الإيمانُ والعملُ الصالحُ سَببُ النَّجاحِ والفلاحِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (107) سورة الكهف
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ،القائل : « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ». صحيح مسلم(162 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد قرن بين الإيمان والعمل الصالح في كتابه العزيز ،في جميع المواضع ، وهذا يدل على تلازمهما معاً ، فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل بلا إيمان ،فهما متلازمان تلازم الروح للجسد، قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف
، وكل من يقول غير ذلك فقد ضلَّ عن سواء السبيل .
وكلما قوي إيمان المرء كلما كثرت أعماله الصالحة ،وكلما ضعف إيمانه كلما قلت أعماله الصالحة ، وكثرت أعماله الطالحة.
فالتفكر في الكون، وكيف خلق الله الإنسان، والتفكر في الآخرة، وفي الموت، وأن الإنسان سوف يموت، وسوف يلاقي ربه، وذكر الآخرة والحساب والصراط والميزان، تذكر عقوبة العاصين ونعيم المطيعين، كل هذا مما يقوي الإيمان ويثبته، ورأس ذلك كله تقوى الله سبحانه في السر والعلانية، والوقوف حيث أمر الله، فإذا قرأ الإنسان أية من كتاب الله، أو سمع حديثاً من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه حرام فليزدجر وليرتدع، وإن كان فيه أمر فليمتثل وليعمل به، فهذه كلها مما يقوي الإيمان.
والوسائل التي تؤدي إلى ذلك كثيرة أيضاً: مثل حضور حلقات الذكر، ومثل الاستماع إلى أهل الخير والعلماء، ومثل قراءة الكتب النافعة المفيدة، فكل ذلك مما يقوي ويحقق تثبيت الإيمان، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه سميع مجيب.
وفي هذا الكتاب قد جمعت جميع الآيات القرآنية التي قرنت الإيمان بالعمل الصالح .
وقد قسمته إلى تمهيد وبابين :
أما التمهيد ، فذكرت فيه روايات عن أهل العلم تبين أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل ، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي
وأما البابان :
فالأول- ذكرت فيه جميع الآيات القرآنية التي قرنت الإيمان بالعمل الصالح ، مرتبة حسب وردوها في القرآن الكريم ، وقد وضعت لكل واحدة منا عنوانا مناسباً ، وقمت بشرح الآيات بشكل مختصر .
وأما الثاني - فقد ذكرت فيه بعض البحوث حول تلازم الإيمان والعمل الصالح وأنهما معها السبيل الوحيد لإصلاح النفس الإنسانية .
قال تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة/15، 16]
أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فتبعون أحسنه ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
11 رمضان 1429 هـ الموافق ل 11/9/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - - -
تمهيد
الإيمان تصديق وقول وعمل يزيد وينقص
جاء في الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ : بَابُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ، إِلَّا أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : اعْمَلُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا ، وَلَا تُجْزِيءُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ : كَانَ مُؤْمِنًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَقَوْلُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ : فَأَمَّا مَا لَزِمَ الْقَلْبَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وَقَالَ تَعَالَى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَقَالَ تَعَالَى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ الْآيَةَ فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّكُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَلْبِ الْإِيمَانَ ، وَهُوَ التَصْدِيقٌ وَالْمَعْرِفَةُ ، وَلَا يَنْفَعُ الْقَوْلُ إِذْ لَمْ يَكُنِ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا بِمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ مَعَ الْعَمَلِ ، فَاعْلَمُوا ذَلِكَ وَأَمَّا فَرْضُ الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَعْقُوبَ ، وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِي النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا فَرْضًا وَاجِبًا وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمَا فُرِضَ عَلَى الْجَوَارِحِ تَصْدِيقًا بِمَا آمَنَ بِهِ الْقَلْبُ ، وَنَطَقَ بِهِ اللِّسَانُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تُفْلِحُونَ وَقَالَ تَعَالَى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الصِّيَامِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَمِثْلُهُ فَرْضُ الْجِهَادِ بِالْبَدَنِ ، وَبِجَمَيِعِ الْجَوَارِحِ فَالْأَعْمَالُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِالْجَوَارِحِ : تَصْدِيقٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقِ الْإِيمَانَ بِعَمَلِهِ وَبِجَوَارِحِهِ : مِثْلُ الطَّهَارَةِ ، وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ، وَأَشْبَاهٌ لِهَذِهِ وَرَضِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْمَعْرَفِةِ وَالْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ ، وَكَانَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ تَكْذِيبًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ ، وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَصْدِيقًا مِنْهُ لِإِيمَانِهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهَمْ يَتَفَكَّرُونَ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ أَنَّهَا عَلَى هَذَا النَّعْتِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، وَبَيَّنْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ ، الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الْمُتَّقُونَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : سَأَلَ أَبُو ذَرٍّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ.
251 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أنا مَعْمَرٌ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : إِنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ يَحْتَجُّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، وَجَاءَ بِهِ مِنْ طُرُقٍ حَدَّثَنَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْقَلَّاسُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ(1/1)
(252 ) وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ : أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ : يَعْنِي الرَّجُلُ : لَيْسَ عَنِ الْبِرِّ سَأَلْتُكَ ، قَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلْتَنِي ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ كَمَا قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَبَى أَنْ يَرْضَى كَمَا أَبَيْتَ أَنْ تَرْضَى ، فَقَالَ : ادْنُ مِنِّي ، فَدَنَا مِنْهُ ، فَقَالَ : " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَعْمَلُ حَسَنَةً فَتَسُرُّهُ وَيَرْجُو ثَوَابِهَا ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَتَسُوءُهُ وَيَخَافُ عَاقِبَتَهَا " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : اعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ، وَيَا أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَيَا أَهْلَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ ، وَيَا مَعْشَرَ مَنْ فَقَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ ، بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَنَّكُمْ إِنْ تَدَبَّرْتُمُ الْقُرْآنَ ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرَسُولِهِ : الْعَمَلَ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا عَنْهُ وَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الدُّخُولَ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ ، إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَقَرَنَ مَعَ الْإِيمَانِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ، لَمْ يُدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ ، حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ، الَّذِي قَدْ وَفَّقَهُمْ لَهُ ، فَصَارَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ ، وَنَاطِقًا بِلِسَانِهِ ، وَعَامِلًا بِجَوَارِحِهِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَصَفَّحَهُ ، وَجَدَهُ كَمَا ذَكَرْتُ وَاعْلَمُوا رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ أَنِّي قَدْ تَصَفَّحْتُ الْقُرْآنَ فَوَجَدْتُ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُدْخِلِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ ، بَلْ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ، وَبِمَا وَفَقَّهُمْ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ : الْمَعْرِفَةُ , وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ : الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَائِلِ هَذَا فَإِنْ قَالَ : فَاذْكُرْ هَذَا الَّذِي بَيَّنْتُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لِيَسْتَغْنَى غَيْرُكَ عَنِ التَّصَفُّحِ لِلْقُرْآنِ ، قِيلَ لَهُ : نَعَمْ ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِذَلِكَ ، وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا : لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ، لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ : الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ أَيْضًا : لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اعْتَبِرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ بِمَا تَسْمَعُونَ ، لَمْ يُعْطِهِمْ مَوْلَاهُمُ الْكَرِيمُ هَذَا الْخَيْرَ كُلَّهُ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ ، حَتَّى ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ هِجْرَتَهُمْ وَجِهَادَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ قَوْمًا آمَنُوا بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَاذَا قَالَ فِيهِمْ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ، مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمًا آمَنُوا بِمَكَّةَ ، وَأَمْكَنَتْهُمُ الْهِجْرَةُ إِلَيْهَا ، فَلَمْ يُهَاجِرُوا ، فَقَالَ فِيهِمْ قَوْلًا ، هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ثُمَّ عَذَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْهِجْرَةَ وَلَا النُّهُوضَ بَعْدَ إِيمَانِهِ ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا رَدًّا عَلَى الْمُرْجِئَةِ ، الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ ، مَيِّزُوا هَذَا تَفْقَهُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَقَالَ تَعَالَى : الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ، ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ : وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ، خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ أَيْضًا : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه : وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى وَقَالَ تَعَالَى : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَقَالَ تَعَالَى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ : أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ، فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ فَاطِرٍ : الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا إِلَى قَوْلِهِ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم عسق تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ : الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمَيْنَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ : وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً إِلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِلَى قَوْلِهِ مَثْوًى لَهُمْ وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : مَيِّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ قَوْلَ مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ : هَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ قَرَنَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ؟ وَقَالَ تَعَالَى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ حَقِيقَةٌ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ بَطَلَ الْكَلَامُ مِنْ قَائِلِهِ ، وَرُدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا كَلَامٌ طَيِّبٌ أَجَلَّ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَجَلَّ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ"
253 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ : نَا أَبُو عُبَيْدَةَ النَّاجِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ : قَالَ قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّا لَنُحِبُّ رَبَّنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ قُرْآنًا : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فَجَعَلَ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَمًا لِحُبِّهِ ، وَكَذَّبَ مَنْ خَالَفَهُ ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ دَلِيلًا مِنْ عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ ، وَمِنْ عَمَلٍ يُكَذِّبُهُ ، وَإِذَا قَالَ قَوْلًا حَسَنًا ، وَعَمِلَ عَمَلًا حَسَنًا ، رَفَعَ اللَّهُ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ ، وَإِذَا قَالَ قَوْلًا حَسَنًا ، وَعَمِلَ عَمَلًا سَيِّئًا ، رَدَّ اللَّهُ الْقَوْلَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
254 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ : حَدَّثَنَا آدَمُ ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ : فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يَقُولُ : تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ ، وَحَقَّقُوهُ بِالْعَمَلِ(1/2)
255 قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ كَلَامٌ ، وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ ، فَإِنْ لَمْ يُحَقَّقَ الْقَوْلُ بِالْعَمَلِ ، لَمْ يَنْفَعْهُ الْقَوْلُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْهُ ، وَدُخُولَهَمُ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ لَوْ جَمَعْتُهُ , مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ إِلَى قَوْلِهِ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَمِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ ق ، وَالذَّارِيَاتِ ، وَالطُّورِ ، مِثْلَ قَوْلِهِ : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : كُلُّ هَذَا يَدُلُّ الْعَاقِلَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ ، وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ ، كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ ، وَأَنَا بَعْدَ هَذَا أَذْكُرُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَهُمْ بِهَذَا فَقَدْ كَفَرَ
256 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ الْبَلَدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ الْخُرَسَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضِا ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ ، وَيَقِينٌ بِالْقَلْبِ "
257 حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي حَسَّانَ الْأَنْمَاطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : " لَا يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ ، وَلَا عَمَلٌ إِلَّا بِقَوْلٍ ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنَيَّةٍ ، وَلَا نِيَّةٌ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ
258 وَأَخْبَرَنَا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، وَلَا قَوْلَ إِلَّا بِعَمَلٍ ، وَلَا قَوْلَ وَعَمَلَ إِلَّا بِنَيَّةٍ ، وَلَا قَوْلَ وَعَمَلَ وَنِيَّةَ إِلَّا بِسُنَّةٍ "
259 وَأَخْبَرَنَا أَيْضًا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ : عَنِ الْإِيمَانِ ؟ فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَسَأَلْتُ ابْنَ الْجَرِيحِ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " , وَسَأَلْتُ نَافِعَ بْنَ عُمَرَ الْجُمَحِيَّ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " ، وَسَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَسَأَلْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَسَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ : " قَوْلٌ وَعَمَلٌ " ، قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : وَسَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ : " أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، وَالْجَهْمَيَّةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ "
260 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ : فَقُلْتُ لِهِشَامٍ : فَمَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : " الْإِيمَانُ : قَوْلٌ وَعَمَلٌ " وَكَانَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفِيُّ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ " . قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ : وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ " قَالَ يَحْيَى : وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ " ، قَالَ : وَكَانَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ "
261 وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلِيمَةُ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : سَمِعْتُ مَعْمَرًا ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ ، وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، وَابْنَ جَرِيجٍ ، وَسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُونَ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ "
262 حَدَّثَنَا ابْنُ مَخْلَدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَالَ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ
263 قَالَ أَحْمَدُ : وَبَلَغَنِي أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَابْنَ جُرَيْجٍ ، وَفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالُوا : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ "
264 وَحَدَّثَنَا ابْنُ مَخْلَدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَمَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ " قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَمَّاسٍ : وَسَأَلْتُ بَقِيَّةَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ فَقَالَا : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ " قَالَ إِبْرَاهِيمُ : وَسَأَلْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْفَزَارِيَّ فَقُلْتُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ " قَالَ : وَسَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ "
265 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ قَالَ : سَمِعْتُ الْمُؤَمَّلَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيمَا ذَكَرْتُهُ مُقَنِعٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْخَيْرَ ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ لَهُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِالْعَمَلِ هَذَا هُوَ الدِّينُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"
وفي السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ :
964 وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَمَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ ؟ قَالَ : " مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، فَهُوَ مُرْجِئٌ " ، قَالَ : وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ الْإِرْجَاءِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : " مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، فَهُوَ مُرْجِئٌ . وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ تَقُولَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ " . وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ : تَرَى الْإِرْجَاءَ ؟ قَالَ : " أَنَا أَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، وَكَيْفَ أَكُونُ مُرْجِئًا "
وفي السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ :
الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي زِيَادَةِ الْعَمَلِ وَنُقْصَانِهِ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنَ النِّيَّةِ مَعَ الْإِقْرَارِ ، كَذَا يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
1005 أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيُّ ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، وَعَمَلٌ ، وَنِيَّةٌ ؟ فَقَالَ لِي : " كَيْفَ يَكُونُ بِلَا نِيَّةٍ ، نَعَمْ ، قَوْلٌ ، وَعَمَلٌ ، وَنِيَّةٌ ، لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ ، قَالَ لِي : النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ "
1006 أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ ، أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ ، وَعَمَلٌ ، وَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ "
1007 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقَلْبِ ، يُتَفَاضَلُ فِيهِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : وَيَزِيدُ ؟ قَالَ : " نَعَمْ "
1008 أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ يُوسُفَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ ، قَالَ : قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ : " يَتَفَاضَلُ ، كَلِمَةٌ أَحْسَنُ مِنْ كَلِمَةٍ "
1009 وَأَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ ، قَالَ : ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، قَالَ : ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ ، قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : " الْإِيمَانُ : الْمَعْرِفَةُ ، وَالْإِقْرَارُ ، وَالْعَمَلُ "
1010 أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنْ يَعْقُوبَ بْنَ بُخْتَانَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ ، تَزِيدُ وَتَنْقُصُ ؟ قَالَ : " لَا ، قَدْ جِئْنَا بِالْقَوْلِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَبَقِيَ الْعَمَلُ "
1011 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَ : ثَنَا صَالِحٌ ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ : " الْإِيمَانُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، وَزِيَادَتُهُ فِي الْعَمَلِ ، وَنُقْصَانُهُ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ مَقْرَبَةٌ "
1012 أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ سَهْلٍ ، قَالَ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَسَدِيُّ ، قَالَ : ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ قَالَ : " هَذَا بَرِيءٌ مِنَ الْإِرْجَاءِ "
1013 وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ الْمَيْمُونِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ ، وَحَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ وَاصِلٍ ، وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ كُلُّهُمْ يَقُولُ : إِنَّهُ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ، قَالَ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ "
1014 وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ ، أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ "
1015 أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ ، قَالَ : قَالَ يَحْيَى : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ "
1016 أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْهَيْثَمِ ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى حَدَّثَهُمْ ، سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، إِذَا عَمِلْتَ الْخَيْرَ زَادَ ، وَإِذَا ضَيَّعْتَ نَقَصَ "
1017 أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ ، قَالَ : سَمِعْتُ الزُّبَيْرِيَّ أَبَا عُثْمَانَ صَاحِبَ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ "
----------------
وفي حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (9680 ) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَيُّوبَ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ ، وَقَالَ : سَمِعْتُ الْمُؤَمَّلَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ ، يَقُولُ : قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : " خَالَفَتْنَا الْمُرْجِئَةُ فِي ثَلَاثٍ : نَحْنُ نَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , وَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ , وَنَحْنُ نَقُولُ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ , وَهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ , وَنَحْنُ نَقُولُ : نَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِالْإِقْرَارِ , وَهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ مُؤْمِنُونَ عِنْدَ اللَّهِ "
(10870 ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ ، يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , فَقِيلَ لَهُ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ , حَتَّى لَا يَبْقَى مِثْلُ هَذَا , وَرَفَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ وَقَرَأَ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا "
(13648 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ حَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَهَازِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ ، يَقُولُ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا الْآيَةَ "
----------------
وفي الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ -بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِيمَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي بَعْضُهَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَبَعْضُهَا بِاللِّسَانِ وَبَعْضُهَا بِهِمَا وَسَائِرِ الْبَدَنِ ، وَبَعْضُهَا بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَبِالْمَالِ ، وَفِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَمْ يَذْكُرُهُ ، وَأَخْبَرَ بِزِيَادَةِ إِيمَانِهِمْ بِتِلَاوَةِ آيَاتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الْإِيمَانِ ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَإِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ قَبِلَ النُّقْصَانَ ، وَبهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَجْمَعُ الطَّاعَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَأَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
1 - فَقِسْمٌ يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ ، وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا اعْتَقَدَهُ .
2 - وَقِسْمٌ يَفْسُقُ بِتَرْكِهِ أَوْ يَعْصِي وَلَا يَكْفُرُ بِهِ إِذَا لَمْ يَجْحَدْهُ وَهُوَ مَفْرُوضُ الطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ .
3 - وَقِسْمٌ يَكُونُ بِتَرْكِهِ مُخْطِئًا لِلْأَفْضَلِ غَيْرَ فَاسِقٍ وَلَا كَافِرٍ ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَطَوُّعًا وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِيمَانًا : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَمِيعُ ذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ ، وَكُلُّ طَاعَةٍ تَصْدِيقٌ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطِيعُ مَنْ لَا يُثْبِتُهُ وَلَا يُثْبِتُ أَمْرَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الِاعْتِقَادُ دُونَ الْإِقْرَارِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِسَائِرِ الطَّاعَاتِ إِيمَانٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَيَكُونُ التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ إِثْبَاتَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِوُجُودِهِ ، وَالتَّصْدِيقُ لَهُ قَبُولَ شَرَائِعِهِ وَاتِّبَاعَ فَرَائِضِهِ عَلَى أَنَّهَا صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ وَعَدْلٌ ، وَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّصْدِيقُ لَهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا بَيَانَهُ وَدَلِيلَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ
127 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى ، قَالَا : ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، قَالَ : نا أَبُو عَامِرٍ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتَ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وَرَوَاهُ أَيْضًا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَتَمُّ مِنْهُ ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ سَمَّى صَلَاتَهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِيمَانًا ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الطَّاعَاتِ ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورَ إِيمَانًا فَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ " الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ "
128 حَدَّثَنَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ يُوسُفَ ، قَالَ ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ السَّكَنِ ، قَالَ ، ثنا عَفَّانُ ، قَالَ : نا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ ، قَالَ : عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ " وَسَمَّى فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ، وَصومَ رَمَضَانَ ، وَحَجَّ الْبَيْتِ ، وَإِعَطَاءَ الْخُمُسِ إِيمَانًا "
129 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ الدَّقَّاقُ بِبَغْدَادَ قَالَ : نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُرْفِيُّ ، قَالَ : نا أَبُو قِلَابَةَ ، قَالَ : ثنا أَبُو زَيْدٍ الْهَرَوِيُّ ، قَالَ : ثنا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضَّبْعِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَرْحبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ الْخَزَايَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا ، قَالَ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنْ تُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَتَصُومُوا رَمَضَانَ وَتَحُجُّوا الْبَيْتَ ، قَالَ : وَأَحْسَبُهُ قَالَ : وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ " وَسَمَّى شُعَبَ الدِّينِ كَلَّهَا إِيمَانًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "(1/3)
130 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ السُّكَّرِيُّ بِبَغْدَادَ قَالَ : أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ ، قَالَ : نا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّرْقُفِيُّ ، قَالَ : نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ "
131 أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ ، قَالَ : أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ ، قَالَ : نا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ ، قَالَ : نا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ ، قَالَ : نا الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا ؟ قَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، وَرَجُلٌ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ قَدْ كُفِيَ النَّاسُ شَرَّهُ "
132 أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْبَزَّارُ بِبَغْدَادَ قَالَ : أنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَاكِهِيُّ ، بِمَكَّةَ قَالَ : نا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ ، قَالَ : نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ ، قَالَ : نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ ، قَالَ : نا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَوْلُهُ " أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا " أَرَادَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ " مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا " جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا لَفْظٌ سَائِغٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، يَقُولُونَ : أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ ، وَمُرَادُهُمْ بِهِ : مِنْ أَكْمَلِ وَمِنْ أَفْضَلِ
133 أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ ، قَالَ : أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ ، قَالَ : نا أَبُو دَاوُدَ ، قَالَ : نا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ " وَرَوَاهُ سَهْلُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ " وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ "
134 أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ ، قَالَ : نا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ ، قَالَ : ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّعْدِيُّ ، قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ : ثنا الْأَعْمَشُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيَفْعَلْ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضعفُ الْإِيمَانِ "
135 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ حِمِّشَاذٍ الْعَدْلُ قَالَ : نا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْمُجَوِّزُ قَالَ : نا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : ثنا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ : نا قَتَادَةُ قَالَ : نا أَنَسٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَزِنُ بُرَّةً "
136 وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ " وَالْأَحَادِيثُ فِي تَسْمِيَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إِيمَانًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ عِبَارَتَانِ عَنْ دِينٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ سِوَى مَا ذَكَرْنَا كَثِيرَةٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا كِفَايَةٌ ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، ثُمَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ، وَعُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ ، وَجُنْدُبٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ ، عَنْ جَمَاعَةٍ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَرُوِّينَاهُ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ "
137 أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ ، قَالَ : نا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَوَيْهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سِنَانٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : نا أَبُو سِنَانٍ الرَّازِيًّ قَالَ : نا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، قَالَا ، نا أَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ ، قَالَ : نا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا ، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ ، عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ ، مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ " تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ وَغَيْرُهُ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "
138 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ بأَسَدِ أَبَادَ قَالَ : حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْأَحَدِ قَالَ : ثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ . قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ فَقَدْ كَانَ يَسْتَثْنِي جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَإِنَّمَا رَجَعَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ إِلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَإِلَى بَقَائِهِمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ فِي ثَانِي الْحَالِ فَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ فَكَانُوا لَا يَشُكُّونَ فِي وُجُودِهِ فِي الْحَالِ ، وَبِأَنَّ تَغَيُّرَ حَالِ إِنْسَانٍ فِي الْإِيمَانِ لَمْ يَمْنَعْ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهِ فِي الْحَالِ قَبْلِ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ "
139 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ ، قَالَ : أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ شَادِلَ الْهَاشِمِيُّ قَالَ : نا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْمُقْرِئُ الزَّاهِدُ ، قَالَ : نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْحِمْصيُّ ، قَالَ : ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، عَنْ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ ، عَنِ الْإِيمَانِ ، فَقَالَ : الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ ، فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَتَوقَّفِ الْحَسَنُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا تَوقَّفَ فِي كَمَالِهِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ "
140 وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ قَالَ : نا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمِهْرَجَانِيُّ ، قَالَ : نا دَاوُدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الْمَرْوَزِيَّ ، وَسَعِيدَ بْنَ يَعْقُوبَ ، قَالَا : نا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ ، يَقُولُ : قَدْ خَالَفْنَا الْمُرْجِئَةَ فِي ثَلَاثٍ ، نَحْنُ نَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَهُمْ يَقُولُونَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : أَهْلُ الْقِبْلَةِ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ أَمَّا عِنْدَ اللَّهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنُونَ فَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِكَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي فِي ثَانِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ حَالُ الْعَبْدِ ثُمَّ يَمُوتُ عَلَيْهِ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ فَنَكِلُ الْأَمْرَ فِيمَا لَا نَعْلَمُهُ إِلَى عَالِمِهِ خَوْفًا مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَنَسْتَثْنِي عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَنَرْجُو مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتْنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي جَرَيَانِ الْقَلَمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَرُجُوعُ كُلِّ إِنسَانٍ إِلَى مَا كُتِبَ لَهُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فَمَوْتُهُ عَلَيْهِ مَانِعَةٌ مِنْ قَطْعِ الْقَوْلِ بِمَا يَكُونُ فِي الْعَاقِبَةِ حَامِلَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَعَلَى الْخَوْفِ مِنْ تَبَدُّلِ الْحَالَةِ ، وَاللَّهُ يَعْصِمُنَا مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ"
141 أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الْإِسْفَرَائِينِيُّ بِهَا قَالَ : أنا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي ، قَالَ : نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ ، وَهُدْبَةُ ، قَالَ : نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَمَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَاتَ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ . وَشَوَاهِدُ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ " وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ قَالَ : " فَقَالُوا : نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "
وفي صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 384) (166) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَزْدِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ، فَأَرْفَعُهَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، فَجَعَلَهُ أَعْلَى الإِيمَانِ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ نَفْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ ، فَجَعَلَهُ أَدْنَى الإِيمَانِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَرْضٌ عَلَى بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، وَكُلَّ شَيْءٍ هُوَ نَفْلٌ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الأَحْوَالِ ، كُلُّهُ مِنَ الإِيمَانِ.
وفي صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 387) : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ أَجْزَاءٌ بِشُعَبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خَبَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ : الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً : أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ شُعَبِهِ ، هِيَ كُلُّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ، لأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ : وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، وَالإِيمَانُ بِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ أَجْزَاءِ هَذِهِ الشُّعْبَةِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا ، حَيْثُ قَالَ : أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَائِرَ الأَجْزَاءِ مِنْ هَذِهِ الشُّعْبَةِ كُلُّهَا مِنَ الإِيمَانِ ، ثُمَّ عَطَفَ فَقَالَ : وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، فَذَكَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ شُعَبِهِ هِيَ نَفْلٌ كُلُّهَا لِلْمُخَاطَبِينَ فِي كُلِّ الأَوْقَاتِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذِهِ الشُّعْبَةِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشُّعَبِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَيْنِ الْجُزْأَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْخَبَرِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْلَى الإِيمَانِ وَأَدْنَاهُ كُلُّهُ مِنَ الإِيمَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ، فَهُوَ لَفْظَةٌ أُطْلِقَتْ عَلَى شَيْءٍ بِكِنَايَةِ سَبَبِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَاءَ جِبِلَّةٌ فِي الإِنْسَانِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُكْثِرُ فِيهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِيهِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ ، لأَنَّ النَّاسَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحَيَاءِ. فَلَمَّا اسْتَحَالَ اسْتِوَاؤُهُمْ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ ، صَحَّ أَنَّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ أَكْثَرُ ، كَانَ إِيمَانُهُ أَزِيدَ ، وَمَنْ وُجِدَ فِيهِ مِنْهُ أَقَلُّ ، كَانَ إِيمَانُهُ أَنْقَصَ. وَالْحَيَاءُ فِي نَفْسِهِ : هُوَ الشَّيْءُ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ مَا يُبَاعِدُهُ مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ تَرْكَ الْمَحْظُورَاتِ شُعْبَةً مِنَ الإِيمَانِ بِإِطْلاَقِ اسْمِ الْحَيَاءِ عَلَيْهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ."
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن الكريم
1- البشارة العظيمة لهم
قال تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة 25]
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا ، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ . . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا ( أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا ) . وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا : هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ . والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً ، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً ، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة ، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل ، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة . . وهي ترسم جواً من الدعابة الحلوة ، والرضى السابغ ، والتفكه الجميل ، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة ، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
وهذا التشابه في الشكل ، والتنوع في المزية ، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى ، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره . ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفاً لهذه الحقيقة الكبيرة . . الناس كلهم ناس ، من ناحية قاعدة التكوين : رأس وجسم وأطراف . لحم ودم وعظام وأعصاب . عينان وأذنان وفم ولسان . خلايا حية من نوع الخلايا الحية . تركيب متشابه في الشكل والمادة . . ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ أحياناً أبعد مما بين الأرض والسماء!
ــــــــــــــــ(1/4)
2-لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين (1)
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة 62]
( هذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بالآية 95 مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ ) يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى ، أَنَّ أَهْلَ المِلَلِ السَّابِقَةِ لاَ يُضَيِّعُ اللهُ إِيمَانَهُمْ ، وَلا يَبْخَسُهُمْ ثَوابَ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَيَسْتَ/ِرُّ ذّلِكَ جَائِزاً حَتَّى ظُهُورِ النَّبِيِّ الذِي يَلي نَبِيَّهُمْ . فَاليَهُودُ الذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، لاَ يُبْخَسُونَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِم الخَيِّرَةِ حَتَّى بُعِثَ عِيسَى ، عَلِيهِ السَّلاَمُ . والنَّصَارَى الذِينَ أَحْسَنُوا العَمَلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم . فَالمَفْرُوضُ أَنْ يُؤْمِنَ أَتْبَاعُ الدِّينِ السَّابِقِ بِالنَّبِيِّ الجَدِيدِ ( الذِينَ عَاصَرُوهُ وَالذِينَ جَاؤُوا بَعْدَهُ ) .
وقال السعدي : "وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة، لأن الصابئين، الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة، واليهود والنصارى، والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر، وصدقوا رسلهم، فإن لهم الأجر العظيم والأمن، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر، فهو بضد هذه الحال، فعليه الخوف والحزن.
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف، من حيث هم، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم، لأنه تنزيل مَنْ يعلم الأشياء قبل وجودها، ومَنْ رحمته وسعت كل شيء.
وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها، ليتضح الحق، ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين."
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين . والذين هادوا هم اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله ، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم اتباع عيسى - عليه السلام - والصابئون : الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة ، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام ، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها ، فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا : إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم ، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم .
فقال عنهم المشركون : إنهم صبأوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك . ومن ثم سموا الصابئة . وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير .
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعاً وعمل صالحاً ، فإن لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فالعبرة بحقيقة العقيدة ، لا بعصبية جنس أو قوم . . وذلك طبعاً قبل البعثة المحمدية . أما بعدها فقد تحدد شكل الإيمان الأخير .
ــــــــــــــــ(1/5)
3- هم أصحاب الجنة
قال تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 82)} [البقرة]
كَانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ : إِنَّهُم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، يُؤَاخِذهُمْ مُؤَاخَذَةَ الأَبِ لابْنِهِ ، بِرْفْقٍ وَحَنَانٍ ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ، ثُمَّ يَرْضى الله عَنْهُم فَيَنْجُونَ مِنَ العَذَابِ وَمِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، مَهْمَا كَانَتْ ذَنَوبُهُمْ عَظِيمَةً .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ قَائِلاً : أَحَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ وَوَحْيٍ وَخَبرٍ صَادِقٍ بِذلِكَ مِنَ اللهِ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ حَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ فَإِنَّ اللهَ لا يُخْلِف عَهْدَهُ وَوَعْدَهٌ أَبَداً ، وَلكِنَّ ذلِكَ لَمْ يَقَعْ ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنَ اللهِ عَهْدٌ لِلْيَهُودِ ، وَإِنَّكُمْ مُفْتَرُونَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيئاً لاَ عِلْمَ لَكُمْ بِهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْيَهُود : لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيتُم ، وَلاَ كَمَا تَشْتَهُونَ ، بَلِ الأَمْرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَضَى بِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ، وَأَتَى رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَقَدْ أَثْقَلَتْهُ خَطَايَاهُ وَآثَامُهُ ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ ، وَلاَ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ خَطَايَاهُ إِلَى اللهِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَيَبْقَى فِيهَا خَالِداً .أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَأَدَّوُا الوَاجِبَاتِ ، وانتَهَوا عَنِ المَعَاصِي فَهؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيها أَبَداً . فَدُخُولُ الجَنَّةِ مَنُوطٌ بِالإِيمَانِ الصَّحِيحِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ مَعاً .
وقال السعدي : "ذكر أفعالهم القبيحة، ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، أي: قليلة تعد بالأصابع، فجمعوا بين الإساءة والأمن.ولما كان هذا مجرد دعوى، رد الله تعالى عليهم فقال: { قُلْ } لهم يا أيها الرسول { أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا } أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته، فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل. { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا، فتكون دعواهم صحيحة.
وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا، لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء، حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون، قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم، من أعظم المحرمات، وأشنع القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد، يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم، وهو الحكم الذي لا حكم غيره، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين، فقال: { بَلَى } أي: ليس الأمر كما ذكرتم، فإنه قول لا حقيقة له، ولكن { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } وهو نكرة في سياق الشرط، فيعم الشرك فما دونه، والمراد به هنا الشرك، بدليل قوله: { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي: أحاطت بعاملها، فلم تدع له منفذا، وهذا لا يكون إلا الشرك، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته.
{ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية، وهي حجة عليهم كما ترى، فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مبطل يحتج بآية، أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، متبعا بها سنة رسوله.
فحاصل هاتين الآيتين، أن أهل النجاة والفوز، هم أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله، الكافرون به."
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة : { أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ } . . فأين هو هذا العهد؟ { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } . . وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير . ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ!
هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى ، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي ، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان : إن الجزاء من جنس العمل ، ووفق هذا العمل .
{ بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } . .ولا بد أن نقف قليلاً أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة ، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره : { بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته . . } . .
الخطيئة كسب؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة . ولكن التعبير يومئ إلى حالة نفسية معروفة . . إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها؛ ويحسبها كسباً له - على معنى من المعاني - ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها ، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا ، وما تركها تملأ عليه نفسه ، وتحيط بعالمه؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها - حتى لو اندفع لارتكابها - وأن يستغفر منها ، ويلوذ إلى كنف غير كنفها .
وفي هذه الحالة لا تحيط به ، ولا تملأ عليه عالمه ، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير . . وفي التعبير : { وأحاطت به خطيئته } . . تجسيم لهذا المعنى . وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني ، وسمة واضحة من سماته؛ تجعل له وقعاً في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة ، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة . وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته : يعيش في إطارها ، ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها .
عندئذ . . عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة . . عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم :{ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . .
ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم .{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } . .فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح . . وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان . . وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنا مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة : أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح . فأما الذين يقولون : إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض ، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض ، وشريعته في الحياة ، وأخلاقه في المجتمع ، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء ، وليس لهم من ثواب الله شيء ، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني كأمانيّ اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان .
ــــــــــــــــ(1/6)
4-لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين (2)
قال تعالى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة]
بَعْدَ أنْ ذَكَر اللهُ تَعَالَى الإِنفَاقَ فِي سَبيلِ اللهِ ، وَالتَّصَدُّقَ عَلَى عِبَادِهِ ، وَإخْراجَ الزَّكَاةِ ، شَرَعَ فِي عَرْضِ حَالِ أكِلِي الرِّبا ، وَأمْوالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ، وَأَنْوَاعِ الشُّبُهَاتِ ، فَأخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ ، يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ ، فَقَالَ عَنْهُم : إنَّهُم لاَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلاّ قِياماً مُنْكَراً ، كَمَا يَقُومُ المَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَأكْلُهُمُ الرِّبَا هَذا قائِمٌ عَلى اسْتِحلاَلِهِمْ لَهُ ، وَجَعْلِهِ كَالبَيْعِ ، فَيَقُولُونَ : كَمَا يَجُوزُ أنْ يَبيعَ الإِنْسَانُ سِلعَتَهُ التِي ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَراهِمَ عَلَى أنْ يَرُدَّهَا عَلَيهِ عِشْرِينَ دِرْهَماً بَعْدَ سَنَةٍ ، فَالسَّبَبُ فِي رَأيِهِمْ وَاحِدٌ فِي كُلٍّ مِنَ الزِّيَادَتَيْنِ ، وَهُوَ الأجَلُ .هَذِهِ هِيَ حُجَّةُ آكِلِي الرِّبا وَهُمْ وَاهِمُونَ فِيمَا قَالُوهُ ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ ، لأنَّ البَيْعَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ لأَنَّهُ يُلاحَظُ فِيهِ انْتِفاعُ المُشْتَرِي بِالشَّيْءِ انْتِفَاعاً حَقِيقيّاً .
أمَّا الرِّبا فَهُوَ إعْطَاءُ الدَّراهِم وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأخْذُها مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ . فَمَا يُؤخَذُ مِنَ المَدِينِ زِيَادَةً في رَأسِ المَالِ لاَ مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلاَ عَمَل . فَمَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللهِ عَنِ الرِّبا ، فَانْتَهى عَنِ الرِّبا فَلَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا أكَلَهُ مِنَ الرِّبا قَبْلَ التَّحْرِيم ، وَمَا سَبَقَ لَهُ أنْ أخَذَهُ أَيَّامَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَأمْرُه مَرْدُودٌ إلى اللهِ . وَمَنْ عَادَ إلى الرِّبا ، بَعْدَ أنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنْهُ ، فَقَدِ اسْتَوْجَبَ العُقُوبَةَ مِنَ اللهِ ، وَالخُلُودَ في نَارِ جَهَنَّمَ .الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ - أي المَصْرُوعُ . وَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أنَّ الشَيْطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ .
مَرَاحِلُ تَحْرِيمِ الرِّبا فِي القُرْآنِ :
كَمَا مَرَّ تَحْرِيمُ الخَمْرِ فِي مَرَاحِلَ ، كَذَلِكَ مَرَّ تَحْرِيمُ الرِّبا فِي أرْبَعِ مَرَاحِلَ مُتَدَرِّجَةٍ :
1- فِي المَرْحَلَةِ الأولى - قَالَ الله تَعَالَى فِي الآيةِ المَكِّيَّةِ { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله } أيْ إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيةِ إنَّ الرِّبا لاَ ثَوَابَ فِيهِ عِنْدَ اللهِ .
2- وَفِي المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ - ألْقىَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُسْلِمِينَ دَرْساً وَعِبْرَةً مِنْ سِيرَةِ اليَهُودِ الذِينَ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ أكْلَ الرِّبَا فَأكَلُوهُ ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِمَعْصِيَتِهِمْ .
فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً . } كَمَا جَاءَ بَعْدَهَا { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً . } وَهَذِهِ العِبْرَةُ لاَ يَكُونُ لَهَا أثَرٌ إلاَّ إذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهَا نَوْعٌ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبا عَلَى المُسْلِمينَ . وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذا المَوْضِعِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنِ الرِّبا ، وَلكِنَّهُ أُلْمِحَ إلَيهِ .
3- المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ - وَلَمْ يَجِيءِ النَّهْيُ الصَّرِيحُ إلاَّ فِي المَرْحَلَةِ الثَّالِثَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ إلاَّ نَهْياً جزْئِياً عَنِ الرِّبا الفَاحِشِ الذِي يَتَزَايَدُ حَتَّى يَصِيرَ أضْعَافاً مُضَاعَفَةً .{ يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً . } - المَرْحَلَةُ الرَابِعَةُ - وَفِي المَرْحَلَةِ الرَابِعَةِ وَالأخِيرَةِ خُتِمَ التَّشْرِيعُ القُرْآنِيُّ كُلُّهُ بِالنَّهِي الحَاسِمِ عَنْ كُلِ مَا يَزِيدُ عَلَى رَأسِ مَالِ الدَّيْنِ .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ . } وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " إيَّاكَ وَالذُّنوبَ التِي لاَ تُغْفَرُ : الغُلُولُ فَمَنْ غَلًّ شَيْئاً أَتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ والرِّبا ، فَمَنْ أكَلَ الرِّبا بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُجْنُوناً يُتَخَبَّطُ " .
وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُحِبُّ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى ارتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَعَلَى تَحْلِيلِها ، وَلاَ يُحِبُّ الذِينَ لاَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبا ، وَيُذْهِبُ مِنْ يَدِ آكِلِهِ بَرَكَةَ مَالِهِ ، وَيُهْلِكُ المَالَ الذِي دَخَلَ فِيهِ الرِّبا ، فَلاَ يَنْتَفِعُ بِهِ أحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَنَّهُ يُضَاعِفُ ثَوَابَ الصَّدَقَاتِ ، وَيَزِيدُ المَالَ الذي أُخْرِجَتْ مِنْهُ ، وَيُعَاقِبُ آكِلَ الرِّبا يَوْمَ القِيَامَةِ . وَاللهُ لا يُحِبُّ الكَفُورَ المُتَمَادِي فِي كُفْرِ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيهِ مِنْ مَالٍ ، لأنَّهُ لا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبيلِهِ ، وَلاَ يُحِبُّ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى تَحْليلِ المُحَرَّمَاتِ ، وَلاَ الذِينَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ارْتِكَابِها .
يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنيِنَ المُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، المُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ، وَعَامِلِي الصَّالِحَاتِ وَالمُزَكِّينَ ، وَيُخْبرُ عَنْهُمْ أنَّهُ يَحْفَظُ لَهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ لاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ فِي الدُّنيا .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ ، المُصَدِّقِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، بِالتَّقْوى ، فَيَقُولُ لَهُمْ : اتَّقُوا اللهَ وَاتْرُكُوا مَا لَكُمْ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الرِّبا ( أَيْ مَا يَزيدُ عَلَى رُؤُوسِ أَمْوالِكُمْ ) إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً بِمَا شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ البَيْعِ ، وَتَحْرِيمِ الرِّبا ، وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَأنْذَرَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ لاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا عِنْدَ النَّاسِ ، بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ لخُرُوجِهِمْ عَنِ الشَّرْعِ ، وَعَدَمِ خَضُوعِهِمْ لَهُ ، فَإنْ تَابُوا فَلَهُمْ رُؤُوسُ أمْوَالِهِمْ بِدُونِ زِيَادَةٍ ، لاَ يَظْلِمُونَ بِأخْذِ زِيادَةٍ ، وَلاَ يُظْلَمُونَ بِوَضْعِ شَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ .
فَإنْ كَانَ المَدِينُ مُعْسِراً لاَ يَجِدُ وَفَاءَ دَيْنِهِ ، فَإنَّ اللهَ يَأمُرُ الدَّائِنَ بِنَظِرَتِهِ إلى حِينِ مَيْسَرَتِهِ ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ مَا عَلَيهِ . وَإِنْ تَصَدَّقَ الدَّائِنُ عَلَى المَدِينِ المُعْسِرِ بِشَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ ، أوْ بِرَأسِ المَالِ كُلِّهِ ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ . وَقَدْ وَرَدَتْ أحَادِيثُ كَثِيرةٌ فِي الحَثِّ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةِ المُكْرُوبِ وَالتَّجَاوُزِ عَنِ المُعْسِرِ .
وَاحْذَرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَلِكَ اليَوْمَ العَظِيمَ ، يَوْمَ القِيَامَةِ الذِي تَتَفَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ مَشَاغِلِكُمُ الجَسَدِيَّة وَالدُّنْيَويَّةِ التِي كَانَتْ تَصْرِفُكُمْ عَنْ رَبِّكُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَيُجَازِي اللهُ كُلا ًبِعَمَلِهِ ، إنْ خَيْراً فَخَيْراً ، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً ، وَلا تُنْقَصُ نَفْسٌ مِنْ ثَوَابِها ، وَلاَ يُزَادُ فِي عِقَابِهَا .
------------------
وقال السعدي : "يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.
ثم قال تعالى: { يمحق الله الربا } أي: يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار { ويربي الصدقات } أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده { والله لا يحب كل كفار } لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله { أثيم } أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته.
لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر { وإن تبتم } عن الربا { فلكم رءوس أموالكم } أي: أنزلوا عليها { لا تظلمون } من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا { ولا تظلمون } بنقص رءوس أموالكم.
{ وإن كان } المدين { ذو عسرة } لا يجد وفاء { فنظرة إلى ميسرة } وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } إما بإسقاطها أو بعضها.
{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك."
-------------------
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ; والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه , وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية , والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار .ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة , وحرب الأعصاب , والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !
إنها الشقوة البائسة المنكودة , التي لا تزيلها الحضارة المادية , ولا الرخاء المادي , ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ?
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا , وفي السويد , وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي "التقاليع" الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ?
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . من الاطمئنان إلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله , وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين , القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف , يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ; ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بهاالجميع ; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ; والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين , وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !
إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة , ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ; وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ; كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة , والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه , والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم , وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية , هم الذين لا يريدون أن يروا , لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ; فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
ــــــــــــــــ(1/7)
5-توفية أجورهم كاملة
قال تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 57)} [أل عمران]
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ فِيمَا تَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ إذْ بَشَّرَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى بِأَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ مِنْ مَكْرِ اليَهُودِ ، وَأنَّهُ سَيَسْتَوفِي أجَلَهُ ، وَأنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِمَكْرِهِمْ وَخُبْثِهِمْ ، وَأنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفيعٍ عِنْدَ اللهِ ، وَأنَّّهُ سَيَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا بِأنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه ، وَصَدَّقُوهُ فِي قَوْلِهِ { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَد } ثُمَّ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، ظَاهِرِينَ بِالقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى الذِينَ مَكَرُوا بِهِ وَكَذَّبُوهُ ، مِنَ اليَهودِ ، وَمَنْ سَارُوا بِسيرَتِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهُدَى عِيسَى ، وَسَيَسْتَمِرُّ هَذَا الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ . ثُمَّ يَصيرُ الجَمِيعُ إلى اللهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أمُورِ الدِّينِ .
وقال السعدي : "وقالوا: { آمنا بالله } { فاكتبنا مع الشاهدين } أي: الشهادة النافعة، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك، فلما قاموا مع عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، فلهذا قال تعالى هنا { ومكروا } أي: الكفار بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره { ومكر الله } بهم جزاء لهم على مكرهم { والله خير الماكرين } رد الله كيدهم في نحورهم، فانقلبوا خاسرين.
{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه، وألقي شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال الله { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم، وكان الله عزيزا قويا قاهرا، ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام، كما قال تعالى { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } حكيم يضع الأشياء مواضعها، وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل، فوقعوا في الشبه كما قال تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } ثم قال تعالى: { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين، ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم { ثم إلي مرجعكم } أي: مصير الخلائق كلها { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب وغيره مخطئ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل، فقال { فأما الذين كفروا } أي: بالله وآياته ورسله { فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة } أما عذاب الدنيا، فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل والذل، وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الآخرة، وأما عذاب الآخرة فهو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، ألا وهو عذاب النار وغضب الجبار وحرمانهم ثواب الأبرار { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من عذاب الله، لا من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، ولا ما اتخذوهم أولياء من دونه، ولا أصدقائهم وأقربائهم، ولا أنفسهم ينصرون.
{ وأما الذين آمنوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير ذلك مما أمر الله بالإيمان به { وعملوا الصالحات } القلبية والقولية والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون، وقصدوا بها رضا رب العالمين { فيوفيهم أجورهم } دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب لأعمالهم من الإكرام والإعزاز والنصر والحياة الطيبة، وإنما توفية الأجور يوم القيامة، يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا، فيعطي منهم كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه { والله لا يحب الظالمين } بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه.
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } وهذا منة عظيمة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم، المحكم المتقن، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء الأقدمين، وما أجرى الله على أيديهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات، فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام، فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد " .
فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح . . الإسلام . . الذي عرف حقيقته كل نبي ، وجاء به كل رسول ، وآمن به كل من آمن حقاً بدين الله . . وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله . . كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الاتباع . . ودين الله واحد . وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول . والذين يتبعون محمداً - صلى الله عليه وسلم - هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم . من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر الزمان .
وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة ، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق .
فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين ، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام : { ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون . فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين . وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم . والله لا يحب الظالمين } . .
وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء ، وللقسط الذي لا يميل شعرة ، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء . . رجعة إلى الله لا محيد عنها . وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له . وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه . وتوفية للأجر للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا محاباة فيه ولا بخس . . { والله لا يحب الظالمين } . . فحاشا أن يظلم وهو لا يحب الظالمين . .
وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات . وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة . . باطل باطل لا يقوم على أساس .
ــــــــــــــــ(1/8)
6-دخول الجنات (1)
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ( 57)} [النساء]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُ الكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللهِ وَبِرُسُلِهِ ، بِإِحْرَاقِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَكُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ أَبْدَلَهُمْ غَيْرَها لِيَسْتَمِرُّوا فِي تَحَسُّسِ العَذَابِ وَآلامِهِ ، وَاللهُ عَزِيزٌ لاَ يَتَحَدَّاهُ أَحَدٌ ، حَكِيمٌ فِي تَصَرُّفِهِ ، يَعْرِفُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعُقُوبَةِ فَيُعَاقِبُهُ ، وَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْثَّوَابِ فَيُثِيبُهُ .
وَالذِينَ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَإنَّ اللهَ سَيُثِيبُهُمْ عَلَى إيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحُ ، بِإدْخَالِهِمُ الجَنَّةَ التِي تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مِنَ الحَيْضِ وَالدَّنَسِ وَالأَذَى ، وَالأَخْلاَقِ الرَذِيلَةِ ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَة ، وَيُدخِلُهُمْ فِي ظِلٍّ وَارِفٍ كَثِيفٍ لاَ حَرَّ فِيهِ وَلاَ قَرَّ .
إنه مشهد لا يكاد ينتهي . مشهد شاخص متكرر . يشخص له الخيال ، ولا ينصرف عنه! إنه الهول . وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد . . « كلما » . . ويرسمه كذلك عنيفاً مفزعاً بشطر جملة . . { كلما نضجت جلودهم } . . ويرسمه عجيباً خارقاً للمألوف بتكملة الجملة . . { بدلناهم جلوداً غيرها } . . ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد!
ذلك جزاء الكفر - وقد تهيأت أسباب الإيمان - وهو مقصود .وهو جزاء وفاق :{ ليذوقوا العذاب } . .
ذلك ، أن الله قادر على الجزاء . حكيم في توقيعه : { إن الله كان عزيزاً حكيماً } . .
وفي مقابل هذا السعير المتأجج . وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة . . كلما نضجت بدلت . ليعود الاحتراق من جديد . ويعود الألم من جديد . في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف . . نجد { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } في جنات ندية : { تجري من تحتها الأنهار } : ونجد في المشهد ثباتاً وخلوداً مطمئناً أكيداً : { خالدين فيها أبداً }
ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجاً مطهرة : { لهم فيها أزواج مطهرة } . .
ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم : { وندخلهم ظلاً ظليلاً } . .
تقابل كامل في الجزاء . وفي المشاهد . وفي الصور . وفي الإيقاع . . على طريقة القرآن في « مشاهد القيامة » ذات الإيحاء القوي النافذ العميق .
ــــــــــــــــ(1/9)
6-دخول الجنات (2)
قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122)} [النساء]
إنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَغْفِرُ ذَنْبَ مَنْ يُشْرِكُ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ ، أمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ فَإنَّ اللهَ قَدْ يَغْفِرُهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؛ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئاً فَقَدْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الحَقِّ ، وَضَلَّ عَنِ الهُدَى ، وَابْتَعَدَ عَنِ الصَّوَابِ ، وَأهْلَكَ نَفْسَهُ ، وَخَسِرَهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
وَالشِّرْكُ ضَرْبَانِ :
- شِرْكٌ فِي الأُلُوهِيَّةِ - وَهُوَ الشُّعُورُ بِسْلَطَةٍ وَرَاءَ الأسْبَابِ وَالسُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ .
- شِرْكٌ فِي الرّبُوبِيَّةِ - وَهُوَ الأَخْذُ بِشَيءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ عَنْ بَعْضِ البَشَرِ دُونَ الوَحْي .
إنَّ الكَافِرِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً صَوَّرُوهَا ، وَقَالُوا إِنَّهَا تُشْبِهُ المَلاَئِكَةَ التِي زَعَمُوا أَنَّها بَنَاتُ اللهِ ، لِذَلِكَ عَبَدُوهَا ، وَسَمّوهَا بِأَسْمَاءِ الإِنَاثِ ( مِثْلِ اللاَّتِ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ . . ) وَالذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الشَّيْطَانُ ، وَهُوَ الذِي حَسَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَزَيَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ ، فَكَانَتْ طَاعَتُهُمْ لَهُ عِبَادَةً .
وَالشَّيْطَانُ الذِي أَضَلَّ هَؤُلاءِ الكُفَّارَ قَدْ طَرَدَهُ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ ( لَعَنَهُ ) .
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِرَبِهِ : إِنَّهُ سَيَفْتِنُ عِبَادَ اللهِ ، وَسَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ نَصِيباً مُعَيّناً يَجْعَلُهُمْ مِنْ أَنْصَارِهِ وَأَتْبَاعِهِ . ( وَقِيلَ إِنَّ النَّصِيبَ المَفْرُوضَ المَقْصُودَ هُنَا هُوَ مَا لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنِ اسْتِعْدَادٍ لِلشَّرِّ ، إذْ مَا مِنْ إِنْسَانٍ إلاَّ وَيَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ ) .
وَيُتَابعُ الشَّيْطَانُ قَوْلَهُ للهِ : إنَّهُ سَيَعْمَلُ عَلَى إِضْلاَلِ عِبَادِ اللهِ عَنِ الحَقِّ ، وَعَلَى صَرْفِهِمْ عَنِ الهُدَى ، وَإنَّهُ سَيُزَيِّنُ لَهُمُ الاسْتِعْجَالَ بِاللَّذَّاتِ الحَاضِرَةِ ، وَالتَّسْوِيفَ بِالتَّوْبَةِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَسَيَعِدُهُمُ الأمَانِيَ ، وَإنَّهُ سَيَأمُرهُمْ بِتَشْقِيقِ آذَانِ البَهَائِمِ السَّائِمَةِ ، وَجَعْلِهَا سِمَةً وَعَلاَمَةً لِلبَحيَرةِ وَالسَّائِبَةِ وَالوَصِيلَةِ ، وَسَيأمُرُهُمْ بِتَغْييرِ خَلْقِ اللهِ مِنَ النَّاحِيةِ المَادِيَّةِ كَخَصْيِ الدَّوَابِّ وَالوَشَم ، وَمِنَ النَّاحِيةِ المَعْنَوِيَّةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَغْييرِ الفِطْرَةِ الإِنْسَانِيَّةِ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيهِ مِنَ المَيْلِ إلى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلاَلِ وَطَلَبِ الحَقِّ ، وَتَرِبِيَتِها وَتَْويدِهَا عَلَى الأَبَاطِيلِ وَالرَّذَائِلِ وَالمُنْكَرَاتِ ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ ، وَهَؤُلاءِ يُفْسِدُونَ مَا خَلَقَ اللهُ ، وَيَطْمِسُونَ عُقُولَ النَّاسِ .
وَمَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِياً لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ يَخْسَرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَتِلْكَ خَسَارَةٌ لاَ جَبْرَ لَهَا ، وَلاَ اسْتِدْرَاكَ لِفائِتِهَا .
يُخَوِّفُ الشَّيْطَانُ النَّاسَ مِنَ الفَقْرِ إذَا هُمْ أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمُ تَنْفَدُ أَوْ تَنْقُصُ ، وَيُصْبحُونَ فُقَرَاءَ أَذِلاَّءَ ، وَيَعِدُهُمْ بِالغِنَى وَالثَّرْوَةِ حِينَ يُغْرِيهِمْ بِلَعبِ القِمَارِ وَيُمَنِّيهِمْ بِأنَّهُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى فِي ذَلِكَ فَوُعُودُهُ بَاطِلَةٌ .
وَهَؤُلاءِ المُسْتَحْسِنُونَ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ ، وَمَنَّاهُمْ بِهِ ، سَيَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَصِيرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ ، وَلَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً وَلاَ خَلاَصاً .
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ ، ثَنَى بَبَيَانِ حَالِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ، الذِينَ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ ، وَلاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إنَّ الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ ، وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ ، سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيها الأَنْهَارُ ، وَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ، وَهُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ ، وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَا وَعَدَ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ ، وَلَيْسَ أحَدٌ أصْدَقَ قَوْلاً مِنَ اللهِ .
والشرك بالله - كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل - يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذاً صريحاً على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة - كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص الألوهية؛ والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص . كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ولم يكونوا عبدوهم مع الله . ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله . فحرموا عليهم وأحلوا لهم . فاتبعوهم في هذا .
ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية! فحق عليهم وصف الشرك . وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } فيقيموا له وحده الشعائر ، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر .
ولا غفران لذنب الشرك - متى مات صاحبه عليه - بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه . . عندما يشاء الله . . والسبب في تعظيم جريمة الشرك ، وخروجها من دائرة المغفرة ، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماماً؛ وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبداً :
{ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } . .
ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه؛ ولو قبل الموت بساعة . . فأما وقد غرغر - وهو على الشرك - فقد انتهى أمره وحق عليه القول :
{ ونصله جهنم وساءت مصيراً! } .
ثم يصف بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها . وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات - هن الملائكة - وحول عبادتهم للشيطان - وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام - كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة! وفي تغييرهم خلق الله . والشرك بالله . وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً ، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً ، لعنه الله وقال : لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ، ولأضلنهم ، ولأمنينهم ، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام؛ ولآمرنهم فلغيرن خلق الله . . ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً . يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .
لقد كان العرب - في جاهليتهم - يزعمون أن الملائكة بنات الله . ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث : « اللات . والعزى . ومناة » وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام - بوصفها تماثيل لبنات الله - يتقربون بها إلى الله زلفى . . كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر . . ثم ينسون أصل الأسطورة ، ويعبدون الأصنام ذاتها ، بل يعبدون جنس الحجر ، كما بينا ذلك في الجزء الرابع .
كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصاً . . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . .
على أن النص هنا أوسع مدلولاً ، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان ، ويستمدون منه : هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم؛ الذي لعنه الله بسبب معصيته وعدائه للبشر . والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته ، أن يأخذ من الله - سبحانه - إذناً بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً . وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً . لعنه الله . وقال : لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً . ولأضلنهم ، ولأمنينهم؛ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } .
إنهم يدعون الشيطان - عدوهم القديم - ويستوحونه ويستمدون منه هذا الضلال . ذلك الشيطان الذي لعنه الله .
والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم ، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية ، من لذة كاذبة ، وسعادة موهومة ، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة ، وشعائر سخيفة ، من نسج الأساطير . كتمزيق آذان بعض الأنعام؛ ليصبح ركوبها بعد ذلك حراماً ، أو أكلها حراماً - دون أن يحرمها الله - ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان ، كخصاء الرقيق ، ووشم الجلود . . وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام .
وشعور الإنسان بأن الشيطان - عدوه القديم - هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية ، يثير في نفسه - على الأقل - الحذر من الفخ الذي نصبه العدو . وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان . ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض؛ والوقوف تحت راية الله وحزبه ، في مواجهة الشيطان وحزبه : وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها . لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده . والمؤمن لا يغفل عنها ، ولا ينسحب منها . وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله ، وإما أن يكون ولياً للشيطان؛ وليس هنالك وسط . . والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات؛ ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة . والمسلم يكافحه في ذات نفسه ، كما يكافحه في أتباعه . . معركة واحدة متصلة طوال الحياة .
ومن يجعل الله مولاه فهو ناج غانم . ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك :{ ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } . .
ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه ، في مثل حالة الاستهواء .
{ يعدهم ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد ، إلى الكفر والشرك . ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها ، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها .
وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله ، فيراه حسناً! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية ، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة!
{ وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } . .وحين يرتسم المشهد على هذا النحو ، والعدو القديم يفتل الحبال . ويضع الفخ ، ويستدرج الفريسة ، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق ، وإلى أية هوة تُستهوى!
وبينما هذه اللمسة الموقظة تفعل فعلها في النفوس ، وتصور حقيقة المعركة ، وحقيقة الموقف ، يجيء التعقيب ببيان العاقبة في نهاية المطاف : عاقبة من يستهويهم الشيطان ، ويصدق عليهم ظنه .
وينفذ فيهم ما صرح به من نيته الشريرة . . وعاقبة من يفتلون من حبالته ، لأنهم آمنوا بالله حقاً . والمؤمنون بالله حقاً في نجوة من هذا الشيطان لأنه - لعنة الله عليه - وهو يستأذن في إغواء الضالين ، لم يؤذن له في المساس بعباد الله المخلصين . فهو إزاءهم ضعيف ضعيف؛ كلما اشتدت قبضتهم على حبل الله المتين : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً . يعدهم ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً . أولئك مأواهم جهنم ، ولا يجدون عنها محيصاً . والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبداً ، وعد الله حقاً ، ومن أصدق من الله قيلاً؟ } . .
فهي جهنم ولا محيص عنها لأولياء الشيطان . . وهي جنات الخلد لا خروج منها لأولياء الله . . وعد الله : { ومن أصدق من الله قيلا } ؟
والصدق المطلق في قول الله هنا؛ يقابل الغرور الخادع ، والأماني الكاذبة في قول الشيطان هناك! وشتان بين من يثق بوعد الله ، ومن يثق بتغرير الشيطان!
ــــــــــــــــ(1/10)
7-توفية أجورهم وزيادة
قال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (173)} [النساء]
لاَ يَسْتَكْبِرُ المَسِيحُ ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ ، أنْ يَكُونُوا مِنْ عِبَادِ اللهِ ، لأنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ ، وَالذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ، وَيَرَوْنَ أنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِقَاباً شَدِيداً ، وَيَحْشُرُهُمْ جَميعاً فِي جَهَنَّمَ .
أمَّا الذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ . وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ، فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ ، وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ . وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها ، وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ .
لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور؛ وعني بتقرير أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء . فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية . كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله - سبحانه وكل شيء ( بما في ذلك كل حي ) وهي أنها صلة ألوهية وعبودية . ألوهية الله ، وعبودية كل شيء لله . . والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق - أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه - بحيث لا تدع في النفس ظلاً من شك أو شبهة أو غموض .
ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون . فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام ، إلى عهد محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة - يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة؛ وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات؛ أو ينسب لله - سبحانه - الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم؛ اقتباساً من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات!
ألوهية وعبودية . . ولا شيء غير هذه الحقيقة . ولا قاعدة إلا هذه القاعدة . ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية ، وصلة العبودية بالألوهية . .
ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيص هذه الحقيقة من كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن كل ظل!
أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم . .
هو إله لهم وهم عبيده . . هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم وهم مماليك . . وهم كلهم سواء في هذه الصلة ، لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . فأما البنوة ، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد؟!
ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة ، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة : أنهم كلهم عبيد لرب واحد . . ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد . . فأما القربى إليه ففي متناول الجميع . . عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان ، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان . . وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس . . وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام!
فالمسألة - على هذا - ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين ، فحسب ، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة ، وارتباطات مجتمع ، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان .
إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام . . ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد . . ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام « كنيسة » تستذل رقاب الناس ، بوصفها الممثلة لابن الله ، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم .
ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم « بالحق الإلهي » زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله!
وقد ظلَّ « الحق المقدس » للكنيسة والبابوات في جانب؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقاً مقدساً كحق الكنيسة في جانب . . ظل هذا الحق أو ذاك قائماً في أوربا باسم ( الابن ) أو مركب الأقانيم . حتى جاء « الصليبيون » إلى أرض الإسلام مغيرين . فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على « الحق المقدس » وكانت فيما بعد ثورات « مارتن لوثر » و « كالفن » و « زنجلي » المسماة بحركة الإصلاح . . على أساس من تأثير الإسلام ، ووضوح التصور الإسلامي ، ونفي القداسة عن بني الإنسان؛ ونفي التفويض في السلطان . . لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام . .
وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته؛ وألوهية روح القدس ( أحد الأقانيم ) وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله ، أو ألوهية أحد مع الله ، في أي شكل من الأشكال . . يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبداً لله . وأن الملائكة المقربين عبيد لله؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله . وأن جميع خلائقه ستحشر إليه . وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم . وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله . وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } .
إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبداً لله . لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله - خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلق الله؛ فلا يكون خلق الله كالله؛ أو بعضاً من الله! وهو خير من يعرف أن العبودية لله - فضلاً على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة - لا تنقص من قدره . فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء . وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده . . وكذلك الملائكة المقربون - وفيهم روح القدس جبريل - شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء - فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة؟!
{ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً } . .فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه .
. سلطان الألوهية على العباد . . شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله . .
فأما الذين عرفوا الحق ، فأقروا بعبوديتهم لله؛ وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار؛ فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله .
{ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } . .
وما يريد الله - سبحانه - من عباده أن يقروا له بالعبودية ، وأن يعبدوه وحده ، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم ، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء . ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم ، كما تصح حياتهم وأوضاعهم . فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر ، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع ، على أساس سليم قويم ، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار ، وما يتبع الإقرار من آثار . .
يريد الله - سبحانه - أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم . ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ليعرفوا مَنْ صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض؛ فلا يخضعوا إلا له ، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة ، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه . يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد؛ ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه؛ حين تعنو له وحده الوجوه والجباه . يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة ، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحداً إلا الله . يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب . ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح؛ فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله . يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله لله . . ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس . .
إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة؛ وتعليق أنظار البشر لله وحده؛ وتعليق قلوبهم برضاه؛ وأعمالهم بتقواه؛ ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه . . إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية؛ وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض . . في هذه الحياة . . فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات ، في الآخرة ، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر . وفيض من عطاء الله .
وفي هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام؛ وقرر أنها قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعاً؛ قبل أن يحرفها الأتباع ، وتشوهها الأجيال . . يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلاداً جديداً للإنسان؛ تتوافر له معه الكرامة والحرية ، والعدل والصلاح ، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء .
والذين يستنكفون من العبودية لله ، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي . . يذلون لعبودية الهوى والشهوة . أو عبودية الوهم والخرافة . ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم ، ويحنون لهم الجباه . ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيداً مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله . . ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله . . هذا في الدنيا . . أما في الآخرة { فيعذبهم عذاباً أليماً ، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } . .
إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان . وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان . .
ــــــــــــــــ(1/11)
8-المغفرة والأجر العظيم
قال تعالى : { وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) ْ[المائدة]
وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . . وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي يَرْضَاهَا رَبُّهُمْ ( مِثْلَ العَدْلِ ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَالنَّهِي عنِ المُنْكَرِ ، وَمُرَاعَاةِ جَانِبِ اللهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي رَوَابِطِهِم الاجْتِمَاعِيَّةِ ) ، بِأنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَيُثِيبُهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ ، وَهُوَ الجَزَاءُ المُضَاعَفُ عَلى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، فَضْلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ .
إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا - وهم ينهضون بالتكاليف العليا - والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض . . ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار!
ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء . لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة . . وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله؛ وتتذوق حلاوة هذا الرضى؛ كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق . . ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعاً . مع الطبيعة البشرية والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم . وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين! إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة . يطمئنها على مصيرها وجزائها؛ ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين! وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء! بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء . . والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها؛ ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها ، وتستجيب له كينونتها . . ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم؛ وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم .
ــــــــــــــــ(1/12)
9-لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والصابئون وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة 69]
الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ( المُسْلِمُونَ ) ، وَالذِينَ هَادُوا ( أَهْلَ التَّوْرَاةِ ) ، وَالصَّابِئُونَ ( وَهُمْ طَائِفَةٌ يَعْبِدُونَ النُّجُومَ ، وَقَيلِ بَلْ إنَّهُمْ يَعْبُدُونَ المَلاَئِكَةَ وَيَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ) ، وَالنَّصَارَى ( أَهْلُ الإِنْجِيلِ ) ، مَنْ أَخْلَصَ مِنْهُمُ الإِيمَانَ للهِ ، وَمَنْ آمَنَ بِاليَومِ الآخِرِ ، وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً يَرْضَاهُ اللهُ ، فَلاَ خَوْفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ القِيَامَةِ ، وَلا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيا وَعَيْشِهَا ، بَعْدَ أنْ يُعَايِنوا مَا أكْرَمَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ .
والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة , فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع , وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ; ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .
وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من "المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة , أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين , وأنه أرسل إلى البشر كافة , وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به , وفق ما جاء به ; في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا , ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا , فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين , ولا يدخل في مضمون قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
وهذه هي الحقيقة الأساسية "المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ; أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ; من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على "دين" يرضاه الله ; ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !
إنما الله هو الولي(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .
ــــــــــــــــ(1/13)
10-رفع الحرج عنهم
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }[المائدة]
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ تَعَاطِي الخَمْرِ وَلَعْبِ القِمَارِ ( المَيْسِر ) ، وَعَنْ ذَبْحِ القَرَابِينِ عِنْدَ الأَنْصَابِ ، ( وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ ) ، كَمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ ( وَالأَزْلاَمِ ثَلاَثَةُ قِدَاحٍ أَوْ سِهَامٍ يُجِيلُونَهَا ثُمَّ يُلْقُونَهَا ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهَا ( افْعَلْ ) ، وَعَلى الأخَرِ ( لاَ تَفْعَلْ ) ، وَالثَّالِثُ غُفْلٌ مِنَ الكِتَابَةِ . فَإِذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( افْعَلْ ) فَعَلَ . وَإذَا خَرَجَ السَّهْمُ الذِي كُتِبَ عَلَيْهِ ( لاَ تَفْعَلْ ) لَمْ يَفْعَلْ . وَإذا خَرَجَ السَّهْمُ الغُفْلُ مِنَ الكِتَابَةِ أَعَادَ الاسْتِقْسَامَ .
وَيَقُولُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إنَّ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ : الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ . . إنَّمَا هِيَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( رِجْسٌ ) فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَفُوزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ .إنَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ لَكُمْ شُرْبَ الخَمْرِ ، وَلَعِبَ المَيْسِرِ ، لِيُعَادِيَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَيَبْغُضَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، فِيِتَشَتَّتَ أمْرُكُمْ بَعْدَ أنْ ألَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِالإيمَانِ ، وَجَمَعَ بِأخُوَّةِ الإسْلاَمِ ، ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يَصْرِفَكُمْ بِالسُّكْرِ وَالاشْتِغَالِ بِالمَيْسِرِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ الذِي بِهِ صَلاَحُ أمْرِكُمْ ، فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَاتِكُمْ ، وَعَنِ الصَّلاَةِ التِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْكُمْ ، تَزْكِيَةً لِنُفُوسِكُمْ ، وَتَطْهِيراً لِقُلُوبِكُمْ .
وَالخَمْرُ تٌفْقِدُ الإِنْسَانَ عَقْلَهُ الذِي يَمْنَعُهُ عَنْ إتْيَانِ الأفْعَالِ القَبِيحَةِ ، وَعَنْ تَوْجِيهِ الأقْوَالِ الشَّائِنَةِ إلى النَّاسِ ، فَإِذَا شَرِبَهاَ الإِنْسَانُ أقْدَمَ عَلَى مَا لاَ يُقْدِمُ عَلَيهِ وَهُوَ صَاحٍ مَتَمَالِكٌ قِواهُ فَيُسِيءُ إلى أصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ ، وَيُؤذِيهِمْ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ .
وَالمَيْسِرُ يُثِيرُ البَغْضَاءَ وَالشَحْنَاءَ بَيْنَ اللاعِبِينَ وَالحَاضِرِينَ ، وَكَثِيراً مَا يُفرِّطُ المُقَامِرُ فِي حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالأوْلاَدِ ، حَتَّى يُوشِكُ أنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ وَاحِدٍ .
ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْتَهُوا عَنْ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ ليُفَوِّتُوا عَلَى إبْلِيسَ غَرَضَهُ .
يَأمُرُ ناللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أمَرَ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ المُحَرَّمَاتِ ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيمَا بَيَّنَهُ لَهُمْ مِنْ شَرْعِ اللهِ ، وَفِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَهُمْ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ العِصْيَانِ وَالمُخَالَفَةِ وَالعِنَادِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إنْ تَوَلَّوْا عَنِ الإِيمَانِ ، وَأصَرُّوا عَلَى المُخَالَفَةِ ، وَالاعْتِدَاءِ عَلَى حُرُماتِ اللهِ ، وَعَلَى تَجَاوُزِ شَرْعِهِ الكَرِيمِ ، فَإنَّ الحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيهِمْ ، وَالرَّسُولُ قَامَ بِمَا أمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الإِبْلاغِ وَالإِنْذَارِ وَالدَّعْوَةِ ، وَإنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى اللهِ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أعْمَالِهِمْ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِها .
حِينَمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الخَمْرِ تَسَاءَلَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ عَنْ حَالِ مَنْ شَرِبُوا الخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ . وَبُيَيِّنُ لَهُمْ تَعَالَى أنَّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ ، وَ لاَ إثْمَ ، فِيمَا أَكَلُوا أوْ شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ ، أوْ أكَلُوا وَشَرِبُوا ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّماً ثُمَّ حُرِّمَ ، إذَا مَا اتَّقَوا اللهَ ، وَآمَنُوا بِمَا كَانَ قَدْ نَزَلَ مِنَ الأحْكَامِ ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ التِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ ، كَالصَّلاَةِ وَالصَّومِ ، ثُمَّ اتَّقَوا مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ العِلْمِ بِهِ ، وَآمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّقْوَى ، وَأحْسَنُوا أعْمَالَهُمْ ، فَأَتَوْا بِهَا عَلَى الوَجْهِ الأكْمَلِ ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرِائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ، فَلا يُبِقِي فِي قُلُوبِهِمْ أثَراً مِنَ الآثَارِ السَّيِّئَةِ ، التِي وَصَفَ بِهَا الخَمْرَ وَالمَيْسِرَ ، مِنَ الإِيقَاعِ فِي العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ .
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية , ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها , وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف , ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ; ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] . . وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة , فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر , وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ; ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية .
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر , لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ; فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ; وإقامة التصور الأسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بين للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ; وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ; وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية , وكما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ; وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب , وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد , وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها , من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما , لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ; وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !
أو بتعبير آخر:لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد "الإسلام" . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تحت عنوان:"انحلت العقدة الكبرى ":" . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ; وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ; ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ; ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ; وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ; فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ; وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة , المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها , والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي:
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . .) فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما) . . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ; ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب , وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) . . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ; ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدهاثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة , وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر , قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما) . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء , فنزلت التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .) الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ; ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ?) فدعي عمر فقرئت عليه فقال:"انتهينا . انتهينا" . . [ أخرجه أصحاب السنن ] .
ولما نزلت آيات التحريم هذه , في سنة ثلاث بعد وقعة أحد , لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:"ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت" . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها , وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !
ويقول بسام جرار :
" إذا اتقى المؤمن المحارم وعمل الصالحات فلا يضره بعد ذلك عمل، طالما أنّه يتحرى الحلال ويمارس العمل الصالح. وتكون التقوى في الدرجة الأولى بالابتعاد من المحرمات والمكروهات، أي بالابتعاد عن عوامل الهدم قبل الاشتغال بالبناء. أما العمل الصالح فهو في الحقيقة بناء وارتقاء، ويكتسب كل ذلك قيمة في الشرع عندما يقوم على أساس من الإيمان الصحيح.
لقد أشكلت هذه الآية على كثير من أهل التفسير، ومنهم سيد قطب، رحمه الله؛ عند تفسيره لقوله تعالى: " إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا " بعد قوله: " إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ". والذي نراه أنّ الآية الكريمة تكشف لنا عن حقيقة العلاقات بين الإيمان والعمل الصالح. فمعلوم أنّ جمهور أهل السُنّة والجماعة يُعرّفون الإيمان بأنه: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعملٌ بالأركان. وقد خالف أبو حنيفة، رحمه الله، فاعتبر أنّ الإيمان هو تصديق بالقلب وإقرار باللسان. أي أنّ العمل الصالح عند أبي حنيفة لا يدخل في ماهية الإيمان.
لا شك أنّ الإيمان تصديق بالدرجة الأولى، وينبني على هذا التصديق فعل وترك، وهذا واضح في قوله تعالى: "إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ". وعندما يكون الكف عن المحارم وعمل الصالحات نابعاً عن الإيمان، وعندما يصبح عادة وديدناً للإنسان، تنشأ عن ذلك علاقة جدلية ارتقائية؛ أي أنّ العمل الصالح الذي يصدُر عن إيمان يقوي هذا الإيمان، ثم لا يلبث هذا الإيمان القوي أن يقود إلى عمل أصلح،... وهكذا في مسيرة ارتقائية. ومن هنا قال جمهور أهل السُنّة والجماعة: "الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
عندما يحصل مثل هذا الارتقاء لا تعود تلاحظ خطوطاً فاصلة بين حقيقة الإيمان وحقيقة العمل. وحتى تتضح الفكرة نضرب مثالاً بالأشخاص الذين يتعلمون الطباعة على الآلة الكاتبة، حيث يلزمهم معرفة الحروف ومواقعها على لوحة المفاتيح. وعندما يمارس المبتدئ عملية الطباعة يكون حاضر الذهن مفتوح العيون فلا يضغط على مفتاح الحروف حتى يتعرف عليه، ومن هنا تكون العملية في البداية في غاية البطء والتكلّف. وبعد حين ونتيجة للممارسة الطويلة ذهنياً وعملياً نجد أنّ متقن الطباعة لا يعود يفكر في مواقع الحروف ولا يعود يتكلف الأمر، بل يحصل اندماج بين الفكرة والسلوك ويصبح الفعل سليقة، ولا تعود تلاحظ خطوطاً فاصلة بين الفكرة والسلوك.
فالآية الكريمة تتحدث إذن عن الحالة الارتقائية الاندماجية التي تنتج عن ممارسة العمل الصالح على أساس من الإيمان.
فالبداية إذن:" اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا"، ثم: " اتَّقَوْا وَآَمَنُوا "، أي أنه لم يعد هناك فصل بين حقيقة الإيمان والعمل، بل إنّ الأمر يصل في مسيرة الارتقاء إلى حالة هي أرقى من الإيمان، ألا وهي الإحسان، حيث يكون التصديق أقرب إلى عالم المشاهدة، وحيث يكون العمل في أبهى صورة، ويصدر عن المحسن من غير فكر ولا رَويّة :" ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا" .
إنّ أمثال هؤلاء إذا ما استشكل عليهم حكم شرعي، ولم يصل بهم فقههم إلى ترجيحٍ ظاهر يكفيهم عندها فتوى القلوب، تماماً كما هو الأمر عندما ننظر بأكثر من عين وتكون لدينا صورة واحدة."
ــــــــــــــــ(1/14)
11-عدم تكليفهم ما لا يطاق
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُون الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) }[الأعراف]
وَالذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ تَكَبُّراً وَطُغْيَاناً ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا رُسُلَ اللهِ اسْتِكْبَاراًَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لأَرْوَاحِهِمْ ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ عَمَلٌ وَلاَ دُعَاءٌ ، وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ الحَبْلُ الغَلِيظُ ( الجَمَلُ ) فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ ( سَمِّ الخِيَاطِ ) . فَكَمَا أنَّ الحَبْلَ الغَلِيظَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ ، كَذَلِكَ لاَ يَدْخُلُ الكُفَّارُ الجَنَّةَ .
وَهَذَا جَزَاءٌ عَادِلٌ مِنَ اللهِ لِلْمُجْرِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ ، مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ .
وَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فُرُشٌ مِنْ تَحْتِهِمْ ( مِهَادٌ ) ، وَلَهُمْ مِنْهَا أَغْطِيَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ تُغَطِّيهِمْ ( غَوَاشٍ ) . وَبِمِثْلِ هَذَا الجَزَاءِ يَجْزِي اللهُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ ، المُضِلِّينَ لِلْنَّاسِ .
وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، بِجَوارِحِهِمْ ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً .
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ .
وَيَنْزِعُ اللهُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ وَحَسَدٍ ، فَيُصْبِحُونَ مُتَحَابِّينَ ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ فِي أَرْضِ الجَنَّةِ ، وَيَنْظُرُونَ إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَقُولُونَ : الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا إلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ ، وَلَوْلاَ هُدَى اللهِ لَمَا كُنَّا اهْتَدَيْنَا إِليهِ ، لَقَدْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ هُوَ الحَقَّ . وَيُنَادُوْنَ ( يُنَادِيهِم اللهُ تَعَالَى أَوْ تُنَادِيهِم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ ) : إنَّ هذِهِ الجَنَّةَ التِي أَنْتُمْ تَحُلُّونَهَا قَدْ أَوْرَثَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا ثَوَاباً لَكُمْ وَجَزَاءً عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ .
وقال السعدي : ""يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها، مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها، بل كذب وتولى، أنهم آيسون من كل خير، فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها، كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته كذلك لا تصعد بعد الموت، فإن الجزاء من جنس العمل.
ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته، تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه، وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي، وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه.
وقوله عن أهل النار { وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ } وهو البعير المعروف { فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما، في خرق الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء، وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال، أي: فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط، فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة، قال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } وقال هنا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } أي: الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.
{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } أي: فراش من تحتهم { وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أي: ظلل من العذاب، تغشاهم.
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } لأنفسهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
ولما ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين، ذكر ثواب المطيعين فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، فجمعوا بين الإيمان والعمل، بين الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، بين فعل الواجبات وترك المحرمات، ولما كان قوله: { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } لفظا عاما يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة، وقد يكون بعضها غير مقدور للعبد، قال تعالى: { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي: بمقدار ما تسعه طاقتها، ولا يعسر على قدرتها، فعليها في هذه الحال أن تتقي اللّه بحسب استطاعتها، وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها سقطت عنها كما قال تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة.
{ أُولَئِكَ } أي: المتصفون بالإيمان والعمل الصالح { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي: لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلا لأنهم يرون فيها من أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف عنده الغايات، ولا يطلب أعلى منه.
{ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } وهذا من كرمه وإحسانه على أهل الجنة، أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، أن اللّه يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين، وأخلاء متصافين.
قال تعالى: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ويخلق اللّه لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم. فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه قد فقدت أسبابه.
وقوله: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } أي: يفجرونها تفجيرا، حيث شاءوا، وأين أرادوا، إن شاءوا في خلال القصور، أو في تلك الغرف العاليات، أو في رياض الجنات، من تحت تلك الحدائق الزاهرات.
أنهار تجري في غير أخدود، وخيرات ليس لها حد محدود { وَ } لهذا لما رأوا ما أنعم اللّه عليهم وأكرمهم به { قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا، فآمنت به، وانقادت للأعمال الموصلة إلى هذه الدار، وحفظ اللّه علينا إيماننا وأعمالنا، حتى أوصلنا بها إلى هذه الدار، فنعم الرب الكريم، الذي ابتدأنا بالنعم، وأسدى من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } أي: ليس في نفوسنا قابلية للهدى، لولا أنه تعالى منَّ بهدايته واتباع رسله.
{ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } أي: حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي أخبرت به الرسل، وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين [لهم]، قالوا لقد تحققنا، ورأينا ما وعدتنا به الرسل، وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين، لا مرية فيه ولا إشكال، { وَنُودُوا } تهنئة لهم، وإكراما، وتحية واحتراما، { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا } أي: كنتم الوارثين لها، وصارت إقطاعا لكم، إذ كان إقطاع الكفار النار، أورثتموها { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
قال بعض السلف: أهل الجنة نجوا من النار بعفو اللّه، وأدخلوا الجنة برحمة اللّه، واقتسموا المنازل وورثوها بالأعمال الصالحة وهي من رحمته، بل من أعلى أنواع رحمته."
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب . . مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة . فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير ، فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين ، فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن ، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط ، فهم هنا في النار ، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا؛ وتلاوموا فيها وتلاعنوا ، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء ، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء!
{ وكذلك نجزي المجرمين } . .ثم إليك هيئتهم في النار : { لهم من جهنم مهادٌ ، ومن فوقهم غواشٍ } . .
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش ، يدعوه - للسخرية - مهاداً ، وما هو مهد ولا لين ولا مريح! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم!
{ وكذلك نجزي الظالمين } . .والظالمون هم المجرمون . والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله ، المفترون الكذب على الله . . كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن .
والآن فلننظرإلى المشهد المقابل : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفساً إلا وسعها - أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . ونزعنا ما في صدورهم من غل ، تجري من تحتهم الأنهار ، وقالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لقد جاءت رسل ربنا بالحق . ونودوا : أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } . .
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم ، لا يكلفون إلا طاقتهم .. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها - بإذن الله وفضله - ورثها لهم - برحمته - بعملهم الصالح مع الإيمان . . جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان . وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم ، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم - في حدود طاقتهم - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله » قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن ، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى . . وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين ، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة . ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا . فكتب على نفسه الرحمة؛ وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف؛ وكتب لهم به الجنة ، فضلاً منه ورحمة ، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة . .
وبعد ، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون ، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد ، بعد أن كانوا أصفياء أولياء . . فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون ، يرف عليهم السلام والولاء :
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } . .فهم بشر . وهم عاشوا بشراً . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه ، وغل يغالبونه ويغلبونه . . ولكن تبقى في القلب منه آثار .
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين » . . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } . .
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم . فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار؛ فترف على الجو كله أنسام :{ تجري من تحتهم الأنهار } . .
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام ، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف : { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق } . .
وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب : { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } . . فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم :{ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } . .إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار .
ــــــــــــــــ(1/15)
12-الجزاء بالقسط
قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) } [يونس]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ جَمِيعاً ، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ، وَمَا فِيهِما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَلَمَّا أَتَمَّ خَلْقَ الوُجُودِ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ ، يُدَّبِرُ أَمْرَ الكَوْنِ وَالخَلاَئِقِ وَلاَ يُشْغِلُهُ شَأْنٌ مِنْ شَأْنٍ ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ المُلِحِّينَ ، وَلاَ يُلْهِيهِ الكَبِيرُ عَنِ الصَّغِيرِ ، وَلاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ ، وَهُوَ رَبُّكُمْ فَأَفْرِدُوهُ بِالعِبَادَةِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ يُسْتَنْكَرُ مِنْ رَبِّ هَذا الخَلْقِ ، وَمُدَبِّرِهِ أَنْ يُفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ ، يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَكَمَالُهُمْ ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّها المُشْرِكُونَ فِي أَمْرِكُمْ؟ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً غَيْرَهُ ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ؟يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ الخَلاَّقُ العَظِيمُ ، وَأَنَّ الخَلاَئِقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَداً حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ بَدَأَهُ ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنْهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ ، وَلاَ شَكَّ . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا بَدَأَ الْخَلْقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُهُ . وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْزِي الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، مِنَ المُؤْمِنِينَ ، بِالعَدْلِ ( بِالقِسْطِ ) وَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، كَمَا يَجْزِي الذِينَ كَفَرُوا عَلَى كُفْرِهِمْ بِعَدْلِهِ التَّامِّ ، وَسَيَكُونُ شَرَابُهُمْ مِنْ مَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةِ ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً .
وقال السعدي : "يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.
ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.
{ ثُمَّ } بعد خلق السماوات والأرض { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.
{ يُدَبِّرُ الأمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه.
{ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.
{ ذَلِكُمْ } الذي هذا شأنه { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.
{ فَاعْبُدُوهُ } أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو [ ص 358 ] شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.
{ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُّمَ يُعِيدُهُ } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. وقد ذكر الدليل النقلي فقال: { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي: وعده صادق لا بد من إتمامه { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات، { بِالْقِسْطِ } أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله.
{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر أصناف العذاب { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون."
إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين , فقد كانوا يعترفون بأن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء . . ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته . فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم . . والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده ; فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له ; ولا يحكمون في أمرهم كله غيره . . وهذا معنى قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه) . .
فالعبادة هي العبودية , وهي الدينونة , وهي الاتباع والطاعة , مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها , لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية .
وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية . ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان ; وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية ; دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية . . أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره , وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه . .
كذلك ينحسر معنى "العبادة " في الجاهلية , حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر . ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده , فقد عبدوا الله وحده . . بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد . و "عبد" تفيد ابتداء "دان وخضع" . وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها .
والجاهلية ليست فترة من الزمان , ولا مرحلة من المراحل . إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو , ومعنى العبادة . هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله ! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض , بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين , ويؤدون الشعائر للّه , بينما أربابهم غير اللّه , لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته , وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه , ويتبعون ما يشرعه لهم , وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " . . . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . [ في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي ] .
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة . إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية . والبشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر , والتي لا تخلو فيها لذة من غصة , أو من عقابيل تعقبها - إلا لذائذ الروح الخالصة وهذه قلما تخلص لبشر - ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصا منها وحائلا دون كمالها . فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها , وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما , والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء . . وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل . فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية , الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم , إلى أعلى مراتب البشرية .
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس , فلم يسيروا في طريق الكمال البشري , بل جانبوه . وهذا يقتضي - حسب السنة التي لا تتخلف - ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال , لأنهم جانبوا قانون الكمال ; وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية . هذا يلقاه مرضا وضعفا , وأولئك يلقونه ترديا وانتكاسا , وغصصا بلا لذائذ - في مقابل اللذائذ بلا غصص . (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) . .
ــــــــــــــــ(1/16)
13-الهداية
قال تعالى : {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) } [يونس]
إِنَّ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ ، وَاعْتَقَدُوا وَاهِمِينَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ مُنْتَهَاهُمْ ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا حَيَاةٌ ، فَاطْمَأَنُّوا بِهَا ، وَلَم يَعْمَلُوا لِمَا بَعْدَهَا ، وَغَفَلُوا عَنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَةِ عَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ . . .
فَهَؤُلاَءِ سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، لِيَصْلِيَهُمْ بِنِيرَانِهَا ، وَسَيَجْعَلُهَا مَأْوًى لَهُمْ وَمَنْزِلاً ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ ، وَعَلَى مَا اكْتَسَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ المَعَاصِي وَالآثَامِ وَالخَطَايَا وَالإِجْرَامِ .
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ ، وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً ، وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ ، وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِ
وقال السعدي : "يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به { وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بدلا عن الآخرة.
{ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.
فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود.
{ أُولَئِكَ } الذين هذا وصفهم { مَأْوَاهُمُ النَّارُ } أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها.
{ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من الكفر والشرك وأنواع المعاصي، فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال:
ويقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى [ ص 359 ] الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
{ و } أما { تَحِيَّتُهُمْ } فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه { سَلامٌ } وقد قيل في تفسير قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ } إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال.فإذا فرغوا قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }."
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا , لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام , يتم فيها تحقيق القسط والعدل ; كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا . ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله , ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا , بما فيها من نقص وهبوط , ويرضونها ويستغرقون فيها , فلا ينكرون فيها نقصا , ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر ; وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر , ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم . والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط , لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة , ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق . إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها ! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب , وترفع الحس , وتحفز إلى التطلع والكمال . .
ــــــــــــــــ(1/17)
14-الشكر والصبر
قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} [هود]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا فِي نُفُوسِ البَشَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَمِيمَةِ ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ ، فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ ، اعْتَرَاهُمُ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ مِنْ أَنْ يُفْرِّجَ اللهُ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ فِي المُسْتَقْبَلِ ، وَكَفَرُوا بِنِعَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ .
وَكَذَلِكَ الحَالُ إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ ، بَعْدَ نَقْمَةٍ وَشِدَّةٍ ، فَسَيَقُولُونَ : لَنْ يُصِيبَنَا بَعْدَ هذَا ضَيْمٌ وَلاَ سُوءٌ ، وَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الفَرَحِ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا ، وَعَلَى المُبَالَغَةِ فِي التَّفَاخُرِ عَلَى النَّاسِ ، فَيَنْشَغِلَ قَلْبُهُمْ عَنْ شُكْرِ رَبِّهِمْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ .
وَيَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنَ الأُنَاسِ اللَّجُوجِينَ القَنُوطِينَ ، المُؤْمِنِينَ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى الشَّدَائِدِ وَالمَكَارِهِ ، إِيمَاناً بِاللهِ ، وَاحْتِسَاباً ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ ، فَهؤُلاَءِ سَيَغْفُرُ اللهُ لَهُمْ بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ ، وَسَيَجْزِيهِمْ أَجْراً كَبِيراً بِمَا أَسْلَفُوا فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ .
إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر , الذي يعيش في لحظته الحاضرة , ويطغى عليه ما يلابسه ; فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي . فهو يؤوس من الخير , كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه . مع أنها كانت هبة من الله له . وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء . لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه ; ولا يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابا . .
إن الإيمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة ; كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء . وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء ; ويربطه بالله في حاليه , فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء . ولا يتنفج ويتعالى عندما تغمره النعماء . . وكلا حالي المؤمن خير . وليس ذلك إلا للمؤمن كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــ(1/18)
15-الإخبات إلى الله
قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24)} [هود]
يُبَيِّنُ اللهُ حَالَ المُفْتَرِينَ عَلَيْهِ ، وَفَضِيحَتهم فِي الدَّارِ الآخِرَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ مِنَ الخَلاَئِقِ ، وَيَقُولُ تَعَالَى : لاَ أَحَدَ أَكْثَرَ ظُلْماً مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ فِي أَقْوَالِهِ أَوْ فِي أَحْكَامِهِ ، أَوْ فِي صِفَاتِهِ ، أَوْ فِي الزَّعْمَ أَنَّهُ اتَّخَذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً ، أَوْ فِي تَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ . . . وَيُعْرَضُ هؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَبِّهِمْ لِمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ ، وَيَقُولُ الذِينَ يَتَقَدَّمُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ ، مِنَ المَلاَئِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَصَالِحِي المُؤْمِنِينَ : ( هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، وَافْتَرُوا ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ : " إِنَّ اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، يُدْنِي المُؤْمِنَ ، فَيَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ، وَيَسْتُرُهُ عَنِ النَّاسِ ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ ، وَيَقُولُ لَهُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ، أَتَعْرِفُ كَذَا ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أََنَّهُ هَلَكَ ، قَالَ : فِإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيا ، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ ، ثُمَّ يُعْطَي كِتَابَهُ وَفِيهِ حَسَنَاتُهُ "
وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ : ( هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) . ( رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمْ ) .
وَيُعَرِّفُ اللهُ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَيَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ ، وَيَسْعَوْنَ لأَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً ، مُوَافِقَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ، وَيَكْفُرُونَ بِالآخِرَةِ ، وَيُكَذِّبُونَ بِوُقُوعِهَا .
إِنَّ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ ، لَمْ يَكُونُوا بِالذِينَ يُعْجِزُونَ اللهَ بِهَرَبِهِمْ مِنْهُ فِي الأَرْضِ ، إِذَا أَرَادَ عِقَابَهُمْ ، بَلْ هُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْفَعَهُمْ ، أَوْ أَنْ يَنْصُرَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ . وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُؤَخِرُ عُقُوبَتَهُمْ وَالانْتِقَامَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَيُضَاعِفُ لَهُمُ العَذَابَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، لأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا ، وَبَقُوا صُمّاً عَنْ سَمَاعِ الحَقِّ ، عُمْياً عَنِ اتِّبَاعِهِ .
لَقَدْ خَسِرَ هَؤُلاَءِ أَنْفُسَهُمْ ، وَغَبَنُوهَا حَظَّهَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ ، وَاشْتِرَائِهِم الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى ، لأَنَّهُمْ أُدْخِلُوا النَّارَ ، وَلاَقُوا عَذَاباً لاَ يُفُتَّرُ عَنْهُمْ ، وَلاَ يُتَوَّقَفُ ، وَغَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللهِ مِنْ نِسْبَةِ الأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ ، وَالأَبْنَاءِ إِلَيْهِ ، فَلَمْ تَنْفَعُهُمْ أَصْنَامُهُمْ ، وَلاَ أَوْثَانُهُمْ شَيْئاً مِنَ اللهِ .
وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرَ النَّاسِ خُسْرَاناً . لأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا عَنِ الجَنَّةِ بِالجَحِيمِ ، وَعَنِ المَغْفِرَةِ بِالعَذَابِ .
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الأَشْقِيَاءِ فِي الآخِرَةِ ، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ السُعَدَاءِ ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَخَشَعَتْ نُفُوسُهُمْ ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهِمْ ، وَتَرَكُوا المُنْكَرَاتِ ، فَوَرثُوا الجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ لاَ يُوصَفُ ، بِعَمَلِهِمْ ، وَاسْتِكَانَتَهِمْ للهِ ، وَخُضُوعِهِمْ لَهُ . وَيَكُونُونَ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبداً .
وَضَرََبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ المُؤْمِنِينَ ، أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ ، وَلِحَالِ الكَافِرِينَ ، أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ فَقَالَ : إِنَّ الكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الأَعْمَى وَالأَصَمِّ الذِي لاَ يُبْصِرُ وَلاَ يَسْمَعُ ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ . وَمَثَلُ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ كَمَثَلِ البَصِيرِ السَّمِيعِ الذِي يَتْبَعُ الخَيْرَ ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ ، وَهُوَ سَمِيعٌ لِلْحُجَّةِ فَلا يَرُوجُ عَلَيْهِ البَاطِلُ . فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ حَالاً؟ كَلاَّ إِنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلاَلِ مِنَ التَّبَايُنِ ، وَفِيمَا بَيْنَ البَاطِلِ وَالحَقِّ مِنَ الاخْتِلاَفِ وَالتَّمَايُزِ فَتَعْتَبِرُوا وَتَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الهُدَى وَالإِيمَانِ ، وَتَبْتَعِدُوا عَنْ طَرِيقِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ . ؟
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ; ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ; بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا , وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله , والدينونة للطاغوت من دون الله !
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كلها بهذا الدين ; فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى , وسائر النبيين !
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ; ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم , وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ; ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه , ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد , وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !
ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول:(إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها , وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة , بعيدا عن المعركة , وبعيدا عن الحركة . . .) .
ــــــــــــــــ(1/19)
16-طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ
قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) } [الرعد]
وَهؤلاَءِ الذِينَ يَهْدِيهِمُ اللهُ هُمُ المُؤْمِنُونَ ، الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَتَطيبُ قُلُوبُهُمْ ، وَتَهْدَأُ إِلَى جَانِبِ اللهِ ، وَتَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِهِ ، وَتَرْضَى بِهِ مَوْلًى وَنَاصِراً . وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ القُلُوبَ المُؤْمِنَةَ تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ وَتَهْدَأُ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى
وَلِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَرْحَةٌ ، وَسَعَادَةٌ ، وَقُرَّةُ عَيْنٍ ( طُوبَى ) ، وَلَهُمْ عِنْدَهُ حُسْنُ المَرْجِعِ وَالمَآبِ .
وقال السعدي : " ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها.
{ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ [ ص 418 ] للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له، هذا على القول بأن ذكر الله، ذكر العبد لربه، من تسبيح وتهليل وتكبير وغير ذلك.
وقيل: إن المراد بذكر الله كتابه الذي أنزله ذكرى للمؤمنين، فعلى هذا معنى طمأنينة القلوب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه تطمئن لها، فإنها تدل على الحق المبين المؤيد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئن القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب الله، مضمون على أتم الوجوه وأكملها، وأما ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة وتضاد الأحكام.
{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله وتدبره، وتدبر غيره من أنواع العلوم، فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما. ثم قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: آمنوا بقلوبهم بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وصدقوا هذا الإيمان بالأعمال الصالحة، أعمال القلوب كمحبة الله وخشيته ورجائه، وأعمال الجوارح كالصلاة ونحوها. { طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } أي: لهم حالة طيبة ومرجع حسن.وذلك بما ينالون من رضوان الله وكرامته في الدنيا والآخرة، وأن لهم كمال الراحة وتمام الطمأنينة، ومن جملة ذلك شجرة طوبى التي في الجنة، التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها، كما وردت بها الأحاديث الصحيحة."
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) . . تطمئن بإحساسها بالصلة بالله , والأنس بجواره , والأمن في جانبه وفي حماه . تطمئن من قلق الوحدة , وحيرة الطريق . بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير . وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء , مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء . وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) . .
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم , فاتصلت بالله . يعرفونها , ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلا الآخرين الذين لم يعرفوها , لأنها لا تنقل بالكلمات , إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام , ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس . فكل ما حوله صديق , إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه .
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله . ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون , لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون . ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء ? ولم يذهب ? ولم يعاني ما يعاني في الحياة ? ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود . ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة , عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين .
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله , مطمئنا إلى حماه , مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد . . ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله , فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) . .
هؤلاء المنيبون إلى الله , المطمئنون بذكر الله , يحسن الله مآبهم عنده , كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) . .
طوبى [ على وزن كبرى من طاب يطيب ] للتفخيم والتعظيم . وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة . .
ــــــــــــــــ(1/20)
17-جزاء من أطاع الرحمن وعصى الشيطان
قال تعالى : { وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23)} [ابراهيم]
وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَبْرُزُ الخَلاَئِقُ كُلُّهَا لِلوَاحِدِ القَهَّارِ ، وَتَجْتَمِعُ فِي بَرَازٍ وَاحِدٍ ( وَهُوَ المَكَانُ الوَاسِعُ الخَالِي الذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ ) ، فَيَقُولُ الأَتْبَاعُ ( الضُّعَفَاءُ ) لِلقَادَةِ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ : لَقَدْ كُنَّا تَابِعِينَ لَكُمْ نَأْتَمِرُ بِأَمْرِكُمْ ، وَقَدْ فَعَلْنَا مَا أَمَرْتُمُونَا بِهِ ، فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا اليَوْمَ شَيْئاً مِنَ العَذَابِ { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } ؟ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ القَادَةُ الكُبَرَاءُ قَائِلِينَ : لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانَا لَهَدَيْنَاكُمْ مَعَنَا ، وَلَكِنَّنَا ضَلَلْنَا فَضَلَلْتُمْ مَعَنَا ، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ لأنَّ الجَزَعَ لاَ يُفِيدُ ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا فَلاَ نَجَاةَ لَنَا مِنَ النَّارِ ، وَلاَ مَصْرِفَ لَنَا عَنْهَا .
وَبَعْدَ أَنْ يُتِمَّ اللهُ تَعَالَى قَضَاءَهُ بَيْنَ العِبَادِ ، وَيُدْخِلَ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، وَيُدْخِلَ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ ، يَقُومُ إِبْلِيسُ خَطِيباً فِي أَهْلِ النَّارِ ، لِيَزِيدَهُمْ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ ، وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِمْ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ ، وَوَعَدَكُمْ بِالنَّجَاةِ وَالسَّلاَمَةِ إِنْ آمَنْتُمْ بِهِ ، وَصَدَّقْتُمْ رُسُلَهُ ، وَكَانَ وَعْدُهُ حَقّاً . أَمّا أَنَا فَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ فِيمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ ، وَقَدْ اسَتْجَبْتُمْ لِي بِمُجَرَّدِ أَنْ دَعَوْتُكُمْ وَوَسْوَسْتُ لَكُمْ ، وَقَدْ أَقَامَتِ الرُّسُلُ عَلَيْكُمُ الحُجَجَ وَالأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاؤُوكُمْ بِهِ ، فَخَالَفْتُمُوهُمْ وَاتَّبَعْتُمُونِي فَصِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ ، فَلاَ تَلُومُونِي اليَوْمَ ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ لأَنَّ الذَّنْبَ ذَنْبُكُمْ ، فَمَا أَنَا اليَوْمَ بِمِغِيثِكُمْ ( مُصْرِخِكُمْ ) ، وَلاَ مُنْقِذِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ، وَمَا أَنْتُمْ بِنَافِعِيَّ وَلاَ مُنْقِذِيَّ وَلاَ مُغِيثِيَّ ( مُصْرِخِيَّ ) مِمَّا أَنَا فِيهِ ، مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ ، وَإِنِّي جَحَدْتُ ( كَفَرْتُ ) أَنْ أَكُونَ شَرِيكاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَشْرَكْتُمُونِي فِيهِ فِي الدُّنْيا . ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إِبْلِيسُ : إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الحِقِّ ، وَاتِّبَاعِهِمْ البَاطِلَ ، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
وَقَدْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَالَ إِبْلِيسَ مَعَ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي الدُّنْيَا لِيَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهاً لَهُمْ ، وَحَضّاً لَهُمْ عَلَى التَّبَصُّرِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ .
أَمَّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا فِي الدُّنْيَا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ ، فَإِنَّ اللهَ سَيُدْخِلَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي المِيَاهُ فِي جَنَبَاتِهَا ، لِيَكُونُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ ، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الإِيمَانِ ، وَفِعْلِ الخَيْرَاتِ وَتُحْيِّيهِمُ المَلاَئِكَةُ فِيهَا قَائِلِينَ لَهُمْ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ
وقال السعدي : "ينبه تعالى عباده بأنه { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقَّ } أي: ليعبده الخلق ويعرفوه، ويأمرهم وينهاهم وليستدلوا بهما وما فيهما على ما له من صفات الكمال، وليعلموا أن الذي خلق السماوات والأرض -على عظمهما وسعتهما- قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا، ليجازيهم بإحسانهم وإساءتهم، وأن قدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك ولهذا قال: { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }
يحتمل أن المعنى: إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم يكونون أطوع لله منكم، ويحتمل أن المراد أنه: إن يشأ يفنيكم ثم يعيدهم بالبعث خلقا جديدا، ويدل على هذا الاحتمال ما ذكره بعده من أحوال القيامة.
{ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي: بممتنع بل هو سهل عليه جدا، { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }
{ وَبَرَزُوا } أي: الخلائق { لِلَّهِ جَمِيعًا } حين ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث إلى ربهم فيقفون في أرض مستوية قاع صفصف، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ويبرزون له لا يخفى [عليه] منهم خافية، فإذا برزوا صاروا يتحاجون، وكل يدفع عن نفسه، ويدافع ما يقدر عليه، ولكن أنى لهم ذلك؟
فيقول { الضُّعَفَاءُ } أي: التابعون والمقلدون { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم: المتبوعون الذين هم قادة في الضلال: { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي: في الدنيا، أمرتمونا بالضلال، وزينتموه لنا فأغويتمونا، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي: ولو مثقال ذرة، { قَالُوا } أي: المتبوعون والرؤساء { أغويناكم كما غوينا } و { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } فلا يغني أحد أحدا، { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } من العذاب { أَمْ صَبَرْنَا } عليه، { مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي: من ملجأ نلجأ إليه، ولا مهرب لنا من عذاب الله.
أي: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبا لأهل النار ومتبرئا منهم { لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ } ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه [ ص 425 ] لأدركتم الفوز العظيم، { وَوَعَدْتُكُمْ } الخير { فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي: لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة.
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي: من حجة على تأييد قولي، { إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } أي: هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعا لأهوائكم وشهواتكم، فإذا كانت الحال بهذه الصورة { فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } كل له قسط من العذاب.
{ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } أي: تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله فلست شريكا لله ولا تجب طاعتي، { إِنَّ الظَّالِمِينَ } لأنفسهم بطاعة الشيطان { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } خالدين فيه أبدا.
وهذا من لطف الله بعباده ،أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه، وأنه يقصد أن يدخله النيران، وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار وحزبه أنه يتبرأ منهم هذه البراءة، ويكفر بشركهم { ولا ينبئك مثل خبير }
واعلم أن الله ذكر في هذه الآية أنه ليس له سلطان، وقال في آية أخرى { إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه هو سلطان الحجة والدليل، فليس له حجة أصلا على ما يدعو إليه، وإنما نهاية ذلك أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي.وأما السلطان الذي أثبته فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يؤُزّهم إلى المعاصي أزّا، وهم الذين سلطوه على أنفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه، ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.ولما ذكر عقاب الظالمين ذكر ثواب الطائعين فقال: { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: قاموا بالدين، قولا وعملا واعتقادا { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } فيها من اللذات والشهوات ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، { خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي: لا بحولهم وقوتهم بل بحول الله وقوته { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام والتحية والكلام الطيب.".
والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه ; وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذرا , بل هو الجريمة ; فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا , وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارها . والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية , ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد , تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . اما الضمير . أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها , إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال !
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة , وفي التفكير , وفي السلوك ? من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله , والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ? لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة , ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما . . كلا , إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء . . إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان !
إن المستضعفين كثرة , والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ? وماذا الذي يخضعها ? إنما يخضعها ضعف الروح , وسقوط الهمة , وقلة النخوة , والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان !
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان !
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء . . وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !!
فيا له من مشهد ! ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة !
ــــــــــــــــ(1/21)
19-لن يضيع الله تعالى أجر من أحسن عملا
قال تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) } [الكهف]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ : إِنَّ هَذا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ الحَقُّ الَّذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ ، وَلاَ شَكَّ ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ، فَقَدْ أَعْدَدْنَا وَأَرْصَدْنَا لِلكَافِرِينَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ، الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ ، نَاراً لَهَا سُورٌ يُحِيطُ بِمَنْ يَدْخُلُونَهَا ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) . وَإِذَا اسْتَغَاثَ أَهْلُ النَّارِ لِيُطْفِئُوا عَطَشَهُمْ يُغَاثُونَ بِمَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةِ ، فَإِذَا قَرَّبُوهُ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ اشْتَوَتْ وُجُوهَهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ ، وَبِئْسَ هَذا الشَّرَابُ شَرَاباً ، وَسَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلاً لِلارْتِفَاقِ ، وَالاتِّكَاءِ لِلرَّاحَةِ ، وَسَاءَتْ مَقِيلاً . بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الأَشْقِيَاءِ ، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ ، مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَخْلُوقٍ مِنْ عِبَادِهِ آمَنَ بِالحَقِّ الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ، وَعَمِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ ، وَلاَ يَظْلِمُهُ نَقِيراً .
فَهؤُلاَءِ السُّعَدَاءُ الأَبْرَارُ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لِيُقِيمُوا فِيهَا أَبَداً ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ وَالمِيَاهُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَيَلْبِسُونَ فِيهَا حُلِيّاً ، هِيَ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنَ الحَرِيرِ خَضْرَاءَ اللَّوْنِ ( كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ) ، مِنْهَا ثِيَابٌ رَقِيقَةٌ كَالقُمْصَانِ ، وَمَا مَاثَلَهَا ، ( مِنْ سُنْدُسٍ ) ، وَمِنْهَا ثِيَابٌ غَلِيظَةٌ ، كَالدِّيبَاجِ لَهُ بَرِيقٌ ( مَنْ إِسْتَبْرَقٍ ) ، وَيَجْلِسُونَ عَلَى الأَرَائِكِ وَالأَسِرَّةِ مُسْتَنِدِينَ ( مُتَّكِئِينَ ) ، لِيَرْتَاحُوا فِي جَلْسَتِهِمْ . وَحَسُنَتِ الجَنَّةُ ثَوَاباً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَحَسُنَت مَنْزِلاً وَمَقِيلاً.
وقال السعدي : "أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي: قد تبين الهدى من الضلال، والرشد من الغي، وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله، فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.
[ ص 476 ]
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان، كما قال تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الإذن في كلا الأمرين، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين. ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } بالكفر والفسوق والعصيان { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي: سورها المحيط بها، فليس لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها، تصلاهم النار الحامية.
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي: يطلبوا الشراب، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي: كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته.
{ يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي: فكيف بالأمعاء والبطون، كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِئْسَ الشَّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش، ويدفع بعض العذاب، فيكون زيادة في عذابهم، وشدة عقابهم.
{ وَسَاءَتْ } النار { مُرْتَفَقًا } وهذا ذم لحالة النار، أنها ساءت المحل، الذي يرتفق به، فإنها ليست فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق، الذي لا يفتر عنهم ساعة، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير، ونسيهم الرحيم في العذاب، كما نسوه.
ثم ذكر الفريق الثاني فقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعمل الصالحات من الواجبات والمستحبات { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } وإحسان العمل: أن يريد العبد العمل لوجه الله، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله، ولا شيئا منه، بل يحفظه للعاملين، ويوفيهم من الأجر، بحسب عملهم وفضله وإحسانه، وذكر أجرهم بقوله: { أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ }
أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها، فأجنت من فيها، وكثرت أنهارها، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة، والمنازل الرفيعة، وحليتهم فيها الذهب، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس، وهو الغليظ من الديباج، والإستبرق، وهو ما رق منه. متكئين فيها على الأرائك، وهي السرر المزينة، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك، وفي اتكائهم على الأرائك، ما يدل على كمال الراحة، وزوال النصب والتعب، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون، وتمام ذلك الخلود الدائم والإقامة الأبدية، فهذه الدار الجليلة { نِعْمَ الثَّوَابُ } للعاملين { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور، والفرح الدائم، واللذات المتواترة، والنعم المتوافرة، وأي مرتفق أحسن من دار، أدنى أهلها، يسير في ملكه ونعيمه وقصوره وبساتينه ألفي سنة، ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم، قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه، وزيد من المطالب، ما قصرت عنه الأماني، ومع ذلك، فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه وحسنه، فنسأل الله الكريم، أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان.
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها، على أن الحلية، عامة للذكور والإناث، كما ورد في الأحاديث الصحيحة لأنه أطلقها في قوله { يُحَلَّوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه."
بهذه العزة ، وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه قيماً لا عوج فيه ، قوياً لا ضعف فيه ، صريحاً لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعاً لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه امام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكاً لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
ثم يعرض ما أعد للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :
{ إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه .بئس الشراب وساءت مرتفقاً . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب؛ ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق ، متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } .
{ أنا أعتدنا للظالمين ناراً } . . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها ، ولا تستغرق زمناً لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة : كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ { أعتدنا } يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال!
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سيبل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح!
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزين المغلي في قول ، وكالصديد الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه { بئس الشراب } الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار وسرادقها مكاناً للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء! ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان . . وشتان شتان!
وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن . للإقامة . تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم . وهم هنالك للارتفاق حقاً { متكئين فيها على الأرائك } وهم رافلون في ألوان من الحرير . من سندس ناعم خفيف ومن إستبرق مخمل كثيف . تزيد عليها أساور من ذهب للزينة والمتاع : { نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } !
ومن شاء فليختر . ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين ، وجبابهم تفوح منها رائحة العرق أو فلينفر . فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب ، التي تضم القلوب الزكية بذكر الله ، فليرتفق في سرادق النار ، وليهنأ بدردي الزيت أو القيح يغاث به من النار . .
ــــــــــــــــ(1/22)
20- جزاء الحسنى
قال تعالى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} [الكهف]
فَسَلَكَ هَذا الطَّرِيقَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّائِرُ ، نَحْوَ الغَرْبِ ( وَقِيلَ إِنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَاحِلِ المُحِيطِ الأَطْلَسِي ) ، فَرَأَى الشَّمْسَ وَكَأَنَّهَا تَغْرُبُ ، فِي البَحْرِ ، فِي عَيْنٍ مِنْ طِينٍ أَسْوَدَ ، وَوَجَدَ فِي المَكَانِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ كُفَّاراً ، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الإِلْهَامِ : إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُمْ ، إِنْ هُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِتَعْلِيمِهِمْ طَرِيقَ الهُدَى وَالرَّشَادِ ، وَيُبَصِّرَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالقَوَانِينِ .
فَأَعْلَنَ ذُو القَرْنَيْنِ فِي أَفْرَادِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيا ، وَحِينَ يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّهُ سَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً شَدِيداً مُؤْلِماً.
وَأَمَّا مَنْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، فَلَهُ المَثُوبَةُ الحُسْنَى فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، جَزَاءً لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ ، وَسَنُعَامِلُهُ بِرِفْقٍ فِي الدُّنْيَا ، وَسَنُعَلِّمُهُ مَا يَتَيَسَّرُ لَنَا تَعْلِيمُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ ، وَيَلِينُ لَهُ قَلْبُهُ ، وَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ .
وقال السعدي : " { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } [ ص 486 ] أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } بالكفر { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله."
وهذا هو دستور الحكم الصالح . فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم . والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء . . وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسنا , ومكانا كريما وعونا وتيسيرا ; ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة . . عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج . أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة ; وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون . فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد . ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد .
ــــــــــــــــ(1/23)
21- لهم جنات الفردوس نزلا
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف/107-110]
أَمَّا السُّعَدَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي تُرْضِي اللهَ ، وَهَؤُلاَءِ يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيهَا الأَنْهَارِ ، وَتَكُونُ مَنْزِلاً لَهُمْ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الجَنَّةِ هِيَ أَوْسَطُهَا وَأَحْسَنُهَا " ) .وَيُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَنْتَقِلُونَ مِنْهَا وَلاَ يَخْتَارُونَ عَنْهَا بَدِيلاً ، وَلاَ يَرْضَوْنَ بِسِوَاهَا مَنْزِلاً وَمُتَحَوَّلاً .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ : لَوْ كَانَ مَاءُ البَحْرِ كُلُّهُ حِبْراً ( مِدَاداً ) لِلْقَلَمِ الَّذِي تُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ اللهِ ، وَحِكَمُهُ وَآيَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ ، لَنَفِدَ مَاءُ البَحْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِي كِتَابَةُ ذَلِكَ وَتُسْتَنْفَدُ ، وَلَوْ كَانَ وَرَاءَ البَحْرِ بُحُورٌ أُخْرَى تَمُدُّهُ .
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ ، مِنَ المَاضِي ، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَصِ أَهْلِ الكَهْفِ ، وَخَبَرِ ذِي القَرْنَيْنِ ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ وَوَاقِعُ الحَالِ ، وَلَوْ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي لِمَا عَلِمْتُهُ .
وَأَنَا أُخَبِرُكُمْ أَنَّ إِلهَكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيكَ لَهُ . فَمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ( لِقَاءَ رَبِّهِ ) ، وَجَزَاءَهُ الحَسَنَ فِي الآخِرَةِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً خَيِّراً مُوَافِقَاً لِلْشَّرْعِ ، وَلاَ يُرِدْ بِهِ إلا وَجْهِ اللهِ تَعَالَى .
( وَمُوَافَقَةُ العَمَلِ لِلْشَرْعِ ، وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ بِهِ هُمَا الرُّكْنَانِ الأَسَاسِيَّانِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ اللهُ ) .
وقال السعدي :"أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، وشمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، وأعماله، أصوله، وفروعه الظاهرة، والباطنة، فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -لهم جنات الفردوس.
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس، أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها، جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه، ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس، ولأن الفردوس يطلق على البستان، المحتوي على الكرم، أو الأشجار الملتفة، وهذا صادق على جميع الجنة، فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وأي: ضيافة أجل وأكبر، وأعظم من هذه الضيافة، المحتوية على كل نعيم، للقلوب، والأرواح، والأبدان، وفيها ما تشتهيه الأنفس. وتلذ الأعين، من المنازل الأنيقة، والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة،. والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية، والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة، والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة، وأعلى ذلك وأفضله وأجله، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه، الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم، وسماع كلام الرءوف الرحيم، فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها"، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق، ولساروا إليها زرافات ووحدانا، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية، ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة، ولكن الغفلة شملت، والإيمان ضعف، والعلم قل، والإرادة نفذت فكان، ما كان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } هذا هو تمام النعيم، إن فيها النعيم الكامل، ومن تمامه أنه لا ينقطع { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } أي: تحولا ولا انتقالا لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه. أي: قل لهم مخبرا عن عظمة الباري، وسعة صفاته، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ } أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم [ ص 489 ] { مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } أي: وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } وتكسرت الأقلام { قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد.
وفي الآية الأخرى { ولو أنَّمَا في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله تعالى، كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته، فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى.
أي: { قُلْ } يا محمد للكفار وغيرهم: { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك، ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله، { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } عبد من عبيد ربي، { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه الله إلي، الذي أجله الإخبار لكم: أنما إلهكم إله واحد، أي: لا شريك له، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه، وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه. ولهذا قال: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب، { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب، وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه. "
وهذا النزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم . وشتان شتان !
ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله (لا يبغون عنها حولا) . . وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة . .
إنهم خالدون في جنات الفردوس . . ولكن النفس البشرية حول قلب . تمل الإطراد , وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد ; وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه . وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه . بل قد تنتهي إلى الضيق به ; والرغبة في الفرار منه !
هذه هي الفطرة التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض , ودوره في هذه الخلافة . فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله . ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل ; وحب الكشف والاستطلاع , وحب الانتقال من حال إلى حال , ومن مكان إلى مكان , ومن مشهد إلى مشهد , ومن نظام إلى نظام . . وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه , يغير في واقع الحياة , ويكشف عن مجاهل الأرض , ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة . . ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور ; وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله .
نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم , والتعلق بالمألوف , والمحافظة على العادة . ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع , ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع . ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود . إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع . وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال . وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب , والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة .
فأما إذا غلب الركود والجمود . فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة , وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء .
هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض . فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق . . فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة . ولو بقيت النفس بفطرة الأرض , وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد , ولا تتحول هي عنه , ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان ; ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة , ولو إلى الجحيم , ليرضوا نزعة التغيير والتبديل !
ولكن باريء هذه النفس - وهو أعلم بها - يحول رغباتها , فلا تعود تبغى التحول عن الجنة , وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد !
وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .{ قل : لو كان البحر مداداً لكلمات ربي ، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً } . .
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر ، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!
فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد . ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد!
وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع .
والمعنى الكلي المجرد يظل حائراً في التصور البشري ومائعاً حتى يتمثل في صورة محسوسة . ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج . . ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود ، فكيف بغير المحدود؟
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال .
والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعاً غزيراً . وهو على سعته وغزارته محدود . وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له ، والذي لا يدرك البشر نهايته؛ بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله . فضلاً على محاكاته .
ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق ، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي ، فيحسبون أنهم علموا كل شيء ، أو أنهم في الطريق!
ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها ، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم!
إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم ضئيل قليل ، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود .
فليعلم الإنسان ما يعلم؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف . . ولكن ليطامن من غروره العلمي ، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه ان يكون البحر مداداً في يده . وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد . .وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة ، فيرسم أعلى أفق للبشرية وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة .فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار ، وتنحسر دونه الأنظار :{ قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } . .
إنه أفق الألوهية الأسمى . . فأين هنا آفاق النبوة ، وهي على كل حال آفاق بشرية؟
{ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . . . } . . بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى . بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب . بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه . بشر يتعلم فيعلم فيعلم . . فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى ، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى ، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها :{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } . .
ــــــــــــــــ(1/24)
22- لا يُظلَمون أبدا
قال تعالى : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63) } [مريم]
ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ ، خَلْفُ سُوءٍ ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا ، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا ، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ
إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ ، وَخِتَامَهُ ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ .
( وَفِي الحَدِيثِ : " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ " ) . ( أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه ) .
وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) ، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا ، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ ، وَلَمْ يَرَوْهُ ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً ، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ ( أَوْ سَيَأْتِيهِ العِبَادُ - وَالعَرَبُ تَقُولُ كُلُّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ ، أَيْ إِنَّ مَأْتِيّاً وَآتِيَاً بِمَعْنَى وَاحِدٍ ) .
وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا ، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ( بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا .
فمن شاء الوراثة فالطريق معروف:التوبة والإيمان والعمل الصالح . أما وراثة النسب فلا تجدي . فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من النبيين وممن هدى الله واجتبى ; ولكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات , فلم تنفعهم وراثة النسب (فسوف يلقون غيا) . .
وقال السعدي : "لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء [ ص 497 ] المخلصون المتبعون لمراضي ربهم، المنيبون إليه، ذكر من أتى بعدهم، وبدلوا ما أمروا به، وأنه خلف من بعدهم خلف، رجعوا إلى الخلف والوراء، فأضاعوا الصلاة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها، فتهاونوا بها وضيعوها، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين، التي هي آكد الأعمال، وأفضل الخصال، كانوا لما سواها من دينهم أضيع، وله أرفض، والسبب الداعي لذلك، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها، مقدمة لها على حقوق الله،.فنشأ من ذلك التضييع لحقوقه، والإقبال على شهوات أنفسهم، مهما لاحت لهم، حصلوها، وعلى أي: وجه اتفقت تناولوها.
{ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } أي: عذابا مضاعفا شديدا، ثم استثنى تعالى فقال: { إِلا مَنْ تَابَ } عن الشرك والبدع والمعاصي، فأقلع عنها وندم عليها، وعزم عزما جازما أن لا يعاودها، { وَآمَنَ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، { وَعَمِلَ صَالِحًا } وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله، إذا قصد به وجهه، { فَأُولَئِكَ } الذي جمعوا بين التوبة والإيمان، والعمل الصالح، { يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } المشتملة على النعيم المقيم، والعيش السليم، وجوار الرب الكريم، { وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } من أعمالهم، بل يجدونها كاملة، موفرة أجورها، مضاعفا عددها.
ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها، ليست كسائر الجنات، وإنما هي جنات عدن، أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها، ولا حول ولا زوال، وذلك لسعتها، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور، والبهجة والحبور.
{ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ } أي: التي وعدها الرحمن، أضافها إلى اسمه { الرَّحْمَنُ } لأن فيها من الرحمة والإحسان، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب [بشر]. وسماها تعالى رحمته، فقال: { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وأيضا ففي إضافتها إلى رحمته، ما يدل على استمرار سرورها، وأنها باقية ببقاء رحمته، التي هي أثرها وموجبها، والعباد في هذه الآية، المراد: عباد إلهيته، الذين عبدوه، والتزموا شرائعه، فصارت العبودية وصفا لهم كقوله: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } ونحوه، بخلاف عباده المماليك فقط، الذين لم يعبدوه، فهؤلاء وإن كانوا عبيدا لربوبيته، لأنه خلقهم ورزقهم، ودبرهم، فليسوا داخلين في عبيد إلهيته العبودية الاختيارية، التي يمدح صاحبها، وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار، لا مدح لهم فيها.
وقوله: { بِالْغَيْبِ } يحتمل أن تكون متعلقة ب { وَعَدَ الرَّحْمَنُ } فيكون المعنى على هذا، أن الله وعدهم إياها وعدا غائبا، لم يشاهدوه ولم يروه فآمنوا بها، وصدقوا غيبها، وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها، لكانوا أشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، وأكثر لها سعيا، ويكون في هذا، مدح له بإيمانهم بالغيب، الذي هو الإيمان النافع. ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده، أي: الذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه، فهذه عبادتهم ولم يروه، فلو رأوه، لكانوا أشد له عبادة، وأعظم إنابة، وأكثر حبا، وأجل شوقا، ويحتمل أيضا، أن المعنى: هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف، ولا يعلمها أحد إلا الله، ففيه من التشويق لها، والوصف المجمل، ما يهيج النفوس، ويزعج الساكن إلى طلبها، فيكون هذا مثل قوله: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والمعاني كلها صحيحة ثابتة، ولكن الاحتمال الأول أولى، بدليل قوله: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } لا بد من وقوعه، فإنه لا يخلف الميعاد، وهو أصدق القائلين.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي: كلاما لاغيا لا فائدة فيه، ولا ما يؤثم، فلا يسمعون فيها شتما، ولا عيبا، ولا قولا فيه معصية لله، أو قولا مكدرا، { إِلا سَلامًا } أي: إلا الأقوال السالمة من كل عيب، من ذكر لله، وتحية، وكلام سرور، وبشارة، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان، وسماع خطاب الرحمن، والأصوات الشجية، من الحور والملائكة والولدان، والنغمات المطربة، والألفاظ الرخيمة، لأن الدار، دار السلام، فليس فيها إلا السلام التام في جميع الوجوه. { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي: أرزاقهم من المآكل والمشارب، وأنواع اللذات، مستمرة حيثما طلبوا، وفي أي: وقت رغبوا، ومن تمامها ولذاتها وحسنها، أن تكون في أوقات معلومة.
{ بُكْرَةً وَعَشِيًّا } ليعظم وقعها ويتم نفعها، فتلك الجنة التي وصفناها بما ذكر { الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } أي: نورثها المتقين، ونجعلها منزلهم الدائم، الذي لا يظعنون عنه، ولا يبغون عنه حولا كما قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } "
ــــــــــــــــ(1/25)
23- سيجعل لهم الرحمن ودا
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }[مريم 96]
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُلْقِي مَحَبَّةَ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ .
وقال السعدي : "هذا من نعمه على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، أن وعدهم أنه يجعل لهم ودا، أي: محبة وودادا في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب ود تيسر لهم كثير من أمورهم وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل، ولهذا ورد في الحديث الصحيح: " إن الله إذا أحب عبدا، نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض " وإنما جعل الله لهم ودا،لأنهم ودوه، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه."
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب , وروح رضى يلمس النفوس . وهو ود يشبع في الملأ الأعلى , ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلى ء به الكون كله ويفيض . .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّى قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُنَادِى فِى السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِى أَهْلِ الأَرْضِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنِّى قَدْ أَبْغَضْتُ فُلاَنًا فَيُنَادِى فِى السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِى الأَرْضِ » الترمذي (3457 ) صحيح..
