنى: أنه إذا كان هناك طريقان للجدال إحداهما حسنة والأخرى أحسن منها؛ فالأفضل للمجادل أن يجادل بالتي هي أحسن، وتأمل معي هل ثمة طريق آخر مشروع غير هذين؟(1).
رابعاً: البعد عن المراء والجدل المذموم: وهذا نوعٌ من الجدال حذر منه القرآن الكريم، والسُنّة المطهرة، وهو المراء المذموم والشدة في الخصومة والتي عبر عنها القرآن باللَّدد وهو المراء الذي يريد منه صاحبه الغلبة على محاوره من دون التزام بأسلوب صحيح، أو منطق مقبول أو خضوع لميزانٍ حاكم.
وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه أهل الشرك والكفر، وذمهم القرآن بسببه كما في قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق)(2).
وكما في قوله تعالى: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)(3)، وقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُداً)(4)، وقال في شأن مشركي قريش: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)(5)، وذم أصنافاً منهم فقال: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)(6).
وهذا الأسلوب حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث ومن ذلك ما جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)(7)(8).
__________
(1) لمزيد من التوسع في هذا الأدب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 245ــ253.
(2) سورة الحج: 8ــ9.
(3) سورة الكهف: 56.
(4) سورة مريم: 97.
(5) سورة الزخرف: 58.
(6) سورة البقرة: 204.
(7) سورة الزخرف: 58.
(8) رواه الترمذي في التفسير، باب: سورة الزخرف 5/353 حديث رقم 3253، وقال: حسن صحيح.(1/27)
وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم(1)"(2).
وأكره المراء هو ما يكون في أمور الشرع، وأشده كراهة ما يكون حول القرآن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما قال: هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف على وجهه الغضب فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب))(3).
وفي رواية أخرى لعبد الله بن عمرو: ((أنهم كانوا يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية))(4)، وفي رواية أخرى عنه أيضاً ورد فيها أنه صلى الله عليه وسلم غضب حتى احمّر وجهه يرميهم بالتراب وهو يقول: ((مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض أن القرآن لم ينزل بكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه))(5).
فما أحوج الدعاة اليوم على اختلاف مشاربهم، ومناهجهم، وجماعاتهم إلى الالتزام بهذه الآداب الجليلة الرفيعة(6).
خامساً: قبول النتائج التي توصل إليها الحوار دون تعصب للرأي السابق إن كانت المسألة مما يتأتى فيها الترجيح.
__________
(1) الألد: الشديد الخصومة، والخصم: الحازق بالخصومة.
(2) رواه مسلم في كتاب العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن 10/102. ورواه النسائي في آداب القضاء، باب: الألد الخصم 8/247ــ 248.
(3) رواه مسلم في كتاب العلم، باب: النهي عن اتباع متشابه القرآن 10/100و101.
(4) رواه أحمد في المسند 11/72 حديث رقم 6846، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر.
(5) رواه أحمد في المسند 10/174و175 حديث رقم 6702، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح.
(6) لمزيد من التوسع في دراسة هذه الآداب يمكن مراجعة كتاب الصحوة الإسلامية المرجع السابق ص 239ــ244.(1/28)
سادساً: إذا لم يتوصل الطرفان لاتفاق فيظل الحب والمودة والإخاء بينهم على أكمل وجه ولا يذهبه الخلاف في مثل هذه القضايا الفرعية. و قديماً قيل:(اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)
و الخلاصة: أنه لا بد من المحافظة على ما ذكر من ضوابط وأسس ووسائل للوحدة مع العض عليها بالنواجذ، ثم الإعلاء من شأن ما تقدم من آداب للخلاف والحوار إذا أُريد لسفينة الإسلام أن تعبر إلى شاطئ الأمان.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قائمة المراجع والمصادر
(1) القرآن الكريم.
(2) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية، لجلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ،1983م.
(3) التفسير الكبير، لفخر الدين الرازي، قدم له الشيخ : خليل محي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1410هـ، 1995م.
(3) رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مؤسسة مكة للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة، 1396هـ، 1976م.
(4) سنن ابن ماجة، عبد الله بن محمد يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار الحديث بالقاهرة، أخرى: دار إحياء التراث العربي 1395هـ، 1975م.
(5) سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الجيل، ببيروت 1408هـ، 1988م.
(6) سنن الترمذي، للإمام بن عيسى الترمذي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1408هـ،1988م.
(7) سنن النسائي، للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي، وعليه شرح الحافظ السيوطي وحاشية السندي، دار الحديث بالقاهرة، 1407هـ،1987م.
(8) شرح العقيدة الطحاوية، لمحمد بن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1391هـ، 1971م.
(9) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفريق المذموم، للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1411هـ،1991م.
((1/29)
10) صحيح مسلم، للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج النيسابوري، مطبوع مع شرح الإمام النووي عليه، دار المعرفة، ببيروت، 1401هـ،1981م.
(11) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، ومطبوع معه متن صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، وتصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ،1989م.
(12) لباب النقول في أسباب النزول، للحافظ جلال الدين السيوطي، مطبوع بهامش القرآن الكريم،مكتبة ميرزا بمكة المكرمة.
(13) المسند، للإمام أحمد بن حنبل، وبهامشه كنز العمال، المكتب الإسلامي، بيروت.
(14) مهذب شرح العقيدة الطحاوية، إعداد صالح بن عبد الرحمن، مراجعة الدكتور:على محمد ناصر فقيه، والدكتور أحمد بن عطية الغامدي، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(15) النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي، دار الفكر للطابعة والنشر، الطبعة الثانية، 1399هـ، 1979م.(1/30)