الابْتِلاءُ تَطْهِيرٌ وَنِعْمَةٌ مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ
هَانِي سَعْد غُنَيْم
الإِهْدَاءُ
إِلَى كُلِّ صَاحِبِ مَرَضٍ عُضَالٍ؛ فَلَنْ تَجِدَ أَشَدَّ مِنَ المرَضِ إِيلاَمًا.. إِلَى صَاحِبِ هَذَا الابْتِلاَءِ أَسِيرِ المسْتَشْفَيَاتِ عَلَى الأَسِرَّةِ البَيْضَاءِ، وَكُلُّهُ أَمَلٌ وَرَجَاءٌ فِي رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بَعْدَ صَرِاعٍ طَوِيلٍ مَعَ المرَضِ وَعَنَاءٍ وَصُحْبَةِ الأَشْقِيَاءِ، إِنَّهُ يَطْمَعُ -الآنَ- فِي مَغْفِرَةِ رَبِّهِ؛ لِيَكُونَ مِنَ السُّعَدَاءِ.
إِلَى كُلِّ مُبْتَلًى ابْتَلاَهُ رَبُّهُ، عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَاشْتَدَّ بَلاؤُهُ، فَتَابَ إِلَى رَبِّهِ وَصَبَرَ وَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، أُوَجِّهُ إِلَيْهِ رِسَالَتِي هَذِهِ؛ لِيَزْدَادَ إِيْمَانًا مَعَ إِيْمَانِهِ، فَهُوَ يَعْلَمُ -يَقِيْنًا- أَنَّ ذُنُوبَهُ لَوْ بَلَغَتْ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ مَوْلاَهُ غَفَرَ لَهُ خَطَايَاهُ، وَأَنَّ ابْتِلاءَهُ مَهْمَا ثَخُنَ (اشْتَدَّ) فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ َرِّبِهِ وَتَطْهِيرٌ؛ حَتَّى يَنْقَلِبَ إَِلَى رَبِّهِ مَسْرُورًا.
وَإِلَى كُلِّ مُبْتَلًى ابْتَلاَهُ رَبُّهُ، حَتَّى وَصَلَ بِهِ الحَالُ وَالمآلُ إِلَى دَرَجَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الضِّيْقِ وَالشِّدَّةِ، حَتَّى أَوْشَكَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَقُولُ لَهُ بِمِلْءِ فَمِي نَاصِحًا نَفْسِي وَإِيَّاهُ: لاَ.. لاَ تَيْأَسَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ قَانِطٍ يَائِسٍ ضَالٍّ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحِجْر56](1/1)
وَأَخِيرًا.. إِلَى شَقِيقَتِي الكُبْرَى هَنَاء سَعْد.. الَّتِي اُبْتُلِيَتْ ابْتِلاَءً شَدِيدًا بِمَرَضٍ مُؤْلِمٍ، فَصَارَعَتْهُ بِقُوَّةٍ وَصَبْرٍ وَإِيمَانٍ؛ وَلَكِنَّ الموْتَ كَانَ إِلَيْهَا أَسْرَعَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَتَقَبَّلَهَا فِي الصَّالِحِينَ، وَيَرْحَمَهَا وَيَرْحَمَ مَوْتَى المسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.
وَأَقُولُ لَكَ نَاصِحًا: ارْجِعْ وَتُبْ وَالْزَمْ طَرِيقَ المُتَّقِينَ، فَادْعُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الإِسْلامِ الَّذِي هَدَاكَ اللهُ إِلَيْهِ، كَانَ الشَّافِعِيُّ/ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ هَدَيْتَنِي إِلَى الإِسْلاَمِ دُونَ أَنَّ أَسْأَلَكَ؛ فَاهْدِنِي إِلَى الجَنَّةِ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ؛ فَالصَّبْرُ طَرِيقُ الجَنَّةِ.. وَاهْتَدِ بِهَدْيِ نَبِيِّكَ الأَمِينِSوَاثْبُتْ عَلَى ذَلِكَ؛ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ (الموت)؛ تَنْجُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِنْ عَذَابٍ عَظِيمٍ بِرَحْمَةِ اللهِ العَلِيمِ.
مُقَدّمَةُ الدُّكْتُورِ/ مُحَمَّد السّيّد مُوسَى .. حَفِظَهُ اللهُ(1/2)
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ وَالمرْسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَبَعْد.. فَإِنَّ البَلاَءَ ذَكَرَهُ الدَّامغَانِي فِي الوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: النِّعْمَة كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة49] أَيْ: فِي نَجَاتِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَالوَجْه الثَّانِي: الاخْتِبَار كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة155] أَيْ: لِنَخْتَبِرَكُمْ.
وَالمؤْمِنُ الحَصِيفُ ذُو القَلْبِ الأَرِيبِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَسَّبَ مِنْ أَحْوَالِ حَيَاتِهِ المخْتَلِفَةِ؛ فَيَغْتَنِم السَّرَاءَ وَالضَّرَّاءَ فِي مِيزِانِ حَسَنَاتِهِ، فَعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S(1) «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ ت: (مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهُ دُنْيَاهُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُكِرَ بِهِ؛ فَهُوَ مَخْدُوعٌ فِي عَقْلِهِ).
__________
(1) صحيح): أحمد 18455، مسلم 2999.(1/3)
وَالأَخُ الكَرِيمُ الأُسْتَاذُ/ هَانِي غُنَيْم.. جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا .. وَقَفَ عَلَى هَذِهِ المعَانِي فِي كِتَابِهِ المبَارَكِ: (الابْتِلاَءُ تَطْهِيرٌ وَنِعْمَةٌ مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ) الَّذِي جَمَعَ فَأَوْعَى؛ وَأَفَاضَ فَأَوْفَى؛ مُسْتَشْهِدًا بِآيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَحَسب القَاِرئِ أَنْ يُطَالِعَهُ فَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ، وَيَرْضَى بِقَضَائِهِ، وَيَشْكُر لِنَعْمَائِهِ.. أَسْأَلُ اللهَ العَلِيَّ القَدِيرَ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ. آمِينَ، وَأَرْجُو أَلاَّ يَنْسَانَا مِنْ خَالِصِ دُعَائِهِ.
دُكْتُور/ مُحَمَّد السّيّد مُوسَى
كُلِّيّة التَّرْبِيَةِ بِالمنْصُورَةِ
فِي يَوْمِ الأَحَدِ 19 مِنْ رَجَب 1427هـ
الموَافِق 13 مِنْ أُغُسْطُس 2006مـ
مُقَدّمَة المؤلِّفِ(1/4)
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِSعَادَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ؛ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ(1)، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِS(2): «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه: سُبْحَانَ اللَّهِ لا تُطِيقُهُ أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ أَفَلا قُلْتَ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}؟! قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ، وَهذا أبُو بَكْرٍ الصّدِّيق ا: لإِنْ أُعَافَ فَأَشْكُر خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِر، وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّS(3): «وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا.. » فَالشُّكْرُ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِدَوَامِ النِّعَمِ الموْجُودَةِ، وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ مُهِمٌّ لاسْتِجْلاَبِ النّعَمِ المفْقُودَةِ.
__________
(1) مثل الفرخ: ضعيف الجسم من شدة المرض.
(2) صحيح): مسلم 2688، وروى بَعضَهُ البخاري 4522.
(3) حسن): الترمذي3502، صحيح الجامع 1268.(1/5)
وَأَحْسَنُ الكَلاَمِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الموْلَى كَشْفَ البَلْوَى، فَاسْتَدْفِعُوا أَمْوَاجَ البَلاَءِ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَكْرَم عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ، «فَأَعْجَزُ النَّاسِ َمنْ عَجزَ عَنِ الدُّعَاءِ» كَمَا قَالَ سَيِّدُ الأَتْقِيَاءِ (1) وَلاَ يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ؛ فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ وَالمنَاجَاةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَسْمَعُ مَنْ نَادَاهُ، وَمَنْ سَأَلَ اللهَ بِصِدْقٍ كَشَفَ عَنِهْ بَلْوَاهُ وَحَمَاهُ وَوَقَاهُ، وَحَقَّقَ لَهُ سُؤْلَهُ وَمُنَاهُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! قُلْ: بَلَى وَأَنْتَ مُطْمَئِنُّ النَّفْسِ؛ فَادْعُ لِنَفْسِكَ وَلِلمُسْلِمِينَ -دَائِمًا- بِالعَفْوِ وَالمعَافَاةِ فِي الدّنيَا وَالآخِرَةِ، وَانْتَبِهْ -أَيُّهَا المفْضَالُ- فلاَ تَدْعُ على نَفْسِكَ وَإِخْوَانِكَ وَأَحْبَابِكَ بِالسُّوءِ، فَرُبَّمَا يُوَافِقُ الدُّعَاءُ سَاعَةَ إِجَابَةٍ؛ وَلَكِنْ إِذَا مَا قَدَّرَ اللهُ الابْتِلاءَ وَحَلَّ بِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ وَضَعْتَ قَدَمَكَ الآنَ فِي أَوَّلِ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ؛ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ إِلا وَابْتُلِيَ فِي أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ وَكَذَّبَهُ قَوْمُهُ؛ يَقُولُ ابنُ القَيِّم/ فِي كِتَابِهِ القَيِّمِ (الفَوَائِدِ): أَيْنَ أَنْتَ؟! وَالطَّرِيقُ: طَرِيقٌ تَعِبَ فِيهِ آدَمُ، وَنَاحَ لأجْلِهِ نُوحٌ، وَرُمِيَ فِي النَّارِ الخَلِيلُ، وَاضْطُجِعَ لِلذَّبْحِ إِسْمَاعِيلُ، وَبِيعَ يُوسُفُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَنُشِرَ بِالِمنْشَارِ زَكَرِيَّا، وَذُبِحَ السَّيِّدُ الحَصُورُ يَحْيَى، وَقَاسَ الضُّرَّ أَيُّوبُ، وَزَادَ عَلَى المِقْدَارِ بُكَاءُ دَاوُدَ، وَسَارَ مَعَ الوَحْشِ عِيْسَى، وَعَالَجَ
__________
(1) صحيح): صحيح الجامع 1044.(1/6)
الفَقْرَ وَأَنْوَاعَ الأَذَى مُحَمَّدٌS.
لِذَا فَاعْلَمْ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- أَنَّ سُنَّةَ الابْتِلاَءِ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي كَوْنِهِ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ لاَ مَحَالَةَ؛ لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ؛ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الطَّاغُوتَ، قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى(1): أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ! أَنْ يُمَكَّنَ لَهُ أَوْ يُبْتَلَى! فَقَالَ: لاَ يُمَكَّنُ لَهُ حَتَّى يُبْتَلَى؛ فَاقْرَأْ مَا شِئْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة24] فَإِذَا أَرَدْتَ الإِمَامَةَ فِي الدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فَاصْبِرْ للهِ تَعَالَى!.
وَلَقَدْ كَانَ أَوَّلَ المبْتَلَيْنِ فِي هَذِهِ الدُّنيَا أَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ عِنْدَمَا أَغْوَاهُمَا الشَّيْطَانُ فَأَكَلا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، فَاعْتَرَفَا بِظُلْمِهِمَا، وَطَلَبَا مِنْ ربِّهِمَا غُفْرَانَ ذَنْبِهَمَا، فَقَالاَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف23]
__________
(1) زاد المعاد) لابن القيم رحمه الله..(1/7)
ثَبَّتَكَ اللهُ وَحَفِظَكَ وَآوَاكَ وَصَبَّرَكَ وَرَعَاكَ، وَأَجْزَلَ لَنَا وَلَكَ الثَّوَابَ وَالعَطَاءَ، وَإِلَى مَادَّةِ هَذِهِ الرَّسَالَةِ، نَفَعَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ بِهَا، وَلاَ يَسَعُنِي إِلا أَنْ أَدْعُوَ لأَخِي وَصَدِيقِي الصَّدُوقِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْن؛ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ تَعَاوُنٍ فِي إِخْرَاجِ هَذَا الكِتَابِ، جَزَاهُ اللهُ خَيْرَ الجَزَاءِ.. وَرَاجِيًا الموْلَى -جَلَّ وَعَلاَ- أَنْ يَنْتِفَعَ بِهِ كُلُّ مَنْ يَقَرَؤُهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِي؛ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ القَدِيرِ
هَانِي سَعْد غُنَيْم
الابْتِلاَءُ لُغَةً
فِي هَذَا البَابِ نُلْقِي الضَّوْءَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- عَلَى المعْنَى اللُّغَوِيِّ لِكَلِمَةِ: الابْتِلاَء، فَمَعْرِفَةُ المعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنَ الأَهَمِيَّةِ بِمَكَانٍ، وَمِنْ خِلالِ هَذَا المعْنَى يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي الحُسْبَانِ، وَلاَ سِيَّمَا وَقَدْ ضَاعَتِ اللُّغَةُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِي أَهْلِهَا، فَعِنْدَمَا يَعْلَمُ الإِنْسَانُ أَنَّ لِلابْتِلاَءِ عِدَّةَ مَعَانٍ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ المثَالِ لاَ الحَصْرِ: الإِنْعَامُ وَالإِحْسَانُ وَالاجْتِهَادُ وَالاخْتِبَارُ، فَيَسْعَدُ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَالابْتِلاَءُ يَكُونُ فِي الشَّرِّ وَالخَيْرِ مَعًا، إِذًا..فَالمعْنَى اللُّغَوِيُّ مُهِمٌّ جِدًّا.(1/8)
أَقُولُ: بَلَوْتُ الرَّجُلَ بَلْوًا وَبَلاءً وَبَلْوَى وَبَلِيَّةً وَبِلْوَةً وَبِلْيَةً(1) وَهَذِهِ الكَلِمَاتُ مَعْنَاهَا: المِحْنَةُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالمَرْءِ أَو الاخْتِبَارُ، وَبَلاَهُ يَبْلُوهُ بَلْوًا، أي: جَرَّبَهُ وَاخْتَبَرَهُ وَعَرفَهُ، وَابْتِلاَهُ اللهُ: امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ، أَبْلاَهُ اللهُ، وَيُبْلِيهُ اللهُ بَلاَءً حَسَنًا أي: صَنَعَ بِهِ صُنْعًا جَمِيلاً، قَالَ اللهُ: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاء مُّبِينٌ} [الدخان33] البَلاَءُ فِي الآيَةِ: الإِنْعَامُ البَيِّنُ، وَفِي الحَدِيثِ(2): «مَنْ أُبْلِي فَذَكَرَ فَقَدْ شَكَرَ» أُبْلِي: أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ (3) : مَا عَلِمْتُ أَحَدًا أَبْلاَهُ اللهُ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي.. أَبْلاَهُ: أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَمِنْ كَلاَمِ العَرَبِ فِي الابْتِلاَءِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
جَزَى اللهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ ... وَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو
__________
(1) راجع اللسان، المعجم الوجيز، مادة بلى.
(2) صحيح): أبو داود 4814، صحيح الجامع 5933.
(3) صحيح): البخارى 4678، مسلم 2769.(1/9)
والمعْنَى فِي البَيْتِ أَي: صَنَعَ بِهِمَا خَيْرَ صَنِيعٍ. وَالابْتِلاَءُ يَكُونُ فِي الشَّرِّ وَالخَيْرِ مَعًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، قَالَ اللهُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء35] قَالَ القُتَيْبِي: يُقَالُ -غَالِبًا- فِي الخَيْرِ: أبْلَيْتُهُ إِبْلاَءً، وَيُقَالُ فِي الشَّر: بَلَوْتُهُ بَلاَءً، وَالبَلاَءُ الاجْتِهَادُ أوِالعَمَلُ الحَسَنُ، أَقُولُ: أَبْلَى فُلانٌ بَلاَءً حَسَنًا، وَفِي حَدِيثِ سَعْد يَوْمَ بَدْرٍ(1): «عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لاَ يُبْلِي بَلاَئِي» أَيْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِي، وَأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ:
مَا لِي أَرَاكَ قَائِمًا تُبَالِي ... وَأَنْتَ قَدْ قُمْتَ مِنَ الهُزَالِ؟!
وَالابتْلاَءُ: البَيَانُ، فَأَقُولُ: أَبْلَيْتُ فُلاَنًا عُذْرًا، أيْ: بَيَّنْتُ وَجْهَ العُذْرِ؛ لأُزِيلَ عَنِّي اللَّوْمَ، وَأَبْلاَهُ عُذْرًا، أَي: أَدَّاهُ إِلَيْهِ فَقَبِلَهُ..وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا الحَلِف إِذَا قُلْتُ: أَبْلَيْتُ الرَّجُلَ أي: أَحْلَفْتهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهم:
تُبَغِّي أَبَاهَا فِي الرِّفَاقِ وَتَبْتَلِي ... وَأَوْدَى بِهِ فِي لُجَّةِ البَحْرِ تَمْسَحُ
أَي: تَسْأَلُهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا لَهَا وَتَقُولُ لَهُمْ: نَاشَدتُكُمُ اللهُ هَلْ تَعْرِفُونَ لأَبِي خَبَرًا؟! وَيَأْتِي بِمَعْنَى: الإِرَادَةِ وَالقَصْدِ، فَفِي الحَدِيثِ: إِنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُلِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ، أَي: أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَقُصِدَ، وَحَسْبُنَا مِنَ المعَانِي مَا ذَكَرْنَاهُ..
الابْتِلاءُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ
الأَصْلُ فِي الدُّنْيَا هُوَ الابْتِلاَءُ
__________
(1) صحيح): مسلم 1748، أبو داود 2740، الترمذي 3079.(1/10)
اعْلَمْ -زَادَكَ اللهُ عِلْمًا وَفَضْلاً وَصَبْرًا- أَنَّ الأَصْلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الابْتِلاءُ وَالمُكَابَدَةُ وَالشَّقَاءُ، قَالَ اللهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ فِي سُورَةِ البَلَدِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد4] وَلَمْ يَقُلْ: مُكَابِدًا؛ وَإِنَّمَا فِي كَبَدٍ، نَقُولُ مَثَلاً: يَعِيشُ السَّمَكُ فِي المَاءِ. أَي: مَغْمُورٌ فِي المَاءِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى أَخْمُصِ قَدَمَيْهِ، وَأَنْتَ -كَذِلِكَ- مَغْمُورٌ فِي الشَّقَاءِ وَالمُعَانَاةِ، فلا مَفَرَّ مِنَ الانْغِمَاسِ فِيهَما، وَكَبَد في الآيَةِ مَعْنَاهَا: يَشْقَى وَيُعَانِي وَيُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الآخِرَةِ، قَدْ فِي الآيَةِ: حَرْفُ تَحْقِيقٍ؛ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ المَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، وَهَذا دَلِيلٌ ثَانٍ مِنَ القُرْآنِ؛ يُؤَكِّدُ لَكَ وُقُوعَ الابْتِلاءِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان2] انْظُرْ إِلَى قَوْلِ رَبِّكَ: {نَبْتَلِيهِ} أَيْ: نَخْتَبِرُهُ وَنَمْتَحِنُهُ، فَهَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ، فَقَدْ يَنْعَمُ الإِنْسَانُ وَيَسْعَدُ، وَلِكنَّ النَّعِيمَ وَالسَّعَادَةَ شَيْئَانِ طَارِئَانِ غَيْرُ دَائِمَيْنِ، يَسْعَدُ الإِنْسَانُ بِأَوْلادِهِ، ثُمَّ يُفَارِقُهُم أَوْ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَهُ، وَيَنْعَمُ الإِنْسَانُ بِمَالِهِ الكَثيرِ ثُمَّ يَتْرُكُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ أَوْ يُضَِيِّعُهُ، ويَفْرَحُ الإِنْسَانُ بِمَنْصبِهِ الكَبِيرِ، ثُمَّ يُفَارِقُهُ إِلَى لِقَاءِ مَوْلاهُ، وَرُبَّمَا يَكُونُ هَذَا المَنْصبُ سَبَبًا فِي دُخُولِهِ النَّارَ.. عَجِيبٌ أَمْرُ هَذَا الإِنْسَانِ؛ فَكَمْ يَفْرَحُ الإِنْسَانُ -كَثِيرًا- بِأَشْيَاءَ؛ رُبَّمَا تَهْوِي بِهِ إِلَى الهَاوِيَةِ! وَالعِيَاذُ بِاللهِ، إِذًا..(1/11)
السَّعَادَةُ وَالنَّعِيمُ غَيْرُ مُؤَصَّلَيْنِ.
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّد
اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الكِرَامُ فَإِنَّهَا
وَإِذَا أَتتْكَ مُصِيبَةٌ يُرْثَى لَهَا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ المَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
نُوَبٌ تَنُوبُ اليَوْمَ تُكْشَفُ فِي غَدِ
فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
النَّعِيمُ الحَقِيقِيُّ هُوَ نَعِيمُ الجَنَّةِ الخَالِدُ العَظِيمُ
فَالنَّعِيمُ الحَقِيقِيُّ وَالأَبَدِيُّ هُوَ نَعِيمُ الجَنَّةِ الخَالِدُ العَظِيمُ، الَّذِي أَعَدَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِعِبَادِهِ المؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ الصَّابِرِينَ الحَامِدِينَ رَبَّهُم وَالشَّاكِرِينَ، قَالَ اللهُ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار13-14] فَالأَبْرَارُ فِي نَعِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَمَّا الفُجَّارُ فَهُمْ فِي جَحِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ الأَبْرَارِ وَالفُجَّارِ, بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبَيْنَ النَّعِيمِ وَالجَحِيمِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِS(1): «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَ أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَ اعَلْمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِالليْلِ، وَ عِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» إِذًَا.. النَّعِيمُ فِي الجَنَّةِ، وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا تَشْقَى، وَإِلَيْكَ دَلِيلاً قُرْآنِيًّا آخَرَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللهُ نَاصِحًا آبَانَا آدَم( وَإِنَّهَا لَكَرَامَةٌ؛ أَنْ يَتَحَدَّثَ اللهُ إِلَى أَبِينَا آدَمَ: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه117] وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ
__________
(1) صحيح): صحيح الجامع 73.(1/12)
فِي آيَةٍ أُخْرَى: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة35] فَلَفْظَةُ: اسْكُنْ؛ تُوْحِي بِأَنَّهُ سَيَخْرُجُ يَوْمًا مَا؛ لأَنَّ الَّذِي يَسْكُنُ مَكَانًا لابُدَّ وَأَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَهُوَ -فِي الغَالِبِ-لا يَمْلِكُهُ، وَدُخُولُ آدَمَ وَحَوَّاء الجَنَّةَ كَانَ دُخُولَ سُكْنَى لا دُخُولَ إِقَامَة، كَمَا قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِي فِي تَفْسِيرِهِ؛ لِذَلِكِ وَصَفَ اللهُ نَعِيمَ الجَنَّةَ بِأَنَّهُ نَعِيمٌ مُقِيمٌ: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة21] أي: إِقَامَةٌ خَالِدَةٌ (خُلُودٌ بِلا مَوْتٍ) فَالعَذَابُ عَذَابٌ مُقِيمٌ: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}[التوبة 68] أَيْ: (خُلُودٌ بِلا مَوْتٍ) قَالَ اللهُ فِي شَأْنِهِم: {إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف77] وَلَمْ يَقُلْ: (إِنَّكُم سَاكِنُون) إِذًا.. مِنْ خِلالِ فَهْمِنَا لِلآيَةِ الكَرِيمَةِ الأُولَى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه117].(1/13)
نَجِدُ أَنَّ النَّعِيمَ فِي الجَنَّةِ، أَمَّا خَارِجَهَا فَهُوَ الشَّقَاءُ بِعَيْنِهِ، وَلَفْظَةُ الإِشَارَةِ (هَذَا) عَائِدَةٌ عَلَى الشَّيْطَانِ؛ فَاحْذَرْهُ، إِنَّهُ عَدُوُّكَ، هَكَذَا حَذَّرَكَ اللهُ مِنْهُ؛ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُ عَلَيْكَ سَبِيلاً.. نَلْحَظُ شَيْئًا عَجِيْبًا آخَرَ فِي الآيَةِ، حَيْثُ قَالَ مَوْلانَا: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا) بِأَلِفِ الاثْنَيْنِ، فَالخُرُوجُ كَانَ لِلاثْنَيْنِ مَعًا (آدَم وَحَوَّاء) وَقَالَ بَعْدَهَا: (فَتَشْقَى) بِضَمِيرِ المُفْرَدِ المُخَاطَبِ؛ قَاصِدًا -باِلشَّقَاءِ- الرَّجُلَ، فَالرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى وَيَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ تَوْفِيرِ رِزْقِهِ وَرِزْقِ أَوْلادِهِ، أَمَّا الزَّوْجَةُ فَمَكَانُهَا الطَّبِيعِيُّ هُوَ البَيْتُ؛ لإخْرَاجِ أُسْرَةٍ مُؤْمِنَةٍ مُوَحِّدَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ عَنْ تَكْرِيْمٍ مِنْهُ الخُرُوجُ! فقَدْ دَخَلَ أَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ الجَنَّةَ مُكَرَّمَيْنِ، وَأَمَّا دُخُولُ الجَنَّةِ عَنْ تَكْلِيفٍ فَلا خُرُوجَ بَعْدَهُ، فَأَبْشِرْ أَيُّهَا الموَحِّدُ، وَسَلْ رَبَّكَ الجَنَّةَ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود106-108]
تَعَدُّدُ الابْتِلاَءَاتِ؛ ليَمِيزَ اللًّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ(1/14)
إِذًا.. لابُدَّ مِنْ حُدُوثِ فَوَارِقَ بَيْنَ النَّاسِ؛ حَتَّى يَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَليُمَحِّصَ المُؤْمِنَ الصَّابِرَ مِنَ المُعَانِدِ الكَافِرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة48] فَهَذَا غَنِيُّ وَهَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا مَرِيضٌ، وَكِلاَهُمَا مُبْتَلًي، قَالَ اللهُ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء35] وَهَذَا مُبْتَلًى فِي رِزْقِهِ؛ وَالابْتِلاَءُ فِي الرِّزْقِ ابْتِلاَءٌ قَوِيٌّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ، فَالنَّاسُ تَجْزَعُ وَتَفْزَعُ كَثِيرًا إِذَا أَصَابَهَا فَقْرٌ، وَيَغِيبُ عَنْ أَذْهَانِهَا أَنَّ فَقِيرَ اليَوْمِ هُوَ غَنِيُّ الغَدِ؛ وَغَنِيَّ الغَدِ هُوَ فَقِيرُ الأَمْسِ، وَأَنَّ المالَ مُتَدَاوَلٌ بَيْنَ أَيْدِيهِم، وَأَنَّنَا سَنَتْرُكُهُ كُلَّهُ ثُمَّ نُحَاسَبُ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ، مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْنَاهُ، وَفِيمَ أَنْفَقْنَاهُ؟! وَهَذَا مُبْتَلًى فِي زَوْجَةٍ غَيْرِ مُطِيعَةٍ، وَآخَرُ مُبْتَلًى فِي ابْنٍ عَاقٍّ أَوْ مُعَاقٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَبْتَلِي الإنْسَانَ فِي أَغْلَى مَا يَمْلِكُهُ الإنْسَانُ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ وَثَمَرِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة155-157] مُصِيبَةٌ أَتَتْ نَكِرَةً(1/15)
لِعُمُومِهَا؛ فَكُلُّ مَا يَسُوءُ المؤْمِنَ مَهْمَا صَغُرَ فَهُوَ مُصِيبَةٌ يَسْتَوْجِبُ مِنْهُ الاسْتِرْجَاعَ، فَيَا أَيُّهَا المُبْتَلَى أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} اللهُ يُصَلِّي عَلَيْكَ، أيْ: يَغْفِرُ لَكَ وَيَرْحَمُكَ، رَحْمَةً بَعْدَ رَحْمَةٍ وَيُخْبِرُنَا أَنَّكَ مِنَ المُهْتَدِينَ، أَيْ: مِنْ المهْتَدِينَ إِلَى الاسْتِرْجَاعِ؛ لِيَصِيرَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَرُبَّمَا تَكُونُ مِنْ هَذَا النَّفَرِ القَلِيلِ؛ لِذَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ افِى تَفْسِيرِ(1): {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} نِعْمَ العِدْلاَنِ وَنِعْمَتْ العِلاوَةُ؛ قَالَ ابنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ عَلَى هَذَا الأَثَرِ: العِدْلاَنِ الصّلَوَاتُ وَالرَّحْمَةُ، وَذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ أَفَادَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ، والعِلاوَةُ هِدَايَةُ اللهِ لَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} أَىْ: فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى ثَوَابِهِمْ وَزَادَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، فَرَحْمَةُ اللهِ أَوْسَعُ مِمَّا يَتَصَوَّرُ العَبْدُ، لِذَا.. تَكَرَّرَ المعْنَى بِاخْتِلاَفِ اللَّفْظِ لِلتَّأْكِيدِ.
آدَابُ الابْتِلاَءِ
الصَّبْرُ رِزْقٌ عَظِيمٌ
الابْتِلاَءُ تَطْهِيرٌ وَنِعْمَةٌ مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، هَكَذَا عَنْوَنْتُ هَذَا الكِتَابَ، والابْتِلاَءُ لَهُ آدَابٌ؛ وَأَعْظَمُ آدَابِ الابْتِلاَءِ الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ رِزْقٌ عَظِيمٌ، يُنْعِمُ اللهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ؛ فَاللهُ قَسَّمَ الأَخْلاَقَ كَمَا قَسَّمَ الأَرْزَاقَ، قَالَ حَافِظُ إِبْرَاهِيم شَاعِرُ النِّيلِ:
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير، سورة البقرة 157.(1/16)
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُودَةً فَقَدْ ... اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
فَقُلْ: الحَمْدُ للهِ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ المبَارَكِ، قَالَ شَقِيقُ البَلْخِيُّ: نَحْنُ قَوْمٌ إِذَا ابْتُلِينَا صَبَرْنَا، وَإِذَا أُعْطِينَا شَكَرْنَا.
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
فَلَيْسَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُرْزَقُهُ؛ وَمَنْ عَظِيمِ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مَعَ كُلِّ عُسْرٍ يُسْرَيْنِ، فَعَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ قَالَ(1): (كَتَبَ أبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللهُ بَعْدَهَا فَرَجًا؛ إِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح5-6] قَالَ ثَعْلَب (2): إِنَّ مِنْ عَادَةِ العَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا اسْمًا مُعَرَّفًا ثُمَّ كَرَّرُوهُ، فَهُوَ هُوَ، وَإِذَا نَكَّرُوهُ ثُمَّ
__________
(1) صحيح): أخرجه مالك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) فائدة لغوية: إِذَا تَتَابَعَتْ نَكِرَةٌ وَاحِدَةٌ فِي جُمْلَتَيْنِ مُخْتَلَفَتَيْنِ؛ فَالنّكِرَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، أَقُولُ مثَلاً: لَقِيتُ رَجُلاً وَأَكْرَمْتُ رَجُلاً، فَالرَّجُلُ فِي الجُمْلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، أَمَّا قَوْلِي: لَقِيتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ؛ فَالرَّجُلُ فِي الجُمْلَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَكَذَلكَ فِي الآيَتَيْنِ الكَِريمَتَيْنِ: العُسْرُ وَاحِدٌ وَاليُسْرُ اثْنَانِ، وَقَالَ الحَسَنُ أَيْضًا: لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثْنَيْنِ..(1/17)
كَرَّرُوهُ فَهُوَ غَيْرُهُ، وَهُمَا اثْنَانِ، لِيَكُونَ أَقْوَى لِلأَمَلِ، وَأَبْعَثَ عَلَى الصَّبْرِ، فَمَنْ ذَاقَ البَلاَءَ عَرفَهُ؛ فَلَيسَتِ النَّائحَةُ المَأجُورَةُ كَالثَّكْلَى المكْلُومَةِ! وَلَيْسَ مَنْ رَأى كَمَنْ سَمِعَ!.