ــــــــــــــــ(1/26)
24-مغفرة الذنوب
قال تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه]
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذَا أَنْجَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ ، وَأَقَرَّ عُيُونَهُمْ بِإِهْلاَكِهِ ، وَإِهْلاَكِ جُنُودِهِ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، وَوَاعَدَ مُوسَى لِيَأْتِيَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً صَامَهَا ، لِيَتَهَيَأَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، لِيَسْمَعَ مَا سَيُوحِيهِ رَبُّهُ إِلَيْهِ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ أُمُورِ العَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ ، وَأَرْسَلَ المَنَّ وَالسَّلْوَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لِيَأْكُلُوا مِنْهُمَا فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ .
وَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى اللهِ ، وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالمَعْصِيَّةِ وَالنِّفَاقِ . . . وَآمَنَ بِقَلْبِهِ ، وَعَمِلَ صَالِحاً بِجَوَارِحِهِ ، وَاسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ ، وَلَمْ يُشَكِّكَ ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَيَتُوبُ عَلَيْهِ .
وقال السعدي : "يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلاك عدوهم، ومواعدته لموسى عليه السلام بجانب الطور الأيمن، لينزل عليه الكتاب، الذي فيه الأحكام الجليلة، والأخبار الجميلة، فتتم عليهم النعمة الدينية، بعد النعمة الدنيوية، ويذكر منته أيضا عليهم في التيه، بإنزال المن والسلوى، والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بلا مشقة، وأنه قال لهم:
{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: واشكروه على ما [ ص 511 ] أسدى إليكم من النعم { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: في رزقه، فتستعملونه في معاصيه، وتبطرون النعمة، فإنكم إن فعلتم ذلك، حل عليكم غضبي أي: غضبت عليكم، ثم عذبتكم، { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: ردى وهلك، وخاب وخسر، لأنه عدم الرضا والإحسان، وحل عليه الغضب والخسران.
ومع هذا، فالتوبة معروضة، ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي، فلهذا قال: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ } أي: كثير المغفرة والرحمة، لمن تاب من الكفر والبدعة والفسوق، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن، وأقوال اللسان.
{ ثُمَّ اهْتَدَى } أي: سلك الصراط المستقيم، وتابع الرسول الكريم، واقتدى بالدين القويم، فهذا يغفر الله أوزاره، ويعفو عما تقدم من ذنبه وإصراره، لأنه أتى بالسبب الأكبر، للمغفرة والرحمة، بل الأسباب كلها منحصرة في هذه الأشياء فإن التوبة تجب ما قبلها، والإيمان والإسلام يهدم ما قبله، والعمل الصالح الذي هو الحسنات، يذهب السيئات، وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها، من تعلم علم، وتدبر آية أو حديث، حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به، ودعوة إلى دين الحق، ورد بدعة أو كفر أو ضلالة، وجهاد، وهجرة، وغير ذلك من جزئيات الهداية، كلها مكفرات للذنوب محصلات لغاية المطلوب."
والتوبة ليست كلمة تقال , إنما هي عزيمة في القلب , يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح . ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع . فإذا وقعت التوبة وصح الإيمان , وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق , على هدى من الإيمان , وعلى ضمانة من العمل الصالح . فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل . .
ــــــــــــــــ(1/27)
25-لا ظلم ولا هضم لحقوقه
قال تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً }[طه 112]
أَمَّا الَّذِي آمَنَ بِاللهِ ، وَبِكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ جَمِيعاً ، وَعَمِلَ الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، فَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ اللهُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ ، وَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُ شَيْئاً مِنْ حَسَنَاتِهِ .
وقال السعدي : "وقوله: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا } [ ص 514 ] أي: لا يشفع أحد عنده من الخلق، إلا إذا أذن في الشفاعة ولا يأذن إلا لمن رضي قوله، أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين، فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص، فإذا اختل واحد من هذه الأمور، فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.
وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين:
ظالمين بكفرهم وشرهم، فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان، والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.
والقسم الثاني: من آمن الإيمان المأمور به، وعمل صالحا من واجب ومسنون { فَلا يَخَافُ ظُلْمًا } أي: زيادة في سيئاته { وَلا هَضْمًا } أي: نقصا من حسناته، بل تغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته، { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }"
وهكذا يخيم الجلال على الموقف كله ، وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر رهبة وصمت وخشوع . فالكلام همس . والسؤال تخافت . والخشوع ضاف . والوجوه عانية . وجلال الحي القيوم يغمر النفوس بالجلال الرزين . ولا شفاعة إلا لمن ارتضى الله قوله . والعلم كله لله . وهم لا يحيطون به علماً . والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة . والذين آمنوا مطمئنون لا يخشون ظلماً في الحساب ولا هضماً لما عملوا من صالحات .إنه الجلال ، يغمر الجو كله ويغشاه ، في حضرة الرحمن .
ــــــــــــــــ(1/28)
26-لا كفران لسعيه
قال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)} [الأنبياء]
قال السعدي : "ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام، قال مخاطبا للناس: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد.
ولهذا قال: { وَأَنَا رَبُّكُمْ } الذي خلقتكم، وربيتكم بنعمتي، في الدين والدنيا، فإذا كان الرب واحدا، والنبي واحدا، والدين واحدا، وهو عبادة الله، وحده لا شريك له، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم والواجب عليكم، القيام بها، ولهذا قال: { فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء، ترتيب المسبب على سببه.
وكان اللائق، الاجتماع على هذا الأمر، وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال: { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه، والباطل مع الفريق الآخر و { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
وقد علم أن المصيب منهم، من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء وسيظهر هذا، إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء، فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، ولهذا قال: { كُلٌّ } من الفرق المتفرقة وغيرهم { إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي: فنجازيهم أتم الجزاء.
ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بالله وبرسله، وما جاءوا به { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله، بل نضاعفه له أضعافا كثيرة.
{ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، وفي الصحف [ ص 531 ] التي مع الحفظة. أي: ومن لم يعمل من الصالحات، أو عملها وهو ليس بمؤمن، فإنه محروم، خاسر في دينه، ودنياه."
إن أمة الرسل واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة , أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس الوجود ; والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير في هذا الأصل الكبير .
إنما كانت التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد , بقدر استعداد كل أمة , وتطور كل جيل ; وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها , واستعدادها لأنماط من التكاليف ومن التشريعات ; وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب , ومن نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلا بعد جيل .
ومع وحدة أمة الرسل , ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات . . فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم , كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها . وثار بينهم الجدل , وكثر بينهم الخلاف , وهاجت بينهم العداوة والبغضاء . . وقع ذلك بين أتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم بعضا باسم العقيدة . والعقيدة واحدة , وأمة الرسل كلها واحدة .
هذا هو قانون العمل والجزاء . . لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان . . وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب .
ولا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته , بل ليثبت للعمل الصالح وجوده . ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته , بل لتثبت للإيمان حقيقته .
إن الإيمان هو قاعدة الحياة , لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود , والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد , وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه , ولا بد من القاعدة ليقوم البناء . والعمل الصالح هو هذا البناء . فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته .
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير . والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر . . والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق .
ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء . فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر . ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان .
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة , لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم , ولا موصول بناموس مطرد . وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا الوجود . وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح , لأنه وسيلة البناء في هذا الكون , ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة . فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها , لا فلتة عابرة , ولا نزوة عارضة , ولا رمية بغير هدف , ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير .
ــــــــــــــــ(1/29)
27-دخول الجنات
قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }[الحج 14]
لما ذكر تعالى المجادل بالباطل، وأنه على قسمين، مقلد، وداع، ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم، والقسم الثاني: المؤمن حقيقة، صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة، فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وسميت الجنة جنة، لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنوابت التي تجن من فيها، ويستتر بها من كثرتها، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فما أراده تعالى فعله من غير ممانع ولا معارض، ومن ذلك، إيصال أهل الجنة إليها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.( السعدي)
والله يدخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله ، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء :{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار . إن الله يفعل ما يريد } . .فمن مسه الضر في فتنة من الفتن ، وفي ابتلاء من الابتلاءات ، فليثبت ولا يتزعزع ، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه ، وقدرته على كشف الضراء ، وعلى العوض والجزاء .
ــــــــــــــــ(1/30)
28-الجنات والذهب واللؤلؤ
قال تعالى : {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) } [الحج]
تَجَادَلَ أهْلُ الأَدْيَانِ فِي دِينِ اللهِ فَكُلُّ فَرِيقٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيهِ هُوَ الحَقُّ ، وأَنَّ مَا عَليهِ خَصْمُهُ هُوَ البَاطِلُ ، وَبَنَى عَلى ذلِكَ جَميعَ أَقْوَالِهِ وَأَفْغَالِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ نَوعاًَ مِنَ الخُصُومَةِ ، واللهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ ، وَيَجْزِيهِمْ عَلى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ ، وَلا يَظْلِمُ أحَداً مِنْهُمْ شَيئاً ، فَأَمَّا الكَافِرُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لهُمْ نِيرانٌ تُحيطُ بِهِمْ وَكَأَنَّها مُقَطَّعَاتٌ مِنَ الثِّيَابِ قُدَّتْ عَلَى قَدْرِ أَجْسَادِهِمْ ، وَيُصَبُّ المَاءُ الشَّدِيدُ الحَرَارَةِ فَوْقَ رُؤُسِهِمْ فَيَشْوِي وُجُوهَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ ، وَيُذِيبُ أَمْعَاءَهُم خَصْمَانِ - المُؤْمِنُونَ وَالكَفِرُونَ عَامَّةً .
وَيُضْرَبُ هؤلاءِ الكَافِرُونَ بالسِّياطِ وَالمَطَارِقِ ( مَقَامِعُ ) مِنَ الحَدِيدِ المُحَمَّى فَتَتَنَاثَرُ أَعْضَاؤُهُمْ .
لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ ، وَمَا يُلاقُونَهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالحَرِيقِ وَالأًَغْلالِ ، وَمَا أُعدَّ لَهُمْ منْ ثِيابٍ مِنْ نَارٍ ، ذَكَرَ حالَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّهُ يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في أَرْجَائِها ، وَيُلْبِسُهُمْ رَبُّهُمْ فِيها حُلِيّاً : مِنْها أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ ، وَمِنْها لُؤْلُؤْ ( وَجَاءَ في الحَدِيثِ : تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ ) ( رَوَاهُ الإِمَامَانِ ) وَيَكُونُ لِباسُهُمْ مِن الحَرِيرِ في الجَنَّةِ .
( وجاءَ فِي الصَّحيحِ : لاَ تَلْبَسوا الحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنيا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ .
قال السعدي : "يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض، من الذين أوتوا الكتاب، من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين، ومن المجوس، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم بأعمالهم التي حفظها وكتبها وشهدها، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } كل يدعي أنه المحق.
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا } يشمل كل كافر، من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمشركين.
{ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي: يجعل لهم ثياب من قطران، وتشعل فيها النار، ليعمهم العذاب من جميع جوانبهم.
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } الماء الحار جدا، يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء، من شدة حره، وعظيم أمره، { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } بيد الملائكة الغلاظ الشداد، تضربهم فيها وتقمعهم، { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، ويقال لهم توبيخا: { ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي: المحرق للقلوب والأبدان ، { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين، الذين آمنوا بجميع الكتب، وجميع الرسل، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } أي: يسورون في أيديهم، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب.
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } فتم نعيمهم بذكر أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها، لفظ الجنات، وذكر الأنهار السارحات، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، وأنواع اللباس، والحلي الفاخر.وذلك بسبب أنهم { هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله، أو إحسان إلى عباد الله، { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي: الصراط المحمود، وذلك، لأن جميع الشرع كله محتو على الحكمة والحمد، وحسن المأمور به، وقبح المنهي عنه، وهو الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح. أو: وهدوا إلى صراط الله الحميد، لأن الله كثيرا ما يضيف الصراط إليه، لأنه يوصل صاحبه إلى الله، وفي ذكر { الحميد } هنا، ليبين أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم ومنته عليهم، ولهذا يقولون في الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ }"
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر , الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار , إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول , وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول , والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات , ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
ــــــــــــــــ(1/31)
29-المغفرة والرزق الكريم
قال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) }[الحج]
وَحِينَما اسْتَعْجَلَ الكُفَّارُ وَقُوعَ العَذَابِ بِهٍِمْ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم : قُلْ لَهُمْ : إِنَّمًَا أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ نَذِيراً بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيءٍ ، وَإِنَّمَا أَمْرُكُمْ إِلَى الله إِنْ عَجَّلَ لَكُمُ العَذَابَ ، وإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُم ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ .
والذينَ آمَنَتْ قُلُوبُهم ، وَصَدَّقُوا إِيَمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِم ، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من سَيِّئَاتِهِمْ ، وَتَقْصِيرِهِم ، وَيُجَازِيهِم بالحُسْنَى عَلَى حَسَنَاتِهِمْ ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ ، وَلَهُمْ فِيهَا رِزْقٌ كَرِيمٌ .
أَمَّا الذينَ بَذَلُوا جُهْدَهُم فِي رَدِّ دَعْوَةِ اللهِ ، والتَكْذِيبِ بِها ، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَسَعَوْا فِي تَعْطِيلِ آيَاتِ اللهِ ، وَمَنْعِها مِنْ أَنْ تَفْعَلَ مَفْعُولَها فِي القُلُوبِ ، فَأُولَئِكَ أَهْلُ الجَحِيمِ ، وإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ الله وَيَفوتُونَه هَرَباً .
قال السعدي : "يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا، بأنه رسول الله حقا، مبشرا للمؤمنين بثواب الله، منذرا للكافرين والظالمين من عقابه، وقوله: { مُبِينٌ } أي: بين الإنذار، وهو التخويف مع الإعلام بالمخوف، وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة على صدق ما أنذرهم به، ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال: { فَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم إيمانا صحيحا صادقا { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم { في جنات النعيم } أي: الجنات التي يتنعم بها بأنواع النعيم من المآكل والمشارب والمناكح والصور والأصوات والتنعم برؤية الرب الكريم وسماع [ ص 542 ] كلامه { والذين كفروا } أي: جحدوا نعمة ربهم وكذبوا رسله وآياته فأولئك أصحاب الجحيم أي: الملازمون لها، المصاحبون لها في كل أوقاتهم، فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من عقابها."
فأما الذين آمنوا وأتبعوا إيمانهم بثمرته التي تدل على تحققه : { وعملوا لصالحات } فجزاؤهم مغفرة من ربهم ، لما سلف من ذنوبهم أو تقصيرهم ، { ورزق كريم } غير متهم ولا مهين!
وأما الذين بذلوا غاية جهدهم في تعطيل آيات الله عن أن تبلغ القلوب ، وتتحقق في حياة الناس وآيات الله هي دلائله على الحق وهي شريعته كذلك للخلق فأما هؤلاء فقد جعلهم مالكين للجحيم ويا لسوئها من ملكية في مقابل ذلك الرزق الكريم!
ــــــــــــــــ(1/32)
30-الاستخلاف في الأرض
قال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) } [النور]
هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِهِ خُلَفَاءَ فِي الأَرْضِ ، وَأَئِمَّةً لِلنَّاسِ ، وَأَنَّهُ سَيُبَدِّلُهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسَ أَمْناً وَحُكْماً فِيهِمْ . وَقَدْ أَمْضَى المُسْلِمُونَ عَشْرَ سِنِينَ فِي مَكَّةَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ سِرّاً ، وَهُمْ خَائِفُونَ لاَ يُؤْمَرونَ بِالقِتَالِ ، حَتَّى أُمِرُوا بالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ ، وَأُمِرُوا بِالقِتَالِ ، فَكَانُوا خَائِفِينَ يُمْسُونَ بالسِّلاَحِ ، وَيُصْبِحُونَ بالسَّلاحِ ، فَصَبُروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ . ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأَمَنُ فِيهِ ، وَنَضَعُ السِّلاَحَ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم : لَنْ تَصْبِروا إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُم فِي المَلأ العَظِيمِ مُحْتَبياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ ) .
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ .
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُ المُؤْمِنِينَ فِي الأَرْضِ ، كَمَا اسْتَخَلَفَ المُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِم ، وَسَيَكُونُ لَهُم الأَمْرُ . وَحَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَمَنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ ، وَجَحَدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْباً عَظِيماً
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَإِتْمَامِهَا بِخُشُوعٍ وَحُضَورِ قَلْبٍ ، وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَبِإِيتاءِ الزَّكَاةِ ( وَهِيَ الإِحْسَانُ إِلى الضُعَفَاءِ والفُقَرَاءِ ) كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُطِيعُوا فِي ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ ، بِهِ ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لَعَلَّ الله يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ .
وَلاَ تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الذينَ كَفَرُوا ، وَخَالفُوكَ ، وَكَذَّبُوكَ ، أَنَّهُمْ سَيُعْجِزُونَ اللهَ عَنِ الوُصُولِ إِلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ ، وَسَيُعَذِّبُهُم عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ العَذَابِ ، وَسَيَجْعَلُ جَهَنَّمَ مَأْوَاهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، وَسَاءَتِ النَّارُ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً .
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . . ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة , وبألا يحسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير) . .
فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون) في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء .
ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ?
ــــــــــــــــ(1/33)
31-تبديل السيئات حسنات
قال تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْو مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) }[الفرقان]
يَصِفُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المؤمنينَ المُتَقَّينَ بأَنهُمْ مُتواضِعُون ، يَسيروُن على الأرضِ بسَكِينةٍ ووَقَارٍ ورِفْقٍ ( هَوْناً ) مِنْ غير تَجَبُّرٍ ولا اسْتِكْبارٍ ، وإذات سَفِه عليهِمُ الجاهلونَ بالقَولِ لم يُقابِلُوهم عليهِ إلا حِلْماً وقَوْلاً مَعْروفاً ، ويَرُدُّونَ عليهم قائلينَ : سلامٌ عليكمٌ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلينَ .
وهُمْ يَبيتُونَ قِيَاماً في طَاعَةِ اللهِ تَعالى وعبادَتِهِ ويذكُرونَه ذِكْراً كَثيراً في رُكُوعِهِمْ وسُجُودِهمْ .
( وقالَ تَعالى في صِفَةِ عِبَادِ الرَّحمنِ في سُورةٍ أُخْرى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . } يَبيتُونَ - أَيْ يُدْرِكُهُمْ الليلُ .
وهُمُ الذين يَغْلِبُ عليهِم الخَوفُ منَ اللهِ فيدْعُونهُ ، ويسأَلُونَهُ أَنْ يَصرِفَ عنهمْ عَذابَ جَهَّنمَ ، فإنَّ عذَابَها مؤلمٌ ملازمٌ للإِنسَانِ ، لا يَزولُ عنهُ ، ولا يَحُولُ ، ولا يُفارِقُهُ . وإنَّ جَهَنَّمَ بئسَ المنزلُ ، وَبئْسَ المَقِيلُ والمقَامُ .
ومِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أَيضاً الاعتدَالُ في الإِنفَاقِ على أَنْفُسِهِمْ ، وأَهليهمْ ، فهُمْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرينَ في إنفاقِهِمْ فيَصْرِفُون فوقَ الحَاجَةِ ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِمْ فَيُقَصِّرُون في حقِّهِمْ ، فلا يَكْفُونَهُمْ ، بلْ همْ مُعْتَدِلُونَ في أمورِهِمْ .
وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً ، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً ، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها ، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى ، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى ، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ . ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ .وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً ، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ .
إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا ، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً ، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه ، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ ، ( وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل ) ، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون ، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه ، رَحيمٌ بِهمْ .
ويَعِدُ اللهُ التَّائِبينَ إليهِ وَعْدَاً جَميلاً ، فيقولُ تَعالى : إنَّهُ مَنْ تَاب عَنِ المَعَاصي التي عَمِلَها ونَدِمَ على ما فَرَطَ منهُ ، وأكْمَلَ نفسَهُ بصَالِحِ الأعْْمَالِ ، فإِنَّهُ يتوبُ إلى اللهِ تَوبةً نَصُوحاً مَقْبُولَة لَدَيْهِ ، ماحِيةً للعِقَابِ ، مُحَصِّلَةً لِجَزِيلِ الثوابِ .
ومنْ صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنهمْ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ ، ولا يَحْضرُونَ مَجَالِسَ الفِسْق واللَّغْوِ والبَاطِلِ ، ومَجَالِسَ السُّوءِ ، وإذا مَرُّوا بمَنْ يَلْغُونَ ويَهْذُرُونَ ويَفْسُقُونَ لم يتوقَّفوا عليهِمْ واسْتَمَرُّوا في سيْرِهِمْ مُسْرِعِين .
ومنْ صِفاتِ المؤمنينَ أنهمْ إذا ذَكَرُوا اللهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتَهُ زادَتْهُم إيماناً ويَقِيناً بِصِدْقِ ما جاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُّواتُ ، ولم يكُونُوا كالكُفَّارِ الذين لا يَتَأَثَّرُون بما يَسْمعُون ويُبْصِرُونَ من آياتِ اللهِ ومُعْجِزَاتِه ، ويَسْتَمِرُّونَ وكأنهمْ صُمٌّ لا يَسْمعونَ ، وعُمْيٌ لا يُبْصِرونَ .
ومن صِفَاتِ المُؤمنينَ أَيضاً أنهمْ يَسْألُونَ اللهَ تَعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أصْلاَبِهمْ وذُرِّياتهمْ مَنْ يُطيعُ الله ويعبُدُهُ وحْدَه لا شريكَ له ، لِتَقَرَّ بِهِ أعيُنُهُمْ في الدنيا والآخرةِ ، وأنْ يجعلَ لهمْ مِنْ أزواجِهِمْ منْ يطيعُ الله تعالى ، ويَهْتَدي بِهُدَاه ، ويسألونَ ربَّهُمْ أن يجْعَلَهم أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهم في الخَيرِ .
وهؤُلاءِ المؤمِنُونَ المُتَّصِفُون بالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ ، يُجْزَوْنَ ، يومَ القِيامةِ ، بالدَّرَجاتِ العَالية ، والمنَازِلِ الرَّفيعةِ ، في الجَنَّةِ ، لصَبْرِهِمْ على القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وتَتلقاهُمُ المَلائِكَةُ في الجَنَّةِ بالتَّحِيةِ والسَّلامِ ، فلهُمُ السَّلامُ ، وعليهمُ السَّلامُ .
ويَبْقَوْنَ في الجَنَّةِ خَالدينَ في مُقَامِهِمْ ، لا يَحُولُونَ عَنها ولا يَزولُونَ ولا يَرْتَحِلُونَ ، ونِعْمَتِ الجَنَّةُ مُسْتَقراً ومُقاماً .
قُلْ يا محمدُ لهؤلاءِ الذينَ أُرْسِلْتَ إليهم : إنَّ الفائزينَ بِنِعَمِ الله الجَليلةِ ، التي يَتَنَافَسُ فيها المُتنافِسُونَ إِنما نَالُوها بما ذُكِرَ من الصِّفاتِ الحميدةِ التي اتَّصَفُوا بها ، وَلَوْلاها لم يَهْتَمَّ بهم ربُّهم ، ولم يَعْتَدَّ . ولذلكَ فإنَّهُ لا يَعْبَأُ بِكُمْ إذا لم تَعْبُدُوه ، فما خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إِلا لِيَعْبُدُوا ربَّهُمْ ويُطِيعُوه وحْدَه لا شريكَ له ، وما دُمْتُمْ قد خَالَفْتُم أمرَ ربِّكم ، وَعَصَيْتُمْ حُكْمَهُ ، وكَذَّبْتُم رَسُولَهُ ، فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَر تَكْذِيبِكُمْ ، وهو العقابُ الذي لا مَنَاصَ منهُ ، فاسْتَعِدُّوا له ، وهَيِّئُوا أنفسَكُمْ لذلكَ اليومِ العصيبِ ، وهو آتٍ قَريبٌ .
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما) . .
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن:أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة , ليس فيها تكلف ولا تصنع , وليس فيها خيلاء ولا تنفج , ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية , وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة , تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها , فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة , وفيها جد وقوة . وليس معنى: (يمشون على الأرض هونا) أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس , متداعي الأركان , متهاوي البنيان ; كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تكفأ تكفيا , وكان أسرع الناس مشية , وأحسنها وأسكنها , قال أبو هريرة:ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه , وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب , وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة , لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء , ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك , ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا:سلاما) لا عن ضعف ولكن عن ترفع ; ولا عن عجز إنما عن استعلاء , وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع .
هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله , والشعور بجلاله , والخوف من عذابه . (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما . والذين يقولون:ربنا اصرف عنا عذاب جهنم . إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما) . .
والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن , في جنح الليل والناس نيام . فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما , يتوجهون لربهم وحده , ويقومون له وحده , ويسجدون له وحده . هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ , بما هو أروح منه وأمتع , مشغولون بالتوجه إلى ربهم , وتعليق أرواحهم وجوارحهم به , ينام الناس وهم قائمون ساجدون ; ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن , ذي الجلال والإكرام .
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى , والخوف من عذاب جهنم . يقولون: (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقرا ومقاما) . . وما رأوا جهنم , ولكنهم آمنوا بوجودها , وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم . فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق , وثمرة التصديق .
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم . لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم , ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار , إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته , فيصرف عنهم عذاب جهنم .
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد , متصدية لكل بشر , فاتحة فاها , تهم أن تلتهم , باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد ! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما , يخافونها ويخشونها , ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها , وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها !
ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: (إن عذابها كان غراما) :أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله ; فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا . . (إهنا ساءت مستقرا ومقاما) وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم . وأين الاستقرار وهي النار ? وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار !
وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا , وكان بين ذلك قواما) . .
وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ; ويتجه إليها في التربية والتشريع , يقيم بناءه كله على التوازن والإعتدال .
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام الرأسمالي , وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان . إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير . فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ; والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي , وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب . ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق .
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد , فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وكان بين ذلك قواما) . .
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله , ويتحرجون من قتل النفس , ومن الزنا . تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب:
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر , ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق , ولا يزنون . ومن يفعل ذلك يلق أثاما . يضاعف له العذاب يوم القيامة , ويخلد فيه مهانا . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا , فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات , وكان الله غفورا رحيما . ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) .
وتوحيد الله أساس هذه العقيدة , ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد ; والغموض والالتواء والتعقيد , الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة .
والتحرج من قتل النفس - إلا بالحق - مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن ; وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء .
والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ , ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم , والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار .
ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ; والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان . . من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن . أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله . وعقب عليها بالتهديد الشديد: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) أي عذابا . وفسر هذا العذاب بما بعده(يضاعف له العذاب يوم القيامة . ويخلد فيه مهانا) . . فليس هو العذاب المضاعف وحده , وإنما هي المهانة كذلك , وهي أشد وأنكى .
ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال , وثاب إلى حمى الله , ولاذ به بعد الشرود والمتاهة . (وكان الله غفورا رحيما).
وباب التوبة دائما مفتوح , يدخل منه كل من استيقظ ضميره , وأراد العودة والمآب . لا يصد عنه قاصد , ولا يغلق في وجه لاجى ء , أيا كان , وأيا ما ارتكب من الآثام .
روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة , أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة , فهل له من توبة ? فقال:" أسلمت ? " فقال:نعم . قال:" فافعل الخيرات واترك السيئات , فيجعلها الله لك خيرات كلها " قال:وغدراتي وفجراتي ? قال:" نعم " . فما زال يكبر حتى توارى .
ويضع قاعدة التوبة وشرطها:(ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) . . فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية , وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية . وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية . فالمعصية عمل وحركة , يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة , وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع . وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة , تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة . ومن أخبر من الخالق بما خلق ? سبحانه تعالى !
وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات (عباد الرحمن) : (والذين لا يشهدون الزور , وإذا مروا باللغو مروا كراما) . .
وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب , أنهم لا يؤدون شهادة زور , لما في ذلك من تضييع الحقوق , والإعانة على الظلم . وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه , ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات . وهو أبلغ وأوقع . وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) لا يشغلون أنفسهم به , ولا يلوثونها بسماعه ; إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه ! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر , وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ , وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل .
ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا , قريبو الاعتبار إذا وعظوا , مفتوحو القلوب لآيات الله , يتلقونها بالفهم والاعتبار: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) .
وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان ; لا يسمعون ولا يبصرون , ولا يتطلعون إلى هدى أو نور . وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى . فأما عباد الرحمن , فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق , وما في آيات الله من صدق , فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا , لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه ! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير .
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ; وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها , بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم , وأن تكون لهم أزواج من نوعهم ; فتقر بهم عيونهم , وتطمئن بهم قلوبهم , ويتضاعف بهم عدد (عباد الرحمن) ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: (والذين يقولون:ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين , واجعلنا للمتقين إماما) . .
وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق:شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله . وفي أولهم الذرية والأزواج , فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال . والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير , يأتم به الراغبون في الله . وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله .
فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا , ويلقون فيها تحية وسلاما , خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) . .
والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة , أو المكان الخاص في الجنة , كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض , عندما يستقبلون الأضياف . وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم , يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام , جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات . وهو تعبير ذو دلالة . فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس , ومغريات الحياة , ودوافع السقوط . والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر . الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان .
وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقرا ومقاما , يجزيهم الله الجنة(خالدين فيها . حسنت مستقرا ومقاما) فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله . وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام .
والآن وقد صور عباد الرحمن . تلك الخلاصة الصافية للبشرية . يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء . فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام .
(قل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) . .
وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها ; ومساقها للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم , وتطاولهم عليه , وهم يعرفون مقامه ; ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون . . فما قومه ? وما هذه البشرية كلها , لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله . وتتضرع إليه . كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون ?
من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل . والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض . والأمة واحدة من أمم هذه الأرض . والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله ?
وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ; ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه ! وهو هين هين , ضعيف ضعيف , قاصر قاصر . إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد , وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله ; وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان . فضلا من الله الذي كرم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة , ليعرفه ويتصل به ويتعبد له , فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة ; وإلا فهو لقي ضائع , لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان !
(قل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) . . وفي التعبير سند للرسول صلى الله عليه وسلم وإعزاز: (قل:ما يعبأ بكم ربي) . فأنا في جواره وحماه . هو ربي وأنا عبده . فما أنتم بغير الإيمان به , والانضمام إلى عباده ? إنكم حصب جهنم (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) . .
ــــــــــــــــ(1/34)
32-الشعراء خاسرون إلا من كانوا مؤمنين صادقين
قال تعالى : {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227) } [الشعراء]
قَالَ المُشْرِكُونَ : إنَّ مُحَمَّداً لَشاعرٌ ، وقالوا : إن القرآنُ شِعْرٌ فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ الكريمةَ يُرُدُّ بها على افْتِرَائِهِمْ هَذا ، ويقولُ لهمْ إنَّ القرآنَ فيما حَوَاه من حِكَمٍ وأحْكَامٍ ، وفي أُسْلُوبِه يَتَنَاقَضُ مع الشِّعْرِ . وإنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ يَتَنَافَى مَعَ حَالِ الشُّعْراءِ ، فهوَ لا يَنْطِقُ إلا بالحَقِّ والحِكْمَةِ ، والصِّدْقِ ، ويَتَّبِعُهُ الصَّادِقُونَ المُخْلِصُونَ . والشُّعَراءُ يقولونَ الباطِلَ والزُّورَ ، ولا يَتَّبِعُهُمْ إلا الضَّالُّونَ . والشُّعَرَاءُ يَخُوضُونَ في كُلِّ لغْوٍ ، ويَهِيمُونَ على وجُوهِهِمْ في كلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الكَلاَمِ ، فَهُمْ يَخُوضُونَ مرةً فِي شَتيمةِ فلانٍ ، ومَرةً في مَدِيحِ فُلانٍ ، فلا يَهْتَدُونَ إلى الحقِّ .
والشُّعْرَاءُ يقُولُونَ مَا لاَ يَلْتَزِمُونَ بهِ في عَمَلِهِمْ ، ويَتَبَجَّحُونَ بأقْوَالٍ وأَفْعَالٍ لمْ تَصْدُرْ عَنْهُمْ ولا مِنْهُمْ ، فَيتَكَثَّرُونَ بِمَا ليسَ لهُمْ ، والرَّسُولُ الذي أُنْزِلَ عليهِ القُرآنُ ليسَ بِكَاهِنٍ ، ولا شَاعِرٍ لأنَّ حالَهُ مُنَافٍ لِحَالِ الشُّعَراءِ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ . واسْتَثْنَى اللهُ تَعالى مِنَ الصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ الشُّعراءَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَذَكَرُوا الله كَثيراًُ ، وتَوَلَّوا الرَّدَّ على الكُفَّارِ الذينَ كانُوا يَهْجُونَ المُؤْمِنِينَ . ( وفي الحَديثِ : " إِنَّ المُؤمنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ ولِسَانِهِ ، والذي نَفْسِي بِيدَهِ لَكَأَنَّ مَا تَرمُونَ بهِ نَضحُ النَّبْلِ " ) . ( أََخرَجهُ الإِمامُ أحمدُ ) . وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشِّرْكِ ، وهِجَاءِ الرَّسُولِ ، كَيفَ يَكُونَ مُنْقَلَبُهُمْ يومَ القيَامَةِ ، وفي ذَلكَ اليومِ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ معذِرَتُهُمْ .
إن طبيعة الإسلام - وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة , وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة - إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية - في الغالب - لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به . فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه , ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع .
والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم . فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم , ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به , دفعهم إلى تغييرها , وتحقيق المنهج الذي يريد .
ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة . فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة , وفق منهجه الضخم العظيم .
ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته - كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ . إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن . منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ; ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها . فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام , وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا ; وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ; ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها , وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا !
وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية , وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام , في ضوء الإسلام , ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا .
فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن , كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ .
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون , وإلى خفايا النفس البشرية . وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن . وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال .
ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وذكروا الله كثيرا , وانتصروا من بعد ما ظلموا) . .
فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام . هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة , واستقامت حياتهم على منهج . وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل , ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام . وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه .
ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت , وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - من شعراء الأنصار , ومنهم عبد الله بن الزبعرى , وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاهليتهما , فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان:" اهجهم - أو قال هاجهم - وجبريل معك " . . وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه الإمام أحمد ]
والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها . وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها , ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام .
وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ; ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله . . ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا . وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح , ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلاميفي صميمه . وإن لحظة إشراق واتصال بالله , أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله , لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام .
ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها , وللعلاقات والروابط فيها . فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام .
ــــــــــــــــ(1/35)
33-الفلاح في الدارين
قال تعالى : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)} [القصص]
يُنَادي اللهُ تَعَالى المُشرِكِينَ وَيَسْأَلُهُم عَمَّا أَجَابُوا بهِ عَلَى دَعْوَةِ المُرسَلِينَ إِليهِمْ ، وكَيفَ كَانَ حَالُهُم مَعَهُم حِينما أبلغُوهُم دَعْوَةَ رَبِّهِمْ؟
فَلاَ يَجدُونَ مَا يرُدُّونَ بهِ عَلَى السُّؤالِ فيَسكُنُونَ . وَتَخْفَى عَليهِم الحُجَجُ وكُلُّ طُرُقِ العِلْمِ التِي كَانَتْ تُجدِيهِمْ نَفْعاً في الحَيَاة الدُّنيا ، فَلا يَسْأَلُ بَعْضُهُم بَعْضاً ، لِتَساوِيِهم جَميعاً في عَمَى الأنباء عَليهِمْ ، والعَجزِ عنِ الجَوَابِ .
وأَما الذي تَابَ ، مِنَ المُشرِكينَ ، عَمَّا اقتَرَفَهُ مِنَ الشِّرْك والذُّنوبِ والمآثِمِ والمَحَارِمِ ، وآمَنَ بِرَبّهِ إِيماناً مُخْلِصَاً ، وصَدَّقَ رَسُولَهُ ، وَعَمِلَ في الدُّنيا عَمَلاً صالحاً ، فإِنَّهُ يَرجُو أَنْ يكُونَ في الآخِرَةِ مِنَ المُفْلِحينَ الفَائزينَ بِرِضوانِ الله .
( وَعَسَى مِنَ اللهَ تَعَالى مُوجِبَةٌ أَيْ إِنَّ ذَلكَ وَاقعٌ بِفَضْلِ اللهِ وَمِنَّتِهِ لاَ مَحَالَةَ ) .
قال السعدي : "{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } هل صدقتموهم، [واتبعتموهم] أم كذبتموهم وخالفتموهم؟
{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ } أي: لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا، ولم يهتدوا إلى الصواب.
ومن المعلوم أنه لا ينجى في هذا الموضع إلا التصريح بالجواب الصحيح، المطابق لأحوالهم، من أننا أجبناهم بالإيمان والانقياد، ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم، لم ينطقوا بشيء، ولا يمكن أن يتساءلوا ويتراجعوا بينهم في ماذا يجيبون به، ولو كان كذبا.
ولما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم وعن رسلهم، ذكر الطريق الذي ينجو به العبد من عقاب اللّه تعالى، وأنه لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي، وآمن باللّه فعبده، وآمن برسله فصدقهم، وعمل صالحا متبعا فيه للرسل، { فَعَسَى أَنْ يَكُونَ } من جمع هذه الخصال { مِنَ الْمُفْلِحِينَ } الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب، فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور."
إن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين . ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل . وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت . ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول : { فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون } .
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة . وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم ، وهم لا يعلمون شيئاً عن أي شيء! ولا يملكون سؤالاً ولا جواباً . وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!
{ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين } . .وهذه هي الصفحة المقابلة . ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين ، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحاً ، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح . ولمن شاء أن يختار . وفي الوقت فسحة للاختيار!
ــــــــــــــــ(1/36)
34-ينظرون بنور الله إلى حقائق الأشياء
قال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} [القصص]
ويَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم ، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ، وَعَلَى المُؤمنينَ ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى ، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ .
وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ ( وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ) ، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا ، وَثِقلِ وَزْنِها ، فَطَغَى وَبَغَى ، وَبَطِرَ ، وَتَكَّبرَ ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ : لا تَبْطَرْ ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يًُحِبُّ البَطرِينَ الأَشِرِينَ ، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ .
واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ ، في طَاعَةِ رَبِّكَ ، والتَّقَرُّبِ إليهِ ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ ( نَصِيبَكَ ) مِنَ الدُّنيا ، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها . . فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً ، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً ، . . فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ . وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ .
فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ : إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ . ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً : إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً ، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها . . وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها ، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ .
وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا ، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا .
فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ ، قَالُوا لَهُمْ : الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ .
وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهًُ ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ .
وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ ، قالُوا : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا ، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى .
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ ، وَلاَ َجَبُّراً ، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ . وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ ، وهيَ الجَنَّةُ ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ .
مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا ، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ ، فَضْلاً منهُ وكَرماً ، ومَنْ جَاءَ بالسَّّيَئَةِ فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها ، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً .
---------------
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها "قارون" وتحدد قومه "قوم موسى " وتقرر مسلكه مع قومه , وهو مسلك البغي (فبغى عليهم) وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) . .
ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس . لقد كان قارون من قوم موسى , فأتاه الله مالا كثيرا , يصور كثرته بأنه كنوز - والكنز هو المخبوء المدخر منالمال الفائض عن الاستعمال والتداول - وبأن مفاتح هذه الكنوز تعيي المجموعة من أقوياء الرجال . . من أجل هذا بغى قارون على قومه . ولا يذكر فيم كان البغي , ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور . فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم - كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان - وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال . حق الفقراء في أموال الأغنياء , كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه , فتفسد القلوب , وتفسد الحياة . وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب .
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي , ورجعه إلى النهج القويم , الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء ; وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ; ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ; ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال ; وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم , ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب:
إذ قال له قومه:لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك , ولا تبغ الفساد في الأرض . إن الله لايحب المفسدين .
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة .
(لا تفرح) . . فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال , والاحتفال بالثراء , والتعلق بالكنوز , والابتهاج بالملك والاستحواذ . . لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال ; وينسي نعمته , وما يجب لها من الحمد والشكران . لا تفرح فرح الذي يستخفه المال , فيشغل به قلبه , ويطير له لبه , ويتطاول به على العباد . .
(إن الله لا يحب الفرحين) . . فهم يردونه بذلك إلى الله , الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال , المتباهين , المتطاولين بسلطانه على الناس .
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا) . . وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى .
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
(وأحسن كما أحسن الله إليك) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف , والإحسان به إلى الخلق , وإحسان الشعور بالنعمة , وإحسان الشكران .
(ولا تبغ الفساد في الأرض) . . الفساد بالبغي والظلم . والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة . والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء والفساد بإنفاق المال في غير وجه أو إمساكه عن وجهه على كل حال .
(إن الله لا يحب المفسدين) . . كما أنه لا يحب الفرحين .
كذلك قال له قومه:فكان رده جملة واحدة , تحمل شتى معاني الفساد والإفساد: (قال:إنما أوتيته على علم عندي) !
إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله . فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه , وتتحكمون في ملكيتي الخاصة , وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص , واستحققته بعلمي الخاص ?
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها , ويفتنه المال ويعميه الثراء .
وهو نموذج مكرر في البشرية . فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه . ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك , غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح , غير حاسب لله حسابا , ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
والإسلام يعترف بالملكية الفردية , ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ; ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه . ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية - كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها - وهو منهج متوازن متعادل , لا يحرم الفرد ثمرة جهده , ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ; ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال , ورقابتها على طرق تحصيله , وطرق تنميته . وطرق إنفاقه والاستمتاع به . وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات .
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه , ولم يشعر بنعمة ربه , ولم يخضع لمنهجه القويم . وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم .
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية , ردا على قولته الفاجرة المغرورة: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ? ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)
فإن كان ذا قوة وذا مال , فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا . وكان عليه أن يعلم هذا . فهذا هو العلم المنجي . فليعلم . وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم . فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد !
(ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) !
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة , يتجلى فيه البغي والتطاول , والإعراض عن النصح , والتعالي على العظة , والإصرار على الفساد , والاغترار بالمال , والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران .
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه , فتطير لها قلوب فريق منهم , وتتهاوى لها نفوسهم , ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون , ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون . ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون , ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين , في ثقة وفي يقين: فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا:يا ليت لنا مثلما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم:ويلكم ! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا , ولا يلقاها إلا الصابرون .
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت , ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان , والرجاء فيما عند الله , والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:قال الذين يريدون الحياة الدنيا:ياليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب , وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا , ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ; فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى , كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع , غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه , ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه , ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة , وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع . وهم أعلى نفسا , وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا . ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم) . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:
(وقال الذين أوتوا العلم:ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا , ولا يلقاها إلا الصابرون)
ثواب الله خير من هذه الزينة , وما عند الله خير مما عند قارون . والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون . . الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم . الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها . الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون . وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة . درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض , والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها , وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى , تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة , وترحم الناس الضعاف من إغرائها , وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا: (فخسفنا به وبداره الأرض , فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله , وما كان من المنتصرين) . .
هكذا في جملة قصيرة , وفي لمحة خاطفة: (فخسفنا به وبداره الأرض) فابتلعته وابتعلت داره , وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا , لا ينصره أحد , ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ; وردتهم الضربة القاضية إلى الله ; وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير:
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون:وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . لولا أن من الله علينا لخسف بنا . وي ! كأنه لا يفلح الكافرون . .
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس , ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال , ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين , ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ويسدل الستار على هذا المشهد . وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة , وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان . . ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . والعاقبة للمتقين) . .
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم . العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية . تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق . تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) . . فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ; ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها . إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله , ومنهجه في الحياة . أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا . ولا يبغون فيها كذلك فسادا . أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة . تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه .
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه . الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها . والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:
(من جاء بالحسنة فله خير منها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) . .
ــــــــــــــــ(1/37)
35-الجزاء بأحسن أعمالهم
قال تعالى : {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) } [العنكبوت]
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ ، وَيَطْمَعُ فِي ثَوابِ اللهِ يَومَ لِقَائِهِ في الآخِرَةِ ، فَلْيُبَادِرْ إِلى فِعْلِ مَا يَنْفَعُهُ ، وَعَمَلِ مَا يُوصِلُهُ إِلى مَرْضَاةِ رَبِّه ، وَلَيَجْتَنِبْ ما يُسْخِطُ رَبَّه عَلَيهِ ، فإِنَّ أَجَلَ اللهِ الذي حَدَّدَهُ لِبَعْثِ خَلْقِهِ لِلحِسَابِ والجَزَاءِ لآتٍ لاَ مَحَالَةَ ، وَاللهُ هُوَ السَّميعُ لأَقْوالِ العِبَادِ ، العَلِيمُ بِعَقَائِدهُمْ وأَعْمَالِهِمْ .
وَمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ في جِهَادِ عَدُوٍّ لِدِينِهِ وَوَطَنِهِ وَقَوْمِهِ ، وَفي مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ ، وَكَفَّها عَنِ التَّفْكِيرِ في المُنْكَرِ والسُّوءِ ، فإِنَّهُ إِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ نَفْعِ نَفْسِهِ ، بِالفَوْزِ بِثَوابِ اللهِ عَلى جِهَادِهِ ، وبِالنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِهِ ، وَلَيْسَ اللهُ بِحَاجَةٍ إِلى جِهَادِ أَحَدٍ ، فَهُوَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، وَهُوَ عَزِيزٌ لا يُنَالَ وَلاَ يُضَامُ .
وَالذِينَ آمنُوا باللهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَصَحَّ إيمَانُهُمْ حِينَ ابْتِلائِهِمْ واختِبَارِهِمْ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَة ، فَإِنَّ الله تَعَالى سَيَجحْزِيهِمْ أَحْسَنَ الجَزَاءِ في الآخِرَة ، فَيُكَفِّرُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِم التي فَرَطَتْ مِنْهُم لِمَاماً في حَالِ إِيمَانِهِمْ ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلى ما اجْتَرحُوهُ منها ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ ، فَيَتَقَبَّلُ القَلِيلَ مِنَ الحَسَناتِ ، وَيُثِيبُ عَلَيهَا الوَاحِدةَ بِعَشرِ ، أَمْثَالِها ، ويَجْزي عَلى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِها أَوْ يَعْفُوا وَيَصْفَحُ .
فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ; ولتنتظر ما وعدها الله إياه , انتظار الواثق المستيقن ; ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين .
والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية . صورة الراجي المشتاق , الموصول بما هناك . ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح . ويعقب عليه بالطمأنينة الندية , يدخلها في تلك القلوب . فإن الله يسمع لها , ويعلم تطلعها: (وهو السميع العليم) .
والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان , ومشاق الجهاد , بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها , ولإصلاح أمرها وحياتها ; وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد , وإنه لغنى عن كل أحد: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه , إن الله لغني عن العالمين) . .
فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق , فإنما ذلك لإصلاحهم , وتكميلهم , وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة . والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ; ويرفع من تصوراته وآفاقه ; ويستعلي به على الشح بالنفس والمال , ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات . وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة , وما يعود عليها من صلاح حالها , واستقرار الحق بينها , وغلبة الخير فيها على الشر , والصلاح فيها على الفساد .
(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) . فلا يقفن أحد في وسط الطريق , وقد مضى في الجهاد شوطا ; يطلب من الله ثمن جهاده ; ويمن عليه وعلى دعوته , ويستبطئ المكافأة على ما ناله ! فإن الله لا يناله من جهاده شيء . وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: (إن الله لغني عن العالمين) . وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده , وأن يستخلفه في الأرض به , وأن يأجره في الآخرة بثوابه:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم , ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) .
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله , من تكفير للسيئات , وجزاء على الحسنات . وليصبروا على تكاليف الجهاد ; وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ; فالأمل المشرق والجزاء الطيب , ينتظرانهم في نهاية المطاف . وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف .
ــــــــــــــــ(1/38)
36-الدخول في الصالحين
قال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ }[العنكبوت 9]
واللهُ تَعَالى سَيُدخِلُ الذِينَ آمنُوا وعَمِلُوا الأَعمَالَ الصَّالحَةَ في رَحْمَتهِ ، وَيَحْشُرُهُمْ مَعَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ .
قال السعدي : "أي: من آمن باللّه وعمل صالحا، فإن اللّه وعده أن يدخله الجنة في جملة عباده الصالحين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كل على حسب درجته ومرتبته عند اللّه، فالإيمان الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه، وأنه من أهل الرحمن، والصالحين من عباد اللّه تعالى."
وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة , كما هم في الحقيقة ; وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر , وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا , فهي روابط عارضة لا أصيلة , لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها .
عن سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ - حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لاَ تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ وَلاَ تَأْكُلَ وَلاَ تَشْرَبَ. قَالَتْ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ وَأَنَا أُمُّكَ وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا. قَالَ مَكَثَتْ ثَلاَثًا حَتَّى غُشِىَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْقُرْآنِ هَذِهِ الآيَةَ (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِى) وَفِيهَا (وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). مسلم (6391 )
وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم ; واستبقي الإحسان والبر . وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن ; فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان .
ــــــــــــــــ(1/39)
37-الغرف العالية في الجنة
قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)} [العنكبوت]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤمِنينَ بالهِجْرَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لا يَقْدِرُونَ فيهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ إِلى مَكَانٍ آخَرَ مِنْ أَرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ ، يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ إِقَامَةَ شَعائِرِ دِينِهِمْ كَمَا أًَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ .
( وَجَاءَ فِي الحَديثِ : " البِلاَدُ بِلاَدُ اللهِ ، وَالعِبَادُ عِبَادُ اللهِ ، حَيْثُما أَصَبْتَ خَيْراً فإَقِمْ " ( أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ ) .
وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِككُمُ المَوْتُ ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَحَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، فَالمَوْتُ آتٍ لا مَحَالَةَ ، وَلا مَفَرَّ مِنْهُ وَلا مَهْرَبَ ، ثُمّ تُرْجَعُونَ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعِنْدَهُ الحِسَابُ والجَزَاءُ .
وَالذِينَ آمَنُوا باللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ، وَعَمِلُوا بِمَ أَمَرهُمُ اللهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ ، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، فإِنّهُ تَعَالى يَعِدُهُمْ وَعْداً حَقّاً أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُمْ في الجَنَّةِ قُصُوراً ، وأَمَاكِنَ مُرتَفِعَةً ( غُرَفاً ) تَجْرِي في أَرْضِها الأَنْهَارُ وَسَيبْقَونَ فِيها خَالدِين ، أَبداً ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا .وَمَا حَصَلُوا عَلَيهِ مِنْ جَزاءٍ كَرِيمٍ هُوَ نِعْمَ الأَجْرُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحاً .وَهؤُلاءِ العََامِلُون ، الذينَ فَازُوا بِغُرفاتِ الجَنَّةِ ، هُمُ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ ، وَعَلَى شَدَائِدِ الهِجْرَةِ ، وَعَلَى الجِهَادِ في سَبِيل اللهِ ، وَتًَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمُ في جَمِيعِ أَعْمَالِهِم .
إن خالق هذه القلوب , الخبير بمداخلها , العليم بخفاياها , العارف بما يهجس فيها , وما يستكن في حناياها . . إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب:يا عبادي الذين آمنوا:يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها , لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها . بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها: (يا عبادي) . . هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية: (إن أرضي واسعة) . .
أنتم عبادي . وهذه أرضي . وهي واسعة . فسيحة تسعكم . فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق , الذي تفتنون فيه عن دينكم , ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ? غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة , ناجين بدينكم , أحرارا في عبادتكم (فإياي فاعبدون) .
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة . ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين:بالنداء الحبيب القريب: (يا عبادي) وبالسعة في الأرض: (إن أرضي واسعة) وما دامت كلها أرض الله , فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه .
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها . فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة . خطر الموت الكامن في محاولة الخروج - وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة , ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين - ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة . ومن هنا تجيء اللمسة الثانية: (كل نفس ذائقة الموت . ثم إلينا ترجعون) . .
فالموت حتم في كل مكان , فلا داعي أن يحسبوا حسابه , وهم لا يعلمون أسبابه . وإلى الله المرجع والمآب . فهم مهاجرون إليه , في أرضه الواسعة , وهم عائدون إليه في نهاية المطاف . وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة . فمن ذا يساوره الخوف , أو يهجس في ضميره القلق , بعد هذه اللمسات ?
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده ; بل يكشف عما أعده لهم هناك . وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة . ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض . عوض من نوعها وأعظم منها: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها) .
وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله: نعم أجر العاملين , الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . .
وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب , في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع .
ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق , بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف , وأسباب الرزق المعلومة . فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب:
وكأي من دابة لا تحمل رزقها , الله يرزقها وإياكم . .
لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم . فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به , ولا تعرف كيف توفره لنفسها , ولا كيف تحتفظ به معها . ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا . وكذلك يرزق الناس . ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه . إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه . وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله , لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله . فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة . فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا . كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها , ولكن الله يرزقها ولا يدعها .
ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله , وإشعارهم برعايته وعنايته , فهو يسمع لهم ويعلم حالهم , ولا يدعهم وحدهم: (وهو السميع العليم) . .
وتنتهي هذه الجولة القصيرة ; وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ; ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج . وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة , ومكان كل قلق ثقة , ومكان كل تعب راحة . وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان .
ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب . ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب .
ــــــــــــــــ(1/40)
38-في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ
قال تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) [الروم]
وَحِينَمَا تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَيَتمُّ الحِسَابُ ، يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ إلى ما يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ ، فَيَفْتَرِقُ أَهْلُ الإِيمَانِ عَنْ أهلِ الكُفْرِ ، فَلاَ لِقَاءَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبداً .
فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ في الدُّنيا ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في رِيَاضِ الجِنَّاتِ يَنْعَمُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ .
وَأَمّا الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآياتِهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ ، وَأَنْكَرُوا البَعْثَ والنُّشُورَ والحِسَابَ في الآخِرَةِ ، فَيَكُونُونَ حَاضِرِينَ في العَذابِ لا يَغِيبُونَ عَنْهُ أبداً .
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون ، ويكذب بها المكذبون . ها هي ذي تجيء ، أو ها هي ذي تقوم! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين ، لا أمل لهم في نجاة ، ولا رجاء لهم في خلاص . ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين! هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع . ثم ها هم أولاء يكفرون بشركائهم الذين عبدوهم في الأرض وأشركوهم مع الله رب العالمين .
ثم ها هو ذا مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين :{ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } . . ويتلقون فيها ما يفرح القلب ويسر الخاطر ويسعد الضمير .
{ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } . .وتلك نهاية المطاف . وعاقبة المحسنين والمسيئين .
ــــــــــــــــ(1/41)
39-الجزاء من فضل الله
قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)} [الروم]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بالمُبَادَرةِ إلى الاسْتِقَامَةِ في طَاعَتِهِ ، واتّبَاعِ نَهْجِهِ القَوِيمِ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجيءَ يومُ القِيَامَةِ ، وَهُوَ يومٌ لا رَادَّ لهُ ، وَسَيَقَعُ حَتماً لا مَحَالةَ . وفي ذلكَ اليومِ يَتَفَرّقُ النّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ ، فَريقٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَيَنْعَمُ فِيها بالحَياةِ السَّعِيدَة ، وفَرِيقٌ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً .
مَنْ كَفَرَ بِاللهِ تَعَالَى ، وَعَمِلَ السَّيِّئَاتِ فَعَليهِ وَحْدَهُ وِزْرُ كُفْرِهِ ، وآثامُ جُحُودِهِ بِنِعَمِ اللهِ . وَمَنْ آمَنَ باللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ، وَأَطَاعَ الله فِيما أَمَرَ ، وابْتَعَدَ عَمّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ فَيكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ الفِرَاشَ وَوَطَّأَهُ ، حَتَّى لا يُقَضَّ مَضْجَعُهُ ، وَيَكُونُ في الآخِرةِ مِنَ الفَائِزينَ ( أَوْ يكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ طَريقَ الجَنَّةِ ) .
وقال السعدي : "أي: أقبل بقلبك وتوجه بوجهك واسع ببدنك لإقامة الدين القيم المستقيم، فنفذ أوامره ونواهيه بجد واجتهاد وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة. وبادر زمانك وحياتك وشبابك، { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } وهو يوم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده ولا يرجأ العاملون أن يستأنفوا العمل بل فرغ من الأعمال لم يبق إلا جزاء العمال. { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي: يتفرقون عن ذلك اليوم ويصدرون أشتاتا متفاوتين لِيُرَوْا أعمالهم.
{ مَنْ كَفَرَ } منهم { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } ويعاقب هو بنفسه لا تزر وازرة وزر أخرى، { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا } من الحقوق التي للّه أو التي للعباد الواجبة والمستحبة، { فَلأنْفُسِهِمْ } لا لغيرهم { يَمْهَدُونَ } أي: يهيئون ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها، ومع ذلك جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم بل يجزيهم اللّه من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما لا تبلغه أعمالهم. وذلك لأنه أحبهم وإذا أحب اللّه عبدا صب عليه الإحسان صبا، وأجزل له العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة.
وهذا بخلاف الكافرين فإن اللّه لما أبغضهم ومقتهم عاقبهم وعذبهم ولم يزدهم كما زاد من قبلهم فلهذا قال: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } "
وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة . أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء , والرزق ومضاعفته , والفساد الناشئ من الشرك , وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه , وعاقبة المشركين في الأرض . يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ; ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله . يوم يتفرقون فريقين: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) . .
ويمهد معناها يمهد ويعبد , ويعد المهد الذي فيه يستريح , ويهييء الطريق أو المضجع المريح . وكلها ظلال تتجمع وتتناسق , لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته . فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهييء أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها . وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير . وذلك: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات) . . (من فضله) . . فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله . وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله . إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين . وكراهيته سبحانه للكافرين: (إنه لا يحب الكافرين) . .
ــــــــــــــــ(1/42)
40-جَنَّاتُ النَّعِيمِ
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) }[لقمان]
أَمَّا المُؤْمِنُونَ الأَبْرارُ الصَّالِحُوةنَ فإِنَّ الله تَعَالى سَيَجْزِيهِمْ بإِدْخَالِهِمْ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، فِي جَنَّاتٍ يَنْعَمُونَ فِيها .
وَيَبْقَونَ في هذهِ الجَنَّاتِ خَالدِينَ أَبَداً ، لا يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ ، وَلا يَنْقَضِي نَعِيمُهُم وَلا يَنْقُصُ ، وهذا الذِي وَعَدَهُمْ بهِ اللهُ ، هُوَ وَعْدٌ حقٌّ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ لأَنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أبداً ، وَهُوَ تَعَالى العَزيزُ الذِي قَهَرَ كُلَّ شيءٍ ، وَخَضَع لَهُ كُلُّ شيءٍ ، وَهُوَ الحَكِيمُ في أَقْوالِهِ وأَفْعَالِهِ وَشَرِعِهِ .
وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان . فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة ; إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة , ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك ; ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع , المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير .
وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح (لهم جنات النعيم خالدين فيها) . . لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق . (وعد الله حقا) فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه ! وهو الغني عن الجميع !
(وهو العزيز الحكيم) . . القادر على تحقيق وعده , الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق .
ــــــــــــــــ(1/43)
41-جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً
قال تعالى : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) } [السجدة]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي فِي حُكْمِهِ يومَ القِيَامَةِ مَنْ كَانَ مُؤْمِناً باللهِ مُتَّبِعاً رَسُولَهُ ، مَعَ مَنْ كَانَ خَارِجاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ ( فَاسِقاً ) ، مُكَذِّباً رُسُلَهُ .
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ . . فَهؤلاءِ لَهُمْ الجَنَّاتُ التِي فِيها المَسَاكِنُ ، والدُّورُ ، وَالغُرَفُ العَالِيَاتُ ( جَنَّاتُ المَأْوَى ) يَحُلُّونَ فِيها نُزَلاَءَ فِي ضِيَافَةٍ وَكَرَامَةٍ ، جَزَاءً لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالى عَلَى إِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ ، وَصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ .
وَأَمَّا الذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ ( فَسَقُوا ) وَكَفَرُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ ، واجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ . . فَإِنَّ مَأْوَاهُمْ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَكُلَّما حَاوَلوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ يُرَدُّونَ إليها ، وَيُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً : ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ ، بِمَ كُنْتُم تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ، وَلا تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِليهِ .
وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك , حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء . والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله , عاملون على منهاجه القويم . والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة , وقانونه الأصيل . فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة , وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه .
(أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى) التي تؤويهم وتضمهم(نزلا) ينزلون فيه ويثوون , جزاء (بما كانوا يعملون) . .
(وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) . . يصيرون إليها ويأوون . ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد ! (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار . (وقيل لهم:ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) . فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب .
ذلك مصير الفاسقين في الآخرة . وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد . فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) . .
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى ; فالله سبحانه و تعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم , وإذا لم يصروا على موجبات العذاب . فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض (لعلهم يرجعون) . . وتستيقظ فطرتهم , ويردهم ألم العذاب إلى الصواب . ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذين رأيناه في مشهدهم الأليم . فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ?) وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: (إنا من المجرمين منتقمون) . . ويا هوله من تهديد . والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب !
ــــــــــــــــ(1/44)
42-المَّغْفِرَةٌ وَالرِزْقٌ الكَرِيمٌ
قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) } [سبأ]
بَعْدَ أًَنْ أَبَانَ اللهُ تَعَالى أَنَّهُ صَاحِبُ الحَمْدِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَفِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ عَلَى مَا أَسْدَى إِلى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَم ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَولِهِ إِنَّ كَثيراً مِنْ خَلْقِهِ يُنْكِرِ الآخِرَةَ ، وَيَسْتَهزِئُ بِمَنْ يَعْتَقِدُ بِوُقُوعِها ، وَيَسْتَعجِلُ بِالعَذَابِ الذِي يَتَهَدَّدُ اللهُ بهِ المُجْرِمينَ الكَافِرينَ ، فَيقُولُ تَعَالى : وَقَال الذِينَ كَفَروا بِاللهِ وَنِعَمِهِ عَلَيهِمْ ، وَجَحَدُوا بِما تَهْدِي إِليهِ العُقُولُ السَّلِيمَةُ : إِنَّهُ لاَ رَجْعَةَ إِلى الحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ البَشَرُ ، وَلاَ بَعْثَ وَلاَ حِسَابَ وَلاَ عِقَابَ ، وَمَا يُهْلِكُهُمْ إِلاَّ الدَّهْرُ . . ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيهِمْ مُقْسِماً بِرَبِّهِ العَظِيمِ عَلَى أَنَّ المَعَادَ سَيَقَعُ ، لا مَحَالَةَ ، وَلاَ شَكَّ في ذلِكَ ، وَلكِنَّ وَقْتَ مَجِيءِ السَّاعَةِ التِي تَقُومُ فِيهَا القِيَامَةُ ، وَيَبْعَثُ فِيها اللهُ الخَلائِقِ ، لاَ يَعْلَمُهُ إلاّ اللهُ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ، الذِي لا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ دَخَل فِي الأَرْضِ ، أَوْ صَعِدَ فِي السَّمَاءِ ، فَهُوَ تَعَالى يَعْلَمُ مَا يَتَفَرَّقُ مِنْ ذَرّاتِ أَجْسَادِ الأَموَاتِ وأَيْنَ تَسْتَقِرُّ فَيَجْمَعُها يَومَ القِيَامَةِ بأَمرٍ مِنْهُ فَيُعِيدُها خَلْقاً جَدِيداً كَمَا كَانَتْ ، وَقَدْ أوْدَعَ اللهُ تَعَالى كُلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ وَلا يَنْسَى .وَهذِهِ الآيَةُ إِحْدَى ثَلاثِ آياتٍ فِي القُرآنِ ، أَمرَ اللهُ فِيها الرَّسُولَ الأكرمَ بِأَنْ يُقَسِمَ بِرَبِّهِ العَظِيمِ عَلَى أَنَّ السَّاعَةَ سَتَقُومُ ، وَأَنَّ الأَمواتَ سَيُبْعَثُونَ لِلْحِسَابِ .
الآيَةُ الأولَى جَاءَت فِي سُورَةِ يُونُس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } وَالآيَةُ الثَّانيَةُ جَاءَتْ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ . } والثَّالثَةُ هذهِ الآيَةُ .وَالحِكْمَةُ فِي قِيامِ السَّاعَةِ ، وَحَشْرِ الخَلاَئِقِ هِيَ لِحِسَابِهِمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيا ، فَيَجْزِي اللهُ المُؤْمِنِينَ بِرَبِّهِمْ ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، الذِينَ عَمِلُوا العَمَلَ الصَّالِحَ بالحُسْنَى ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ فِي جَنَّتِهِ ، وَيُؤتِيهِمْ رِزْقاً كَرِيماً وَاسِعاً .
أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ اتِّبَاعِ مَا دَعَتْهُمْ إِليهِ الرُّسُلُ مِنَ الإِيمَانِ ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَسُبُلِ الهُدَى ، وَأَجْهَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَحَارَبةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقُرآنِهِ . . . فإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَذَاباً أَليماً .
وقال السعدي : "لما بين تعالى، عظمته، بما وصف به نفسه، وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه، والإيمان به، ذكر أن من أصناف الناس، طائفة لم تقدر ربها حق قدره، ولم تعظمه حق عظمته، بل كفروا به، وأنكروا قدرته على إعادة الأموات، وقيام الساعة، وعارضوا بذلك رسله فقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي باللّه وبرسله، وبما جاءوا به، فقالوا بسبب كفرهم: { لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي: ما هي، إلا هذه الحياة الدنيا، نموت ونحيا. [ ص 675 ] فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله، ويقسم على البعث، وأنه سيأتيهم، واستدل على ذلك بدليل من أقرَّ به، لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة، وهو علمه تعالى الواسع العام فقال: { عَالِمِ الْغَيْبِ } أي: الأمور الغائبة عن أبصارنا، وعن علمنا، فكيف بالشهادة؟".
ثم أكد علمه فقال: { لا يَعْزُبُ } أي: لا يغيب عن علمه { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } أي: جميع الأشياء بذواتها وأجزائها، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء، وهو المثاقيل منها.
{ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه، وتضمنه الكتاب المبين، الذي هو اللوح المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه، في جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات، وما يبقى من أجسادهم، قادر على بعثهم من باب أولى، وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط.
ثم ذكر المقصود من البعث فقال: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم، صدقوا اللّه، وصدقوا رسله تصديقا جازما، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } تصديقا لإيمانهم. { أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم، بسبب إيمانهم وعملهم، يندفع بها كل شر وعقاب. { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } بإحسانهم، يحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب، وأمنية.
{ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي: سعوا فيها كفرا بها، وتعجيزا لمن جاء بها، وتعجيزا لمن أنزلها، كما عجزوه في الإعادة بعد الموت. { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } أي: مؤلم لأبدانهم وقلوبهم."
إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . .) . . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله , سبحانه , الذي يصف نفسه , ويصف علمه , بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال . وأقرب تفسير لقوله تعالى: (إلا في كتاب مبين) أنه علم الله الذي يقيد كل شيء , ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة , وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .
مجيء الساعة حتماً وجزماً , وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:
(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات . أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين , أولئك لهم عذاب من رجز أليم) . .
فهناك حكمة وقصد وتدبير . وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات , وللذين سعوا في آيات الله معاجزين . .
فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم(مغفرة) لما يقع منهم من خطايا ولهم (رزق كريم) والرزق يجيء ذكره كثيراً في هذه السورة , فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف , وهو رزق من رزق الله على كل حال .
وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله , فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه . والرجز هو العذاب السيّىء . جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء !
وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره , وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم ; وهي لا بد أن تجيء . .
ــــــــــــــــ(1/45)
43- جَزَاء الضِّعْفِ
قال تعالى : {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) } [سبأ]
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : إِنَّ رَبِي يُعْطِي المَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَإِنَّهُ تَعَالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ لاَ لِمَحَبَّةٍ فِيهِ ، وَلاَ لِزُلْفَى اسْتَحَقَّ بِهَا ذَلِكَ عِنْدَهُ ، وَهُوَ يُضَيِّقُ الرِّزْقَ ( يَقْدِرُ ) عَلَى مَنْ يَشَاءُ لاَ لِبُغْضٍ مِنْهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيهِ رِزْقَهُ ، وَلاَ لَمَقْتٍ ، وَإِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ لِحِكَمٍ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ هذِهِ الحَقِيقَةَ .
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : إِنَّ اَمْوَالَكُمُ التي تُفَاخِرُونَ النَّاسَ بِها ، وَأَوْلادَكُم الذِينَ تَسْتَكْبِرُونَ بِهِمْ عَلَى النَّاسِ ، لا تُقرِّبُكُمْ مِنَ اللهِ ، وَليسَتْ دَليلاً عَلَى عِنَايَتِهِ بِكُمْ ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً جَزَاءَ عَمَلِهِ فَيَجْزِيهِ بِالحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَمْثَالِها إِلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ ، وَيَجْعَلُ مَسْكَنَهُ فِي غُرُفَاتِها العَالِيَةِ ، وَهُوَ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَشَرٍّ وَهَوْلٍ .
أَمَّا الذِينَ يَسْعَوْنَ فِي مُعَارَضَةِ آيَاتِ اللهِ ، وَتَعْجِيزِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الكِرَامِ ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ سَبيلِ اللهِ ، وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ الكَرِيمُ ، وَعَن الإِيمَانِ بآياتِ اللهِ والتَّصْدِيقِ بِها . . فأُولئِكَ تُحْضِرُهُمْ مَلاَئِكَةُ العَذَابِ إٍلى جَهَنَّمَ لِيَدْخُلُوها ، وَيَذْوقُوا العَذَابَ فِيها ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَسَعْيِهِمْ فِي مَنْعِ النَّاسِ عَنِ الإِيمَانِ باللهِ ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ .
إن مسألة بسط الرزق وقبضه ; وتملك وسائل المتاع والزينة أو الحرمان منها , مسألة يحيك منها شيء في صدور كثيرة . ذلك حين تتفتح الدنيا أحياناً على أهل الشر والباطل والفساد , ويحرم من أعراضها أحياناً أهل الخير والحق والصلاح ; فيحسب بعض الناس أن الله ما كان ليغدق على أحد إلا وهو عنده ذو مقام . أو يشك بعض الناس في قيمة الخير والحق والصلاح , وهم يرونها محوطة بالحرمان !
ويفصل القرآن هنا بين أعراض الحياة الدنيا والقيم التي ينظر الله إليها . ويقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر . وأن هذه مسألة ورضاه وغضبه مسألة أخرى ولا علاقة بينهما . وقد يغدق الله الرزق على من هو عليه غاضب كما يغدقه على من هو عليه راض . وقد يضيق الله على أهل الشر كما يضيق على أهل الخير . ولكن العلل والغايات لا تكون واحدة في جميع هذه الحالات .
لقد يغدق الله على أهل الشر استدراجاً لهم ليزدادوا سوءاً وبطراً وإفساداً , ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة , ثم يأخذهم في الدنيا أو في الآخرة - وفق حكمته وتقديره - بهذا الرصيد الأثيم ! وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً وجريمة , وجزعاً وضيقاً ويأساً من رحمة الله , وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الشر والضلال .
ولقد يغدق الله على أهل الخير , ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة ما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق , وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل ; ويذخروا بهذا كله رصيداً من الحسنات يستحقونه عند الله بصلاحهم وبما يعلمه من الخير في قلوبهم . وقد يحرمهم فيبلو صبرهم على الحرمان , وثقتهم بربهم , ورجاءهم فيه , واطمئنانهم إلى قدره , ورضاهم بربهم وحده , وهو خير وأبقى ; وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان .
وأياً ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس , ومن حكمة الله , فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلاً بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله . ولكنها تتوقف على تصرف المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه . فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله . وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله ; ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد هو الذي يضاعف لهم في الجزاء:
(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى . إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون) . . ثم يكرر قاعدة أن بسط الرزق وقبضه أمر آخر يريده الله لحكمة منفصلة ; وأن ما ينفق منه في سبيل الله هو الذخر الباقي الذي يفيد , لتقر هذه الحقيقة واضحة في القلوب: (قل:إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له . وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) . .
ــــــــــــــــ(1/46)
44-المَّغْفِرَةٌ وَالأَجْرٌ الكَبِيرٌ
قال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }[فاطر 7]
والذينَ كَفَرُوا باللهِ وَرُسُلِهِ وَأَطَاعُوا الشَّيطَانَ ، وَعَصَوْا الرَّحْمَنَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يومَ القِيَامَةِ ، أَمّا الذِينَ آمنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي تُرْضِي اللهِ ، فَإِنَّ اللهَ يَعِدُهُمْ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَيثُيِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابَ العَظِيمِ .
وقال السعدي : "ثم ذكر أن الناس انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها إلى قسمين، وذكر جزاء كل منهما، فقال: { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: جحدوا ما جاءت به الرسل، ودلت عليه الكتب { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في نار جهنم، شديد في ذاته ووصفه، وأنهم خالدون فيها أبدا.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم، بما دعا اللّه إلى الإيمان به { وَعَمِلُوا } بمقتضى ذلك الإيمان، بجوارحهم، الأعمال { الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم، يزول بها عنهم الشر والمكروه { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } يحصل به المطلوب."
ــــــــــــــــ(1/47)
45-لا مساواة بين الصالحين والمجرمين
قال تعالى :{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }[ص 28]
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُسَوِّي بَينَ الأَخْيَارِ ، الذِينَ آمَنُوا بَرَبِّهِمُ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، وَبَينَ الفُجَّارِ ، الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، واجْتَرحُوا السَّيِئَاتِ والفَسَادَ فِي الأَرْضِ ، وَلاَ يَجْعَلُ الذينَ اتَّقُوا رَبَّهُمْ كالفُجَّارِ والمُفْسِدِينَ ، وَإِنَّهُ سَيَجْمَعُ الجَمِيعَ يَومَ القِيَامَةِ لِيَجْزِيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ ، وَهَذا دَلِيلٌ عَلَى عَدْلِ اللهِ تَعَالَى التَّام .
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي , لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ; وهو أمر عظيم إذن وشر كبير , واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة , ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .
ــــــــــــــــ(1/48)
46- الرزق في الجنة بلا حساب
قال تعالى : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) } [غافر/39، 40]
وَيَا قَوْمِ إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيم وَتَرَفٍ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ لاَ يَدُومِ ، تَتَمَتَّعُونَ بِهِ ثُمَّ تَبْلُغُونَ أَجَلَكُمْ فَيَنْزِلُ بِكُم المَوْتُ ، أَمَّا الدَّارُ الآخِرَةُ فَهِيَ دَارُ الاسْتِقَرَارِ والبَقَاءِ التِي لا زَوَالَ لَهَا ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً ، وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ، دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَبَقِيَ فِيهَا خَالِداً أَبَداً .
فَمَنْ عَمِلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا عَمَلاً سَيَّئاً ، أَوِ اجْتَرَحَ إِثْماً فَإِنَّهُ لاَ يُعَاقَبُ إِلاَّ بِمِقْدَارِ عَمَلِهِ ، دُونَ مُضَاعَفَةٍ لِلْعِقَابِ . وَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ، ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَتَمَتَّعَ بِمَا فِيهَا مِنْ رِزْقٍ كَرِيمٍ ، وَنَعِيمٍِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ تَحْدِيدٍ .
فقد اقتضى فضل الله أن تضاعف الحسنات ولا تضاعف السيئات ، رحمة من الله بعباده ، وتقديراً لضعفهم ، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة ، فضاعف لهم الحسنات ، وجعلها كفارة للسيئات . فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب ، رزقهم الله فيها بغير حساب .
ــــــــــــــــ(1/49)
47- فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ
قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} [الشورى]
إِنَّهُمْ لاَ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الدِّينِ القَوِيمِ بَلْ يَتَّبِعُونَ مَا شَرَعَ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُو عَلَيْهِمْ مِنَ البَحَائِرِ والوَصَائِلِ والسَّوَائِب ، وَتَحْلِيلِ أَكْلِ المِيتَةِ والدَّمِ ، وَالمَيْسِرِ ، وَإِنْكَارِ البَعْثِ والنُّشُورِ والحِسَابِ . . وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى بِأَنْ يُؤخِّرَ عِقَابِهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَعَاجَلَهُمْ بِالعُقُوبَةِ والعَذَابِ . والذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ لَهُمْ بِهِ ، لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الظَّالِمِينَ خَائِفِينَ فَزِعِينَ مِنَ العِقَابِ العَادِلِ الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الأَعْمَالِ السَّيئَةِ ، وَهَذَا العِقَابُ وَاقِعٌ بِهِمْ لاَ مَحَالَةَ . أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ، وَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ ، وَنَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ مِنَ الخَوْفِ والفَزَعِ ، يَتَمَتَّعُونَ بِمَحَاسِنِهَا ، وَيَأْتِيهِمْ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ ، وَيَنَالُونَ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ ضُرُوبِ اللَّذَاتِ والمُتَعِ ، وَذِلِكَ الذِي أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ هَذَا النَّعِيمِ هُوَ الفَضْلُ الكَبيرُ الذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الآمَالُ .
وَهَذَا الذِي أَخْبَركُم اللهُ بِأَنَّهُ أَعَدَّهُ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لِلَذِينَ آمَنُوا وَعِمِلُوا صَالِحَ الأَعْمَالِ ، هُوَ البُشْرَى التِي يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِيتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهَا كَائِنَةٌ لاَ مَحَالَةَ . وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ : إِنَّنِي لاَ أَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَجَزَاءً عَلَى مَا أَقُومُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغْكُمْ رِسَالاَتِ رَبِي ، وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دِين حَقٍّ ، وَخَيْرٍ وَبُشْرَى فِي الآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُونِي أُبَلِّغُ رِسَالاَتِ رَبِّي فَلاَ تُؤْذُوني بِحَقِّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَاسٍ إِنَّ المَعْنَى هُوَ : أَلاَّ تُؤْذُونِي فِي نفْسِي لِقَرَابَتِي مِنْكُمْ ، وَتَحْفَظُوا القَرَابَةَ التِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) .
وَمَنْ يَعْمَلْ عَمَلاً فِيهِ طَاعَةٌ للهِ وَلِلرَّسُولِ نَزِدْ لَهُ فِيهِ أَجْراً وَثَوَاباً ، فَنَجْعَلُ لَهُ مََكَانَ الحَسَنَةِ عَشرَةَ أَضْعَافِهَا ، فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِِئَةِ ضِعْفٍ ، فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً ، وَاللهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الكَثِيرَ مِنَ السَّيئَاتِ ، وَيُكَثِّرُ القَلِيلَ مِنَ الحَسَنَاتِ فَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ وَيُضَاعِفُ وَيَشْكُرُ .
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان ; فالله وحده هو الذي يشرع لعباده . بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله , ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له . والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير , فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس ; ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس . وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال . فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور .
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة ; فإن الكثيرين يجادلون فيها , أو لا يقتنعون بها , وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله , زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم , ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم . كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله ! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله ! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله !
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه , أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها . وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته . ومن ثم يحقق لهذه البشرية اقصى درجات التعاون فيما بينها , والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى . شرع في هذا كله أصولاً , وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة , في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة . فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله ; ورجعوا به إلى تلكالأصول الكلية التي شرعها للناس , لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق .
بذلك يتوحد مصدر التشريع , ويكون الحكم لله وحده . وهو خير الحاكمين . وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله , وعلى دين الله , وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام .
(ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم) . . فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل . ولولاها لقضى الله بينهم , فأخذ المخالفين لما شرعه الله , المتبعين لشرع من عداه . لأخذهم بالجزاء العاجل . ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء .
(وإن الظالمين لهم عذاب أليم) . . فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم . وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه ?
ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة . يعرضهم مشفقين خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون , بل يستعجلون ويستهترون: (ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم) . .
والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم (مما كسبوا) فكأنما هو غول مفزع ; وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين ! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون (وهو واقع بهم) . . وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه , وهو واقع بهم !
وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون . نجدهم في أمن وعافية ورخاء: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات , لهم ما يشاءون عند ربهم . ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .
والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء: (في روضات الجنات) . . (لهم ما يشاءون عند ربهم) بلا حدود ولا قيود . (ذلك هو الفضل الكبير) . . (ذلك الذي يبشر الله عباده) فهو بشرى حاضرة , مصداقاً للبشرى السالفة . وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال .
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم , وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم . إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه , وحسبه ذلك أجراً: (قل:لا أسألكم عليه أجرا . إلا المودة في القربى . ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . إن الله غفور شكور) . .
والمعنى الذي أشرت إليه , وهو أنه لا يطلب منهم أجرا , إنما تدفعه المودة للقربى - وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة بكل بطن من بطون قريش - ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى , ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم , وهذا أجره وكفى !
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها . وهناك تفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري: قال البخاري حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن عبدالملك بن ميسرة , قال: سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل عن قوله تعالى: (إلا المودة في القربى) فقال سعيد بن جبير:" قربى آل محمد . فقال ابن عباس:عجلت . إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة . فقال:" إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " .
ويكون المعنى على هذا:إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة . وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه . فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه .
وتأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - أقرب من تأويل سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى . . والله أعلم بمراده منا .
وعلى أية حال فهو يذكرهم - أمام مشهد الروضات والبشريات - أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجراً . ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخماً ! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة , ولا حساب العدل , ولكن حساب السماحة وحساب الفضل:
(ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) . .
فليس هو مجرد عدم تناول الأجر . بل إنها الزيادة والفضل . . ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر: (إن الله غفور شكور) . .
الله يغفر . ثم . . الله يشكر ويشكر من ? يشكر لعباده . وهو وهبهم التوفيق على الإحسان . ثم هو يزيد لهم في الحسنات , ويغفر لهم السيئات . ويشكر لهم بعد هذا وذاك . . فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته . فضلاً على شكره وتوفيته !
ــــــــــــــــ(1/50)
48- الزيادة في الثواب من فضل الله
قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) } [الشورى]
وَيَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَنَّهُ مِنْ كَرَمِهِ وَحِلْمِهِ يَقْبَلُ تَوْبَتهمْ فِي المُسْتَقْبَلِ ، إِذَا تَابُوا وَرَجَعُوا إِلَيْهِ ، وَيَعْفُوا عَمَّا فَعَلُوا ، مِنَ السِّيِئَاتِ فِيمَا سَلَفَ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُونَ وَمَا يَقُولُونَ .
وَيَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لِدَعْوَةِ رَبِّهِمْ ، وَهُوَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ إِذَا مَا دَعَوْهُ ، أَمَّا الكَافِرُونَ فَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِهِمْ { وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } .
( وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ } هُوَ : أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ لِدُعَاءِ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِذَا دَعَوْهُ ) .
وقال السعدي : "هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
{ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريما، كأنه ما عمل سوءا قط، ويحبه ويوفقه لما يقر به إليه.
ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فالله تعالى، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير، فانقسموا -بحسب الاستجابة له- إلى قسمين: مستجيبين وصفهم بقوله { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }
أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه وينقادون له ويلبون دعوته، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم، وهو الغفور الشكور.
وزادهم من فضله توفيقا ونشاطا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم.
وأما غير المستجيبين للّه وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فـ { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدنيا والآخرة"
فالله يقبل عنهم التوبة ، ويعفو عن السيئات؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية ، والخوف مما أسلفوا من ذنوب . والله يعلم ما يفعلون . فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها . كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها .
وفي ثنايا هذه اللمسة يعود إلى جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات يستجيبون لدعوة ربهم ، وهو يزيدهم من فضله . { والكافرون لهم عذاب شديد } . . وباب التوبة مفتوح للنجاة من العذاب الشديد ، وتلقي فضل الله لمن يستجيب .
ــــــــــــــــ(1/51)
49- الدخول في رحمة الله
قال تعالى : {وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (31) } [الجاثية]
وَاللهُ تَعَالى هُوَ مَالكُ السَّماواتِ والأَرضِ ، وَهُوَ الحَاكِمُ فيهما في الدُّنيا والآخِرةِ ، وَلا تَملِكُ الأَصْنَامُ والأَوثانُ والأندادُ شيئاً . وَيومَ تقومُ السَّاعةُ يَبْعَثُ اللهُ الخَلاَئقَ مِن القُبُورِ ، ويحشُرُهُمْ إِليهِ ، وَحينئذٍ يُدركُ الكَافِرُونَ ، المُنكِرُونَ لِلْبَعْثِ ، أَنَّهُم قَدْ خَسِروا خُسراناً مُبيناً بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ كُتًُبَهُ وَرُسُلَهُ .
وفِي اليَومِ الذِي تَقُوُمُ فيهِ السَّاعةُ ، تَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثيةً عَلَى رُكَبِهَا ، مِنْ شِدِّةِ الهَوْلِ في ذَلِكَ اليَومِ ، وَتُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ إِلى كِتابِ أَعمالِها الذِي أودعَ فيهِ الملائِكةُ الكَاتِبونَ أعمالَ الخَلائقِ ، وَيُقالُ لَهُمْ : هذِه هيَ أعمالُهُم في الحيَاةِ الدُّنيا ، وَسَيُجْزَونَ بِها .
وَيُقَالُ لَهُمْ : هذا هُوَ كِتَابُنَا الذِي سَجَّلْنا فِيهِ جَميعَ أعْمالِكُم في الحَيَاةِ الدُّنيا ، مِنْ غَير زِيَادَةٍ ولا نُقْصَانٍ ، وَقَدْ أَمَرْنا الملائكَةَ الحَافِظِينَ بِنَسْخِ أَعْمَالِكُمْ وَإِثباتِها في صَحَائِفِكُمْ ، فَهُوَ وَفْقَ مَا عَمِلْتُم بالضَّبْط .
فَأَمَّا الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُم ، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُم الأَعْمَالَ الصَّالحةَ ، فإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بأَنْ يُدْخِلَهُمْ الجَنَّةَ ، والظَّفْرُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ فَوْزٌ عَظِيمٌ لا يَعْدِلُهُ فَوْزٌ .
وأَمَّا الذِين كَفَروا ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ ، وأَنكَرُوا كُتَبَه وَشَرْعَهُ فَيُقالُ لَهُم ، عَلَى سَبِيلِ التَّقريعِ والتَّوبيخِ : ألم تَكُنْ رُسُلُ رَبِّكُم يَتلُونَ عَلَيكم آيَاتهِ فَكُنْتُم تَستَكبِرُونَ عَنِ الإِيمَانِ بِها ، وَكُنتمُ قَوْماً مُجرِمِينَ في أَفعالِكُمْ .
إنه يعجل لهم في الآية الأولى عاقبة المبطلين . فهم الخاسرون في هذا اليوم الذي يشكون فيه . ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة ، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة . في ارتقاب الحساب المرهوب . . وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد . ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب . ومرهوب بما وراءه من حساب . ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر ، والمنعم المتفضل ، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين!
ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق . يقال لها : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } . . فيعلمون أن لا شيء سينسى أو يضيع! وكيف وكل شيء مكتوب . وعلم الله لا يند عنه شيء ولا يغيب؟!
ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة , على مدى الأجيال واختلاف الأجناس فريقين اثنين . فريقين اثنين . يجمعان كل هذه الحشود:الذين آمنوا . والذين كفروا . فهاتان هما الرايتان الوحيدتان عند الله وهذان هما الحزبان:حزب الله . وحزب الشيطان . وما عدا هذا من الملل والنحل والأجناس والأمم فإليهما يعود:
(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات , فيدخلهم ربهم في رحمته . ذلك هو الفوز المبين) . .
وقد استراحوا من طول الارتقاب , ومن القلق والاضطراب . . والنص ينهي أمرهم في سرعة وفي بساطة , ليلقي هذا الظل المستطاب .
ثم نلقي بأبصارنا - من خلال الكلمات - إلى الفريق الآخر . فماذا نحن واجدون ? إنه التأنيب الطويل , والتشهير المخجل , والتذكير بشر الأقوال والأعمال:(وأما الذين كفروا . أفلم تكن آياتي تتلى عليكم , فاستكبرتم , وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل:إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم:ما ندري ما الساعة ! إن نظن إلا ظنا , وما نحن بمستيقنين) !
فالآن كيف ترون الحال ?! وكيف تذوقون اليقين ?!
ويتركهم السياق لحظة ليعلن على الملأ شيئاً مما يقع لهؤلاء المنكوبين:وبدا لهم سيئات ما عملوا , وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . .
ثم يعود إليهم بالترذيل والتأنيب وإعلان الإهمال والتحقير ; والمصير الأليم: (وقيل:اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا . ومأواكم النار . وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً , وغرتكم الحياة الدنيا) . .
ــــــــــــــــ(1/52)
50- تكفير السيئات
قال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) } [محمد]
الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وبآيَاتِهِ ، وبِكُتُبِه ، وَرُسُلِهِ ، وَعَبَدُوا غَيْرَهُ ، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ في دِينِ الإِسْلاَمِ ، أَبْطَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ ، وَأهْلَكَها وَجَعَلَها تَسِيرُ عَلَى غَيْرِ هُدًى . والذِينَ آمَنُوا باللهِ ، وَبِكُتُبهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ ربِّهم ، وَصَدَّقُوا بالقُرآنِ الذي أنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَهوَ الحَقُّ مِنَ اللهِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّّئَاتِهِم ، وَغَفَرَ لَهُم ذُنُوبَهُمْ ، وأصْلَحَ حَالَهم في الدُّنيا ، بتوفيقِهم إلى طَريقِ الخير والسَّعَادَةِ والفَلاَحِ . وَيُصْلحُ حَالَهم في الآخِرة بأنْ يُورْثَهُمُ الجَنَّةَ لِيَبْقَوْا فِيها خَالِدينَ أبداً .وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالى أعْمَالَ الكُفَّارِ ، وَتَجَاوزَ عَنْ سَيِّئَاتِ المُؤْمِنينَ الأبرَارِ ، وأصْلَحَ لَهمُ حَالَهُمْ ، لأنَّ الذِينَ كَفَرُوا اخْتَارُوا اتِّبَاعَ البَاطِلِ عَلى اتِّبَاعِ الحَقِّ ، ولأنَّ المُؤْمِنِينَ اتَّبَعُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهم فَهَدَاهُم رَبُّهم إِلى سَبيلِ الرَّشَادِ .
وَكَما بَيَّنَ اللهُ تَعَالى أفْعَالِ الكُفَّار والفُجَّارِ ، وَحَالَ المُؤْمِنينَ الأَبْرَارِ ، وَمَا سَيَفْعَلُهُ بِكُلِّ فَريقٍ ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ الأمثَالَ للنّاسِ ، وَيُشبِّهُ لهُمُ الأشْياءَ ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مآلَ أعْمالِهم وَمَا يَصِيرُونَ إليهِ لِيَتَفكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا .
والباطل ليست له جذور ضاربة في كيان هذا الوجود ; ومن ثم فهو ذاهب هالك ; وكل من يتبعه وكل ما يصدر عنه ذاهب هالك كذلك . ولما كان الذين كفروا اتبعوا الباطل فقد ضلت أعمالهم , ولم يبق لهم منها شيء ذو غناء .والحق ثابت تقوم عليه السماوات والأرض , وتضرب جذوره في أعماق هذا الكون . ومن ثم يبقى كل ما يتصل به ويقوم عليه . ولما كان الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم , فلا جرم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . فهو أمر واضح مقرر يقوم على أصوله الثابتة , ويرجع إلى أسبابه الأصلية . وما هو فلتة ولا مصادفة ولا جزاف (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) . وكذلك يضع لهم القواعد التي يقيسون إليها أنفسهم وأعمالهم . فيعلمون المثل الذي ينتمون إليه ويقاسون عليه . ولا يحتارون في الوزن والقياس !
ــــــــــــــــ(1/53)
51- إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار
قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }[محمد 12]
وَفي يَوْمِ القِيَامةِ يُدخِلُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بهِ ، وَبِكُتَبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ، جَنَّاتٍ تَجرِي في أرْضِها الأنهَارُ جَزاءً لَهُم عَلَى إيمَانِهِمْ . أمَّا الكَافِرُونَ الذِين كَفَرُوا باللهِ وبِكُتُبهِ ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ ، فَإِنَّهُم يَتَمَتَّعُونَ بما في هذهِ الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ زَائِلٍ ، وَيَأكُلُونَ فِيها كَالأنعَامِ ، غَيرَ مُفَكِّرِينَ في عَواقِب أمُورِهِمْ ، وَلا مُعْتَبِرِينَ بِما أقَامَهُ اللهُ لِلْعِبَادِ منَ الأدِلَّةِ على وُجُودِهِ ووَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالى ، وَسَيَصِيرُونَ في الآخِرَةِ إلى جَهَنَّمَ فَتَكُونُ مَسْكَنَهُمْ وَمَأوَاهُمْ .
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع ; ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين - وهو نصيبهم في الجنة - والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه .
ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار . فالله هو الذي يدخلهم . وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع . وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح , متناسقا في رفعته وكرامته مع الإرتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح .
ونصيب الذين كفروا متاع وأكل (كما تأكل الأنعام) . . وهو تصوير زري , يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه ; ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره , والمتاع الحيواني الغليظ . بلا تذوق , وبلا تعفف عن جميل أو قبيح . . إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة , ولا من اختيار , ولا حارس عليه من تقوى , ولا رادع عنه من ضمير .
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل , ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم , وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع , كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته , والذي له قيم خاصة للحياة ; فهو يختار الطيب عند الله . عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة , ولا يضعفها هتاف اللذة . ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام , وفرصة متاع ; بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح !
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان:أن للأنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة , المتلقاة من الله خالق الحياة . فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه , وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله .
ــــــــــــــــ(1/54)
52- المغفرة والأجر العظيم
قال تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }[الفتح 29]
إِن مُحمداً صلى الله عليه وسلم رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ ، وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ ، فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ ، وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ ، مُخْلِصِينَ فيها للهِ ، مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ ، يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ ، فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ ، وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ . وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ ، فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى الغِلْظَةِ ، وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ ، وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ ، بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ ، وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ ، وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة , حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: (تراهم ركعا سجدا) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) . . (ذلك مثلهم في التوراة) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . (كزرع أخرج شطأه) (فآزره) . .(فاستغلظ) (فاستوى على سوقه) . (يعجب الزراع) . .: (ليغيظ بهم الكفار) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد صلى الله عليه وسلم صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين: (محمد رسول الله) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم , ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات , وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة , وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم , ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة , والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء , ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم , كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها , ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى , ومن الانفعال لغير الله , والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم , هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: (تراهم ركعا سجدا) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة , وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ; فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم , حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم , وكل ما تتطلع إليه أشواقهم , هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم , ونضحها على سماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية , ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: (من أثر السجود) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه , حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل , والشفافية الصافية , والوضاءة الهادئة , والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ; ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: (ذلك مثلهم في التوراة) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى , وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
(ومثلهم في الإنجيل) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه , أنهم (كزرع أخرج شطأه) . . فهو زرع نام قوي , يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده .(فآزره) . أو أن العود آزر فرخه فشده .(فاستغلظ) الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . (فاستوى على سوقه) لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع , العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب: (يعجب الزراع) . وفي قراءة يعجب(الزارع) . . وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد: (ليغيظ بهم الكفار) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هيزرعة الله . أو زرعة رسوله , وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا , فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فتثبت في صلب الوجود كله , وتتجاوب بها أرجاؤه , وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال , تحاول أن تحققها , لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله , وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم , التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود , والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله , وفي ميزان الله , وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية , وقد نزلت هذه السورة , وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ?!
اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم:فيقرب له البعيد ?!
فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد !!!
ــــــــــــــــ(1/55)
53-تكفير السيئات ودخول الجنات
قال تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) } [التغابن]
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَبْعَثُكُم اللهُ مِنْ قُبُورِكُمْ ، وَيَحْشُرُكُمْ إِلَيهِ لِلحِسَابِ وَالجَزَاءِ ، وَذَلِكَ اليَوْمُ هُوَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ، إِذْ يَكُونُ النَّاسُ فَرِيقَينَ : كَافِرِينَ اشْتَرَوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ، فَخِسِرَتْ صَفقَتُهُمْ ، وَصَارُوا إِلَى عَذَابِ النَّارِ ، وَمُؤْمِنِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ ، فَرَبِحَتْ صَفقَتُهُمْ ، وَصَارُوا إِلَى نَعِيمِ الجَنَّةِ ، فَلاَ غبْنَ أَعْظَمِ مِنَ الغبْنِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، حَينَمَا يَجِدُ الكَافُرُونَ المُقَصِّرُونَ أَنَّهُمْ بَاعُوا النَّعِيمَ الخَالِدَ الدَّائِمَ ، بِلَذَّةٍ قَلِيلَةٍ زَائِلَةٍ . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ . يُكَفِّرِ اللهُ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ ، وَيَغْفِرْ لَهُ ذُنُوبَهُ ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّةً تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَيَبْقَى خَالِداً فِي نَعِيمِهَا أَبَداً ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ الَّذِي لاَ فَوْزَ بَعْدَهُ .
أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَجَحَدُوا بِوحْدَانِيَّتِهِ ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ ، وَالكِتَابَ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيهِ ، فَهَؤُلاَءِ يُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ لِيَبْقُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمَصِيراً .
فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه ، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله . ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون . أطت السماء وحق لها أن تيط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى . لوددت أني شجرة تعضد » .
والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك . هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدوداً . والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء! فهل هذا يقرب شيئاً للتصور البشري عن عدد الملائكة؟ إنهم من بين الجمع في يوم الجمع!
وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن! والتغابن مفاعلة من الغبن . وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم . فهما نصيبان متباعدان .وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء ، وليغبن كل فريق مسابقه! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك! يفسره ما بعده :{ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً . ذلك الفوز العظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير } . .
ــــــــــــــــ(1/56)
54-إخراجهم في من الظلمات إلى النور
قال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) } [الطلاق]
يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَسَلَكَ غَيرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ ، وَيُخْبِرُ عَمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ بِالأُمَمِ المُكَذِّبَةِ السَّالِفَةِ ، فَيَقُولُ تَعَالَى . إِنَّ كَثِيراً مِنْ أَهْلِ القُرَى خَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ الذِينَ أُرْسِلُوا إِليهِمْ ، وَتَمَادَوا فِي طُغْيَانِهِمْ ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ اللهُ حِسَاباً عَسِيراً عَلَى أَعْمَالِهِم كُلِّهَا ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مُنْكَراً فِي الآخِرَةِ .
فَجَنَتْ ثِمَارَ مَا غَرَسَتْ أَيْدِيهَا مِنْ أَعْمَالِ السُّوءِ فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا الخُسرَانَ والنَّكَالَ .
وَقَدْ هَيَّأَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ العَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ الرُّسُلِ .
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالأَفْهَامِ بِوُجُوبِ تَقْوَى رَبِّهِمْ ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِهِ ، وَالخَشْيَةِ مِنْ مُخَالَفةِ أَمْرِهِ ، لِكَيْلاَ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ السَّالِفَةَ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى إليهِمْ قرآناً يُذَكِّرُهُمْ بِرَبِّهِمْ وَخَالِقهِمْ لِيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى .
وَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى إِليكُمْ ، يَا ذَوِي الأَلْبَابِ وَالبَصَائِرِ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ القُرْآنِ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، وَهِيَ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهَا وَيَعْقِلُهَا ، لِيُخْرِجَ مَنْ لَدِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلْهُدَى مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ ، إِلَى نُورِ الإِيْمَانِ ، وَمَنْ يَهْتَدِ إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ فَإِنَّ اللهَ يُدْخِلُهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا وَيَبْقَى خَالداً فِيهَا ، وَيُوسِّعُ لَهُ فِيهَا فِي الرِّزْقِ الحَسَنِ مِنْ جَمِيعِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ .
ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله . . ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه , فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية . ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أسر أو أزواج . إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها . فهي المسؤولة عن هذا الأمر . وهي المسؤولة فيه عن شريعة الله . ومخالفتها عن أمر الله فيه - أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام , أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة - هي عتو عن أمر الله , لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه , إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة , والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره . فقد جاء هذا الدين ليطاع , ولينفذ كله , وليهيمن على الحياة كلها . فمن عتا عن أمر الله فيه - ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية - فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدا .
وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . . ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير . ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض . ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال . ذاقته فسادا وانحلالا , وفقرا وقحطا , وظلما وجورا , وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام , ولا طمأنينة فيها ولا استقرار . وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير !
وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله: (أعد الله لهم عذابا شديدا) . . والله أصدق القائلين .
إن هذا الدين منهج نظام جماعي - كما أسلفنا الحديث في سورة الصف - جاء لينشىء جماعة مسلمة ذات نظام خاص . وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها . ومن ثم فالجماعة كلها مسؤولة عنه , مسؤولة عن أحكامه . ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله .
وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة يهتف بأولي الألباب الذين آمنوا . الذين هدتهم ألبابهم إلى الإيمان . يهتف بهم ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر: (قد أنزل الله إليكم ذكرا) . . ويجسم هذا الذكر ويمزجه بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم فيجعل شخصه الكريم هو الذكر , أو بدلا منه في العبارة: (رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات) . .
وهنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة . .
إن هذا الذكر الذي جاء من عند الله مر إليهم من خلال شخصية الرسول الصادق حتى لكأن الذكر نفذ إليهم مباشرة بذاته , لم تحجب شخصية الرسول شيئا من حقيقته .
والوجه الثاني لإيحاء النص هو أن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت ذكرا , فهي صورة مجسمة لهذا الذكر صنعت به فصارت هو . وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن . وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا وصفته عائشة - رضي الله عنها - وهي تقول:" كان خلقه القرآن " . . وهكذا كان القرآن في خاطره في مواجهة الحياة . وكان هو القرآن يواجه الحياة !
وفوق نعمة الذكر والنور والهداية والصلاح , وعد بنعيم الجنات خالدين فيها أبدا . وتذكير بأن هذا الرزق هو أحسن الرزق , فلا يقاس إليه رزق الأرض: (قد أحسن الله له رزقا) . . وهو الرازق في الدنيا والآخرة , ولكن رزقا خير من رزق , واختياره للأحسن هو الاختيار الحق الكريم .
وهكذا يلمس نقطة الرزق مرة أخرى , ويهون بهذه الإشارة من رزق الأرض , إلى جانب رزق الجنة . بعدما وعد في المقاطع الأولى بسعة رزق الأرض أيضا . .
ــــــــــــــــ(1/57)
55-الأجر غير الممنون (1)
قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) }فصلت
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ : وَلَسْتُ مَلَكاً ، وَقَدْ اخْتَارَنِي اللهُ تَعَالَى لِيُوحِيَ إِلَيَّ رِسَالَتَهُ إِلَيكُمْ وَهُوَ يُوحِي إِلَيَّ أَنَمَا إلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِله إِلاَّ هُوَ ، وَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ ، وَأَنَّ الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ والحِجَارَةَ التِي تَعْبُدُونَهَا لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا وَلاَ لِعَابِديهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً . فَآمِنُوا بِاللهِ واَسْتَغْفِرُوهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ كَمَا أَمَرَكُمْ . والوَيْلُ وَالهَلاَكُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ مَعَ رَبِّهِ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ .
وَالوَيْلُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِرَبِّهِ ، وَلَمْ يَدْفَعْ زَكَاةَ مَالِهِ لِمُوَاسَاةِ الفَقِيرِ وَالْمُحْتَاجِ واليَتَيِمِ ، وَكَفَرَ بِالْبَعْثِ وَالمَعَادِ والحِسَابِ .
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ مَنْعَ أدَاءِ الزَّكَاةِ مَقْرُوناً بِالشِّرْكِ ، لأَنَّ بَذْلَ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقَامَةِ الإِنْسَانِ ، وَصِدْقِهِ فِي إِيْمَانِهِ .
إِنَّ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَكُتُبِهِ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ فَإِنَّ اللهَ يَعِدُهُمْ بِأَنْ يَجْزِيَهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ الصَّالِحِ جَزَاءً كَرِيماً غَيْرَ مَقْطَوعٍ وَلاَ مَمْنُوعٍ .
يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم ! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال , والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف , واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار , دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة , ومن عظمة في احتمال هذه المشقة , إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق !
ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة , ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول !
إن أقصى ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول:
(وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) . . وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة , لم نقف عليها , فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة . وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال , وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون , غير محدود , وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور .
وقد ذكر بعضهم أن المقصود بالزكاة هنا الإيمان والطهارة من الشرك . وهو محتمل كذلك في مثل هذه الظروف .
ــــــــــــــــ(1/58)
56-الأجر غَيْرُ المَمْنُونٍ (2)
قال تعالى : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(25) } [الإنشقاق]
إِنَّ كُلَّ الدَّلاَئِلِ تُوجِبُ عَلَيْهِم الإِيْمَانَ بِاللهِ لَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مُعَانِدُونَ مُكَابِرُونَ ، يُصِرُّونَ عَلَى الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ .
وَاللهُ يَعْلَمُ مَا يُضْمِرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الأَسْبَابِ التِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى الإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ ، وَالاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ .
وَجَزَاءُ الإِصْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالكُفْرِ وَالعِنَادِ العَذَابُ الأَلِيمُ فِي الآخِرَةِ ، وَقَدْ بَشَّرَهُم اللهُ بِهِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ لأَنَّ البُشْرَى تَكُونَ فِي الأُمُورِ الحَسَنَةِ السَّارَّةِ عَادَةً .
لَكِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَأْولَئِكَ لَهُم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَزَاءٌ حَسَنٌ ، لاَ يَنْقَطِعُ مَدَدُهُ ، وَلاَ يَنْضُبُ مَعِينُهُ .
بل الذين كفروا يكذبون . يكذبون إطلاقاً . فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل . والله أعلم بما يكنون في صدورهم ، ويضمون عليه جوانحهم ، من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب .
ويترك الحديث عنهم ، ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم : { فبشرهم بعذاب أليم } . . ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير!
وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون ، فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون . ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون } . .وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استنثوا منها! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى!
والأجر غير الممنون . . هو الأجر الدائم غير المقطوع . . في دار البقاء والخلود . .
ــــــــــــــــ(1/59)
57-الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
قال تعالى : { وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } [البروج 11]
يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بالسَّمَاءِ وَبُرُوجِهَا . ( وَالبُرُوجُ هِيَ مَنَازِلُ الشَّمْسِ ، وَقِيلَ إِنَّ البُرُوجَ هِيَ النُّجُومُ العِظَامُ ) .
وَيًُقْسِمُ تَعَالَى بِيَوْمِ القِيَامَةِ وَهُوَ اليَوْمَ المَوْعُودُ لِلْفَصْلِ وَالجَزَاءِ .
وَيُقْسِمُ تَعَالَى بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي هَذَا الكَوْنِ مِمَّا يَشْهَدُهُ النَّاسُ وَيَرَوْنه .
( وَقَيلَ إِنَّ المَعْنِيَّ بِالشَّاهِدِ هُوَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى غَيْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَالمَشْهُودُ هُوَ مَنْ يَشْهَدُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ) .
لُعِنَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، وَقَاتَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى ( وَهَذَا جَوَابُ القَسَمِ ) .
( وَالأُخْدُودُ حُفْرَةٌ فِي الأَرْضِ . وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودِ اليَمَنِ عَمَدُوا إِلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِدِينِ المَسِيحِ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الارْتِدَادِ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَفَرُوا حُفْرَةً فِي الأَرْضِ ( أُخْدُوداً ) أَضَرَمُوا فِيهَا نَاراً عَظِيمَةً ، وَوَقَفُوا بِالمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّارِ ، فَمَنْ قَبِلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الارْتِدَادَ عَنْ دِينِهِ أَطْلَقُوهُ ، وَمَنْ رَفَضَ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ ، فَلَعَنَ اللهُ مَنْ قَامُوا بِهَذَا العَمَلِ المُنْكَرِ ) .
وَأَصْحَابُ الأُخْدُودِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ التِي فِيهَا مِنَ الحَطَبِ الكَثِيرِ مَا يَشْتَدُّ بِهِ لَهِيبُهَا .
وَكَانَ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ قَاعِدِينَ حَوْلَ النَّارِ ، يُشْرِفُونَ عَلَى تَعْذِيبِ المُؤْمِنِينَ .
وَكَانَ الطُّغَاةُ الذِينَ أَمَرُوا بِإِحْرَاقِ المُؤْمِنينَ يُشَاهِدُونَ مَا يَفْعَلُهُ أَتْبَاعُهُمْ بِالمُؤْمِنِينَ .
وَلَمْ يَكُنْ لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ مِنْ ذَنْبٍ يُسَبِّبُ نِقْمَةَ الطُّغَاةِ عَلَيْهِمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِرَبِّهِم العَزِيزِ ، الذِي يُخْشَى عِقَابُهُ المُنْعِمِ ، الذِي يُرْجَى ثَوَابُهُ .
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُسْتَحِقُّ لِلْعِزَّةِ وَالحَمْدِ لأَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، فَلاَ مَهْرَبَ لِهَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ مِنْهُ ، وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ .
إِنَّ الذِينَ حَاوَلُوا فِتْنَةَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ عَنْ دِينِهِمْ ، وَعَذَّبُوهُمْ لِيُجْبِرُوهُمْ عَلَى الارْتِدَادِ عَنِ الإِيْمَانِ ، وَأَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالعِنَادِ والطُّغْيَانِ ، وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ حَتَّى أَدْرَكَهُمُ المَوْتُ ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُمْ .
وفي صحيح مسلم (7703 ) عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.
ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ».
المئشار : المنشار الأخدود : الشق العظيم فى الأرض القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم الكنانة : وعاء السهام
قتل أصحاب الأخدود , واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب , في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم , ويزاولون تلك الجريمة:(إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) . . وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم , وهم يوقدون النار , ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار , قريبون من عملية التعذيب البشعة , يشاهدون أطوار التعذيب , وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار , كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع !
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر:(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد) . . فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله , العزيز:القادر على ما يريد , الحميد:المستحق للحمد في كل حال , والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال ! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له . وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور .
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . . وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين , وتهدد العتاة المتجبرين . فالله كان شهيدا . وكفى بالله شهيدا .
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار , التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها , كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه . فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد , ووراءه في حساب الله ما وراءه .
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة . روعة الإيمان المستعلي على الفتنة , والعقيدة المنتصرة على الحياة , والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض . فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة ? وكم كانت البشرية كلها تخسر ? كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير:معنى زهادة الحياة بلا عقيدة , وبشاعتها بلا حرية , وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض . ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم , وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار ? وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب , ولأعدائهم الطاغين حساب . . يعقب به السياق . .
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير) . .
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه , ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد , وواقع كما يقول عنه الله:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) . . ومضوا في ضلالتهم سادرين , لم يندموا على ما فعلوا (ثم لم يتوبوا) . . (فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) . . وينص على(الحريق) . وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق ? في شدته أو في مدته ! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق ! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي , وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله ! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله , والارتكاس الهابط الذميم !
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) . . وهذه هي النجاة الحقيقية: (ذلك الفوز الكبير) . . والفوز:النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار ?
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه , لا يتم به تمامه . . وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة , وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون .
ــــــــــــــــ(1/60)
58-الأجر غَيْرُ المَمْنُونٍ (3)
قال تعالى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } [التين ]
اخْتَلَفَ المُفْسِّرُونَ حَوْلَ المَقْصُودِ بِالتِّين وَالزِّيْتُونِ فِي هَذِهِ الآيَةِ :
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمَا التِّينُ وَالزَّيْتُونَ الثَّمَرَانِ المَعْرُوفَانِ ، فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ بَعْضَ الثَّمَارِ كَالعِنَبِ وَالنَّخْلِ وَالفَاكِهَةِ وَالطَّلْحِ وَالسِّدْرِ .
- وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ التِّينَ إِشَارَةٌ إِلَى عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَمَا كَانَ الإِنْسَانُ يَسْتُرُ نَفْسَهُ بِوَرَقِ التِّينِ ( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ ) .
أَمَّا الزَّيْتُونُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلى عَهْدِ نُوحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَبَعْدَ أَنِ انْتَهَى الطُّوفَانُ أَرْسَلَ نُوحٌ طَيراً فَعَادَ إِلَيهِ يَحْمِلُ وَرَقَةَ زَيْتُونٍ ، فَعَلِمَ أَنَّ الطُّوفَانَ قَدِ انْتَهَى ، وَأَنَّ الأَرْضَ عَادَتْ تُنْبِتُ .
- وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ إِشَارَةٌ إِلَى القُدْسِ وَهِيَ مَبْعَثُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَى طُورِ سِينَاءَ وَمَكَّةَ . وَطُورُ سِينَاءَ هِيَ المَكَانُ الذِي كَلَّمَ اللهُ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَذْهَبَ إِلى فِرْعَوْنَ ، وَإِنَّ مَكَّةَ مَبْعَثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ بِثَلاَثَةِ مَوَاقِعَ مُشَرَّفَةٍ بِبَعْثِهِ فِيهَا ثَلاَثَةِ مِنَ الرُّسُلِ الكِرَامِ أُوِلِي العَزْمِ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التِّينُ والزَّيْتُونُ إِشَارَةً إِلَى أَمَاكِنَ وَذِكْرَيَاتٍ ذَاتِ عِلاَقَةٍ بِالدِّينِ وَالإِيْمَانِ ، أَوْ ذَاتِ عِلاَقَةٍ بِنَشْأَةِ الإِنْسَانِ .وَطُورُ سِنِينَ هُوَ جَبَلُ الطُّورِ الذِي يَقَعُ فِي سِينَاء وَعِنْدَهُ كُلَّمَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَنَادَاهُ .وَهَذَا البَلَدِ ( يَعْنِي مَكَّةَ ) الذِي أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَ فِيهِ أَوَّلَ بَيْتٍ لِلْعِبَادَةِ وُضِعَ لِلنَّاسِ . لَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ الثَّلاَثِ السَّابِقَةِ بِعُهُودِ أَرْبَعَةٍ .
أَرْسَلَ فِيهَا رُسُلاً كَانَ لَهُمْ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي تَارِيخِ البَشَرِيةِ وَالإِيْمَانِ هُمْ : آدَمُ وَنُوحٌ وَمُوسَى وَمُحَمَّد ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ صَورَةٍ ، وَأَكْمَلِ هَيْئَةٍ ، مُنْتَصِبَ القَامَةِ ، يَسْتَعْمِلُ أَطْرَافَهُ فِيمَا يُريدُ ، وَلَهُ عَقْلٌ يُمَيِّزُ بِهِ بِيْنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالصَّحِيحِ مِنَ الخَطَإِ فَمَيَّزَهُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى المَخْلُوقَاتِ الأُخْرَى فِي الأَرْضِ .
وَلَكِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ الذِي خُلِقَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، وَأَكْمَلِ عَقْلٍ ، غَفَلَ عَمَّا مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ عَقْلَهُ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيهِ ، فَانْحَطَّ بِنَفْسِهِ إِلَى مُسْتَوى الحَيَوَانَاتِ - أَسْفَلَ سَافِلِينَ - ، وَأَصْبَحَ هَمُّهُ الإِقْبَالَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا ، وَالاسْتِمْتَاع بِشَهَوَاتِهَا ، إِلاَّ مَنْ رَحمَ اللهُ .
وَلَمْ يَنْجُ مِنْ هَذَا الانْحِطَاطِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلاَّ الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهمْ ، وَعَرَفُوا أَنَّ لِهَذَا الكَوْنِ مُوجِداً وَمُدَبِّراً ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ ، وَأَنَّ هُنَاكَ بَعْثاً ثُمَّ حِسَاباً وَجَزَاءً عَلَى الأَعْمَالِ ، فَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُؤُلاَءِ سَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ فِي الآخِرَةِ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَسَيُعْطِيهِمْ رَبُّهُمْ عَطَاءً جَزِيلاً لاَ يَنْقَطِعُ .فَمَا الذِي يَحْمِلُكَ يَا ابْنَ آدَمَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ فِي الآخِرَةِ ( بِالدِّين ) ؟ فَإِنَّ اللهَ الذِي خَلَقَكَ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ سَوَّاكَ بَشَراً سَوِيّاً ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَكَ مِنْ قُبْرِكَ وَيُحَاسِبَكَ .
أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْدَلِ العَادِلِينَ حِينَ يَحْكُمُ فِي الخَلْقِ ، وَيَجْزِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِمَ يَسْتَحِقُّونَ ، بَعْدَ أَنْ أَقَامَ لَهُمُ الأَدِلَّةَ وَالبَرَاهِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الآفَاقِ عَلَى وُجُودِهِ ، وَعَظَمَتِهِ ، وَقُدْرَتِهِ ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَعَدْلِهِ ، وَعَلَى عِنَايَتِهِ بِالإِنْسَانِ وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ .
إن عناية الله بأمر هذا المخلوق - على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد - لتشير إلى أن له شأنا عند الله , ووزنا في نظام هذا الوجود . وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق , سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد , أم في تكوينه العقلي الفريد , أم في تكوينه الروحي العجيب .
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام , وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط:(ثم رددناه أسفل سافلين) . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم , لاستقامتها على فطرتها , وإلهامها تسبيح ربها , وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم , يجحد ربه , ويرتكس مع هواه , إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) . . فطرة واستعدادا . .(ثم رددناه أسفل سافلين) . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه , وبينه له , وتركه ليختار أحد النجدين .
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة , ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح , ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها , حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . (فلهم أجر غير ممنون) دائم غير مقطوع .
فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين , فيظلون ينحدرون بها في المنحدر , حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم , حيث تهدر آدميتهم , ويتمحضون للسفول !
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة , وتكميل لها بالإيمان , ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . . وإما انحراف عن الفطرة القويمة , واندفاع مع النكسة , وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها . إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .
وحين ينقطع هذا الحبل , وحين ينطفئ هذا النور , فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين , والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية , حين يتمحض الطين في الكائن البشري , فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء !
وفي ظل هذه الحقيقة ينادى "الإنسان": (فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ?) . .
فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة ? وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية ? وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون , ولا يهتدون بهذا النور , ولا يمسكون بحبل الله المتين ?
(أليس الله بأحكم الحاكمين ?) . . أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو ? أو . . أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين ?
والعدل واضح . والحكمة بارزة . . ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة:" فإذا قرأ أحدكم(والتين والزيتون) فأتى آخرها:(أليس الله بأحكم الحاكمين ?) . . فليقل . . بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " . .
ــــــــــــــــ(1/61)
59- هم خير البرية
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [البينة]
وَهَؤُلاَءِ الكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ الذِينَ دَنَّسُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ ، وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَالمَعَاصِي وَالآثَامِ ، وَإِنْكَارِ الحَقِّ الوَاضِحِ بَعْدَمَا عَرَفُوهُ ، سَيُجَازِيهِمْ رَبُّهُمْ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَبِمَا أَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ، وَهَؤُلاَءِ هُم شَرُّ المَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا لأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ ، وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ، وَاهْتَدَوا بِهُدَاهُ ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ ، فَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَفِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ ، وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الخَيْرِ والبِرِّ ، وَأَحْسَنُوا مُعَامَلَةَ خَلْقِ اللهِ . فَأُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ النَّاسِ لأَنَّهُمْ أَدَّوا حَقَّ العَقْلِ الذِي شَرَّفَهُمُ اللهُ بِهِ ، فَاتَّبَعُوا الهُدَى ، وَحَفِظُوا الفَضِيلَةَ بِعَمَلِهم الصَّالِحِ .
وَيُجَازِي اللهُ فِي الآخِرَةِ الذِينَ آمَنُو وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِإِدْخالِهِمْ جَنَّاتٍ تَجْري فِيهَا الأَنْهَارُ يُقِيمُونَ فِيهَا أَبَداً ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ حَازُوا رِضَا اللهِ بِالتِزَامِ حُدُودِ شَرِيعَتِهِ ، وَنَالُوا مَا يُرْضِيهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ ، وَهَذَا الجَزَاءُ الحَسَنُ إِنَمَا يَكُونُ لِمَنْ مَلأَتْ قُلُوبَهُمْ خَشْيَةُ اللهِ وَالخَوْفُ مِنْهُ .
إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الأخير ; وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة , لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة , فقد تحددت الفرصة الأخيرة , فإما إيمان فنجاة , وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له , وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية) حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان , بهذه الرسالة الأخيرة , وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر من مظاهر الصلاح , المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات , أولئك هم خير البرية) . حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال . ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال . إنه الإيمان . لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام , أو في بيت يقول:إنه من المسلمين . ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان ! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة: (وعملوا الصالحات) . وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه ! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل . وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض , والحكم بين الناس بما شرع الله . فمن كانوا كذلك فهم خير البرية .
(جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) . . جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها , وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال !
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . وهذا الراضا في نفوسهم عن ربهم الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . (رضي الله عنهم ورضوا عنه) حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال !
(ذلك لمن خشي ربه) . .
وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله , ونوع هذه الصلة , والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح , وتنهى عن كل انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز , ويرفع الأستار , ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه , فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له , وإلا لم يقبله .
ــــــــــــــــ(1/62)
60-الربح في الدارين
قال تعالى : وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [العصر]
إِنَّ الإِنْسَانَ لَخَاسِرٌ فِي أَعْمَالِهِ . وَأَعْمَالُهُ مَصْدَرُ شَقَائِهِ ، وَهِيَ التِي تُوقِعُهُ فِي الهَلاَكِ ( وَهَذَا هُوَ جَوَابُ القَسَمِ ) .
قَالَ تَعَالَى : إِنَّ بَنِي الإِنْسَانِ خَاسِرُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ إِلاَّ الذِينَ اعْتَقَدُوا اعْتِقَاداً صَحِيحاً بِوُجُودِ اللهِ وَوحْدَانِيتِهِ ، وَبِمَا أَنْزِلَ مِنَ الكُتُبِ عَلَى رُسُلِهِ الكِرَامِ ثُمَّ عَمِلُوا صَالِحَةً تُرْضِي اللهَ ، وَاجْتَنَبُوا مَا حَرَّمَ اللهُ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِالصَّبْرِ عَنِ المَعَاصِي التِي تَشْتَاقُ إِلَيهَا النُّفُوسُ الضَّعِيفَةُ ، وَبِالصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ التِي يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ القِيَامُ بِهَا . . فَهؤُلاَءِ المُسْتَثْنَوْنَ هُمُ الرَّابِحُونَ الفَائِزُونَ .
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة : حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . . وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار ، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار ، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح ، وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده ، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
{ والعصر ، إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } .
إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .فما الإيمان؟؟
نحن لا نعرّف الإيمان هنا تعريفه الفقهي؛ ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر ، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون ، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .
وفضلاً عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق ، فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعاً بالوجود وما فيه من جمال ، ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . وهي سعادة رفيعة ، وفرح نفيس ، وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . .
التعبد لإله واحد ، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . والانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقاً ذاتياً ، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه ، وكل ما يربطه بالله ، أو بالوجود ، أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة ، وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه ، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها ، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .
. ولو كان فرداً واحداً ، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتها الناصعة ، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد ، وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نوراً ، والروح طمأنينة ، والنفس أنساً وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق ، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء!
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلته عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله ، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح ، والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأَجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله ، يرفع من اعتباره في نظر نفسه ، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه ، ويرده إلى منبت حقير ، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة!
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني ، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع ، ليس فيه ما يستغرب ، ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء!
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما ، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله سبحانه في أطواء حسه إحساساً يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه!
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم ، يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة ، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية ، ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب ، إنما هي كذلك تبعة جماعية ، وتبعة تجاه الخير في ذاته ، وإزاء البشرية جميعاً . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله ، فيكبر في عين نفسه ، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود ، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود ..
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا وهو بعض إيحاءات الإيمان واختيار ما عند الله ، وهو خير وأبقى . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة ، والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير ، ولأن الله يريده ، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيراً على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت سبحانه - ولا ينسى ، ولا يغفل شيئاً من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجاً موصولاً ، لا دفعة طارئة ، ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية ، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية ، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه ، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير ، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجاً أساسياً كاملاً .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير ، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير ، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره ، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته ، صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية ، وليس لها امتداد أو دوام!
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء ، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون ، وتنسلك في طريق واحد ، وفي حركة واحدة ، لها دافع معلوم ، ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل ، ولا يشد إلى هذا المحور ، ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء } وجاء في سورة النور : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله ، ما لم يستند إلى الإيمان ، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود ، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني ، وتناسقه مع فطرة الكون كله ، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله .
فهو يعيش في هذا الكون ، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان ، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل ، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى ، وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا خسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران!
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان ، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك ، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً . وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة عمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشاً وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منة قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير ، متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن ..
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير . والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية!
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران ، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . . هذا والمسلمون أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير ، وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم ، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم ، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع الي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله ، راية الإيمان ، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيراً قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله ، لا شريك له ، المسماة باسم الله لا شريك له ، الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ » . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله ، وتحت عنوان « عهد القيادة الإسلامية » : « الأئمة المسلمون وخصائصهم » :
« ظهر المسلمون ، وتزعموا العالم ، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم » .
« أولاً : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، وقد جعل الله لهم نوراً يمشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ } وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } ثانياً : أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق ، يزكيهم ويؤدبهم ، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله ، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول : » إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، أو أحداً حرص عليه « .
ولا يزال يقرع سمعهم : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب ، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ، ويزكوا أنفسهم ، وينشروا دعاية لها ، وينفقوا الأموال سعياً وراءها . فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد؛ بل عدوه أمانة في عنقهم ، وامتحاناً من الله؛ ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ، ومسؤولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائماً قول الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقوله . . { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ليبلوكم فيما آتاكم } » ثالثاً : إنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده؛ ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام « .
فالأمم عندهم سواء ، والناس عندهم سواء الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه قائلاً : خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً أمهاتهم؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب حتى المضطهدة منها في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد ، بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
« رابعاً : إن الإنسان جسم وروح ، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها ، ويتغذى غذاء صالحاً ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة ألبتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة » . .
إلى أن يقول تحت عنوان : « دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة » :
« وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها ، تسود فيها المثل الخلقية العليا ، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم ، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة ، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة ، فتقل الجنايات ، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها ، وتحسن علاقة الفرد بالفرد ، والفرد بالجماعة ، وعلاقة الجماعة بالفرد .
وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ، ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . « .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع » سورة العصر « قواعده ، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .(1/63)
فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان ، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر ، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور ، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل ، وفي الحياة الباقية ، وفي عالم الحقيقة . . هناك الربح والخسر : ربح الجنة والرضوان ، أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له ، أو يرتكس فتهدر آدميته ، وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في الراحة :
{ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة ، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة » والعصر « ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . .(الظلال)
- - - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
مقالات حول تلازم الإيمان والعمل الصالح وثمؤاتهما
الإيمان والعمل الصالح لا ينفك أحدهما عن الآخر
ما الفرق بين الإيمان والعمل الصالح ؟
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالإيمان مصدر آمن، وآمن أصله من الأمن، ضد الخوف.
والغالب أن يكون الإيمان لغة بمعنى التصديق، ضد التكذيب، يقال: آمن بالشيء إذا صدق به، وفي القرآن الكريم:وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17].
والإيمان في اصطلاح أهل السنة: قول وعمل واعتقاد.
قول القلب: وهو الاعتقاد والتصديق.
وعمل القلب: وهو الإخلاص والحب والخوف والرجاء وسائر أعمال القلوب.
وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمهما.
وعمل الجوارح: وهو العمل الذي لا يؤدى إلا بها كالصلاة، والحج وغيرهما، وهي تابعة لأعمال القلوب، ولازمة لها، ولمعرفة أركان الإيمان وأدلتها راجع الفتوى رقم:
18348.
أما العمل الصالح فهو لازم من لوازم الإيمان وجزء منه، وقد علق الله دخول الجنة على الإتيان به في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].
وقد أمر الله تعالى بالعمل الصالح في غير موضع من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى:فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].
وقال تعالى:الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2].
قال الفضيل بن عياض في تفسير العمل الحسن: أخلصه وأصوبه، فقيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة. انتهى
وقد سبق بيان منزلة العمل من الإيمان في الفتوى رقم:17836 وتبين منه أن جنس العمل شرط في صحة الإيمان، وأفراد العمل شرط في كماله.وقد سبق بيان الأعمال الصالحة التي يحبها الله تعالى في الفتوى رقم:12178.والله أعلم.المصدر-اسلام ويب
وقال الشيخ مصطفى مشهور رحمه الله في زاد الطريق :
"الإيمان والعمل الصالح متلازمان ، فاعمل الصالح مصدق للإيمان والإيمان لازم لقبول العمل الصالح .