صَبْرًا جَمِيلاً مَا أَقْرَبَ الفَرَجَا
مَنْ صَدَّقَ اللهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذًى ... مَنْ رَاقَبَ اللهَ فِي الأُمُورِ نَجَا
وَمَنْ رَجَاهُ يَكُونُ حَيْثُ رَجَا
الصَّبْرُ مُرٌّ كَاسْمِهِ(1/18)
فَالصَّبْرُ مُرٌّ كَاسْمِهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدُنَا أَنْ يَصْبِرَ بِمُفْرَدِهِ إِلاَّ إِذَا صَبَّرَهُ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍS: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} [النحل127] وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ إِسْمَاعِيلُ( يَقُولُ لأَبِيهِ( وَقْتَ شِدَّتِهِ وَقَدْ قَدَّمَ المشِيئَةَ: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات102] وَمَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا: إِنَّ صَبْرِي لَيْسَ مِنِّي؛ وَإِنَّمَا بِمُعَاوَنَةِ رَبِّي؛ فَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ فِي كَوْنِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان30] وَقَبْلَهَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ لأَبِيهِ (: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات102] وَلَمْ يَقُلْ: افْعَلْ مَا رَأَيْتَ فِي مَنَامِكَ، وَإِنَّمَا نَسَبَ الأَمْرَ للهِ، وَصَبَرَ( عَلَى الأَمْرَيْنِ مَعًا بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِ؛ لِذَا قَالَ اللهُ فِيهِ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا} [مريم54] وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُ نَبِيِّ اللهِ مُوسَى( لِلخَضَرِ: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف69] فَادْعُ اللهَ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى قَلْبِكَ وَقْتَ الشِّدَّةِ، قَالَ اللهُ فِي شَأْنِ أُمِّ مُوسَى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص10] وَقَالَ فِي أَهْلِ الكَهْفِ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف13-14]
الصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ(1/19)
وَالصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ، قَالَ اللهُ آمِرًا سَيِّدَ البَشَرِ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر7] وَلاَ يَتَأَدَّبُ بِالصَّبْرِ إِلاَّ صَاحِبُ العَزِيمَةِ، لِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى43] فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ اللهِ (لَمِنْ) حَتَّى لاَ تَنْتَقِمَ لِنَفْسِكَ مِنْ غَرِيمِكَ، فَالآيَةُ مُؤَكَّدَةٌ بِاللاَمِ؛ لِحَثِّ المؤْمِنِ عَلَى عَدَمِ الانْتِقَامِ؛ فَلْتَصْبِرْ وَلاَ تَنْتَقِمْ، فَالصَّبْرُ هُنَا فِيهِ غَرِيمٌ، أَمَّا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان17] فَهَذَا صَبْرٌ لاَ غَرِيمَ لَكَ فِيهِ مثْلُ الصَّبْرِ عَلَى المرَضِ، أَوْ عَلَى مُصِيبَةٍ؛ أَنْتَ سَبَبٌ فِيهَا، فَقَالَ اللهُ (مِنْ) فَقَطْ، وَالصَّبْرُ دَيْدَنُ المؤْمِنِ، فَإنَّ اللهَ مَا مَنَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ بِسَبَبِ صَبْرِهِم؛ فَجَعَلَهُم أَئِمَّةً فِي عَصْرِهِم، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة24] فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِمَامًا؛ تَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إِمَامًا؛ تَدْعُو إِلَى النَّارِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي آلِ فِرْعَوْنَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} [القصص41] وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يُعْطِي البَلاَءَ عَلَى قَدْرِ تَحَمُّلِ الإِنْسَانِ لَهُ.
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الفَتَى
كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلقَاتُها ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا المخْرَجُ
فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لاَ تُفْرَجُ(1/20)
يَقُولُ أَحَدُ المُبْتَلِينَ: إِنَّ اللهَ ابْتَلانِي بِمَرَضٍ أَوْ بِأَزْمَةٍ فَوْقَ قُدْرَتِي، أَقُولُ لَهُ نَاصِحًا نَفْسِي وَإِيَّاهُ: لاَ تَقُلْ مِثْلَ هَذَا الكَلامِ، فَكَلامُكَ هَذَا مُخَالِفٌ لآيَةٍ صَرِيحَةٍ فِي القُرْآنِ؛ فَلاَ تَخْرُجْ مِنْ دَائِرَةِ الإِيمَانِ، قَالَ اللهُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة186] وَلَكِنَّ مَا فَوْقَ طَاقَةِ الإِنْسَانِ هُوَ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ- قَالَ اللهُ تَعَالَى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل88] وَكَذَا قَوْلهُ تَعَالَى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود20]
مَرَاتِبُ الابْتِلاَءِ
اعْلَمْ -أُخَيَّ- أَنَّ لِلابْتِلاَءِ ثَلاثَ مَرَاتِبَ:
أَوَّلاً: مَرْتَبَةُ التَّمْحِيصِ(1/21)
قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد31] لِتَعْلَمَ-عِلْمَ اليَقِينِ- أَنَّ الابْتِلاءَ اخْتِبَارٌ وَتَمْحِيصٌ؛ وَالابْتِلاَءُ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ دَلِيلُ رِضَا اللهِ عَلَى عَبْدِهِ المؤْمِنِ؛ وَلَيْسَ دَلِيلَ غَضَبٍ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ؛ يَقُولُ أَحَدُهُم: إِنَّ اللهَ ابْتَلَى فُلاَنًا بِكَذَا وَكَذَا بِسَبَبِ سُوءِ عَمَلِهِ، لاَ.. لَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَاللهُ يَبْتَلِيكَ؛ لِيَعْلَمَ مَدَى صَبْرِكَ وَشِدَّةِ إِيمَانِكَ وَصِدْقِكَ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت1-3] فَقَدْ يَفْتَحُ اللهُ لِلعَبْدِ بَابَ العَمَلِ وَيُغْلِقُ فِي وَجْهِهِ بَابَ القَبُولِ؛ لأَنَّهُ لاَ إِخْلاَصَ فِي عَمَلِهِ، وَرُبَّمَا يَأْتِي العَبْدُ بِذُنُوبِ كَثِيرَةٍ؛ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهَا؛ فَكَانَ سَبَبًا لِلوُصُولِ؛ إِذًا..لابُدَّ مِنِ ابْتِلاءٍ، فَوَطِّنْ نَفْسَكَ -أَخِي الكَرِيْمَ- عَلَى ذَلِكَ مِنَ الآن؛ حَتَّى لاَ تُفَاجَأَ بِهِ، وَاصْبِرْ؛ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ.. فَهَا هُمُ الأَنْبِيَاءُ يُبْتَلَوْنَ -وَهُمْ صَفْوَةُ البَشَرِ عَلَى الإِطْلاقِ- فَلِمَاذَا يَفْزَعُ أَحَدُنَا إِذَا أَصَابَهُ ابْتِلاءٌ أَوْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ؟! وَرُبَّمَا يَخْسَرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، قَالَ اللهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ(1/22)
الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج11]وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ بِقَدَرٍ وَحِكْمَةٍ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر49] وَمَا يَحْدُثُ مِنْ حَادِثٍ إِلاَّ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: {مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود56] فكُلُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الكَوْنِ وُجِدَ بِحِكْمَةٍ وَلِحِكْمَةٍ، وَرُبَّمَا لاَ نِعْرِفُ تِلْكَ الحِكْمَةَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ أَوْ ذَاكَ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِأَعْوَامٍ وَأَعْوَامٍ، فَالكَوْنُ كُلُّهُ وَمَا فِيهِ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا، وخَاصَّةً مَقَادِيرُ اللهِ عَلَى العِبَادِ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَغِنًى.. الخ.
الرِّزْقُ وَالحِرْمَانُ مَجْرَاهُمَا
فَاصْبِرْ إِذَا الدَّهْرُ نَبَا نَبْوَةً ... بِمَا قَضَى اللهُ وَمَا قَدَّرَا
فَجُنَّةُ الحَازِمِ أَنْ يَصْبِرَا
ثَانِيًا: مَرْتَبَةُ التَّطْهِيرِ(1/23)
رُبَمَا مَا وَرَاءَ الابْتِلاَءِ وَالتَّمْحِيصِ مَا لَيْسَ وَرَاءَ الصّحةِ وَالعَافِيَةِ، فَأَشَدُّ سَاعَاتِ اليَوْمِ سَوَادًا هِيَ مَا قَبْلَ الفَجْرِ مُبَاشَرَةً ثُمَّ يَنْبَثِقُ مِنْهَا نُورُ الفَجْرِ، فَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَم؛ قَالَ رَسُولُ اللهِS(1): «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» فَاللهُ -بِرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ- يَبْتَلِي الإِنْسَانَ مِنَّا؛ لِيُطَهِّرَهُ، ذَلِكُمُ هُوَ حَالُ المؤْمِنِ، أَمَّا فِرْعَوْنُ -مَثَلاً- لَوْ قَرَأْتَ سِيرَتَهُ لَتَعَجَّبْتَ، فَقَدْ قِيلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَمْرَضْ أَبَدًا، وَلَمْ يَشْكُ قَط إِلاَّ عِنْدَمَا أَخَذَهُ اللهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ وَيَحْضُرُنِي -أَيْضًا- مَا حَدَثَ لِحَسَّان بنِ ثَابِتٍ شَاعِرِ الرَّسُولِ عِنْدَمَا أُصِيبَ بِالعَمَى قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لَعَلَّ هَذَا يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ بِسَبَبِ خَوْضِهِ فِي حَدِيثِ الإِفْكِ مَعَ الَّذِينَ خَاضُوا، فَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ(2): دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِنْدَهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُهَا شِعْرًا؛ يُشَبِّبُ بِأَبْيَاتٍ لَهُ وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
__________
(1) صحيح): البخارى 5642، مسلم 2573.
(2) صحيح): البخارى 4146، مسلم 2488.(1/24)
وَمَعْنَى البَيْتِ الشِّعْرِيِّ: تُزَنُّ: تُتَّهَمُ؛ أَنَّكِ تَبِيتِي اللَّيْلَ غَرْثَى أَيْ: جَوْعَى؛ لأَنَّكِ لَمْ تَغْتَابِي المحصَنَاتِ الغَافِلاَتِ؛ فَأَنْتِ حَصَانٌ رَزَانٌ: عَفِيفَةُ اللِّسَانِ رَاجِحَةُ العَقْلِ، الْغَوَافِلِ: جَمْعُ غَافِلَة وَهِيَ العَفِيفَةُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَكِنَّكَ لَسْتَ كَذَلِكَ؛ أَيْ: إِنَّكَ بِتَّ شَبْعَانَ مِنْ لَحْمِي، قَالَ مَسْرُوقٌ: فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَأْذَنِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكِ؟! وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فَقَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَى، قَالَتْ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ أَوْ يُهَاجِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؛ وَأَمَّا الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُول عَاشَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ وَلَمْ نَسْمَعْ بِمَرَضِهِ؛ فَالمؤْمِنُ يُصَابُ؛ لِيَكُونَ كَفَّارَةً لَهُ، لِذَا كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَمْ يُبْتَلَ فِيهَا يَقُولُ: هَذَا غَضَبٌ مِنَ اللهِ عَلَيَّ؛ وَأذْكُرُ فِي هَذَا المقَامِ قَوْلَ شُرِيْحٍ القَاضِي/ (1): إِنِّي لأُصَابُ بِالمصِيبَةِ فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَيْهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؛ أَحْمَدُهُ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ، وَأَحْمَدُهُ إِذْ رَزَقَنِي الصَّبْرَ عَلَيْهَا، وَأَحْمَدُهُ إِذْ وَفَّقَنِي للاسْتِرْجَاعِ (2) لِمَا أَرْجُو فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَحْمَدُهُ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِينِي..
__________
(1) البيهقى؛ شعب الإيمان.
(2) الاسترجاع: أن يقول عند وقوع المصيبة: (إنا لله وإنا إليه راجعون).(1/25)
وَلاَ تَحْسَبَنَّ أَنَّكَ سَتَدْخُلُ الجَنَّةَ بِذُنُوبِكَ، لاَبُدَّ أَنْ تُنَقَّى مِنْهَا كَمَا تُنَقِِّي الكِيرُ الحَدِيدَ مِنْ خَبَثِهِ؛ حَتَّى تَسِيرَ عَلَى الأَرْضِ مَا عَلََيْكَ خَطِيئَةٌ، وَلَقَدْ قَالَهَا رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌSصَرِيحَةً (1): «أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ؛ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ؛ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَكَذَلِكَ عَرَّفَهَا هِرَقْلُ حَيْثُ قَالَ لأَبِي سُفْيَان(2): سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ..وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف110]
ثَالِثًا: مَرْتَبَةُ القُرْبِ والتَّكْرِيمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ
__________
(1) صحيح): أحمد 1610، الترمذى 2398، صحيح الجامع 992.
(2) صحيح): البخارى 2804، مسلم 1773، أبو داود 5136.(1/26)
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ -أَيُّهَا الحَبِيبُ اللَّبِيبُ- رُبَمَا يَكُونُ مَا وَرَاءَ الابْتِلاَءِ وَالتَّمْحِيصِ مَا لَيْسَ وَرَاءَ الصّحةِ وَالعَافِيَةِ؟! فَهَذِهِ المرْتَبَةُ هِيَ ثَمَرَةُ التَّمْحِيصِ وَالتَّطْهِيرِ؛ فَأَبْشِرْ وَاعْلَمْ -أَيُّهَا المُبْتَلَى- أَنَّ اللهَ يُحِبُّكَ، فَمَنْ يَكْرَهُكَ؟! إِذَا أَحَبَّكَ اللهُ، فَحُبُّ اللهِ يَتْبَعُهُ حُبُّ جِبْرِيلَ( ثُمَّ حُبُّ المَلائِكَةِ، ثُمَّ يُوْضَعُ لَكَ القَبُولُ فِي الأَرْضِ كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ خِلالِ كَلِمَاتِي هَذِهِ أَنْ أُطَمْئِنَ -بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ- كُلَّ مُبْتَلًى مُسْلِمٍ، وَأَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَأَنْتَ مِنَ المكَرَّمِينَ المقُرَّبِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر10] وَمَا يُؤَكِّدُ مَرْتَبَتَكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَنَّ أَهْلَ العَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الابْتَلاءَاتِ فِي الآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، فَقَالَS (1): «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ! هَذَا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مُبْتَلَيًا -وَأَنْتَ مُبْتَلًى- يَتَمَنَّى أَنْ يَصِلَ إِلَى ثَوَابِكَ وَأَجْرِكَ، وَأَنْتَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- نَحْسَبُكَ مِنَ الصَّابِرِينَ، اللهُ يُرِيدُ بِكَ خَيْرًا فَطِبْ نَفْسًا وَقَرِّ عَيْنًا، قَالَ رَسُولُ اللهِS (2): «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ
__________
(1) حسن): الترمذى 2402، صحيح الجامع 8177.
(2) صحيح): الترمذى 2396، ابن ماجة 4031.(1/27)
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ؛ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إِذًا.. كُلُّ إِنْسَانٍ يُبْتَلَى؛ لِيُطَهِّرَهُ اللهُ مِنْ ذَنْبِهِ إِلاَّ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا؛ فَهُوَ مُغْفُورُ الذَّنْبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلَكِنَّهُ يُبْتَلَى؛ لِيَكُونَ أُسْوَةً عَمَلِيَّةً فِي صَبْرِهِ وَلِرَفْعِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ.. فَاجْعَلْ صَبْرَكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّكَ، لاَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَالَ لَكَ: إنَّكَ صَابِرٌ؛ فَإِنَّ صَبْرَكَ هَذَا يُؤَهِّلُكَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ بَعْدَ رَحْمَةِ رَبِّكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد22]
صُورَتَا الابْتِلاَءِ
لِلابْتِلاَءِ صُورَتَانِ إِذَا حَلَّ بِالبَشَرِ وَهُمَا:
الصُّورَةُ الأُولَى: هَلاَكُ الظَّالِمِينَ(1/28)
فِيهَا يَهْلِكُ اللهُ الظَّالِمُونَ، وَيُنَجِّي فِيهَا الصَّالِحِينَ؛ فَمِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الظَّالِمِينَ بِالظَّالِمِينَ، وَأَخْرِجْنَا مِنْ بَيْنِهِمْ سَالِمِينَ، وَفِي كِتَابِ رَبِّنَا شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح25] وَمَعْنَى تَزَيَّلُوا: انْفَصَلُوا حَتَّى يُعَذَّبُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات35-36] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف165]
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: هَلاَكُ الظَّالِمِينَ وَالصَّالِحِينَ(1/29)
إِذَا اسْتَشْرَى الفَسَادُ وَعَمَّ وَطَمَّ فَيَهْلِكُ اللهُ فِيهَا الظَّالِمِينَ وَالصَّالِحِينَ مَعًا؛ وَفِي القُرْآنِ وَالسُّنّةِ النَّبَوِيَّةِ شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال25] فعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيَّSدَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ(1): «لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ؛ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ؛ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» وَعَنْ عَائِشَةَل قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِS(2): «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ؛ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟! قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ؛ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S (3): «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ».
فَوَائِدُ الابْتِلاَءِ العَشْرُ
__________
(1) صحيح): البخارى 3346، مسلم 2880، الترمذى 2187.
(2) صحيح): البخارى 2118، مسلم 2884.
(3) صحيح): أحمد 5856، البخاري 7108.(1/30)
لِلابْتِلاَءِ فَوَائِدُ مُتَعَدِّدَةٌ اخْتَرْتُ لَكَ مِنْهَا عَشْرًا؛ حَتَّى لاَ أُثْقِلَ عَلَيْكَ؛ وَتَسْتَطِيع اسْتِيعَابِهَا بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ عَلَيْكَ:
1- إِرْجَاعُ العِبَادِ إِلَى اللَّهِ
اعْلَمْ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- أَنَّ اللهَ يَبْتَلِيكَ؛ حَتَّى تَدْعُوَهُ وَتَعُودَ إِلَيْهِ وَتَتَذَكَّرَهُ وَتَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا نَسِيتَ أَوْ تَنَاسَيْتَ اللهَ لِسَبَبٍ أَوْ لآخَرَ، وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَكَ وَأَنْتَ تَدْعُوهُ، فَيَبْتَلِيكَ فَتَقُولُ: يَا رَبّ.. مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِكَ، قَالَ اللهُ فِي شَأْنِ قَوْمٍ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام42] فَالبَأْسَاءُ شِدَّةُ الفَقْرِ، وَالضَّرَّاءُ شِدَّةُ المَرَضِ، أي: مُصِيبَةُ بَعْدَ مُصِيبَةٍ؛ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى صِلَةٍ دَائِمَةٍ بِاللهِ، فَادْعُ اللهَ وَلاَ تَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَعَلَّمْ مِنْ صحَابَةِ رَسُولِ اللهِ، اسْتَمِعْ إِلَيْهِم وَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، يستغيثون رَبَّهُم مُدَبِّرَ أُمُورِهِم، قَالَ اللهُ فِي شَأْنِهِم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال9] فَكُلٌّ مِنَّا يَدْعُو رَبَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، وَلَعَلَّ فِي هَذِهِ الإِجَابَةِ هَلاكَهُ وَهُوَ لاَ يَدْرِي! فَادْعُ وَاصْطَبِرْ عَلَى الإِجَابَةِ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ(1): «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ
__________
(1) صحيح): أحمد 10749، صحيح الترغيب والترهيب 1631.(1/31)
السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ ،قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ» أَيْ: أَكْثَرُ إِجَابَةً لمطَالِبِ العِبَادِ؛ فَخَزَائِنُهُ لاَ تَنْفَد أَبَدًا: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر21] وَاللهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّعَاءِ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةِ لَكَفَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} [البقرة186] أَيْ: إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنْ قُرْبِي أَوْ عَنْ كَرَمِي أَوْ عَنْ رَحْمَتِى وَفَضْلِي وَعَفْوِي فَإِنِّي مُجِيبٌ، إِنَّهَا آيَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْكُبُ فِي قَلْبِ المؤْمِنِ الثِّقَةَ بِاللهِ وَاليَقِينَ فِي رَبِّهِ العَظِيمِ، وَيَعِيشُ فِيهَا المؤمِنُ فِي مَلاذٍ أَمِينٍ وَقَرَارٍ مَكِينٍ؛ فَلَيْسَ فِي الآيَةِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الوَاسِطَةُ هِيَ رَسُولُ اللهِS! وَلِذَا لَمْ يَقُلِ اللهُ (: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَقُلْ إِنِّي قَرِيبٌ) فَلاَ وَاسِطَةَ؛ فَالفَاءُ لِلسُّرْعَةِ وَالتَّعْقِيبِ؛ لأَنَّ اللهَ قَرِيبٌ، فاللهُ أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ؛ أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِكَ؛ الَّذِي يَجْرِي فِي جِسْمِكَ، فَقَالَ (: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق16] فَبِاللهِ عَلَيْكَ، كَمْ مَرَّةٍ دَعَوْتَ اللهَ بِصِدْقٍ، وَاسْتَغَثْتَ رَبَّكَ فِي حَيَاتِكَ كُلِّهَا؟! فَاسْتَغِثْ بِاللهِ يُغِثْكَ اللهُ، وَلاَ تَسْتَغِثْ بَوَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، إِنَّمَا المُغِيثُ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ- فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ دُعَاءَ إلاَّ للهِ؛ وَلاَ رَجَاءَ إِلاَّ فِي اللهِ؛ وَلاَ اسْتِغَاثَةَ وَلاَ اسْتِعَانَةَ إِلاَّ بِهِ وَحْدَهُ (..وَإِنِّي لَنَاصِحٌ نَفْسِي وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ(1/32)
-دَائِمًا- بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ أَسْرَارًا لاَ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلاَّ مَوْلاَكَ -جَلَّ شَأْنُهُ- وَأَعْظَمُ الأَسْرَارِ بِالنَّهَارِ الصِّيَامُ، وَأَعْظَمُ الأَسْرَارِ بِالليْلِ القِيَامُ، نَاهِيكَ عَنْ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الله بِِأَعْمَالِ صَالِحَةٍ أُخْرَى وَعِبَادَاتٍ سِرَّيَةٍ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَلاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ رَبُّ الأَرْبَابِ؛ حَتَّى إِذَا دَعَوْتَ اللهَ سَمِعْتَ مَنْ يَقُولُ لَكَ: لَبَيْكَ.
لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا
وَقُلْتُ يَا عُدَّتِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ
أَشْكُو إِلَيْكَ ذُنُوبًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا
وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بِالذُّلِّ مُعْتَرِفًا
فَلاَ تَرُدنَّهَا يَا رَبِّ خَائِبَةً ... وَقُمْتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلاَيَ مَا أَجِدُ
وَمَنْ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الضُّرِّ أَعْتَمِدُ
مَا لِي عَلَى حَمْلِهَا صَبْرٌ وَلاَ جَلَدُ
إِلَيْكَ يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ
فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
2- لُزُومُ المبْتَلَيْنَ الاسْتِغْفَارَ(1/33)
إِنَّهَا فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ؛ فَعِنْدَمَا يُصَابُ أَحَدُنَا بِمُصِيبَةٍ تَرَاهُ يَفْزَعُ إِلَى الاسْتِغْفَارِ؛ فَاعْتَرِفْ بِذَنْبِكَ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ رَبَّكَ، فَمَا أَكْثَرَ ذُنُوبَنَا! وَلَكِنْ مَا أَعْظَمَ غُفْرَانَ رَبِّنَا لَنَا! فَالاسْتِغْفَارُ عِبَادَةٌ مَيْسُورَةٌ(1)، لاَ تُكَلِّفُكَ مَالاً أَوْ نَصَبًا، إِنَّمَا تُكَلِّفُكَ قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَنَفْسًا إِلَى اللهِ تَائِبَةً مُسْتَغْفِرَةً، فَهَا هُوَ البَشِيرُSيُبَشِّرُنَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ(2): «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 135] فَالْزَمْ طَرِيقَ الاسْتِغْفَارِ وَالإِنَابَةِ؛ حَتَّى يَرْحَمَكَ رَبُّكَ، نَبِيَّانِ كَرِيمَانِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ مُوسَى وَهَارُون إ وَسَيِّدُنَا مُوسَى( مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَاءِ اللهِ ذِكْرًا فِي القُرْآنِ، فَمَا بَيْنَ سُورَةٍ وَأُخْرَى إِلا وَيُطَالِعُكَ ذِكْرُ هَذَا النَّبِيِّ الكَلِيمِ فِي القُرْآنِ.
__________
(1) راجع كتابنا: (الاستغفار من كتاب ربنا الغفار وسُنَّة....).
(2) صحيح): أحمد 2، الترمذى 406، ابن ماجة 1395.(1/34)
سَيِّدُنَا مُوسَى وَأَخُوهُ هَارُون إ يَدْعُوَانِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِقَوْلِهِمَا: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس 88] فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُمَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ دُعَائِهِمَا كَمَا قَالَ المفَسِّرُونَ، فَلاَ تَسْتَعْجِلِ الإِجَابَةَ؛ فَلَعَلَّ فِي تَأْخِيرِ الإِجَابَةِ خَيْرًا لَكَ وَأَنْتَ لاَ تَدْرِي، أَوْ لَعَلَّ فِي وُقُوعِ هَذِهِ المُصِيبَةِ أَوْ تِلْكَ خَيْرًا كَثِيرًا لِصَاحِبِهَا، ولَكِنَّ نَظَرَ صَاحِبِهَا القَاصِرَ لاَ يُدْرِكُ ذَلِكَ..
3- رِفْعَةُ المكَانَةِ وَالتَّأْهِيلُ لِعَمَلِ الخَيْرِ(1/35)
وَلَنَا فِي إِبْرَاهِيمَ الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ؛ حَيْثُ ابْتَلاَهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ؛ إِذْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة124] وَقَدْ اخْتَلَفَ المفَسِّرُونَ فِي الكَلِمَاتِ؛ فَقَالَ فَرِيقٌ: ابْتَلاَهُ بِشَرَائِع الإِسْلاَمِ، وَقَالَ فَرِيقٌ ثَانٍ: ذَبْحُ وَلَدِهِ الحَبِيبِ، وَقَالَ ثَالِثٌ: بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: سُنَنُ الفِطْرَةِ؛ الاخْتِتَانُ بِالقَدُّومِ وَهُوَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَهَذَا الرَّأْيِ هُوَ الأَقْرَبُ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَامَ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ وَوَفَّى بِهَا، قَالَ اللهُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم37] فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ جَعَلَهُ اللهُ إِمَامًا؛ قُدْوَةً لِلنَّاسِ فِي الخَيْرِ؛ وَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَتِهِ أَئِمَّة: {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة124] فَلَمْ يَسْتَجِبْ رَبُّنَا، وَلَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الرِّجَالِ مِنْ إِذَا ابْتِلاَهُ اللهُ أَتَى بِأَفْعَالٍ سَيِّئَةٍ وَلَمْ يَصْبِرْ؛ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى هَذَا النَّبِيِّ الكَرِيمِ وَإِلَى امْتِثَالِهِ لأَمْرِ رَبِّهِ؛ حَيْثُ قَامَ بِالكَلِمَاتِ وَأَتَمَّهَا.
4- الانْكِسَارُ وَالخُضُوعُ للَّهِ(1/36)
نَعَمْ.. فَالمبْتَلَى أَكْثَرُ النَّاسِ انْكِسَارًا وَخُضُوعًا للهِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ عُظْمَى لاَ يَشْعُرُ بِهَا إِلاَّ المبْتَلَوْنَ؛ فَلَيْسَ المبْتَلَى كَالمعَافَى، فَتَجِدُهُ يَرْجُو اللهَ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمُورِهِ، فَيَتَعَلَّمُ الصَّبْرَ عَلَى المَرَضِ مِنْ نَبِيِّ اللهِ أَيُّوبَ؛ فَقَدْ شَفَاهُ اللهُ بِسَبَبِ صَبْرِهِ العَظِيمِ سَنَوَاتٍ وَسَنَوَاتٍ: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص44] وَالشُّكْرَ مِنْ نَبِيِّ اللهِ نُوحٍ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء3] وَالإِخْلاَصَ مِنْ نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف24] وَلاَ تَكُنْ دَائِمَ الشَّكْوَى إِلَى زُوَّارِكَ؛ حَتَّى يُفَرِّجَ اللهُ عَنْكَ وَيُبَدِّلَكَ ثَوَابًا عَظِيمًا؛ وَاطْمَئِنّ، فَاللهُ يَرَاكَ وَيَحْفَظُكَ وَيَرْعَاكَ وَيَسْمَعُكَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ َا قَالَ(1): قَالَ رَسُولُ اللهِS: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي المؤْمِنَ فَلَمْ يَشْكُنِي إِلَى عُوَّادِهِ أَطْلَقْتُهُ مِنْ إِسَارِي، ثُمَّ أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ؛ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ العَمَلَ» أَيْ: طَهَّرْتُهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَمْرَضْ، وَعِلاَوَةً عَلَى ذَلِكَ حَصَّلَ مِنَ الحَسَنَاتِ الكَثِيرَ؛ فَاصْبِرْ وَصَابِرْ وَرَابِطْ وَاتَّقِ اللهَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران200] يُنَادِي المَوْلَى المُؤْمِنِينَ نَاصِحًا، أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَالمَصَائِبِ وَعَنِ المَعَاصِي، وَأَنْ يُصَابِرُوا الكُفَّارَ فَلاَ
__________
(1) صحيح): رواه الحاكم فى مستدركه، صحيح الترغيب والترهيب 3424.(1/37)
يَكُونُوا أَشَدَّ صَبْرًا مِنَّا، وَأَنْ يِتَّقُوا اللهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِم؛ حَتَّى يَفُوزُوا بِالجَنَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ، وَهَلْ هُنَاكَ فَلاحٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟! وَلاَ تَنْسَ ذِكْرَ اللهِ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ؛ فَعَلَيْكَ بِالتَّسْبِيحِ وَذِكْرِ اللهِ؛ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنَ الكُفْرِ بِاللهِ وَنِعَمِهِ، قَالَ المَعْصُومُS(1): «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ؛ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.. سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِه».
5- إِظْهَارُ المحِبِّ مِنَ المبْغِضِ
وَقْتَ المصِيبَةِ تَجِدُ حَوْلَكَ أَهْلَكَ يَهْتَمُّونَ لِهَمِّكَ فَتَجِدُ هَذَا يَجْرِي؛ لإِحْضَارِ طَبِيب،ٍ وَثَانٍ يَجْلِبُ دَوَاءً، وَثَالِثٌ يَدْعُو اللهَ بِإِخْلاَصٍ أَنْ يَشْفِيَهُ، وَآخَرُ يَقِفُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ شَامِتًا، وَتِلْكُمُ هِيَ المصيبَةُ، وَلاَ يُحَرِّكُ سَاكِنًا عِنْدَ وُقُوعِ المصِيبَةِ، وَكَأَنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ تَزْدَادَ سُوءًا، وَرُبَّمَا يَدْعُو اللهَ أَلاَّ يَكْشِفَهَا، وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ:
رَحِمَ اللهُ الشَّدَائِدَ أَهْدَتْ ... إِلَيَّ عَدُوِّي مِنْ حَبِيبِي
فَانْظُرْ إِلَى هَؤُلاَءِ المنَافِقِينَ وَمَاذَا فَعَلُوهُ فِي حَادِثَةٍ مَكْذُوبَةٍ! وَهِيَ حَادِثَةُ الإِفْكِ؛ وَكَيْفَ رَوَّجُوا لَهَا فِي المدِينَةِ؟! فَظَهَرَتْ شَمَاتَتُهُم، فَظَهَرُوا عَلَى حَقِيقَتِهِمْ السَّيئَةِ مِنْ مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.
6- الشُّعُورُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
__________
(1) صحيح): البخارى 6406، مسلم 2694.(1/38)
فَأَنْتَ لاَ تَشْعُرُ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ إِلاَّ إِذَا جَرَّبْتَ مَرَارَةَ الهَزِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ تَشْعُرُ بِنِعْمَةِ العَيْنِ إِلاَّ إِذَا رَمَدَتْ عَيْنُكَ، وَكَذَلِكَ لاَ تَشْعُرُ بِنِعْمَةِ القَدَمِ إِلاَّ إِذَا قُطِعَتْ، وَلاَ تَشْعُرُ بِنِعْمَةِ اليَدِ إِلاَّ إِذَا شُلَّتْ.. فَأَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ عَلَى العَبْدِ -فِي الدُّنيَا- التَّمَتُّعُ بِالنِّعْمَةِ، أَمَّا فِي الآخِرَةِ فَالنِّعْمَةُ الحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ التّمَتُّعُ بِرُؤْيَةِ المنْعِمِ العَظِيمِ، فَاسْتَخْدِمْ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ فِي الخَيْرِ؛ وَلاَ تُوَظِّفْهَا فِي مَعَاصِيهِ؛ وَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِ البَلاَءِ؛ لِتُوَاسِيَهُمْ وَتَرْفَعَ مِنْ مَعْنَوِيَّاتِهِم، وَتُصَبِّرَهُمْ أَوْ تَتَعَلَّمَ مِنْهُمُ الصَّبْرَ قَبْلَ ابْتِلاَئِكَ، وَتَدْعُوَ لِنَفْسِكَ وَتَشْكُرَ رَبَّكَ أَنْ عَافَاكَ مِمَّا ابْتَلاَهُمْ بِهِ، فَقَدْ نَصَحَنَا رَسُولُ اللهِSإِذَا رَأَى أَحَدُنَا صَاحِبَ بَلاَءٍ فَلْيَقُلْ(1): «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ» حِينَئِذٍ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ تِلْكَ النّعْمَةِ.