وقد تكرر ذكرهما متجاوران فى كثير من آيات القرآن الكريم وهكذا نجد الإيمان يدفع الى العمل الصالح و العمل الصالح يؤكد الإيمان ويدعمه ويقويه ، وهو أيضاً مصدر للتزود بالتقوى والإيمان على الطريق ، فهو مجال الممارسة و التطبيق وترويض النفس ومجاهدتها وتطويعها لتكون عند مرضاة الله سبحانه وفى هذا عون وزاد على الطريق .
- إن تحقيق الإيمان و العمل الصالح وتحقيقهما فى الفرد و الجماعة يترتب عليه خير عظيم وفوز كبير كما قرر كتاب الله النجاة من الخسران مصداقاً لقوله تعالى :{ و العصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } و المغفرة و الأجر العظيم :{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } وقبول التوبة وإبدال السيئات حسنات :{ إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } وتحقق الفلاح :{ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين } ، ودخول الجنة :{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } والتمكين والاستخلاف فى الأرض :( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لايشركون بى شيئاً } .
- العمل الصالح مجال تطبيق العلم الذى نقرؤه ونسمعه فيكون بذلك حجة لنا لا علينا ، وفى العمل تثبيت للعلم وخروج من مجال النظريات و الخيال الى واقع الحياة وميادين المجاهدة و الجهاد وفى هذا ارتقاء بالنفس وبناء للشخصية وتقوية للإرادة وكسب للخبرة و التجربة ، وكما قال الإمام البنا رحمه الله أن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد المخطىء ، إننا نرى كثيراً من الناس يسهل عليهم القراءة و العلم ولكن تحويل هذا العلم الى عمل قد يصعب على الكثير .
نوازع الخير ونوازع الشر فى كل إنسان تتدافعان وفى ممارسة العمل الصالح دليل على تغلب نوازع الخير وتقوية لها وإضعاف لنوازع الشر وهذا فى ذاته زاد وخير ومن أمثلة ذلك :
- نقرأ عن فضل الإنفاق فى سبيل الله فتتوق أنفسنا الى الإنفاق وعند الممارسة قد تظهر نوازع البخل و الشح وحب المال لتحول دون الإنفاق فإذا مارسنا الإنفاق نكون قد قهرنا أنفسنا وروضناها على البذل و العطاء وهذا خير .
- نقرأ عن فضل الجهاد فى سبيل الله وقد يظل ذلك نظرياً حتى تتم الممارسة العملية للجهاد فننفر فى سبيل الله متغلبين على جواذب الأرض ومطالب الجسد ومتع الدنيا و الخوف من الموت وغير ذلك مما يجعل صاحبه يثاقل الى الأرض وفى التغلب على هذه الجواذب نصر على النفس وزاد كبير .
-نقرأ عن الصبر و التحمل و الثبات على طريق الدعوة وننتشى بما نقرأه من مواقف لأصحاب الدعوات على طريق الدعوة وعندما نتعرض لذلك عملياً يكون الترويض و الصقل وزيادة الإيمان :{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } .
- الدعوات تقوم على العزائم وأولى العزم ولا تقوم على الرخص و المترخصين والقرآن الكريم يحثنا على ذلك :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } ، :{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } فعلى الأخ المسلم أن يأخذ نفسه بذلك فى حياته ويجد فى العمل الصالح بكل طاقاته ففى ذلك زاد .
- مجال العمل الصالح متسع وليس محدوداً مما يعطى الفرصة الكبيرة لتزود الأخ المسلم فى كل ميدان ثم إنه موزع على الأوقات فهناك أعمال صالحة مطلوبة فى اليوم والليلة وأخرى أسبوعية وغيرها شهرية وكذلك أعمال سنوية وفى ذلك تجديد واستمرار للزاد على الطريق .
- لايفوتنا أن ننبه الى فرصة العمل الصالح فى شهر رمضان المبارك حيث يتضاعف الأجر ويكثر الزاد فى هذا الشهر الكريم كما أشارت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- العمل الصالح تزكية للنفس وسمو بها وتطهير لها من الدنايا و الخطايا وتحلية لها بفضائل الأخلاق و الصفات وهذا زاد .
- إن الأخ المسلم يقوم بالعمل الصالح لأداء الواجب أولاً ثم للأجر الأخروى ثانياً ثم للإفادة ثالثاً وهو إن عمل فقد أدى الواجب وفاز بثواب الله متى توافرت شروطه وبقيت الإفادة وأمرها الى الله فقد تأتى فرصة لم تكن فى حسابه تجعل عمله يأتى بأبرك الثمرات .
أما الذى يقعد عن العمل الصالح فقد لزمه إثم التقصير وضاع منه أجر الجهاد وحرم الإفادة قطعاً فأى الفريقين خير مقاما وأحسن ندياً .
- إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفاسفها وبممارستنا العمل الصالح نعيش دائماً معالى الأمور ونعلو على سفاسفها وفى هذا زاد وسمو .
- العمل الصالح يجعل من صاحبه قدوة صالحة للغير وفى ذلك معاونة على نشر الفضيلة فى المجتمع بالقدوة العملية وهى أكثر تأثيراً من القول أو الكتابة .
- العمل الصالح يوصل التوجيه الى غير المتعلمين بصورة عملية لا قولية كما يوصله الى الذين لايقرأون لعدم وجود وقت عندهم للإطلاع .
- لكى يكون العمل الصالح مقبولاً يلزم أن يتوافر معه الإخلاص والإلتزام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوافر هذين الشرطين بممارسة العمل الصالح زاد كبير لصاحبه .
- الأعمال الصالحة هى مجال تنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى والابتعاد عن نواهيه ولم يأمرنا الله إلا بكل خير لنا ولغيرنا ولم ينهنا إلا عن كل شر لنا ولغيرنا ، ولكل منا طاقات وإمكانيات من وقت وجهد وصحة وفكر ومال ونفس إذا بذلناها فى مجال العمل الصالح تحققت حكمة الله من وراء هذه الأوامر وأصبحنا مصدر إسعاد لنا وللبشرية وهذه منزلة عالية ، أما إذا بذلت هذه الطاقات فى غير العمل الصالح كان الفساد والإفساد فى الأرض ونعوذ بالله من ذلك ... هذا فى الدنيا ، أما فى الآخرة فالفوز و النعيم للصنف الأول و الخسران و العذاب للصنف الثانى وهكذا نرى فضل العمل الصالح .
- الظروف التى تمر بها الدعوة الإسلامية و المسلمون اليوم تحتم النهوض من هذه الكبوة و العمل المتواصل لمجابهة أهل الباطل وأعداء الإسلام الذين يبذلون جهدهم للقضاء على الإسلام و المسلمين ... وهذا يعظم من قدر وأهمية العمل الصالح وخيره وأثره فى مجال الدعوة .
- إن نهوض الأمة الإسلامية يتطلب من أبنائها قوة روحية ونفسية هائلة تتمثل كما قال الإمام البنا فى عدة أمور ك( إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، ووفاء ثابت لايعدو عليه تلون ولا غدر ، وتضحية عزيزة لايحول دونها طمع ولا بخل ، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه و المساومة عليه و الخديعة بغيره .
وتحقق هذه الصفات لايتم إلا من خلال العمل والعمل الجاد .
- العمل الصالح يحقق التغيير المطلوب فى النفس وهو مفتاح الخير لهذه الأمة مصداقاً لقول الله تعالى :{ إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فإذا تغلبنا على أنفسنا وألزمناها تعاليم الإسلام استطعنا أن نؤثر فى غيرنا حتى نقيم المجتمع المسلم و الدولة الإسلامية وإلا ففاقد الشىء لا يعطيه .
- الأخ المسلم الذى يحرص على الأعمال الصالحة فى حياته وأوقاته يكتسب صفة هامة وهى الحرص على الوقت فلا يضيع جزءاً من وقته إلا فى عمل نافع مفيد ويدفعه ذلك الى تنظيم وقته وأعماله وترتيبها حسب أهميتها مستشعراً أن الوقت هو الحياة وأن الواجبات أكثر من الأوقات وفى حسن استغلال الوقت زاد وخير كبير .
- العمل الصالح مجال طيب لكسب الثواب الأخروى وبقدر ما يقدم المسلم من عمل صالح بقدر ما يزداد رصيده من الحسنات فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وما أشد حاجة كل منا يوم القيامة الى ما يرجح كفة حسناته .
- العمل الصالح وفعل الخير يقوم به الأخ المسلم فى أى مكان فيظل ذكرى طيبة له ولجماعته فى ذلك المكان حتى بعد مغادرته أو بعد وفاته .
- المسلمون يتفاوتون بالنسبة الى إقبالهم على العمل الصالح وفعل الخيرات فمنهم من تتاح له فرصة عمل الخير ويتركها تمر دون أن يعمل ذلك الخير ، ومنهم من يعمل الخير متثاقلاً ، ومنهم من يؤديه بهمة واهتمام وأفضل من هؤلاء من لا ينتظرون فرصة عمل الخير حتى تأتيهم ولكنهم يفتشون ويبحثون عنها ويسعون إليها :{ أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون } .
وهذا ما يجب أن تكون عليه أخى المسلم إذا كنا صادقين فى دعوانا وما نتصدى له من مهام وآمال ."
ــــــــــــــــ(1/64)
معنى العمل الصالح
العمل الصالح
إن العمل الصالح في اصطلاح القرآن والسنة هو طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والبعد عن معاصيه، أي العمل بما جاء به كتابه وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- على مستوى الفرد والأسرة والأمة مع الإخلاص في ذلك.
فالإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وأداء الشعائر التعبدية التي يتحقق فيها الإخلاص وإتباع الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وأداء الحقوق إلى أهلها، من مال أو شهادة أو وظيفة، والالتزام بالحلال والحرام، وإقامة الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، والحكم بما أنزل الله، وغير ذلك مما ورد في القرآن والسنة كله من العمل الصالح في اصطلاح القرآن الكريم والسنة النبوية.
وليس العمل الصالح قاصرا على ما يفهمه كثير من المسلمين اليوم من أنه الشعائر التعبدية فقط، كالصلاة والصيام والحج والذكر المعروف بمعناه الضيق الذي لا يثمر التسليم المطلق لله تعالى، فذلك جزء من العمل الصالح.
فهم سلف الأمة لمعنى الإيمان والعمل الصالح:
لقد كان الإيمان والعمل الصالح بمعناهما الشامل الذي عناه الله تعالى مفهوما لدى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ومما يدل علي ذلك قول عائشة- رضي الله عنها- وقد سئلت عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: {ألم تقرأ القرآن، وتلت قول الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}. (القلم: 4) {كان خلقه القرآن}.[راجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
وكانوا رضي الله عنهم على ضوء هذا الفهم يجتهدون في العمل بمقتضاه، بحيث يتلون الآيات، ويتدبرون معانيها، ويفقهونها حق فقهها، ويعملون بما فيها، ولا يتجاوزونها بدون عمل، وقد سجل ذلك ابن مسعود، رضي الله عنه، فقال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).
وقال أبوعبد الرحمن السلمي:
( حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا). [تفسير القرآن العظيم]
هذا هو منهج رسول الله، ومنهج أصحابه والتابعين لهم بإحسان في معرفة معنى الإيمان والعمل الصالح الواردين في القرآن، وهذا هو منهجهم في العمل بهذا الكتاب، وهذا المنهج هو الذي يتحقق به للأمة الصلاح والفلاح، فإذا أراد المسلمون اليوم-ويجب أن يريدوا-أن يحققوا في أنفسهم ما أراد الله منهم أن يحققوه فعليهم أن يقرؤوا القرآن ويتدبروه، ويفتش كل واحد منهم عن نفسه في آيات هذا القرآن، وما فيها من أوامر الله ونواهيه، ومن الصفات التي يحبها الله ويثني على أهلها ويعد عليها بالثواب، والصفات التي يبغضها الله ويذم أهلها ويعد عليها بالعقاب، ليحاسب القارئ نفسه ويعمل بما يرضي ربه ويترك ما يسخطه.
وإن الأمة التي تهمل العمل بهذا الكتاب وقد شرفها الله بحمل أمانته والقيام به لأمة خاسرة تستحق أن يستبدل الله بها غيرها فهل تعي هذه الأمة واجبها وتقوم بوظيفتها، فتحقق بذلك الخلافة في الأرض بعمارتها، وقيادة الأمم إلى عبادة الله في الأرض ونشر العدل ومحاربة الظلم.
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} النور: 55
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} الأنبياء: 40-4 .
أو تتمادى في غيها والبعد عن ربها بتركها العمل بهذا القرآن فتنال عقاب الله لها في الدنيا والآخرة: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إن لا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير}. التوبة: 38-39.
{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} محمد: 38.
ومثل العمل بالقرآن العمل بسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر:7.
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوالله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} الأحزاب:21.
----------------
وهناك رأي آخر :
ما العمل الصالح ؟
وهنا لابد من الإشارة إلى معنى العمل الصالح-بعد أن فهمنا معنى الإيمان-.
إن العمل الصالح في اصطلاح القرآن- والسنة-هو طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والبعد عن معاصيه، أي العمل بما جاء به كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على مستوى الفرد والأسرة والأمة مع الإخلاص في ذلك.
فالإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وأداء الشعائر التعبدية التي يتحقق فيها الإخلاص واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأداء الحقوق إلى أهلها، من مال أو شهادة أو وظيفة، والالتزام بالحلال والحرام، وإقامة الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، والحكم بما أنزل الله، وغير ذلك مما ورد في القرآن والسنة كله من العمل الصالح في اصطلاح القرآن الكريم والسنة النبوية.
وليس العمل الصالح قاصرا على ما يفهمه كثير من المسلمين اليوم من أنه الشعائر التعبدية فقط ، كالصلاة والصيام والحج والذكر المعروف بمعناه الضيق الذي لا يثمر التسليم المطلق لله تعالى، فذلك جزء من العمل الصالح
فهم سلف الأمة لمعنى الإيمان والعمل الصالح :
لقد كان الإيمان والعمل الصالح بمعناهما الشامل الذي عناه الله تعالى مفهوما لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يدل علي ذلك قول عائشة رضي الله عنها-وقد سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم-: {ألم تقرأ القرآن، وتلت قول الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}. القلم: 4، {كان خلقه القرآن} [راجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
وكانوا رضي الله عنهم على ضوء هذا الفهم يجتهدون في العمل بمقتضاه، بحيث يتلون الآيات، ويتدبرون معانيها، ويفقهونها حق فقهها، ويعملون بما فيها، ولا يتجاوزونها بدون عمل، وقد سجل ذلك ابن مسعود، رضي الله عنه، فقال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.) وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.) [تفسير القرآن العظيم (1/4)]
هذا هو منهج رسول الله، ومنهج أصحابه والتابعين لهم بإحسان في معرفة معنى الإيمان والعمل الصالح الواردين في القرآن، وهذا هو منهجهم في العمل بهذا الكتاب، وهذا المنهج هو الذي يتحقق به للأمة الصلاح والفلاح، فإذا أراد المسلمون اليوم-ويجب أن يريدوا-أن يحققوا في أنفسهم ما أراد الله منهم أن يحققوه فعليهم أن يقرؤوا القرآن ويتدبروه، ويفتش كل واحد منهم عن نفسه في آيات هذا لقرآن، وما فيها من أوامر الله ونواهيه، ومن الصفات التي يحبها الله ويثني على أهلها ويعد عليها بالثواب، والصفات التي يبغضها الله ويذم أهلها ويعد عليها بالعقاب، ليحاسب القارئ نفسه ويعمل بما يرضي ربه ويترك ما يسخطه.
وإن الأمة التي تهمل العمل بهذا الكتاب وقد شرفها الله بحمل أمانته والقيام به لأمة خاسرة تستحق أن يستبدل الله بها غيرها فهل تعي هذه الأمة واجبها وتقوم بوظيفتها، فتحقق بذلك الخلافة في الأرض بعمارتها، وقيادة الأمم إلى عبادة الله في الأرض ونشر العدل ومحاربة الظلم والطغيان: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فألئك هم الفاسقون}. النور: 55، {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. الأنبياء: 40-4
أو تتمادى في غيها والبعد عن ربها بتركها العمل بهذا القرآن فتنال عقاب الله لها في الدنيا والآخرة: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إن لا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير}. التوبة: 38-39. {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.محمد: 38.
ومثل العمل بالقرآن العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر:7
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.
والذي لا يؤمن بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويزعم أن القرآن يكفيه في إقامة الإسلام، فقد كفر بالقرآن فلا إسلام بدون سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(51)
ثمرة الفهم الشرعي للعمل الصالح
على ضوء هذا الفهم وتطبيقه يترتب وعد الله عباده المؤمنين بنصرهم والتمكين لهم في الدنيا وإثابتهم بدخولهم الجنة والرضا عنهم في الآخرة، فهو تعالى إنما وعد بالنصر عباده المؤمنين الذين يتحقق فيهم الإيمان المعروف في كتابه وفي سنة رسوله، وليس مجرد إيمان يدعيه مدع غير الإيمان الذي أراده الله، فليس الإيمان بالتمني وإنما هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإلا:
وكل يدعي وصلا لليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكا
فلا ينبغي اليوم أن يتجرأ المسلمون على ربهم ويسألوا ذلك السؤال السيئ الأدب الدال علي جهلهم بالإيمان الذي نزل به القرآن الكريم ودعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووعد الله أهله بالنصر على عدوهم والتمكين لهم في الأرض، ذلك السؤال الذي يتكرر على ألسنة جهال المسلمين تعجبا، وعلى ألسنة أعداء الإسلام، حتى من المنتسبين إليه مكرا وتشكيكا، فيقول الجميع: كيف ينصر الله غير المسلمين من اليهود والنصارى والشيوعيين والهندوس وغيرهم على المسلمين وقد وعدهم بالنصر على هؤلاء الأعداء، في القرآن الكريم، قي قوله: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}. الروم: 47.
وقوله: {وإن جندنا لهم الغالبون}. الصافات: 173.
من هم المؤمنون الموعودون بنصر الله ومن هم جنده الموعودون بالغلب ؟!
أهم الذين يوالون أعداءه من اليهود والنصارى ويعادون أولياءه من علماء المسلمين الدعاة إليه وإلى الجهاد في سبيله وتحكيم شريعته؟! كيف يطلب النصر من يدعي الإسلام على من يزعم أنه عدوه وهو يواليه ويطيعه في معصية الله ومحاربة أوليائه؟!
كيف ينصر الله من يمكن لمعاصيه في الأرض ويهيئ كل الأسباب لترك طاعته؟!
كيف ينصر الله من يحاربونه بإباحة المحرمات من الزنى والخمر والربا وإباحة كل الوسائل المؤدية إلى المنكر؟!
أينصر الله من يفرض على الأمة الإسلامية الحكم بالطاغوت ويحرمها من الحكم بكتاب ربها وسنة نبيها؟ من أحق بنصر الله أصحاب رسول الله الذين حصلت من بعضهم مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد،لا تعد شيئا يذكر بالإضافة إلى ما يجاهر به من يدعي الإسلام اليوم، أوهؤلاء الذين لم يتركوا شيئا مما يغضب الله إلا ارتكبوه؟
إن الإيمان الذي وعد الله أهله بالنصر في القرآن هو الإيمان الذي بينه القرآن فليرجع إلى القرآن من يطمع في نصر الله، ليفهم منه الإيمان الذي أراده الله ويحققه في نفسه، وعندئذ سيكون من جند الله الغالبين، ومن لم ينصره الله على عدوه ممن يدعي الإيمان فليفتش عن إيمانه فسيجد فيه خللا لأن الله قٌد وعد -ووعده صدق-بنصر المؤمنين الذين ينصرون دينه: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} محمد:7.
الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(50-51) -كتبه د . عبد الله قادري الأهدل
ــــــــــــــــ(1/65)
العمل الصالح طريق العزة
إن العمل الصالح نتيجة الإيمان الصادق، فبه تسير الحياة ، فتعمر الأرض بعد صلاح القلوب، وتنتظم حركة الحياة فتكون مصدر عطاء وخير للناس جميعاً ويعم النظام ويزداد الإنتاج ويكثر الخير في كل مجالات الحياة، والعمل لا بد أن ينبع من عقيدة سليمة ويكون داخل دائرة إيمانية حتى يعمر ولا يدمر، ويصلح ولا يفسد، ويحقق المصلحة للناس فيتحقق مقصود الشرع به وقد بين ربنا تبارك وتعالى أن العمل الصالح هو طريق الهداية والإصلاح فقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات نعيم } [يونس : 9]
{الحمد لله رب العالمين، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور [فاطر : 10].
وأشهد أن لا إله إلا الله يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً رسول الله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فوعى بحكمة ودعا على بصيرة وساس بحزم.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
إن العمل الصالح نتيجة الإيمان الصادق، فبه تسير الحياة ، فتعمر الأرض بعد صلاح القلوب، وتنتظم حركة الحياة فتكون مصدر عطاء وخير للناس جميعاً ويعم النظام ويزداد الإنتاج ويكثر الخير في كل مجالات الحياة، والعمل لا بد أن ينبع من عقيدة سليمة ويكون داخل دائرة إيمانية حتى يعمر ولا يدمر، ويصلح ولا يفسد، ويحقق المصلحة للناس فيتحقق مقصود الشرع به وقد بين ربنا تبارك وتعالى أن العمل الصالح هو طريق الهداية والإصلاح فقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات نعيم } [يونس : 9]
وقال تبارك وتعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف:30]فانظر إلى هاتين الآيتين،ففي الآية الأولى بين ربنا جل وعلا أن العمل
طريق الهداية في الدنيا والآخرة، وفي الثانية حث على إحسان العمل وإتقانه حتى يؤتي
( 2 )
ثماره ويفوز صاحبه بالأجر في الدنيا والآخرة.
ولا يتحقق الإيمان الكامل إلا إذا كان هناك عمل صالح يدعمه ويبرز ثماره للناس فيحس به الناس جميعاً، وهذا يظهر في إعمار الأرض وإخراج مكامنها ليتمتع بها البشر، وبذل الجهد لإسعادهم وذلك بإعمال الفكر لتحسين منتج من المنتجات وزيادة كميته حتى يسد حاجة الناس من مأكل وملبس ومشرب أو ابتكار في طرق تعليم تيسره على المتعلم حتى تتحقق زيادة أعداد المتعلمين، أو بصناعة توفر الراحة مع سرعة الإنجاز كوسائل المواصلات والاتصالات وغيرها من الأمور التي تصلح معايش الناس، والناظر إلى المبتكرات في عالم اليوم يرى عجباً في هذه الوسائل وكيف أن الإنسان يستطيع أن يسافر إلى البلاد البعيدة جداً في ساعات بعد أن كان يقطعها في أشهر، كل هذا بفضل العمل المتقن الذي بذله أصحابه لإسعاد ذويهم وتقوية جانبهم.
أيها المسلمون:
أليس هذا الأمر فيه عزة لمن ملكه؟ وفيه قوة لمن سيطر عليه فهو يعطي منه ويمنع، يعطيه من يشاء بثمن غال ويمنعه إذا أراد، أليست هذه هي العزة الناتجة عن العمل وإحسانه والابتكار فيه حتى يملك العالم بين أصابعه.. إن العالم يتسابق اليوم ليصل إلى الكمال في كل شيء، فبفضل سواعد قوية وعقول ذكية تحول تراب الأرض إلى ذهب وربح منه العاملون فيه وباعوه بأغلى الأثمان وملكوا مقدرات العالم وتحكموا فيها، هذا بفضل عملهم الجاد النافع والله تعالى هو القائل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} [هود : 15] هذه الإنجازات التي تراها الآن في واقع حياتنا هي أعمال صالحة انتفع بخيرها الناس جميعاً في كل مجالات الحياة حتى تدخلت هذه الأعمال في أدق الأشياء، وفتتت الذرة، وتدخلت في أضخم الأشياء أيضاً فاجتازت المجرة،
وصعدوا إلى الفضاء الخارجي يجرون فيه تجاربهم وبثت الأقمار الصناعية التي ملأت الغلاف الجوي بالأخبار والمعلومات، وفي مجال الطب حدث ولا حرج، إنما أردت بهذا السرد
( 3 )
بيان أن العمل الذي يجلب نفعاً للناس وييسر عليهم مشقات الحياة ويوفر لهم متطلباتهم ويعينهم على قضاء حوائجهم في شتى مجالات الحياة، إنه عمل صالح وهو طريق العزة لأن من ملك هذا العمل قويت شوكته واستغنى عن الناس وملك زمام الأمر، ويا حبذا لو صاحب هذا العمل عقيدة سليمة وإيمان صادق بالله لكان فعلاً هو العمل الصالح الذي بين الله تعالى أن صاحبه لن يضيع أجره عند الله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف : 30] {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} الكهف107 ـ 108
أيها المسلمون :
لا يكفي إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، فإن الإيمان بلا عمل تراجع عن الأخذ بأسباب الحياة ، واقتصار المرء في النفع على نفسه فقط وعدم اهتمامه بالآخرين إن العبادة التي يتعدى نفعها إلى غيرك مقدمة على العبادة التي تخص نفسك وقد قام ابن عباس رضي الله عنه من معتكفة في مسجد رسول الله(صلي الله عليه وسلم) ليقضى حاجة رجل مسلم وجده مهموماً لدين أصابه، ولما ذكره الرجل باعتكافه بين له ابن عباس رضي الله عنه أن قضاء حاجات الناس مقدمة على الاعتكاف حتى ولو كان ذلك في مسجد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وذكره بقول الرسول (صلي الله عليه وسلم) من مشي في حاجة أخيه وبلغ فيها [قضاها] كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين .."رواه الطبراني والبيهقي" عن ابن عباس رضي الله عنه. ومن هنا نعلم أنه لا يكفي الإيمان بدون عمل، والله تعالى لما قدم لنا صفاته سبحانه في كتابه الكريم لم يقدمها لنا مجردة بل قدم الصفة والعمل التي تقوم به فقال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوي*والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى} [الأعلى] فبين مدلول صفة الأعلى من الخلق والتسوية والهداية والأرزاق إلى آخر هذه المدلولات، وهذا توجيه من الله تعالى إلى ضرورة العمل وأنه لا يوجد إيمان مجرد عن العمل الصالح و إلا فلا فائدة منه.
وأما العمل بلا إيمان فهو تهريج يدفع صاحبه إلى الشر وهو لا يدري فربما أكل التاجر الربا
( 4 )
وهو لا يدري وربما ظلم نفسه وغيره وهو لا يدري، وفرق بين أن تعمل العمل تبتغي به وجه الله تعالى مخلصاً لله فيه تراقب ربك ترجو رحمته وتخشى عذابه وبين أن تعمل العمل فتطلب به باباً من الدنيا فقط ، فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وفي ذلك يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم): لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان [رواه الطبراني] بل إن العبد المحترف الذي يجيد حرفة من الحرف يأكل من ورائها وينفع الناس بها خير من غير المحترف الذي يعيش عالة على غيره يمد يديه بالسؤال ويطويها في ذل ومسكنة، يقول الرسول (صلي الله عليه وسلم):" إن الله يحب العبد المحترف، ومن كد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل" [رواه أحمد].
أيها المسلمون:
إن عزة الله لا تنال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [ المنافقون : 8 ] والله تعالى لا يعطي عزة للمتكاسلين المتخاذلين ولكن يعطي عزته للمؤمنين العاملين، يقول الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} [الأنبياء : 105 ].
فنرى في هذه الآية الكريمة كيف أن الله تعالى جعل ميراث الأرض لعباده المؤمنين العاملين، وهم الذين وصفهم بالصالحين.
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها وتنميتها وتحويرها واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال
المقدر لها في علم الله، ولقد وضع الله للبشر منهجاً كاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض منهجاً يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال
الثروات والانتفاع بها هو وحده المقصود ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة فلا ينتكس حيواناً في وسط الحضارة المادية،
( 5 )
ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة، وفي النهاية يكون ميراث الأرض لعباد الله الصالحين.
أدعو الله وأنتم موقنون بالإجابة .... دعاء.
ــــــــــــــ
أعظم أسباب السعادة
1- وأعظم الأسباب لذلك وأصلها ورأسها هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) .
فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح ، بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار.
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة ، معهم أصول وأسس يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج ، وأسباب القلق والهم والأحزان.
يتلقون المحاب والمسار بقبول لها، وشكر عليها، واستعمال لها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه . أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين ، أموراً عظيمة تفوق بخيراتها وبركاتها هذه المسرات التي هذه ثمراتها. ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم منه بد، وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره من المقاومات النافعة ، والتجارب والقوة ، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمورا عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة ، والطمع في فضل الله وثوابه ، كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا في الحديث الصحيح أنه قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يتضاعف غنمه وخيره وثمرات أعماله في كل ما يطرقه من السرور والمكاره. لهذا تجد اثنين تطرقهما نائبة من نوائب الخير أو الشر فيتفاوتان تفاوتاً عظيماً في تلقيها، وذلك بحسب تفاوتهما في الإيمان والعمل الصالح. هذا الموصوف بهذين الوصفين يتلقى الخير والشر بما ذكرناه من الشكر والصبر وما يتبعهما، فيحدث له السرور والابتهاج، وزوال الهم والغم، والقلق، وضيق الصدر، وشقاء الحياة وتتم له الحياة الطيبة في هذه الدار.
والآخر يتلقى المحاب بأشرٍ وبطرٍ وطغيان. فتنحرف أخلاقه ويتلقاها كما تتلقاها البهائم بجشع وهلع، ومع ذلك فإنه غير مستريح القلب، بل مشتته من جهات عديدة ، مشتت من جهة خوفه من زوال محبوباته ، ومن كثرة المعارضات الناشئة عنها غالباً، ومن جهة أن النفوس لا تقف عند حد بل لا تزال متشوقة لأمور أخرى ، قد تحصل وقد لا تحصل ، وإن حصلت على الفرض والتقدير فهو أيضاً قلق من الجهات المذكورة ويتلقى المكاره بقلق وجزع وخوف وضجر ، فلا تسأل عن ما يحدث له من شقاء الحياة، ومن الأمراض الفكرية والعصبية، ومن الخوف الذي قد يصل به إلى أسوأ الحالات وأفظع المزعجات، لأنه لا يرجو ثواباً. ولا صبر عنده يسليه ويهون عليه.
وكل هذا مشاهد بالتجربة، ومثل واحد من هذا النوع، إذا تدبرته ونزلته على أحوال الناس، رأيت الفرق العظيم بين المؤمن العامل بمقتضى إيمانه، وبين من لم يكن كذلك، وهو أن الدين يحث غاية الحث على القناعة برزق الله، وبما آتى العباد من فضله وكرمه المتنوع.
فالمؤمن إذا ابتلي بمرض أو فقر، أو نحوه من الأعراض التي كل أحد عرضة لها، فإنه - بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضى بما قسم الله له - يكون قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمراً لم يقدر له، ينظر إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، وربما زادت بهجته وسروره وراحته على من هو متحصل على جميع المطالب الدنيوية، إذا لم يؤت القناعة.
كما تجد هذا الذي ليس عنده عمل بمقتضى الإيمان، إذا ابتلي بشيء من الفقر، أو فقد بعض المطالب الدنيوية، تجده في غاية التعاسة والشقاء.
ومثل آخر: إذا حدثت أسباب الخوف، وألمت بالإنسان المزعجات، تجد صحيح الإيمان ثابت القلب، مطمئن النفس، متمكناً من تدبيره وتسييره لهذا الأمر الذي دهمه بما في وسعه من فكر وقول وعمل، قد وطن نفسه لهذا المزعج الملم، وهذه أحوال تريح الإنسان وتثبت فؤاده.
كما تجد فاقد الإيمان بعكس هذه الحال إذا وقعت المخاوف انزعج لها ضميره، وتوترت أعصابه، وتشتت أفكاره وداخله الخوف والرعب، واجتمع عليه الخوف الخارجي، والقلق الباطني الذي لا يمكن التعبير عن كنهه، وهذا النوع من الناس إن لم يحصل لهم بعض الأسباب الطبيعية التي تحتاج إلى تمرين كثير انهارت قواهم وتوترت أعصابهم، وذلك لفقد الإيمان الذي يحمل على الصبر، خصوصاً في المحال الحرجة، والأحوال المحزنة المزعجة.
فالبر والفاجر، والمؤمن والكافر يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية، وفي الغريزة التي تلطف المخاوف وتهونها، ولكن يتميز المؤمن بقوة إيمانه وصبره وتوكله على الله واعتماده عليه، واحتسابه لثوابه أموراً تزداد بها شجاعته، وتخفف عنه وطأة الخوف، وتهون عليه المصاعب، كما قال تعالى: ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(النساء: من الآية104) . ويحصل لهم من معونة الله ومعينه الخاص ومدده ما يبعثر المخاوف. وقال تعالى" ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(لأنفال: من الآية46) .
2- ومن الأسباب التي تزيل الهم والغم والقلق، الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل ، وأنواع المعروف ، وكلها خير وإحسان ، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب لثوابه
فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114) .
فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خير ممن صدرت منه. والخير يجلب الخير، ويدفع الشر. وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجراً عظيماً ومن جملة الأجر العظيم: زوال الهم والغم والأكدار ونحوها.
( من كتاب الوسائل المفيدة للحياة السعيدة للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله )
المصدر :مدرسة العلوم الإسلامية
(ISS)Islamic Sciences School
ــــــــــــــــ(1/66)
كيف تكون سعيداً ؟
د. عادل المطيرات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فإن راحة القلب وطمأنيته وسروره وزوال همومه وغمومه هو مطلب كل واحد، وبه تحصل الحياة الطيبة، ويتم السرور والابتهاج، وتحصل به السعادة المنشودة، ولذلك أسباب كثيرة دينية وطبيعية وعلمية، ولا يمكن أن تجتمع هذه الأسباب كلها إلا للمؤمنين، وأما من سواهم فإنها وإن حصلت لهم من وجه وسبب يجاهد عقلاؤهم عليه فاتتهم من وجوه أنفع وأثبت وأحسن حالا ومالا.
ما السعادة؟ وما أسبابها؟ وكيف يرتاح الإنسان فيعيش سعيدا مرتاح القلب منشرح الصدر، يعيش عيشة هنية ويحيا حياة طيبة؟
إن لذلك أسبابا كثيرة سنذكر بعضها في هذه السلسلة، وهي مستقاة من رسالة لطيفة للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي، بعنوان : "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة".
أول الأسباب: الإيمان والعمل الصالح.
قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الدار، والجزاء الحسن في دار القرار. وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح، المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج، وأسباب القلق والهم والأحزان، يتلقون المحاب والمسار بقبول لها وشكر عليها واستعمال لها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين، أمورا عظيمة تفوق بخيراتها وبركاتها هذه المسرات التي هذه ثمراتها، ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم منه بد، وبذلك تحصل لهم من آثار المكاره من المقومات النافعة، والتجارب والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب، أمور عظيمة تضمحل معها المكاره ، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، أنه قال: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن"، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن يتضاعف غنمه وخيره وثمرات أعماله في كل ما يطرقه من السرور والمكاره.
لهذا تجد اثنين تطرقهما نوائب الخير أو الشر، فيتفاوتان تفاوتا عظيما في تلقيها، وذلك بحسب تفاوتهما في الإيمان والعمل الصالح.
هذا الموصوف بهذين الوصفين يتلقى الخير والشر بما ذكرناه من الشكر والصبر وما يتبعهما، فيحدث له السرور والابتهاج، وزوال الهم والغم، والقلق، وضيق الصدر، وشقاء الحياة، وتتم له الحياة الطيبة في هذه الدار.
والآخر يتلقى المحاب بأشر وبطر وطغيان، فتنحرف أخلاقه، ويتلقاها كما تتلقاها البهائم بجشع وهلع، ومع ذلك فإنه غير مستريح القلب، بل مشتت من جهات كثيرة، مشتت من جهة خوفه من زوال محبوباته، ومن كثرة المعارضات الناشئة عنها غالبا، ومن جهة أن النفوس لا تقف عند حد، بل لا تزال متشوقة لأمور أخرى، قد تحصل وقد لا تحصل، وإن حصلت على الفرض والتقدير، فهو أيضا قلق من الجهات المذكورة. ويتلقى المكاره بقلق وجزع وخوف وضجر، فلا تسأل ما يحدث له من شقاء الحياة، ومن الأمراض الفكرية والعصبية، ومن الخوف الذي قد يصل به إلى أسوأ الحالات، وأفظع المزعجات، لأنه لا يرجو ثوابا، ولا صبر عنده يسليه ويهون عليه.
وكل هذه مشاهد بالتجربة، ومثل واحد من هذا النوع إذا تدبرته ونزلته على أحوال الناس، رأيت الفرق العظيم بين المؤمن العامل بمقتضى إيمانه، وبين من لم يكن كذلك، وهو أن الدين يحث غاية الحث على القناعة برزق الله، وبما أتى العباد من فضله وكرمه المتنوع، فالمؤمن إذا ابتلي بمرض أو فقر، أو نحوه من الأعراض التي كل واحد عرضة لها، فإنه بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضى بما قسم الله له، تجده قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمرا لم يقدر له، ينظر إلى من دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه، وربما زادت بهجته وسروره وراحته على من هو محصل على الجميع المطالب الدنيوية, إذا لم يؤت القناعة, كما تجد هذا الذي ليس عنده عمل بمقتضى الإيمان، إذا ابتلي بشيء من الفقر، أو فقد بعض المطالب الدنيوية، تجده غاية في التعاسة والشقاء.
ومثل آخر: إذا حدثت أسباب الخوف وألمت بالإنسان المزعجات، تجده صحيح الإيمان ثابت القلب، مطمئن النفس، متمكنا من تدبيره، وتسييره لهذا الأمر الذي دهمه، بما هو في وسعه من فكر وقول وعمل، قد وطن نفسه لهذا المزعج الملم، وهذه أحوال تريح الإنسان وتثبت فؤاده، كما تجد فاقد الإيمان بعكس هذه الحال، إذا وقعت المخاوف انزعج لها ضميره، وتوترت أعصابه، وتشتتت أفكاره، وداخله الخوف والرعب، واجتمع عليه الخوف الخارجي، والقلق الباطني الذي لا يمكن التعبير عن كنهه.
وهذا النوع من الناس إن لم يحصل لهم بعض الأسباب الطبيعية التي تحتاج إلى تمرين كثير، انهارت قواهم وتوترت أعصابهم، وذلك لفقد الإيمان الذي يحمل على الصبر، لاسيما في المحال الحرجة، والأحوال المحزنة المزعجة، فالبار والفاجر، والمؤمن والكافر، يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية، وفي الغريزة التي تلطف المخاوف وتهونها، ولكن يتميز المؤمن بقوة إيمانه وصبره، وتوكله على الله، واعتماده عليه، واحتسابه لثوابه، أمور تزداد بها شجاعته، وتخفف عنه وطأة الخوف، وتهون عليه المصاعب، كما قال تعالى: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون).
ويحصل لهم من معونة الله ومعيته الخاصة ومدده ما يبعثر المخاوف، وقد قال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين).
السبب الثاني من أسباب السعادة: الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل وأنواع المعروف.
وكلها خير وإحسان، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب لثوابه فيهون عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه كما قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) فأخبر سبحانه أن هذه الأمور كلها خير ممن صدرت منه، والخير يجلب الخير، ويدفع الشر، وأن المؤمن المحتسب يؤتيه أجرا عظيما، ومن جملة الأجر العظيم زوال الهم ووالأكدار ونحوها.
وتأمل معي أخي القارئ ما جاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث ترغب في الإحسان إلى الخلق ومساعدتهم وإعانتهم، مما يجعل الإنسان حريصا على مساعدة إخوانه المسلمين ومعاونتهم ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى، من ذلك ما صح في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، فانظر كيف كان الله تعالى في عون العبد يحفظه بحفظه ويكلؤه برعايته ويعينه في أمور دينه ودنياه، كل ذلك إذا كان العبد في عون أخيه، فما أعظم أن يكون العبد معينا لإخوانه محسنا إليهم محتسبا للأجر والثواب من الله تعالى.
ومن ذلك ما صح عند الطبراني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أعتكف في المسجد شهرا" وهذا من الأحاديث العجيبة التي تبين فضل الإحسان إلى الخلق والمشي في حاجاتهم، وأن أجر ذلك عظيم وثوابه جزيل لا يقدره إلا الرب تبارك وتعالى.
تأمل أخي القارئ الكريم في هذا الحديث العظيم لتعرف فضل مساعدة الناس والمشي في حوائجهم، هذا الشيء اليسير الذي لا يراه كثير من الناس شيئا، أجره أعظم من الاعتكاف في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهرا، أتعرف أخي القارئ أن الاعتكاف فضله عظيم لما فيه من حبس النفس في المسجد للصلاة والذكر وقراءة القرآن، والبعد عن ملذات الدنيا وشهواتها، وهذا كله إذا كان في يوم واحد، فكيف إذا كان في شهر؟!
أتعرف فضل صلاة واحدة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها تعادل ألف صلاة فيما سواه من المساجد، وقد جاء ذلك صريحا في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام".
تأمل أخي القارئ هذا الأجر العظيم، الاعتكاف لمدة ثلاثين يوما وأين؟ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلاة لمدة شهر أين؟ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كم من الأجر يحصل عليه هذا المعتكف المصلي؟ أجر لا مثيل له إلا أن تمشي في حاجة أخيك فتحصل على أعظم من هذا الأجر !! فما أعظم وأوسع رحمة الله بعباده وجزيل فضله !
السبب الثالث من أسباب السعادة: الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة.
وهو من أعظم الأسباب التي تدفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب واشتغال القلب من المكدرات، فإن الاشتغال بهذه الأعمال دينية كانت أم دنيوية تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه، وربما ينسى تلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه وازداد نشاطه، وهذا السبب مشترك بين المؤمن وغيره، ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، ويعمل الخير الذي يعلمه إن كان عبادة فهو عبادة، وإن كان شغلا دنيويا وعادة دنيوية أصحبها النية الصالحة، وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله، فذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار فأحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواؤه الناجع نسيانه السبب الذي أكدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته، وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه، فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع.
أخي القارئ الكريم .. أشغل وقتك بما ينفعك في أمور دينك ودنياك، ولا تجعل لك وقت فراغ، بل ينبغي أن يكون وقتك كله مشغولا، إما بصلاة، أو صيام، أو قراءة للقرآن، أو إتباع جنازة، أو عيادة مريض، أو صلة رحم، أو إصلاح بين متخاصمين، أو حضور لمحاضرة أو درس مفيد، أو حضور لمنتديات فكرية واجتماعية نافعة، أو بلهو ولعب بريء مباح، أو غيرها من الأمور التي تعود بالنفع عليك في دينك وقلبك وفكرك وجسدك، كل ذلك يعين على راحة البال وطمأنينة القلب وانشراح الصدر، ويدفع القلق والهم والغم.
السبب الرابع من أسباب السعادة: اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت بالمستقبل. وعن الحزن على الوقت الماضي، فإن ذلك مما يساعد في دفع الهم والغم والقلق والحزن.
أخي القارئ .. إن التفكير في الماضي وما فيه من المشكلات والمآسي والأحزان الأليمة ليصيب الإنسان بالحزن، وإن التفكير والاهتمام الزائد في المستقبل والخوف منه ليصيبه بالهم والغم، وإن التفكير في اليوم الحاضر وأن يكون الإنسان ابن يومه ليصيب الإنسان بالراحة وانشراح الصدر، ويدفع عنه الهم والقلق، ولهذا استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهم والحزن، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل...".
فالحزن على الأمور الماضية لا يمكن ردها ولا استدراكها، والهم يحدث بسبب الخوف من المستقبل، فينبغي أن يكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال ويتسلى به العبد عن الهم والحزن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء، فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو بحصوله والتخلي عما كان يدعو لدفعه، لأن الدعاء مقارن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده ويستعينه على ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس - رضي الله عنهما -: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" أخرجه مسلم.
فجمع بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال، والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار، وبين الاستسلام للأمور النافذة، ومشاهدة قضاء الله وقدره، ثم جعل الأمور قسمين: قسم يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه أو دفعه أو تخفيفه، فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسم لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم.
السبب الخامس من أسباب السعادة: التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها، حتى لو كان العبد في حالة فقر أو مرض، أو غيرهما من أنواع البلايا، فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا يحصى لها عدد ولا حساب، وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم، هانت وطأتها وخفت مؤونتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها، والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المرة حلوة، فتنسيه حلاوة أجرها مرارة صبرها!!
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضوع استعمال ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل رآه يفوق قطعا كثيرا من الخلق في العافية وتوابعها وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها، وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيرا كثيرا، ودفع عنه شرورا متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم ويوجب الفرح والسرور.
السبب السادس من أسباب السعادة: نسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكير فيها، وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله، مما يتوهمه من فقر أو خوف، أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته، فيعلم أن الأمور المستقبلية مجهول ما يقع فيها من خير وشر، وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه واطمأن إليه في ذلك، إذا فعل ذلك اطمأن قلبه وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه.
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو به: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر". أخرجه مسلم.
وكذلك قوله: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت". أخرجه أبو داود بسند حسن، فإذا لهج العبد بهذا الدعاء الذي فيه صلاح مستقبله الديني والدنيوي بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده فيما يحقق ذلك، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له، وانقلب همه فرحا وسرورا.
السبب السابع من أسباب السعادة: تقدير أسوأ الاحتمالات عند حصول المكروه:
من أنفع الأسباب لزوال القلق والهموم إذا حصل على العبد من النكبات، أن يسعى في تخفيفها بأن يقدر أسوأ الاحتمالات التي ينتهي إليها الأمر، ويوطن على ذلك نفسه، فإذا فعل ذلك فليسع إلى تخفيف ما يمكن تخفيفه بحسب الإمكان، فبهذا التوطين، وهذا السعي النافع، تزول همومه وغمومه، ويكون بدل ذلك السعي في جلب المنافع، وفي رفع المضار الميسورة للعبد، فإذا حلت به أسباب الخوف، وأسباب الأسقام، وأسباب الفقر والعدم لما يحبه من المحبوبات المتنوعة، فليتلق ذلك بطمأنينة وتوطين للنفس عليها، بل على أشد ما يمكن منها، فإن توطين النفس على احتمال المكاره، يهونها ويزيل شدتها وخصوصا إذا أشغل نفسه بمدافعتها بحسب مقدوره، فيجتمع في حقه توطين النفس مع السعي النافع الذي يشغل عن الاهتمام بالمصائب، ويجاهد نفسه على تجديد قوته المقاومة للمكاره، مع اعتماده في ذلك على الله، وحسن الثقة به.
ومثال ذلك: أن يخبر شخص آخر بأنه قد خسر في تجارته، فليقدر بأنه خسر خسارة كبيرة جدا وليوطن نفسه على ذلك، فإذا سمع الخبر وأنه خسر أقل من ذلك بكثير ارتاح واطمأن لذلك.
وكذلك لو أخبر شخص آخر بوقوع حادث لابنه، فليقدر أسوا الاحتمالات وهو الموت مثلا، فإذا سمع الخبر وأنه جرح جرحا او كسر كسرا هانت عليه المصيبة، وارتاح واطمأن لذلك.
ولا ريب أن لهذه الأمور فائدتها العظمى في حصول السرور وانشراح الصدور، مع ما يؤمله العبد من الثواب العاجل والآجل، وهذا مشاهد مجرب، ووقائعه ممن جربه كثيرة جدا.
السبب الثامن من أسباب السعادة: قوة القلب وعدم انزعاجه وانفعاله للأوهام والخيالات التي تجلبها الأفكار السيئة، وهو من أعظم العلاجات لأمراض القلب العصبية، بل وأيضا للأمراض البدنية، لأن الإنسان متى استسلم للخيالات، وانفعل قلبه للمؤثرات من الخوف من الأمراض وغيرها ومن الغضب والتشوش من الأسباب المؤلمة، ومن توقع حدوث المكاره وزوال المحاب، أوقعه ذلك في الهموم والغموم والأمراض القلبية والبدنية، والانهيار العصبي الذي له آثاره السيئة، التي قد شاهد الناس مضارها الكثيرة، ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله، وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم وزال عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، فكم ملئت المستشفيات من مرضى الأوهام والخيالات الفاسدة، وكم أثرت هذه الأمور على قلوب كثير من الأقوياء، فضلا عن الضعفاء، وكم أدت إلى الحمق والجنون، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب، الدافعة لقلقه، قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه، فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسرا، وترحه فرحا، وخوفه أمنا، فنسأله تعالى العافية ، وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته، وبالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير.
السبب التاسع من أسباب السعادة: تذكر المحاسن والغض عن المساوئ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأسباب في قوله: "لا يفرك - أي يبغض - مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر". أخرجه مسلم.
وفيه فائدتان عظيمتان:
إحداهما: الإرشاد إلى معاملة الزوجة والقريب والصاحب والعامل، وكل من بينك وبينه علاقة واتصال، وأنه ينبغي أن توطن نفسك على أنه لابد أن يكون فيه عيب و نقص، أو أمر تكرهه، فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة بتذكر ما فيه من المحاسن، والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن، تدوم الصحبة والاتصال وتتم الراحة وتحصل لك.
الفائدة الثانية: وهي زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بل عكس القضية فلحظ المساوئ وعمي عن المحاسن، فلابد أن يقلق، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويتقطع كثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها.
وكثير من الناس ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة، لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ويتكدر الصفاء، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عن الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصغار، فضرتهم وأثرت في راحتهم، فالحازم يوطن نفسه على الأمور القليلة والكبيرة، ويسأل الله الإعانة عليها، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، فعند ذلك يسهل عليه الصغير، كما يسهل عليه الكبير، ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحا.
السبب العاشر من أسباب السعادة: أن يعلم العاقل أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جدا، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال في الأكدار، فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهبا للهموم والأكدار، ولا فرق في هذا بين البر والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقيق بهذا الوصف الحظ الأوفر، والنصيب النافع العاجل والآجل.
وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه أو خاف منه، أن يقارن بين بقية النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية، وبين ما أصابه من مكروه، فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم واضمحلال ما أصابه من المكاره، وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها، فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت، ويسعى في دفع ما لم يقع منها، وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.(1/67)
ومن الأمور النافعة أن تعرف أن أذية الناس لك وخصوصا في الأقوال السيئة، لا تضرك، بل تضرهم إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها وسوغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تصغ لها بالاً لم تضرك شيئا، فلا تشغل نفسك بالتفكير في الناس وأذيتهم وغيبتهم لك ونحو ذلك من الأمور، فإنها في الحقيقة تعود بالنفع لك فيزداد أجرك وتكفر سيئاتك ويرتفع قدرك عند الناس وقبل ذلك عند رب الناس سبحانه وتعالى.
واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا، فحياتك طبيعية سعيدة وإلا فالأمر بالعكس.
السبب الحادي عشر من أسباب السعادة: وهو من أنفع الأمور لطرد الهم أن توطن نفسك على ألا تطلب الشكر إلا من الله، فإذا أحسنت إلى من له حق عليك، أو من ليس له حق، فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله، فلا تبال بشكر من أنعمت عليه، كما قال تعالى في حق خواص خلقه: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).
ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد ومن قوي اتصالك بهم. فمتى وطنت نفسك على إلقاء الشر عنهم، فقد أرحت واسترحت.
السبب الثاني عشر من أسباب السعادة: أخذ الفضائل، والعمل عليها حسب الداعي النفسي دون التكلف الذي يقلقك، وتعود على إدراجك خائبا من حصول الفضيلة، حيث سلكت الطريق الملتوي، وهذا من الحكمة، وأن تتخذ من الأمور الكدرة أمورا صافية حلوة، وبذلك يزيد صفاء اللذات وتزول الأكدار.
اجعل الأمور النافعة نصب عينيك، واعمل على تحقيقها ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن، واستعن بالراحة وإجمام النفس على الأعمال المهمة.
* ومن الأمور النافعة حسم الأعمال في الحال، والتفرغ للمستقبل، لأن الأعمال إذا لم تحسم اجتمعت عليك بقية الأعمال السابقة وانضافت إليها الأعمال اللاحقة، فتشتد وطأتها، فإذا حسمت كل شيء بوقته، أتيت الأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم، وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة، فما ندم من استشار، وادرس ما تريد فعله درسا دقيقا، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــ(1/68)
ما هي السعادة
رقم الخطبة 1687 الموضوع الرئيسى الإيمان ،
الرقاق والأخلاق والآداب الموضوع الفرعى فضائل الإيمان ، الفتن
اسم الخطيب عائض القرني اسم المدينة غير محدد تاريخ الخطبة(هـ)
اسم المسجد غير محدد
ملخص الخطبة:
1- كل إنسان يبحث عن السعادة في مظانها. 2- بعضهم يرى السعادة في الحال وآخرين في الجاه. 3- السعادة في الإيمان والعمل الصالح وصور ذلك في حياة السلف. 4- نصيحة أبي العتاهية لهارون الرشيد. 5- احتضار عبد الملك بن مروان. الخطبة الأولى
أيها المسلمون:
عنوان هذه الخطبة ((ما هي السعادة)).
يبحث كل إنسان بكل ما أوتي من قوة عن السعادة، فما هي السعادة؟ وأين توجد؟
هل السعادة مال وفير وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث؟
هل السعادة منصب يرفع العبد على الناس، فيصبحون له خدماً وخولاً؟
هل السعادة صحة الجسم، فلا يمرض، ولا يجوع، ولا يبأس؟
هل السعادة السلامة من الناس، والنجاة من غوائلهم ودواهيهم؟
لقد طلب السعادة أقوام من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق، سبباً لدمارهم وهلاكهم، وللعنة الله التي وقعت عليهم.
طلبها فرعون وتلاميذه في الملك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلطن بلا طاعة، فتشدق في الجماهير: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51]. ونسي أن الذي ملكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: ما علمتُ لكم من إله غيري [القصص:38]. فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله؛ إنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها فأخذه الله نكال الآخرة والأولى [النازعات:25]. ويقول الله عنه وعن مثله: النار يُعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:46].
ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر فخسفنا به وبداره الأرض [القصص:81].
وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الله خلفه فرداً بلا ولد ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا [المدثر:11-16].
فماذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر [المدثر:26-30].
وهذا يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
وذاك يظن أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:124-126].
فأين السعادة؟ أين توجد لمن يبحث عنها؟ أين مكانها؟ من الذي أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
السعادة الإيمان والعمل الصالح، وجدها يونس بن متى، وهو في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت، بلسان ضارع حزين: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين [الأنبياء:87]. فوجد السعادة.
ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء:62].
ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
سهدت أعينٌ ونامت عيون في شئون تكون أو لا تكون
فاطرح الهم ما استطعت فحملانك الهموم جنون
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون
ووجد السعادة يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار [يوسف:39]. فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
ووجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً، لو جلده الجمل لمات، كما قال جلاده، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة، فيجد السعادة.
أما الذي جلده، وهو المعتصم، فلما حضرته سكرات الموت، رفع بساطه، ومرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه. ثم يقول: لو علمت أني أموت شاباً، ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
ووجدها ابن تيمية، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13].
ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأ وخبراً من السجن فيقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي. . أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة!!.
ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف!.
هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: فإن له معيشة ضنكاً [طه:124]. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: فإن له معيشة ضنكا . ومن جمع الدنيا، وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته فإن له معيشة ضنكا .
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي إلى رضوان ربه، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المتنبي الشاعر:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعقُ
نُبقي على الدنيا وما من معشرٍ جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيق
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلالٌ مطلقُ
قال أهل السير وأهل التاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة، وتولاها بعد أبيه، أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة، في عمارة قصر على نهر دجلة؛ يدخل النهر من شمال القصر ويخرج من جنوبه، وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يقول: ليهنك العيش والسعادة، ودوام الصحة والعافية، في ظل هذا القصر، فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: هيه، يعني زد، قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدوّ مع البكور
يقول: يأتيك الخدم والجواري، بالأطعمة والأشربة، وكل ما أردت، صباحاً ومساء قال: هيه، قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
قال: أعد. أعد. قال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وساعة الصفر، وبلغت الروح التراقي: وقيل من راق [القيامة:27]. والتُمس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
يقول: إذا أتتك سكرات الموت، وأشرفت على الهلاك، سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت تعبث كما يعبث الصبيان، قال: أعد، ثلاثاً، فردد أبو العتاهية:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد، حتى أصبح في عداد الموتى.
هذا هو هارون الذي كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة، ويغزو سنة، ويحج سنة.
وقصص الذين كانوا يبحثون عن السعادة، ولكنهم لم يوفقوا لها كثيراً، فهذا عبد الملك بن مروان حكم العالم الإسلامي، طوله وعرضه، شرقه وغربه، ولكنه لما أتته سكرات الموت، نزل من على سرور الملك، لأن سرير الملك لرجل آخر غيره، لأنه لا يمكن أن يستمر عليه، فالله - تبارك وتعالى - وحده، هو صاحب الملك والملكوت، وهو وحده الذي يعزل ويولي، ويملك ويخلع، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت.
نزل، وسمع غسالاً بجانب القصر في سعادة، وفي هناء، ما عنده ملك، ولا مشاغل، ولا مشاكل، وكان هذا الغسال ينشد نشيداً، وهو يغسل الثياب، فقال عبد الملك: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، ثم مات. قال سعيد بن المسيب، معلقاً على هذه الكلمات: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت، ولا نفر إليهم.
أيها الناس:
من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد، في المصحف، في السنة، في الذكر، في التلاوة، في الهداية، في الاستقامة، في الالتزام، في اتباع محمد، عليه الصلاة والسلام.
عباد الله:
صلوا على المعصوم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه فإنه يقول: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ)).
ــــــــــــــــ(1/69)
أسباب مغيبة لانتصار المسلمين
من المشاكل التي تعاني منها أجيالنا الحديثة سوء تعليم التاريخ. فنحن ندرس التاريخ في مدارسنا بشكل إما يسيء عرض الأحداث أو يسيء قراءتها. وسوء السرد يوهم الطلاب بتاريخ مخالف للحقائق، وسوء القراءة يجمع بين سوء تصور التاريخ، وتحريف الوعي.
ومن أمثلة ذلك ما درسناه في المدارس عن الفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام. فقد درسنا في دروس التاريخ، أن الدولة الإسلامية حققت أحد أسرع نماذج اتساع الدول على مر التاريخ، وأن هذا التوسع كان الأثبت تاريخيا... وهذا صحيح وصادق، ولكن ما خدعونا به في تلك الدروس، هو عوامل انتصار المسلمين السريع على الدولتين الأعظم في ذلك الزمن، الفرس والروم..
وكان السبب الذي يذكرونه هو إيمان المسلمين،، وأحيانا يضيفون ضعف الفرس والروم نتيجة الحروب بينهما.. وأنا أرى أن السبب الأول غير كاف، والسبب الثاني غير صحيح..
أما الإيمان، فهو لا يكفي وحده للانتصار في معركة، وليس الانتصار في حرب بهذا الحجم. ولا أظن أن جيوش الفاتحين كانت أكثر إيمانا من جيش الصحابة الذي هزم في أحد، وكان قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لا يستطيع أحد أن ينكر وجود إيمان متميز لدى تلك الجيوش، ولا يستطيع أحد أن ينفي دور هذا الإيمان في النصر، ولكن الإيمان وحده لا يكفي.. لا بد أن يصاحبه العمل، العمل الصالح.. أو ما يسمى الأخذ بالأسباب..
والسبب الثاني الذي ذكروه هو ضعف الدولتين الفرس والروم بفعل الحرب التي دارت بينهم في صدر الإسلام، وقد توقفت هذه الحرب قبل بداية الفتوح بوقت كاف لاستعادة أي دولة منها لقوتها العسكرية، وعافيتها الاقتصادية مرة أخرى.. والدليل على ذلك أعداد الجيوش التي واجهت المسلمين في الجبهتين، ففي القادسية حشد الفرس 120 ألف مقاتل، ثم عادوا في نهاوند وحشدوا 150 ألف مقاتل،، عدا عن الجيوش الصغيرة التي واجهت المسلمين في المعارك المتفرقة قبل القادسية وبعدها.. وقد غنم المسلمون ملايين الدراهم في فتح المدائن، وفي عدة مواقع أخرى، كان كسرى يخفي بها كنوزه. في صورة أموال وحلي وجواهر،، عدا التحف الفنية التي لا تقدر،، فهذه دولة ليست بالفقيرة ولا الضعيفة،، وكان لدى الروم قوات قريبة للفرس في العدد والعدة.
ثم إن ضعف الدولتين (المزعوم) لا يفسر كيف انتصر 34 ألف على 120 ألف في القادسية،، والأرقام قريبة من ذلك في اليرموك..
وإذا كانت الحروب التي انتهت منذ سنوات ما زالت تؤثر في قوة الدولتين، فما بال حروب الردة التي لم تنته إلا قبل بداية فتح العراق والشام بأشهر معدودة. ألم تؤد هذه الحروب التي شملت الجزيرة كلها إلى ضعف العرب، وخاصة أن المرتدين لم يسمح لهم أبو بكر بحمل السلاح. والمشاركة في الفتوح.
إذا هذا التفسير لا يكفي ولا يصح..
والسبب الحقيقي لانتصار المسلمين في هذه الحروب هو الإيمان والعمل.. معا..
العمل الصادق، أو العمل الصالح..
الإعداد الجيد للمقاتل، أثبت المقاتل العربي المسلم في هذه الحروب تفوقه الفردي على المقاتل الفارسي أو الرومي، فكل المبارزات الفردية انتهت لصالح المسلمين، حتى أن رستم قائد الفرس في القادسية منع الفرس من المبارزة في اليوم الثالث، لأنه رأى رجاله يخسرون جميع المبارزات. وكان العربي يجيد استخدام كافة أنواع السلاح، السيف والرمح والقوس، ويجيد القتال راكبا أو راجلا أو جاثيا على ركبته. ويجيد القتال في تشكيلات صغيرة تصل إلى أفراد دون العشرة أو في تشكيلات تصل إلى آلاف. إذن كان المقاتل أحسن إعداداً، مما مكنه من تجاوز الفارق في المعدات.
الالتزام والانضباط على مستوى الأفراد، فكان كل فرد من القائد إلى الجندي يلتزم بدوره المحدد، وبالتعليمات الصادرة إليه. مع وجود روح المبادرة لدى كل فرد في الجيش، فيستطيع أن يتخذ قرارا وفق صلاحياته، إذا تطلب الأمر ذلك. وهذا ما لم يكن موجودا لدى جيوش الفرس والروم.
التخطيط الجيد، والتخطيط الجيد على عدة مستويات، فقد أحسن المسلمون استغلال نقاط تفوقهم، في السرعة وخفة الحركة، مما جعل الدروع والمعدات التي يحملها الفرس أو الروم تتحول من عنصر تفوق إلى عنصر ضعف. والتخطيط الجيد في اختيار مواقع القتال، وحصار الأعداء في مناطق ضيقة تفقدهم إمكانية استغلال ميزة التفوق العددي، كما في القادسية واليرموك، وغيرها.
العدل والأمانة، لقد كسب المسلمون ثقة أهل البلاد التي فتحوها، كما كسبوا احترام أعدائهم أنفسهم، بحسن المعاملة والعدل والصدق والوفاء. فلم يتوقع أهل دمشق الذي اعتادوا على ظلم الروم، أن يعيد إليهم أبوعبيدة بن الجراح الجزية عن العام الذي انسحب فيه من دمشق، وقال لا نأخذ منكم الجزية إن لم نمنعكم (أي نحميكم). وقد كان أمر عمر بن الخطاب إلى جيش سعد بن أبي وقاص، "إن قال أحد من المسلمين كلمة أو أشار إشارة لأحد رجال الفرس هي عندهم أمان، فأجروا له ذلك مجرى الأمان". فلم يفقد العدو ثقته في المسلمين. وكان من يدخل الإسلام يصبح واحدا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ويقبلونه واحدا منهم.
هذه العناصر من العمل هي ما يغفل عنه المعلمون في أيامنا هذه.. فيخرج جيل إما يحسب أن الإيمان والصلاة وحدها كافية للنجاح وتحقيق الآمال، فإذا لم تتحقق آماله بالصلاة والصيام، كفر بكل القيم والعقائد.. أو منتظرا للظروف المواتية، (ضعف الدولتين) لكي يبدأ السعي، فقد تعلم هذا الجيل أن المسلمين لم يحققوا ما حققوا إلا بضعف الدولتين (الظروف المواتية)، ولم يعلم أنهم لم ينتصروا إلا لأنهم أحسنوا صنع الظروف أو استغلال ما يجدّ منها.. ولم ينتظروا أن يقاتل الله عنهم، بل فعلوا ما في وسعهم، قاموا بكل ما يمكنهم القيام به. ثم استعانوا بعد ذلك بالله، وطلبوا منه النصر والتأييد، فاستحقوا النصر على عدوهم..
إن الإيمان ضروري بلا شك،، والاستعانة بالله واجبة بلا جدال. ولكن الله لم يذكر الإيمان في القرآن إلا وذكر معه العمل، العمل الصالح..
ولم أر في التاريخ الإسلامي نصرا جاء، ولا انجازا تحقق، إلا بالعمل الصادق، والإعداد الجيد، والتخطيط السليم، بدءاً من غزوة بدر مرورا بالقادسية واليرموك ونهاوند والزلاقة وحطين وعين جالوت، وفتح القسطنطينية، إلى تصدي قوات المقاومة اللبنانية لمحاولات التوغل الإسرائيلي في عام 2006.
لم ينتصر المسلمون بالإيمان والدعاء فقط، وإنما بالإيمان والعمل الصالح. وهذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أوّلها..
ــــــــــــــــ(1/70)
أعظم الأسباب لراحة القلب وطمأنينة النفس
الإيمان بالله والعمل الصالح هما وسرور الإنسان وسعادته وزوال همومه وغمومه وهو المطلب لكل واحد منا وبهما يتم السرور والابتهاج والحياة الطيبة
قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم : »من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون » النحل آية 97«
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى ووعد من جمع بين الايمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة لأن المؤمنين بالله سبحانه وتعالى الايمان الصحيح المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والمطمئن للنفوس ومزك لها .
قال تعالى : »قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى » الاعلى آية 14«
وقال تعالى »قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها« الشمس آية 7«
والمؤمنون وأصحاب العمل الصالح هم أكثر الناس استقراراً وطمأنينة ومن أكثر وأكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى فإن في ذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته وزوال همه وغمه قال تعالى »ألا بذكر الله تطمئن القلوب » الرعد آية 28«
فلذكر الله أثر عظيم في حصول هذا المطلوب لخاصيته ولما يرجوه العبد من ثوابه وأجره ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله : »اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر« رواه مسلم .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم »اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني الى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت« رواه أبو داود بإسناده
فإذا لهج العبد بهذا الدعاء الذي فيه صلاح مستقبله الديني والدنيوي بقلب حاضر ونفس مطمئنة ونية صادقة صافية مع اجتهاده فيما يحقق ذلك حقق الله سبحانه وتعالى له ما دعاه ورجاه وعمل له وانقلب همه فرحاً وسروراً
فإذا حصل للانسان قلق أو توتر عصبي وهم نفسي بسبب النكبات فإن من انفع الاسباب لزوال هذه الامور أن يسعى من أجل تخفيفها عن نفسه بأن يقدر أسوأ الاحتمالات التي ينتهي إليها الأمر ويوطن ذلك على نفسه فإذا فعل ذلك فليسع الى تخفيف ما يمكن تخفيفه بحسب الإمكان لجلب المنافع ورفع المضار.
فإذا حلت به أسباب الخوف والقلق والفقر فليتلق ذلك بطمأنينة وتوطين النفس على احتمال المكاره والصعاب يهونها ويزيل شدتها وخصوصاً إذا أشغل نفسه بمدافعتها بحسب مقدوره فيجتمع في حقه توطين النفس مع السعي النافع الذي يشغل عن الاهتمام بالمصائب ويجاهد نفسه على تجديد قوته بالمقاومة للمكاره مع اعتماده في ذلك على الله سبحانه وتعالى وحسن الثقة به ولا ريب أن لهذه الأمور فائدتها العظمى في حصول السرور وانشراح الصدور مع ما يأمله العبد من الثواب العظيم العاجل والآجل عند الله سبحانه وتعالى .
وينبغي أيضاً إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين بقية النعم التي أنعم الله بها عليه الحاصلة له دنيوية أو أخروية وبين ماأصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم واضمحلال ماأصابه من المكاره وهذا كله يدخل في العمل الصالح في العبادات والمعاملات والتأملات
ولإزالة همك وإراحة نفسك وانشراح صدرك اتبع ما يلي :
1 ¯ اعترافك بأنك مقصر مع الله عز وجل
2 ¯ استعانتك بالله سبحانه وتعالى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث : »إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله«
3 ¯ إيمانك بأنه ما هو لك ليس لغيرك ,وما هو لغيرك فليس هو لك
4 ¯ استغفارك وتسبيحك الله سبحانه وتعالى .
5 ¯ تجديدك التوبة النصوحة وإقلاعك عن الذنوب الصغيرة منها والكبيرة وندمك على ما ارتكبت من ذنوب وآثام
6 ¯ محافظتك على الصلوات وخشوعك يفرج كربك ويزال همك
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ــــــــــــــــ(1/71)
خصائص الإيمان
كلنا يتمنى السعادة ويبحث عنها، وهذه السعادة قد يراها البعض في كثرة المال، أو في الجاه أو في السلطان، ولكن بلالا- رضي الله عنه- رآها في الإيمان بالله وهو يردد أَحَدٌ..أَحَدٌ، وهو ملقي على رمال مكة الملتهبة، في الصحراء الحارة وقت الظهيرة، وقد وضع المشركون حجرًا كبيرًا على صدره، يطارد أنفاسه، ويمنعها من الخروج، وهذه السعادة رآها (ابن تيمية) -رحمه الله- فقال: ماذا يصنع أعدائي بي؟ جنتي في صدري، لا يستطيعون أن ينزعوها مني، فإن نفوني فنفيي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، في صدري كتاب الله وسنة رسوله.
فالإيمان له حلاوة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، والرسول ( يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ( رسولا) [مسلم].
ويقول: (ثلاث مَنْ كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) [متفق عليه].
وقال بعض الصالحين عن أعدائه: لو علموا ما في صدرونا من الإيمان؛ لقاتلونا عليه. فمن أراد السعادة في الدنيا فعليه بالإيمان، ومن أراد الآخرة فعليه بالإيمان، ومن أراد الأمان فعليه بالإيمان.
يقول الشاعر:
قُل للّذِي يبْغِي السَّعَادَةَ هَلْ عَلِمْتَ مَن السَّعِيدْ؟
إِنَّ السَّعَادةَ أن نعيشَ لفكرةِ الحقِّ التَّلِيدْ
لِعَقيدةٍ شمَّاءَ تَهْزَأُ بالبُروقِ وبالرُّعُودْ
ما الإيمان؟
الإيمان في اللغة يعني التصديق ويتضح هذا المعنى من قصة يوسف عليه السلام، فعندما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم يعقوب -عليه السلام- بعدما وضعوا يوسف في البئر، قالوا له: إن الذئب قد أكل يوسف، وجاءوا بقميصه وقد لطخوه بالدماء،ولكنهم أحسوا أنه لا يصدقهم، فقالوا له: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17]. أي: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين.
أما الإيمان في الشرع فهو إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، وهذا الإيمان له خصائص يختص بها. وهي:
1- الإيمان شرط لقبول الأعمال:
خرج الرسول ( قبل غزوة بدر، وفي الطريق لحق بهم رجل قد عرفت عنه الجرأة والقوة والشجاعة، ففرح أصحاب رسول الله حين رأوه، فاقترب الرجل من الرسول ( وقال له: جئت لأتبعك وأُصِيب معك. قال له رسول الله (: (تؤمن بالله ورسوله)، فقال الرجل: لا. قال (: (فارجع فلن أستعين بمشرك). فتركهم الرجل.
وبعد فترة عاد ولحق بهم، وقال للرسول ( كما قال أول مرة: فقال له النبي ( كما قال من قبل، فتركهم الرجل ثم عاد فلحق بهم مرة ثالثة، وقال كما قال أول مرة، فقال له النبي (: (تؤمن بالله ورسوله؟) قال: نعم. فقال له (: (فانطلق) [مسلم].
يقول تعالى: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نفيرًا } [النساء: 124]. ويقول أيضًا: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا } [الإسراء: 19].
2- الإيمان لا يكون باللسان فقط:
كان عبد الله بن أُبَي بن سلول -كبير المنافقين- يأتي إلى الرسول ( يشيد به (يمدحه)، ويعلن أمامه الإيمان بالله ورسوله (، فإذا خرج من عنده عاب الرسول ( وسبه، وكان يأمر المنافقين ألا يطيعوا الله ورسوله، فهؤلاء المنافقون أظهروا الإسلام ومتابعة الرسول (، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله، فقال الله عنهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا } [النساء: 145].
وقال أيضًا عنهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
3- الإيمان يدفع إلى العمل الصالح ويزيد منه:
الإيمان والعمل الصالح كالتوأم، قرن الله بينهما في القرآن الكريم ستين مرة، فكما أن الإيمان يكمل بالعمل الصالح، فإن العمل الصالح دليل على صدق الإيمان، قال (: (إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) [الترمذي].
وهؤلاء هم أصحاب رسول الله ( يولدون في بيئة جاهلية لا تستغني عن شرب الخمر وإدمانها، ولكن عندما نزل قول الله -تعالى-: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90]. وأمر الله -عز وجل- بالانتهاء عنها، وقال: {فهل أنتم منتهون} [المائدة:91]. فلما سمعوا ذلك؛ ألقوا كئوس الخمر من أيديهم حتى إن بعضهم كانت كأسه تكاد تلامس شفتيه، فلما جاءه الأمر من الله بالانتهاء، ألقى الكأس التي كان يشربها؛ طاعة وإذعانًا لأمر الله -تعالى-، وذهب كل واحد إلى بيته، وأراق ما فيه من خمر، حتى امتلأت شوارع المدينة برائحة الخمر لفترة طويلة.
لقد فعل الإيمان ما عجزت الدول الكبرى عن فعله، وأنفقت عليه المليارات، فقد أنفقت إحدى الدول الكبرى آلاف الملايين من أموالها حتى تقضي على مشكلة إدمان الخمور، ومع ذلك باءت جهودها بالفشل.
4- الإيمان يمنع من المعصية ويقللها:
والمعصية لا تُذهب الإيمان ولا تضيعه، وإن كانت تؤثِّر فيه وتضعفه، والإيمان يقلل من المعصية ويمنعها، فهذا رجل من الأمم السابقة يخرج في سفر مع ثلاثة نفر من أصحابه، وعندما أظلهم الليل، أرادوا المبيت، فدخلوا إلى غار في جبل ليقضوا فيه ليلتهم، وفجأة انحدرت صخرة عظيمة فسدَّت عليهم باب الغار، فقالوا: لن ينجيكم من هذا الموقف العصيب إلا أن تدعوا الله-عز وجل- بصالح أعمالكم.
فتقدم الأول ودعا الله-عز وجل-بأحسن أعماله، فانفرجت الصخرة قليلاً غير أنهم لا يستطيعون الخروج، وتقدم الثاني ودعا فزاد انفراج الصخرة، ولكنهم ما زالوا لا يستطيعون الخروج أيضًا، فتقدم الثالث وقال: يارب إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها حبًّا شديدًا، فكانت أَحَبَّ الناس إلي، فأردتُ أن أفعل معها مثل ما يفعل الرجل مع زوجته، فراودتُها عن نفسها، ولكنها امتنعت مني، ومرت السنوات وأحاط بها الفقر من كل جانب، فجاءت إلى وطلبت مني مالا فأعطيتها المال على أن تجيبني إلى ما طلبت منها من قبل، بأن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتُ، حتى إذا قدرتُ عليها قالت وهي ترتجف وترتعد: يا عبد الله اتق الله ولا تَفُضَّ الخاتم إلا بحقه- أي لا يحل لك أن تستمتع بي إلا بالزواج الحلال-، فقمتُ عنها وهي أحب الناس إلي، وتركتُ لها المال الذي أعطيتُها.. اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء مرضاتك، فافرج ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
وهكذا منعه الإيمان من ارتكاب فاحشة الزنى. والمؤمن إذا همَّ بعمل يغضب الله، تذكَّر أنه -سبحانه وتعالى- مطلع عليه ومراقبه، فيمتنع عما يغضب الله -عز وجل-.
5- المؤمن يستمد قوته وعونه من الله:
فقد جاء أهل قريش إلى أبي طالب عم النبي ( يشكون إليه الرسول (، وقالوا له يا أبا طالب: إن ابن أخيك قد سفَّه أحلامنا وعاب آلهتنا، وفرَّق بيننا وبين أولادنا، وإن كان ابن أخيك يريد مالا جمعنا له حتى جعلناه أغنانا، وإن كان يريد مُلكًا سوَّدناه ونصبناه ملكًا علينا، وإن كان يعاني مرضًا جئنا له بأمهر الأطباء حتى يشفى.
فرد عليهم الرسول ( في يقين المؤمن القوي بالله الذي لا يخضع للإغراء، ولا يبيع إيمانه مهما كان الثمن الدنيوي عظيمًا: (والله يا عم.. لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر (الإسلام) ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) [ابن هشام].
وقد حفر الكافرون للمؤمنين أخاديد كبيرة في الأرض (حُفَرًا عظيمة) وأشعلوا فيها النيران، وألقوا فيها المؤمنين الذين آمنوا بربهم ولم يتنازلوا عن هذا الإيمان مع أن الثمن هو موتهم.
قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [البروج: 4-8].
ولما أحضر فرعون السحرة ليهزموا موسى -عليه السلام- فلما رأوا معجزة الله وقدرته، خروا لله ساجدين: {قالوا آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون} [الأعراف: 121-122]. فتوعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم، لأنهم آمنوا بإله موسى وكفروا بفرعون، ولكن الإيمان تمكن من قلوبهم وملأها، وزادهم قوة ويقينًا، فقالوا: {لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون} [الشعراء: 50].
6- الإيمان والابتلاء:
الابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، فالله -سبحانه- يختبر الناس بالخير والشر، حتى يميز بين المؤمنين الصادقين المنافقين الكاذبين، قال تعالى: {ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 1-3].
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلتُ: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [الترمذي وابن ماجه].
*وهذا خبيب بن عدي -رضي الله عنه- يأسره المشركون، ويذهبون به ليصلبوه، فيقول لهم: دعوني حتى أصلى ركعتين. فتركوه، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم أقبل عليهم فقال: والله لولا تظنون أني خائف من الموت لاستكثرت من الصلاة، ثم رفعوه على خشبة وقيدوه، ثم سأله المشركون: يا خبيب أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في بيتك؟ فيقول: لا، والله ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، ثم ينشد قائلاً:
ولستُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا على أي جَنبٍ كانَ في اللَّهِ مَصْرَعِي
ولست بِمُبْدٍ للعدوِّ تخشُّعًا ولا جَزَعًا إِنِّي إلى اللَّهِ مَرْجِعِي
وَذلكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ على أَوْصالِ شِلْوٍ ممزَّعِ
وشلوٍ ممزع: (جسم ممزق الأعضاء).
*وهذه سُمية يعذبها المشركون هي وزوجها وابنها، والرسول ( يمر عليهم ويقول: (صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) [ابن هشام]، فالمؤمن يصبر على ابتلاء الله -عز وجل- ويتوكل عليه، وهذا ما طلبه الله من المؤمنين حين قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]. والرسول ( يقول: (الصبر نصف الإيمان) [أبو نعيم].
ويقول أيضًا: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ (شيء يحبه) شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء (شيء يكرهه) صبر، فكان خيرًا له) [مسلم].
والإيمان يزيد بالمداومة على العمل الصالح، وينقص بالمعصية والتقصير في حق الله. قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2].
وقال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
*لقى حنظلةُ بن الربيع أبا بكر الصديق - رضي الله عنه-، فقال حنظلة: نافَقَ حنظلة. فقال أبوبكر: سبحان الله! ما تقول؟ فقال حنظلة: نكون عند رسول الله ( يذكرنا بالجنة والنار، فكأنَّا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله ( جامعنا الأزواج، ولاعبنا الأولاد، واهتممنا بأمور دنيانا.
فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: فوالله، إن حالنا مثل حالك. ثم ذهب حنظلة
وأبو بكر -رضي الله عنهما- إلى رسول الله ( فقال حنظلة لرسول الله ( : نافق حنظلة، يا رسول الله. فسأله الرسول ( عن سبب قوله، فقال حنظلة للرسول ( مثلما قال لأبي بكر. فابتسم الرسول ( وقال: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة). وكررها رسول الله ( ثلاث مرات. [مسلم].
وكان أبو الدرداء- رضي الله عنه- يقول: من فقه العبد أن يتعهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص.
ولزيادة الإيمان أسباب منها: العلم والعمل والتفكر، وغير ذلك، فالاستزادة من العلم سبب في زيادة الإيمان، وكان ابن عمر يقول: تعلمنا الإيمان، فلما تعلمنا القرآن زدنا إيمانًا، فالعلم بأسماء الله -عز وجل- وما يتضمنه كل اسم لا شك أنه يزيد من إيمان المسلم، وكذلك التعرف على سيرة الرسول ( وأخلاقه ومعاملته وجهاده وعبادته، كل ذلك يزيد الإيمان ويقويه.
وقد مدح الله -عز وجل- العلماء في كثير من المواضع فقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9].
وقد روي أن الحارث بن مالك الأنصاري مرَّ بالرسول ( فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟)قال: أصبحت مؤمنًا حقَّا! قال:(انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟) فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلِي وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال الرسول: (يا حارثة، عرفتَ فالزم (ثلاثًا)) [الطبراني].
وإذا كان العلم سببًا في زيادة الإيمان، فالعمل أيضًا من أسباب زيادة الإيمان ونقصانه، فكما أن العمل الصالح والطاعة يزيدان الإيمان، فإن الانغماس في المعاصي والشهوات يضعف الإيمان وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يحرصون على زيادة إيمانهم، فهذا عمر يقول: هلموا نزدد إيمانًا. فيذكرون الله -عز وجل-. وكان عبد الله بن رواحة يأخذ بيد الرجل من أصحابه، ويقول: قم بنا نؤمن ساعة، فنجلس في مجلس ذكر.
وفي الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ؛ ذكرته في ملأ خير منهم)
[متفق عليه].
ومن أسباب زيادة الإيمان التفكر الدائم في مخلوقات الله -عز وجل-، ألا ترى لو أن أحدًا حدَّثك عن مهارة شخص في صناعة ما، فإن إحساسك بهذه المهارة يزداد إذا رأيت بعينيك نموذجًا من صناعته؟! فإذا شاهدت منها أكثر من نموذج، ازداد ذلك الإحساس، فإذا قمت بتفحص هذه الصناعات والتدقيق فيها ازداد يقينك في مهارته وصدقه!
وقدرة الله واضحة جلية للجميع في هذا الكون الفسيح، فهذه سماء بلا عمد ظاهر، ونجوم وكواكب، وهذه الأرض يلقي فيها البذر فيخرج منه الحلو والمالح، وذلك مما يجعل الإنسان المؤمن صاحب القلب التقي لا يملك نفسه، ويهتف بعظمة الله وبديع صنعه قائلا: إنه الله القدير.
يقول الشاعر:
انْظُرْ لتلكَ الشَّجرَةْ ذَاتِ الغُصونِ النَّضِرَةْ
كَيْفَ نَمَتْ مَن حبَّةٍ وَكَيْفَ صارتْ شَجَرَةْ
انْظُرْ وقلْ من ذا الذِي أَخْرَجَ مِنْهَا الثَّمَرَةْ
ذَاكَ هُوَ اللَّهُ الّذِي أَنْعُمُهُ مُنْهَمِرَةْ
والتفكر وكثرة التأمل في مخلوقات الله -عز وجل- من صفات المؤمنين. قال تعالى: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} [آل عمران: 191].
ــــــــــــــــ(1/72)
قيمة المؤمن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/6/1415
النور
ملخص الخطبة
1- منزلة المؤمن عند الله عز وجل وملائكته. 2- المعاصي تنقص من قيمة المؤمن والطاعات تزيده. 3- انتشار الصحوة المباركة. 4- تحذير أعداء الصحوة من التعرض لأولياء الله وخيرته من خلقه. 5- ثمرات الإيمان والعمل الصالح كما ذكرتها آيات القرآن.
الخطبة الأولى
أما بعد:
يقول ربنا عز وجل وتعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً ويقول جل وعز: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
أيها الأحبة في الله: إن المؤمن له قيمة خاصة عند الله عز وجل، إن المؤمن ذا قيمة ومكانة وتقدير واعتبار واحترام لا في عالم الدنيا فحسب، ولكن في عالم الدنيا والآخرة، لا في عالم الجنس البشري فحسب، ولكن في عالم الغيبيات في عالم الجن، حتى الجن تميز وتقدر المؤمن من غيره، لذا تجد أن أغلب تلبس الجن يكون بمن ضعف إيمانه، وكثرت آثامه.
إن المؤمن له ميزان ومعيار خاص عند الله، يقوم عليها هو سبحانه وتعالى بنفسه، علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
أيها الأخ المؤمن: ويا أيها الأخ المسلم: هل تريد أن تدرك شيئاً من قيمتك ومكانتك ومنزلتك، فأرعني سمعك واستمع إلى هذه الآيات الكريمات، يقول الله تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً .
الله جل وتعالى هو الذي يصلي عليك أيها المؤمن وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
ويقول عز وجل: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات
ما أجمله من دعاء، وممن؟ من الملائكة وهم يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرن لمن؟ ويستغفرون للذين آمنوا.
فماذا يقولون في دعائهم واستغفارهم؟ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات .
هذا هو قيمتك أيها المؤمن، وهذه منزلتك ومكانتك، فلا ترض بأقل منها، ليختلط الإيمان بلحمك وعظمك، وليجرِ في عروقك مع الدم، وليصبح الإيمان سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به، ولسانك الذي تنطق به، ويدك التي تبطش بها، ورجلك التي تمشي بها. قل إن صلاتي وتسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين .
وحذار ثم حذار أيها المؤمن أن تمد يدك أو عينك إلى شيء ينقصك أو ينزلك عن هذه المرتبة، وعن هذه الدرجة، مما يتمتع به أحد من أهل هذه الحياة الدنيا وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . قال الله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى .
فقيمة المؤمن وآماله وروحه وتطلعاته أجلُّ وأكبر وأعظم من أن نتطلع إلى الأرض دون السماء، أو أن يتعلق المؤمن بما وصف بالفناء دون ما وصف بالبقاء.
إن قيمة المؤمن أجل وأكبر وأعظم من أن يرتبط بجوانب مادية وقيم فانية.
إن قيمة المؤمن ليست عند من يمنحون ما يسمى بالأوسمة والدروع والنياشين التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وليست قيمة المؤمن عندما يُعطى منصباً أو مالاً أو جاهاً، ولكن قيمته الحقيقية عند من عنده الدنيا كلها، وعنده الآخرة الممدودة الباقية.
إن قيمة المؤمن لا فيما يلبس ولا فيما يأكل ولا فيما يركب، لكن قيمته بما يحمله في قلبه من حب الله ورسوله، قيمته في موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله.
إن قيمة المؤمن الحقيقية بمقدار ما يبذله ويعطيه ويمنحه خدمة لهذا الدين، وعملاً بهذه الشريعة، وتبليغاً ودعوة لهذا الإسلام ولهذا الإيمان الذي يحمله.
فيا أيها المؤمنون: شباباً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، اعتمدوا على الله، وارتبطوا بالله، وتعاملوا مع الله، وتوكلوا على الله، واصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
فهل عرفت قيمتك أخي المؤمن؟إنك أغلى جوهرة في هذا الوجود، وأثمن كنز في هذا الكون، بما تحمل في قلبك من إيمان.
دع الدنيا لأهل الدنيا، ليلعبوا ما شاء لهم أن يلعبوا، وليجمعوا ما طاب لهم أن يجمعوا، أما أنت أيها المؤمن، فشعارك أن تردد قول الله جل وتعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .
فهنيئاً لمن اتصف بصفات الإيمان، وهنيئاً لمن لبس حلة الإيمان، وهنيئاً لمن تزين بزينة الإيمان.
وإنه لمن نعم الله الكبرى على هذه الأمة، ونعمه سبحانه لا تعد ولا تحصى، أن هناك عدداً كبيراً من شباب هذه الأمة، ذكوراً وإناثاً، بدءوا يتجهون للإسلام الذي أنزله الله.
فما تكاد تمد عينيك في أفراد جمعية من بعض جمعيات العالم الإسلامي، أو تنظر في مصلين في مسجد من مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، إلا وترى شباباً يمثلون هذه الصحوة المباركة، وترى كثيراً من تعاليم الإسلام ظاهراً في محياهم، وكثيراً من محاسن وفضائل الشرع بادياً في وجوههم، فالكثير منهم ولله الحمد والمنة صدورهم أوعية لكتاب الله، وعقولهم مليئة بتصورات الإسلام الصحيحة وعبادتهم ترجمة عملية لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقاءاتهم معمورة بما يزيد في إيمانهم ويرسخ يقينهم، يحبون ما أحب الله، ويبغضون ما أبغض الله، ويرضون ما رضيه الله، ويُسخطون ما يسخطه الله، مما يشعر في الجملة، بتأهيلهم لولاية الله لهم.
أيها المؤمنون: إن فيما سمعتم من جمل في قيمة المؤمن، وفيما بشرتم به من انتشار هذه الأوصاف الإيمانية، في صفوف كثير من شباب وشابات المسلمين، أقول: إن هذا وغيره ليدعو كل أب وكل أم، وكل من في قلبه شعلة من مشاعل الإيمان، حاكماً أو محكوماً، أميراً أو مأموراً، وجيهاً أو وضيعاً، ما دام أنه يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذه الشهادة تدعوه، وتدعو كل فرد من أفراد المسلمين أن يُسّر ويستبشر بهذا النوع.
لابد أن نفرح أيها الأحبة، لو كثر هذا الشباب المؤمن بيننا، بل ينبغي لكل أب أن يتمنى أن يكون أولاده مشاعل إيمان، يحملون كتاب الله، ويعبدونه حق عبادته ويدعون لعبادة الله حق عبادته، وحذاري ثم حذاري من إغضاب هؤلاء المؤمنين، أو إيذاء هؤلاء المؤمنين. فمن آذاهم فقد آذى الله ، ومن أغضبهم فقد أغضب الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) وفي صحيح مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمر المزني رضي الله عنه أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ((يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك))، فآتاهم فقال: يا إخوتاه أأغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي.
وإنه لمن العجب، بل إنه لمن السفه وعدم إدراك عواقب الأمور أن بعض الآباء وبعض أولياء الأمور لا يريدون من أولادهم أن يظهروا بمظاهر الإيمان، يرضون لهم الفساد، ولا يرضون لهم الصلاح، يزعجهم أن يروا بوادر الخير على الناشئة من أولادهم. بل قد يتعرضون لهم ويؤذونهم، ويقاومون الخير والاستقامة الذي يحملونه.
فيا أيها الآباء، ويا أولياء الأمور إن نذر الله واضحة معلومة من التعرض لهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ويقول: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).
فلنتق الله أيها المسلمون المؤمنون.
نوالي من والى الله، ونعادي من عادى الله، بل ونحرص ونجتهد أن نكون نحن من أهل ولايته الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وأن يدرك كل مؤمن قيمة نفسه، والقيمة الحقيقية للإيمان الذي يحمله، وبذلك يستطيع المؤمن أن يقدم الدور، ويؤدي الدور الذي يريده منه رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا أيها الأخ المؤمن: وبعد أن عرفت شيئاً من قيمتك الحقيقية، وبعد أن أدركت منزلتك عند الله، وأن الله سبحانه وتعالى، وهو مستوٍ على عرشه، عالِ على خلقه، ويغضبه لو اعتدى عليه بدون وجه حق، إما بسب أو شتم أو ضرب أو ظلم، أو غير ذلك.
أقول إذا علمت شيئاً من هذا أخي المؤمن، فإنه لا يبقى أمامك الآن إلا أن تتمسك بهذا الإيمان، ثم تدفع زكاة هذا الإيمان بالعمل، لكي ينفع، وليس أي عمل، بل بصالح الأعمال، فإن الإيمان بلا عمل، كالروح بلا جسد.
إنه ينبغي لكل مؤمن أدرك هذه الحقيقة أن يتفاعل معها، ويستثمر هذه المعرفة بالأعمال الصالحة، وفي مقدمتها بعد الأركان الخمس: الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكلما أدرك العبد المؤمن الثمرات التي سوف يجنيها نتيجة الإيمان والعمل الصالح مع الإخلاص لله عز وجل، زاده ذلك عملاً وجهداً وبذلاً وتضحية.
استمع أخي المؤمن، معي إلى هذه الآيات الكريمات، فارعني سمعك وقلبك، وأنا أقرؤها عليك لتدرك قيمة المؤمن عند الله.
ولتدرك شيئاً من ثمرات الإيمان والعمل الصالح، ولا أظن أن هذه الآيات تحتاج إلى تعليق أو تفسير أو بيان.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم . .......
ــــــــــــــــ(1/73)
أسباب السعادة وطريق الفلاح
[1]
الحمد لله، كتب الفلاح لعباده المؤمنين، وحكم بالفوز لحزبه المتقين، وضمن السعادة لأوليائه المخلصين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، اللهم صلِّ وسلم على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واتبع سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وإن تقوى الله خير لباسٍ وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد.
أمة الإسلام: إن راحة الضمير وطمأنينته، وهدوء البال وصفاء النفس، وسرور القلب وزوال همومه وغمومه، هو المطلب الأعلى والهدف الأسمى الذي يسعى إليه كل واحد في هذه الحياة، فالناس كلهم ينشدون السعادة، ويرومون الخير والفلاح، ويرجون التوفيق في جميع أمورهم والنجاح.
لذلك بذلوا في الحصول على هذه الغاية أسباباً متعددة، ووسائل مختلفة؛ ولكن زلت في هذا المطلب أقدام، وذلت من أجله أفهام، وكثرت بسببه الخواطر والأوهام، حتى ظن كثيرٌ من الناس لغفلة قلوبهم، وضعف عقولهم، وسطحية تفكيرهم، أن قمة السعادة والفلاح في الحصول على حظوظ الدنيا العاجلة، وشهواتها الفانية، ومنتهى آمالهم، وقصارى أمانيهم، الحصول على الأموال الوافرة والمساكن الفارهة، والمراكب الوفيرة، والترفع والجاه والشهرة، والتمتع بالملذات، والتفنن بالمشتهيات.
ومن الناس من توهم أن السعادة والفوز والفلاح، تكمن في السبق في مجالات التقدم المادي، والأخذ بأسباب التحضر العصري؛ فأفنوا كل أوقاتهم وأنهكوا جميع قواهم في السعي وراء هذه الأمور، ظناً منهم أنهم بإدراكهم لها يدركون مقومات السعادة، وأسباب التقدم والصلاح، وزعموا أن هذه الأشياء الضالة المنشودة في تحقيق الفلاح، وجلب الخير، وحصول القوة والعزة، وتوفر الطمأنينة والأمان، ولقد توهموا في ذلك، وضلوا عن سواء السبيل؛ فهذه الملذات والشهوات، متاع الحياة الدنيا ويعقبها الحساب والعقاب، وقد كانت سبباً في هلاك أممٍ سالفة، وقرونٍ ماضية، وشقاء وبؤس أممٍ حاضرة، وفئام معاصرة أنهكها القلق النفسي والتوتر العصبي، والخواء الروحي؛ فلم يجدوا طريقاً للخلاص من هذه الحياة التعيسة إلا الدمار والانتحار، وصدق الله عز وجل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].......
وهكذا -يا أمة الإسلام- إذا لم يكن الإيمان هو الأساس، والعقيدة الإسلامية الصحيحة هي القاعدة، عند ذاك تفتقد البشرية مقومات الحياة الطيبة، وأسباب الأمن والطمأنينة، ووسائل الكرامة والفلاح، وبتحقيق الإيمان والعمل الصالح؛ تسعد البشرية وتنعم في حياتها، فلا قلق ولا اضطراب، ولا خوف ولا حروب ولا إرهاب، يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وما أحرى الأمة اليوم التي تنشد الخير والفلاح، والرخاء والأمن والصلاح، وقد طرقت في سبيل ذلك أبواباً، وولجت سبلاً، ولكنها باءت بالخسار ورجعت بالبوار، قد تقطعت أمامها السبل، وسدت في وجهها الطرق، فأصبحت كالغريق الذي يتخبط، لعله يمسك بحبل نجاة، أو وسيلة إنقاذ، ما أحراها أن تأخذ من شريعة الله نبراساً، ومن كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طريقاً، فتأمن بذلك أن تصلح حالها، وتجتمع كلمتها، وتحقق الخير والفلاح والسعادة لمجتمعاتها، وتأمن على أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا طريق لها إلا ذلك.
ولا سعادة للبشرية إلا تحت راية الإيمان، ولا عزة ولا أمن إلا في ظلال القرآن، قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125] وقد حكم الله بالفلاح للمؤمنين، وللمؤمنين وحدهم، فقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] وحكم بالخسران على جنس الإنسان إلا المؤمنين كما في سورة العصر، وحث على الأخذ بأسباب الفلاح ، والعمل بوسائل الفوز والصلاح، وفي مقدمتها: الإيمان والعمل الصالح، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67] وقال جل وعلا: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومنها تقوى الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189] والعمل بطاعة الله ورسوله، والبعد عن معصية الله ورسوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:35-36].
ومن أسباب الفلاح والابتهاج وانشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، ملازمة ذكر الله، والإكثار منه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] * وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
ومن وسائل الفلاح وأسباب الصلاح: تزكية النفس بالأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] ولا يحصل ذلك إلا بالعمل بالإسلام.
أخرج الإمام مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه }.
ومن أسباب الخير والفلاح: الإنفاق في سبيل الله، والبعد عن البخل والشح، قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب الفلاح والسعادة، وأن يرزقنا بمنه الحسنى وزيادة، إنه جوادٌ كريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.......
.:: الخطبة الثانية ::.
الحمد لله الرءوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة منوطة بالإيمان بالله، والتمسك بدينه والعمل الصالح، الذي يحقق لصاحبه الفوز الأبدي والفلاح السرمدي، يوم ينقسم الناس إلى شقيٍ وسعيد قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103].
فجديرٌ بالمؤمن أن يستعد لهذا اليوم العصيب بالعمل الصالح، وسيسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وعليه أن يأخذ بأسباب السعادة الحقيقية، من الإيمان والعمل الصالح، ويُسخر كل الوسائل الحديثة، لخدمة هذا الأصل، فيجمع وسائل السعادة الدنيوية والأخروية، وبذلك تتحقق الآمال، وتصلح الأحوال بإذن الله.
ألا وصلوا على من أمركم الله بالصلاة عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا ونبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما يرضيك، وجنبهم جميع معاصيك.
اللهم وفق المسلمين قاطبة إلى العودة إلى دينك القويم، اللهم ألهمهم الأخذ بأسباب السعادة في العاجل والآجل يا رب العالمين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا جواد يا كريم، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم، وشبابهم، ونساءهم يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم وفقهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق القويم يا رب العالمين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
ــــــــــــــــ(1/74)
تربية الفرد المسلم بالعمل الصالح
تمهيد: في معنى العمل الصالح.
الصلاح ضد الفساد، والعمل الصالح ضد العمل الفاسد، ولكن من الذي يحدد العمل الصالح من العمل الفاسد؟ من الذي له حق الحكم عل عملٍ مَّا بأنه صالح أو فاسد؟ أهم بشر؟ مَن مِن البشر؟ إنه لو أعطى هذا الحق للبشر لتباينت آراؤهم وأحكامهم، ولحكم بعضهم على عملٍ مَّا بأنه صال، وحكم آخرون على نفس العمل بأنه فاسد ومن الذي يفصل في نزاع الفريقين؟
ذلك ترى أنواعاً من السلوك وأنماطاً من النشاطات، تعد جرائم عند قوم يعاقَب عليها مرتكبها عندهم، وتجد نفس تلك الأنواع والأنماط حلالاً ومزايا، يدعى إليها ويثنى على فاعلها عند قوم آخرين، والأرض مملوءة بذلك.
ولنضرب لذلك مثالاً واحداً يتضح به المطلوب:
الحرية الفردية في الاقتصاد، التي هي أساس في معسكر الدول الغربية: الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوروبا، كل فرد له الحق أن يملك ما يشاء من الأموال فأباحوا الملكية الفردية إباحة مطلقة، فله أن يملك ما ينتفع به من ملابس وأوانٍ وأثاث منزلي وغيرها مما يحتاج إليه الفرد لنفسه، وله أيضاً أن يملك ما يشاء من المرافق والوسائل التي تنتج الأشياء المستهلكة، ليبيعها من غيره، كالآلات والأراضي والمواد الخام بدون استثناء.
وهو حر في سعيه لجمع المال بوسائله، ينتج ما يشاء ويبيع بالسعر الذي يريده، يتفق مع المشتري والأجير بكامل حريتهم، وفائدته الذاتية هي الدافع المحرك الأول له في الإنتاج والسعي دون التفات إلى منافع غيره، وذلك كفيل عندهم أن تنال الجماعة مصالحها من خدمة الأفراد الذين أعطيت لهم تلك الحرية ... وهم يتنافسون فيما بينهم، وليس للدولة أن تتدخل في حرية تجارة الأفراد وسبل إنتاجهم وأساليب تعاملهم مع غيرهم.
هذه الحرية في الملكية الفردية هي منشأ جميع الشرور والمفاسد في الأرض عند ذوي المعسكر الشرقي الاشتراكي، كروسيا-قبل انهيار الاتحاد السوفييتي- والصين ومن في فلكهم، فلم يبيحوا للفرد إلا ما يحتاجه لمنافعه الشخصية، كالأواني والملابس وأثاث المنزل ونحوها. وما عدى ذلك من الأرض والآلات وغيرها مما تنتج الثروات فلا حق للأفراد فيها، لأن الفرد إذا تمكن من ذلك استعبد غيره من الكادحين، لذلك يجب أن تتدخل الدولة في ذلك وتعتبره جريمة وفساداً يجب أن يستأصل من الأرض ... [راجع الأسس الاقتصادية للمودودي] فالملكية الفردية في المعسكر الرأسمالي صلاح يجب أن يحمى، وفي المعسكر الشرقي فساد يجب أن يستأصل.
وإذا تأملنا تاريخ البشرية وجدنا كل أمة أو كل قوم يدعون أنهم مصلحون، ويصفون من يخالفهم بالفساد في كل النشاطات الإنسانية: العقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الشرك هو الحق عند أكثر الأمم في الأرض، والتوحيد بدعة يجب أن تحارب:
((أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب)) [ص: 5]
((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)) [هود: 87].
((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) [غافر: 26]
((... قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)) [غافر: 29]
((قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) [طه: 63]
((ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)) [الأعراف: 80-82]
((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) [البقرة: 11-12].
وهكذا تجد الناس في تخبط واضطراب وتباين، كل قوم يدعون أنهم هم المصلحون وغيرهم مفسدون.
فمن الذي يحدد العمل الصالح ويكون صالحاً فعلاً في كل زمان ومكان ولكل قوم في هذه الأرض؟
إنه الله سبحانه وتعالى، وقد حدد الأعمال الصالحة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في العقيدة والعبادة والسلوك وفي كل مجال من مجالات الحياة، وبيّن سبحانه أن كل من حاد عمّا أمر به ودعا إليه فهو خاسر في الدنيا والآخرة.
كما قال تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [سورة العصر].
وقد أجمل الله سبحانه وتعالى أصول الإيمان والعمل الصالح على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، واستنبط العلماء نصوص الكتاب والسنة للعمل الصالح، شرطين:
الشرط الأول:
الإخلاص لله تعالى، كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)) [البينة: 5]
والنصوص الواردة في الإخلاص من الكتاب والسنة كثيرة جداً [راجع على سبيل المثال أول باب في كتاب رياض الصالحين للإمام النووي].
والشرط الثاني:
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يكون العمل مطابقاً لما جاء به من عند الله وليس مخالفاً له.
كما قال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم[/color])) [آل عمران: 31]
والنصوص الواردة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً أيضاً في الكتاب والسنة، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مراداً به وجه الله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعمل الصالح هو كل ما يرضي الله تعالى من أعمال القلب واللسان والجوارح، كالعبادة [راجع المبحث الثاني من الفصل الأول في معنى العبادة].
وكل ما لا يرضي الله تعالى فهو عمل فاسد. فالميزان إذاً للعمل، أهو صالح أم فاسدٌ، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
موقع الروضة الإسلامي..
http://216.7.163.121/r.php?show=home...enu&sub0=start
ــــــــــــــــ(1/75)
كيف تكون بطلاً
محمد بن سرار اليامي
دار الوطن ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
إضافة مرجع
تصحيح خطأ
عدد القرّاء: 4646
(1217 كلمة)
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
لو قدّر لأحدنا أن يسلك طريقاً فيه شوك، لعدل عن الشوك أو جاوزه أو قصر عنه.
ولو أن أحدنا خيّر بين طريقين: عسير ويسير، سهل وصعب، وكان اليسير على أحب وأرضى ما يكون، وكان العسير على أسوأ ما يكون، لسلك العاقل اللبيب سبل اليسر والسلامة، ولحاول الأحمق سلوك غير هذا السبيل..
بل لو حمل أحدنا إناءً حاراً لاتخذ له وقاية تقيه من حرارة هذا الإناء، ولعمل كل ما في وسعه لجلب السلامة له، ودفع المضرة عنه.
ولو قال قائل: لا حاجة للوقاية من حر الإناء.. لقلنا: هذا جنون وسفه، فلو طلب من أحدنا المشي على أرض ذات شوك لشمّر واجتهد في السير.
فلو تهاون في ذلك خسر آلة المشي، ولو وقف قصر دون حاجته، ولو لبس واقياً من حذاء ونحوه، بلغ غايته وما قصّر، ولجاوز الشوك، وما تأثر..
فتلك هي تقوى الله. نعم؛ تلك هي تقوى الله.
أيها المبارك: إنه نجيّك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، ومن أنت بعينه، ومن لا تخرج عن سلطانه، ومن لا ملك إلا ملكه ولا رادّ لفضله، ولا مانع لما أعطى، ومن لا معطي لما منع.. إنه لحقيق بأن تجعل بينك وبين عذابه وقاية وحرزاً، ولا وقاية ولا حرز خير من ترك ما حرّم وامتثال ما أمره، فتقوى الله بترك المحرمات، وفعل الطاعات، والتقوى الهرب من النار وأسباب دخولها، والعمل بأسباب دخول الجنة..
بل هي: الصراط المستقيم..
وهي: الإيمان والعمل الصالح..
وهي: العلم النافع والعمل الصالح..
وهي: العمل بالمأمور وترك المحظور..
وهي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية..
وهي: الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل..
وهي: ترك الذنوب أجمع..
بل وهي: أن يكون الله نصب عينيك..
خلّ الذنوب كبيرها *** وصغيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض *** والشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة *** إن الجبال من الحصى
أوصى المعصوم معاذ بن جبل فقال له: { اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن } [رواه الترمذي وأحمد].
ووصيته لرجل واحد وصية للأمة أجمع.. يقول الله عز وجل وهو أغنى الأغنياء عن الخلق.. موصياً وموجهاً للناس أجمع: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1].
وقد ورد الأمر بالتقوى في القرآن ( 79) مرة يأمر الله عباده باتباع أوامره واجتناب نواهيه.. ويأمرهم بالتقوى.. بل والله وإن الشجاعة كل الشجاعة في تقوى الله والطاعة..
اتق الله فتقوى الله ما *** جاورت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً *** إنما من يتق الله البطل
إنها أهم من اللباس الحسي.. بل وهي خير لباس وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وهي أكثر ما يدخل الناس الجنة.. وعندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال : { تقوى الله وحسن الخلق } [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
فيا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل..
امتنّ على العبد الضعيف بتوبة صادقة، وخشية لك يا رب، وتقوى.
فالمتقون في جنات وعيون.
وإن أهل التقوى هم وربي أهل الكرامة.
هم أهل السعادة الحقيقية في الدارين.
هم أهل العلم والخشية.
هم أهل المعية.. إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، معية توفيق وتسديد، ونصرة وتأييد وإعانة وحماية.
أهل التقوى هم أهل المكانة العالية عند الله عز وجل.. يقول عز وجل: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212].
وهم أهل الانتفاع بالذكرى والموعظة والقرآن الكريم.. قال جل وعز: الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2،1].
وهم أهل العلم النافع والعمل الصالح.. يقول تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [البقرة:282]، فمن اتقى الله فتح على قلبه ولبّه فعلمه واستعمله في طاعته.
بل أهل التقوى هم أهل الجنة.. هم أهل النعيم المقيم والسعادة الأبدية.. يقول عز وجل: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15].
فهم أهل الدرجات، يحشرون إلى الرحمن وفداً، وتقرب لهم الجنة، ولهم الغرف المبنية يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، ولهم المقام الأمين ولهم مقعد صدق عند الله يحبهم الرحمن.. قال جل وعز: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:7].
فهل حرصت أيها المبارك على ذلك..؟؟
إن الناظر بعين البصيرة إلى حاله.. ليرى ما يسؤوه إلا من رحم الله.
إنه ليرى التقصير.. كل التقصير.. ولكن السعيد كل السعادة من اغتنم أوقات حياته، وأعدّ واستعدّ، وعلم علماً يقيناً أنه مقبل على ربه.. ماثل بين يديه.. مطلع على كل ما قدم..
ألا وإن من اغتنام أوقات الحياة معرفة ماهية التقوى، وما ثمراتها وفوائدها التي يجنيها صاحبها منها.. ألا وإن من أعظم ثمراتها قبول الأعمال الصالحات إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وكذلك توفيق صاحبها للتفريق بين الحق والباطل قال جل وعز: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29].
وكذلك الفوز بولاية الله جل وعز: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:19].
وكذلك السلامة والأمن من الخوف والحزن فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].
والتقوى تفتح على صاحبها البركات من الأرض والسماوات، وتنزّل الرحمات وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].
والتقوى حماية للإنسان من نزع الشيطان، وصون له، وبشرى في الحياة الدنيا والآخرة لا تبديل لكلمات الله وذلك هو الفوز العظيم.. والعاقبة لهم: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
وهي المخرج من الفتن، بها لفرج، وبها الرزق، وبها السعادة يقول الله عز وجل: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3،2].
وهي وربي الكرامة كل الكرامة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وهذه الكرامة يقررها الرب جل وعز.. لا منظمة بشرية.. ولا هيئة عالمية.. ولا كيان أرضي، لكن يقررها من خلق هذه النفس البشرية فسواها.. وألهمها فجورها وتقواها.
فويل لمن دساها، ويا سعادة من زكاها بتقوى مولاها.
أيها المبارك: أسألك بمن شق سمعك وبصرك:
ألا تحب أن تكون بطلاً؟؟
ألا تحب أن تحشر مع أهل التقوى..؟؟
ألا تحب أن تكون من أهل الكرامة عند الله..؟؟
ألا تحب أن تكون لك عند الله الحسنى..؟؟
ألا تحب أن تكون سعيداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى..؟؟
ألا تحب أن تنادى يوم القيامة مع أهل التقوى، فتقوم في كنف الرحمن..؟؟
ألا تحب أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله..؟؟
ألا تحب أن يجعل لك ربك من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية..؟؟
ألا تحب أن يقبل عملك عند ربك..؟؟
ألا تحب ذلك كله..؟؟
كأني بك تقول: بلى، بلى، ومن لا يحب ذلك؟!
إذن أيها المبارك: عجل بالانتظام في سلك أهل التقوى، والاعتصام من الله بالعروة الوثقى، جعلنا الله وإياك من المتقين، وصرف عنا وعنك شرور الشياطين.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فإن أهل التقوى هم الأبطال حقاً، وأخيرا، وليس آخراً.. فلا يزال أحدنا عبداً عند سيده، ومولاه، والسيد هو الله، والله يقول للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131].
والرسول يوصينا فيقول: { اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم } [رواه الترمذي وأحمد].
أيها المبارك: بعد هذا كله.. أسألك سؤالاً واحداً فقط.
هل عرفت كيف تكون بطلاً؟
أترك لك الجواب.. نعم أتركه لك أنت.. وفي هذه اللحظات أرفع لك، ولك قارئ الأعلام البيضاء.. معلنا الاستسلام أمام هذا الموضوع.
فهو وربي موضوع هام للغاية جداً، وليس لمثلي أن يخوض فيه، ولكنها وصية مشفق، ونصيحة محب لك يحب لك الخير كما يحبه لنفسه.
إي والذي برأ النسمة، وفلق الحبة، ولكن الموضوع طويل جدّ طويل.. أكتفي منه بعلالة كعلالة الظمآن، وإلماحة كإلماحة المنذر المحذر..
تم المقصود فيما مضى وتقدم، وأختم الكلام بقول الأول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو سقيم
تمّ ما تمّ، وكتب ما تقدم على عجل بين، وخلل واضح، راجياً من الله الستر والعافية في الدارين، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يبارك في أعمارنا وأوقاتنا وأعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والمتابعة لسيد ولد آدم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة المتقين، والله أعلى وأعلم، ونسبة العلم إليه أسلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــ(1/76)
سعيد النورسي .. ومضات بين العلم والإيمان
وجدي خاشقجي
لما كانت علة التكريم الإلهي للإنسان عائدة إلى القدرة العقلية التي خلقها الله تعالى فيه؛ فإن الإنسان تناول عند استخدامه لتلك القدرة ـ لبناء تصوراته وفلسفته الخاصة ـ قضايا ثلاثًا هي: الوجود, والمعرفة, والقيم.
ومن ثم نشط في تفاعلاته الحضارية الحياتية في ضوئها ليحافظ على ذلك التكريم الممنوح له من خالقه وليبرز تفرده عن سائر المخلوقات.
ولما كان الحكم على تلك التفاعلات الناشئة عنه بالحق أو الباطل أو بالحسن أو القبح تحتاج إلى معيار صحيح دقيق؛ فإن واضع ذلك المعيار لابد أن يكون شيئا آخر غير الإنسان نفسه لكونه صاحب تلك التفاعلات والممارسات, وبالضرورة يجب أن يكون صاحب الحكم عليها هو خالق الإنسان ـ الذي أنعم عليه بنعمتي الخلق والإيجاد والهداية والإرشاد ـ لأن صانع الصنعة أعلم وأخبر بما يصلح شؤون صنعته. ولذا فمعيار الحكم على تلك الأنشطة الإنسانية إنما هو مدى قربها وبعدها من هداية الخالق وإرشاده, فكلما كان امتثالها أكمل كان صوابها أكبر, والعكس كذلك.
وبالتأمل في مسيرة الحضارة الإسلامية نجد أنها شيدت بنيانها على دعامتين اثنتين هما: الإيمان, والعمل الصالح ، من الدراسات الحضارية القديمة التي أكدت على هاتين الدعامتين ويحسن الرجوع إليها: أبو الأعلى المودودي, الحضارة الإسلامية أسسها ومبادئها, ط2 , بيروت. لبنان: دار العربية1390هـ -1970م.
منطلقة في ذلك من مرجعيتها في تحديد معالم فلسفتها وتصوراتها وهي المذهبية الإسلامية التي دانت لها وامتثلت لخطابها الإلهي الذي يقرن دائما بين الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم, والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم, ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم }(محمد: 1 - 3)
ولما تباينت الفلسفات والتصورات البشرية فيما بينها بسبب اختلاف منطلقاتها ومرجعياتها؛ والتي منها ما كان وضعيًّا بشريًّا قاصرًا لقصر واضعه, ومنها الديني والذي منه الصحيح الموثوق به ومنه الباطل المحرف المشكوك في ثبوته؛ لما تباينت تلك الفلسفات البشرية تباينت بالضرورة التفاعلات والممارسات الحضارية لأصحابها, ومن ثم اشتد الصراع والتدافع فيما بينها.
أما الحضارة الإسلامية فقد واجهت أشد أنواع التدافع والصراع من خلال الاختراقات التي نالت جميع أنظمتها الحضارية المتعددة ـ والتي هي ثمرة عملها الصالح ـ النظام السياسي, والتربوي, والاقتصادي, والإعلامي.. إلخ اخترقت خصوصيتها الحضارية (ثقافتها) بالعمل على تشويه فلسفتها: في الوجود, والمعرفة, والقيم, والمبنية على عقيدة الإيمان بالله تعالى, بل وصل حقد الصراع والبطش ـ قديمًا وحديثًا ـ إلى درجة المحو باستئصال كافة مواردها البشرية.
ونتيجة لذلك دعت واجبات التدافع والصراع مجددي أمة الإسلام للعمل في شتى الميادين والجهات لحماية دعامتي الحضارة الإسلامية ـ الإيمان والعمل الصالح - وما انبثق عنها من فكر وممارسات.
وممن وفقه الله تعالى واستعمله للذود عن حياض الأمة الإمام الرباني سعيد النورسي - رحمه الله ـ تعالى الذي عاش إحدى أشد فترات الصراع وأعنفها بين الأمة الإسلامية وأعدائها (1294 - 1379هـ) حيث أسقطوا أحد أبرز أعمالها الصالحة وهو نظامها السياسي المتمثل في الخلافة الإسلامية, كما استهدفوا إيمانها بالله تعالى - المرتكز الرئيسي لفلسفتها - ليسلبوه منها بإثارتهم للشهوات, وإقامتهم للشبهات وسبيلهم إلى تحقيق ذلك نشر المعرفة المادية المرتكزة على الإلحاد القائم على الإيمان بالأسباب دون الإيمان بالخالق مسببها ومجريها, ولذلك حمل الإمام النورسي على عاتقه مسؤولية حماية المعرفة الإيمانية المتكاملة - والتي اتخذت من العلم طريقا للإيمان بخالق الأسباب ومجريها - من خلال منهج متكامل واضح المعالم, والذي بين الدباغ ملامحه بقوله:
وهذه المعرفة الإيمانية التي رسم (النورسي) ملامحها, وخط حدودها منبثقة من فهمه لقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت: 52) فهو يرى في ضوء هذه الآية العظيمة أن ما من معرفة مما تتبادلها العقول فيما بينها إلا وترجع في أصولها الأولى إلى واحدة من المعارف الثلاث الآتية:
1_ معرفة كونية تشمل علوم ما في السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
2- معرفة إنسانية تشمل الكينونة الإنسانية وكل ما يتعلق بالإنسان فردًا ونوعا ظاهرا وباطنا.
3- معرفة إلهية ترتبط بوجود الله تعالى وبربوبيته وشؤونه في خلقه.
وهذه المعارف الثلاث متلازمة يلازم بعضها بعضا, ويسند بعضها بعضا, ويدل بعضها على بعض, وهي في تعاشق دائم لا ينقطع, فليس ثمة معرفة متفردة ومستقلة ومنعزلة في هذا العالم (أديب إبراهيم الدباغ, مطارحات في المعرفة الإيمانية عند النورسي, ط1, القاهرة: مركز الكتاب للنشر, 1417هـ - 1997م, ص 41).
لقد كان غرض النورسي - رحمه الله تعالى ـ من تحصيل المعرفة الإيمانية هو معرفة الله سبحانه وتعالى والسعادة برضاه, ومعرفة الله تعالى تتحقق من خلال براهين عدة, عدد كثيرا منها في رسائله ومؤلفاته, وقد ذكر بعضها بقوله:
إن مقصودنا ومطلوبنا هو: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة: 255) فمن بين براهينه التي لا تعد نورد هنا أربعة منها:
البرهان الأول: هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
البرهان الثاني : هذا الكون وهذا الإنسان الأكبر, ذلك الكتاب الكبير المنظور.
البرهان الثالث: هو القرآن الكريم, ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه وهو الكلام المقدس.
البرهان الرابع: الوجدان الحي, والفطرة الشاعرة, الذي يمثل البرزخ ونقطة اتصال عالمي الغيب والشهادة. فالفطرة الشاعرة أو الوجدان نافذة إلى العقل ينشر منها شعاع التوحيد (بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, ط2, استانبول ـ تركيا, دار سوزلر للنشر1414هـ ـ1994م ص 421
ولكي يحقق النورسي آماله في تكوين المعرفة الإيمانية حرص على أن يكون القرآن الكريم محورها - وقد ربط تلاميذه به فعلا أشد ارتباط - ذلك لأنه يستمد منه الطريق إلى معرفة شريعة الله تعالى والتي هي في نظره شريعتان بينها بقوله:
والشريعة الإلهية اثنتان:
الشريعة الآتية من صفة الكلام التي تنظم أفعال العباد الاختيارية.
الشريعة الآتية من صفة الإرادة التي تسمى بالأوامر التكوينية والشريعة الفطرية وهي محصلة قوانين عادات الله الجارية في الكون.
فكما أن الشريعة الأولى عبارة عن قوانين معقولة, فإن الشريعة الثانية أيضا عبارة عن مجموع القوانين الاعتبارية, والتي تسمى خطأً بالطبيعة, فهذه القوانين لا تملك التأثير الحقيقي ولا الإيجاد, اللذان هما من خواص القدرة الإلهية»(بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, مرجع سابق, ص 426
أما البرهان الثاني على التوحيد وهو الكون المادي فيقول عنه ـ رحمه الله تعالى: «إن الإعجاز الباهر الظاهر في النظام والتناسق والاطراد المشاهد في كتاب الكون الكبير ـ وهو برهاننا الثاني على التوحيد ـ يظهر بوضوح تام كالشمس الساطعة أن الكون وما فيه ليس إلا آثار قدرة مطلقة وعلم لا يتناهى وإرادة أزلية » (بديع الزمان سعيد النورسي, المثنوي العربي النوري, مرجع سابق, ص426.
أما البرهان الثالث على التوحيد وهو القرآن الكريم فقد استفرغ النورسي ـ رحمه الله تعالى ـ في دراسة خطابه وتأمل طريقه في الاستدلال ليقف على الغرض من ذكره لكثير من الموضوعات لاسيما وأن الكون هو أحد الموضوعات الرئيسية فيه, كما أن القدرة على اكتشاف قوانينه المادية كان أحد أسباب تفاخر واستعلاء الحضارة الغربية على غيرها, لذا عمد النورسي إلى تدبر أسلوب القرآن الكريم في عرضه لمفردات الكون ليقف على العلة من ذكرها, وليكون هاديه ومرشده إلى التفكر والتأمل السليم فيه؛ فهو يرى أن الكون هو كتاب الله المنظور الذي يحوي دلائل وبراهين الإيمان بالله تعالى فاطره, نلحظ ذلك في كلامه عن طريقة القرآن في الحديث عن الشمس حيث يقول:
"إن القرآن الكريم إنما يبحث عن الكائنات استطرادا, للاستدلال على ذات الله وصفاته وأسمائه الحسنى, أي يفهم معاني هذا الكتاب, كتاب الكون العظيم كي يعرف خالقه.
أي أن القرآن الكريم يستخدم الموجودات لخالقها لا لأنفسها, فضلا عن أنه يخاطب الجمهور. أما علم الحكمة (الفلسفة) فينظر إلى الموجودات لنفسها, ويخاطب أهل العلم.
وعلى هذا, فما دام القرآن يستخدم الموجودات دليلا وبرهانا, فمن شرط الدليل أن يكون ظاهرا وأظهر من النتيجة أمام نظر الجمهور.
ثم إن القرآن مادام مرشدا فمن شأن بلاغة الإرشاد مماشاة نظر العوام, ومراعاة حسن العامة ومؤانسة فكر الجمهور, لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة, ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة, فأبلغ الخطاب معهم والإرشاد أن يكون ظاهرا بسيطا سهلا لا يعجزهم, وجيزا لا يملهم, مجملا فيما لا يلزم تفصيله لهم, ويضرب بالأمثال لتقريب ما دق من الأمور إلى فهمهم.
فلأن القرآن مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغة الإرشاد أن لا يذكر ما يوقع الأكثرية في المغلطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري, وأن لا يغير بلا لزوم ما هو متعارف محسوس عندهم, وأن يهمل أو يجمل مالا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية.
فمثلا: يبحث عن الشمس لا للشمس, ولا عن ماهيتها, بل لمن نوَّرها وجعلها سراجا, وعن وظيفتها بصيرورتها محورا لانتظام الصنعة ومركزا لنظام الخلقة, وما الانتظام والنظام إلا مرايا معرفة الصانع الجليل. فيعرفنا القرآن بإراءة نظام النسج وانتظام المنسوجات كمالات فاطرها الحكيم وصانعها العليم, فيقول: {والشمس تجري}( يس: 38) ويفهم بها وينبه إلى تصرفات القدرة الإلهية العظيمة في اختلاف الليل والنهار وتناوب الصيف والشتاء وفي لفت النظر إليها تنبيه السامع إلى عظمة قدرة الصانع وانفراده في ربوبيته.
ــــــــــــــــ(1/77)
فوائد الإيمان وثمراته
إن من حكمة الله الربانية أن جعل قلوب عباده المؤمنين تحس وتتذوق وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته والتوكل عليه سبحانه وتعالى. فإن شجرة الإيمان إذا ثبتت وقويت أصولها وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها عادت على صاحبها وعلى غيره بكل خير عاجل وآجل في الدنيا والآخرة. وثمار الإيمان وثمراته وفوائده كثير قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
فمن أعظم هذه الفوائد والثمار:
أولاً :الاغتباط بولاية الله الخاصة التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وتسابق فيه المتسابقون، وأعظم ما حصل عليه المؤمنون .
قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62] ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63]
فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله الله عنه: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور...ِ)[البقرة: من الآية257] أي : يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة والذكر، وحاصل ذلك : أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والآجل. وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل: بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى فإن التقوى من تمام الإيمان.
ثانياً :الفوز برضى الله ودار كرامته، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:71-72] فنالوا رضا ربهم ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة: بإيمانهم الذي كمّلوا به أنفسهم، وكمّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجل الوسائل، وأفضل الغايات وذلك فضل الله.
ثالثا :ومن ثمرات الإيمان : أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المكاره، وينجّيهم من الشدائد كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا...) [الحج: من الآية38] أي: يدفع عنهم كل مكروه، يدفع عنهم شر شياطين الأنس وشياطين الجن، ويدفع عنهم الأعداء، ويدفع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها.
ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس - عليه السلام - وأنه (... فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: من الآية87] قال:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88]. إذا وقعوا في الشدائد، كما نجّينا يونس قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوة آخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه كربته لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وقال تعالى:(... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)[الطلاق: من الآية4].
فالمؤمن المتقي ييسر الله له أموره وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى: ويسهل عليه الصعاب ويجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وشواهد هذا كثيرة من الكتاب والسنة [1] .
رابعاً: ومنها: أن الإيمان والعمل الصالح - الذي هو فرعه - يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفى دار القرار قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97] وذلك أنه من خصائص الإيمان، أنه يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة. فإن أصل الحياة الطيبة: راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشويشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.
خامساً:ومنها: إن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص،ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ...) [الأنبياء: من الآية94]
أي لا يجحد سعيه ولا يضيع عمله، بل يُضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:19] والسعي للآخرة: هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها، من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا تأسست على الإيمان، وانبنت عليه: كان السعي مشكوراً مقبولاً مضاعفاً، لا يضيع منه مثقال ذرة.
وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره فإنه غير مقبول قال تعالى :
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان:23] وذلك: لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله- الذي روحه: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول- قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:103-105) , فهم لما فقدوا الإيمان، وأحلوا محله الكفر بالله وآياته - حبطت أعمالهم
قال تعالى: (...لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ...)[الزمر: من الآية65] .
(... وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: من الآية88] .
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أن الدخول في الإسلام والإيمان يجُبُّ ما قبله من السيئات وإن عظمت. التوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه، والمنقصة له - تجُبُّ ما قبلها [2] .
سادساً:ومن ثمرات الإيمان أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به وإلى تلقي المحاب بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ...)[يونس: من الآية9]
وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...)[التغابن: من الآية11].
ذكر الشوكانى -رحمه الله- في تفسيره (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم) [3] .
ولو لم يكن من ثمرات الإيمان، إلا أنه يسلي صاحبه عن المصائب والمكاره التي تعترض كل أحد في كل وقت، ومصاحبة الإيمان واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها وذلك: لقوة إيمانه وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله؛ فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر قال تعالى: (... إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ...)[النساء: من الآية104] .
سابعاً :ومن ثمرات الإيمان ولوازمه وفوائده وخيراته من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96] أي بسبب إيمانهم وأعمال الإيمان، يحبهم الله ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين. ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حياً وميتاً، والاقتداء به وحصول الإمامة في الدين [4].
وهذه أيضاً من أجل ثمرات الإيمان: أن يجعل الله للمؤمنين الذين كمّلوا إيمانهم بالعلم والعمل - لسان صدق - ويجعلهم ائمة يهتدون بأمره كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) فبالصبر واليقين - اللذين هما رأس الإيمان وكماله - نالوا الإمامة في الدين [5].
ثامناً :ومنها قوله تعالى:(...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...)[المجادلة: من الآية11]. فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة.
وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح وعملهم ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان.
تاسعاً : ومن ثمرات الإيمان: حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه كما قال تعالى: (...وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(البقرة: من الآية223) فأطلقها ليعم الخير العاجل والآجل، وقيّدها في مثل قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) [البقرة: من الآية25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة، ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82] ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى : (...فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأنعام: من الآية48].
فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم، وبذلك يتم لهم الأمن.
فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة: أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور. وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ...)[يونس: من الآية64] .
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28] فرتّب على الإيمان حصول الثواب المضاعف،وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته ، ويمشي به يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد:12] فالمؤمن من يمشى في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا أُطفئت الأنوار يوم القيامة: مشى بنوره على الصراط حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غُفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب) [6].
عاشراً:ومن ثمرات الإيمان: حصول الفلاح - الذي هو: إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب، والهدى الذي هو أشرف الوسائل.
كما قال تعالى - بعد ذكره المؤمنين بما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أُنزل على من قبله، والإيمان بالغيب. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: اللتين هما من أعظم آثار الإيمان - قال تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:5] فهذا هو الهدى التام، والفلاح الكامل.
فلا سبيل إلى الهدى والفلاح - اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما - إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله. فالهدى أجل الوسائل، والفلاح أكمل الغايات [7] .