7- تِلاَوَةُ القُرْآنِ وَفَهْمُ بَعْضِ مَعَانِيهِ
__________
(1) حسن): الترمذى 3432، صحيح الجامع 6248.(1/39)
عِنْدَمَا يُصَابُ أَحَدُنَا بِمُصيبَةٍ فَإِنَّهُ يَفْزَعُ إِلَى القُرْآنِ، وَيَقْرَأُ فِيهِ بِشَغَفٍ، فَرُبَّمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبِهِ القَرْاءَةُ، فَإِنَّهَا تُحْدِثُ أَثَرًا عَجِيبًا فِيهِ، فَوَاللهِ لَوْ تَدَبَّرْتَ كِتَابَ رَبِّكَ -أَيُّهَا المبْتَلَى- لأَصَابَكَ العَجَبُ العُجَابُ، فَالكَوْنُ كُلُّهُ رَاحَ يَعِظُ ابنَ آدَمَ لعَلَّهُ يَعِي أَوْ يَتَعَلَّمُ، فَكَانَ هَذَا المخْلُوقُ الأَعْجَمُ أَبْلَغَ عِبَارَةً مِمَّنْ يَعْقِلُ الأُمُورَ وَيَتَكَلَّمُ، فَالغُرَابُ عَلَّمَ ابنَ آدَمَ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءًةَ أَخِيهِ؟! وَالنَّمْلَةُ تَنْصَحُ لِقَوْمِهَا؛ حَتَّى لا يَحْطِمَنَّهُم سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ، وَالهُدْهُدُ الذِي تَعَجَّبَ مِنْ سُجُودِ أَهْلِ سَبَأٍ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَالكَلْبُ الَّذِي جَالَسَ الصَّالِحِينَ فَأَصَابَهُ بَرَكَتْهُمْ، وَالبَحْرُ الذِي انْصَاعَ لأَوَامِرِ رَبِّهِ حِينَ حَمَلَ نُوحًا إِلَى بَرِّ الأَمَانِ، وَاليَمُّ الَّذِي أَنْجَى مُوسَى-بأمر الله-مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ ،وَأُخْرَى وَهُوَ نَبِيٌّ كَبِيرٌ؛ عِنْدَمَا لاحَقَهُ هَذَا الطَّاغُوتُ فَضَرِبَ مُوسَى البَحْرَ بِعَصَاهُ، فَصَارَكُلُّ فِرْقٍ كَالطُّودِ العَظِيمِ (الجَبَل الضَّخْم)، وَالنَّارُ التِي غَيَّرَتْ طَبِيعَتَهَا فَصَارَتْ مُشْرِقَةً-بِأَمْرِ رَبِّهَا-لا مُحْرِقَةً مُهْلِكَةً.. بِاللهِ عَلَيْكَ لَوْ قَرَأتَ وَتَدَبَّرْتَ هَذِهِ الأُمُورَ، أَلاَ تَتَفَكَّرُ وَتَخْشَعُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ وَتَنْسَى ابْتِلاَءَكَ؟! وَبَعْدَ هَذَا التَّفَكُّرِ يَزْدَادُ القَلْبُ خَشْيَةً للهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال2](1/40)
عِنْدَ ذِكْرِ الله تَوْجَلُ قُلُوبُ الموَحِّدِينَ، وَإِذَا سَمِعُوا القُرْآنَ ازْدَادُوا إِيمَانًا؛ فَاللهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ هَؤُلاءِ..
أَوْ رُبَمَا يَتَأَثَّرُ بِقَوْلِ أَحَدِ زَائِرِيهِ عِنْدَمَا يُذَكِّرُهُ بِقَوْلِهِ لَهُ أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِكَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَمَعْنَاهَا: أَيْ: لاَ تَحَوُّلَ لِلعَبْدِ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ، فَإِنْ أَعْيَاكَ المرَضُ وَالهَزِيمَةُ وَالضَّعْفُ وَالذُّلُ لِغَيْرِ اللهِ، فَقُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَاحْرِصْ عَلَى تَوَافُقِ قَلْبِكَ وَلِسَانِكَ حِينَهَا.
8- مَحْوُ الخَطَايَا وَالذُّنُوبِ
وَمَا أَجْمَلَ إِجَابَةَ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ اعِنْدَمَا يُسْأَلُ عَنْ أَجْمَلِ ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَبَّهَا فِي حَيَاتِهِ! فَقَالَا: الجُوعُ وَالمَرَضُ وَالمَوْتُ، فَسُئِلَ لِمَاذَا؟! فَقَالَ: إِذَا جُعْتُ رَقَّ قَلْبِي، وَإِذَا مَرِضْتُ خَفَّ ذَنْبِي، وَإِذَا مُتُّ قَابَلْتُ رَبِّي.(1/41)
وَاللهُ يَحُطُّ عَنْكَ خَطَايَاكَ بِابْتِلاَئِكَ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ أوْرَاقَهَا، وعن عبد الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ(1): دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ S وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ، قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ، قَالَ: «أَجَلْ.. ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» وَهَذَا حَدِيثٌ آخَرُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ(2)؟! قَالَتْ: الْحُمَّى؛ لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ(3): «لا تَسُبِّي الْحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» لِذَا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِنَا أَنْ يَسُبَّ المَرَضَ بِقَوْلِهِ مَثَلاً: السَّرَطَانُ مَرَضٌ خَبِيثٌ أَوْ مَرَضٌ لَعِينٌ.
__________
(1) صحيح): البخاري5648، مسلم 2571، أحمد 3611.
(2) تزفزفين: ترتعدين، أي: تتحركين حركة شديدة.
(3) صحيح): مسلم 2575، الترمذى 2250.(1/42)
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ S أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ S عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ S (1): «أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ(2) فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ» وَأَجْرُ الشَّهِيدِ بَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ Sفِي حَدِيثٍ آخَرَ، فَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S (3): «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ؛ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ».
__________
(1) صحيح): البخاري 5734.
(2) الطاعون: داء وبائي يصيب الفئران سببه مكروب وتنقله البراغيث إلى فئران أخرى وإلى الإنسان وجمعه طواعين..
(3) صحيح) أحمد 21585، صحيح الترغيب والترهيب 2008.(1/43)
وَعِنْدَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء122] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِS (1): «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» قَارِبُوا: اقْتَصِدُوا وَتَوَسَّطُوا، وَسَدِّدُوا: اقْصدُوا الصَّوَابَ، وَهُوَ السَّدَادُ، وَالنَّكْبَةُ عَثْرَةٌ يَعْثَرُهَا بِرِجْلِهِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: {ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}؟!! فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(2): S«غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؛ أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ(3)؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ» أَيْ: أَنَّكَ تَحْصُلُ عَلَى حَسَنَاتٍ بِصَبْرِكَ عَلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ؛ فَالحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود 114-115]
__________
(1) صحيح): مسلم 2574، الترمذي 3038.
(2) صحيح): أحمد69، صحيح الجامع 3430.
(3) اللأواء: ضيق المعيشة.(1/44)
9- تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الكَامِلِ للَّهِ
فَعَنْدَمَا يَمْرَضُ العَبْدُ بِمَرَضٍ عُضَالٍ فَيَتَوَجَّهُ بِقَلْبٍ خَاشِعٍ إِلَى اللهِ أَنْ يَشْفِيَهُ، وَإِنَّنِي لأَنْصَحُكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ إِذَا اشْتَدَّ بِكَ الوَجَعُ كَمَا ذَكَرَ عُثْمَانُ؛ فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ Sقَالَ عُثْمَانُ: بِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِS(1): «أَمْسِكْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّS دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ S إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ(2): «لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: قُلْتُ طَهُورٌ كَلَّا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ فَقَالَ النَّبِيُّS: فَنَعَمْ إِذًا» وَمَعْنَى طَهُور: مُطَهِّرَةٌ مِنَ الذّنُوبِ وَمُكَفِّرَةٌ لِلْخَطَايَا، تُزِيرُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الزِّيَارَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
__________
(1) صحيح): أحمد 15834، الترمذي 2080، صحيح الجامع 3891.
(2) صحيح): البخاري 3616.(1/45)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ S كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ(1): «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(2)» قَالَ الطَّبَرِيُّ: كَانَ السَّلَفُ يَدْعُونَ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ دُعَاءَ الكَرْبِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ذِكْرٌ وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ؛ الأَوَّل: أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يُسْتَفْتَحُ بِهِ الدُّعَاءُ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ, وَالثّانِي: جَوَابُ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ(3) أُمَيَّةُ بِنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي عَبْدِاللهِ بنِ جُدْعَانَ؛ وَأُمَيَّةُ هَذَا هُوَ الشَّاعِرُ الَّذِي آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ كَمَا قِيلَ عَنْهُ، أَدْرَكَ الإِسْلاَمَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ؛ لِمَقْتَلِ ابْنَي خَالَتِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ فِي مَطَالِعِ الكُتُبِ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَكَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ.
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا
__________
(1) صحيح): مسلم 2730.
(2) قال ابن عباس: هو حديث جليل, ينبغي الاعتناء به, والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، ومعنى كان إذا حزبه أمر؛ أي: أصابه وألمَّ به أمر شديد.
(3) شاعر جاهلي، حكيم، من أهل الطائف، قدم دمشق قبل الإسلام وكان مطلعاً على الكتب القديمة، يلبس المسوح تعبداً وهو ممن حرموا على أنفسهم الخمر ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية، ورحل إلى البحرين فأقام ثماني سنين، ظهر في أثنائها الإسلام.(1/46)
إِذا خُلِّفتَ عَبدَ اللَهِ فَاِعلَم
فَأَبرَزَ فَضلَهُ حَقّاً عَلَيهِم
فَهَل تَخفى السَّماءُ عَلى بَصيرٍ ... حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الحَيَاءُ
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
بِأَنَّ القَومَ لَيسَ لَهُم جَزاءُ
كَما بَرَزَت لِناظِرِها السَماءُ
وَهَل بِالشَمسِ طالِعَةً خَفاءُ
فَهَذَا مَدْحٌ وَثَنَاءٌ فِي مَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؛ فَكَيْفَ بِثَنَاءِ النَّبِيِّ فِي خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
وَعَنْ سَعَيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ S أَنَّهُ قَالَ(1): «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلَّا عُوفِيَ».
وَلاَ تَنْسَ أَنْ تَرْقِيَ نَفْسَكَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ(2): «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ Sإِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ؛ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي».
__________
(1) صحيح): أحمد 2138، الترمذي 2083، صحيح الجامع 3106.
(2) صحيح): مسلم 2192.(1/47)
فَالشَّافِي وَالطَّبِيبُ هُوَ اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِS (1): «اللهُ الطَّبِيْبُ» فَقَدْ قَالَ العَلامَةُ ابنُ القَيِّمِ/ فِي كِتَابِهِ القَيِّمِ الفَوَائِدِ: إِنَّ الصَّبْرَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الجَزَعِ وَحَبْسُ اللسَانِ عَنِ التَّشَكِّي..، قَالَ ابنُ القَيِّمِ أَيْضًا/: الجَاهِلُ يَشْكُو اللهَ إِلَى النَّاسِ، وَهَذَا غَايَةُ الجَهْلِ بِالمَشْكُو وَالمَشْكُو إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَرفَ رَبَّهُ لَمَا شَكَاهُ، وَلَوْ عَرفَ النَّاسَ لَمَا شَكَا إِليْهِم، حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّوْحِيدُ الخَالِصُ؛ لإِفْرَادِ المرِيضِ اللهَ بِالدُّعَاءِ، فَلاَ يَكْشِفُ البَلْوَى إِلاَّ اللهُ: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [الأنعام17-18] فَأَنْتَ لاَ تَمْلِكُ مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا، وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ شَيْئًا، فَاللهُ هُوَ الَّذِي يَمْلكُكَ، وَيَمْلِكُ مَنْ يَمْلكُكُ، قَالَ اللهُ: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام12] وَاعْلَمْ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لاَ يُطْلَبُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ؛ فَاحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ..
وَاذْكُرْهُ دَائِمًا وَأَنْتَ فِي رَخَائِكَ وَشِدَّتِكَ، فَذِكْرُ البَدَنِ الوَفَاءُ مَعَ اللهِ، وَذِكْرُ الرُّوحِ الخَوْفُ وَالرَّجَاءُ، وَذِكْرُ النَّفْسِ الرِّضَاءُ، وَذِكْرُ اليَدِ العَطَاءُ، وَذِكْرُ اللِّسَانِ الثَّنَاءُ، وَذِكْرُ الأُذُنِ الإِصْغَاءُ إِلَى كُلِّ قَوْلٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرٌ لِرَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
10- القُرْبُ مِنَ اللَّهِ وَالثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى المَمَاتِ
__________
(1) صحيح): صحيح الجامع 1252.(1/48)
لَعَلَّ فِي هَذِهِ الهِزَّةِ العَوْدَةَ إِلَى اللهِ؛ وَاحْذَرْ أَنْ تُفْتَنَ قَبْلَ مَوْتِكَ بِسَبَبِ ابْتِلاَئِكَ، فَعِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَعْضَائِكَ سَتَشْهَدُ عَلَيْكَ فِي الآخِرَةِ؛ وَهِيَ الَّتِي كُنْتَ عَنْهَا فِي الدُّنيَا تُدَافِعُ، فَإِنَّكَ سَتَرْتَدِعُ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِS فَضَحِكَ، فَقَالَ(1): «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟! قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ: يَا رَبِّ؛ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ(2): انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِل» وَاعْرِضْ نَفْسَكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عَلَى قُرْآنِ رَبِّكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ؛ لِتَعْرِفَ أَيْنَ الخَلَلُ فِي نَفْسِكَ؟! فَهَا هُوَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ جَحْش(3) الَّذِي كَانَ زَوْجًا لأُمِّ حَبِيبَة، وَأَسْلَمَ مَعَهَا وَهَاجَرَ إِلَى الحَبَشَة، وَلَكِنَّهُ فُتِنَ هُنَاكَ فَارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ وَتَنَصَّرَ فَمَاتَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ عَبْدُاللهِ بنُ خطْل الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ؛
__________
(1) صحيح): مسلم 2969.
(2) أركانه: جوارحه، أمَّا لفظة: أناضل فمعناها: أجادل وأدافع.
(3) مجلة التوحيد (العدد 11- 1425هـ) مقال المستشار/ أحمد السيد، وكذلك كتاب: (الاستيعاب 2/272) على هامش الإصابة.(1/49)
وَرَبِيعَةُ بنُ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ(1) الَّذِي شَرِبَ الخَمْرَ، فَحَدَّهُ أَمِيرُ المؤْمِنِينَ عُمَرُ ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَرَّ مِنْهَا هَارِبًا إِلَى هِرَقْلَ وَارْتَدَّ وَتَنَصَّرَ، وَالسَّبَبُ عَدَمُ اسْتِطَاعَتِهِ مُفَارَقَةَ خَمْرِهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، فَادْعُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الإِسْلامِ الَّذِي هَدَاكَ اللهُ إِلَيْهِ، وَلَكِنِ يَا مَنْ تَنْشُدُ الرَّاحَةَ، اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ رَاحَةَ إِلاَّ فِي الجَنَّةِ، قِيلَ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلَ: مِتَى يَجِدُ الإِنْسَانُ الرَّاحَةَ؟! فَقَالَ: عِنْدَ أَوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهَا فِي الجَنَّةِ! نَعَمْ..فَسِلْعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ أَلاَ وَهِيَ الجَنَّةُ! فَرَحْمَةُ اللهِ تُصِيبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الأَنْبِيَاءُ؛ وَمِنْهُم نَبِيُّ اللهِ يُوسُفُ؛ حَتَّى مَكَّنَ لَهُ فِي الأَرْضِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف56]
أَنْتَ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
__________
(1) كتاب الإصابة: (1/530).(1/50)
لَقَدْ آثَرْتُ أَنْ أَبْدَأَ بِهَذَا العُنْوانِ المهِمِّ..، فَإِنْ كُنْتَ فِي عَافِيَةٍ فَأَنْتَ فِي نِعْمَةٍ عُظْمَى، لأَنَّكَ لاَ تَشْعُرُ بِأَيٍّ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى إِلاَّ إِذَاَ كُنْتَ ذَا عَافِيَةٍ، حِينَئِذٍ تَشْعُرُ بِنِعَمِ اللهِ، فَإِذَا مَا قَارَنْتَ نَفْسَكَ بغَيْرِكَ مِنْ أَصْحَابِ الابْتِلاَءَاتِ، فَقُلْ لِي: أَيْنَ أَنْتَ مِنْهُمْ؟! فَابْتِلاؤُكَ يَسِيرٌ مُقَارَنَةً بِهِمْ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ وَفِيًّا مَعَ اللهِ؛ فمِنَ الوَفَاءِ العَظِيمِ مَعَ اللهِ شُكْرُهُ عَلَى نِعَمِهِ، فَذِكْرُ الجَفَا بَعْدَ الوَفَا وَالصَّفَا جَفَا! لِذَا تَوَعَّدَ اللهُ جَاحِدَ نِعَمِهِ وَمَانِعَ خَيْرِهِ بِجَهَنَّمَ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ}[ق24-25] فَلاَ تَكْفُرْ؛ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ نِعْمَةٍ شُكْرًا فَأَدِّ شُكْرَهَا، فَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ؛ فَبِالشُّكْرِ يَنْمُو الخَيْرُ وَالبَرَكَةُ فِي كُلِّ مَا تَمْلِكُهُ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم7] وَمَنْ كَفَرَ فَالعَذَابُ: {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم7] وَقَدْ فَضَّلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ الغَنِيَّ الشَّاكِرَ عَلَى الفَقِيرِ الصَّابِرِ؛ لأَنَّهُ قَلَّمَا تَجِدُ غَنِيًّا شَاكِرًا إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ، فَإِنَّ الثَّرَاءَ دَاعِيَةُ الطُّغْيَانِ، وَالاسْتِغْنِاءُ عَنْ رَبِّ الأَنَامِ، فَرُبَّمَا يَنْشَغِلُ المُنَعَّمُ بِالنِّعْمَةِ عَنِ المنْعِمِ العَظِيمِ سُبْحَانَهُ، وَكَثِيرٌ مَا هُمْ، انْشَغَلَ وَاسْتَغْنَى بِسَبَبِ مَالِهِ الكَثِيرِ وَسُلْطَانِهِ الكَبِيرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلا إِنَّ(1/51)
الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق6-7] وَلِبقَاءِ النِّعْمَةِ أَسْبَابٌ وَجِيهَةٌ؛ مِنْهَا:
الأَوَّلُ: نِسْبَةُ النِّعْمَةِ إِلَى المنْعِمِ
فَتَعْتَرِفُ وَتُقِرُّ وتَقُولُ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي؛ فَمَا بِكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ.
الثَّانِي: عَدَمُ الانْشِغَالِ بِالنِّعْمَةِ عَنِ المنْعِمِ
فَهَا هُوَ سُلَيْمَانُ × وَقَدْ ضَاعَتْ مِنْهُ صَلاَةُ العَصْرِ(1) حَيْثُ قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ؛ وَخُيُولُهُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أَلْفَ فَرَسٍ؛ فَعُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعمَائَة، فَتَنَبّهَ لِصَلاَةِ العَصْرِ، فَإِذَا بِالشَّمْسِ قد غَرَبَتْ، وَفَاتَتِ الصَّلاةُ وَلَمْ يَعْلَمْ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص30-33] ثُمَّ قَالَ: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي: رُدُّوهَا لِي فَرُدَّتْ إِلَيْهِ، فَعَقَرَهَا بِسَيْفِهِ قُرْبَةً للهِ؛ إِذْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَبَقِيَ مِنْهَا مَائَةٌ؛ فَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الخَيْلِ العِتَاقِ مِنْ نَسْلِ تِلْكَ الخَيْلِ، فَعَاقَبَ نَفْسَهُ؛ حَتَّى لاَ تَشْغَلَهُ الخَيْلُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، أي: الصَّلاَة: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص30-33].
الثَّالِثُ: عَدَمُ التَّكّبُّرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ
وَلَكَ فِي قَارُونَ مُعْتَبَرٌ؛ فيَكُون كِبْرُكَ سَبَبًا فِي فَنَائِهَا.
الرَّابِعُ: إِعْطَاء ُالحَقِّ مِنْهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ
وَلَكَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الجَنَّةِ فِي سُورَةِ القَلَمِ خَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
__________
(1) تفسير القرطبي- سورة ص- ذكر ذلك: الحسن والكلبي ومقاتل.(1/52)
الخَامِسُ: الثَّنَاءُ عَلَى المنْعِمِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ قَوْلاً وَفِعْلاً
أَنْ تَكُونَ ذَاكِرًا شَاكِرًا حَامِدًا رَبَّ العَالَمِينَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَمَظَاهِرُ الشُّكْرِ ثَلاثَةٌ: التَّحَدُّثُ بِنَعَمِ اللهِ الظَّاهِرَةِ، وَالاعْتِرَافُ بِنَعَمِ اللهِ البَاطِنَةِ، وَالاسْتِعَانَةُ بِنَعَمِ اللهِ عَلَى طَاعَةِ المُنْعِمِ، أَيْ: تَصْرِيفُهَا فِيمَا يُرْضِي مُسْدِيَهَا وَوَاهِبَهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
مَا سِرُّ نُزُولِ الابْتِلاَءَاتِ وَالعُقُوبَاتِ؟!
اللهُ يَبْتِلِي عَبْدَهُ؛ لِيُهَذِّبَهُ لا لِيُعَذِّبَهُ
اعْلَمْ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- أَنَّ اللهَ يَبْتِلِي الإنْسَانَ؛ لِيُهَذِّبَهُ لا لِيُعَذِّبَهُ، نَعَمْ...فَرُبَّ رَجُلٍ مِنَّا كَانَ مُتَكَبِّرًا بِمَالِهِ أَوْ بسُلْطَانِهِ أَوْ بأَبْنَائِهِ، فَيَبْتَلِيهِ رَبُّهُ بِمَرَضٍ عُضَالٍ شَدِيدِ؛ حَتَّى يُهَذِّبَهُ؛ لِيَرْجِعَ وَيَعُودَ إِلَى رُشْدِهِ مِنْ جَدِيدٍ إِلَى طَرِيقِ اللهِ رَبِّ العَالَمِين؛ لِيَعْلَمَ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً، فَالكِبْرِيَاءُ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍا: مَا نَزَلَ بَلاءٌ إِلا بِذَنْبٍ، وَمَا رُفِعَ إِِلاَّ بِتَوْبَةٍ، وَفِي القُرْآنِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى30] وَقَالَ تَعَالَى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران11] وَقَالَ تعَالَى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام146]
الفَرْقُ بَيْنَ العُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالعُقُوبَاتِ القَدَرِيَّةِ(1/53)
وَيَجْدُرُ بِنَا هُنَا أَنَّ نُفَرِّقَ بَيْنَ العُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالعُقُوبَاتِ القَدَرِيَّةِ؛ فَالعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ تَخُصُّ وَهِيَ إِقَامَةُ الحُدُودِ فِي الأَرْضِ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الخَمْرِ و...الخ، وَذَلِكَ لِتَطْهِيرِهِمْ وسَبَبٌ لِنُزُولِ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؛ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ(1): إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَالحُدُودُ زَوَاجِرُ وَجَوَابِرُ، زَوَاجِرُ؛ لأَنَّهَا تَزْجُرُ الآخَرِينَ وَتَرْدَعُهُم عَنْ ارْتِكَابِ الكَبَائِرِ، وَجَوَابِرُ أَيْ: تَغْفِرُ الذّنُوبَ وَتَجْبُرُ كَسْرَ مُرْتَكِبِيهَا وَتُطَهِرُهُمْ، أَمَّا العُقُوبَاتُ القَدَرِيَّةُ فَهِيَ عُقُوبَاتٌ تَُعُمُّ المجتَمَعِ مِنْ أَمْرَاضٍ وَخِلافِهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء123] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ Sفَقَالَ(2): «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؛ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ؛ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا
__________
(1) صحيح): ابن ماجة 2537، النسائي4905، صحيح الألباني 8/76.
(2) صحيح): ابن ماجة 4019، صحيح الجامع 7978.(1/54)
الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ؛ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ».
لَيْسَتْ ظَوَاهِرَ طَبِيعِيَّةً وَلَكِنْ..!
فَلا نُرِيدُ أَنْ نُجَمِّلَ المصِيبَةَ، وَلاَ نُرِيدُ أَنْ نَنْسبَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى الطَّبِيعَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد11] فَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ المسْلِمِينَ لاَ يُبَالِي بِهَذِهِ الآيَاتِ، وَيُصَرِّحُ بِأَنَّهَا ظَوَاهِرُ طَبِيعِيَّةٌ وَلاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالمَعَاصِي؛ فَالرَّسُولُ نَفْسُهُ كَانَ يَخَافُ الآيَاتِ وَيَلْجَأُ إِلَى رَبِّهِ يَدْعُوهُ؛ فَهَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ لاَ يَفْهَمُ الظّوَاهِرَ الطَّبِيعِيّةَ؟! إِذًا..فَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَقَعُ فِي هَذَا الكَوْنِ الفَسِيحِ إِلاَّ بِأَقْدَارِ اللهِ.. فَلَوْ نَزَلَت مُصِيبَةٌ فاَعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ مِنَ البَشَرِ خَلَلاً مَا وَقَعَ أَوْ ذَنْبًا اُرْتُكِبَ، أَوْ بُعْدًا عَنْ ذِكْرِ اللهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه124] فَمَا يُرْسِلُ رَبُّكَ آيَاتِهِ إِلاَّ تَخْوِيفًا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء59] وَلَوْ أَنَّ اللهَ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ لأَهْلَكَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء(1/55)
أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل61] فَإِمْهَالُ اللهِ لَهُمْ رَحْمَةٌ؛ لِيَتُوبُوا، وَمَا رُفِعَ الذَّنْبُ إِِلاَّ بِتَوْبَةٍ، وَشَاهِدِي مِنَ القُرْآنِ مَا حَدَثَ لِقَوْمِ يُونُسَ، قَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: غَشِيَهُمُ العَذَابُ كَمَا يَغْشَى الثَّوْبُ الجِسْمَ؛ فَلَمَّا صَحَّتْ تَوْبَتُهُم رَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ العَذَابَ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس98] قَالَ القُرْطُبِيُّ: لَمَّا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ يُونُسُ العَذَابَ إِلَى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ خَرَجَ عَنْهُم، فَأَصْبَحُوا فَتَفَقَّدُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ؛ فَتَابُوا قَبْلَ رُؤْيَةِ عَلاَمَةِ العَذَابِ، وَقَالَ الزَّجَاجُ: المعَايَنَةُ الَّتِي لاَ تَنْفَعُ مَعَهَا التَّوْبَةُ هِيَ التَّلَبُّسُ بِالعَذَابِ كَمَا حَدَثَ مَعَ فِرْعَوْنَ؛ لأَنَّهُ آمَنَ حِينَ رَأَى العَذَابَ وَأَيْقَنَ بِهِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ رَأَى قَوْمُ يُونُسَ عَيْنَ العَذَابِ مَا نَفَعَهُمُ الإِيمَانُ؛ لِذَا يُطْلَبُ مِنّا دَوَامُ التَّوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31]؟
الفَرْقُ الدّقِيقُ بَيْنَ العُقُوبَةِ وَالابْتِلاَءِ(1/56)
الابْتِلاَءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِلاءً، فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى حَالِ الشَّخْصِ؛ لِنَعْلَمَ هَلْ هَذَا ابْتِلاَءٌ حَلَّ بِهِ أَمْ عُقُوبَةٌ مِنَ اللهِ إِلَيْهِ؟! وَلَكِنْ نَسْتَطِيعُ -الآنَ- إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ العُقُوبَةِ وَالابْتِلاَءِ فِي النِّقَاطِ الآتِيَةِ (1):
الابْتِلاَءُ اخْتِبَارُ وَالعُقُوبَةُ هِيَ الجَزَاءُ المعَجَّلُ
العُقُوبَةُ هِيَ الجَزَاءُ المعَجَّلُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى النَّاسِ نَتِيجَةَ الفَشَلِ فِي الاخْتِبَارِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّخْصُ كَافِرًا فَاجِرًا مَثَلاً فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ؛ أَلَمَّتْ بِهِ وَلَنْ يَنْجُوَ مِنْهَا، فَانْظُرْ مَثَلاً إِلَى حَالِ قَارُونَ وَفَشَلِهِ الذَّرِيعِ؛ وَمَاذَا فَعَلَ؟! فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} [القصص81] وَكَذَلِكَ عاد حِينَمَا اسْتَكْبَرُوا، وَلَقَدْ ذَكَرَ اللهُ قِصَّتَهُمْ فِي القُرْآنِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ أَعْظَمِ مُتَكَبِّرِي الأَرْضِ وَالَّذِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهُم فِي البِلاد: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت15] وَالشَّوَاهِدُ فِي القُرْآنِ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ فَالابْتِلاَءُ هُوَ عَمَلِيَّةُ الاخْتِبَارِ نَفْسُهَا، فَالابْتِلاَءُ مُقَدّمَةٌ، وَالعُقُوبَةُ نَتِيجَةٌ.
__________
(1) مستفاد من كتاب الدكتور / محمد السيد موسى (محاضرات تحليلية).(1/57)
الابْتِلاَءُ وُقُوفُ أَمَامَ الأَسْبَابِ، وَالعُقُوبَاتُ نَاتِجَةٌ عَنِ الانْحِرَافِ
الابْتِلاَءُ مِنْ مَجَالاَتِهِ الوُقُوفُ أَمَامَ الأَسْبَابِ وَالمسَبَّبَاتِ وَالأَخْذِ بِهَا، وَالعُقُوبَاتُ نَاتِجَةٌ عَنِ الانْحِرَافِ بِالفِعْلِ؛ وَيَحْضُرُنيِ هُنَا أَصْحَابُ الجَنَّةِ اليَمَنِيَّةِ كَمَا وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ القَلَمِ، وَمَاذَا فَعَلُوا؟! حِينَمَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ عَنِ الفُقَراءِ وَالمسَاكِينِ، فَكَانَتِ العَاقِبَةُ وَخِيمَةً قَالَ اللهُ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُون فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم19-21]
الابْتِلاَءُ مَرْجِعُهُ الاسْتِقَامَة، أَمَّا العُقُوبَةُ فَمَرْجِعُهَا إلى زِيَادَةِ الفِسْقِ
الإِيمَانُ وَالاسْتِقَامَةُ عَلَى المنْهَجِ القَوِيمِ وَالدِّينِ العَظِيمِ سَبَبٌ فِي الابْتِلاَءِ؛ لِذَا فَالأَنْبِيَاءُ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ابْتِلاَءً ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ؛ أَيْ: إِنْ كَانَ الشَّخْصُ صَالِحًا تَقِيًّا فَاعْلَمْ أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الابْتِلاَءِ، فَرَسُولُ اللهِ مَثَلاً -كَمَا ذَكَرْتُ- وَمَا حَدَثَ لَهُ هُوَ وَصَحَابَتِهِ الأَبْرَارِ ابتْلاَءٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ(1): «أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ؛ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ؛ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ؛ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أَمَّا العُقُوبَةُ فَمَرْجِعُهَا وَسَبَبُهَا يَعُودُ إِلَى الانْحِرَافِ وَزِيَادَةِ الفِسْقِ.
__________
(1) صحيح): أحمد 1610، الترمذى 2398، صحيح الجامع 992.(1/58)
الابْتِلاَءُ طَرِيقٌ للتَّمْكِينِ؛ بَيْنَمَا العُقُوبَةُ حِرْمَانٌ مِنْهَا
الابْتِلاَءُ طَرِيقٌ لِلإِمَامَةِ وَالتَّمْكِينِ؛ بَيْنَمَا العُقُوبَةُ حِرْمَانٌ مِنْهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة124] فَنَبِيُّ اللهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَكَّنَ اللهُ لَهُ وَجَعَلَهُ إِمَامًا؛ بَيْنَمَا آخَرُونَ فَشَلُوا فِي الاخْتِبَارِ، فَلَمْ يَنَالُوا عَهْدَ اللهِ؛ لِظُلْمِهِمْ.
الابْتِلاَءُ قَائِمٌ عَلَى حُبِّ اللهِ، والعُقُوبَةُ عَلَى غَضَبِهِ(1/59)
الابْتِلاَءُ قَائِمٌ عَلَى حُبِّ اللهِ وَطَاعَتِهِ، بَيْنَمَا العُقُوبَةُ إِشَارَةٌ إِلَى غَضَبِ اللهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ؛ لِذَا لَوْ نَزَلَ بِكَ بَلاَءٌ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- فَلَنْ أَجِدَ لَكَ عِلاَجًا يَسِيرًا فِي القُرْآنِ يَتَنَاسَبُ وَمُصيبَتَكَ إِلاَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر55] وَيَحْضُرُنِي هُنَا قَوْلُ ابنِ القَيِّمِ: إِنَّ لِلسْعَادَةِ ثَلاَثَةَ مُقَوِّمَاتٍ: إِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا اُبْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ، فَاصْبِرْ؛ فَمَا أَعَظْمَ الصَّبْرَ! وَاذْكُرْ وَاشْكُرْ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ؛ فَمَا أَحْسَنَ الذِّكْرَ وَالشُّكْرَ وَقْتَ المصِيبَةِ! لِيَطْمَئِنَّ القَلْبُ بِذِكْرِ خَالِقِهِ وَلاَ يَجْزِع، وَمَا أَجْمَلَ الاسْتِغْفَارَ مُصَاحِبًا لِلذِّكْرِ! وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ تَحْدُثُ؛ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٍ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم 58] فَعَلَيْنَا أَنْ نُغَيِّرَ مَا بِأَنْفُسِنَا إِلَى الأَحْسَنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد11] (مَا) الأُولَى فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِمَعْنَى: الَّذِي عَائِدَةٌ عَلَى الابْتِلاَءِ بِالنِّعَمِ وَالنِّقَمِ، أَمَّا (مَا) الثَّانِيَةُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي القَوْمِ مِنْ ذُنُوبٍ يَرْتَكِبُونَهَا؛ فَتَنْزِلُ -بِسَبَبِهَا- العُقُوبَةُ؛ سَوَاءً فَعَلُوهَا هُمْ أَوْ غَيْرُهُم مِنْ قَوْمِهِمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ فِيهِمْ(1/60)
فَيَهْلِكُ -حِينَئِذٍ- القَوْمُ كُلُّهُمْ؛ الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ وَالمفسْدُونَ ثُمَّ يُبْعَثُ كُلٌّ مِنْهُم عَلَى نِيَّاتِهِ.
الابْتِلاَءُ يَجْمَعُ الأُمَّةَ، وَالعُقُوبَةُ سَبَبٌ فِي تَشْتَيتِهَا
الابْتِلاَءُ يَهْدِفُ إِلَى تَجْمِيعِ الأُمَّةِ وَتَوْحِيدِهَا؛ فَعِنْدَمَا تَعُمُّ البَلْوَى وَيَشْتَدُّ الابْتِلاَءُ يَتَكَاتَفُ النَّاسُ فِي المحَنِ؛ أَمَّا العُقُوبَةُ فَهِيَ سَبَبٌ فِي تَشْتَيتِهَا وَضَرْبِ قُلُوبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [المائدة14]
الابْتِلاَءُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوًى وَصَبْرٍ، وَالعُقُوبَةُ إِلَى تَوْبَةٍ وَاستِغْفَارٍ
الابْتِلاَءُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوًى وَصَبْرٍ: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف90] بَيْنَمَا العُقُوبَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَوْبَةٍ وَاستِغْفَارٍ وَعَوْدَةٍ إِلَى الْتِزَامِ الطَّرِيقِ المسْتَقِيمِ مِنْ جَدِيدٍ.
مَنْ أَنْتَ مِنْ هَؤُلاَءِ وَقْتَ نُزُولِ البَلاَءِ؟!
اعْلَمْ أَنّكَ -أَمَامَ المصِيبَةِ- وَاحِدٌ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَزِعًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صَابِرًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاضِيًا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ شَاكِرًا.
أَوَّلاً: الجَزِعُ(1/61)
فَأَمَّا الجَزِعُ فَهُوَ شَرُّهُمْ، وَأَبْغَضُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَأَعْظَمُهُمْ خَسَارَةً فِي الدّنيَا وَالآخِرَةِ؛ فَهُوَ سَاخِطٌ نَاقِمٌ عَلَى قَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ، تَقُولُ: جَزِعَ فُلانٌ، أَي: لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، وَلمْ يَنْقَطِعْ لِسَانُهُ عَنِ الشَّكْوَى؛ يَلْطُمُ الخُدُودَ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ الجَاهِلِيَّةِ، وَيَغْضَبُ بِشِدَّةٍ؛ وَغَضَبُهُ لَنْ يُفِيدَهُ أَبَدًا؛ بَلْ إِنَّ غَضَبَهُ سَبَبُ هَلاكِهِ، أَلاَ يَعْلَمُ هَذَا الجَازِعُ أَنَّ سَيِّدَ الأَوْفِيَاءِS- نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى السَّوَاءِ عَنْ ذَلِكَ؟! فَقَالَS(1): «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، ودَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» فَاحْذَرِ النِّيَاحَةَ وَالأَصْوَاتَ الملْعُونَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ S(2):«صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَرَنَّةٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ».
ثَانِيًا: الصَّابِرُ
__________
(1) صحيح): البخاري 1298، مسلم 103، الترمذى999.
(2) حسن): صحيح الترغيب والترهيب 3527.(1/62)
وَأَمَّا الصَّابِرُ فَهُوَ بِصَبْرِهِ يَصِلُ إِلَى مَرْتَبَةٍ كَرِيمَةٍ، وَيُوَفَّى أَجْرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر10] فَاصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَالصَّبْرُ أَنْوَاعٌ؛ فَالشَّجَاعَةُ صَبْرٌ عَلَى مَكَارِهِ الجِهَادِ، وَالعَفَافُ هُوَ الصَّبْرُ عَنِ الشَّهوَاتِ، وَالحِلْمُ صَبْرٌ عَلَى المُثِيرَاتِ، وَالكِتْمَانُ صَبْرٌ عَنْ إِذَاعَةِ الأَسْرَارِ، فَثَوَابُ الصَّبْرِ أَعْظَمُ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَوْ وَقَرَ هَذَا المفْهُومُ فِي قَلْبِ الصَّابِرِ لَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ كُلُّهَا ابْتِلاَءً، فَالجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَغُرَفٌ؛ قَالَ اللهُ: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء21] فَمَهْمَا صَبَرْتَ فَهَلْ هَذَا الصَّبْرُ مَهْمَا عَظُمَ يُسَاوِي الخُلُودَ فِي الجَنَّةِ وَالنَّظَرَ إِلَى وَجْهِ اللهِ الكَرِيمِ؟!.
مِحَنُ الفَتَى يُخْبِرْنَ عَنْ فَضْلِ الفَتَى
ماَ قَدْ مَضَى يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ
وَتَيَقَّنِي أَنَّ المقَدَّرَ كَائِنٌ حَتْمًا
... وَالنَّارُ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ العَنْبَرِ
وَلَكِ الأَمَانُ مَنِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرِ
عَلَيْكَ صَبَرْتِ أَمْ لَمْ تَصْبِرِي
وَالصَّبْرُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ؛ الصَّبْرُ عَلَى المأْمُوِر، أَيْ: مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَهُوَ صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؛ وَهُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ! وَالصَّبْرُ عَلَى المحْظُورِ، أَيْ: الصَّبْرُ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَالصَّبْرُ عَلَى المقْدُورِ، أَيْ: مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى لَكَ.
ثَالِثًا: الرَّاضِي(1/63)
وَأَمَّا الرَّاضِي فَهُوَ صَاحِبُ مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنْ سَابِقَيْهِ، فَقَدْ صَبَرَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللهِ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ بِمَا حَلَّ بِهِ مِنْ قَدَرٍ وَقَضَاءٍ مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَهُنَا أُذَكِّرُكَ بِبِشَارَةِ النَّبِيِّ لَكَ -أَيُّهَا المبْتَلَى- أَنَّكَ حَبِيبُ مَوْلاَكَ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ النَّبِيُّS(1): «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» وَأَنْتَ حَبِيبُ اللهِ وَهُوَ حَبِيبُكَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة165] فَيَأْتِي ابْتِلاؤُكَ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِكَ، قَالَ النَّبِيُّ: فَمَنْ رَضِيَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ يَصْبِرْ؛ فَالرِّضَا أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الصَّبْر! وَقَالَ: فَلَهُ السُّخْطُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَعَلَيْهِ، دلاَلَةً عَلَى مُلاَزَمَةِ السّخْطِ لَهُ، تَقُولُ: لِمُحَمَّدٍ الكِتَابِ، فَالكِتَابُ مِلْكٌ لَهُ، فَكَأَنَّ السُّخْطَ مُلاَزِمٌ لَهُ لاَ يَبْرَحُهُ.
انْظُرْ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ا أَحَدِ صَالِحِي زَمَانِهِ، يَأْتِيهِ رَجُلٌ؛ يَسْأَلُهُ قَائِلاً لَهْ: يَا إِمَامُ أرِيدُ أَنْ يَرْضَى اللهُ عَنِّي، فَمَاذَا أَفْعَلُ؟! فَقَالَ سُفْيَانُ: إِنْ تَرْضَ عَنِ اللهِ يَرْضَ اللهُ عَنْكَ، كَلِمَاتٌ يَسِيرَةٌ لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، فَقَالَ له: كَيْفَ ذَلِكَ؟! فَقَالَ سُفْيَانُ/: عِنْدَمَا تُسَرُّ لِلنِّقْمَةِ كَسُرُورِكَ لِلنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُمَا قَدَرَانِ مُقَدَّرَانِ مِنَ اللهِ عَلَيْكَ.
__________
(1) صحيح): أبو داود 4456، صحيح الجامع 2110.(1/64)
أَخِي الحَبِيبَ.. سَلْ نَفْسَكَ الآنَ: مَنْ مِنَّا يُسَرُّ لِلنِّعْمَةِ كَسُرُورِهِ لِلنِّقْمَةِ؟! أَيْ: تَفْرَحُ بِالُمصِيبَةِ مِثْلَ فَرَحِكَ بِالبِشَارَةِ، وَالفَرَحُ هُنَا بِمَعْنَى الرِّضَا؛ فَكِلاهُمَا قَدَرٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْكَ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة119] لَيْسَ العَجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ} وَإِنَّمَا العَجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَالفَوْزُ العَظِيمُ لَنْ يَأْتِيَ إِلاَّ بِالرِّضَا؛ فَمَنْ يَرْضَ بِقَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ يَرْضَ اللهُ عَنْهُ، وَأُذَكِّرُكَ وَنَفْسِي بِهَذَا الحَدِيثِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ(1): «إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟! فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ! فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي؛ فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا!» كُلُّ هَذَا الرّضَا سَبَبُهُ طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ! أَيُّهَا الحَبِيبُ: سَيَأْتِي عَلَيْكَ يَوْمٌ يَقُولُ رَبُّكَ لَكَ: هَلْ رَصِيتَ؟! وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لك: لَقَدْ خَلَقْتُكَ وَسَوَيْتُكَ وَسَدَّدْتُكَ وَوَفَّقْتُكَ وَهَدَيْتُكَ؛ فِي وَقْتٍ ضَلَّ فِيهِ الملايِين، وَابْتَلَيْتُكَ فَصَبَّرْتُكَ وَأَرْضَيْتُكَ، وَثَبتُّكَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى مِتَ عَلَيْهِ، وَحَاسَبْتُكَ حِسَابًا يَسِيرًا، ثُمَّ
__________
(1) صحيح): البخارى 6549، مسلم 183، الترمذى 2555.(1/65)
أَدْخَلْتُكَ الجَنَّةَ بِسَلامٍ، ثُمَّ رَأَيْتَ وَجْهَ اللهِ، وَهَذَا أَقْصَى مَا تَتَمَنَّاهُ..فَاصْطَبِرْ، وَدَعْنِي أُبَشِّرُكَ بِهَذَا الحَدِيثِ؛ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ S(1): «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ! فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ؛ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس26] وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ ذُنُوبُكَ فَعَفْوُ اللهِ أعْظمُ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى رَبِّكِ وَأَبْشِرْ؛ وَمَنْ يَغْضَبْ فَلَنْ يَنَالَ رِضَاهُ، وَلاَ يَقَعُ إِلاَّ مَا أَرَادَهُ اللهُ، فَقَدَرُ اللهِ وَقَضَاؤُهُ يَمُرُّ بِعِدَّةِ مَرَاحِلَ قَبْلَ نُزُولِهِ: العِلْمِ؛ فَعَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِعَبْدِهِ فُلاَنٍ فَاخْتَارَهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، ثُمَّ يَكْتُبُهُ وَيَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدَرُ اللهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ، فَإِذَا نَزَلَ وَحَلَّ بِالعَبْدِ يُسَمَّى قَضَاءً، وَعَلَى العَبْدِ أَنْ يُقَابِلَهُ بِرَضًا؛ لأَنَّ تَمَرُّدَهُ لَنْ يُغَيِّرَ مِنْهُ شَيْئًا.
رَابِعًا: الشَّاكِرُ
__________
(1) صحيح): أحمد 18456، مسلم 181، ابن ماجة 187.(1/66)
وَأَمَّا الشَّاكِرُ فَهُوَ أَعْظَمُهُم جَمِيعًا؛ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَزَادَهُمْ أَمْرًا ثَالِثًا، صَبَرَ عَلَى البَلاءِ، وَرَضِيَ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ لَهُ، وَشَكَرَ عَلَي نُزُولِهِ بِهِ، وَلَقَدْ اخْتَصَّ اللهُ نَفْسَهُ أَنْ يَجْزِيَهُ عَلَى شُكْرِهِ، فَقَالَ فِي آيَةٍ كَرِيمَةٍ -وَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ مُخْبِرَةً أَنَّ رَسُولَ اللهِ بَشَرٌ، وَكُلُّ نَفْسٍ بَشَرِيَّةٍ لاَبُدَّ وَأَنْ تَمُوتَ- قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِS: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء34] وَمَوْتُ النَّبِيِّS أَعْظَمُ مُصِيبَةٍ ابْتُلِيَتْ بِهَا الأُمَّةُ، قَالَ رَسُولُ اللهِS (1): «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» نَعَمْ.. فَإِنَّكَ لَنْ تُصَابَ أَبَدًا بِفَقْدِ أَعَزَّ مِنْهُ وَلاَ أَرْحَمَ وَلاَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَالأَمْرُ شَدِيدٌ؛ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ عَلَى مَوْتِهِ وَرِضًا على قَضَاءِ اللهِ فِيهِ، وَشُكْرٍ عَلَى إِرْسَالِ هَذَا النَّبِيِّ للأُمَّةِ, فَمَا فَعَلَ خَيْرًا إلاَّ وَدَلَّكَ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَمَا تَرَكَ شَرًّا قَط إِلاَّ وَحَذَرَّكَ مِنْهُ، وَتَرَكَكَ عَلَى المحَجَّةِ البَيْضَاءِ؛ وَهَدَاكَ إِلَى الطَّرِيقِ المسْتَقِيمِ؛ طَرِيقِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَأَتَمَّ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَكْمَلَ بِهِ النِّعْمَةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران144] وَقَالَ أَيْضًا فِي الآيَةِ
__________
(1) صحيح): الدارمى 84، صحيح الجامع 347.(1/67)
الَّتِي تَلِيهَا: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران145] وَالشَّاكِرُونَ هُمْ: كُلُّ مَنْ ثَبتَ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْتِزَامِ أَخْلاَقِهِ، وَأحْسَنَ مُعَامَلاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ وَكَانَ وَفِيًّا للهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فِعْلَهُ وَصَبْرَهُ؛ وَجَزَاهُ خَيْرَ الجَزَاءِ، وَهَذَا الصّنْفُ مِنَ البَشَرِ (الشَّاكِر) قَلِيلٌ جِدًّا كَمَا أَخْبَرَنَا مَوْلاَنَا: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ13] فَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ رَبَّهُمْ عَلَى نِعَمِهِ العَظِيمَةِ؛ وَيَا حَبَّذَا لَوْ كُنْتُ عَبْدًا شَكُورًا حَينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ وَصَلْتَ إِلَى دَرَجَةٍ عَظِيمَةٍ؛ فَالشَّاكِرُ الَّذِي يَشْكُرُ اللهَ عَلَى العَطَاءِ وَالرَّدِّ وَالنَّفْعِ وَالبَذْلِ، أَمَّا الشَّكُورُ هُوَ الَّذِي يَشْكُرُ اللهَ عَلَى العَطَاءِ وَالمنْعِ مَعًا وَالبَلاَءِ، فَبِالشُّكْرِ يُرْفَعُ عَنْكَ العَذَابُ، وَيُضَاعَفُ الأَجْرُ وَيَزْدَادُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَدْ قَرَنَ اللهُ الشُّكْرَ بِالإِيمَانِ، وَرَفَعَ -سُبْحَانَهُ- بِوُجُودِهِمَا مَعًا بِالعَذَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء147] وَقَرَنَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة 152](1/68)
عِنْدَمَا مَاتَ عَلِيُّ بنُ الفُضَيْلِ بنِ عِيَاض(1)، وَكَانَ عَلِيٌّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقَرَأَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصافات24] فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَمَاتَ، بَلَغَ الخَبَرُ أَبَاهُ الفُضَيْلَ فَصَبَرَ وَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ غَسَّلَهُ وَكَفَّنَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ مُبْتَسِمًا، فَتَعَجَّبَ أَحَدُ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ أَتَضْحَكُ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ شُكْرًا لِرَبِّي، إِنَّهُ الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ وَالصَّبْرُ وَالرِّضَا وَالشُّكْرُ فِي عِزِّ المصِيبَةِ، فَللَّهِ مَا أَخَذ ولله مَا أَعْطَى؛ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وَلَكِنَّ خَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍS، فَرَسُولُ اللهِSحَزِنَ عِنْدَ مَوْتِ وَلَدِهِ، وَهُوَ قُدْوَتُنَا، وَمَقَامُهُ أَعْلَى مَقَامَاتِ العُبُودِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَهَذَا الأَمْرُ شُعُورٌ وَإِحْسَاسٌ دَاخِلِيٌّ قَوِيٌّ لاَ يَسْتَطِيعُ -غَالِبًا- أَنْ يَتَحَكَّمَ فِيهِ أَحَدُنَا، فَرَسُولُ اللهِ Sأَظْهَرَ عُبُودِيَّةَ الرَّحْمَةِ وَالرِّضَا فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَنَاسَبُ وَطَبِيعَةَ البَشَرِ فِي عَزِّ الأَزَمَاتِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِS، أَمَّا الفُضَيْلُ فَقَدْ أَظْهَرَ عُبُودِيَّةَ الرِّضَا فَقَطْ، لَكِنِ الَّذِي نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَحَكَّمَ فِيهِ أَلاَّ نَفْعَلَ أَفْعَالاً لاَ تَلِيقُ وَإِيمَانَنَا، وَلاَ تَنْسَجِمُ وَهَدْيَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍS، وَهَذَا القَوْلُ خُلاَصَةُ الأَمْرِ كُلِّهِ، فَاصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَقَدَرُ اللهِ يَنْزِلُ بِحِكْمَةٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ العِبَادُ تِلْكَ الحِكْمَةَ؛ لِذَا عِنْدَمَا ضَحِكَ أَحَدُ الزُّهّادِ العُبَّادِ
__________
(1) هذه القصة ذكرها ابن كثير/ في (البداية والنهاية)، وابن تيمية-/ في كتابه (أولياء الرحمن...)(1/69)
عِنْدَ وَفَاةِ عَزِيزٍ لَدَيْهِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ، وَذَهَبُوا إِلَى ابنِ تَيْمَيةَ، وَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ يَضْحَكُ هَذَا الرّجُلُ وَالضّحِكُ عَلاَمَةُ الفَرَحِ؟! وَكَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللهِS وَالبُكَاءُ عَلاَمَةُ الحُزْنِ؟! فَقَالَ ابنُ تَيْمِيةَ: فِعْلُ نَبِيِّنَاSأَكْمَلُ وَأَفْضَلُ؛ بِالرّحْمَةِ بِالبُكَاءِ وَالرِّضَا والاسْتِكَانَةَ لِلْقَضَاءِ، أَمَّا الرَّجُلُ المذْكُورُ لَمْ يُظْهِرْ سِوَى الرِّضَا بِالقَضَاءِ، وَلَمْ يَرْحَمْ نَفْسَهُ بِالبُكَاءِ! فَللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ عُبُودِيَّة، وَعُبُودِيَّةُ اللهِ وَقْتَ المصِيبَةِ أَنْ يُظْهِرَ النَّاسُ لَهُ الخُشُوعَ وَالخُضُوعَ والاسْتِكَانَةَ لِلْقَضَاءِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} [الأنعام42-43].
كَيْفَ يُوَاجِهُ المُؤْمِنُ الابْتِلاءَ؟!
اثْبُتْ عَلَى الإيْمَانِ، وَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ(1/70)
إِذَا أَصَابَكَ مَكْرُوهٌ فَاصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، وَاثْبُتْ عَلَى الإيْمَانِ، وَاعْتَصِمْ بِاللهِ الوَاحِدِ الدَّيَّانِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران101] فَعَلَيْكَ مَوَاجَهَةُ الابْتِلاَءِ بِالدُّعَاءِ وَالفِعْلِ مَعًا؛ أَمَّا الدُّعَاءُ فَقُلْ مِثْلَمَا قَالَ نَبِيُّكَ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S(1): «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا، قَالَ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟! فَقَالَ: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا».
اهْتَدِ بِهَدْيِ نَبِيِّكَ سَيِّدِ الأنَامِ
__________
(1) صحيح): أحمد 3704، صحيح الترغيب والترهيب 1822.(1/71)
وَأَمَّا الفِعْلُ فاهْتَدِ بِهَدْيِ نَبِيِّكَ سَيِّدِ الأنَامِ، فَلَنْ تَجِدَ أَعْظَمَ مِنْهُ قُدْوَةًS، فَيَا مَنْ تَصْبِرُ عَلَى قَضَاءِ اللهِ أَبْشِرْ، وَيَا مَنْ يَسْخَطُ عَلَى قَضَاءِ اللهِ أَقْصِرْ، فَلاَ تَغْضَبْ وَلاَ تَسْخَطْ؛ فَالغَضَبُ لَهُ عَوَاقِبُهُ السَّيِّئَةُ عَلَى الإِنْسَانِ، فَهُوَ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ ثَائِرًا، لاَ يُفَكِّرُ بِهُدُوءٍ، وَلاَ يَعْقِلُ الأُمُورَ، لِذَلِكَ فَقَدْ أَوْصَى رَسُولُ اللهِSأَحَدَ صَحَابَتِه ا بِقَوْلِهِ(1): «لاَ تَغْضَبْ، لاَ تَغْضَبْ، لاَ تَغْضَبْ» ذَلِكَ لأَنَّ رِضَاكَ أَوْ غَضَبَكَ لَنْ يُؤَخِّرَ أَوْ يُقَدِّمَ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا؛ وَالسَّبَبُ بِكُلِّ يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ أَنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» فَالسَّمَوَاتُ السَّبْعُ فَوْقَهَا المَاءُ، وَفَوْقَ المَاءِ العَرْشِ، وَصَدَقَ رَبُّنَا إِذْ يَقُولُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب38] وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال42] أَيْ: مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ وَمَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَقَدَرٍ وَقَضَاءٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوب، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ S وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ(2): «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ
__________
(1) صحيح): أحمد 6543، مسلم 2653، الترمذى 2156.
(2) صحيح): البخارى 3208، مسلم 2643، أبو داود 4708.(1/72)
اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ؛ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»
لِمَنْ تَشْكُو؟!
الصَّبْرُ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ مِنْ حُسْنِ الإِيمَانِ بَلْ هُوَ رُكْنٌ رَكِينٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ، فَهَذِهِ أُمُورٌ؛ كَتَبَهَا اللهُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ تُوْلَدَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا شَكْوَى إِلا للهِ، أَتَشْكُو مَنْ إِلَى مَنْ؟! تَشْكُو اللهَ وَقَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ الَّذِي نَزَلَ بِكَ إِلَى العِبَادِ، إِنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! تَشْكُو مَنْ يَرْحَمُكَ إِلَى مَنْ لا يَرْحَمُكَ، تَشْكُو اللهََ إِلَى عَبْدٍ فَقِيرٍ مِثْلِكَ، لا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْكَ ضُرَّا وَلا أَنْ يَجْلِبَ لَكَ نَفْعًا، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ:
وإذَا شَكَوْتَ إلى ابْنِ آدَمَ؛ إنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى مَنْ لا يَرْحَمُ
الأَمْرُ لَيْسَ لِوَلِيٍّ وَلاَ لِنَبِيٍّ(1/73)
وَاللهِ حَتَّى النَّبِيّSصَاحِب المقَامِ العَظِيمِ عِنْدَ اللهِ العَلِيمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن21] وَقَالَ الله تَعَالَى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف188] فَالأَمْرُ لَيْسَ لِوَلِيٍّ وَلاَ لِنَبِيٍّ؛ إِنَّمَا الأَمْرُ كُلُّهُ للهِ الرَّبِّ العَلِيِّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام17] إِذًا..النَّافِعُ الضَّارُّ هُوَ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان3] وَقَدْ أَكَّدَ المعْصُومُSهَذَا المفْهُومَ، فَاسْتَمِعْ لِرَسُولِ اللهِSوَهُوَ يَقُولُ لابْنِ عَبَّاسٍا؛ وَهُوَ غُلامٌ صَغِيرٌ؛ ليُرَبِّيَهُ عَلَى الإِيمَانِ وَالتُّقَى وَالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا أَعْظَمَ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَيْهَا! فَنَشَأَ هَذَا الغُلامُ نَشْأَةً عَظِيمَةً؛ حَتَّى صَارَ حَبْرَ الأُمَّةِ ا، وَرَسُولُ اللهِS أَكَّدَ هَذَا المَعْنَى، وَأَرْسَى هَذَا المَبْدَأَ العَظِيمَ، فَقَالَ(1): «..وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» بَلْ كَانَ مِنْ دُعَائِهِS(2)
__________
(1) صحيح): أحمد 2444، صحيح الجامع 7957.
(2) صحيح): أحمد 16397، صحيح الأدب المفرد 1/232.(1/74)
«..اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ» وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ..» فَالنَّبِيُّ لَيْسَ بِرَازِقٍ؛ فَاسْمَعْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S(1): «قَالَ مَا أُعْطِيكُمْ وَلا أَمْنَعُكُمْ، إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ؛ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» فَاللهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، هَذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ اخْتِصَاصِ مَوْلانَا سُبْحَانَهُ، فوَاللهِ لَوْ صَحَّتْ عَقِيدَةُ النَّاسُ لَعَاشَ النَّاسُ فِي أَمْنٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَإِيمَانٍ، وَلْيَكُنْ مَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَنْ يُقَدِّرَ اللهُ إلا الخَيْرَ، حِينَئِذٍ يَقُولُ المؤْمِنُ فِي ثَبَاتٍ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
يَا طَالِبًا مِنْ دَفِينٍ فِي الثَّرَى مَدَدًا
كَيْفَ اتَّجَهْتَ إِلَى مَنْ مَاتَ تَسْأَلُهُ
إِنَّا وَإِيَّاهُ أَمْوَاتٌ وَيَا عَجَبًا
ارْجِعْ إِلَى اللهِ وَاسْأَلْهُ مَا شِئْتَ
مُحَمَّدٌ وَهُوَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ مَنْزِلَةً ... لَيْسَ الشَّرَابُ بِمُرْوٍ ظَامِئًا أَبَدًا(2)
سَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لاَ تَنْتَهِي عَدَدًا
لِمَيِّتٍ يَبْتَغِي مِنْ مَيِّتٍ مَدَدًا
فَهُوَ الَّذِي أَعْطَى الوَرَى وَهَدَى
لاَ يَمْتَلِكُ لِلْوَرَى ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا
مِنِ ابْتِلاَءَاتِ النِّسَاءِ... وَكَيْفَ صَبَرْنَ؟!
اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي
__________
(1) صحيح): رواه أحمد 27372، البخارى 3117.
(2) من جُعْبَةِ الأخِ الفَاضلِ الأُستَاذِ: مُحمَّد إبْراهِيم المسَرِي؛ المدير العام بإدارة بلقاس التعليمية.(1/75)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ٍا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّS(1): بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّS فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّS فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَS: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى، وَمَعْنَى عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى، أَيْ: عِنْدَ لَحَظَاتِ الموْتِ الأُولَى مَعَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَأَعْمَالِ تَكْفِينِ المتَوَفَّى وَدَفْنِهِ فَهِيَ لحَظَاتٌ حَرِجَةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى أَهْلِهِ؛ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَدَمُ التَّفَوُّهِ بِكَلِمَاتٍ تُغْضِبُ اللهَ عَلَى أَهْلِ المتَوَفَّى وَقَتْهَا.
صَبْرُ أُمِّ المؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ
__________
(1) صحيح): البخارى 1238، مسلم 926، أبو داود 3124.(1/76)
وَتِلْكُمُ امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ صَابِرَةٌ شَاكِرَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ أُمُّ سَلَمَةَل تُعَلِّمُنِي وَتُعَلِّمُكَ كَيْفَ نَصْبِرُ؟! وَلاَ عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةً، فَقَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم11] إِنَّهَا أُمِّي وَأُمُّكَ، مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَبُو سَلَمَةَ ا فَقَالَتْ قَوْلاً يَعْجَزُ عَنْ قَوْلِهِ الرِّجَالُ وَقْتَ الشِّدَّةِ، فَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ الميِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ البُكَاءُ المصْحُوبُ بِعَدَمِ رِضًا وَسَخَطٍ وَعَوِيلٍ شَدِيدٍ، تَرَى اليَوْمَ الرَّجُلَ إِذَا أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ يَلْطُمُ خَدَّيْه -وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا بِاللهِ- وَيَفْعَلُ فِعْلَ امْرَأةٍ جَاهِلِيَّةٍ، أَلاَ يَتَعَلَّمُ هؤلاء كَيْفِيَّةَ الصَّبْرِ مِنْ أُمِّهِمْ أُمِّ سَلَمَةَل؟! اسْمَعْ مَاذَا قَالَتْ: (اللَّهُمَّ أَجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) كَلِمَاتٌ بَسِيَطةٌ إِلا أَنَّهَا عَظِيمَةٌ، تَعَلَّمَتْهَا مِنْ حَبِيبِ قَلْبِهَا مُحَمَّدٍ، أَنْصِتْ إِلَيْهَا وَتَعَلَّمْ مِنْهَا وَهِيَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ(1): «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (اللَّهُمَّ أَجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) إِلاَّ آجَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ المسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ! أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ S ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا
__________
(1) صحيح): مسلم 918، أبو داود 3119، الترمذى 977.(1/77)
فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ S قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ S حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ؛ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ: أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ.. وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى قَوْلِهَا الجَمِيلِ: فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللهِ؛ نَعَمْ.. أَخْلَفَهَا اللهُ خَيْرًا عَظِيمًا عَلَى صَبْرِهَا وَقَوْلِهَا، انْظُرْ كَيْفَ أَنْزَلَ اللهُ السَّكِينَةَ عَلَى قَلْبِهَا، فَتَزَوَّجَتْ بِمَنْ؟! تَزَوَّجَتْ بَِرسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍS؛ حَبِيبِ اللهِ وَأَكْرَمِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَسَيِّدِ النّاَسِ أجْمَعِينَ، وَأَوَّلِ شَافِعٍ وَأَوَّلِ مُشَفَّعِS، وَأَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَS، وَرَفَعَ اللهُ شَأْنَهَا مِنْ مُجَرَّدِ امْرَأَةٍ إِلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ لفَهِيَ أُمُّكَ قَبْلَ أَنْ تَلِدَكَ أُمُّكَ، فَهِيَ عِنْدِي وَعِنْدَكَ أَغْلَى مِنْ أُمِّنَا الَّتِي أَنْجَبَتْنَا، أَلَمْ يَقُلِ رَبُّنَا فِي شَأْنِهَا وَشَأْنِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ): {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب6] فَإِذَا اشْتَدَّ بِكَ الخَطْبُ فَلا تَهْتَزّ، وَاسْتَمْسِكْ بِالإيْمَانِ، وَاعْتَصِمْ بِالوَاحِدِ الدَّيَّانِ، فَيَكُونُ إِيْمَانُكَ أَشَدَّ -بِإِذْنِ اللهِ- مِنْ أَيْ خَطْبٍ، وَادْعُ اللهَ أَنْ يُثَبِّتكَ عَلَى دِيْنِهِ، فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ أَفْسَدُوا إِيْمَانَهُم بَعْدَ ابْتِلائِهِم!.
هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلاَّ فَجَائِعُ
فَلاَ تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ فِيهَا بِعَبْرَةٍ
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا نَضَارَةُ أَيْكَةٍ إِذَا ... عَلَيْهَا وَلاَ اللَّذَّاتُ إِلاَّ مَصَائِبُ
عَلَى ذَاهِبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبٌ(1/78)
اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ
وَيَا حَبْذَا لَوْ دَعَوْتَ اللهَ، مِثْلَمَا كَانَ يَدْعُو رَسُولُ اللهِ، حَيْثُ كَانَSيُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ(1): «يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ؛ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» فَارْتَعَدَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لوَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أوَ إِنَّ القُلُوبَ تَتَقَلَّبُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِS: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ؛ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ» وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا بِكَ مِنْ ضِيقٍ وَابْتِلاءٍ، فَإِنَّ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَعَزَّيْتَ وَصَبَرْتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ نَبِيِّهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ِبَمَا يَقُولُونَ} [الحجر15] فَاصْبِرْ.. وَتَعَلَّمْ كَيْفَ يَكُونُ الصَّبْرُ؟!.
أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟!
__________
(1) صحيح): أحمد 25980, صحيح الجامع 4801.(1/79)
امْرَأةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ صَبْرًا وَطَاعَةً للهِ؛ إِنَّهَا امْرَأَةٌ مِنَ الجَنَّةِ؛ فَفِى حدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ا قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ(1): أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟! قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّSوَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» قَالَتْ: أَصْبِرُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا، وَكَانَتْ إِحْدَى مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ أَنَّهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ؛ إِذَا دَعَا رَبَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَوْرَ دُعَائِه كَمَا عَدَّ ذَلِكَ ابنُ تَيْمِيةَ(2) فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّS.. سُبْحَانَ اللهِ! تَصْبِرُ عَلَى المَرَضِ وَلا تَصْبِرُ عَلَى التَّكَشُّفِ؛ إِنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ عَقْلاً؛ طَلَبَتِ الجَنَّةَ فَفَازَتْ بِهَا؛ فَأَصَابَتْ -فِي خيَارِهَا الجَنَّةَ- إِصَابَةً بَالِغَةً؛ وَالمرْأَةُ هِيَ سعِيرَةُ الأَسَدِيّةُ، وَأَتَكَشَّفُ بِمَعْنَى: أَخْشَى أَنْ تَظْهَرَ عَوْرَتِي، وَأَنَا لاَ أَشْعُرُ؛ وَهَذِهِ المرْأَةُ عِبْرَةٌ لِلنِّسَاءِ، رَغْمَ مَرَضِهَا اجْتَهَدَتْ فِي ستْرِ نَفْسِهَا وَبَدَنِهَا، وَالعَجِيبُ أَنَّ نِسَاءَنَا يَجْتَهِدْنَ فِي كَشْفِ عَورَاتِهِنَّ وَهُنَّ غَيْرُ مَعْذُورَاتٍ فِي ذَلِكَ؛ أَمَّا هَذِهِ المرْأَةُ فَتَتَكَشَّفُ بِعُذْرٍ المَرَضِ؛ فَيَا مَنْ تَتَكَشَّفِينَ بِلاَ صَرَعٍ، أَلاَ تَخَافِينَ أَنْ تَتَكَشَّفِي وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ بِالصَّرَعِ؟! فَاللهُ
__________
(1) صحيح): البخارى 5652، مسلم 2576، أحمد 3230.