الحادي عشر : ومن ثمرات الإيمان: الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات.
قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذريات:55) و قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:77] وهذا: لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتباعه، علماً وعملاً، وكذلك معه الآلة العظيمة والاستعداد لتلقى المواعظ النافعة، والآيات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.
أيضاً: فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك: انتفع بالآيات.
ومن لم يكن كذلك: فلا يُستغرب عدم قبوله للحق واتباعه له. ولهذا يذكر الله- في سياق تمنع الكافرين من تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم - وقبول الحق الذي جاء به - السبب الذي أوجب لهم ذلك وهو: الكفر الذي في قلوبهم. يعني لأن الحق واضح وآياته بينة واضحة والكفر أعظم مانع يمنع من اتباعه، أي فلا تستغربوا هذه الحالة، فإنها لم تزل دأب كل كافر. [8]
الثاني عشر :ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا...) [الحجرات:15] أي: دفع الإيمان الصحيح الذي معهم الريب والشك الموجود، وإزاله بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس والجن، والنفوس الأمّارة بالسوء. فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله)[9].
وفي رواية _ فليستعذ بالله ولينته)[10]
وبهذا بين صلى الله عليه وسلم الدواء النافع لهذا الداء المهلك. وهي ثلاثة أشياء
1- الانتهاء عن الوساوس الشيطانية 2- والاستعاذة من شرّ من ألقاها وشبّه بها؛ ليضل بها العباد 3- والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الآمنين.
وذلك: لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها: العلم أنه منافٍ للحق، وكل ما نقص الحق فهو باطل (...فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ...) (يونس: من الآية32) .
الثالث عشر :ومنها : أن الإيمان ملجَأ المؤمنين في كل ما يلم بهم: من سرور وحزن وخوف وأمن، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابد لكل أحد منها.
فيلجؤون إلى الإيمان عند الخوف فيطمئنون إليه فيزيدهم إيماناً وثباتاً، وقوة وشجاعة، ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى عن خيار الخلق:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ...)[آل عمران: 173-174] . لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان وحلاوته، وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده.
ويلجؤون إلى الإيمان عند الطاعة والتوفيق للأعمال الصالحة: فيعترفون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق وكذلك يحرصون على تكميلها، وعمل كل سبب لقبولها، وعدم ردها أو نقصها. ويألون الذين تفضل عليهم بالتوفيق لها: أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها: أن يتم لهم منها ما انتقصوه منها (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61] ويلجؤون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، وعمل ما يقدرون عليه من الحسنات - لجبر نقصها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [لأعراف:201] فالمؤمنون في جميع تقلباتهم وتصرفاتهم - ملجؤهم إلى الإيمان ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم ومنه[11].
وخوفاً من الإطالة نقتصر على هذه الثمرات العظيمة التي بينها المولى عز وجل، وبذلك نستيقن أن كتاب الله جاء تبياناً لكل شيء، وعرض قضية الإيمان من جوانبها المتعددة النافعة للناس، وبين وسائل زيادة الإيمان، ورغّبنا فيه بذكر فوائده وثماره بحكمة بالغة تليق بالحكيم العليم جل وعلا.
وبين المولى -عز وجل- في كتابه حقيقة الإيمان بأنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، ووضعنا على الصراط المستقيم، وسلمت عقول المسلمين وقلوبهم من أمراض التعطيل والتشبيه، والإفراط والتفريط، ووقع أهل البدع في الانحراف عن جادة الصواب، وطريق أهل الاستقامة؛ لأنهم ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وفهم الصحابة والتابعين بإحسان من علماء وفقهاء ومحدثين.
-----------------------
[1] - التوضيح والبيان ص 67.
[2] - هو الإمام محمد بن على الشوكانى ثم الصغانى القاضي محدث وفقيه وأصولي ومفسر واسم تفسيره فتح القدير توفى 1250 هـ : انظر : مناهج المفسرين ص ( 50 ).
[3] - فتح القدير للشوكانى ( ج 5 / 231 ).
[4] - التوضيح والبيان ص 76.
[5] - التوضيح البيان ص
[6] - التوضيح والبيان ص 79.
[7] - التوضيح والبيان ص (80).
[8] - انظر: التوضيح والبيان ص (81).
[9] -رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان ( ج1 / 119).
[10] -رواه مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان( ج1 / 120 ).
[11] -التوضيح والبيان ص (85).
ــــــــــــــــ(1/79)
الإيمان والعمل الصالح قرينان
لقد كانت اليهود والنصارى يقولون: [نحن أبناء الله وأحباؤه] وكانوا يقولون: [لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار.
فجاء النص القرآني يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده، ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد، هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة ابراهيم وهي الإسلام - ابراهيم الذي اتخذه الله خليلاً (تفسير الظلال) هذا هو النص القرآني - يقول تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرلَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراًاً} [النساء: 123، 124]
الإيمان والعمل الصالح قرينان
الحمد لله الذي لا يضيع أجر المؤمنين العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قرن الإيمان بالعمل في كتابه الكريم.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خير من أسلم وجهه لله رب العالمين اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الذين ملئوا دنياهم بعمل الصالحات، فكان جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين
أما بعد:
لقد كانت اليهود والنصارى يقولون: [نحن أبناء الله وأحباؤه] وكانوا يقولون: [لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة] وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار.
فجاء النص القرآني يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده، ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد، هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة ابراهيم وهي الإسلام - ابراهيم الذي اتخذه الله خليلاً (تفسير الظلال) هذا هو النص القرآني - يقول تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرلَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراًاً} [النساء: 123، 124]
إخوة الإسلام:
الإيمان سر من الأسرار الخفية التي يودعها الله قلب من يشاء من عباده المخلصين والإيمان الحق هو في الحقيقة نور من الله يضئ جوانب النفوس وسعادة تغمر القلوب، ويقظة تحيى الضمير،
( 2)
وشعور بالطمأنينة والركون إلى جانب الله، ولن يكون الإيمان مثمراً إلا إذا كان انطلاقاً إلى عمل جاد لصالح الفرد والأمة، ووقوفاً مع الله تعالى بإخلاص وصدق وتجرد ومن ثم نقول:
إن الإيمان من غير عمل شجرة بلا ثمر، دمية لا حياة فيها ولا حركة.
إبليس كان يعلم أن الله ربه ، وأنه لا إله إلا هو، وأن مصيره إليه يوم يبعثون، ولكنه لما كلف بالعمل حين صدر إليه الأمر الإلهي بالسجود لآدم تمرد وأبى واستكبر واعترض وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء 61]
فلم تنفعه معرفته بالله، ولم ينفعه علمه بأن البعث والمصير إلى الله.
لأن الإيمان الذي لا يستلزم الخضوع لرب العالمين لا قيمة له، ولأن المعرفة التي لا يصاحبها العمل لا وزن لها، وكان جزاؤه كما قال الله {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34، 35]
إخوة الإسلام:
إن الإيمان من غير عمل لا يفيد كذلك العمل من غير إيمان بالله لا ينفع، كبناء على غير أساس، على شفا جرف هار وكسراب بقيعة، وكهشيم تذروه الرياح، قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
ويؤكد ذلك سبحانه فيقول {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 103، 104، 105]
أيها المسلمون:
إن الذي يقرأ القرآن بعين البصيرة لابعين البصر يدرك أن الايمان يذكر فى القرآن مقروناً بالعمل قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف 30]
( 3 )
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]
ويقول جل وعلا {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر]
ويقول (صلي الله عليه وسلم): "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (رواه البخاري) وقال الحسن: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر بالصدور وصدقته الأعمال) وقد أكد الله ذلك بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2, 4]
فبادروا بالأعمال الصالحة، وعيشوا لآخرتكم قبل دنياكم وفكروا بعاقبة أمركم وفى منتهاكم واعلموا أن الدنيا كسفينة تتقاذفها أمواج الحياة فترفعها تارة وتخفضها أخرى، ولا عاصم منها إلا من رحم الله، ولا يرحم الله إلا من امتثل أمره، واتبع هداه، فاتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، واذكرو وتذكروا قول الله {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
بارك الله لي ولكم في القرآن ا لكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ــــــــــــــــ(1/80)
في رحاب آية..جزاء المؤمنين الصادقين...
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: "وَالذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ لاَ نُكَلفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِل تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبنَا بِالْحَق وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الآيتان: 42 43).
بعد أن تحدث الحق سبحانه في الآيات السابقة على هاتين الآيتين عن المكذبين والمعاندين الذين تحيط بهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم أعقب ذلك بما أعده سبحانه للمؤمنين من نعيم ويسر فقال: "وَالذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ...".
أي: والذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الأعمال الصالحة التي لا عسر فيها ولا مشقة، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أولئك الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، هم أصحاب الجنة.
صفاء نفسي
ثم بيّن سبحانه ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسي ونقاء قلبي فقال تعالى "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِل تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ" أي: قلعنا ما في قلوبهم من تحاقد وعداوات في الدنيا، فهم يدخلون الجنة بقلوب سليمة زاخرة بالتواد والتعاطف حالة كونهم تجري من تحتهم الأنهار فيرونها وهم من غرفات قصورهم فيزداد سرورهم.
ومعنى قوله عز وجل: "وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ" أي قالوا شاكرين لله أنعمه ومننه: الحمد لله الذي هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح، وأعطانا في الآخرة هذا النعيم الجزيل، وما كنا لنهتدي إلى ما نحن فيه من نعيم لولا أن هدانا الله إليه بفضله وتوفيقه.
وقوله عز وجل: "قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبنَا بِالْحَق" أي: ولقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق لأن ما أخبرونا به قد وجدنا مصداقه في الآخرة.
"وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" أي ونودوا من قبل الخالق عز وجل بأن قيل لهم: تلكم هي الجنة التي كانت الرسل تعدكم بها في الدنيا قد أورثكم الله إياها بسبب ما قدمتموه من عمل صالح.
العمل الصالح
فالآية الكريمة كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي صريحة في أن الجنة قد ظفر بها المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة.. فإن قيل: إن هناك أحاديث صحيحة تصرح بأن دخول الجنة ليس بالعمل وإنما بفضل الله، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته". فإن الجواب على ذلك كما يقول الدكتور طنطاوي: أنه لا تنافي في الحقيقة بين ما تخبرنا به الآية الكريمة وما يرشدنا إليه الحديث النبوي الصحيح، لأن المراد أن العمل لا يوجب دخول الجنة، بل الدخول بمحض فضل الله، والعمل سبب عادي ظاهري، وتوضيحه أن الأعمال مهما عظمت فهي ثمن ضئيل بالنسبة لعظمة دخول الجنة، فإن النعيم الأخروي سلعة غالية جدا فمثل هذه المقابلة كمثل من يبيع قصورا شاهقة وضياعا واسعة بدرهم واحد. فإقبال البائع على هذه المبادلة ليس للمساواة بين العمل ونعمة الجنة، بل لتفضله على المشتري ورحمته به، فمن رحمته بعباده المؤمنين أن جعل بعض أعمالهم الفانية وأموالهم الزائلة ثمنا لنعيم لا يبلى، ولذلك قال ابن عباس عندما قرأ قوله تعالى: "إِن اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَن لَهُمُ الجَنةَ": نعمت الصفقة، أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها ثم يمنحنا عليها الجنة.
إنه سبحانه هو المتفضل في الحقيقة بالثمن والمثمن جميعا.. فدخول الجنة بفضله سبحانه، وهو الموفق للعمل والمعين عليه.
ويقول بعض العلماء في الربط بين الآية الكريمة والحديث الصحيح: إن الفوز بالجنة إنما هو بفضل الله والعمل جميعاً، فيقول سبحانه: "وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" أي من فضل الله تعالى، وإنما لم يذكر ذلك لئلا يتكلوا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدا عمله الجنة.." أي مجردا من فضل الله، وإنما اقتصر على هذا لئلا يغتروا.
ــــــــــــــــ(1/81)
ثمار الإيمان
الحمد الله التي بنعمته تتم الصالحات، نحمده حمد الشاكرين الذاكرين حمد أهل الإيمان، أنعم علينا بنعم عظمية وجزيلة، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، نثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك، فلك الحمد على أسمائك الحسنى وصفاتك العلى، ولك الحمد على نعمك الظاهرة، والباطنة، ولك الحمد في الأولى والآخرة، ونصلى ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، النذير البشير، إمام الموحدين، والداعي إلى سبيل رب العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم في الأولين، وصلى الله وسلم عليه في الآخرين.
فمن أعظم النعم التي أنعم بها الحق تبارك وتعالى علينا وأهمها نعمة الإيمان فهي القضية المصيرية التي ينبغي للإنسان أن يهتم بها، فهي السعادة الأبدية، إما في الجنة أوعياذاً بالله في النار، هذه النعمة التي نحمده عليها لها ثمار يانعة، وفوائد عظيمة وجليلة يشاهدها كل من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولاً، فثمار هذا الإيمان أكثر من أن تحصى، فهي متعددة ومتنوعة تنوع مواضيع الإيمان فهناك ثمار عامة في الدنيا، وهناك ثمار في حياة الفرد يجدها في نفسه، وهناك ثمار في المجتمع تشعر بها الجماعة المسلمة، وهناك ثمار في الحياة الأخرى، وهناك ثمار خاصة في كثير من قضايا الإيمان كثمار الإيمان بالله - سبحانه وتعالى-، وما يتفرع عنه من ثمار لتوحيد الرب تبارك وتعالى في ربوبيته وألوهيته، والثمار التي يجدها المسلم في توحيد الأسماء والصفات، والثمار اليانعة التي يجنيها المسلم بالإيمان بالرسل الكرام، وثمار الإيمان بالكتب، وثمار الإيمان بالملائكة، وثمار محبة الصحابة الكرام، وغيرها كثير من الثمرات التي يقطفها المسلم في الدنيا والآخرة.
فالإنسان الجدير بالحياة الذي ينعم بهذه الثمار هوالذي آمن بربه، وعرف غايته، وتبين مصيره، وأيقن بمبعثه، فعرف لكل ذي حق حقه، فلا يغمط حقا، ولا يؤذي مخلوقا، فعاش عيشة السعداء، ونال الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوأُنثَى وَهُومُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? [النحل:97]. هذه الحياة الطبية في الدنيا، أما في الآخرة فله المساكن الطيبة في جنات عدن قال سبحانه: ? وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? [الصف:12].
وتسهيلاً للبحث يمكن أن نقسم الثمار إلى قسمين: ثمار عامة يجنيها المؤمن في الدنيا والآخرة، وثمار خاصة يجنيها المؤمن في كثير من قضايا الإيمان كما ذكرنا سابقاً ، سواء كانت ثمار تعود على الفرد أوالمجتمع.
أولاً: الثمار العامة:
وتشمل ثمار الإيمان في الحياة الدنيا، وثمار الإيمان في الحياة الآخرة، وأول ما نبدأ به من الثمار:
ثمار الإيمان في الحياة الدنيا:
فللإيمان ثمار يانعة ونتائج طيبة يجنيها المؤمن في الحياة الدنيا، من أهم هذه الثمار:-
1- الهداية للحق:قال الله تعالى: ? وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? [الحج:47]. فالهداية من الله - عز وجل - أحق الناس بها هم أهل الإيمان فهم المستحقين للهداية والتوفيق من رب العالمين، وهذه الثمرة ثمرة الهداية من أعظم وأجل الثمار التي يجنيها المؤمن في هذه الحياة.
2- الحياة الطيبة: قال الله تعالى: ? مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى وَهُومُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً? [النحل:97].
يقول ابن كثير:" هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا؛ وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله،، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت".
ففي الآية شرط وجواب فشرط الحياة الطيبة لكل ذكر وأنثى الإيمان والعمل الصالح.
3- الولاية: قال تعالى: ?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ?[ البقرة:256].
فهو النصير والمعين لأهل الإيمان يتولاهم بعونه، ولا يكلهم إلى غيره سبحانه يقول ابن جرير في معنى الآية:" نصيرهم وظهيرهم ويتولاهم بعونه وتوفيقه".
ومنه قوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى? [ محمد:11].
فلكي تستحق الولاية لا بد من الإيمان.
4- الرزق الطيب: قال تعالى: ? وَلَو أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [ الأعراف:96].
فمن الثمار التي يجينها أهل الإيمان البركات التي يجدونها في أرزاقهم، مع تيسير الخير لهم، وإن كان بعض أهل التفسير قصر البركات من السماء والأرض على المطر والنبات؛ لكن حملها على العموم هو الأقرب.
يقول الإمام الشوكاني: ? لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ? أي يسرنا لهم خير السماء والأرض كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، قيل المراد بخير السماء: المطر، وخير الأرض النبات والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك....
5- العزة: قال تعالى: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ? [ المنافقون:8].
6- النصر على الأعداء، قال تعالى: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? [ الروم:47]
فالنصر على الأعداء والظفر بهم من أهم ثمار الإيمان في الدنيا فما أعظم هذه الثمرة وما أحوجنا إليه اليوم ونحن نعيش في مرحلة من الهزيمة والذل لم تعهده أمة الإسلام نسأل الله السلامة والعافية، وهذا النصر والظفر وعد من الذي لا يخلف الميعاد قال الشوكاني: " هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين".
ويقول سبحانه وتعالى: ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ? [غافر:51]. فهذه بشارة لأهل الإيمان بالنصر على الأعداء.
وقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ? [محمد:7].
7- الدفاع: قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا ? [الحج:38].فالله - عز وجل - هو المدافع عن أهل الإيمان ،بل يعلن الحرب على من يعاديهم فعن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه..." .
8- عدم تسليط الكافرين: قال تعالى: ? وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ? [النساء:141].
9- التمكين والاستخلاف في الأرض: قال تعالى: ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ? [النور:55].
فمن الثمار العظيم التي تحصل لأهل الإيمان التمكين لهم، فلاستخلاف في الأرض والتمكين لهم وجعلهم أئمة الناس والولاة عليهم، وخضوع البلاد لهم لمن أعظم ثمار الإيمان؛ لأن به تصلح البلاد ويحصل الأمن للناس، وقد حصل هذا للرسول صلى الله عليه وسلم ولمن جاء بعده من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، قال تعالى: ? وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[الأنفال:26].
فهم حققوا الإيمان فتحقق لهم الوعد، وهذا الوعد عام يعم جميع الأمة بشرط الإيمان والعمل الصالح، قال الشوكاني:"وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم وهو وعد يعم جميع الأمة، وقيل هو خاص بالصحابة ولا وجه لذلك فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم بل ويمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله".
فالمؤمن الجدير بالحياة هو الذي آمن بربه، وعرف غايته، وتبين مصيره، وأيقن بمبعثه، فعرف لكل ذي حق حقه، فلا يغمط حقا، ولا يؤذي مخلوقا، فعاش عيشة السعداء، ونال الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ? مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَو أُنْثَى وَهُو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? [النحل:97]
فهذه جملة من ثمار الإيمان في الحياة الدنيا، شرطها الإيمان وتحقيقه في النفوس والعمل الصالح، وهذه الثمار تتحقق للفرد والجماعة المسلمة ، وعدم تحقق هذه الثمار اليوم في المجتمع المسلم يرجع إلى ضعف الإيمان أو فقد بعض صفات الإيمان؛ "فمن ضعف إيمانه أو فقد بعض صفات الإيمان لم تتحقق له هذه الثمار، كما هو مشاهد اليوم في حال المسلمين. ويوم يعود المسلمون إلى الله تعالى عودة صادقة، ويجددون إيمانهم ويثبتونه سيجنون هذه الثمار العظيمة إلى جانب ما ينتظرهم من الفوز العظيم في الدار الآخرة".
ثانياً: ثمار الإيمان في الحياة الآخرة:
للإيمان في الحياة الآخرة ثمارت ينالها المؤمن بما قدمه في الحياة الدنيا من عمل صالح هذه الثمرات جاءت في ثنايا كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم نذكر طرفاً منها على وجه الإيجاز:
1- الخاتمة الحسنة: فهي أول الثمار التي يلقها المؤمن وهو في طريقه إلى عالم الآخرة حيث تحسن خاتمته ويموت ميتة حسنة، وتحصل له جملة من الثمار من نزول الملائكة بالبشارة لهم بالأمن وعدم الخوف، والبشارة بالجنة، والنعيم المقيم...قال تعالى: ? الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [النحل:32].
قال ابن جرير:" كذلك يجزي الله المتقين الذين تقبض أرواحهم ملائكة الله وهم طيبون بتطييب الله إياهم بنظافة الإيمان وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم", فهم مؤمنون طاهرون من الشرك كذا قال البغوي.
وقال سبحانه: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ? [فصلت:30-31].
لما ذكر الحق تبارك وتعالى عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر في هذه الآية حال المؤمنين وما أنعم عليهم به فقال: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ? أي وحده لا شريك له ? ثُمَّ اسْتَقَامُوا ? على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله حصل لهم كرامات من نزول الملائكة بالبشارة لهم عند الموت ، وحصول الأمن لهم وعدم الخوف ، والتبشير بالجنة ، والولاية لهم في الدنيا والآخرة.
2- التثبيت عند السؤال في القبر:
قال تعالى: ? يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ? [إبراهيم:27].
فهذه الآية وردت على القول المشهور في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق.
فالثبات حاصل لأهل الإيمان في الحياة الدنيا على القول الحق وهي شهادة التوحيد،وهو حاصل لهم في الآخرة عند القبر فهو أول منازل الآخرة.
يقول الألوسي:" في قوله تعالى: ? وَفِي الْآخِرَةِ ? أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال".
فمن مظاهر التثبيت ما ورد في الصحيح عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قولُ اللهِ: ? يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ?".
والمؤمن يثبت عند السؤال من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقال له وما دينك؟ يقول: ديني الإسلام: ويثبت عندما يقال له: ومن نبيك؟ يقول: نبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما ورد ذلك عن البراء بن عازب - رضي الله عنه-.
3 - التوسعة في القبر:
فالمؤمن يوسع له في قبره ويرى مكانه من الجنة وذلك بعد سؤال الملكين له وثباته في الجواب، فقد جاء في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"... فينادى مناد في السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره...".
4 - الأمن من الفزع الأكبر:
قال تعالى: ? لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ? [الأنبياء:103].
أختلف أهل التفسير في المراد بالفزع على عدة أقوال: فقيل: وقوع طبق جهنم عليها، وقيل: النفخة الأخيرة . وقيل: الأمر بأهل النار إلى النار، وقيل: ذبح الموت ، وقيل: إذا نودي ? قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ?[ المؤمنون:108]، وقيل: ? يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء? [الأنبياء:104].
وقيل: أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب، وقيل: المراد الموت، وأياُ كان الفزع الأكبر فأهل الإيمان آمنون منه ، لا يحزنهم فقد نجوا منه ، وتستقبلهم الملائكة يهنئونهم ويقولون لهم: هذا ما كنتم توعدون به في الدنيا وتبشرون.
يقول سيد وهو يتحدث عن النار:" وهي تسري وتحرق، وتحدث ذلك الصوت المفزع, وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر ، ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه فضلاً على معاناته نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين ، وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم ، وتتولى الملائكة استقبالهم بالترحيب ، ومصاحبتهم لتطمئن قلوبهم في جو الفزع المرهوب".
فما أعظم هذه الثمرة لأهل الإيمان! ثمرة النجاة والأمن من الفزع الأكبر اللهم آمنا من الفزع الأكبر، وجعلنا من الآمنين يارب العالمين.
5 - الوقاية من شر يوم القيامة:
أهل الإيمان آمنون من الشر المستطير في ذلك اليوم العظيم من بأسه وشدته وعذابه وأهواله فهو أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة قال تعالى: ? فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا? [الإنسان:11].
يقول تعالى:" مخبرا عن هؤلاء القوم - المطعِمين- أنهم يقولون لمن أطعموه من أهل الفاقة والحاجة: ما نطعمكم طعاما نطلب منكم عوضا على إطعامنا لكم جزاء ولا شكورا، ولكنا نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته في يوم شديد هوله، عظيم أمره، تعبِس فيه الوجوه من شدّة مكارهه، ويطول بلاء أهله، ويشتدّ".
فهذا هو يوم الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف ، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام ، يبتغون وجه الله وحده ، لا يريدون شكوراً من أحد ، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير.
6 - الحساب اليسير وإعطاء الكتاب باليمين:
قال تعالى: ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ*فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا*وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ? [الانشقاق:7 -9].
فالناس يوم القيامة على صنفين أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال فأهل الإيمان هم أصحاب اليمين فصاحب الإيمان يأخذ كتابه بيمنه، ويحاسب حساباً يسيراً؛ وهو العرض فقط دون مناقشة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها وسيأتي قريباً.
بخلاف المشرك الذي يأخذ كتابه بشماله ويدعو بالثبور والهلاك، وأهل الإيمان هم أهل السرور الآجل عندما ينقلبون إلى أهلهم، وهذا من تمم النعمة عليهم.
يقول سيد:" والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد، الذي آمن وأحسن، فرضي الله عنه وكتب له النجاة، وهو يحاسب حساباً يسيراً، فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب، والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها غناء.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حوسب عذب", قالت عائشة: فقلت أوليس يقول الله تعالى: ?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ? [الانشقاق:8]. قالت فقال: " إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك" .
وعنها كذلك قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: « اللهم حاسبني حساباً يسيراً »، فلما انصرف قلت: يا رسول الله ، ما الحساب اليسير؟ قال: « أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك »،.
فالمؤمنون الصادقون، يحاسبون حساباً يسيراً سهلاً، بأن تعرض أعماله على خالقهم- سبحانه وتعالى- ثم يكون التجاوز عن المعاصي، والثواب على الطاعة، بدون مناقشة أو مطالبة بعذر أو حجة.فيحصل لهم بهذا السرور.
7 - النجاة من النار:
قال تعالى: ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ? [مريم:72].
فمن أعظم النعم التي ينعم بها أهل الإيمان في الآخرة النجاة من النار وهولها والفوز بالجنة فهذا من أعظم الفوز كما قال الحق تبارك وتعالى: ? فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ? [آل عمران:185].
ثم تتوالى على أهل الإيمان النعم في هذا اليوم الرهيب والعظيم.
8 - النور الذي يكشف الطريق الموصلة إلى الجنة:
قال تعالى: ? يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? [الحديد:12].
يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين: أنهم يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في عَرصات القيامة، بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله: ?يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ? قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم مَن نوره مثل الجبل، ومنهم مَن نوره مثل النخلة، ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ مرة.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من المؤمنين من يضيء نُوره من المدينة إلى عَدن أبين وصنعاء فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه".
فهذا النور دليل لهم في طريقهم إلى الجنة كما قال مقاتل.
" فهؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعاً لطيفاً هادئاً، ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم، فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نوراً يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها . ..".
9 - استقبال الملائكة بحفاوة:
قال تعالى: ? وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ? [الزمر:73]
وقال تعالى: ? وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ*سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد:23-24].
10 - الخلود في الجنة:
قال تعالى عن المؤمنين: ? أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون:10-11].
وقال تعالى: ? وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [الأعراف:42].
11- ألوان مختلفة من النعيم في الجنة:
1- من الأزواج المطهرة:
قال تعالى: ... ? وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة:25].
2 - والرضوان والنعيم المقيم:
قال الله تعالى: ? يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ? [التوبة:21].
3- المساكن الطيبة:
قال تعالى: ?يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? [الصف:12].
4- ينزع الله الغل من صدورهم:
قال تعالى: ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ? [الأعراف:43].
5- النظر إلى وجه الله:
قال تعالى: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? [يونس:26]
وفي صحيح مسلم تفسير هذه الزيادة بالنظر إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن ".
6- يحلون أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق:
قال تعالى: ? أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ?[الكهف:31].
7- الرزق المعلوم: قال تعالى: ? أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ*فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ*فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ? [الصافات:41-43].
8- الظلال والعيون والفواكه الشهية:
قال تعالى: ? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ*وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ*كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [المرسلات:41-43].(1/82)
فهذه نماذج من النعيم المقيم الذي يلقاه أهل الإيمان في دار النعيم نسأل من الله العزيز القدير أن يجعلنا من أهل الجنة بمنه وفضله وكرمه إنه على ما يشاء قدير.
وليس المقصود هنا حصر نعيم أهل الجنة فليس المقام لذلك فهناك في الجنة لأهل الإيمان من أنواع النعيم ما لم تسمع به أذن ، ولا رأته عين ، ولا خطر على قلب ، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "فاقرؤوا إن شئتم: ?فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[ السجدة:17 ]. "، والمقصود ذكر طرف من هذا النعيم الذي ينعم به أهل الإيمان في الحياة الآخرة لتظهر لنا من خلاله الثمار العظيمة التي تحصل لأهل الإيمان في الآخرة.
ثانياً: الثمار الخاصة:
وهناك ثمار للإيمان تتعلق في بعض قضايا الإيمان كأركان الإيمان الستة، وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية، وخاتم الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبة الصحابة الكرام وغيرها من القضايا الإيمانية فالإيمان بها يورث المؤمن جملة من الثمار، فهي وإن كانت خاصة إلا أنها تدخل بالجملة في ثمار الإيمان بشكل عام، وهي كثيرة ولكننا سوف نتحدث إن شاء الله تعالى عن بعض هذا الثمار في بعض قضايا الإيمان ليتبين لنا عظمة قضية الإيمان التي هي أعظم القضايا فمن أجلها خلق الله - عز وجل - السموات والأرض ، وخلق الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الجهاد ،وانقسم الناس فيه إلى مؤمنين وكفار ...، ويتبين عظيم ما يحصل للمسلم من الثمار العظيمة والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
وأول ما نبدأ الحديث عنه ثمار الإيمان في بعض أركان الإيمان.
1- ثمار الإيمان بالله - سبحانه وتعالى-:
فالإيمان بالله - عز وجل - أكثر من أن تحصى ثماره وما ذكر في الثمار العامة في الدنيا والآخرة ما هي إلا طرف مما يلقاه العبد المؤمن وخلاصة القول بأن ثمار الإيمان بالله - عز وجل - هو حصول المؤمن على كثير من خيرات الدنيا والآخرة، وجلب الخيور، ودفع الشرور كلها، والفوز والفلاح.
والإيمان بالله - عز وجل- يتضمن الإيمان بوجوده سبحانه ، والإيمان بألوهيته، وتفرده بالربوبية، والإيمان بأسمائه وصفاته، والحديث سيكون على الثمار التي يجنيها المؤمن من هذا التوحيد:
فتوحيد الله، وإفراده بالعبادة أجَلُّ النِّعم وأفضلها على الإطلاق،وفضائله وثمراته لا تعد ولا تحصى، نذكر طرفاً من هذه الفضائل:
1- أعظم النعم: فتوحيد الألوهية من أعظم النعم التي أنعم الله على بها على عباده، حيث هداهم إليه، كما جاء في سورة النحل التي تسمى سورة النعم،فالله عز وجل قدم نعمة التوحيد على كل نعمة، فقال سبحانه:? يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ?[النحل: 2].
2- عبادة المولى تبارك وتعالى: فهو الغاية التي من أجلها خلق الجن والإنس: قال سبحانه: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات: 56].
3- أنزال الكتب: فمن ثمرات هذا التوحيد إنزال الكتب التي تحمل الهداية والنور للبشرية ، وخاتم هذه الكتب القرآن الكريم قال تعالى: ? آلر *كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ? [هود: 1 - 2].
4- تفريج الكرب: فهو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما كما في قصة يونس عليه السلام.
5- منع الخلود في النار: فمن ثماره العظيمة أنه يمنع صاحبه من الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"، قال الإمام النووي: فالمراد دخول الكفار وهو دخول الخلود.
6- منع دخول النار بالكلية: ومن ثماره أنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية كما في حديث عتبان في الصحيحين؛ قال عليه الصلاة والسلام:"فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
7- حصول الاهتداء الكامل والأمن التام لأهله في الدنيا والآخرة: قال سبحانه: ? الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ?[الأنعام: 82].
8- حصول الرضا: فهو من أهم الأسباب لنيل رضا الله وثوابه.
9- حصول الشفاعة: فصاحبه من أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة أنه قال:" قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه".
10- ترتب قبول الأعمال عليه: جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها، وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
11- يسهل على العبد فعل الخيرات: ويعينه على ترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه.
12- تحبيب الإيمان في القلب: فالتوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين قال سبحانه: ?وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ? [الحجرات:7].
ففي الآية خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل أي جعل الإيمان أحب الأديان إليهم وحسنه في قلوبهم فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة.
13- تحرر العبد: من رق المخلوقين ومن التعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم، والعمل لأجلهم.
وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
14- التوفيق والتسديد: فالله تكفل لأهله بالفتح والنصر، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال، ويمن عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه وبذكره.
وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، فمن حقق التوحيد حصلت له هذه الثمار كلها وأكثر منها، والعكس بالعكس.
ثمرات توحيد الأسماء والصفات:
العلم بأسماء الله وصفات، والإيمان بها وتدبرها، وفهمها يورث ثمرات عظيمة وفوائد جليلة ذكرها العلماء نذكر طرفاً منها على وجه الإيجاز:-
1 - طريق معرفة الله:
فالعلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفته، فالله خلق الخلق ليعرفوه، ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له ، وقبيح بعبد لم تزل نِعَمُ الله عليه متواترة أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفته، يقول ابن القيم: ولا يستقر للعبد قدم في المعرفة حتى يؤمن بصفات الرب جل وعلا، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة الإحسان.
2 - محبة الله: فمعرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له: وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه بمعانيها، وأحكامها، ومقتضياتها.
3- الإقتداء: ومن ثمرات الإيمان بصفات الرب تبارك وتعالى أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلي بها على ما يليق به، فالمحب يحب أن يتصف بصفات محبوبة، فأحب الخلق إلى الله تعالى من اتصف بالصفات التي يحبها الحق تبارك وتعالى وابغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها.
4 - تزكية النفوس وإقامتها على منهج العبودية للواحد الأحد: وهذه الثمرة من أجل الثمرات التي تحصل بمعرفة أسماء الله وصفاته، فالشريعة المنزلة من عند الله تهدف إلى إصلاح الإنسان، وطريقُ الصلاح هو إقامة العباد على منهج العبودية لله وحده لا شريك له، والعلمُ بأسماء الله وصفاته، يعصم ـ بإذن الله ـ من الزلل، ويفتح للعباد أبواب الأمل، ويثبت الإيمان، ويملأ قلبه بأجل المعارف والألطاف.
فمثلاً أسماء العظمة تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله، فتثمر الخضوع والاستكانة والمحبة .
وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة له ، وشوقاً إليه ، ورغبة بما عنده ، وحمداً وشكراً له.
وأسماء العزة ، والحكمة ، والعلم ، والقدرة ـ تملأ القلب خضوعاً وخشوعاً وانكساراً بين يديه ـ عز وجل ـ وهكذا
5 - الإنزجار عن المعاصي: ذلك أن النفوس قد تهفو إلى مقارفة المعاصي ، فتذكر أن الله يبصرها ، فتستحضر هذا المقام وتذكر وقوفها بين يديه ، فتجانب المعصية .
6 - التوبة من المعصية: فتضيق عليه الأرض بما رَحُبت، ويأتيه الشيطان؛ ليجعله يسيء ظنه بربه، فيتذكر أن من أسماء الله " الرحيم، التواب، الغفور" فلا يتمادى في خطيئته، بل ينزع عنها، ويتوب إلى ربه، ويستغفره فيجده غفوراً تواباً رحيماً.
7 - اللجوء إلى الله: ومنها أن العبد تتناوشه المصائب، والمكاره، فيلجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، فيذهب عنه الجزع والهلع، وتنفتح له أبواب الأمل.
8 - الشجاعة: فعند مقارعة الأشرار، وأعداء دين الله من الكفار والفجار، فيجدُّون في عداوته، وأذيته، ومنع الرزق عنه، وقصم عمره ،وإلحاق الأذى به فعندما يعلم العبد بتفرد الرب تبارك وتعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه ظاهراً وباطناً.
9 - زيادة الإيمان: فالعلم بأسماء الله وصفاته من أعظم أسباب زيادة الإيمان، وذلك لما يورثه في قلوب العابدين من المحبة ، والإنابة ، والإخبات ، والتقديس ، والتعظيم للباري ـ جل وعلا ـ قال سبحانه:? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ?[محمد: 17].
10 - من أحصاها دخل الجنة: فمن أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله دخل الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة ".
وهناك ثمار كثيرة لهذا التوحيد، فما من صفة لله تعالى، أو اسم من الأسماء إلا ولها ثمار عظيمة، وآثار كبيرة ، وهذا من فضل الله -عز وجل- على أهل التوحيد.
2- ثمار الإيمان بالرسل الكرام:
إيمان المؤمن بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام له آثار عظيمة وثمرات كثيرة يجنيها المؤمن نذكر منها:
1- معرفة رحمه الله: فالإيمان بالرسل الكرام يعرّف الإنسان رحمة الله - عز وجل - بخلقة وعنايته سبحانه بهم حيث أرسل الرسل إليهم ليهدوهم إلى الطريق الصحيح، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله - عز وجل- عبادة يرضاها ويقبلها قال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?[الأنبياء:107].
وقال سبحانه: ? َقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ? [آل عمران:164].
وقال عز وجل: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[إبراهيم:4].
2- شكر الله تعالى على هذا النعمة:
فإرسال الرسل نعمة أنعم الله بها على الناس قال تعالى:? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ? [البقرة:151]، ففي هذه الآية يُذكر الله - تبارك وتعالى- عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم... فالناس قبل أرسل الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا في جاهلية جهلاء فانتقلوا ببركة رسالته، ويُمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة... .
3- محبة الرسل الكرام: ومن الثمار محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم والثناء عليهم بما يليق بهم؛ لأنهم قاموا بعبادة الله وتبليغ رسالته والنصح لعباده، قال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين".
يقول ابن حجر: وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر فإن الاحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان أما نفسه وأما غيرها أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومالا فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
قال في عمدة القاري: قال النووي هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام قلت كيف لا وفيه محبة الله ورسوله التي هي أصل الإيمان بل عينه....
فمحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هي من أعظم الثمار التي يحصل عليها المؤمن لعظيم النفع الذي حصل له من بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،فكل من أمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير الناس تتفاوت في ذلك فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى.
4- أتباع الهدى: فمن الثمار التي يجنيها المؤمن من خلال إيمانه بالرسل الكرام أتباع الهدى الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيتحقق للمؤمن الخير والهدى والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى? [طه:123 - 124].
يقول ابن كثير: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي? أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، فتباع هدى الله - عز وجل - الذي جاء به الرسل الكرام يجنب الإنسان الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
3- ثمار الإيمان بالملائكة:
الإيمان بالملائكة الكرام ثمراته عظيمة على المؤمن نذكر طرفاً منها:
1- عظمة الخالق: فالإيمان بهم يعرف المؤمن بعظمة خالقهم عز وجل وكمال قدرته وسلطانه: وهذه من أعظم الثمار فعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق - سبحانه وتعالى- فخلق الملائكة الكرام أولي أجنحة يوحي بعظمة الخالق سبحانه قال تعالى: ?الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [فاطر:1].
وقد جاء في الأحاديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أذن لي أن أحدِّث عن ملك من ملائكةِ اللَّه من حملة العرشِ ، ما بين شحْمة أذنهِ إِلى عاتِقِهِ مسيرة سبعمائةِ عام".
فالمؤمن بذلك تزداد معرفته بخالقه وعظمته سبحانه، فهو على كل شيء قدير.
2- محبة الملائكة: على ما هداهم الله إليه من تحقيق عبادة الله على الوجه الأكمل ونصرتهم للمؤمنين واستغفارهم لهم قال تعالى: ?وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ? [الصافات: 165- 166].
يقول ابن جرير: يقول تعالى مخبرًا عن ملائكته: ?وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ? لله لعبادته ? وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ? له، يعني بذلك المصلون له،وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقال به أهل التأويل.
ومن ذلك: ما رواه مسروق بن الأجدع، عن عائشة أنها قالت: قال نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:"مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أو قائم"، فذلك قول الله: ? وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ?.
فالملائكة قائمة لله - عز وجل - بالعبادة والطاعة، فهم يسبحون بحمد الله قال تعالى: ?الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ? [غافر:7]
يقول ابن جرير:" الذين يحملون عرش الله من ملائكته، ومن حول عرشه، ممن يحفّ به من الملائكة ? يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ? يقول: يصلون لربهم بحمده وشكره? وَيُؤْمِنُونَ بِهِ? يقول: ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويشهدون بذلك، لا يستكبرون عن عبادته".
وقال -عز وجل-: ? إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ? [الأعراف:206].
فمن ثمرات ذلك أن يتشبه المسلم بالملائكة في مداومتهم على طاعة الله - عز وجل - والعبادة له.
3- عنايته الله - عز وجل- بعباده: حيث وكل بهم من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وعنايتهم وكتابة أعمالهم وغير ذلك مما تتحقق به مصالحهم في الدنيا والآخرة مما يوجب عليهم شكره على هذا النعمة.
قال تعالى: ? لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ? [ الرعد: 11].
والمعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلاً منه، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين.
يقول ابن كثير: للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.
4- المراقبة الدائمة - لله عز وجل-: فالمؤمن يعلم بالكرام الكاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد فيديم المراقبة له سبحانه.
قال سبحانه: ? إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ? [ق:18].
وقال سبحانه: ? وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ? [الانفطار:10-12].
فقوله: ? وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ? وإن عليكم رُقَباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويُحْصونها عليكم? كِرَامًا كَاتِبِينَ ? كراما على الله كاتبين يكتبون أعمالكم.
فالملائكة تكتب أقوال الإنسان وأفعاله من خير وشر فيشعر المؤمن بهذا الرقابة الدائمة عليه فيحسن العمل ويستحي أن يرى على غير ما هو مأمور به، فيستقيم على طاعة الله تعالى، فلا يعصيه لا في العلانية، ولا في السر.
5- الاستئناس بالملائكة في طاعة الله - عز وجل-: حيث أن الله - عز وجل- يثبت بهم أولياءه على طاعته قال تعالى: ? إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ? [ الأنفال:12]
فالمؤمن عندما يوقن أن معه في هذا الكون الفسيح أُلوفا من الملائكة تقوم بطاعة الله على أحسن حال وأكمل شأن يشعر بالأنس والطمأنينة، ويعلم بأن هناك من ينافسه على العبادة لله - عز وجل- فيجتهد في الطاعة والعبادة ،وتحصل له الاستقامة على أمر الله - عز وجل-.
6- البعد عن إيذاء الملائكة: فأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وأكثر ما يؤذي الملائكة الصور والتماثيل والروائح الكريهة، وما يصدر من الإنسان من المعاصي والذنوب.
فعن أبي هريرة قال: قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم".
وقال مرة: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
7- التنبه من الغفلة والتذكر الدائم للموت: فعندما يتذكر المؤمن ملك الموت الذي يقبض الأرواح يستعد للموت وينتبه من غفلته ويعلم أن الدنيا دار عمل، وأن ما فيها زائل لا يدوم، وأنها لحظات قد يأتيه رسل الله - عز وجل- في أي لحظة منها فيحسن العمل الصالح، والاستعداد لليوم الآخر.
قال تعالى: ? وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ? [الأنعام:61].
يقول ابن جرير:" إن ربكم يحفظكم برسل يعقب بينها يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم إلى أن يحضركم الموت وينزل بكم أمر الله فإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ورسلنا المرسلون به ? وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ? في ذلك فيضيعونه".(1/83)
8- تطهير العقيدة من الشرك: المسلم إذا آمن بوجود الملائكة الذين كلفهم الله بهذه الأعمال العظيمة تخلص من الاعتقاد بوجود مخلوقات وهمية تسهم في تسيير الكون، فيطهر المسلم عقيدته من شوائب الشرك وأدرنه، وكذلك عندما يعلم المسلم أن الملائكة لا ينفعون ولا يضرون إلا بإذن الله، وإنما هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فلا يعبدهم ولا يتوجه إليهم، ولا يتعلق بهم.
4- ثمار الإيمان بالكتب:
أنزل الله - عز وجل- عبر القرون على الأنبياء والرسل كتب فيها الخير الهدى والنور والضياء للبشرية والمسلم يؤمن بها فهي من أركان الإيمان الستة كما هو معلوم، والإيمان بها يحقق ثمار للمسلم نذكر منها:
1- الشعور بأن دين الله واحد: فإيمان المسلم بالكتب السماوية التي أرسلها الله - عز وجل - على الأنبياء والرسل السابقين يشعر بوحدة الدين فدين الله واحد قال تعالى: ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ?[الشورى: 13]. ويشعر بوحدة الرسل، ووحدة البشرية، وبالتالي الشعور بوحدة المنزل سبحانه وتعالى.
2- عناية الله تعالى بخلقه: يعلم المسلم عناية الله - عز وجل- بخلقه فإنزال الكتب على كل قوم منه سبحانه وتعالى ليهديهم ويرشدهم بها تدل على عنايته سبحانه بهم.
3- العلم بحكمة الله تعالى: حيث أنزل على كل قوم ما يناسبهم من الشرائع، وتناسب أحوالهم.
قال تعالى: ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً? [ المائدة: 48].
قال ابن جرير: لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمه، وسبيلاً واضحاً يعمل به.
فالله - عز وجل- شرع شرائع مختلفة لكل أمة من الأمم ما يناسبها فجعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، ولكن هذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يشعر المسلم بأن الإسلام الجامع لكل الديانات السماوية، والمسلمون هم أولى الناس بقيادة البشر إلى الخالق سبحانه وتعالى.
4- شكر نعمة الله في إنزال تلك الكتب: فهذه الكتب نور يستضيئون بها ،وهدى يسيرون عليه في الدنيا والآخرة، فهي نعمة عظيمة من الله - عز وجل - منّ بها على الناس فيتعيّن شكر الله على هذه النعم العظيمة كما في شكره على سائر النعم.
5- ثمار الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره:
الإيمان بالقضاء والقدر من أهم أركان الإيمان فهو قطب رحى التوحيد ونظامه، وهو سر من أسرار الله تعالى التي اختص به، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني-رضي الله عنه-: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفا النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ضربت دونه الأستار واختص الله تعالى به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب.
والمؤمن بالقضاء والقدر يجني من الإيمان به ثمار عديدة وفوائد جليلة في الدنيا والآخرة فمن جملة هذه الثمار والفوائد:
1- الاعتماد على الله تعالى: فالمسلم عند فعل الأسباب يعتمد على الله - عز وجل- لأنه مقدر الأسباب والمسببات.
فالمرء لا يدري ما يصيبه من خير أو شر، والمسلم عندما يعتمد على الله تعالى يبقى دائم الاتصال به مرتبطاً بخالقه، متوكلاً عليه، وهم مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، والإيمان بأن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله، لأن الله هو الذي خلق الأسباب، وهو الذي خلق النتائج.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير، إحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ".
يقول الإمام النووي:" احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة".
فالحديث يتضمن الإيمان بالقدر لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا طاعة لله - عز وجل - إلا بمعونة وتوفيقه سبحانه ومن ظن أنه يستطيع أن يعبد الله - عز وجل - بلا معونته كما يزعم القدرية والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه لكل شيء.
2- الراحة النفسية: فالمؤمن إذا أدرك أن كل شيء بقضاء وقدر عاش في راحة نفسية، وسكون في القلب، فلا يقلق بفوات محبوب أو حصول مكروه فكل شيء عنده بقضاء وقدر. قال تعالى: ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [التغابن:11].
وقال سبحانه: ? مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ? [الحديد:22]. فكل ما يصاب به الناس من المصائب والأمراض والأوجاع مكتوب في كتاب من قبل أن يخلق الله - عز وجل- الأنفس يقول ابن جرير في معنى الآية: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في الأرض بجدوبها وقحوطها وذهاب زرعها وفسادها ? وَلا فِي أَنفُسِكُمْ ? بالأوصاب والأوجاع والأسقام ? إِلَّا فِي كِتَابٍ ? يعني إلا في أم الكتاب ? مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ? أي من قبل أن نبرأ الأنفس يعني من قبل أن نخلقها.
فالمؤمن يعش في هذا الدنيا المليئة بالمشاق مطمئن القلب لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " ثم قرأ: ? لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ? أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم ? وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ? أي من الدنيا.
فتسكن نفسه ويطمئن باله ، فإن من علم أن كل شيء بقدر هان عليه الأمر.
3- تهون على العبد المصائب: لعلمه بأن ذلك من عند الله سبحانه، وما كان من الله سبحانه فالرضى به والتسليم له شأن كل عاقل، فمن ثمرات الإيمان بالقدر أنه يورث العبد قدرة على مواجهة المصائب والمحن التي تنزل عليه فلا يستسلم لها، ولا تضعف نفسه بل يرضى ويسلم أمره للذي بيده سبحانه ويقول كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها - إلا أخلف الله له خيرا منها".
بل أمر المؤمن كله خير في السراء أو الضراء، فتهون عليه كل المصائب عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
4- ترك الإعجاب بالنفس: فالإيمان بالقدر يَعْرِف الإنسان قَدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يَبْطُر ولا يتعالى أبدا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدورِ، ومستقبل ما هو حادث، وحصول النعم له من الله تعالى ما هي إلا بما قدره الله له من أسباب الخير والنجاح، فالإنسان يقرّ بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائماً.
5- الثبات عند المحن والشدائد: فالمسلم يواجه المحن ومشاق الحياة بقلب ويقين صادق فلا تهزه الأحداث والفتن لأنه يعلم أن هذا الحياة دار ابتلاء وامتحان، تتقلب فيها الأمور في كل لحظة, فالرعيل الأول من الصحابة الكرام واجهوا المحن والمصائب بالإيمان الصادق والعزم الثابت، وما ذاك إلا لإيمانهم بقضاء الله وقدره وإيمانهم بقوله تعالى: ? قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُو مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [التوبة:51].
إن الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة والثبات على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، ، ولا تخاف الموت.
وصور الثبات كثيرة منها الثبات في ساحات الجهاد يحث يلوح الموت في الأفق فالإيمان بالقدر يبعث في النفوس الشجاعة والإقدام والثبات في ساحات القتال، لإيمان النفوس المؤمنة بأن الآجال محدودة، والأنفس معدودة، فلا تتقدم ولا تتأخر لنشاهد أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوَّتهم، ومهما كان عددهم.
6- الإيمان بالقدر هو القوة الدافعة والطاقة المولدة للنشاط:
فهو يدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج والثراء لأن المؤمن إذا علم أن الناس لا يضرونه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولا ينفعونه إلا بشيء قد كتبه الله له فإنه يتوكل ولا يهاب أحد من المخلوقين، ولا يعتمد عليه وإنما يتوكل على الله، فالقدر من أكبر الدواعي التي تدعو الفرد إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل، ويُقدم على عظائم الأمور بثبات ويقين.
7- الصدع بالحق والجهر به:
ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح لهم مقتضياته، كما يبين لهم مظاهر الكفر والنفاق ويحذَرهم منها، ويكشف الباطل وزيفه، ويقول كلمة الحق أمام الظالمين، فإن المؤمن يفعل كل ذلك وهو راسخ الإيمان واثق بالله، متوكل عليه، يعلم أن كل شيء بقدر، صابر على كل ما يحصل له في سبيله؛ لأنه موقن أن الآجال بيد الله وحده، وأن الأرزاق عنده وحده، وأن العبيد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة يتقوون بها، وأعوان ينتصرون بهم.
8- القضاء على كثير من الأمراض:
والإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، الذي يدفع العبد إلى الضغينة والحقد، فإن العبد إذا علم أن الله هو المعطي وهو المانع، وأن الرزق مقسوم، والأجل محدود، سلَّم أمره إلى الله، وقنع بما رُزِق ، وعلم أن ما كتب له سيأتيه، ولو لم يرد أهل الأرض، وأن ما لم يكتب لن يأتيه ولو أراد أهل الأرض.
فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لأن الله هو الذي رزقهم وقدّر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على القدر، فمن ثمار الإيمان بالقدر معالجة هذه الأمراض الناشئة عن عدم الرضا بالقضاء والقدر.
9- التحرر من الخوف: فمن ثمار الإيمان بالقدر تحرر العبد من الخوف إلا من الله جلَّ وعلا، فإذا علم المسلم أن لكل أجل كتاب، ولكل أمر مستقر، وأن نواصي العباد بيده سبحانه، لم يرهبه ظلم ظالم، ولا تجبر جبار.
10- الحرص على العمل الصالح: ومن ثمار الإيمان بالقدر الحرص على الأعمال الصالحة، لعلم العبد أن الموت قد يدهمه في أي لحظة، فيكون حاله كمن يسابق الزمن في سبيل التزود من عمل الخير.
11- شهود منه الله ونعمه على العباد: ومن فوائده: أنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه فيما يمن به عليه من فعل الخيرات وأنواع الطاعات، فلا يعجب بنفسه ولا يدلي بعمله؛ لعلمه أنه تعالى هو الذي تفضل عليه بالتوفيق والإعانة وصرف الموانع والعوائق، وأنه لو وكل إلى نفسه لضعف وعجز عن العمل,كما أنه سبب لشكر نعم الله بما ينعم عليه من نعم الدين والدنيا. فإنه يعلم أنه ما بالعبد من نعمة إلا من الله وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة.
ثمار الإيمان باليوم الأخر:
الإيمان باليوم الأخر هو الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد البعث فهو إيمان بالأمور الغيبية التي تكون في يوم القيامة، والله - عز وجل - قد علق حصول التقوى والفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة بالإيمان بما ذكره الله - سبحانه وتعالى- من الأمور الغيبية قال سبحانه: ? الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [ البقرة:1-5].
واليوم الأخر هو من جملة الأمور الغيبية التي أخبر بها سبحانه، والتي يحب على العبد الإيمان به، فالإيمان به يورث المسلم ثمار عظيمة يجدها في الحياة الدنيا فمن هذه الثمار:
1- الحرص على الأعمال الصالحة والزيادة منها:
فالإيمان باليوم الآخر واليقين به يزيد المؤمن حرصاً على الأعمال الصالحات والزيادة منها ، والابتعاد عن الأعمال السيئة فيستعد لهذا اليوم بما يحبه الله - سبحانه وتعالى- قال سبحانه: ? فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى? [النازعات: 37-41]
يقول ابن جرير: قوله تعالى: ? وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? يقول: وآثر متاع الدنيا على كرامة الآخرة وما أعد الله فيها لأوليائه فعمل للدنيا وسعى لها وترك العمل للآخرة، ويقول: وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه: ? وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ? ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله ولا يرضاه منها فزجرها عن ذلك وخالف هواها إلى ما أمره به ربه فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة.
وهذا الآية عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة كما قال الإمام القرطبي.
فالمؤمن يحرص على طاعة الله رغبة في ثواب ذلك اليوم، ويبتعد عن المعاصي خوفا من عقاب ذلك اليوم.
2- تسلية المؤمن: ففي اليوم الآخر تسلية للمؤمن عما يفوته من نعيم الدنيا ومتاعها بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها، ويعلم أن عمله لا يضيع بل سيجزى به بدار النعيم المقيم قال سبحانه: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً? [ الكهف:30-31].
3- المحاسبة للنفس: فمن ثمار الإيمان باليوم الآخر أن يحاسب المسلم نفسه؛ لأنه يعلم أين مصيره بعد موته ، ويعلم أنه ملاق جزاء عمله، إن خيرا فخيراً وإن شرا فشراً، وأنه سيوقف للمحاسبة، وسيقتص له ممن ظلمه ، وتؤخذ حقوق العباد منه لمن ظلمهم أو اعتدى عليهم.
4- إحياء المعاني والصفات الحميدة: فالإيمان باليوم الآخر يحي في نفوس المؤمنين معاني الصبر والاحتساب، والرضا، والعفو والبذل في سبيل الله عز وجل، فالمؤمن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان وليست دار للجزاء والنعيم، فيعفو عمن ظلمة، ويقبل الأعذار، ويبذل وينفق في سبيل الله تعالى، ويضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء ويسعى إلى الخير ويقاوم الشر، لا يغش ولا يخدع، ولا يسرق، ولا يزني ...كل هذا لإيمانه باليوم الآخر.
5- الزهد في الدنيا: ومن ثمرات اليقين باليوم الآخر الزهد في الدنيا وعدم تعلق القلب بها فالمؤمن يعلم أنها دار متاع، وأنها مرحلة من مراحل الحياة ، وليست هي كل الحياة، والآخرة خير وأبقى فيرغب في الباقية ويزهد عن الفانية.
6- تحقيق الأمن والسلامة من الظلم: أن الإيمان بالله وباليوم الآخر يحقق للبشرية الأمن والسلام - في زمن عز فيه الأمن، ولم تتوقف فيه الحروب- وما ذاك إلا لأن الإيمان بالله وباليوم الآخر يلزم الإنسان أن يكف شره عن غيره في سره وفي علنه، فهو يردع الإنسان عن ظلم الآخرين وانتهاك حقوقهم، فإذا آمن الناس باليوم الآخر سلموا من ظلم بعضهم لبعض وحفظت حقوقهم.
7- كمال العدل الإلهي: فالمؤمن باليوم الأخر يستشعر كمال عدل الله تعالى حيث يجازي كلا بعمله مع رحمته بعباده، قال تعالى: ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ? [الأنبياء:47].
8- راحة البال: فالإيمان باليوم الآخر هو إجابة لأهم الأسئلة من الذي خلقك؟ ولماذا خلقت؟ وإلى أين المصير بعد الموت؟ فالمؤمن يجد الجواب على هذه الأسئلة، فيعيش مطمئن البال، أما الكافر الذي لا يجد الجواب عليها يعيش في حيرة عظيمة وقلق دائم.
ثمار محبة الصحابة رضي الله عنهم: ومن ثمار الإيمان الخاصة التي تتعلق ببعض قضايا الإيمان الثمار التي يجنيها المؤمن من حبه للصحابة الكرام، ومعرفة قدرهم ومكانتهم واحترامهم. وهذه الثمار كثيرة نذكر طرفاً منها:
1- الفلاح والغلبة والنصر: فمن أهم ثمار المحبة للصحابة الكرام الفلاح والنصر في الدنيا والآخرة قال سبحانه وتعالى: ?وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? [المائدة: 56].
يقول ابن كثير: "فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة".
قد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلبة على أعدائهم فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية حتى صاروا لعنهم الله أذل الناس....
2- الحشر معهم: ومن ثمار محبتهم في الآخرة ما يُرجى لمُحبّهم من الحشر معهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم: "المرء مع من أحب" .
فحب الصحابة الكرام وإخلاص المحبة لهم يجعل المحب لهم يكون من زمرتهم وإن لم يعمل عملهم لثبوت التقارب بين قلوبهم وربما تؤدي تلك المحبة إلى موافقتهم، ففي هذا الحديث الحث على محبة الصالحين والأخيار فهي من أسباب الخلاص من النار.
3- الابتعاد عن صفات أهل النفاق: فمن ثمار محبة الصحابة الكرام أن المحب لهم يخلع عن نفسه صفة من صفات أهل النفاق ؛ فمن صفات أهل النفاق بغض الصحابة الكرام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".
وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضائل الصحابة الكرام كثيرة نعرفها من خلال تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضا ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً وكل هذا يوجب على المؤمن محبتهم والرضا عنهم.
4- ومن الثمار التقرب إلى الله - عز وجل- بمحبتهم: فالصحابة الكرام كانوا يتقربون إلى الله - عز جل - بمحبة أبي بكر وعمر ويعدون ذلك من أفضل أعمالهم فقد روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه -:" أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال متى الساعة ؟ قال: "وماذا أعددت لها ؟" قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت. قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم".
ومن الثمار الخاصة الثمار التي يجدها الفرد في حياته: فالإيمان يورث الكرامة والعزة في نفس المؤمن ليعش حياة مليئة بالعزة، يثمر له السعادة، والسكينة والرضا والأمن والحب والأمل والثبات عند الشدائد وغيرها كثير.
وثمار الإيمان يجدها الفرد المسلم سواءً في الجانب العقائدي وهو ما تحدثنا عنه سابقاً، أوفي الجانب الاجتماعي، من حيث الأمن، والراحة، ومن حيث الوقاية من الرذائل والفواحش، أوفي الجانب الأخلاقي من حيث التحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة التي ينبغي أن يكون عليه الفرد المسلم، والأمر ينسحب على الجماعة المسلمة لتجني الثمار في هذه الجوانب، وتظهر فيه المعاني الحميدة والأخلاق الفاضلة من الإخلاص في العمل والتضحية والفداء والبذل والعطاء والتكافل والتعاون بين جميع الأفراد، وتنتشر بين أفرده روح المحبة والإخاء ،والرحمة، وتظهر فيه معاني القوة والعزة والكرامة، مجتمع منتج يسعى للتغيير والإصلاح، ينشر العدل والآمان فيتحقق له الفوز في الدنيا والآخرة، ويستحق وصف خير أمة أرسلت للناس.
ومن خلال هذه البحث يتبين لنا أهمية هذه القضية قضية الإيمان وما تثمر من الثمار اليانعة والطيبة في الحياة الدنيا والآخرة، وهي أكثر من أن تحصى أو تستقصى والمراد ذكر جملة من هذه الثمار التي يتحصل عليها المؤمن في الحياة الدنيا فيعيش حياة طيبة، فيها الراحة والآمان، والاطمئنان، وفي الآخرة ينعم بالعيش السعيد الأبدي في جنات النعيم.
ثمار يجدها الفرد المسلم في حياته يجدها في كل ركن من أركان إيمانه، كما تجدها الآمة المسلمة فتحيا حياة مليئة بالكرامة والعزة والسؤدد والسيادة على جميع الأمم، فتستحق أن تكون خير الأمم.(1/84)
وهكذا تثمر الشجرة المباركة شجرة الإيمان تثمر الثمار اليانعة فهي طيبة وثمارها طيبة، قال سبحانه: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ? [إبراهيم:25].
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على إمام الموحدين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
جمع وإعداد:
خالد حسن محمد البعداني
بتاريخ: 29 / رجب /1427هـ, الموفق: 22/ 8/ 2006م.
مراجعة: علي عمر بلعجم.
- تفسير ابن كثير: 2/ 772، وانظر تفسير الطبري:7 / 641، وتفسير القرطبي: 10 / 155.
- تفسير الطبري 3/ 23، وانظر في معنى الآية تفسير القرطبي: 3 /270، وفتح القدير: 1/ 417، وتفسير البغوي: 1/ 315.
- باختصار من فتح القدير: 2 / 332، وانظر في تفسير الآية تفسير البيضاوي: 1 /43، وروح المعاني: 9 /10 .
- فتح القدير: 4/ 327 ، وانظر في تفسير الآية تفسير الطبري: 10/ 195 ، تفسير البغوي: 1/ 275 .
- صحيح البخاري:5/ 2384، برقم: 6137.
- فتح القدير: 4/ 69، وانظر في تفسير الآية تفسير ابن كثير: 3 / 401، وتفسير القرطبي: 12 / 272.
- علم الإيمان: 1/23، للشيخ عبد المجيد الزنداني.
- تفسير الطبري: 7 / 580.
- تفسير البغوي: 1 / 17 .
- بتصرف فتح القدير: 4 / 733، وأنظر في تفسير الآية: تفسير الطبري: 11 / 106، وتفسير البيضاوي:1 / 114 ، وتفسير أبي السعود: 8 / 13.
- تفسير الألوسي: 9 / 362 ، وانظر في تفسير الآية: تفسير الطبري: 16 / 589، وفتح القدير: 4 / 145 ، والتحرير والتنوير: 7 / 431، وتفسير الرازي: 9/ 247.
- صحيح البخاري: 4/1735، برقم: 4422.
- جزء من حديث طويل عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنظر سنن أبي داود:2 / 652، برقم: 4753، وقال الألباني: صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك: 1-93، برقم: 107.
- سنن أبي داود:2/652 ، برقم: 4753، ومسند أحمد بن حنبل:4 /287، برقم: 18557، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.
- أنظر هذه الأقوال في: تفسير البحر المحيط: 8 / 193، وتفسير ابن كثير: 5 / 381، وفتح القدير 5/ 84، والنكت والعيون: 3 / 98.
- في ظلال القرآن: 5 / 174.
- تفسير الطبري: 24 / 99، وانظر تفسير ابن كثير: 4 / 584 ، وتفسير القرطبي: 19 / 122، وتفسير الرازي: 16 / 226.
- في ظلال القرآن: 7 / 412، بتصرف.
- صحيح البخاري:1 / 51 ، برقم:103، ومسلم:4/ 2204، برقم: 2876
- صحيح ابن خزيمة:2/30، برقم: 849، وقال: الأعظمي: إسناده حسن، وانظر صحيح ابن حبان: 16 / 372 ، برقم: 7372.
- في ظلال القرآن: 7 / 496، وانظر أضواء البيان: 9 / 116، والوسيط لسيد طنطاوي: 1 / 4471.
- تفسير ابن كثير: 8 / 15 ، وانظر التحرير والتنوير: 14 / 393، وانظر اثر ابن مسعود في: المستدرك: 2/ 520 ، وقال:
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرط البخاري.
- رواه ابن جرير في تفسيره:11/675.
- النكت والعيون:4 / 234.
- في ظلال القرآن: 7 / 131.