(2) ذكر ابن تيمية ما يَرْبُو عَلَى ألفِ معجزة لرسول الله.(1/80)
قَادِرٌ لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ؛ وَلَكِنَّهُ يُمْهِلُ وَلاَ يُهْمِل، فَيَا أَيَّتُهَا المُسْلِمَاتُ اسْتُرْنَ أَنْفُسَكُنَّ يَسْتُرْكُنَّ اللهُ، آهٍ..آهٍ لَوْ رَأَتْ هَذِهِ المَرْأَةُ -اليَوْمَ- فَتَيَاتِ المُسْلِمِينَ، وَهُنَّ فِي سُفُورِهِنَّ وَتَبَرُّجِهِنَّ المشِيْنِ، وَهُنَّ يَعْلَمْنَ أَنَّ سِمَاتِ الثَّوْبِ الإسْلامِيِّ أَلا يَصِف، وَأَلا يَكْشِف وَأَلا يَشِفّ، فَيَا مَنْ تَتَكَشَّفِينَ اتَّقِ اللهَ قَبْلَ لِقَاءِ اللهِ.
وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ يَحْضُرُنِي صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ قَدِمَ إِلَى رَسُولِ اللهِS كَمَا فَعَلَتِ المرْأَةُ السَّوْدَاءُ؛ لِيَدْعُوَ اللهَ لَهُ، وَلَكِنَّ المرْأَةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ أَعْظَمَ فِقْهًا مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ؛ فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ Sفَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي، قَالَ(1):«إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ؛ قَالَ: فَادْعُهْ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ؛ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ؛ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ».
أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ S: هُنَا مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الكَلاَمِ كَمَا قَالَ أَهْلُ العِلْمِ، أَيْ: أَسْأَلُكَ بِإِيمَانِي بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ S, وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ S.
إِنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ
__________
(1) صحيح) الترمذي 3578، صحيح الجامع 1279.(1/81)
لَقَدْ وَصَفَ اللهُ نِسَاءَ الجَنَّةِ بِأَنَّهُنَّ حُورٌ مَقْصُوراَتٌ فِي الخِيَامِ فَقَالَ اللهُ: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن72] وَوَصَفَهُنَّ أَيْضًا: بِأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، أي: مَخْفِيٌّ، فَقَالَ اللهُ: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات49] فَكُونِي كَالجَوْهَرَةِ المَصُونَةِ المَكْنُونَةِ، وَلاَ تُظْهِرِي مِنْ جِسْمِكِ شَيْئًا لِلذِّئَابِ؛ فَتَقَعِي فَرِيسَةً سَائِغَةً لَهُم، وَاعْلَمِي -عِلْمَ اليَقِينِ- أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي المُتَبَرِّجَاتُ السَّافِرَاتُ مَعَ الشَّرِيفَاتِ الطَّاهِرَاتِ، شَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَهُمَا، لاَ...لاَ يَسْتَوِيَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم35] وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة18] فَانْظُرِي إِلَى أَيِّ فَرِيقٍ تُحِبِّينَ أَنْ تَنْتَمِي إِلَيْهِ! فَيَا أَيَّتُهَا المُسْلِمَةُ اتَّخِذِي مِنْ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ) مَثَلاً أَعْلَى لَكَ؛ حَتَّى تَلْحَقِي بِهِنَّ فِي الجَنَّةِ؛ لأنَّ نِسَاءَ الجَنَّةِ مَسْتُورَاتٌ وَعَفِيْفَاتٌ، أَتُرِيدِينَ أَنْ تَدْخُلِي -وَأَنْتِ فِي قِمَّةِ تَبَرُّجِكِ الجَاهِلِيِّ- إِلَى الجَنَّاتِ مَعَ العَفِيفَاتِ؟!.
يَا ابْنَتِي إِنْ أَرَدْتِ آَيَةَ حُسْنٍ
فَانْبُذِي عَادَةَ التَّبَرُّجِ نَبْذًا
يَصْنَعُ الصَّانِعُونَ وَرْدًا وَلَكِنْ ... وَجَمَالاً يَزِينُ جِسْمًا وَعَقْلاً
فَجَمَالُ النُّفُوسِ أَسْمَى وَأَغْلَى
وَرْدَةُ الرَّوْضِ لاَ تُضَارَعُ شَكْلاً
أَيُّهَا الحَبِيبُ بِمَنْ تَسْتَغِيثُ وَقْتَ الشِّدَّةِ؟!(1/82)
إِنْ قَدَّر اللهُ قَدَرًا وَنَزَلَ بِكَ فَاسْتَغِثْ بِاللهِ أَنْ يُثَبِّتَ قَلْبَكَ عَلَى الحَقِّ؛ وَيَهْدِيَكَ وَيَكْشِفَ عَنْكَ، قَالَ تَعَالَى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل62] فَحِينَئِذٍ مَنْ يُجِيبُكَ غَيْرُهُ؟! فَالإِنْسَانُ إِذَا وَقَعَ فِي مُصِيبَةٍ يَتُوهُ عَقْلُهُ، وَيَضِيعُ فِكْرُهُ، وَلاَ يَسْتَحْضِرُ ذِهْنُهُ فِي هَذَا المَجَالِ إِلاَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، وَيَدْعُو كُلَّ مَحْبُوبٍ إِلَيْه مُقَرَّب.. أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟!
نُمُوذَجٌ مِنَ العَصْرِ الجَاهِلِيِّ!
قَالَ عَنْتَرَةُ فِي عَبْلَةَ؛ وَالمعْرَكَةُ قَائِمَةٌ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الأَدْهَمِ(1)
لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المتَبَسِّمِ
__________
(1) الأشطان: جمع شطن وهو حبل البئر، وشبه الرمح به؛ لطوله، اللبان: الصدر، الأدهم: الفرس الأسود.(1/83)
إِنَّهُ تَذَكَّرَ امْرَأَةً ضَعِيفَةً؛ لِيُصِيبَهُ الحَمَاسُ أَوْ لِيَسْتَمِدَّ مِنْ ذِكْرِهَا القُوَّةَ؛ لأَنَّهَا مَحْبُوبَتُهُ، أَمَّا أَنْتَ -أَيُّهَا الموَحَّدُ- فَانْظُرْ مِمَّنْ تَسْتَمِدُّ القُوَّةَ؟! الإِجَابَةُ: أسْتَمِدُّ القُوَّةَ مِنْ صَاحِبِ القُوَّةِ كُلِّهَا؛ مِنَ اللهِ، أَتَدْرِي لِمَاذَا؟! لِتَعْلَمَ أَنَّ لَكَ رَبًّا تَلْجَأُ إِلَيْهِ وَقْتَ كَرْبِكَ، لأَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا، فَحِبِيبُكَ اللهُ، وَالقَوِيُّ القَاهِرُ هُوَ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [البقرة165] لِذَا قَالَ اللهُ لِلمُؤْمِنِينَ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الأَمِينِ وَقْتَ المعْرَكَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال45] لِيَنْزِعَ الدُّنيَا مِنْ قُلُوبِهِم وَقْتَ الأَزْمَةِ وَالقِتَالِ، وَهُمْ -حِينَئِذٍ- لَيْسَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ الموْتِ إِلاَّ دَقَائِقُ مَعْدُودَةٌ بَلْ أَقَلُّ، كُلُّ مِنْهُم يَذْهَبُ إِلَى القِتَالِ، وَهُوَ مُتَأَكِّدٌ مِنْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ فِي المعْرَكَةِ فَسَيَكُونُ هُوَ هَذَا الوَاحِد، يَفْقِدُ حَيَاتَهُ؛ وَهِيَ أَغْلَى مَا يَمْلكُهُ الإِنْسَانُ فِي الدُّنيَا، حَتَّى يَمُوتُوا عَلَى التَّوْحِيدِ الخَالِصِ.
مَنْ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ اللَّهِ؟!(1/84)
هَكَذَا وَقْتَ الأَزْمَةِ يَدْعُو كُلٌّ مِنَّا كُلَّ مَحْبُوبٍ إِلَيْهِ مُقَرَّبٍ؛ لِيَنْصُرَهُ قَائِلاً: أَغِثْنِي؛ فَمَنْ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ اللهِ؟! لاَ يَمُوتُونَ فِي سَبِيلِ النِّسَاءِ مِيتَةَ الجَاهِلِيَّةِ؛ إِنَّمَا يَمُوتُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، تَعَلَّمْ مِنْ صحَابَةِ رَسُولِ اللهِ سَيِّدِ الأَوْفِيَاءِ، اسْتَمِعْ إِلَيْهِم وَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، يَسْتَغِيُثونَ رَبَّهُم مُدَبِّرَ أُمُورِهِم وَنَاصِرَهُم عَلَى عَدُوِّهِم، قَالَ اللهُ فِي شَأْنِهِم: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال9] فَمَقَالِيدُ المعَارِكِ كُلّهَا بِيَدِ مَنْ؟! بِيَدِ الموْلَى جَلَّ وَعَلا؛ فَاللهُ يُؤَيِّدُ مُؤْمِنًا وَلاَ يُؤَيِّدُ كَافِرًا، لِذَا لَنْ تَجِدَ مَعْرَكَةً انْتَصَرَ فِيهَا المسْلِمُونَ إِلاَّ وَهُمْ قِلَّةٌ، وَمَا غَزْوَةُ حُنَيْنٍ مِنَّا بِبَعِيدٍ، عِنْدَمَا أَعْجَبَتِ المسْلِمِينَ كَثْرَتُهُم، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُم مِنَ اللهِ شَيْئًا: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال26] وَلَمْ يَقُلْ: ضُعَفَاء؛ فَالعَدُوُّ هُوَ الَّذِي اسْتَضْعَفَكُم؛ وَلَكِنَّكُم أَنْتُمْ -فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ- أَقْوِيَاء بِإِيمَانِكُم وَنَبِيِّكُم وَقَبْلَهُمَا بِمَعِيَّةِ رَبِّكُم، فَإِنَّ هَذَا المفْهُومَ وَقَرَ فِي قُلُوبِ الصّحَابَةِ، إِنَّهَا العَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، فَلاَ اسْتِغَاثَةَ وَلاَ ذِكْرَ إِلاَّ للهِ مَعَ أَخْذٍ كَامِلٍ بِالأَسْبَابِ؛ لِتَدْخُلَ فِي مَعِيَّةِ اللهِ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ اللهُ فَمَعَهُ كُلُّ(1/85)
شَيْءٍ، وَمَنْ فَقَدَ مَعِيَّةَ اللهِ فَقَدَ كُلَّ شَيْءٍ، فَكُنْ للهِ كَمَا يُرِيدُ يَكُنْ لَكَ فَوْقَ مَا تُرِيدُ.
فَالإِنْسَانُ بِطَبِيعَتِهِ خُلِقَ ضَعِيفًا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء28] أَيْ: قَلِيلُ الصَّبْرِ عَلَى المشَاقِّ، هَكَذَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى، كَلِمَةٌ حَسَنَةٌ تُفْرِحُهُ، وَكَلِمَةٌ سَيِّئَةٌ تُؤْذِيهِ وَتَجْرَحُهُ، وَمَرَضٌ بَسِيطٌ يُلِمُّ بِهِ رُبَّمَا يَسْتَفْحِلُ خَطَرُهُ فَيَقْتُلُهُ، لِذَا فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَنْصُرُهُ وَقْتَ غَوْثِهِ، وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْهُ، وَإِلَى مَنْ يُؤَيِّدُهُ وَقْتَ ضَعْفِهِ، وَإِلَى مَنْ يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ وَقْتَ أَزْمَتِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ -فِي مُجْتَمَعِهِ- وَاحِدًا فَرْدًا، الَّذِي يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ هُوَ اللهُ رَبُّ الأَرْبَابِ الوَاحِدُ الأحَدُ، فَهُوَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، وَجَمِيعُ الخَلاَئِقِ تَحْتَاجُ إِلَى الفَرْدِ الصَّمَدِ؛ وَهَا هُوَ أَعْظَمُ كَافِرٍ وَهُوَ فِرْعَوْنُ -وَقْتَ شِدَّتِهِ- اسْتَغَاثَ بِاللهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ، وَقَالَ لَهُمْ فِي غُرُورٍ شَدِيدٍ: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص38] تَرَاهُ الآنَ حِينَمَا أَتَاهُ الغَرَقُ -وَهُوَ الَّذِي ادَّعَى الرّبُوبِيَّةَ وَالأُلُوهِيَّةَ- يَسْتَغِيثُ بِاللهِ مُعْلِنًا إِيمَانَهُ لِلمَرَّةِ الأُولَى وَالأَخِيرَةِ! قَالَ اللهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس90]
الأُمُورُ كُلُّهَا بِيَدِ اللَّهِ(1/86)
أَمَّا المؤْمِنُ الحَقُّ مَهْمَا أُوتِيَ مِنْ ضَعْفٍ فَهُوَ قَوِيٌّ بِاللهِ، وَمَهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَهُوَ ضَعِيفٌ فَقِيرٌ إِلَى عَفْوِ مَوْلاَهُ؛ لأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا هُوَ اللهُ، فَاللهُ نَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَحَافِظُكَ؛ لِذَا ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلاَ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ، وَإِنْ عَبَدُوهُ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي العِبَادَةِ آلِهَةً أُخْرَى، وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، فَهُمْ آنَذَاكَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهَا: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت41] فَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ ضَعِيفٌ، لاَ يَصُدُّ بَرْدًا وَلاَ يَمْنَعُ حَرًّا، فَالبَيْتُ أَضْعَفُ مِنَ العَنْكَبُوتِ نَفْسِهِ، وَكَذَا الكَافِرُ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ يَعْتَمِدُ عَلَى مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ؛ لِيَنْصُرَهُ! أَمَّا الصَّالِحُونَ فَوَلِيُّهُم اللهُ الَّذِي لاَ يَغْفُلُ وَلاَ يَنَامُ، قَالَ اللهُ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف 196] أي: مُتَوَلِي أُمُورِي وَمُدَبِّرُهَا؛ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ القُرْآنَ وَيَحْفَظُ الصَّالِحِينَ فِي حِلِّهِم وَتِرْحَالِهِم؛ لِذَلِكَ قَالَ اللهُ: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية 19] فَهَنِيئًا لَكَ أَيُّهَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ بِوَلاَيَةِ اللهِ لَكَ، فَهُوَ وَلِيُّكَ وَنَاصِرُكَ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلاَ يَنْصُرُ وَلاَ يَنْفَعُ وَلاَ يَضُرُّ إِلا بِإِذْنِهِ، قَالَ اللهَ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ(1/87)
شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف191-192] فَادْعُ بِإِخْلاَصٍ؛ وَأَنْتَ مُوقِنٌ بِالإِجَابَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ(1): لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ الخَلْقِ إِبْلِيسَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص79-81]
اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَالإِجَابَة نَوْعٌ مِنَ الابْتِلاَءِ
وَاعْلَمْ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- أَنَّ اسْتِبْطَاءَ النَّصْرِ وَالإِجَابَةِ نَوْعٌ مِنَ الابْتِلاَءِ، فَلاَ تَسْتَعْجِلِ النَّصْرَ، فعَنْ خَبَّابٍ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ S وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ(2): «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ؛ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ؛ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلا اللَّهَ -تَعَالَى- وَالذِّئْبُ عَلَى غَنَمِهِ؛ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ».
يَا صَاحِبَ الابْتِلاءِ... تَعَلَّمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ
__________
(1) كما في فتح الباري 11/144.
(2) صحيح): أحمد 26675، البخارى 3612، أبو داود 2649.(1/88)
أَيُّهَا الحَبِيبُ.. اقْرَأْ القُرْآنَ يَرْضَ عَنْكَ الرَّحْمَنُ، وَيَبْتَعَدْ عَنْكَ الشَّيْطَانُ، وَتَهْتَدِ بِهَدْيِ الأَنْبِيَاءِ صَفْوَةِ الأَنَامِ، اقْرَأ فَقِرَاءَةُ القُرْآنِ عُنْوَانُ الإِيمَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة121] اقْرَأْ؛ لِتَتَعَلَّمَ كَيْفَ تَتَعَامَلُ مَعَ اللهِ رَبِّ الأَنَامِ بِأَدَبٍ؟ وَهُوَ الخَالِقُ العَظِيمُ، مُدَبِّرُ الأَمْرِ الَّذِي خَلَقَكَ فَهَدَاكَ، وَالَّذِي يُحْيِيكَ لِلحِسَابِ.. وَانْظُرْ إِلَى الأَنْبِيَاءِ -وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْكَ عِنْدَ اللهِ- كَيْفَ ابْتِلاهُمُ اللهُ؟! وَكَيْفَ كَانَ صَبْرُهُمْ وَإِيْمَانُهُم عَلَيْهِم -جَمِيعًا- الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؟
نَمَاذِجُ مِنْ صَبْرِ الأَنْبِيَاءِ (صَبْرُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ)(1/89)
نَعَمْ.. لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَ اللهِ بِالصَّبْرِ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف35] وَنَهَاهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذِي النُّونِ (يُونُس بن مَتَّى) عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ فَذُو النُّونِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى قَوْمِهِ وَذَهَبَ مُغَاضِبًا وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ لَهُ بِذَلِكَ وَظَنَّ أَنْ لَنْ يُضِيِّقَ اللهُ عَلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم48-50] لِذَا صَبَرَ النَّبِيُّ عَلَى أَذَاهُمْ لَهُ بِالفِعْلِ وَالقَوْلِ صَبْرًا عَظِيمًا؛ وَكَادَ النَّبِيُّ أَنْ يهْلِكَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ هَذَا الأَمْرِ وَالَّذِي بُعِثَ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِهَدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الإِسْلاَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف6] وَكَانَ صَبْرُهُ بِرَحْمَةٍ لا بِغَضَبٍ وَنَكَدٍ؛ فَمَا أَجْمَلَ الصَّبْرَ تَصْحَبُهُ الرَّحْمَةُ! {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد17-18] أَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدS؟! فَقَدْ ابْتَلاهُ اللهُ بِقَوْمٍ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ، أَعْظَمِ بَلَدٍ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِS؛ إِنَّهَا أُمُّ القُرَى، كَمَا وَصَفَهَا اللهُ العَلِيمُ فِي قُرْآنِهِ الكَرِيْمِ: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى7] وَأَحَبَّهَا(1/90)
رَسُولُ اللهِSحُبًّا جَمًّا، وَأَقْسَمَ عَلَى حُبِّهَا، فَقَالَSعِنْدَمَا أُخْرِجَ مِنْهَا(1): «وَاللهِ إِنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللَّهِ؛ وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْت» قَالَ اللهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد 13] فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ؛ حَتَّى يُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهِ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص85] فَاصْبِرْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَلِكُلِّ حَادِثَةٍ حَدِيثٌ وَوَقْتٌ مُقَدَّر.
وَإِنْ نَأَتْ بِكَ أَوْطَانٌ نَشَأْتَ بِهَا
وَإِنْ جَفَاكَ أَخٌ قَدْ كُنْتَ تَأْلَفُهُ ... فَارْحَلْ فَكُلُّ بِلاَدِ اللهِ أَوْطَانٌ
فَاطْلُبْ سِوَاهُ فَكَمْ فِي الأَرْضِ إِخْوَانٌ
__________
(1) صحيح): أحمد 18242، الترمذى 3925،صحيح الجامع 7089.(1/91)
وَجَعَلَ اللهُ ثَوَابَ هَؤُلاءِ المُهَاجِرِينَ عَظِيمًا؛ لأَنَّ هَذَا الابْتِلاءَ كَانَ جَلَلاً، خَاصَّةً فِي بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ، فَالرَّجُلُ العَرَبِيُّ مُرتَبِطٌ بِوَطَنِهِ مَهْمَا بَعُدَ؛ فَإِنَّهُ يَسْعَدُ كَثِيرًا بِالعَوْدَةِ إِلِى مَوْطِنِهِ الأَوَّلِ؛ لِذَا كَانَ الأَجْرُ كَرِيْمًا، فَهَلْ يُكَافَأُ عَلَى اتِّبَاعِهِ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ أَمْ يُعَاقَبُ بِالخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ؟! إِنَّهُمْ كُوْفِئوا؛ وَلَكِنْ مِنْ مَوْلاهُم الَّذِي خَلَقَهُم فَهَدَاهُم، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ المُهَاجِرِينَ: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِم وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران195] إِذًا.. كَانَ ابْتلاؤُهُمْ قَوِيًّا وَشَدِيدًا وَمُؤْلِمًا، أَنْ يَجِدَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَجْأَةً -وَهُوَ المَحْبُوبُ فِي أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ- بِلا أَهْلٍ وَمَالٍ وَوَلَدٍ وَبَلَدٍ، وَهُمُ الذِينَ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ الصَّادِقَ الأَمِينَ وَأَوْدَعُوا عِنْدَهُS أَغْلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَمَانَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ طَارَدُوهُ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، وَرَصَدُوا الجَوَائِزَ الثَّمِينَةَ لِذَلِكَ، أي: مَنْ يَظْفَرْ بِهِ يَقْتُلْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ يَقُولُS لِعَلِيٍّ بن أَبِي طَالِبٍ: إِذَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ فَرُدَّ الوَدَائِعَ إِلَى أَهْلِهَا، لِذَا؛ كَانَ الثَّوَابُ كَرِيمًا وعَظِيمًا مِنْ رَبِّهِم الكَرِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.. وَلَيْتَ الأمْرَ وَقَفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَكَفَى، وَهُوَ إِخْرَاجُ المَعْصُومِSمِنْ وَطِنِهِ وَأَهْلِهِ وَكَفَى بِهِ مُصَِيبَةً، بَلْ أَسَالُوا دَمَهُ(1/92)
الشَّرِيفَ مِنَ الجِسْمِ المُكَرَّمِ، وَرَمَوْهُ بِأَعْظَمِ السّبَابِ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِئٌ بَرَاءَةَ الذِّئْبِ مِنْ دَمِ ابْنِ يَعْقُوبَ(، فَهُوَ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، كَمَا وَصَفَهُ المَوْلَى الكَرِيْمُ، وَرَمَوا أُمَّنَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ لالطَّاهِرَةَ العَفِيفَةَ بِالفَاحِشَةِ، وَلَكِنِّهُ أَعْرَضَ عَنْهُم حَتَّى نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنَ السَّمَاءِ فِي سُورَةِ النُّورِ.
أَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِ السَّفِيهِ
فَمَا ضَرَّ بَحْرَ الفُرَاتِ يَوْمًا ... فَكُلُّ مَا قَالَ فَهُوَ فِيهِ
أَنْ خَاضَ بَعْضُ الكِلابِ فِيهِ
وَحَاصَرُوهُ حِصَارًا قَاتِلاً فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ رَبَطُوا عَلَى بُطُونِهِم حِجَارَةً وَأَحْزِمَةً مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ.
لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا جَزَاءً لِمُحْسِنٍ
لَقَدْ جَاعَ فِيهَا الأنْبِيَاءُ كَرَامَةً ... إِذًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعَاشٌ لِظَالِمٍ
وَشَبِعَتْ فِيهَا بُطُونُ البَهَائِمِ(1/93)
بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ إِلَى التَّآمُرِ عَلَى قَتْلِهِS، وَرَصْدِ أَعْظَمِ الجَوَائِزِ؛ لِذَلِكَ الأَمْرِ البَشِعِ عِنْدَمَا اجْتَمَعُوا اجْتِمَاعَهُمُ المشْئُومَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا نَجِدُ المَوْلَى يُوْصِيهِ بِالصَّبْرِ، فَمَا أَعْظَمَ الصَّبْرَ! وَمَا أَكْرَمَ جَزَاءَ الصَّابِرِينَ! فَنَزَلَتْ آيَاتُ الصَّبْرِ الآيَةُ تِلْوَ الآيَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف35] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور48] أي: اصْبِرْ عَلَى قَضَاءِ اللهِ الَّذِي قَدَّرَهُ لَكَ وَقَضَى بِهِ عَلَيْكَ؛ فَاصْبِرْ مُمْتَثِلاً لِكُلِّ الأَقْضِيَةِ الوَاقِعَةِ عَلَيْكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس109] فَالصَّبْرُ كَثَوَابِهِ؛ لاَ حُدُودَ لَهُ، فَاللهُ يُوَفِّي الصَّابِرِينَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ؛ فَادْعُ اللهُ أَنْ يُصَبِّرَكَ، وَكُنْ قَرِيبًا -دَائِمًا- مِنْهُ، فَإِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ، وَأُرِيدُكَ أَنْ تَقُولَ دَائِمًا: الحَمْدُ للهِ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِكَ، وَحَالُكَ أَحْسَنُ مِنْ أَحْوَالِ أُنَاسٍ آخَرِينَ، فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ وَاعْتَبِرْ بِهِمْ، فَرُبَّمَا مَنْعُ هَذِهِ النّعْمَةِ عَنْكَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكَ وَأَنْتَ لاَ تَشْعُرُ بِذَلِكَ، فَإِنْ تَكُ قَدْ سُلِبْتَ مِنْكَ نِعْمَةً؛ فَكَمْ مِنْ نِعَمٍ وَهَبَكَ اللهُ إِيَّاهَا لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى! فَلا تَزْدَرِي نِعْمَةَ رَبِّكَ عَلَيْكَ.. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة َا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S(1): «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا
__________
(1) صحيح): البخارى 6490، مسلم 2963، أحمد 27364.(1/94)
إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» فَلَنْ تَحْيَا سَعِيدًا إِلاَّ نَظَرْتَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْكَ فِي أَمْرِ الدِّينِ؛ لِتَصِلَ إِلَيْهِ فَتَسْعَد، أَمَّا فِي أَمْرِ الدّنيَا فَانْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْكَ لِتَحْمَدَ اللهَ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ نِعْمَةٍ..
فَكُنْ تَقِيًّا صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الفَتْحَ فَتْحَانِ: فَتْحٌ مُبَارَكٌ عَلَى المُؤْمِنِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقُواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف96] وَفَتْحٌ آخَرُ عَلَى الكَافِرِينَ وَهُوَ فَتٍْحٌ غَيْرُ مُبَارَكٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ S(1) قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام44] فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ -هَدَانَا وهَدَاكَ اللهُ- مِنْ أَيِّ الفَرِيقَيْنِ أَنْتَ!.
صَبْرُ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ
__________
(1) حسن): أحمد 16860، صحيح الجامع 561.(1/95)
وَهَا هُوَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ ( يُبْتَلَى فِي ابْنِهِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ (، إِخْوَتُهُ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ إِلا أَحَدَهُم كَانَ رَحِيمًا بِهِ، أتَدْرِي مَاذَا قَالَ؟! قَالَ: لا تَقْتُلُوهُ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ! أَيْ: فِي قَاعَ البِئْرِ المُظْلِمِ! نَبِيٌّ كَرِيمٌ يُرْمَى فِي قَاعِ الجُبِّ، ثُمَّ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ امْرَأَةِ العَزِيزِ ثُمَّ فِتْنَةُ السِّجْنِ، وَهُوَ مَنْ؟ وَابْنُ مَنْ؟ هُوَ الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلام، كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ الأَمِينُ S(1) فَهُوَ نَبِيٌّ ابنُ نَبِيٍّ ابنِ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، إِنَّهَا سِلْسَلْةٌ شَرِيفَةٌ كَرِيمَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةٌ، فَمَنْ تَكُونُ أَنْتَ بِالقِيَاسِ عَلَيْهِ؟! وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ( بَعْدَ هَذَا الابْتِلاءِ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف18] وَالصَّبْرُ الجَمِيلُ هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي يَصْبِرُ صَاحِبُهُ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الجَلِيلِ، لاَ أَنْ يَصْبِرَ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ! وَهُوَ صَبْرٌ لاَ شَكْوَى فِيهِ لِلبَشَرِ؛ إِنَّمَا الشَّكْوَى إِلَى رَبِّ البَشَرِ فَقَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [يوسف 86] وَقَالَ اللهُ فِي شَأْنِ المَرْأَةِ المجاَدِلَةِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة1] وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّكْوَى نَوْعَانِ: شَكْوَى مِنْ، وَهَذِهِ الشَّكْوَى تُنَافِي الصَّبْرَ، وَشَكْوَى إِلَى، وَتِلْكُمُ الشَّكْوَى لاَ تُنَافِي الصَّبْرَ، فَاشْكُ
__________
(1) صحيح): أحمد 5679، البخارى 3390.(1/96)
إِلَى اللهِ فَقْرَكَ وَحَاجَتَكَ وَضَعْفَكَ وَذِلَّتَكَ؛ فَلَنْ تَجِدَ أَرْحَمَ مِنْهُ يَسْمَعُكَ، فَبَعْدَ أَنْ وَكَلَ يَعْقُوبُ( ابْنَهُ لإِخْوَتِهِ يَحَْفَظُونَهُ وَلَمْ يَرْجُ اللهَ عَلَيْهِ، فَوَكِلَهُ اللهُ إِلَى خَوْفِهِ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ حُزْنًا عَلَيْهِ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف84] وَعِنْدَمَا قَالَ: {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف64] فَكَانَ هَذَا القَوْلُ فَارِقًا؛ فَأَعَادَ اللهُ وَلَدَهُ يُوسُفَ إِلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَدْ خَرَجَ يُوسُفُ مِنْ عِنْدِهِ طِفْلاً صَغِيرًا، فَأَعَادَهُ اللُه إِلَيْهِ نَبِيًّا كَرِيمًا وَمَلِكًا مُتَوَّجًا وَحَفِيظًا عَلِيمًا وَمَكِينًا أَمِينًا، وَحَقَّقَ اللهُ لَهُ رُؤْيَاهُ، وَأَسْعَدَ بِهِ أَبَاهُ، وَرَدَّ إِلَى أَبِيهِ بَصَرَهُ فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف56] وَلَقَدْ قِيلَ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلَ/وَهُوَ يَئِنُّ مِنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ: آهٍ ..آه يَا إِمَامُ إِنَّ الملَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْكَ الأَنِينَ، فَكَفَّ وَصَبَر وَاحْتَسَبَ؛ فََلا تَيْأَسَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَبَدًا، حَتَّى لَوْ اشْتَدَّ عَلَيْكَ المَرَضُ، فَرَحْمَةُ اللهِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَافَاهُ اللهُ! وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ مَاتَ بَغْتَةً! أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟!
فَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضَاحِكًا
وَكَمْ مِنْ صِغَارٍ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِم
وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ عَرُوسٍ زَيَّنُوهَا لِزَوْجِهَا ... وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهُوَ لا يَدْرِي(1/97)
وَقَدْ أُدْخِلَتْ أَجْسَادُهُمْ ظُلْمَةَ القَبْرِ
وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
وَقَدْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُم لَيْلَةَ القَدْرِ
فقُدْرَةُ اللهِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ فَوْقَ قُدْرَةِ الأَطِبَّاءِ، قَالَ رَسُولُ اللهِS (1): «اللهُ الطَّبِيْبُ» فَانْظُرْ مَنْ شَفَى هَذَا المَرِيضَ؟! وَكَانَ هَذَا المَرِيضُ أَقْرَبَ إِلَى المَوْتِ مِنْهُ إِلَى الحَيَاةِ! وَمَنْ أَمَاتَ هَذَا الصَّحِيحَ؟ وَكَانَ هَذَا الصَّحِيحُ أَقْرَبَ إِلَى الحَيَاةِ مِنْهُ إِلَى المَوْتِ! سَلْ نَفْسَكَ -أَخِي المِفَْضَالَ- مَنْ أَمَاتَ هَذَا وَأَحْيَا ذَاكَ؟! إِنَّهُ اللهُ المُحْيِ المُمِيتُ..
كَيْفَ تَتَعَزَّى عِنْدَ فَقْدِ الأَعِزَّاءِ؟!
يَا مَنْ فَقَدْتَ عَزِيزًا.. رَسُولُ الله يُبَشِّرُكَ
__________
(1) صحيح): صحيح الجامع 1252.(1/98)
لَقَدْ خَصَّصْتُ لَكَ هَذَا البَابَ؛ لِتَتَعَزَّى، فَرَسُولُ الله يُبَشِّرُكَ يَا مَنْ فَقَدْتَ وَلَدَكَ أَوْ عَزِيزًا لَدَيْكَ فَصَبَرْتَ، وَاحْتَسَبْتَهُ عِنْدَ اللهِ فَأَبْشِرْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى (1): «مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا الْجَنَّةُ» وَهَذَا حَدِيثٌ آخَرُ قُدْسِيٌّ مِنْ حَبِيبِ قَلْبِكَ رَوَاهُ لَنَا عَنْ رَبِّهِ العَلِيِّ(2): «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» لِذَا يَقُولُ أَحَدُ الصَّالِحِينَ بَعْدَ وَفَاةِ وَلَدِهِ: لأَنْ يَأْتِيَ وَلَدِي فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، أَيْ: بِصَبْرِي عَلَى فِرَاقِهِ، خَيْرٌ لِي مِنْ تَمَتُّعِي بِهِ فِي الدُّنيَا، وَآخَرُ يَقُولُ: لأَنْ يَأْتِيَ وَلَدِي فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِي يَوْمَ القِيَامَةِ خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ آتِيَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ، وَإلَيْكَ هَذَا الحَدِيثَ المؤَثِّرَ؛ لَعَلَّكَ يَا مَنْ فَقَدْتَ وَلَدَكَ تَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ؛ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ(3): «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ S وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهُ؟ فَقَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ! فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا يَسُرُّكَ أَنْ لا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ
__________
(1) صحيح): أحمد 9127، البخارى 6424.
(2) صحيح): أحمد 19226، صحيح الجامع 795.
(3) صحيح): أحمد 15168، النسائى 1870.(1/99)
الْجَنَّةِ إِلا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى؛ يَفْتَحُ لَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: بَلْ لِكُلِّكُمْ»..
بَلاَغَةُ أَعْرَابِيٍّ
ولَمَّا مَاتَ العَبَّاسُ ( وَجَاءَ النَّاسُ؛ لِتَعْزِيَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ العَبَّاسِ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ مُوَاسِيًا عَبْدَ اللهِ:
اصْبِرْ نَكُنْ بِكَ صَابِرِينَ فَإِنَّمَا
خَيْرٌ مِنَ العَبَّاسِ صَبْرُكَ بَعْدَهُ ... صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ
وَاللهُ خَيْرٌ مِنْكَ لِلعَبَّاسِ
فَقَالَ ابنُ العَبَّاسِا: لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ عَزَاءً قَط؛ فَالمُصَابُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ مِنْ رَبِّ الأَرْبَابِ، وَلَيْسَ المُصَابُ مَنْ فَقَدَ الأَحْبَابَ! وَهَا هُوَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ(1) عِنْدَمَا فَقَدَ رِجْلَهُ فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ، قَدْ أَخَذَ وَاحِدَةً وَأَنْعَمَ بِبَقَاءِ الأُخْرَى، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَمْشِ بِهَا إِلَى الحَرَامِ أَبَدًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَكَ وَقَعَ مِنْ عَلَى الجِدَارِ فَوَقَصَتْهُ النَّاقَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ ابْنًا فَقَدْ تَرَكْتَ الآخَرِينَ؛ فَلَكَ الحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَخَذْتَ، وَلَكَ الحَمْدُ عَلَى أَبْقَيْتَ، هَكَذَا يَكُونُ الإِيمَانُ وَقْتَ المصِيبَةِ، فَاللهُ أَنْعَمَ عَلَيْكَ طُوَالَ عُمُرِكَ كُلِّهِ فِي ثَلاثِينَ أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ ابْتَلاَكَ بِمَرَضٍ أَوْ فَقْدِ عَزِيزٍ؛ فَهَلْ تَجْزَعُ وَلاَ تَصْبِر؟!
اللهُ يُعَوِّضُكَ خَيْرًا مِنْ مُصِيبَتِكَ
__________
(1) عروة بن الزبير، أبوه الزبير بن العوام، وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، وكان إذا أصيب بمصيبة يصبر ويحتسب ويسترجع، ويتذكر نعم الله عليه؛ فَلُقِّبَ بالصابر المحتسب.(1/100)
بِصَبْرِكَ عَلَى المصِيبَةِ فَإِنَّ اللهَ يُعَوِّضُكَ خَيْرًا مِنْهَا؛ فَعَنْ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ(1): «اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ قَالَ: فَمَاتَ؛ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ Sثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ Sبِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ S: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا، قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلادٍ؛ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ(2)».
بَشَائِرُ عَظِيمَةٌ لِلنِّسَاءِ الثَّكَالَى
__________
(1) صحيح) البخاري 1301.
(2) الابن المذكور هو أبو عمير الذي كان النبي يمازحه ويقول له " يا أبا عمير ما فعل النغير.(1/101)
وَلَقَدْ بَشَّرَ رَسُولُ اللهِ النِّسَاءَ الثَّكَالَى بَشَائِرَ عَظِيمَةً؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ S (1): «غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ؛ عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ (2): «لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: حَدِّثْنِي، قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ بَيْنَهُمَا ثَلاثَةُ أَوْلادٍ؛ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ(3)».
احْتِسَابُ الوَلَدِ عِنْدَ اللهِ يُثَقِّلُ الميزَانَ
__________
(1) صحيح) البخاري 102.
(2) صحيح) أحمد 3544، النسائي 1874، صحيح الجامع 5779.
(3) الحِنْثُ: الإِثْمُ يُكْتَبُ عَلَى صَاحِبِهِ عِنْدَمَا يَبْلُغُ وَيَجْرِي عَلَيْهِ القَلَمُ.(1/102)
فَاحْتِسَابُ الوَلَدِ عِنْدَ اللهِ لَهُ جَزَاءٌ عَظِيمٌ وَيُثَقِّلُ الميزَانَ كَذِكْرِ اللهِ؛ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ Sأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ Sقَالَ (1): «بَخٍ بَخٍ.. خَمْسٌ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ وَالِدَاهُ، وَقَالَ: بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسْتَيْقِنًا بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحِسَابِ».
وَالصَّبْرُ -لُغَةً- أَصْلُهُ: الحَبْسُ وَالمنْعُ، أَيْ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الجَزَعِ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى، وَحَبْسُ الجَوَارِحِ عَنِ المعَاصِي مِنْ أَفْعَالٍ وَأَقْوَالٍ سَيِّئَةٍ، وَإِطْلاَقُهَا فِي الخَيْرَاتِ؛ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ الله وَمَرْضَاتِهِ..
لاَ تَيْأَسْ.. فَاللهُ يَأْجُرُكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
__________
(1) صحيح) أحمد 15235، صحيح الجامع 2817.(1/103)
فَالصَّبْرُ جَوَادٌ لاَ يَكْبُو، وَجُنْدٌ لاَ يُهْزَمُ، وَحِصْنٌ لاَ يُهْدَمُ، وَالصَّبْرُ يَجْلِبُ لَكَ حُبَّ اللهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران146] فَلاَ تَحْزَنْ فَاللهُ يُحِبُّكَ، وَلاَ تَخَفْ فَاللهُ مَعَكَ قَالَ اللهُ: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَلاَ تَيْأَسْ فَاللهُ يَأْجُرُكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالَ اللهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر10] وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ؛ فَمَنْ صَبَرَ تَرَى وَجْهَهُ مُشْرِقًا بِالإِيمَانِ وَالحَمْدُ للهِ، وَمَنْ سَخِطَ فَتَرَى فِي وَجْهِهِ ظُلْمَةً كَئِيبَةً مِنْ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ؛ فَإِنْ لَمْ تَصْبِرْ طَوْعًا سَتَصْبِرُ قَهْرًا وَكَرْهًا وَحِينَئِذٍ تَفْقِدُ ثَوَابَ اللهِ وَحُبَّهُ؛ فَلاَ تَحْرِمْ نَفْسَكَ الحُبَّ وَالمعِيَّةَ وَالأَجْرَ العَظِيمَ.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ Sقَالَ (1): «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ» قَوْلُهُ: سَرَرُهُ هُوَ مَا تَقْطَعُهُ القَابِلَةُ، وَهُوَ السُّرُّ بِالضَّمِّ أَيْضًا وَأَمَّا السُّرَّةُ فَهِيَ مَا يَبْقَى بَعْدَ القَطْعِ.
__________
(1) صحيح) الترمذي 1663، صحيح الجامع 2799.(1/104)
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S (1): «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ؛ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ(2)».
بِشَارَةٌ لِمَنْ مَاتَ خَارِجَ البِلاَدِ
__________
(1) صحيح) أحمد 21585، صحيح الترغيب والترهيب 2008.
(2) أول دفعة: تمحى ذنوبه في أول صبة من دمه، تاج الوقار: تاج العزة والعظمة، ويزوج: يعطى بطريق الزوجية (اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، أي: نساء الجنة واحدتها: حوراء وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها.(1/105)
وَلَوْ مَاتَ عَزِيزٌ لَدَيْكَ خَارِجَ البِلاَدِ فَأَبْشِرْ؛ فَلَهُ مِنَ الخَيْرِ الكَثِير وَمِنَ الثَّوَابِ العَظِيم؛ وَلْنَأْخُذْ مِثَالاً حَدَثَ لأَحَدِ الصّحَابَةِ؛ وَهُوَ الصّحَابِيُّ الجَلِيلُ ضَمُرَةُ بنُ جُنْدُب اوالَّذِي فَازَ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ، عِنْدَمَا خَرَجَ مُهَاجِرًا -وَهُوَ الرَّجُلُ المُسِنُّ حَيْثُ كَانَ عُمْرُهُ وَقْتَهَا يُنَاهِزُ الثَّمَانِينَ عَامًا- قَالَ لأَهْلِهِ: أَخْرِجُونِي مِنْ أَرْضِ المُشْرِكِينَ، وَاحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ النَّبِيِّSثُمَّ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِالنَّبِيِّS فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ قُرْآنًا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء100] وَهَنِيئًا لَهُ بِشَارَةً أُخْرَى مِنْ رَسُولِ اللهِS حَيْثُ مَاتَ رَجُلٌ بِالمَدِينَة مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهS ثُمَّ قَالَ(1): «يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولُ اللهِ؟! قَالَS: إنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهْ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطِعِ أَثَرِهِ فِي الجَنَّةِ»؛ لِذَا فَقَدْ جَعَلَ اللهُ القَتْلَ عَدِيلَ الخُرُوجِ وَالهِجْرَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء66] بَلْ وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ هَاجَرُوا كَالَّذِينَ أُخْرِجُوا وَالَّذِينَ أُوذُوا فِي سَبِيلِهِ
__________
(1) حسن): ابن ماجة1614، صحيح سنن ابن ماجة 1832.(1/106)
كَالمقَاتِلِينَ وَالشُّهَدَاءِ فَقَالَ: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران195] فَاللهُ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا وَصَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل110]
أَخِي الحَبِيبَ...اصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً
ارْضَ بِاللَّهِ رَبًّا يَرْضَ عَنْكَ عَبْدًا(1/107)
بِدَايَةً -فِي هَذَا المبْحَثِ- عَلَيْكَ أَنْ تَرْضَى بِاللهِ رَبًّا؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَلاَّ تَرُدَّ أَمْرَهُ، وَأَلاَّ تَقْتَرِفَ نَهْيَهُ، وَأَنْ تَصْبِرَ عَلَى قَدَرِهِ وَقَضَائِهِ النَّازِلِ بِكَ، فَلَيْسَ الأَمْرُ مُجَرَّدَ كَلاَمٍ؛ فَإذَا تَضَجَّرْتَ مِنْ قَضَاءِ رَبِّكِ الَّذِي نَزَلَ بِكَ -حِينَئِذٍ- فَأَنْتَ لَمْ تَرْضَ بِاللهِ رَبًّا؛ حَتَّى يُذْعِنَ قَلْبُكَ لأَمْرِ رَبِّكَ؛ وَيَرْضَى وَلاَ يَسْخَط، إِنَّهُ الخُضُوعُ وَالاسْتِسْلاَمُ لأَمْرِ اللهِ، فَارْضَ بِاللهِ رَبًّا يَرْضَ عَنْكَ عَبْدًا؛ وَاسْتَعِنْ بِهِ فِي كُلِّ أُمُورِكَ، فَأَنْتَ لَيْسَ بِيَدِكَ شَيْءٌ؛ وَاللهُ بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ؛ فَاللهُ مُدَبِّرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يَقَعُ فِي الكَوْنِ شَيْءٌ إِلاَّ بِأَمْرِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون17] وَاعْلَمْ -أَخِي الكَرِيْمَ- أَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِ الإِنْسَانَ عَطَاءً عَظِيمًا وَلاَ خَيْرًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ اإِنَّ نَاسًا مِنْ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ S فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ(1): «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ» فَاصْبِرْ إِنَّ مَوْعِدَكَ الجَنَّةُ؛ وَادْعُ اللهَ أَنْ يُلْهِمَكَ الصَّبْرَالجَمِيلَ..
عَلَيْكَ بِثَلاَثَةٍ!
__________
(1) صحيح): البخارى 1469، مسلم 1053، أبو داود 1644.(1/108)
عَلَيْكَ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ: الصَّبْرُ الجَمِيلُ هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي لا شَكْوَى فِيهِ إِلاَّ لِلَّهِ، أَمَّا الهَجْرُ الجَمِيلُ هُوَ أَلاَّ تُعَاتِبَ مَنْ تَهْجُرُهُ، وَأَمَّا الصَّفْحُ الجَمِيلُ هُوَ أَلاَّ تُؤْذِيَ مَنْ آذَاكَ، أَيْ: تَصْفَحُ عَنْهُ وَلا تَمَسّهُ بِسُوءٍ، فَمَنْ مِنَّا يَتَمَثَّلُ هَذَا الخُلُقَ الجَمِيلَ؟ فَهَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ الكَرِيْمِSإِلا أَنَّهَا وَصَايَا بَالِغَاتٌ خَالِدَاتٌ مِنَ اللهِ إِلَيْكَ أَيُّهَا المُوَحِّدُ المُبْتَلَى، فَأَنْتَ مُخْتَصٌّ بِهَا أَيْضًا؛ وَكَانَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّSلأَصْحَابِهِ (1): «َاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
يُبْتَلَى الأَخْيَارُ؛ لِسَبَبَيْنِ.. فَمَا هُمَا؟!
__________
(1) صحيح): البخارى 3792، مسلم 1845، الترمذى 2189.(1/109)
وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَبْتَلِيْكَ مِنْ أَجْلِ شَيْئَيْنِ لا ثَالِثَ لَهُمَا؛ إِمَّا لِتَكْفِيرِ السَّيْئَاتِ وَمَحْوِهَا، وَإِمَّا لِزِيَادَةِ الحَسَنَاتِ، فَأَكْثِرْ مِنَ الحَسَنَاتِ؛ فَإِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود114] وَيَقُولُ حَبِيبُ قَلْبِكَ مُحَمَّدٌS؛ حَتَّى يَطْمَئِنَ قَلْبُكَ(1): «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» فَأَنْتَ وَاقِعٌ بَيْنَ صِفَتَيْنِ كَرِيْمَتَيْنِ (الصَّبْر وَالشُّكْر)، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صَابِرًا عَلَى البَلْوَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ شَاكِرًا عَلَى النِّعْمَةِ، فَإِنْ أَعْطَاكَ اللهُ العَافِيَةَ فَاشْكُرْ، وَإِنْ أَعْطَاكَ الَمَرضَ فَاصْبِرْ، فَكِلاهُمَا مِنْ مَوْلاَكَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِكَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَاللهُ تَعَالَى أَرْحَمُ مِنَ الوَالِدَةِ بِوَلِدِهَا، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ.
__________
(1) صحيح): أحمد 18455، مسلم 2999، الدارمي 2777.(1/110)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍا: الدِّينُ نِصْفَانِ صَبْرٌ وَشُكْرٌ، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم5] فَإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ فَاصْبِرْ، فَكُلُّ مُصِيبَةٍ وَلَوْ كَانَتْ يَسِيرَةً تَسْتَوْجِبُ مِنْكَ الاسْتِرْجَاعَ فَقُلْ: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة156] قَالَ النَّبِيُّS(1): «لا تُصِيبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُصِيبَةٌ، فَيَسْتَرْجِعَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ».
إِيَّاكَ وَقَتْلَ النَّفْسِ .. أَيُّهَا المبْتَلَى
نَسْمَعُ كُلَّ حِينٍ أَنَّ فُلانًا أَغْرَقَ نَفْسَهُ، وَأَنَّ فُلانَةً أَحْرَقَتْ نَفْسَهَا، وَآخَرُ طَعَنَ نَفْسَهُ؛ حَتَّى مَات، فَمَاتَ هَؤُلاءِ، وَلَيْتَ الأَمْرَ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ وَكَفَى؛ وإنما يَظَلُّونَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ -أَبَدَ الآبِدِينَ- خُلُودًا بِلاَ مَوْتٍ، فَالحُزْنُ المنْهِي عَنْهُ هُوَ الحُزْنُ المفْضِي إِلَى الهَلاَكِ، أَمَّا الحُزْنُ المعْتَدِلُ فَلَيْسَ مُحَرَّمًا.
لاَ تَقْتُلْ نَفْسَكَ!
__________
(1) صحيح): أحمد 15909، أبو داود 3115،صحيح الجامع 5768.(1/111)
وَالنَّبِيُّ مُحَمَّدٌSأَخْبَرَنَا عَنْ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ؛ لِيَمُوتَ، فَمَثْوَاهُ جَهَنَّمُ، فَقَالَS (1): «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». وَهَذَا حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ جُنْدَب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ(2): قَالَ رَسُولُ اللَّهِS: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا؛ فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ أنَّ بَعْضَ فُقَهَاءِ المُسْلِمِينَ قَالُوا: إنَّ هَذَا المُنْتَحِرَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ لاَ يُغَسَّلُ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ؛ لأَنَّهُ مَاتَ يَائِسًا قَانِطًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر56]
هَذَا أَمْرٌ جَلَلٌ؛ فَاحْذَرْهُ
__________
(1) صحيح): البخارى 5778، مسلم 109، أبو داود 3872.
(2) صحيح): البخارى 3463، مسلم 113، أحمد18323.(1/112)
إذًا..الأَمْرُ جَلَلٌ وَخَطِيرٌ، وَأَذْكُرُ هُنَا أَنَّ هَذَا الأَمْرَ مُنْتَشِرٌ بِكَثْرَةٍ فِي غَيْرِ المسْلِمِينَ وَالحَمْدُ للهِ؛ فَفِي السُّوَيْد مَثَلاً -وَالسُّوَيْدِيُّ صَاحِبُ أَعْلَى دَخْلِ فَرْدٍ فِي العَالَمِ- وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ أَصْحَابُ أَعْلَى نِسْبَةِ انْتِحَارٍ؛ إِنَّهَا مُفَارَقَةٌ عَجِيبَةٌ؛ لأَنَّهُم اهْتَمُّوا بِتَغْذِيَةِ الجَسَدِ الفَانِي وَمَلَذَّاتِهِ وَشَهوَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الرُّوحِ، وَلَوْ اهْتَمّوا بِتَغْذِيَةِ الرُّوحِ التَّغْذِيَةَ اللازِمَةَ لَهَا لَحَدَثَ التَّوَازِنُ المطْلُوبُ؛ لاسْتِمْرَارِ الحَيَاةِ السّلِيمَةِ.. نَسَأَلُ اللهَ أَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِحُسْنِ خِتَامٍ، وَأَنْ يَتَوَفَّانَا وَهُوَ رَاضٍ عَنَّا..
نِعْمَ العَبْدُ؛ إِنَّهُ أَوَّابٌ(1/113)
اسْمَعْ إِلَى سَيِّدِنَا أَيُّوبَ ( الَّذِي مَرِضَ مَا يَقْرَبُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء83] فَيَقُولُ اللهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} [الأنبياء84] وَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّ اللهِ أَيُّوبُ(: (رَبِّ أَنِّي أَهْلَكَنِيَ الضُّرُّ) إِنَّهُ أَدَبُ الأَنْبِيَاءِ مَعَ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، أَمَّا قَوْلُ أَيُّوبَ (: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أَيْ: إِنْ كَانَتْ رَحْمَتُكَ فِي بَلاَئِي وَعَدَمِ شِفَائِي فَهَذَا أَمْرُكَ؛ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُكَ فِي شِفَائِي وَمَعَافَاتِي فَهَذَا أَمْرُكَ؛ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ بِرَحْمَتِكَ وَلَمْ يَقُلْ: زِدْ فِي بَلاَئِي أَوِ اشْفِنِي؛ فَاخْتَرْ لِي، فَاخْتِيَارُكَ رَحْمَةٌ مِنْكَ إِلَيَّ! وَهَذَا ثَنَاءٌ جَمِيلٌ مِنْ نَبِيِّ اللهِ أَيُّوبَ لِرَبِّهِ فَشَفَاهُ اللهُ؛ فَهَذَا جَزَاءُ الصَّابِرِينَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص44] فَجَعَلَ اللهُ شِفَاءَهُ فِي حِفْنَةِ مَاءٍ، فَقَالَ اللهُ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص42] لَقَدْ شَفَى اللهُ أَيُّوبَ ( بِحِفْنَةِ مَاءٍ بَعْدَ هَذَا الصِّرَاعِ الشَّدِيدِ مَعَ المَرَض؛ حَيْثُ شَرِبَ -كَمَا أَمَرَهُ اللهُ- المَاءَ فَطَهَّرَ اللهُ مَا بِدَاخِلِهِ مِنَ الدَّاءِ، وَاغْتَسَلَ فَأَذْهَبَ اللهُ مَا بِهِ مِنَ البَلاَءِ، فَسِرْ عَلَى دَرْبِ الأَتْقِيَاءِ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِS يَتَذَكَّرُ نَبِيَّ اللهِ مُوسَى( وَيُثْنِي عَلَى صَبْرِهِ فيَقُولُS(1): «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى؛ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ
__________
(1) صحيح): البخارى 6291، مسلم 1062، أحمد 3597.(1/114)
مُصِيبَةٍ تُصِيبُكَ تَكُونُ لَكَ لا عَلَيْكَ، قَالَ اللهُ: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة51] فَأَنْتَ –بِصَبْرِكَ- وَقْتَ المُصِيبَةِ- تُحَوِّلُهُا إِلَى حَسَنَاتٍ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَرَسُولُ اللهِS يَقُولُ(1): «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ».
إِذَا أَصَابَتْكَ نَكْبَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا
وَارْعَ الأَمَانَةَ وَالخِيَانَةَ فَاجْتَنِبْ
وَلَقَدْ نَصَحْتُكَ إِنْ قَبِلْتَ نَصِيْحَتِي ... مَنْ ذَا رَأَيْتَ مُسْلِمًا لا يُنْكَبُ
َاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطِبْ لَكَ مَكْسَبُ
وَالنُّصْحُ أَغْلَى مَا يُبَاعُ وَيُوْهَبُ
أَيُّهَا المُبْتَلَى انْتَبِهْ..ولا تَتَمَنَّ المَوْتَ
مَا أَكْثَرَ الأَزمَاتِ هَذِهِ الأَيَّامَ!
أَحْيَانًا يَشْتَدُّ المَرَضُ بِأَحَدِنَا أَوْ أَزْمَةٌ مِنَ الأَزْمَاتِ، وَمَا أَكْثَرَ الأَزْمَاتِ هَذِهِ الأَيَّامَ! مِمَّا يَجْعَلُ الإِنْسَانَ يَتَمَنَّى المَوْتَ، فَلا تَسْتَسْلمْ -أَخِي الحَبِيبَ- حَتَّى لا تَقَعَ فَرِيسَةً لِلشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ، وَاتْرُكْ أَمْرَكَ كُلَّهُ للهِ.
سَهِرَتْ عُيُونٌ وَنَامَتْ عُيُونٌ
فَادْرِأ الهَمَّ مَا اسْتَطَعْتَ عَنِ
إِنَّ رَبًّا كَفَاكَ بِالأَمْسِ مَا كَانَ ... فِي أُمُورٍ تَكُونُ أَوْ لا تَكُونُ
النَّفْسِ فَحُمْلانُكَ الهُمُومَ جُنُونُ
سَيَكْفِيكَ فِي غَدٍ مَا يَكُونُ
__________
(1) صحيح): أحمد 71، البخارى 5645، مالك 1752.(1/115)
وَقَدْ نَهَانَا رَبُّنَا -أَيُّهَا المُبْتَلَى- عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِنَا فَقَالَ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء29] فَاللهُ هُوَ وَاهِبُ الحَيَاةِ وَهُوَ يَسْلُبُ الحَيَاةَ؛ فَهُوَ المحْي الممِيتُ، وَهُوَ أَوَّلُ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الإِنْسَانِ؛ فَلاَ يُبَاحُ لأَحَدٍ أَنْ يَنْتَهِكَ هَذَا الحَقَّ أَوْ يَسْتَبِيحَ حِمَاهُ، أَمَّا أَنْ يُصَابَ المَرْءُ أَوَّلَ إِصَابَةٍ فَيُصِيبُهُ اليَأْسُ، وَيَتَمَنَّى الموْتَ، وَيَقُولُ بِمِلْءِ فِيهِ: يَارَبِّ..أَرِحْنِي، فَهَذَا القَوْلُ عَلامَةٌ مِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ فَاحْذَرْهُ، قَالَ النَّبِيُّ S(1): «لا تَقُومُ السَّاعَةُ؛ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانُهُ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ البَلاءِ» بَلْ إِنَّ نَبِيَّنَاS نَهَانَا عَنْ أَنْ يَتَمَنَّى أَحَدُنَا المَوْتَ؛ فَعَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ(2): «أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدْ اكْتَوَى سَبْعًا قَالَ: لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» وَفِي حَدِيثٍ خَطِيرٍ مِنَ البَشِيرِ النَّذِيرِ قَالَ (3): «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي(4)، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» حِينَئِذٍ يَخْتَارُ اللهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، إِمَّا
__________
(1) صحيح): البخارى 7115، مسلم 157، أبو داود 4255.
(2) صحيح): البخارى 6349، مسلم 2681، أحمد 20555.
(3) صحيح): البخارى 5671، مسلم 2680، أبو داود 3108.
(4) الضر: من مرض أو فاقة أو محنة، عبر في الحياة بقوله (ما كانت) لأنها حاصلة، ولما كانت الوفاة غير حاصلة الآن حسُنَ أن يأتي بصيغة الشرط.(1/116)
الحَيَاةَ وَإِمَّا الوَفَاة، نَعَمْ.. يَخْتَارُ لَكَ مَا يَنْفَعُكَ وَيُصْلِحُ شَأْنَكَ؛ أَمَّا أَنْ يَأْمُرَكَ الشَّيْطَانُ بِقَتْلِ نَفْسِكَ فَتَأْتَمِر وَتَفْعَل، وَأَمَرَكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَفْعَلْ فَتَفْعَل؛ إِنَّهَا لَمُصِيبَةٌ..
الحَيَاةُ كُلُّهَا أَقْدَارٌ
اعْلَمْ أَنَّ الحَيَاةَ كُلَّهَا أَقْدَارٌ؛ فَإِيمَانُ المسْلِمِ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ الإِيمَانِ.
عَنْ ذِي اللِّحْيَةِ الْكِلابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَعْمَلُ فِي أَمْرٍ مُسْتَأْنَفٍ أَوْ أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟! قَالَ(1):«لاَ.. بَلْ فِي أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، قَالَ: فَفِيمَ نَعْمَلُ إِذًا! قَالَ: اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» فَمَا أَبْلَغَ إِجَابَةَ النَّبِيِّ! وَمَا أَعْظَمَهَا! إِنَّهُمَا كَلِمَاتٌ مَعْدُودَةٌ لاَ تَتَعَدَّى أَصَابِعَ اليَدِ الوَاحِدَةِ: فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.. إِجَابَةٌ دَقِيقَةٌ وَبَلِيغَةٌ أَصَابَ بِهَا رَسُولُ اللهِ، فَعِنْدَمَا قَرَأْتُ الحَدِيثَ تَشَوَّقْتُ لِنهَايَتِهِ فَكَانَتْ مِسْكَ الخِتَامِ وَالقَوْلِ؛ إِنَّهُ قَوْلٌ لاَ يَقُولُهُ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَيْ: أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِأَقْدَارِكُم المكْتُوبَةِ لَكُم عِنْدَ رَبِّكُم؛ لاَ تَحِيدُونَ عَنْهَا، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالٍ غَيْرِ مَكْتُوبَةٍ لَكُم، فَكُلُّ شَخْصٍ مِنَّا مَخْلُوقٌ وَمَخْلُوقٌ مَعَهُ عَمَلُهُ، فَقَدَرُكَ مَكْتُوبٌ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةً كَمَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات96] عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ Sفَقَالَ(2)
__________
(1) صحيح) أحمد 16194، صحيح الجامع 1074.
(2) صحيح) البخاري 4947، مسلم 2647.(1/117)
:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نَتَّكِلُ؟! قَالَ: لا؛ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل 5-10]» وَمَعْنَى سَنُيَسِّرُهُ: نُهَيِّئُهُ، وَمَعْنَى كُلٌّ مُيَسَّرٌ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ وَيُيَسَّرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ وَيُيَسَّرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ Sقَالَ(1):«وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟! أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟! فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».
إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ بَعَثَ اللهُ مَلَكًا فَقَالَ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَة أَوْ غَيْر مُخَلَّقَة؟ فَإِنْ قَالَ غَيْر مُخَلَّقَة أَيْ: لِلاسْتِمْتَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الحَلاَلِ الطَّيّبِ مَجَّهَا الرَّحِمُ, وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَة قَالَ: يَا رَبِّ فَمَا صِفَةُ هَذِهِ النُّطْفَةِ؟ وَهَكَذَا فِي بَاقِي الحَدِيثِ؛ فَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوبٌ قَبْلَ مَوْلِدِكَ.
__________
(1) صحيح) البخاري 6595، مسلم 2646.(1/118)
وَأَنْتَ مُبْتَلًى فِي الشَّرِّ وَالخَيْرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء35] فَالابْتِلاَءُ بِالنَّعِيمِ رُبَمَا يُطْغِي الإِنْسَانَ، فَيَكُونُ هَذَا الخَيْرُ شَرًّا، وَالابْتِلاَءُ بِالشَّرِّ رُبَمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي عَوْدَتِهِ إِلَى رَبِّهِ وَالْتِزَامِ الطَّرِيقِ مِنْ جَدِيدٍ، فَيَكُونُ هَذَا الشَّرُّ خَيْرًا، فَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ وَاللهُ يَعْلَمُ! وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِيمَانِ القَاطِعِ بِذَلِكَ؛ فَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ(1): أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي، قَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ؛ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ S مِثْلَ ذَلِكَ، وَادْعُ اللهَ أَنْ يَجَعَلَكَ مِنَ الرَّاضِينَ بِقَضَائِهِ كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ زَيْدًا..
__________
(1) صحيح): أحمد 21079، أبو داود 4699، صحيح الجامع 5244.(1/119)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S عَلَّمَهُ دُعَاءً وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ(1): «قُلْ كُلَّ يَوْمٍ حِينَ تُصْبِحُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، إِنَّكَ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ؛ أَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ ذَنْبًا لا يُغْفَرُ، اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ؛ لا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ،
__________
(1) صحيح): أحمد 21158، صحيح الجامع 427.(1/120)
وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا؛ وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ..»
وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْدَارَ اللهِ كُلَّهَا خَيْرٌ، وَلَكِنْ نَحْنُ بِفَهْمِنَا القَاصِرِ نَرَاهَا شَرًّا؛ وَرُبَّمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتَهُ -أَنْتَ- شَرًّا هُوَ خَيْرٌ عَظِيمٌ بِكَ؛ لِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران26] فَقَدْ نَرَى الخَيْرَ فِي أَمْرٍ وَكُلُّهُ شَرٌّ وَالعَكْسُ، فَانْظُرْ إِلَى أَفْعَالِ اللهِ بِالعِبَادِ (تُؤْتِي وَتَنْزِعُ وَتُعِزُّ وَتُذِلُّ) كُلُّهَا خَيْرٌ؛ لِذَا خُتِمَتِ الآيَةُ بِقَوْلِ اللهِ: بِيَدِكَ الخَيْرُ، فَاللهُ لاَ يَقْدِرُ إِلاَّ الخَيْرَ لِعِبَادِهِ مُطْلَقًا، فَاللهُ مِنْ أَسْمَائِهِ اللطِيفِ؛ فَهُوَ لَطِيفٌ فِي أَقْدَارِهِ(1)، انْظُرْ إِلَى نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ ابْتِلاَءٍ إِلَى آخَرَ وَمَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ يَقُولُ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف100]
الشَّرُّ لاَ يُنْسَبُ للَّهِ
__________
(1) راجع باب (كيف يواجه المؤمن الابتلاء) ستجد فيه إفادة؛ تريح قلبك.(1/121)
فَالشَّرُّ لاَ يُنْسَبُ للهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ (1): «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ(2)، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ؛ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» لِذَا قَالَتِ الجِنُّ كَمَا قَالَ رَبُّنَا فِي سُورَةِ الجِنِّ: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن10] فَلَمْ يَقُولُوا: أَشَرٌّ أَرَادَ الله؛ فَتَدَبَّرُْه -يَرْحَمُكَ اللهُ- فَإِنَّهُ دَقِيقٌ، وَهَا هُوَ أَبُو الأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَنْسُبُ المرَضَ لِنَفْسِهِ لاَ لِرَبِّهِ تَأَدُّبًا فَقَالَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء80] وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَمَا نَسَبَ العَيْبَ لِنَفْسِهِ لاَ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَأَدُّبًا مَعَ رَبِّهِ الكَرِيمِ رَغْمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنَ اللهِ بِذَلِكَ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف79] وَنَسَبَ الخَضِرُ الخَيْرَ وَالفَضْلَ للهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف82] ثُمَّ تَجِدُهُ فِي
__________
(1) صحيح): مسلم 771 أبو داود 760.
(2) معنى ذلك: أن أفعال الله كلها خير محض من حيث اتصافه بِهَا؛ وصدورها عنه ليس فيها شر قط؛ فإنه تعالى حكيم عدل، وجميع أفعاله متصفة بالحكمة والعدل؛ يضع الأشياء في مواضعها اللائقة، فالله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.(1/122)
الأَمْرَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُمَا أَمَرَا اللهِ لَهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف82] فَعَلَيْنَا أَنْ نَخْتَارَ وَنَنْتَقِيَ أَلْفَاظَنَا انْتِقَاءً مَعَ رَبِّنَا؛ كُنْتُ أَسِيرُ ذَاتَ مَرَّةٍ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ مَدِينَتِي بلْقَاس - دَقَهْلِيَّة .. فَرَأَيْتُ امْرَأَةً؛ تَخْلَعُ غِطَاءَهَا عَنْ رَأْسِهَا وَتَقُولُ: رَبُّنَا يَظْلِمُهُ كَمَا ظَلَمَنِي(1)، فَهَزَّنِي هَذَا القَوْلُ مِنْ جُذُورِي، طَبْعًا هِيَ تَقْصُدُ أَنْ يَنْتَقِمَ اللهُ مِنْهُ جَرَّاءَ فِعْلِهِ مَعَهَا؛ فَهَلْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ تَلِيقُ بِرَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟! لَوْ قِيلَ لَكَ: إِنَّكَ سَتُقَابِلُ رَئِيسًا لأَصَابَتْكَ الحَيْرَةُ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! وَأَخَذْتَ وَقْتًا لَيْسَ بِاليَسِيرِ فِي إِعْدَادِ أَلْفَاظِكَ.. مَاذَا سَتَقُولُ لَهُ؟! وَمَاذَا سَيَكُونُ رَدُّ فِعْلِهِ عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ أَوْ تِلْكَ فَمَا بَالُكَ بِرَبِّ العَالَمِينَ؟!
__________
(1) كان أحرى بهذه المرأة أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، أو فوضت فيه الأمر لله، فربك ليس بظلام للعبيد؛ فالله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.(1/123)
وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمُورَ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا.. فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَدَّبَ بِأَدِبِ الأَنْبِيَاءِ مَعَ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة216] فَلَيْسَ الإِعْطَاءُ دَلِيلَ الإِكْرَامِ، وَلَيْسَ المنْعُ دَلِيلَ الإِهَانَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر15-17] فَأَنْتُمْ وَهَبَكُمُ اللهُ مِنْ خَيْرِهِ الكَثِيرَ وَمَعَ ذَلِكَ بَخِلْتُمْ بِدَلِيلِ (كَلاَّ) فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الإِعْطَاءِ وَالبُخْلِ! فَلاَ تَقُلُ: إِنَّ اللهَ وَهَبَنِي المَالَ وَالوَلَدَ؛ لأَنَّهُ يُحِبُّنِي فَهَذَا قَوْلُ الكَافِرِينَ: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف34] وَيظن أَنَّهُمَا يُقَرِّبَانِهِ إِلَى اللهِ زُلْفَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ 37] فَلَنْ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ إِلاَّ عَمَلُكَ الصَّالِحُ.
اللَّهُ -وَحْدَهُ- يَعْلَمُ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ(1/124)
فَاللهُ -وَحْدَهُ- يَعْلَمُ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ.. فاسْتَعِنْ -دَائِمًا- بِاللهِ وَلاَ تَعْجزْ وَكُنْ مِنَ الصَّابِرِينَ، قَالَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة153] لِمَنْ هَذَا النِّدَاءُ وَالأَمْرُ بِاللهِ عَلَيْكَ؟! لَكَ -أَيُّهَا المؤْمِنُ الصَّابِرُ- وَتَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ بَعْدَهُمَا: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} لِتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ.. وَيَكْفِيكَ -أَيُّهَا المبْتَلَى- أَنَّكَ حَبِيبُ مَوْلاَكَ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ النَّبِيُّS(1): «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» وَلَمْ يَقُلْ: فَمَنْ صَبَرَ؛ وَإِنَّمَا: فَمَنْ رَضِيَ؛ لأَنَّهُ مَنْ رَضِيَ فَقَدْ حَسُنَ صَبْرُهُ قَبْلَهُ، فَهُوَ رَاضٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَأُبَشِّرُكَ بِآيَاتٍ كَرِيمَةٍ اخْتَرْتُهَا لَكَ؛ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرُك؛ لِمَا فِيهِا مِنَ الِبشَارَةِ العَظِيمَةِ لَكَ.
__________
(1) صحيح): أبو داود 4456، صحيح الجامع 2110.(1/125)
فَالدَّاخِلُونَ إِلَى الجَنَّةِ وَأَعْلَى المَرَاتِبِ فِيهَا (الغُرْفَة) مِنَ الصَّابِرِينَ -اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ هَؤُلاءِ- قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت35] وَكَذَا قَوْلهُ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان75] وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد24] وَاقْرَأ -مَا شِئْتَ- قَوْلَ رَبِّكَ: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان12] وَمَا أَجْمَلَ هَذِهِ الآيَةَ فِي ثَوَابِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ! {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ} [المؤمنون111] فَأَصْحَابُ الجَنَّةِ فِي الآخِرَةِ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ صَبْرًا، قَالَ اللهُ: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة155]
بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلمُبْتَلَيْنِ وَخَاصَّةً المَرْضَى(1/126)
وَقَبْلَ الدُّخُولِ إِلَى هَذَا المبْحَثِ أُعْلِمُكَ بِأَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لِيَسْتَأْنِسَ قَلْبُكَ بِهِ وَيَطْمَئِنَّ؛ فَمَا بَالُكَ بِأَعْظَمِهِمْ؟! فَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ Sقَالَ(1): «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟! قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟! فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ؛ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً، قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» انْظُرْ بِقَلْبِكَ ثَانِيَةً فِي الحَدِيثِ المذْكُورِ؛ لِتَعْلَمَ هَذَا الجَزَاءَ الحَسَنَ؛ لِذَا عِشْ فِي الدّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؛ وَرُوحُكَ تَهْفُو إِلَى الجَنَّةِ دَائِمًا؛ قَالَ النَّبِيُّ (2): «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» قَالَ ابنُ حَجَرٍ(3): (أَوْ) فِي الحَدِيثِ المذْكُورِ بِمَعْنَى: بَلْ، أَيْ: عَابِر سَبِيلٍ، نَعَمْ...فَرُبَّمَا يُمَكَّنُ لِلغَرِيبِ فِي
__________
(1) صحيح): مسلم 189، الترمذى 3198.
(2) صحيح): أحمد 4750، البخاري 6416، الترمذى 2333.
(3) الفتح: 11/238.(1/127)
غُرْبَتِهِ، أَمَّا عَابِرُ السَّبِيلِ فَلاَ يُمَكَّنُ لَهُ، فَهُوَ يَمُرُّ عَلَيْكَ؛ إِمَّا أَنْ يُؤْذِيكَ بِالسَّبَابِ وَاللَّعَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُحَيِّيَكَ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، وَأَنْتَ كَذَلِكَ فِي الدُّنيَا؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْسِنًا؛ وَإمَّا أَنْ تَكُونَ مُسِيئًا، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكِ -أَيُّهَا الحَبِيبُ- وَقَدِّمْ لِنَفْسِكَ الخَيْرَ فِي شَبَابِكَ؛ حَتَّى تُؤْجَرَ فِي شَيْبَتِكَ وَهِرَمِكَ، وَأَسُوقُ إِلَيْكَ بِشَارَةً؛ وَهَذِهِ البِشَارَةُ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْكَ؛ حَتَّى أُطَمْئِنَكَ -أَيُّهَا المُوَحِّدُ- أَنَّهُ قَالَ: {إلا الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [ التين6] وَمَعْنَى الآيَةِ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَالمؤْمِنُ لاَ يَهْرَمُ أَبَدًا؛ فَثَوَابُهُ مُتَجَدِّدٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِS(1): «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» فَلَوْ كُنْتُ ثَرِيًّا وَكُنْتُ تُنْفِقُ مَالَكَ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أَصَابَكَ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ أَيُّ أَزْمَةٍ لِسَبَبٍ أَوْ لآخَرَ، وَتَتُوقُ نَفْسَكَ لِلإِنْفَاقِ، وَلا تَجِدُ مَا تُنْفِقُهُ فَأَبْشِرْ، فَإِنَّ اللهَ يُعْطِيكَ نَفْسَ الثَّوَابِ وَنَفْسَ الأَجْرِ بِنَفْس نِيَّتِكَ، مِثْلَمَا كُنْتَ تُنْفِقُ وَأَنْتَ ثَرِيٌّ، مِثْلَمَا كُنْتَ تُنْفِقُ وَأَنْتَ ثَرِيٌّ، أَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ أَيْضًا(2): «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ» إِنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ بِنِيَّاتِهِم وَلَهُمْ أُجُورٌ مِثْلُ
__________
(1) صحيح): البخاري 2996، أبو داود 3091.
(2) صحيح): البخاري 4423، ابن ماجة 2764.(1/128)
أُجُورِ الَّذِينَ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ(1): «وَيْحَكَ! إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ؛ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا؟! قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا» وَمَعْنَى الحَدِيثِ: إِنَّ القِيَامَ بِحَقِّ الهجْرَةِ شَدِيدٌ، وَالنَّبِيُّ رَأَى حَالَ الرَّجُلِ لاَ تَحْتَمِلُ الهجْرَةَ وَالمشَقّةَ وَتَرْكَ الأَهْلِ، وَلَكِنِ اعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا كُنْتَ تُؤَدِّي حَقَّ اللهِ وَمَا فَرَضَهُ عَلَيْكَ فِي نَفْسِكَ وَمَالِكَ فَلاَ تُبَالِ أَنْ تُقِيمَ فِي بَيْتِكَ، أَوَ كُنْتَ فِي أَبْعَدِ مَكَانٍ؛ أَوْ كُنْتَ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا؛ فَلَنْ يُنْقِصَكَ حَقَّكَ وَأَجْرَكَ فِيمَا عَمِلْتَ، فَاغْتَنِمْ شَبَابَكَ حَتَّى تُؤْجَرَ فِي هِرَمِكَ، فَالمؤْمِنُ لاَ يَهْرَمُ أَبَدًا؛ فَثَوَابُهُ مُتَجَدِّدٌ، فَمَا بَالُكَ لَوْ كَانَ أَحَدُنَا ضَائِعًا -فِي شَبَابِهِ- فَاسِدًا؟! فَهَلْ سَتُؤْجَرُ أَمْ سَتَكُونُ مِنَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا مَعَ أَوْزَارِهِم؟! فَانْتَبِهْ جَيِّدًا قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ شَبَابِكَ؛ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ صِحَّتِكَ؛ بَلْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ حَيَاتِكَ كُلِّهَا، فَالموْتُ قَادِمٌ وَلَنْ تُفْلِتَ مِنْهُ؛ فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرُ المسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، هَذَا هُوَ حَالُ المؤْمِنِ فِي الدّنيَا، فَأَنْتَ مُنْذُ وِلادِتِكَ وَأَنْتَ عَابِرُ سَبِيلٍ؛ فِي لَحْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَتَصِلُ إِلَى اللهِ، وَرُبَّمَا تَصِلُ -الآنَ- فَجْأَةً دُونَ أَنْ يَأْتِيَكَ نَذِيرٌ،
__________
(1) صحيح): البخاري 1452، مسلم 1865.(1/129)
أي: يَأْتِيكَ الموْتُ بَغْتَةً, فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَمْنَعَهُ؟! فَمَا أَكْثَرَ مَوْتَ الفُجَاءَةِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ!.
أَيُّهَا المُبْتَلَى: إِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الصلاة
أَنْصَحُكَ -أَيُّهَا المُبْتَلَى- وَأَنْصَحُ نَفْسِي بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِي الصَّلاةِ مَهْمَا كَانَ الأَمْرُ، فَأَثْنَاءَ زِيَارَتِي لأَحَدِ المَرْضَى الأَقَارِبِ سَأَلْتُ أَخَاهُ: هَلْ يُصَلِّي؟ فَقَالَ بِصَرَاحَةٍ: لاَ، فَسَأَلْتُ عَنِ السَّبَبِ، فَقَالَ: لأَنَّ حَالَتَهُ النَّفْسِيَّةَ سَيِّئَةٌ لِلْغَايَةِ، فَقُلْتُ لأَخِيهِ: أَلاَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الآنَ يَمُوتُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ؟! ألاَ يَعْلَمُ هَذَا الرَّجُلُ أَنَّ الصَّلاةَ تُفَرِّجُ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ؟! فَقَدْ كَانَ رَسُولُ الله S إِذَا حَزبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلاةِ، بَلْ كَانَ يَقُولُSلِبِلالٍ (1)َ: «يَا بِلالُ أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا» فَالصَّلاةُ عِمَادُ الدِّينِ، وَلَنْ يَقُومَ دِينٌ بِلاَ عِمَادٍ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! بَلَى..فَمَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ هَدَمَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ، وَعَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَطَ بَيْنَ القُرْآنِ وَالصَّلاةِ، فَقَالَ: {اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت45] فَاقْرَأ القُرْآنَ وَلاَ تَغْفُلْ عَنْهُ، وَصَلِّ؛ فَالصَّلاةُ صِلَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّ الأَنَامِ، وَللأَسَفِ مَا أَكْثَرَ تَارِكِي الصَّلاَةِ اليَوْمَ مِنَ المَرْضَى!وَعَلَيْنَا أَنْ نُذَكِّرَ هَذَا المَرِيضَ بِخَطَئِهِ العَظِيمِ، فَالصَّلاةُ عَمُودُ الإِسْلامِ، فَالرَّجُلُ المُصَلِّي الصَّابِرُ فِي مَعِيَّةِ اللهِ-كَمَا أَسْلَفْنَا القَوْلَ-قَالَ اللهُ تَعَالَى:
__________
(1) صحيح): أبو داود 4985، صحيح الجامع 7892.(1/130)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا َاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة153] وَوَاجِبُنَا نَحْوَهُ وُجُوبُ مُنَاصَحَتِهِ وَدَعْوَتُهُ الدَّائِمَةُ إِلَى الحَقِّ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَيَجِبُ تَرْكُهُ وَهَجْرُهُ وَعَدَمُ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ؛ حَتَّى يَتُوبَ إِلَى مَوْلاَهُ؛ فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.
وَأُبَشِّرُكَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّS(1): «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» وَلَكِنْ انْظُرْ مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّS: مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ، وَهَلْ يُتَخَيَّلُ أَنَّ هُنَاكَ مُؤْمِنًا لاَ يُصَلِّي للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ؟! إِنَّ اللهَ يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَكَ؛ حَتَّى تَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْكَ خَطِيْئَةٌ، فَهَلْ أَنْتَ عَلَى الدَّرْبِ سَائِرٌ إِلَى رَبِّكَ.. مُلْتَزِمٌ بِسُنَّةِ نَبِيِّكَ؟!.
أَيُّهَا الأَصِحَّاءِ...إِخْوَانُكُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْكُمْ
__________
(1) صحيح): البخارى 5642، مسلم 2573، الترمذى 966.(1/131)
وَأهِيبُ بِإِخْوَانِنَا أَنْ يَحْرِصُوا عَلَى زِيَارَةِ إِخْوَانِهِمُ المَرْضَى قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِم، فَسَيَجِدُونَ عِنْدَهُمْ رَبَّ العَالَمِينَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ؛ حَتَّى لاَ يُعَاتِبَهُمْ رَبُّهُمْ، كَمَا وَرَدَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الطَّوِيلِ وَشَاهِدُنَا فِيهِ قَوْلُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(1): «يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟! يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟!» انْظُرْ إِلَى مَعِيَّةِ اللهِ عِنْدَ المرِيضِ؛ فَالمَرِيضُ مُنْكَسِرٌ، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَجْبُرَ انْكِسَارَهُ بِهَذِهِ المعِيَّةِ بِلاَ تَمْثِيلٍ أَوْ تَشْبِيهٍ أَوْ تَعْطِيلٍ، بَلْ لَكَ أَيْضًا فَضْلٌ عَظِيمٌ آخَرُ حَيْثُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ S يَقُولُ(2): «إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مَشَى فِي خِرَافَةِ الْجَنَّةِ(3)؛
__________
(1) صحيح): أحمد 8989، مسلم 2569.
(2) صحيح): أحمد 613، البخارى 5615، الترمذى 969.
(3) خرافة أو خريف: ثمار عظيمة من ثمار الجنة يخرفها ويجتنيها ويأكلها.(1/132)
حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ؛ وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ». وَعَنْ ثَوْبَانَ امَوْلَى رَسُولِ اللهِSأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ(1): «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ،قَالَ: جَنَاهَا» (2) وَانْظُرْ إِلَى ثَوَابٍ عَظِيمٍ آخَرَ، قَالَ رَسُولُ اللهِS (3): «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً» فَاحْرِصْ عَلَى زِيَارَةِ إِخْوَانِكَ فِي اللهِ، وَذَكِّرْهُم بِثَوَابِ اللهِ وَفَضْلِ إِقَامَةِ الصَّلاةِ تَفُزْ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ- وَتُبْعَثْ آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِSقال(4): «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ....وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ» فَمَا بَالُكَ بِمَنْ صَلَّى فِي المَسَاجِدِ وَحَافَظَ عَلَى ذَلِكَ؟! فَاصْبِرْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ يُفَرِّجْ هَمّكَ وَيَجْعَلْ لَكَ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرًا.
يَا صَاحِبَ الهَمِّ إِنَّ الهَمَّ مُنْفَرِجٌ
اليَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ
اللهُ يُحْدِثُُُ بَعْدَ العُسْرِ مَيْسَرَةً
__________
(1) صحيح): أحمد 21868، مسلم 2568، الترمذى 967.
(2) الخرفة: ما يُخترف من النخل حين يُدرك، أفاده صاحب النهاية.
(3) صحيح): أحمد 8331، الترمذى 2008، صحيح الجامع 6387.
(4) صحيح): البخارى 660، مسلم 1031، النسائى 5380.(1/133)
إِذَا بُلِيْتَ فَثِقْ بِاللهِ وَارْضَ بِهِ ... أَبْشِرْ بِقُرْبٍ فَإِنَّ الفَارِجَ اللهُ
لا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الكَافِيَ اللهُ
لا تَجْزَعَنَّ فَإِنَّ القَادِرَ اللهُ
إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ البَلْوَى هُوَ اللهُ
فَتْاوَى مُهِمَّةٌ لأَصْحَابِ الابْتَلاءَاتِ (1)
وَأَخْتِمُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ بِهَذِهِ الفَتْاوَى لِلشَّيْخِ الجَلِيلِ ابنِ عُثَيْمِينَ / وَهِيَ عَنْ عُقُوبَةِ تَارِكِ الصَّلاةِ؛ لِتَعْلَمَ -أَخِي المُبْتَلَى- أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ هَيِّنًا كَمَا تَظُنُّ وَيَظُنُّ مَعَكَ الكَثِيرُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَبَعْدَهَا -إِنْ شَاءَ اللهُ-كَيْفَ يَتَطَهَّرُ المَرِيضُ وَيُصَلِّي؟ وَهَذِهِ الفَتْوَى -أَيْضًا- لِلشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ/- وَلَكِنْ لِلأَمَانَةِ العِلْمِيَّةِ أَوْجَزْتُهَا قَدْرَ اسْتِطَاعَتِي ؛حَتَّى لاَ أَشُقَّ عَلَى إِخْوَانِنَا أَصْحَابِ الأَعْذَارِ المُخْتَلِفَةِ؛ وَلَكِنْ مَا أَخَذْتُهُ مِنْ فَتْوَى شَيْخِنَا الفَقِيهِ يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُم بِإِذْنِ اللهِ.. ثُمَّ يَلِي هَذَا الأَمْرَ أَمْرُ كَيْفِيَّةِ التَطَّهُّرِ؛ اسْتِعْدَادًا لِلصَّلاةِ وَكَيْفِيَّةِ صَلاةِ المَرِيضِ.
مَا حُكْمُ تَارِكِي الصَّلاةِ؟
__________
(1) هذه الفتاوى مستفادة من فتاوى الشيخ ابن عثيمين/.(1/134)
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: مَسْأَلَةُ تَرْكِ الصَّلاةِ مَسْألَةٌ فِيهَا خِلافٌ وَاضِحٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ بَيْنَ الجُحُودِ وَالتَّرْكِ وحُكْمِ الكُفْرِ وَعَدَمِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُ أَسَانِيدُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالَّذِي احْتَجَّ بِهَا، اخْتَرْتُ -مِنْ بَيْن أَقْوَالِهِم- قَوْلَ الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ / رغْمَ أَنَّهَا قَوِيَّةٌ وَمُخِيفَةٌ؛ وَذَلِكَ لِخُطُورَةِ الأَمْرِ فِي مَسْألَتَي تَرِكِ الصَّلاةِ وَالأَحْكَامِ المتَرَتِّبَةِ عَلَى تَرْكِهَا، وَلَقَدْ دَعَّمَ الشَّيْخُ قَوْلَهُ بِأَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ مِنَ القُرْآنِ وَالسُّنة.
وَإِلَى فَتْوَى الشَّيخِ فِي هَذَا الأَمْرِ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ.(1/135)
قَالَ الشَّيخُ: إِذَا كَانَ هَؤُلاءِ لاَ يُصَلُّونَ أَبَدًا فَإِنَّهُم كَافِرُونَ مُرْتَدَّونَ خَارِجُونَ عَنِ الإِسْلامِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْكَنَ مَعَهُم، وَلَكِنْ مِنْ حَقِّهِم عَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوهُم وَنُلِحَّ عَلَيْهِم وَنُكَرِّرَ؛ لَعَلَّ اللهَ يَهْدِيهِم؛ لأَنَّ تَارِكَ الصَّلاةِ كَافِرٌ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ- بِدَلِيلِ الكِتَابِ وَالسُّنةِ وَقَوْلِ الصّحَابَةِ، أَمَّا مِنَ القُرْآن قَوْلُ اللهِ تَعَالَى عَنِ المُشْرِكِينَ: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة11] مَفْهُومُ الآيَةِ الكَرِيْمَةِ وَاضِحٌ وَصَرِيحٌ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَلَيْسُوا إِخْوَانَنَا، وَلاَ تَنْتَفِي الأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ بِالَمعَاصِي وَإِنْ عَظُمَتْ، وَلَكِنْ تَنْتَفِي عِنْدَ الخُرُوجِ عَنِ الإِسْلامِ، أَمَّا مِنَ السُّنَّةِ: فَقَوْلُ النَّبِيِّS (1): «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ بريدَة(2): «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» أَمَّا أَقْوَالُ الصّحَابَةِ: قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِا: (لاَ حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ) وَالَحَظُّ: النَّصِيب، وَأَتَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الكَلامِ؛ لإِفَادَةِ العُمُومِ، أَيْ: لاَ نَصِيبَ قَلِيل وَلاَ كَثِير.
مَا الأَحْكَامُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ؟
الأَحْكَامُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
__________
(1) صحيح): مسلم 82، أبو داود 4678، الترمذى 2618.
(2) صحيح): الترمذى 2621، النسائى 463، ابن ماجة 1079.(1/136)
أَوَّلاً: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يُزَوَّجَ فَإِنْ عُقِدَ لَهُ وَهُوَ لاَ يُصَلِّي فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَلاَ تَحِلّ الزَّوْجَةُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ المُهَاجِرَاتِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة10]
ثَانِيًا : أَنَّهُ إِذِا تَرَكَ الصَّلاَةَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَ لَهُ فَإِنَّ نِكَاحَهُ يُفْسَخُ وَلاَ تَحِلّ الزَّوْجَةُ لِلآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَابِقًا عَلَى حَسبِ التَّفْصِيلِ المَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
ثَالِثًا: أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي لاَ يُصَلِّي إِذَا ذَبَحَ لاَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ؛ لأَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَوْ ذَبَحَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَهَا، فَيَكوُن ذَبْحُهُ أَخْبَثَ مِنْ ذَبْحِ أَهْلِ الكِتَابِ.
رَابِعًا: أَنَّهُ لاَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَوْ حُدُودَ حَرَمِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة 28](1/137)
خَامِسًا: أَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي المِيرَاثِ،فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ عَنِ ابْنٍ لَهُ لاَ يُصَلِّي (الرَّجُلُ مُسْلِمٌ وَالابْنُ لاَ يُصَلِّي) وَعَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ بَعِيدٍ، مَنِ الَّذِي يَرِثُهُ؟ ابنُ عَمِّهِ البَعِيدُ دُونَ ابْنِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّS فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ ا (1): «لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ، وَلا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» وَلِقَوْلِهِS (2): «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَهَذَا مِثَالٌ يَنْطَبِقُ عَلَى جَمِيعِ الوَرَثَةِ.
سَادِسًا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لاَ يُغَسَّلُ وَلاَ يُكَفَّنُ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ إِذًا مَاذا نَصْنَعُ بِهِ؟ نَخْرُجُ بِهِ إِلَى الصَّحَرَاءِ وَنَحْفُرُ لَهُ وَنَدْفِنُهُ بِثَيَابِهِ، لأَنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَحِلّ لأَحَدٍ مَاتَ عِنْدَهُ مَيِّتٌ -وَهُوَ يَعْلَمُ- أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي أَنْ يُقَدِّمَهُ لِلمُصَلِّينَ المُسْلِمِينَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ.
سَابِعًا: أَنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبِيِّ بنِ خَلَف أَئِمَّةِ الكُفْرِ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ- وَلاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وَلاَ يَحِلّ لأَحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ لأَنَّهُ كَافِرٌ لاَ يَسْتَحِقُّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة 113] انْتَهَتْ الفَتْوَى.
__________
(1) صحيح): البخارى 4283، مسلم 1614، أبو داود 2909.
(2) صحيح): البخارى 6732، مسلم 1615، أبو داود 2898.(1/138)
كَيْفَ يَتَطَهَّرُ المَرِيضُ ؛ اسْتِعْدَادًا لِلصَّلاَةِ(1)؟
يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ أَنْ يَتَطَّهَرُ بِالمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ مِنَ الحَدَثِ الأَصْغَرِ، وَيَغْتِسَلَ مِنَ الحَدَثِ الأَكْبَرِ فَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ الطَّهَارَةَ بِالمَاءِ؛ لِعَجْزِهِ أَوْ خَوْفِ زِيَادَةِ المَرَضِ أَوْ تَأَخَّرَ شِفَاؤُهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ.
كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ: أَنْ يَضْرِبَ الأَرْضَ الطَّاهِرَةَ بِيَدَيْهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً يَمْسَح كَفَّيْهِ بَعْضَهُمَا بِبَعْضٍ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا جَمِيعَ وَجْهِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُوَضِّؤُهُ أَوْ يُيَمِّمُهُ شَخْصٌ آخَرُ..
__________
(1) مستفاد من فتاوى ابن عثيمين /.(1/139)
فإِذَا كَانَ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ جُرْحٌ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُهُ بِالمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الغُسْلُ بِالمَاءِ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ مَسَحَهُ مَسْحًا، فَيَبِلّ يَدَهُ بِالمَاءِ ويُمَرِّرُهَا عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ المَسْحُ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِ أَعْضَائِه كَسْرٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ خرْقَةٌ أَو جِبْسٌ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ بِالمَاءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهِ، ولا يَحْتَاجُ لِلْتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ المَسْحَ بَدَلٌ عَنِ الغَسْلِ، ويَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عَلَى الجِدَارِ أَو عَلَى شَيْءٍ آَخَرَ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ، فَإِنْ كَانَ الغُبَارُ مَمْسُوحًا بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَرْضِ كَالبُويَا (زيت النّقاشَة) فَلاَ يَتَيَمَّمُ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَكُونَ لَهُ غُبَارٌ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّيَمُّمُ عَلَى الأَرْضِ أَو الجِدَارِِ أَو شَيْءٍ آَخَرَ لَهُ غُبَارٌ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُوضَعَ تُرَابٌ فِي إِنَاءٍ أَو منْدِيلٍ وَيَتَيَمَّمَ مِنْهُ؛ وإِذَا تَيَمَّمَ لِصَلاَةٍ وَبَقَيَ عَلَى طَهَارَتِهِ إِلَى وَقْتِ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، فَإِنَّهُ يُصَلِيهَا بِالتَّيَمُّمِ الأَوَلِ، وَلاَ يُعِيدُ التَّيَمُّمَ لِلْصَّلاَةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُهَا، يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ أَنْ يُطَهِّرَ بَدَنُهُ مِنَ النَّجَاسَات، فَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ صَلَّىَ عَلَى حَالِهِ، وَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، كما يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ بِثِيَابٍ طَاهِرَةٍ، فَإِنْ تَنَجَّسَتْ ثِيَابُهُ وَجَبَ غَسْلُهَا أَوْ إِبْدَالُهَا بِثِيَابٍ طَاهِرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّىَ عَلَى حَالِهِ، وَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ وَلا إِعَادَة عَلَيْهِ، يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ(1/140)
أَنْ يُصَلِِّيَ عَلَى شَيْءٍ طَاهِرٍ، فَإِنْ تَنَجَّسَ مَكَانُهُ وَجَبَ غَسْلُهُ أَو إِبْدَالُهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ أَوْ يَفْرِشَ عَلَيْهِ شَيْئًا طَاهِرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَى حَالِهِ، وَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلا إِعَادَة عَلَيْهِ، وَلا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ أَجْلِ العَجْزِ عَنْ الطَّهَارَةِ، بَلْ يَتَطَهَرُ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِيَ الصَّلاَةِ فِي وَقْتِهَا وَلَو كَانَ عَلَى بَدِنِهِ أَو ثَوْبِهِ أَو مَكَانِهِ نَجَاسَةٍ يَعْجَزُ عَنْهَا.
كَيْفَ يُصَلِّي المَرِيضُ(1) ؟
__________
(1) مستفاد من فتاوى ابن عثيمين /.(1/141)
يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ أَنْ يُصَلِيَ الفَرِيضَةَ قَائِمًا وَلَو مُنْحَنِيًا أَو مُعْتَمِدًا عَلَى عَصَا أَو جَالِسًا أَو يُصَلِِّيَ عَلَى جَنْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى القِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ اتِّجَاهُهُ، وَصَلاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، أَوْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا أَوْ يَرْكَع وَيَسْجُد فِي صَلاَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ بِهِمَا بِرَأْسِهِ، وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ الإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَشَارَ بِعَيْنَيْهِ فَيُغْمِضُ قَلِيلاً لِلْرُّكُوعِ وَيُغْمِضُ أَكْثَرَ لِلْسُّجُودِ، أَمَّا الإِشَارَةُ بِالإِصْبعِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ المَرْضَى، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلا أَعْلَمُ لَهُ أَصْلاً مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ العِلْمِ، فَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ الإِيمَاءَ بِالرَّأْسِ وَلا الإِشَارَةَ بِالعَيْنِ صَلَّى بِقَلْبِهِ فَيُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ، يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَهُ الجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَبَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ، أَمَّا صَلاَةُ الفَجْرِ فَإِنَّهُ لا يَجْمَعُ لِمَا قَبْلَهَا وَلا لِمَا بَعْدَهَا، فَإِذَا كَانَ المَرِيضُ مُسَافِرًا يُعَالَجُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ ؛فَإِنَّهُ يُقْصِرُ الصَّلاَة الرُّبَاعِيَّة: فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالعِشَاءَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ سَوَاءً طَالَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ أَمْ قَصُرَتْ.
أَبْشِرْ.. فَبَابَا الأَمَلِ وَالرَّجَاءِ لاَ يُغْلَقَانِ(1/142)
إِذَا وَقَعْتَ تَحْتَ وَطْأَةِ الظُّلْمِ وَالقَهْرِ فَأَرَدْتَ أَنْ تَصْرُخَ فَكَتَمَ الخَوْفُ صَرْخَتَكَ فِي أَعْمَاقِكَ، وَإِذَا تَمَكَّنَ الخَوْفُ مِنْ قَلْبِكَ فَزَلْزَلَ وُجْدَانَكَ، وَقَهَرَ كُلَّ مَعَانِي المقَاوَمَةِ فِي دَاخِلِكَ، وَأَحْسَسْتَ بِمَرَارَةِ الذُّلِّ تَطَأُ هَامَتَكَ وَتُحَطِّمُ كيَانَكَ؛ فَاعْلَمْ -عِلْمَ اليَقِينِ- أَنَّ لِلْكَوْنِ رَبًّا؛ يَنْصُرُ المظْلُومَ؛ وَيَقْهَرُ الظَّالِمَ؛ فَقَدْ نَصَرَ اللهُ نُوحًا بِدَعْوَةِ مُبَارَكَةٍ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر10] فَمَا بَالُكَ بِغَضَبِ الجَبَارِ ذِي الطَّوْلِ واَلانْتِقَامِ شَدِيدِ العِقَابِ؟! فَقُلْ: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران173] وَتذْكُرُ أَنَّكَ تَعِيشُ فِي دَارٍ؛ لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ دَارُ تَقَلُّبَاتٍ وَأَكْدَارٍ وَأَخْطَارٍ، وَنَهَايَةُ المطَافِ إِمَّا جَنَّة وَإِمَّا نَار.(1/143)
وَإِذَا ضاَقَتْ بِكَ الحَيَاةُ فَمَا عُدْتَ تُطِيقُ قَسْوتَهَا وَآلامَهَا، وَإِذَا تَمَلَّكَكَ الضِّيقُ وَالضَّجَرُ فَلَمْ تَجِدْ مَنْ تَشْكُو لَهُ أَوْ يَسْمَعُكَ، فَلاَ تَيْأَسَنَّ -لَحْظَةً واَحِدَةً- مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ قَانِطٍ يَائِسٍ ضَالٌّ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحِجْر56] وَإِذَا أَحْسَسْتَ أَنَّ الأَلَمَ يَكَادُ يَنْفَجِرُ فِي صَدْرِكَ وَتَجَمَّدَتْ العَبَرَاتُ فِي عَيْنَيْكَ، فَتَذَكَّرْ أَنَّ لَكَ رَبًّا يَسْمَعُكَ وَيُبْصِرُ حَالَكَ، وَيَقْتَصُّ لَكَ: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف86] وَإِذَا أَلْمَمْتَ بِذَنْبٍ فِي غَفْلَةٍ مِنْ أَمْرِكَ، وَأَفَقْتَ مِنْهُ عَلَى لَدَغَاتِ ضَمِيرِكَ تُؤَرِّقُكَ، فَتَذَكَّرْ أَنَّ لَكَ رَبًّا رَحِيمًا؛ رَحْمَتُهُ أَوْسَعُ مِنْ عَظِيمِ ذُنُوبِكَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر53] وَإِذَا نَكَّسْتَ رَأْسَكَ؛ خَجَلاً مِنْ نَفْسِكَ، وَشَعَرْتَ بِالنَّدَمِ يُمَزِّقُ فُؤَادِكَ، فَتَذَكَّرْ أَنَّ لَكَ رَبًّا غَفُورًا؛ يَسْتُرُكَ وَلاَ يَفْضَحُكَ؛ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ؛ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذَا سَيَزُولُ وَيُبْدِلُكَ رَبُّكَ خَيْرًا مِنْهُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي الجَنّةِ؛ فِي يَوْمٍ لَوْ غُمِسَ أَحَدُ المؤْمِنِينَ غَمْسَةً فِي الجَنَّةِ -وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً فِي الدّنيَا- فَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ بَلاَءً قَطّ! يَنْسَى كُلَّ بَلائِهِ وَشَقَائِهِ بِغَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ، سُبْحَانَ المنْعِمِ العَظِيمِ؛ يَقُولُ رَسُولُ(1/144)
اللهِ S(1): «يُؤْتَى بِأَشَدِّ المؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلاءً، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ فِي الجَنَّةِ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ: أَيْ فُلانُ: هَلْ أَصَابَكَ خَيْرٌ قَط أَوْ بَلاَءٌ؟! فَيَقُولُ: مَا أَصَابَنِي قَطّ ضُرٌّ أَوْ بَلاَءٌ» فَانْظُرْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَيْنِ قَلْبِكَ إِلَى سُكْنَى الجِنَانِ وَالفَوْزِ بِالحُورِ العِينِ، وَالتَّشَرُّفِ بِرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ، فَدَارُ السَّلاَمِ هِيَ سِلْعَةُ الرَّحْمَنِ؛ دَارٌ غَرَسَهَا اللهُ بِيَدِهِ، وَجَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لأَحْبَابِهِ وَمَلأَهَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ..أَعَدَّهَا لِمَنْ؟ لِلْمُتَّقِينَ.. فَادْعُ اللهَ أَنْ تَكُونَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ.. فَعَمَلُكَ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْجَنَّةِ؛ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف43]
غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ
إِذَا أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ ... وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا
وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا
__________
(1) صحيح): أحمد 12699، مسلم2707.(1/145)
فَاللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ؛ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، وَثبِّتْنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ الإسْلاَمِ؛ فَالإسْلامُ شَمْسٌ لاَ تَغِيبُ؛ لأَنَّهُ الدِّينُ الخَاتَمُ، فَإِنْ بَرحَتْ شَمْسُ الإِسْلاَمِ أَرْضَ قَوْمٍ أَشْرَقَتْ عَلَى دِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ؛ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الدِّينَ الَّذِي لاَ يَغِيبُ! فَاللَّهُمَّ تَوَفَّنَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ المتَّقِينَ فِي الدّنيَا؛ الفَائِزِينَ فِي الآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران185]
وأَخِيرًَا.. كُنْ تَقِيًّا، ولاَ تَسْتَعْجِلِ الخَيْرَ
لاَ تَهَاوُنَ فِي الصَّلاَةِ(1/146)
فَتَعَلَّمْ -حَبِيبِي فِي اللهِ- كَيْفَ تَتَطَهَّرُ وَتُصَلِّي؟ حَتَّى لاَ يَغْضَبَ رَبُّكَ عَلَيْكَ، فمِنْ خِلاَلِ فَتَاوَى شَيْخِنَا نَجِدُ أَنَّ المَسْأَلَةَ -أَحْبَابِي الفُضَلاَءَ- خَطِيرَةٌ جِدًّا.. وَمَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَتَهَاوَنُونَ فِي الأَمْرِ، وَيُقِرُّونَ فِي البَيْتِ مَنْ لاَ يُصَلِّي، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، لاَبُدَّ وَأَنْ نُشْعِرَهُ بِارْتِكَابِهِ ذَنْبًا عَظِيمًا، يَهْوِي بِهِ فِي نَار جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا؛ إِنْ لَمْ يَنْتَصِحْ وَيُدْرِكْ مَدَى خُطُورَةِ مَا هُوَ غَائِرٌ فِيهِ، وَلاَ يَكْفِي أَنْ نَقُولَ كَمَا يَقُولُ الجُهَلاءُ: وَاللهِ هُوَ لاَ يُصَلِّي، وَلَكِنَّ قَلْبَهُ أَبْيَضُ، وَهَلْ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَنْقَى قَلْبًا وَأَعْظَمُ عَمَلاً وَمقَامًا مِنْ رَسُولِ اللهِS؟! فَلِمَاذَا لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُSالصَّلاَةُ؟! وَسَلْ نَفْسَكَ: هَلْ سَيُخَلَّدُ فِي الجَنَّةِ رَجُلٌ أَوِ امْرَأةٌ لَمْ يَسْجُدَا وَلَمْ يَرْكَعَا للهِ مَرَّةً، أَيُعْقَلُ هَذَا؟! إِنَّ المُتَكَاسِلَ السَّاهِيَ عَنْ صَلاَتِهِ لَهُ وَادٍ عَظِيمٌ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى الوَيْلَ، فَمَا بَالُكَ بِتَارِكِهَا؟! قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون4-5]
يَا مَنْ تَرَكْتَ الصَّلاَةَ أَوْ تَسَاهَلْتَ بِهَا.. تَدَارَكْ بَقِيَّةَ عُمُرِكَ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، فَلاَ تَدْرِي كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ؟ هَلْ بَقِيَ شُهُورٌ أَوْ أَيَّامٌ أَوْ سَاعَاتٌ؟! فَالعِلْمُ عِنْدَ اللهِ، وَإِنَّمَا العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى اللهِ -كَاتِبُ هَذِهِ السُّطُورِ- نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ وَلَكَ..
لاَ تَكُنْ مُجْرِمًا!(1/147)
وَأُذَكِّرُكَ وَنَفْسِي دَائِمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيا} [طه74] فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلَ عَنْ هَذِه الآيَةِ، فَتَارِكُ الصَّلاَةِ مِنْ أَعْظَمِ المُجْرِمِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَإِنِّي سَائِلُكَ سُؤَالاً: رَجُلٌ لاَ يَخْشَعُ وَلاَ يَرْكَعُ وَلاَ يَسْجُدُ وَلاَ يَحْفِدُ (يُسْرِعُ مُطِيعًا مُتَقَرِّبًا) إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَهَلْ يَكُونُ سَوِيًّا مَعَ العَالَمِينَ؟! وَصَدَقَ الفَارُوقُ ا إِذْ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مُضَيِّعًا لِلصَّلاةِ فَهُوَ لِغَيْرِهَا أَضْيَعُ..وَنَحْنُ كَثِيرًا مَا نَسْتِمِعُ لِوَصَايَا وَنَصَائِحِ الأَطِبَّاءِ..بِاللهِ عَلَيْكَ..أَلَمْ تَجِرِّبْ ذَاتَ مَرَّةٍ هَذَا العِلاجَ النَّاجِعَ لِسَيِّدِ ألأتْقِيَاءِ وَخَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ؟! قَالَ رَسُولُ اللهِ(1)S: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ» فَاللهُ يَجْزِيكَ عَلَى صَدَقَتِكَ خَيْرًا؛ قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لَهُ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف88]
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ وَلَهُ دَوَاءٌ
__________
(1) حسن) صحيح الجامع 3358.(1/148)
وَاعْلَمْ -يَقِينًا- أَنَّ اللهَ مَا أَنْزَلَ دَاءً إِلاَّ وَلَهُ دَوَاءٌ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ S قَالَ (1):«مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» وَالأَدْوَيَةُ مُتَعَدِّدَةٌ.. فَمِنَ الممْكِنِ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ شِفَاءَكَ فِي دَعْوَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ فِي لَيْمُونَةٍ بَخَمْسَةِ قُرُوشٍ وَلاَ يَجْعَلْ شِفَاءَكَ فِي أَدْوِيَةٍ بِالآلاَفِ! فَسُبْحَانَ الشَّافِي العَظِيمِ، ورَوَى البَيْهَقِيُّ(2) أَنَّ عَبْدَاللهِ بنَ المُبَارَكِ أَتَاهُ رَجُلٌ وَرُكْبَتُهُ تَنْزِفُ دَمًا، وَأَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ أَنَّهَا تَنْزِفُ هَكَذَا مُنْذُ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلاجٍ أَبَدًا وَصَفَهُ الأَطِبَّاءُ لَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ أَنْ يَحْفُرَ بِئْرَ مَاءٍ ليَنْتَفِعَ بِهِ المُسْلِمُونَ؛ فَإِذَا مَا خَرَجَ المَاءُ شُفِيَتْ رُكْبَتُكُ بِإِذْنِ اللهِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ وَمَعَ أَوَّلِ تَدَفُّقٍ لِلمَاءِ شُفِيَتْ رُكْبَتُهُ وَجَفَّ دَمُهَا بَلْ عَادَتْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ..
__________
(1) صحيح) البخاري 5678.
(2) عَبْدُ اللهِ بنُ المبَارَكِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، كَانَ جَامِعًا لِخصَالِ الخَيْرِ، يَحجُّ عَامًا وَيُجَاهِدُ عَامًا.(1/149)
فَتَعَلَّمْ مِنْ هَؤُلاءِ الصَّالِحِينَ كَيْفَ تَتَصَدَّقُ؟! وَاعْلَمْ أَنَّ لِلصَّدَقَةِ فَوَائِدَ عُظْمَى تَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ أَنْ تُجَرِّبَ هَذَا العِلاجَ النَّبَوِيَّ الحَكِيمَ -وَلَوْ مَرَّة- لِتَعْلَمَ بِنَفْسِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ S لاَ يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، لَقَدْ جَرَّبْنَا كُلَّ شَيْءٍ فِي حَيَاتِنَا، وَفَشَلْنَا فَشَلاً ذَرِيعًا!! فَلِمَاذَا لاَ نُجَرِّبُ وَنَلْتَزِمُ بِتَعَالِيمِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَاS؟!.
عَلَيْكَ بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَاتِ(1/150)
إِنَّ الَّذِي خَلَقَنَا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُنَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! وَهُوَ الَّذِي أَوْحَى إِلَى نَبِيِّنَا S مَا يَنْفَعُنَا، فَعَلَيْكَ بِالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ وَلاَ تُقَصِّر فِيهِمَا، وَلاَ تَغْفُل لَحْظَةً عَنْ أَيِّ عَمَلٍ صَالَحٍ فِي مَقْدُورِكَ أَنْ تَفْعَلَهُ فَافْعَلْهُ، وَلاَ تَنْدَمْ عَلَى فِعْلِهِ، حَتَّى لَوْ صَادَفَ قَوْمًا لَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، فَأَنْتَ أَهْلٌ لَهُ، فَأَكْثِرْ مِنَ الصَّالِحَاتِ؛ فَهِيَ الأَنْفَعُ وَالأَبْقَى لِصَاحِبِهَا فِي الدُّنْيِا وَالآخِرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا، رُبَّمَا لاَ يَظْهَرُ أَثَرُهَا المُبَاشِرُ لِصَاحِبِهَا فِي التَّوِّ وَاللحْظَةِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا عَلَى المَدَى البَعِيدِ، إِمَّا عَلَى فَتَرَاتٍ مُتَبَاعِدَةَ مِنْ حَيَاتِكَ أَو مُتَقَارِبَةٌ، وَرُبَمَا لا يَظْهَرُ لَهَا أَثَرٌ إِلا بَعْدَ مَمَاتِكَ فِي أَوْلادِكَ، فَلا تَسْتَعْجِلِ الخَيْرَ، وَلَكِنَّهُ وَاقِعٌ -بإذن الله- لا مَحَالَةَ، اِنْظُرْ عِنْدَمَا صَاحَبَ سَيِّدُنَا مُوسَى(العَبْدَ الصَّالِحَ الخَضِرَ فِي رِحْلَتِهِ وَخَاصَّةً عِنْدَمَا ذَهَبَ الاِثْنَانِ إِلَى هَذِهِ القَرْيَةُ، فَطَلَبَا طَعَامًا فَأَبَى أَهْلُ القَرْيَةِ أَنْ يُضِّيفُوهُمَا، وَمَعَ ذَلِكَ بَنَى العَبْدُ الصَّالِحُ فِيهَا جِدَارًا، فَتَعَجَّبَ سَيِّدُنَا مُوسَى( وَقَالَ مِنْ وَجْهَةْ نَظَرِهِ رغْمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ؛ إِلاَّ أَنَّهُ بَشَرٌ: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف77]
لَنَا وَقْتٌ نَرَى فَوْقَ السَّمَاءِ
إِذَا مَا اللهُ لَمْ يُظْهِرْ لِعَبْدِهِ ... وَوَقْتٌ نَحْنُ فِيهِ مِثْلُ عُمْيَانِ
فَمَا أُذُنٌ وَمَا قَلْبٌ وَعَيْنَانِ(1/151)
وَعِنْدَمَا عَلِمَ الحِكْمَةَ مِنْ الجِدَارِ سُرْعَانَ مَا زَالَ عَجْبُهُ، وَسَبَبُ بِنَاء الجِدَارِ -كَمَا تَعَلَمُ- صَلاَحُ وَالِدِ الطُّفْلَيْنِ اليَتِيمَيْنِ، فَقَدْ وَكَّلَ اللهُ لِلأَبْنَاءِ مَنْ يَحْفَظُ لَهُمَا مَالَهُمَا، فَصَلاَحُ الآبَاءِ يَنْفَعُ الأَبْنَاءَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف82] فَكُنْ أَحَدَهُمْ أَوْ عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ جَالِسِ الصَّالِحِينَ دَائِمًا؛ لَقَدْ خَلَّدَ اللهُ كَلْبًا بِذِكْرِهِ فِي القُرْآنِ؛ أَتَدْرِي لِمَاذَا؟! لأَنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ الفِتْيَةَ الصَّالِحِينَ أَهْلَ الكَهْفِ!
الصَّاحِبُ سَاحِبٌ.. فَانْتَبِهْ
لَقَدْ قَالُوا قَدِيمًا: الصَّاحِبُ سَاحِبُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِS(1): «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِطُ، وَقَالَ مُؤَمَّلٌ: مَنْ يُخَالِلُ» وَلاَ تُذْهِبْ إِيْمَانَكَ بِسُهُولَةٍ، فَالإِيْمَانُ يَحْمِي صَاحِبَهُ وَقْتَ الشَّدَائِدِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَصْبُغَ نَفْسَكَ بِتَعَالِيمِ هَذَا الدِّينِ كَمَا يُصْبَغَ الثَّوْبُ.. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [البقرة138]
كَانَ للإِمَامِ الشَّافِعِيِّ طَالِبُ عِلْمٍ صَالِحٌ، يَتَوَسَّمُ فِيهِ الخَيْرَ وَالصَّلاحَ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُ نَاصِحًا: يَا غُلاَمُ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ نُورَ الإِيْمَانِ، فَلاَ تُذْهِبْ هَذَا النُّورَ بِظُلْمَةِ المَعْصِيَةِ.. فَادْعُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُبَاعِدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ كَمَا بَاعَدَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ.
خَاتِمَةُ الكِتَابِ (دُعَاءٌ نَبَوِيٌّ مُبَارَكٌ)
__________
(1) حسن): أبو داود 4833، الترمذى 2378، أحمد 7968.(1/152)
وَفِي نِهَايَةِ حَدِيثِي فَإِنَّنِي أَدْعُو اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِدُعَاءِ حَبِيبِ القُلُوبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S كَانَ يَدْعُو (1): رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا إِلَيْكَ مُخْبِتًا لَكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي.. اللَّهُمَّ آمِينَ..
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
وأخيرًا تَقَبَّل اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ
العَبْدُ الفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ القَدِيرِ
هاني سعد غنيم
هَاتِف مَنْزِل رَقْم/ 2786397- 050
مَحْمُول رَقْم/ 0121475973
مصر- الدَّقَهْلِيَّة- بلْقَاس- شَارِع سَاحِل طِعِيمَة
المَرَاجِعُ
1) القُرْآنُ الكَرِيْمُ.
2) تَفْسِيرُ ابنِ كَثِيرٍ.
3) تَفْسِيرُ القُرْطُبِي.
4) تَفْسِيرُ الجَلالَيْنِ.
5) صَحِيحُ البُخَارِيّ.
6) صَحِيحُ مُسْلِم.
7) البِدَايَةُ وَالنّهايَة لابنِ كَثيِرٍ.
8) صَحِيح الجَامِع الشَّيْخ الأَلْبَانِيّ.
9) سِيَرُ أَعْلاَمِ النُّبَلاء.
10) أُسْدُ الغَابَةِ.
11) سِيْرَةُ ابْنِ هشَامٍ.
12) حَتْمِيَّةُ الابِتِلاءِ لِلشّيخِ مَجْدِي قَاسِم.
الفِهْرس
الإِهْدَاءُ ... 5
مُقَدّمَةُ الدُّكْتُورِ/ مُحَمَّد السّيّد مُوسَى .. حَفِظَهُ اللهُ ... 7
مُقَدّمَة المؤلِّفِ ... 9
الابْتِلاَءُ لُغَةً ... 12
الابْتِلاءُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ ... 15
__________
(1) حسن): أحمد 1998، أبو داود 1510، صحيح الجامع 3485.(1/153)
الأَصْلُ فِي الدُّنْيَا هُوَ الابْتِلاَءُ ... 15
النَّعِيمُ الحَقِيقِيُّ هُوَ نَعِيمُ الجَنَّةِ الخَالِدُ العَظِيمُ ... 16
تَعَدُّدُ الابْتِلاَءَاتِ؛ ليَمِيزَ اللًّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... 18
آدَابُ الابْتِلاَءِ ... 20
الصَّبْرُ رِزْقٌ عَظِيمٌ ... 20
الصَّبْرُ مُرٌّ كَاسْمِهِ ... 21
الصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ ... 22
مَرَاتِبُ الابْتِلاَءِ ... 24
أَوَّلاً: مَرْتَبَةُ التَّمْحِيصِ ... 24
ثَانِيًا: مَرْتَبَةُ التَّطْهِيرِ ... 25
ثَالِثًا: مَرْتَبَةُ القُرْبِ والتَّكْرِيمِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ ... 28
صُورَتَا الابْتِلاَءِ ... 30
الصُّورَةُ الأُولَى: هَلاَكُ الظَّالِمِينَ ... 30
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: هَلاَكُ الظَّالِمِينَ وَالصَّالِحِينَ ... 30
فَوَائِدُ الابْتِلاَءِ العَشْرُ ... 32
1- إِرْجَاعُ العِبَادِ إِلَى اللَّهِ ... 32
2- لُزُومُ المبْتَلَيْنَ الاسْتِغْفَارَ ... 34
3- رِفْعَةُ المكَانَةِ وَالتَّأْهِيلُ لِعَمَلِ الخَيْرِ ... 35
4- الانْكِسَارُ وَالخُضُوعُ للَّهِ ... 36
5- إِظْهَارُ المحِبِّ مِنَ المبْغِضِ ... 37
6- الشُّعُورُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ... 38
7- تِلاَوَةُ القُرْآنِ وَفَهْمُ بَعْضِ مَعَانِيهِ ... 39
8- مَحْوُ الخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ... 40
9- تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الكَامِلِ للَّهِ ... 43
10- القُرْبُ مِنَ اللَّهِ وَالثَّبَاتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى المَمَاتِ ... 46
أَنْتَ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ... 49
الأَوَّلُ: نِسْبَةُ النِّعْمَةِ إِلَى المنْعِمِ ... 50
الثَّانِي: عَدَمُ الانْشِغَالِ بِالنِّعْمَةِ عَنِ المنْعِمِ ... 50
الثَّالِثُ: عَدَمُ التَّكّبُّرِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ ... 50
الرَّابِعُ: إِعْطَاء ُالحَقِّ مِنْهَا لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ ... 51(1/154)
الخَامِسُ: الثَّنَاءُ عَلَى المنْعِمِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ قَوْلاً وَفِعْلاً ... 51
مَا سِرُّ نُزُولِ الابْتِلاَءَاتِ وَالعُقُوبَاتِ؟! ... 52
اللهُ يَبْتِلِي عَبْدَهُ؛ لِيُهَذِّبَهُ لا لِيُعَذِّبَهُ ... 52
الفَرْقُ بَيْنَ العُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالعُقُوبَاتِ القَدَرِيَّةِ ... 52
لَيْسَتْ ظَوَاهِرَ طَبِيعِيَّةً وَلَكِنْ..! ... 54
الفَرْقُ الدّقِيقُ بَيْنَ العُقُوبَةِ وَالابْتِلاَءِ ... 56
الابْتِلاَءُ اخْتِبَارُ وَالعُقُوبَةُ هِيَ الجَزَاءُ المعَجَّلُ ... 56
الابْتِلاَءُ وُقُوفُ أَمَامَ الأَسْبَابِ، وَالعُقُوبَاتُ نَاتِجَةٌ عَنِ الانْحِرَافِ ... 57
الابْتِلاَءُ مَرْجِعُهُ الاسْتِقَامَة، أَمَّا العُقُوبَةُ فَمَرْجِعُهَا إلى زِيَادَةِ الفِسْقِ ... 57
الابْتِلاَءُ طَرِيقٌ للتَّمْكِينِ؛ بَيْنَمَا العُقُوبَةُ حِرْمَانٌ مِنْهَا ... 58
الابْتِلاَءُ قَائِمٌ عَلَى حُبِّ اللهِ، والعُقُوبَةُ عَلَى غَضَبِهِ ... 58
الابْتِلاَءُ يَجْمَعُ الأُمَّةَ، وَالعُقُوبَةُ سَبَبٌ فِي تَشْتَيتِهَا ... 59
الابْتِلاَءُ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوًى وَصَبْرٍ، وَالعُقُوبَةُ إِلَى تَوْبَةٍ وَاستِغْفَارٍ ... 59
مَنْ أَنْتَ مِنْ هَؤُلاَءِ وَقْتَ نُزُولِ البَلاَءِ؟! ... 61
أَوَّلاً: الجَزِعُ ... 61
ثَانِيًا: الصَّابِرُ ... 61
ثَالِثًا: الرَّاضِي ... 62
رَابِعًا: الشَّاكِرُ ... 65
كَيْفَ يُوَاجِهُ المُؤْمِنُ الابْتِلاءَ؟! ... 69
اثْبُتْ عَلَى الإيْمَانِ، وَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ ... 69
اهْتَدِ بِهَدْيِ نَبِيِّكَ سَيِّدِ الأنَامِ ... 69
لِمَنْ تَشْكُو؟! ... 71
الأَمْرُ لَيْسَ لِوَلِيٍّ وَلاَ لِنَبِيٍّ ... 71
مِنِ ابْتِلاَءَاتِ النِّسَاءِ... وَكَيْفَ صَبَرْنَ؟! ... 74
اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي ... 74
صَبْرُ أُمِّ المؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ ... 74
أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟! ... 77(1/155)
إِنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ... 78
أَيُّهَا الحَبِيبُ بِمَنْ تَسْتَغِيثُ وَقْتَ الشِّدَّةِ؟! ... 80
نُمُوذَجٌ مِنَ العَصْرِ الجَاهِلِيِّ! ... 80
مَنْ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ اللَّهِ؟! ... 81
الأُمُورُ كُلُّهَا بِيَدِ اللَّهِ ... 83
اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَالإِجَابَة نَوْعٌ مِنَ الابْتِلاَءِ ... 84
يَا صَاحِبَ الابْتِلاءِ... تَعَلَّمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ... 85
نَمَاذِجُ مِنْ صَبْرِ الأَنْبِيَاءِ (صَبْرُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ) ... 85
صَبْرُ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ ... 90
كَيْفَ تَتَعَزَّى عِنْدَ فَقْدِ الأَعِزَّاءِ؟! ... 93
يَا مَنْ فَقَدْتَ عَزِيزًا.. رَسُولُ الله يُبَشِّرُكَ ... 93
بَلاَغَةُ أَعْرَابِيٍّ ... 94
اللهُ يُعَوِّضُكَ خَيْرًا مِنْ مُصِيبَتِكَ ... 95
بَشَائِرُ عَظِيمَةٌ لِلنِّسَاءِ الثَّكَالَى ... 95
احْتِسَابُ الوَلَدِ عِنْدَ اللهِ يُثَقِّلُ الميزَانَ ... 96
لاَ تَيْأَسْ.. فَاللهُ يَأْجُرُكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ... 97
بِشَارَةٌ لِمَنْ مَاتَ خَارِجَ البِلاَدِ ... 98
أَخِي الحَبِيبَ...اصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً ... 100
ارْضَ بِاللَّهِ رَبًّا يَرْضَ عَنْكَ عَبْدًا ... 100
عَلَيْكَ بِثَلاَثَةٍ! ... 101
يُبْتَلَى الأَخْيَارُ؛ لِسَبَبَيْنِ.. فَمَا هُمَا؟! ... 101
إِيَّاكَ وَقَتْلَ النَّفْسِ .. أَيُّهَا المبْتَلَى ... 103
لاَ تَقْتُلْ نَفْسَكَ! ... 103
هَذَا أَمْرٌ جَلَلٌ؛ فَاحْذَرْهُ ... 104
نِعْمَ العَبْدُ؛ إِنَّهُ أَوَّابٌ ... 104
أَيُّهَا المُبْتَلَى انْتَبِهْ..ولا تَتَمَنَّ المَوْتَ ... 106
مَا أَكْثَرَ الأَزمَاتِ هَذِهِ الأَيَّامَ! ... 106
الحَيَاةُ كُلُّهَا أَقْدَارٌ ... 107
الشَّرُّ لاَ يُنْسَبُ للَّهِ ... 111
اللَّهُ -وَحْدَهُ- يَعْلَمُ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ... 114
بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلمُبْتَلَيْنِ وَخَاصَّةً المَرْضَى ... 116(1/156)
أَيُّهَا المُبْتَلَى: إِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الصلاة ... 119
أَيُّهَا الأَصِحَّاءِ...إِخْوَانُكُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْكُمْ ... 121
فَتْاوَى مُهِمَّةٌ لأَصْحَابِ الابْتَلاءَاتِ () ... 123
مَا حُكْمُ تَارِكِي الصَّلاةِ؟ ... 123
مَا الأَحْكَامُ المُتَرَتِّبَةُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ؟ ... 124
كَيْفَ يَتَطَهَّرُ المَرِيضُ ؛ اسْتِعْدَادًا لِلصَّلاَةِ()؟ ... 126
كَيْفَ يُصَلِّي المَرِيضُ() ؟ ... 128
أَبْشِرْ.. فَبَابَا الأَمَلِ وَالرَّجَاءِ لاَ يُغْلَقَانِ ... 129
وأَخِيرًَا.. كُنْ تَقِيًّا، ولاَ تَسْتَعْجِلِ الخَيْرَ ... 132
لاَ تَهَاوُنَ فِي الصَّلاَةِ ... 132
لاَ تَكُنْ مُجْرِمًا! ... 133
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ وَلَهُ دَوَاءٌ ... 133
عَلَيْكَ بِالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَاتِ ... 134
الصَّاحِبُ سَاحِبٌ.. فَانْتَبِهْ ... 135
خَاتِمَةُ الكِتَابِ (دُعَاءٌ نَبَوِيٌّ مُبَارَكٌ) ... 137
المَرَاجِعُ ... 138
الفِهْرس ... 139
كُتُبٌ أُخْرَى صََدَرَتْ - بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ- لِلمُؤَلَّفِ
فِي المَجَالِ اللُّغَوِيِّ
1) أَشْهَرُ الأَخْطَاءِ اللغَوِيَّةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الدُّعَاةُ وَمُحِبُّو اللغَةِ العَرَبِيَّةِ.
2) فُنُونٌ وَلَطَائِفُ لُغَوِيَّةٌ مِنْ رِيَاضِ لُغَتِنَا العَرَبِيَّةِ.
فِي المَجَالِ الإِسْلاَمِيِّ
1) رَمَضَانُ ذَلِكُمُ الشَّهْرُ الفَضِيلُ وَضَيْفُ اللهِ الجَلِيل.
2) مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟! .
3) تَذْكِرَةُ المُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ وَطَاعَةِ النَّبِيِّ الأَمِينِ(.
4) الابْتِلاءُ تَطْهِيرٌ وَنِعْمَةٌ مِنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
5) التَّقْوَى جُنَّةٌ ... وَطَرِيقُكَ إِلَى الجَنَّةِ.
6) الإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
7) الرَّحْمَةُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحَيَاةِ سَلَفِ الأُمَّةِ.(1/157)
8) الاسْتِغْفَارُ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا الغَفَّارِ وَسُنَّةِ سَيِّدِ الأَبْرَارِ.
9) أُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَنِي اللهُ، فَمَاذَا أَفْعَلُ؟!
10) هَذَا رَسُولُ اللهِ (الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ).
11) مِنْ فَضَائِلِ الإِسْلاَمِ .. الأُخُوَّةُ وَصِلَةُ الأَرْحَامِ.
12) أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ تَقِيًّا ... فَمَاذَا أَفْعَلُ؟!
13) الصَّلاةُ .. طَوْقُ النَّجَاةِ.
14) الوَالِدَانِ.. وَحَقُّهُمَا مِنَ القُرْآنِ وَسُنَّةِ سَيِّدِ الأَنَامِ.
سَيَصْدُرُ قَرِيبًا لِلمُؤَلِّفِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- كِتَابُ:
(أَسْرَارٌ لُغَوِيَّةٌ وَدَلاَلاَتٌ لَفْظِيَّةٌ مِنَ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ)
كِتَابٌ يَتَحَدَّثُ عَنِ الإِعْجَازِ اللُّغَوِيِّ فِي القُرْآنِ، وَيَكْشِفُ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ لُغَةِ القُرْآنِ بِالأَدِلَّةِ.
وَتَقْرَأُ فِيهِ المَبَاحِثَ الآتِيَةَ:
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ؟!
أَسْمَاءُ القُرْآنِ.
مُدَاوَمَةُ تِلاوَةِ القُرْآنِ مِنْ عَلامَاتِ الإِيمَانِ.
الْتِزَامُ الأُسْلُوبِ الرَّاقِي فِي القُرْآنِ.
كَلِمَاتٌ لَزَمَتْ حَالَةً وَاحِدَةً فِي القُرْآنِ.
مَا تَظُنُّ أَنَّهُ مُتَرَادِفٌ المَعْنَى، وَلَيْسَ مِنَ المُتَرَادِفِ.
مَوَاضِعُ الآيَاتِ المُتَشَابِهَاتِ فِي القُرْآنِ وَسَبَبُ ذَلِكَ..
هَكَذَا قَالَ اللهُ فِي القُرْآنِ .. فَلِمَاذَا؟!
فِي رِحَابِ القُرْآنِ (مَعْلُومَات مُهِمَّة).
آيَاتٌ كَرِيمَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الأَمْثَالِ.
كُلِّيَّاتٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ القُرْآنِ.
وَمَبَاحِث أُخْرَى مُفِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ.(1/158)