- صحيح البخاري:4 / 1848 ، برقم: 4597، ورواه مسلم:1/163، برقم:180.
- بتصرف أنظر هذه الثمار في علم الإيمان:ص 31، وما بعدها.
- صحيح البخاري:3 / 1185، برقم: 3072، ورواه مسلم:4/ 2174، برقم: 2824.
- رواه مسلم:1 / 93، برقم:91.
- شرح صحيح مسلم:2/91.
- رواه البخاري: 1/ 164، برقم 415، ورواه مسلم: 1/454 ، برقم 33.
- رواه البخاري: 1 / 49.
- نظرة النعيم: 4/1341.
- بتصرف من نظرة النعيم: 4/1341.
- بتصرف من تفسير القرطبي: 16 / 266، وفتح القدير:5 / 86 .
- انظر بتصرف نضرة النعيم 4/ 1341.
-أنظر توحيد الألوهية محمد إبراهيم الحمد.
- أسماء الله الحسنى: ص:30 بتصرف، ابن القيم ، دار الكلم الطيب.
- أسماء الله الحسنى: ص 47.
- أسماء الله وصفاته ص 19، الأشقر.
- أسماء الله الحسنى: ابن القيم ص 41.
- المصدر السابق: ص 41.
- توحيد الأسماء والصفات: محمد إبراهيم الحمد.
- صحيح البخاري: 2/981، برقم 2585، وصحيح مسلم: 4/2062، برقم:2677.
- بتصرف من تفسير ابن كثير:1 / 464.
- رواه البخاري: 1/14، برقم: 15.
- فتح الباري: 1 / 59 .
- رواه البخاري: 1 / 14، برقم:16.، ومسلم: 1 / 66 ، برقم:43.
- عمدة القاري: 1 / 148.
- قاله القرطبي: انظر فتح الباري - ابن حجر: 1 / 60 .
- تفسير ابن كثير: 3 / 227 .
- منها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح" أنظر صحيح البخاري: 3/ 1181 برقم: 3060، ومسلم:1 / 158 ، برقم: 174.
- سنن أبي داود:2/ 645، برقم: 4727، وقال الألباني: صحيح، انظر الجامع الصغير وزيادته:1 / 86 ، برقم: 856.
- تفسير الطبري: 21 / 127.
- الحديث ذكره الإمام محمد بن نصر بن الحجاج المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة:1/260، وانظر الجامع الصغير وزيادته:
1/10، والسلسلة الصحيحة: 3 / 49، برقم: 1059.
- تفسير الطبري: 21/ 354.
- فتح القدير: 4/ 92.
- تفسير ابن كثير: 4/437.
- تفسير الطبري: 24 / 271.
- الثمرات الزكية في العقائد السلفية ص: 174، أحمد فريد، الدار السلفية للنشر والتوزيع.
- صحيح مسلم: 1 / 394, برقم: 562.
- صحيح مسلم: 1 / 394, برقم: 563 .
- تفسير الطبري: 5 / 214.
- بتصرف من الإسلام أصوله ومبادئه: 1 / 182.
- تفسير الطبري:4 / 606.
- بتصرف من فتح القدير: 2/70.
- مرهم العلل المضلة:1 / 94، عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي، دار الجيل ، بيروت، ط1 ، 1992.
- صحيح مسلم: 4 / 2052، برقم: 2664.
- شرح النووي على مسلم: 16 / 215 .
- بتصرف من مجموع الفتاوى:8 / 74 .
- تفسير الطبري: 11 / 685.
- الحديث بهذا اللفظ ذكره القرطبي في تفسيره: 17/222، وقال عنه الألباني: حسن ، انظر ظلال الجنة: 1 / 93، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت،ط3، 1413هـ، والحديث عند الترمذي بلفظ: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن لخيطئه وأن ما أخطأن لم يكن ليصيبه، انظر سنن الترمذي: 4/451، برقم: 214، وقال الألباني: صحيح، أنظر الجامع الصغير وزيادته:1 / 1355.
- صحيح مسلم: 2/ 631، برقم: 918.
- صحيح مسلم:4/ 2295، برقم: 2999.
- بتصرف من الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: 276 /2.
- بتصرف من الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: 2/277، الفوزان
- بتصرف من التوحيد للناشئة والمبتدئين 1/ 102.
- المصدر السابق بتصرف: 1 / 100.
- التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة 1/88، عبد الرحمن ناصر السعدي، ط1، دار طيبة.
- تفسير الطبري:12 / 440 .
- تفسير القرطبي:19 / 180 .
- أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة: 1 / 330، نخبة من العلماء.
- بتصرف الإسلام أصوله ومبادئه: 1 / 123، محمد بن عبد الله بن صالح السحيم.
- بتصرف المصدر السابق.
- تفسير ابن كثير:2 / 97 .
- فتح القدير:2 / 76.
- صحيح مسلم:4 / 2034، برقم: 2640.
- بتصرف: عون المعبود:14 / 25.
- صحيح البخاري: 1 / 14، برقم:17، وصحيح مسلم:1/85، برقم: 74.
- بتصرف من كتاب الكبائر:1 / 236.
- صحيح البخاري: 3 / 1349، برقم: 3485، وصحيح مسلم: 4/ 2032، برقم: 2639.
- أنظر في هذا الموضوع كتاب الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي.
ــــــــــــــــ(1/85)
الحياةُ الطيبة
قال الله تعالى : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( [النحل : 97] .
هذا هو طريق الحياة السعيدة الهانئة ، القانعة المطمئنة ، التي هي مطلب الناس أجمعين ، وقد أوجزت هذه الآية مقومات هذه الحياة ، ورسمت معالمها ، في إيجاز معجز ، مع وفاء كامل بالمعنى .
وبالتأمل نجد هذه الآية قد جاءت بين آيتين أولاهما : تتحدث عن الدنيا وحقارتها ، وأنها فانية زائلة ، وأن ماعند الله خير وأبقى ، قال تعالى : )مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ([النحل96] ..
وتَلَتها آية تتحدث عن الشيطان ، وتأثيره على الإنسان وصده عن سبيل الهداية القرآن ، وتبين الطريق للخلاص من شره ، قال تعالى : ) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ([النحل98] ..
وكأن موانع الحياة الطيبة تكمن في حب الدنيا ومغرياتها وشهواتها، واتباع الشيطان وشبهاته وتسويلاته ، وبالسلامة من هذين المرضين تكون السعادة ، والحياة الطيبة ، التي جمعت هذه الآية أطرافها وسمت للسالكين طريقها.
وقد اشتملت هذه الآية على مقومات الحياة الطيبة ، وهي :
1- العمل الصالح .
2- الإيمان .
وقد جاء عرض هذه المقومات على النحو التالي :
- ( مَنْ عمل ) ، ( مَنْ ) اسم موصول مشترك ، يُلمح فيه الشرط ، ويدخل في حيزه الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والقليل والكثير ، ولو قيل : ( الذي ) لاقتصر على الذكر الواحد ، أو قيل : ( التي ) لكان للمؤنثة الواحدة ، أو قيل : ( اللذين ) لكان لجماعة الذكور ، أو قيل : ( اللاتي ) لكان لمجموع الإناث ، وهكذا ، فكان هذا الموصول ( مَنْ ) يشمل كل ذلك مع فضيلة الإيجاز، زيادة على ما فيه من خصوصية التساوي وعدم التمايز إلا بالعمل الصالح لا بالنوع ، أو السن ، أو العدد .
- ( عَمِل ) التعبير هنا بالفعل الماضي ، دلالة على سبق العمل لاستحقاق الحياة الطيبة ، وهذا يعني أنه لابد من العمل والصبر عليه والمداومة على فعله ، حتى يحسن وصف صاحبه بأنه (عمل صالحاً ) ، ولو قيل بالمضارع : ( يعمل صالحاً ) ، لأفهم ذلك أن الموصوف به كان خاليا من العمل الصالح فيما مضى ، وأنه سيبدأ من ساعته هذه ، ويستمر.
- ( صالحاً ) وصف لكلمة (عملاً ) المحذوفة المدلول عليها بالفعل ( عمل ) ، وفي حذف هذه الكلمة إيماء إلى أن الاهتمام متوجه إلى الصفة ( صالحاً ) ، أكثر من الموصوف ( عملا ) لأن كل الناس يعملون ، والعبرة ليست بالعمل ، بل بكونه صالحا ، لأنه هو المثمر للحياة الطيبة والمؤثر فيها .
وصلاح العمل وصف له ممن شرعه سبحانه ، فلابد - إذا - أن يكون مطابقاً لما أمر به الشرع من جهتين : الإخلاص ، بأن يكون لله وحده ، والمتابعة : بأن يكون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه أفهم الخلق لمراد الله عز وجل ، وبهذا يكون العمل صالحاً ، وبالتالي يكون مقبولاً ، ومن ثَمّ يكون سبباً في سعادة الإنسان .
( مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ( هذا تخصيص للتعميم الوارد في (مَنْ عمل) لدخوله في عموم الاسم الموصول ، وذكر الخاص بعد العام يعني الاهتمام بذلك الخاص والعناية بشأنه ، فكان في ذكر (الذكر والأنثى) اهتمام بالنوع من حيث (الذكورة والأنوثة) ..
لأن الرجال قد يكونون أظهر حالاً من النساء في الأعمال الصالحة في الجملة ، فالمرأة أحياناً لا تصوم ولا تصلي ، وقد لا يكون مجال العمل الصالح أمامها متاحا بالقدر الذي يكون للرجل ، وخصوصا في مثل : الجهاد والعلم والكسب ، لهذا نُص هنا على النوع لبيان أن الأعمال المطلوبة منها كافية للحصول على الحياة الطيبة إذا قامت بها .
كما أن دخول ( مِِنْ ) الجارة دون أن يقال : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً ذَكَرا أَوْ أُنثَى (، فيه عناية بأبعاض هذين النوعين( الذكور والإناث ) أي : أي أحد منهم ، وفيه أيضا بيان أن مصدر ومبدأ العمل يكون منهما على حد سواء ، فليس الأمر هنا منصرفاً إلى العدد وكثرته ، ولا إلى جنس القائم به، بل إلى صلاح العمل ، وقيام المكلف به على الوجه المطلوب منه ، وفي هذا إيقاظ للمسئولية الفردية ، وتنويه بشأنها في إسعاد المجتمع كله ، وإلماح إلى أن سعادة الفرد هي لبنة في سعادة الكل .
وقيل بل ( مَنْ ) الموصولة غالباً ما يُقصد بها ذكور ، لأجل هذا تم النص على الإناث هنا .. ومجيء ( أو ) دون الواو في قوله تعالى : )مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ( بأن يقال : ) مِّن ذَكَرٍ و أُنثَى ( ؛ لبيان أن حصول ذلك من أحدهما ليس مربوطاً بحصوله من الآخر ، فقد تحصل المرأة على تلك الحياة ، ولا يحصل عليها الرجل ، أو العكس وهكذا ..
ولو قيل بالواو ( مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى ) لربما أوهم ذلك ضرورة الاشتراك بينهما في فعل العمل الصالح ، وقد يكون في هذا من إشعال المنافسة في كسب تلك الحياة ما يدفع إلى مزيد من العمل الصالح الحرص على حسنه وقبوله .
وذكر الرجل والمرأة بعنوان الذكورة والأنوثة ( ذكر، أنثى ) دون أن يكون الكلام : ( من رجل وامرأة ) ؛ لأن الذكورة والأنوثة أظهر في تمييز هذين الجنسين من حيث الأصل ، والأوصاف الأخرى تأتي للتمييز بينهما في مراحل لاحقة ، كما أن هذين الوصفين يحققان التمييز المذكور المربي للمسؤولية الفردية من غير إشعار بمدحٍ أو ذم ، وهذا هو المراد هنا ، والله أعلم ..
( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( هذه جملة حالية وقعت قيداً لما سبق ،وهذه الجملة مكونة من ضمير الغائب المنفصل:(هو) العائد على (مَنْ عمل) باعتبار الجنس ، أي جنس من يعمل ذلك ، وهو مبتدأ و ( مؤمن ) خبر ، وهذا التركيب ( وهو مؤمن ) فيه توكيد بسبب تكرار الإسناد ، فالإيمان فيه مسند إلى فاعله المعنوي مرتين : مرة على أنه خبره ، ومرة على أنه فاعله ؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل فعله ، فهذا التركيب في قوة ( مؤمنا مؤمنا ) ..
وقد يقال لماذا جاءت الحال جملة ولم تكن (من ذكر أو أنثى مؤمنين) ، أو (مؤمناً ، ومؤمنة) ؟ لو قيل ذلك ؛ لأنصرف الحال إلى واحد من الذكر أو الأنثى، والمراد أن ينصرف إلى (مَنْ عمل) لأنه الأعم والأشمل ، ولا يقوم بذلك إلا الجملة ( وهو مؤمن ) ، وإنما قيل (مؤمن) بالاسم دون (يؤمن) بالفعل لبيان أن المطلوب أن يكون الإيمان صفة ثابتة فيه ، مستقرة في قلبه ، لا أنه متغير متحول .
إلى هذا الحد انتهى ما يخص مقومات الحياة الطيبة ، انتهى ما يخص الشرط المفهوم من الموصول ( مَنْ) ، انتهى ما يخص المطلوب من المخلوق وبقي الجزاء والجواب والعطاء الرباني : ( فلنحيينه حياة طيبة )
اشتلمت هذه الكلمات الثلاث على الوعد العظيم بالحياة المبتغاة المطلوبة لكل عاقل ، إنها الحياة الطيبة ، وقد جاء تأكيد حصولها لمن قام بما تقدم (العمل الصالح والإيمان) بهذه المؤكدات :
1- الفاء المُشعِرة بترتب ما بعدها على ما قبلها .
2- اللام القسمية الدالة على التوكيد ، دون السين أو سوف للإشعار بسرعة الحصول .
3- التعبير بضمير الجمع ( نحن ) المضمر في الفعل ، دون ضمير الواحد ( لأحيي ) .
4- الفعل المضارع المشعر بتجدد تلك الحياة الطيبة الآن ، وفيما يستقبل من عمر ذلك الإنسان .
5- التعبير بمادة ( الحياة ) ( لنحيينه ) دون ( لنعيشنه ) أو ( لنجعلنه ) أو ما شابه ذلك لما في مادة الحياة من دلالة الحركة والنماء والخير ، فهي ضد الموت المشعر بالهمود والانقضاء والانقطاع ، كما أن في ذكر مادة الحياة ما يدل على أن ما كان من العيش على غير هذا المنهج لا يعد ( حياة ) وإن ظنه أهله كذلك ، كما قال سبحانه : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ( ، وكما قال سبحانه : )وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ([طه :124].
6- وجود نون التوكيد الثقيلة في الفعل .
7- وجود التجانس الصوتي بين ( فلنحيينه حياة ) مما يشعر بتطابق بين الفعل ( نحيي ) وهو ما يمارسه الإنسان ، وبين الاسم ( حياة ) وهو جنس الحياة الطيبة المطلوبة المبتغاة .
8- تنكير كلمة ( حياة ) فيه دلالة على الشيوع والشمول ، فهي كلمة تشمل كل صور الحياة السعيدة الهانئة .
9- التقييد بالوصف ( طيبة ) ، يجعل الحياة الممدوحة والموعودة بها هي ما كانت محصورة في هذه الصفة ( طيبة ) .
10- اختيار وصف الطيب خصوصاً ، فهو يدل على الزكاء وطيب الرائحة ، ومنه (الطيب) ، وعلى الخلو من كل صور النكد والكدر ومن وصف الحياة، ومما يدل على عظم هذا الوصف مجيئه مع ما يشعر بالفضيلة والخير من ذلك :
الكلام والقول كقوله تعالى : ) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( ، وقوله تعالى : )وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ( ، وقوله تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ( ، والبلد ، كقوله تعالى : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ( ..
وقوله تعالى : ) بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ، والحلال، كقوله تعالى: ) حَلاَلاً طَيِّباً (، وجنس الناس الممدوحين ، كقوله تعالى: ) وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ( وقد افتخرت عائشة بأشياء منها : أنها خلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما. وإذا كان المؤمنون قد حصلوا على هذه الحياة الهانئة ( الطيبة ) وعاشوا لذائذها ، كما قال بعضهم :
إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، وقال الآخر : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، أي: من العيش الطيب لجالدونا عليه بالسيوف ، وقال الثالث : إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش طيب ، وغير ذلك مما يدل على هناءة عيشهم وطيب حياتهم ..
فإذا كانوا قد عاشوا ذلك حقيقة ، فإن وصف الطيب المذكور يصاحبهم حتى عند موتهم ، كما قال سبحانه : ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ( ، ويستمر معهم حتى يدخلوا الجنة، كما قال سبحانه : )سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (.
إلى هذا الحد انتهى ما يخص الحياة الدنيا ، وبقي ما يخص الحياة الأخرى ، وهو الوارد في قوله تعالى : ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ، وقد أكد حصولهم في الآخرة على أحسن الأجر بعدد من المؤكدات على النحو التالي :
1) لام التوكيد القسمية .
2) ضمير الجمع( نحن ) المضمر في الفعل ، دون ضمير الواحد ( ولأجزي ) .
3) نون التوكيد الثقيلة .
4) مجيء الفعل بصيغة المضارع ليتناسب مع الغيب المستقبل .
5) التعبير بمادة ( الجزاء ) المشعرة بفضيلة عملهم واستحقاقهم للجزاء والأجر .
6) النص على مفعول الجزاء ، ( أجرهم ) ، مع ما في مادة الأجر من الإشادة بأعمال يستحقون بها الأجر ؛ لأن الأجرة لا تكون إلا مقابل عمل يطلب ، ولولا هذه المعاني لقيل مثلاً : ( ولنجزينهم خيراً ) دون التفصيل المذكور .
7) التعبير بـ( أحسن ) دون ( الحسن ) ، بأن يقال : ( بالحسن مما كانوا يعملون ) ، لما في ذلك من بيان عظيم فضل الله على عباده المؤمنين ، فإذا كان عَمَل أحدهم حسنا مرة ، وأحسن مرة فيعطي أجره على أساس الأحسن ، لا الحسن تفضلاً من الله ومنة .
8) ( ما ) الدالة على الشيوع مع ما فيها من المد المشعر بامتداد ذلك الشيوع وشموله ، ويؤيد ذلك ما في ( ما ) من الإبهام المصوّر لعظم يعطيهم ربهم .
9) وجود فعل الكون ( كانوا ) ، مع أن الكلام يمكن أن يتم دونه بأن يقال : ( بأحسن ما عملوا ) ، ولكن في ذكر هذا الفعل من الإشعار بعراقتهم في تلك الأعمال ، وقدم شأنهم فيها ما لا يخفى .
10) التعبير بمادة العمل وبالفعل المضارع (يعملون) يشعر بعظيم شأن العمل ، والاستمرار فيه ، ,وأثر ذلك في مكانة العبد يوم القيامة ، وعلو درجته ، أما دخول الجنة ابتداء فلن يكون إلا بفضل الله ورحمته .
وبقي ملمح وهو الاختلاف بين الفعلين ( فلنحيينه ) و ( لنجزينهم ) من حيث الضمير ، فالأول أفرد فيه الضمير ، والثاني جُمِعَ ، ولعل سر ذلك أن الحديث في الفعل الأول عن الحياة الدنيا ، والمذكور هو الوعد بطيب تلك الحياة ، ومبنى هذه الحياة حب الذات والتملك والحيازة ، فجاء ما يناسب حال الإنسان فيها من خصه بتلك الحياة الطيبة، لأنها مطلب كل إنسان حفزاً له على الطاعة ..
إضافة إلى أن الناس لن يجتمعوا جميعهم في هذه الحياة في مكان واحد وزمان واحد ، بل يموت بعضهم ، ويولد آخرون وهكذا ، فكان الاهتمام بالجنس لأنه هو الذي يمكن أن يجمعهم ، لا بالعدد ..
وأيضا لما كان الإحياء حياة طيبة أمر واحد لا يتفاوت فيه أحد ، فكأن أهله في ذلك فرد واحد ، أما في الفعل الثاني ( ولنجزينهم ) فالحديث عن الجزاء المبني على العمل والتكليف ..
ولأن الأصل في الجزاء التفاوت بين الناس جيء بضمير الجمع المشعر بالتغاير في أحوالهم يوم الفصل و القضاء ، كما أن الآخرة ليست موضع تنافس لانقضاء وقت العمل ، والناس فيها خلصت قلوبهم من شوائب حب النفس والانفراد ، لذا جاء الجمع في ضمير الفعل ، زيادة على ذلك أن الناس يوم القيامة يكونون مجتمعين جميعاً بخلاف الدنيا ، فناسب هنا ما يظهر كثرتهم وهو الجمع ، لا ما يتحدث عن جنسهم .
وأخيراً أستطيع القول بأن المتأمل لهذه الآية العظيمة يجد أنها بدئت بمادة العمل ( مَنْ عمل ) وختمت بالمادة نفسها ( يعملون ) ، بدئت بالماضي ، وختمت بالمضارع لبيان أن المقصود هو الحث والحض على العمل الصالح ..
وجعل هذا العمل الصالح المقيد بحالة الإيمان شرطاً في حصول ما تبتغيه كل النفوس البشرية، وهو الحياة الطيبة، ليكون ذلك أدعى إلى الإيمان والعمل الصالح ، وهذا أسلوب عظيم في تحبيب الخير للناس ، حيث تربط به محبوباتهم ومطلوبات أنفسهم ، فمعنى الآية ، من أراد السعادة والهناء فعليه بهذه المعادلة : العمل الصالح + الإيمان = الحياة الطيبة .
د / عويض بن حمود العطوي
عميد كلية المعلمين بتبوك سابقا
D_ahha@islamway.net
ــــــــــــــــ(1/86)
ضبط الوقت وأثره في إنتاجية المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
الاثنين 19 جمادى الآخرة 1429 الموافق 23 يونيو 2008
الخطبة الأولى
الحمد لله أولى من حُمِد، وأحبِّ من ذُكِر، وأحقِّ من شُكِر، وأكرمِ من تَفَضّل، وأرحمِ من قُصِد، أحمده سبحانه وأشكره، تَعَرّف إلى خلقه بالدلائل الباهرة والحجج القاهرة، وأنعم عليهم بالنعم الباطنة والظاهرة، والآلاء الوافرة المُتَكاثِرَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَدَّ الأرضَ فأوسعها بقُدْرِته، وقَدَّر فيها أَقْوَاتها بحكمته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، رفع ربُّهُ ذِكرَه فأعلاه وأجَلّه، وفي أعلا المنازل أكرمه وأحَلّه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أعِزّة على الكفّار وعلى المؤمنين أَذِلّة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، بدعوتهم وطريقتهم تَتّحِد الكلمة، وترتفع أركان المِلّة، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالدنيا غير مأمونة، ومَن عَزَمَ على السفر والرحيل تَزَوّد بالمؤونة، ومن صَحّت نيّتُه، وأخذ بالأسباب جاءته من ربه المعونة، من عَلِم شَرَف المطلوب جَدّ وعَزَم، والاجتهادُ على قَدْر الهِمَم، والنفسُ إذا أُطْمِعَت طَمِعَت، وإذا أُقْنِعَت باليسير قَنِعَت، وإذا فُطِمَت انْفَطَمَت، اهتمّ بالخلاص أهل التُّقى والإخلاص، وفرّط المفرّطون فندموا ولاتَ حينَ مَنَاص، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أيها المسلمون
قوّة الأمّة وتقدّمها وحُسن تديُّنها مَقِيسٌ بقوة إيمانها، وجودةِ عملها، ودقّةِ تنظيمها، ومِقدَارِ إنتاجها، وحُسنِ تدبيرها، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
عباد الله
ومع هبوب رياح الصيف وحلول مواسم الإجازات في كثير من البقاع والديار، وارتباط الإجازة عند بعض الناس بالتعطيل والبطالة وإضاعة الوقت وقتله؛ يحسن الوقوف وقفة نظر وتأمّل في العمل والإنتاج وساعات العمل وحفظ الوقت وضبط ساعات العُمُر وأوقات الراحة.
إن قُدرة المجتمعات على الإنتاج والعطاء وضبطِ ساعات العمل وكَسْبِ المعاش وأوقات الراحة من أدلّ الدلائل على القوّة، بل حُسنِ الإيمان والعمل الصالح وإدراك معنى الإصلاح.
تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآيات من كتاب الله فيما امتنّ الله على عباده من تهيئة أسباب المَعَاش من أجل حُسن المَعِيشَة، يقول عزّ شأنه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]، ويقول عزّ من قائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال جلّ وعلا: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الجمعة:10].
ثم تأمّلوا التنبيهَ على أوقات العمل وساعاته والراحة ومواعيدها، يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:9-11]، ويقول جلّ في عُلاه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [الإسراء:12]، ويقول جلّ وعلا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، ويقول في حقّ نبيّه محمد : إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} [المزمل:7].
أيها المسلمون
هذه هي آيات الله، وتلك هي سُننه في الليل وفي النهار وفي البشر، ولكنّ المتابع لمسالك بعض الناس ـ وبخاصّة في منطقتنا ومحيطنا في كثير ٍمن أفراد مجتمعنا ـ ليَدْهَشُ ويأسَى مما يلْفِتُ نظرَه من الغفلة عن هذه السُّنّة الإلهية والآية الربّانية، حين ينقلب عندهم الحال، فيجعلون نهارَهم سُبَاتًا، وليلَهم مَعَاشًا، بل لهوًا وعَبَثًا، إنه انتكاسة وانقلاب، بل فوضى واضطراب، وآثاره على الحياة والأحياء خطيرة في الإنتاج والصلاح والإصلاح، صحّية وبيئيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وغيرها.
نعم أيها الإخوة الأحبّة، إن مما يأْسَى له الناظرُ أن ترى أُسَرًا بأكملها، أو مُدنًا بكلّ أهلها، صغارِها وكبارِها، رجالِها ونسائِها؛ قد قلبوا حياتهم، وانقلبوا في مَعَاشهم، فيسهرون ليلَهم، ثم يصبحون في نهارهم غير قادرين على العمل والعطاء، سواءً أكانوا طُلابًا أم موظّفين، وسواءً أكانوا في أعمال خاصّة أم عامّة، فهم ضعفاء في الإنتاج، ضعفاء في المشاركة، مُقَصّرين في الأداء، مُفَرّطين في المسؤولية، لا ترى إلا ذُبُولَ الحاجِبَين، واحمرارَ العينين، قد أخذ منهم النُّعَاسُ والكسلُ كلَّ مَأخَذ، ضَعْفٌ في الجسم، ووَهَنٌ في القُوى، وقلّة في التركيز والأداء.
إن ظاهرة عكس السُّنن وتحويل وظائف النهار إلى الليل دليلٌ على التَسَيُّب والفوضى وضياع الضابط في الناس، بل قد تكون دلالةً من دلالات التَّرَهُّلِ المُهْلِك، والاتِّكاليّة المُدَمِّرة، وكأنّه لا هَمَّ لهم إلا تلبية أهوائهم ومُشْتَهَيَاتِهم، مُنْصَرِفين أو مُتَعَامِين عن حقيقة وجودهم، وطبيعةِ رسالتهم، وعظيمِ مسؤوليتهم، والجدِّ في مسالكهم. ويكفي المُخْلِصَ الصادقَ الناصحَ لأمته أن يُجِيل نظرَه في مجموعة من هذا الشباب التائه الضائع الذي يعيش على هامش الحياة، بل على هامش الزمن، في الليل مستيقظٌ بلا عمل والأمم الحيّة العاملة نائمة، ويكون نائمًا والأمم الحيّة العاملة مستيقظةٌ ساعَيِةٌ كادَّةٌ جادَّةٌ. ومع الأسف فإن الناظر المتأمّل لا يكاد يجد ناصحًا أو منكرًا لهذه المسالك التي لا تُحْمَد عُقْبَاها، بل إن عاقبتها خُسْرٌ في الأبدان والأموال والثمرات؛ مما يستدعي قرارًا حازمًا يردّ الناس إلى الصواب؛ ليكون الليل سَكَنًا وسُبَاتًا، ويكون النهار عملاً ومعاشًا.
ثم ماذا إذا صار الليلُ حركةً وعملاً لا نومًا ولا سُبَاتًا ولا سَكَنًا؟ سوف يزداد الصَّرْف والاستهلاك في كل المرافق، في مائها وإضاءاتها وطرقها وصيانة ذلك كله ونظافته، بل إن الأجهزة سوف تعمل فوق طاقتها ليلاً ونهارًا، مما يتولّد عنه الضعفُ والتَّسَيُّبُ والعَجْزُ والضَّجَرُ، ومن ثَمّ المشكلات الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
معاشر المسلمين
إنّ أول مَدَارِج الإصلاح ـ والأمة تبتغي الإصلاح والانتظام في صفوف الأمم القويّة العاملة الجادّة ـ إنّ أول ذلك القدرة على ضبط أنفسنا وأبنائنا، والتحكّم الدقيق في ساعات عملنا. إن هذه الانتكاسة التي شملت الموظّفَ والمسؤولَ والطالبَ والمعلّمَ والرجلَ والمرأةَ تحتاج إلى وقفة صادقة جادّة، وقرارٍ حاسمٍ يعيد الناس إلى الجادَّة، بل يعيدهم ليكونوا أسوياء يعملون كما يعمل الناس في كل بلاد الدنيا. ولا مُسَوّغ البتَّةَ للاحتجاج بالظروف الاجتماعية أو المناخية؛ لأنّ سُنن الله في الليل والنهار عامّة، تَنْتَظِم البشرَ كلَّهم في مجتمعاتهم ومَنَاخَاتهم وقارّاتهم، فربُّنا جعل الليلَ سَكَنًا، وجعل النهارَ مَعَاشًا، ومحا آيةَ الليل، وجعل آية النهار مُبْصِرَة؛ لابتغاء فضله سبحانه، وذلك لأهل الأرض كلهم، بل جاء الخطاب في قوله سبحانه بعد أداء صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، وهذا لا يكون إلا بعد الظهر وفي شدّة حرارة الشمس في الصيف، وهو خطاب تَنَزّل أول ما تَنَزّل على العرب في جزيرتهم.
إن من أهمّ آليّات الإصلاح الذي ينادي به المصلحون المُخْلِصُون النظرَ الجادّ في هذه القضية، وإعادةَ ترتيب ساعات العمل، وحملَ الناس على ذلك، وأَطْرَهم عليه أَطْرًا، حتى يتحوّل المجتمع إلى مجتمع مُنْضبِط عامل مُنْتِجٍ يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهّلاته وكفاءته في كل طبقاته رجالاً ونساءً وشبابًا وكهولاً، يجب أن يكون المجتمع نَهَارِيًّا لا ليلِيًّا، فلا عمل في الليل إلا في حدود ضيّقة في بعض الأعمال الخاصّة من حراسة ومُنَاوَبة وأَشْبَهِها.
أيها المسلمون
إن أول ما يجب التطلّع إليه أن تكون الأمةُ أمةَ بُكُور، في بُكُور الصباح تغدو مخلوقاتُ الله وأممُ الأرض كلُّها تبتغي فضل الله، إن يومكم الإسلامي ـ أيها المسلمون، أيها الشباب ـ يبدأ من طلوع الفجر، وينتهي بعد صلاة العشاء، قال بعض السلف: "عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يُرزق؟"، وأصدق من ذلك وأبلغ قول نبينا محمد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وابن عمر وصَخْر بن وَدَاعَة رضي الله عنهم في قوله : "اللهم بارك لأمتي في بُكُورها" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه[1]، ولفظ أبي هريرة: "بُورِك لأمتي في بُكُورها"[2] ، وكان صَخْر راوِ الحديث لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكَثُر مالُه حتى كان لا يدري أين يضعه.
يومكم الإسلامي ـ يا أهل الإسلام ـ مُرتَبِطٌ ومُفْتَتَحٌ بصلاة الصبح، وفيها قرآن الفجر: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. يستقبل بها المسلمُ يومَه، ويستفتح بها نهارَه وعملَه، دعاه داع الفلاح، فالصلاة خير من النوم. استشعر عبودية ربّه والإيمان والعمل الصالح، يرجو البركة ونشاط العمل وطِيب النفس، نعم طِيب النفس ونشاط البدن مِصْداقًا للحديث المتّفق عليه، إذ يقول : "يَعْقِدُ الشيطانُ على قافِيَة رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، ويَضْرِبُ على مكان كل عُقْدَة: عليك ليلٌ طويلٌ فارْقُد، فإن استيقظ وذكر الله انحلّت عُقْدَةٌ، فإن توضّأ انحلّت عُقْدَةٌ، فإن صلّى انحلّت عُقْدَةٌ، فأصبح نشيطًا طَيّب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفسِ كَسْلانَ"[3]. ومن صلّى الصُّبْح فهو في ذمّة الله. ولقد ذُكِر عند النبي رجلٌ فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة! فقال رسول الله : "ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه" أخرجه البخاري[4].
أهل البُكُور قوم موفّقُون، وجوههم مُسْفِرَة، ونَوَاصِيهم مُشْرِقة، وأوقاتُهم مُباركة، أهل جِدّ وعمل وسعي، يأخذون بالأسباب مُفَوّضين أمرهم إلى ربّهم، متوكّلين عليه، فهم أكثر عملاً، وأعظم رضًا، وأشدّ قناعة، وأرسخ إيمانًا، والبركات فُيُوضٌ من الله وفُتُوحٌ، فتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، لا تقع تحت حَصْر لا في عمل ولا في عَدَد ولا في صورة ولا مكان ولا زمان ولا أشخاص، بركات من السماء والأرض، بركات بكل أنواعها وألوانها وصورها، مما يَعْهُدُ الناسُ ومما لا يعهدونه. فاستقيموا ولن تُحْصُوا، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20].
عباد الله
وحين يترك الناس البُكُور، ويُهْمِلون الساعات المباركة؛ تصبح أوقاتهم ضيّقة، وصدورهم حَرِجَة، وأعمالهم مُضْطَرِبة.
وبعد، فهذا هو ديننا، وهذا هو نهجنا، وهذه هي إرشادات نبيّنا، فلماذا يسبقنا الآخرون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:19-21].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد . وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي لكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله المُتَفَرِّد بالقُدْرة، أحمده سبحانه لا تُقَدِّرُ الخلائقُ قَدْرَه، وأشكره على نعمٍ لا تُحصى، ولا يُطيقُ العبادُ شُكْرَه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، جَلّ صفةً، وعزّ اسمًا، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله علا شرفًا وإلى ذُرَا الأخلاق سَمَا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا على الحق أعلامًا، وعلى الهُدَى أنْجُمًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا.
أما بعد:
أيها المسلمون،
البُكُور استقامة مع الفطرة في المخلوقات والأشياء، والتبكير دليل قوّة العَزْم وشدّة التّشْمِير، ومن أراد علمًا أو عملاً فليُبَادر بالبُكُور، فذلكم علامة اليقظة والنّباهة والجدّ والحَزْم والبُعْد عن الغفلة والإهمال والفوضى، روى مسلم في صحيحه أن رجلين جاءا إلى عبد الله بن مسعود يزورانه بعد الفجر، فأذنت لهم الجارية بالدخول فترَدّدَا، فقال لهما عبد الله بن مسعود: "ادخلا، أتظنان بابن أمّ عَبْدٍ الغفلةَ؟!"[5].
في البُكُور صفاء الذهن، وجودة القَرِيحَة، وحضور القلب، ونَقَاء النفس، ونور الفكر، فيه استجماع القُوى، واستحضار المَلَكَة، وانبعاث الفُتُوّة. في البكور الهواء أنقى، والعبد أتقى، والنفس أطيب، والروح أزكى. نسائم الصباح لها تأثيرها اللطيف على النفس والقلب والبدن والأعصاب، والجسم يكون في أفضل حالاته وأكمل قواه. من غريب ما قالوا: إن أصحاب الأعمار الطويلة هم من القوم الذين يستيقظون مُبَكّرين. بل قالوا: إن الولادات الطبيعية في النساء تقع في ساعات النهار الأولى الباكرة. بل إن بعض الباحثين يُرْجِع الاكتئاب والأمراض النفسيّة إلى ترك البُكُور ونوم الضُّحَى.
وبعد، فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ حين يجتمع للعبد العاملِ الجادِّ البُكُور والبركة، بركة المال، وبركة العمل، وبركة الوقت، فينتفع بماله، ويُفْسَحُ له في وقته، ويُقْبِل على عمله، فينجز في الدقائق والساعات ما لا ينجزه غيره ممن لم يُبارَك له في أيام وليالي، يُبارَك له فيكون الانشراح والإقدام والإقبال والرضا والإنجاز.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا سُنَنَ الله، وخذوا بالجدّ من أعمالكم، والحَزْم من أموركم، يُكتَب لكم الفلاح في الدنيا والآخرة، فحيّ على الفلاح، فالصلاة خير من النوم.
-----------------
[1] أخرجه من حديث صَخْرِ بنِ وَدَاعَةَ الغَامِديِّ: الإمام أحمد (15012)، وأبو داود في الجهاد (2602)، والترمذي في البيوع (1212)، وابن ماجه في التجارات (2236)، قال الترمذي: "وفي الباب عن علي وابن مسعود وبُرَيدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر... وحديث صخر الغامدي حديث حسن، ولا نعرف لصخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وقد روى سفيان الثوري عن شعبة عن يعلى بن عطاء هذا الحديث"، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (1693).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (1/229)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2841).
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (776) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1144)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (822).
ــــــــــــــــ(1/87)
سجن المؤمن وجنة الكافر
!! عمر الحبر يوسف*
2007-02-18
هو حديث عن الدنيا، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والحق أني ما كنتُ أحسبه حديثاً، بل كنتُ أظنه أثراً لأحد الصحابة أو التابعين كذلك الأثر المنسوب إلى سيدنا عمر بن الخطاب: (العدل جنة المظلوم وجحيم الظالم)، حتى نبهَّني أخ كريم إلى أن الكلام من حديثه صلى الله عليه وسلم وأنه في صحيح مسلم، وإذا بي أجده في رياض الصالحين!
وقد استوقفني هذا الحديث كثيراً.. فالمؤمن أكبر من أن يُسجن في سجن ولو كانت الدنيا ذلك السجن.. والكافر أشقى من أن تكون له جنة في الدنيا أو في الآخرة، وأي جنة تكون له وهو المعرض عن ذكر ربه فما ينفك يعيش ضنكاً.
نعم المؤمن أكبر من الدنيا، فحقيقة الإيمان المستقرة في قلبه هي الحقيقة التي قامت عليها السموات والأرض، وهي الحقيقة التي تصله بالله جل شأنه مالك الملك ..فما الدنيا ؟
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
إن الذي يُفهم من هذا الحديث الشريف هو أن هناك ثمة مقارنة أو مفاضلة تُعقد بين نعيم ونعيم وجحيم وجحيم، فالمؤمن في الدنيا مع ما أعده الله له من نعيم في الآخرة هو في سجن، والكافر في الدنيا مع ما أعده الله له من جحيم في الآخرة هو في جنة.
وأصبح ما يمُكن أن يفهم به هذا الحديث هو تصوُّر أن ليس للمؤمن في هذه الدنيا من نصيب بل هي سجنهُ، وأن هذه الدنيا خالصة للكافر فهي جنته!!
وأنا لا أسوق هذا الفهم القبيح من باب الإفتراض أو التخيل بل هو فهم واقع متحقِّق عند بعض الناس، حتى جاء من المسلمين من ينصح ابنه بأبيات من الشعر يذمّ له فيها الدنيا ويُزهّده فيها إذْ يقول له:
سُجِنتَ بها وأنت لها تحبُُّ *** وكيف تحبُّ ما فيه سُجنتا ؟
ولم تُخلقْ لتعمرَها ولكن *** لتعبرَها فجِدّ لما خُلِقتا
وإنْ هُدِمَتْ فزدها أنت هدماً *** وأصلح أمرَ دينكَ ما استطعتا
ولك أن تتصور أخي القارئ الشقاء المقيم الذي يمكن أن يحل بهذه البشرية جميعاً لو عمل ذلك الابن -وعمل معه الناس- بتلكم النصيحة فزاد الدنيا هدماً!!
إن الأحاديث التي تُزِهدِّ في الدنيا كثيرة، تفيض بها كتب الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يُشبهِّ حاله فيها بحال الغريب العابر والراكب المسافر، وقد يأمر أصحابه بتمثِّل هذه الحال: (كن في كأنك غريب أو عابر سبيل)، (مالي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحتَ شجرة ثم راح وتركها).
والغاية من مثل هذه الأحاديث هي حمل المؤمن على حال من الصلاح عجيبة؛ ليعيش في الدنيا ولا تعيش فيه، ويأكل منها ولا تأكل منه، يرتفع بإيمانه عن الإخلاد إلى الأرض، ويسمو بروحه وخلقه فلا يرتد إلى أسفل سافلين ويستغني بربه سبحانه عن العالمين.
إن الإيمان منهج حياة، يصل حياة الدنيا بحياة الآخرة.. بل هي حياة واحدة فما الحياة الدنيا إلا ساعة من نهار، وما الموت إلا زيارة للمقابر، وقوم نوح عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من خطيئتهم اغرقوا فادخلوا ناراً - وانظر إلى هذه الفاء-!!
وهذا المنهج فيه سعادة الدارين وهو الضامن لحياة -واحدة- طيبة الزعيم بها: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}[1]، فالمؤمن بإيمانه يربح الدنيا والآخرة، والكافر بكفره يخسرهما جميعاً.. خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. والإنسان في هذه الدنيا مستعمر مستخلف، وصالح عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يقول لقومه: {أعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه}[2]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون)، فالدنيا ليست مذمومة في ذاتها وإنمِّا الذم في الاغترار بها وفي جعلها أكبر الهم ومبلغ العلم، أمَّا إذا عمرها صاحبها بصالح العمل فهو الصالح حقاً وهي الطيبة الحلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله).
والناظر في القرآن الكريم يجد أن الإيمان والعمل الصالح موجبان لثواب في الدنيا قبل الآخرة.. مُحقِّقان لمكاسب دنيويَّة يطلبها الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم برّهم وفاجرهم، ومن ذلك التمكين في الأرض وبسط السلطان والنفوذ، فهذا مما يسعى إليه صاحب أي فكرة، فالفكرة -أياً كانت- لابد لها من قوة تدفع عنها وتحميها والله عزّ وجلّ يقول: {وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}[3]، وهذا الأمن الذي وجدناه في الآية آنفاً هو المطلب الأول لكل المجتمعات الإنسانية فإذا فُقِد سادت الفوضى واختلَّ النظام وفَسُد الحال، والأمن الحقيقي لا يكون إلا للمؤمن: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}[4].
ومما يطلبه كل الناس كذلك السعة في الرزق والبسط في الخير والبركة في المال والولد، ونوح عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لما دعا قومه قال لهم: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً (12)}[5] والله عز وجل يقول: {ولو أنّ أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}[6]، ويقول عن أهل الكتاب: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}[7]. فالاستقامة على الطريقة موجبة لتنزل بركات السماء.
إن المؤمن يُقبل على الحياة يبتغي إصلاحها.. إن قامت الساعة وفي يده فسيلة لم يقم حتى يغرسها إن استطاع.. يضرب في الأرض ويمشي في مناكبها ابتغاءاً للرزق وحرصاً على النفع يجتهد في ذلك الاجتهاد كلهَّ، لكنه يعلم أن اجتهاده فيما ضُمن وتقصيره فيما طُلب منه دليل على انطماس البصيرة فيه!!
يعلم أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة ويعلم كذلك أن لا حسد إلا في أثنين: رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار.
يعلم أن الابتلاء يكون بالشر والخير، ويعلم أن الفتنة تكون بالغنى المُطْغِي؛ كما تكون بالفقر المنسي، يعلم أن الإمارة خزي وندامة يوم القيامة إذا لم يقم فيها بحقها فيرغب عنها، ويعلم أن أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل فيرغب فيها!!
ومن رحمة الله بنا -معاشر المسلمين- وبالناس جميعاً أنه لم يذكر في كتابه فرعون وهامان وصاحب إبراهيم عليه السلام النمرود دون أن يذكر داؤد وسليمان ويوسف وذا القرنين عليهم السلام جميعاً لئلا يتوهم أن الملك لا يكون إلا لطاغية مستبد كافر!!
ومن رحمته سبحانه بنا كذلك أن جعل في صدر الإسلام الأول رجالاً كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف إلى جانب عمار وأبي ذر وابن مسعود عليهم الرضوان جميعاً لئلا يُظَّن أن الإسلام حكر على الفقراء المستضعفين!!
إن المؤمن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً، ولا يكون فارغاً سبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.. وعمل الدنيا ذاته ببركة الإيمان يكون عمل آخرة، ألم يقل الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) ؟!.
والمؤمن كذلك لا يعرف علوماً للدنيا وعلوماً للآخرة فكل علم ينفع الإنسان في دنياه وينفع به غيره ويعرف به ربه فهو من علم الآخرة كالطب والفلك والجيولوجيا ونحو ذلك.
إن ديننا لا يعرف فصاماً نكداً بين دنيا وآخرة، ودين ودولة، وعقل وعلم، ومال وصلاح، وعمل وتوكل.. ونحن لا نكون إلا به.. فهل نحن مُشمِّرون؟
---------------
[1] النحل (97)
[2] هود (61)
[3] النور (55)
[4] الأنعام (82)
[5] نوح (12،11)
[6] الأعراف (96)
[7] المائدة (160)
ــــــــــــــــ(1/88)
ثلاثون سببا لدخول الجنة من القرآن وصحيح السنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد. هذه رسالة بعنوان ( ثلاثون سببا لدخول الجنة ) جمعت فيها عددا من الآيات والأحاديث الصحيحة التي ذكرت فيها أعمال تكون سببا بفضل الله في دخول فاعلها الجنة ، ولكن لا يعني أن هذه الأعمال تضمن لأي إنسان يعملها دخول الجنة ، مهما كان اعتقاده فالجنة لا يدخلها إلا مؤمن ، فلو قام أحد الكفار أو المشركين ببعض هذه الأعمال أو جميعها فلن تنفعه ولن تدخله الجنة لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لأن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ** [ الزمر : 65]
وقال تعالى عن الكفار { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا ** [ الفرقان :23]
لذلك فالإسلام أول الشروط اللازمة لقبول أي عمل
أما الشرط الثاني الذي يجب أن يصاحب أي عمل ليكون مقبولا عند الله تبارك وتعالى هو الإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى ، أي أن الذي قام بالعمل يجب أن يقصد به وجه الله تبارك وتعالى دون أن يشرك في قصده أي مخلوق آخر والدليل قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ،وابتغي به وجهه ) [ رواه النسائي ، صحيح الجامع 1856]
أما الشرط الثالث لقبول العمل فهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لذلك اقتصرنا في هذه الرسالة على الأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
أسأل الله العلي القدير بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل وجميع أعمالنا خالصة لوجهه سبحانه وتعالى .
وأن ينفعني بهذا العمل وجميع إخواني المسلمين ويكتب لي ولوالدي أجره يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإن أصبت فمن الله وبفضله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
2،1 - السبب الأول والثاني : ( الإيمان والعمل الصالح ) :
جاء في القرآن الكريم الأيمان كأهم الأسباب الموصلة إلى الجنة بإذن الله تبارك و تعالى ، ولكنه دائما يأتي مقرونا بالعمل الصالح لذلك لا تكاد تجد موضع فيه ذكر للأيمان وأنه سببا لدخول الجنة إلا وهو مقرون بالعمل الصالح ، وباب الأعمال الصالحة والحمد لله واسع وكبير وطرق كسب الثواب عظيمة ومتعددة لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى ، قال تبارك وتعالى : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ** [ سورة البقرة :82]
والآيات والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى كثيرة جدا يصعب إحصائها على سبيل المثال لا الحصر أنظر :سورة البقرة الآيات : 25 ،82 - سورة لقمان الآية 8، سورة الكهف : آية 107 ، سورة الحج آلايات14 ، 23 ، 56_سورة الفتح الآية 5 _ سورة الحديد الآيتان : 12 ، 21_ سورة التغابن الآية 9 _ سورة الطلاق الآية 11 _ سورة البروج الآية 11_ سورة البينة الآية 7 _ سورة المؤمنون الآيات 1،11_ سورة العنكبوت الآية 57.
3- السبب الثالث : ( التقوى )
ومن أهم تعريفاتها : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل .
ومن تعريفات التقوى أيضا هو : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ( أي كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ) ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله .
ولمزيد من التفصيل عن التقوى ومعناها أنظر ((مدارج السالكين )) و (( إغاثة اللهفان )) تأليف ابن القيم رحمه الله ، قال تبارك وتعالى { إن المتقين في جنات وعيون ** [ سورة الحجر : 45]
بل الجنة أعدت للمتقين ، قال تبارك وتعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ** [ سورة آل عمران : 133]وقال صلى الله عليه وسلم ( أكثر ما يدخل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق ، وأكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج ) [ أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد سلسلة الأحاديث الصحيحة 977].
السبب الرابع : ( طاعة الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ):
قال تبارك وتعالى :{ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتولى يعذبه عذابا أليما ** [ سورة الفتح : 17] وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ) قالوا يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) [ فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 /249]
السبب الخامس : ( الجهاد في سبيل الله )
ويكون بالقتال في سبيل الله بالنفس والمال قال تبارك وتعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن .. ) [ سورة التوبة : 111]
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ** [سورة الصف : 10 _12]
السبب السادس : ( التوبة)
فالتوبة تجب ما قبلها وكما قال صلى الله عليه وسلم ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) [ رواه ابن ماجة وغيره ، صحيح الجامع 3008]
وقال تبارك وتعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلون شيئا ** [ سورة مريم :60]
7- السبب السابع : ( الاستقامة على دين الله )
قال تبارك وتعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءا بما كانوا يعملون ** [ سورة الأحقاف : 13]
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال ( قل آمنت بالله ثم استقم ) [رواه مسلم شرح صحيح مسلم لنووي : 2/367]
8- السبب الثامن : ( طلب العلم لوجه الله تبارك وتعالى )
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ...ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ،و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) [ شرح صحيح مسلم لنووي 17/24]
9_ السبب التاسع (بناء المساجد )
في صحيح البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة ) [ فتح الباري 1/544]
10_ السبب العاشر (حسن الخلق )
قال صلى الله عليه وسلم ( أنا زعيم بيت في ربض الجنة ، لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ، وإن كان مازحا ، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ) [ رواه أبو داود والضياء ، صحيح الجامع 1464]
قال صلى الله عليه وسلم ( أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق ، وأكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج ) [ تقدم تخريجه ] وحسن الخلق يدخل فيه أشياء كثيرة لخصتها عائشة _ رضي الله عنها عندما سُئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ( كان خلقه القرآن ) [رواه مسلم وأحمد وغيرهما ] والرسول هو قدوتنا وقد امتدحه تبارك وتعالى بقوله { وإنك لعلى خلق عظيم ** [ القلم : 3 ]
فلننظر في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وسيرة أصحابه رضي الله عنهم لنتعلم ما هو الخلق الحسن وكيف نكتسبه . ومن أفضل الكتب التي تحدثت عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه كتاب مختصر الشمائل المحمدية ) للإمام الترمذي رحمه الله اختصار وتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني .
11_ السبب الحادي عشر : ( ترك المراء )
قال صلى الله عليه وسلم ( أنا زعيم بيت في ربض الجنة ، لمن ترك المراء وإن كان محقا ...) [ تقدم تخريجه ]
12 _ السبب الثاني عشر : ( ترك الكذب ولو مازحا )
قال صلى الله عليه وسلم ( أنا زعيم ربض في الجنة ، لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وبيت وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، ... ) [تقدم تخريجه ]
13 _السبب الثالث عشر ( المداومة على التطهر عند كل حدث وصلاة ركعتين بعد الأذان )
روى الأمام الترمذي في سننه والحاكم وابن خزيمة في ( صحيحه ) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : أصبح رسول الله يوما فدعا بلال ، فقال : ( يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ؟ إنني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك [ أي صوت مشيك ] أمامي ؟ ) فقال بلال : يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بهذا )
[ صحيح الترغيب والترهيب 194 ]
14_ السبب الرابع عشر : ( الذهاب إلى المسجد والعودة منه لأداء الصلوات )
روى الأمام مسلم في صحيحه والأمام البخاري في صحيحه وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) [ شرح صحيح مسلم للنووي 5/176] ويقول الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث : ( قوله صلى الله عليه وسلم : أعد الله له في الجنة نزلا ، النزل ما يهيأ للضيف عند قدومه)
15_ السبب الخامس عشر : ( الإكثار من السجود لله تبارك وتعالى )
روى الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : ( سل ) ، فقلت : أسأل مرافقتك في الجنة ، فقال ( أو غير ذلك ) ، قلت : هو ذاك ، قال: ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) [ شرح صحيح مسلم النووي 4/ 451]
16 _ السبب السادس عشر : ( الحج المبرور )
قال صلى الله عليه وسلم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) [ رواه البخاري وغيره فتح الباري 3/382]وقال صلى الله عليه وسلم : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) [ رواه الأمام أحمد الطبراني ، صيح الجامع 3170]
17_ السبب السابع عشر : ( قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة )
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت ) [ أخرجه النسائي وابن السني وغيرهما _ السلسلة الصحيحة 972]
كما أن هناك أذكار أخرى وعد من قالها موقنا بها الجنة على سبيل المثال في صحيح البخاري عن شداد بن أوس _ رضي الله عنه _عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار: أن يقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبو لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي ، اغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )
قال: ومن قالها في النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ) [ فتح الباري 11/97]
18_ السبب الثامن عشر : ( صلاة اثنتي عشرة ركعة كل يوم وليلة تطوعا لله تعالى )
عن أم حبيبة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى في يوم وليلة اثنتين عشرة ركعة بني له بيت في الجنة : أربعا قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء ، وركعتين قبل صلاة الغداة [ الفجر ] ) [ رواه الترمذي ، صحيح الجامع 6362]
19 _السبب التاسع عشر : ( إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصلاة بالليل )
قال صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس : أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ) [ رواه ابن ماجه وغيره . صحيح سنن ابن ماجه 1097]
20_ السبب العشرون : ( الصدق في الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحفظ الفرج وغض البصر وكف اليد )
عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اضمنوا لي ستا من أنفسكم اضمن لكم الجنة ، اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ) . [ رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1470]
21_ السبب الحادي والعشرون : ( وهو خاص بالنساء ) ( أداء الصلوات الخمس كما أمر الله تبارك وتعالى وصيام رمضان وإحصان الفرج وإطاعة الزوج)
روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحصنت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها: أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت ) [ صحيح الجامع 660]
22 _ السبب الثاني والعشرون ( القيام بتربية وإعالة ثلاث بنات أو أخوات ) :
أخرج أبو يعلى في "مسنده" عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كن له ثلاث بنات ،أو ثلاث أخوات،فاتقى الله وأقام عليهن كان معي في الجنة هكذا،وأومأ بالسبابة والوسطى) [سلسلة الأحاديث الصحيحة 295] 0وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي (4 / 281) واللفظ له، قال صلى الله عليه وسلم ( من عال جارية دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه)
23 السبب الثالث والعشرون: (ا لاحتساب و الصبر على موت لأولاد والأصفياء):
قال صلى الله عليه وسلم : ( من احتسب ثلاثة من صلبه ، دخل الجنة قالت امرأة :واثنان؟قال:واثنان )[ رواه النسائي وابن حبان ، صحيح الجامع 5969] وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد ، لم يبلغوا حنثا ، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) [رواه الأمام احمد والنسائي وابن حبان ، صحيح الجامع 5781] وروى الأمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى :ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ، ثم احتسبه إلا الجنة ) [ صحيح الجامع 8139]
24 السبب الرابع والعشرون : ( كفالة اليتيم )
روى الأمام البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى ) [ فتح الباري 10/436]
25 _ السبب الخامس والعشرون : ( عيادة المريض أو زيارة أخ في الله )
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من عاد مريضا ,، أو زار أخا له في الله ، ناداه مناد : أن طبت وطاب ممشاك ، وتبوأت من الجنة منزلا ) [رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع 6387]وقال صلى الله عليه وسلم ( من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ) [ رواه مسلم ،النووي 16/361]
26 السبب السادس والعشرون : ( المحافظة على خصلتين )
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم ، إلا دخل الجنة ، هما يسير ومن يعمل بهما قليل ، يسبح في دبر كل صلاة عشرا ، ويحمد عشرا ، ويكبر عشرا ، فذلك خمسون ومائة باللسان ، وألف وخمسمائة في الميزان ، يكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه ، ويحمد ثلاثا وثلاثين ، ويسبح ثلاثا وثلاثين ، فتلك مائة باللسان ، وألف في الميزان )فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها ، بيده ، قالوا : يا رسول الله !كيف ( هما يسير ، ومن يعمل بهما قليل ) ؟ قال يأتي أحدكم ( يعني ) الشيطان في منامه فينومه قبل أن يقوله ويأتيه في صلاته فيذكره حاجة قبل أن يقولها ) [ رواه أبو داود والترمذي وقال ( حديث حسن صحيح ) والنسائي وابن حبان في صحيحه ( صحيح الترغيب 603]
27 السبب السابع والعشرون : ( السماحة في البيع والشراء )
روى الأمام البخاري في ( التاريخ الكبير ) والنسائي وغيرهما عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( أدخل الله عز وجل الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا ، وقاضيا ومقتضيا ) [ سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1181]
28 السبب الثامن والعشرون : ( التجاوز عن المعسر )
روى الأمام مسلم _رحمه الله _ في صحيحه عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن رجلا مات فدخل الجنة فقيل له ما كنت تعمل " قال فأما ذكر وإما ذكر " فقال إني كنت أبايع الناس فكنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة أو في النقد فغفر له ) [شرح صحيح مسلم للنووي 10 / 483]
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه ، إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا ، فلقي الله فتجاوز عنه ) [ شرح صحيح مسلم للنووي 10/ 485]
29السبب التاسع والعشرون : ( مجموعة أعمال صالحة إذا اجتمعت في المسلم في يوم دخل الجنة بفضل الله ) روى الأمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : فمن تبع منكم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال أبو بكر : أنا ، قال فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟ فقال أبو بكر : أنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة " [ شرح صحيح مسلم للنووي 15 / 164 ]
30 السبب الثلاثون : ( الصبر على فقد نعمة البصر )
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ( يقول الله تعالى : من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة ) [ رواه الترمذي ، صحيح الجامع 8140]
ــــــــــــــــ(1/89)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة المؤمنون
يقول الله جل في علاه ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فألئك هم الفاسقون ) فأمة محمد صلى الله عليه وسلم موعودة بالنصر والتمكين في الأرض والاستخلاف، وهذا وعد من الله لا يتخلف ولا يتبدل، وقد تحقق هذا الوعد في صدر هذه الأمة لما قاموا بما أوجب الله عليهم من الإيمان والعمل الصالح فمكنهم الله من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها وحصل الأمن والتمكين التام، وهذا التمكين ليس خاصاً بصدر هذه الأمة بل هو عام وماض إلى قيام الساعة لكنه مشروط بشرط الإيمان والعمل الصالح كما أن استمرار التمكين للأمة مشروط بقول الله تعالى ( الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد ضمانات استمرار التمكين لهذه الأمة بل إن الأمة ما نالت الخيرية على سائر الأمم إلا لقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) فإن بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الإيمان بالله اتصال وثيق لذلك وصف الله المؤمنين والمؤمنات بقوله:( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) ووصف المنافقين الذين انتقض الإيمان من قلوبهم على النقيض من ذلك تماماً فقال سبحانه ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ) لذلك كان ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليلاً على زوال الإيمان من القلب أو ضعفه كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) متفق عليه وفي رواية ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ).
فمن ذلك نعلم يا عباد الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان في هذه الأمة وأمان من الزيغ والطرد من رحمة الله وإلا فانظروا في حال بني إسرائيل لما تركوا هذه الشعيرة بالكلية ماذا حل بهم ؟ قال تعالى ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن من منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) هذا ما حلّ ببني إسرائيل لعن وطرد من رحمة الله، لأن المنكرات أصبحت تشكل فيهم ظواهر عامة ولم تكن مقتصرة على بعض الأفراد فحسب. بل أضحى المنكر سمةً بارزةً من سمات المجتمعات الإسرائيلية، مع ما قوبلت به تلك المنكرات من الصمت وترك التناهي فحل عليهم الغضب من الله.
عباد الله:
إن المعصية والمنكر قد يوجدان في كل مجتمع وأمة؛ لكن طبيعة المجتمع المسلم حقاً لا تسمح أن يكون المنكر وأهله هم الذين يمثلون عرف المجتمع واتجاهه، فمن المؤشرات المرَضية الخطيرة أن يكون المنكر سهل التناول، سهل الظهور في المجتمع فهو مبذول لمن أراده.
أما إن كان المنكر محارباً مع وقوعه، ولا يتمكن من الظهور علناً في المجتمع، ولو وقع شيء من ذلك أُدِّب صاحبُه، فإن هذا دليل على قوة ذلك المجتمع وتحقق الخيرية فيه، فترى أهل الفساد في مثل ذلك المجتمع ضعفاء لا يتجرأ أحد منهم على إظهار منكره فيكونون منبوذين محاربين من قبل عامة أفراد المجتمع.
أيها الأخوة المؤمنون:
إن الواجب علينا ونحن نتحدث عن هذه الشعيرة العظيمة أن نذكر نعمة الله فنشكرها بما من به علينا في هذه البلاد - حرسها الله - من إقامة هذا الواجب العظيم وصبغه بالصبغة الرسمية وهذا بلا شك يعكس سر التميز الواضح الذي تتميز به هذه البلاد النابع من تطبيق ولاة الأمر فيها للشريعة الإسلامية امتثالاً للآية المتقدمة ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) قال الضحاك: هو شرط شرطه الله على من آتاه الملك.
فشكلت الرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو النظام الوحيد المطبق في العالم الإسلامي كله فالرئيس العام لهذه الهيئات بمرتبة وزير.
وقد نفع الله بجهاز الحسبة في هذه البلاد نفعاً عظيماً فهو سفينة النجاة بل إن رجال الحسبة هم نجاة السفينة سفينة الأمة يأخذون على أيدي السفهاء الذين يخرقون السفينة بحجة الحرية الشخصية قال صلى الله عليه وسلم ( فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) متفق عليه
فشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم ضمانات حقوق الإنسان لحمايته من التعدي والظلم ومن لصوص الأغراض ومدمري الأخلاق والعقائد.
فنسأل الله أن يجعلنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأن يرد كيد المفسدين في نحورهم إنه لقوي عزيز.
بارك الله لي ولكم بالقرآن
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها الأخوة المؤمنون
إن المتأمل لكثير من وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة ليلحظ بدهشة عجيبة الهجوم غير المبرر على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المكر وعلى رجالها وتصوير أفعالهم بما تشمئز منه النفوس واختلاق القصص والأحاديث الكاذبة عنهم بل والمناداة بإلغاء جهاز الهيئة. كل ذلك يعكس لنا ما وصلت إليه الهيئة من مكانة مرموقة قد غضت بها حلوق أولئك النفر .
إن الذي يحارب هذا الجهاز المبارك ورجاله ما هو إلا أحد ثلاثة:
إما جاهل عيي إمعة يقول ما يلقى إليه من بعض الصحف من أعداء الوطن وأعداء هذه الجزيرة وأعداء الحياة الإسلامية أو من بعض القنوات العربية.
وإما أن يكون ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر فيكره كل مظهر من مظاهر الانتماء لهذا الدين
وإما أن يكون منحرفاً شهوانياً منعه وجود الهيئة من ممارسة شهواته وربما يكون قد سجلت عليه لدى الهيئة بعض القضايا فناصبها العداء.
إننا حين نقول ذلك يا عباد الله لا ندعي لرجال الحسبة الكمال أو أنهم معصومون من الخطأ بل قد تصدر منهم بعض الأخطاء كما تصدر من غيرهم في باقي الوزارات فلماذا تتصيد أخطاؤهم وتضخم وتتلقى وتنشر من غير تثبت ولا بصيرة فهذا ليس من العدل والإنصاف فإن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، ولو طلب بإلغاء أي وزارة يصدر من منسوبيها أخطاء لما بقيت وزارة قائمة بل إن معرفة الأخطاء طريق الوصول إلى الكمال البشري والذي لا يخطئ فمعناه أنه لا يعمل. فالواجب علينا تجاه رجال الهيئة الدعاء لهم بالتوفيق والتأييد والوقوف بجانبهم ومؤازرتهم وكذلك الدفاع عنهم وعن أعراضهم ( فمن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ) كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن لهم والله من الجهود الجبارة ما يفوق الحصر، فكم سهروا في متابعة أوكار ومنكرات وشبكات وواصلوا الليل بالنهار حتى تم لهم الظفر وقضوا على أولئك المفسدين فما أحسن أثرهم على الناس وما أسوأ أثر الناس عليهم.
فنسأل الله أن يوفقهم إلى ما يحبه ويرضاه كما نسأله أن يقي بلادنا وبلاد المسلمين شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،وكتبه / عبد الله بن عامر اللهو / غفر الله له ولوالديه وللمسلمين .
ــــــــــــــــ(1/90)
لماذا نتعلم أشراط الساعة وعلامات الفتن
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
عرفنا فى الدرس السابق معنى الفتن عموما وما يتعلق بمعناها فى هذه السلسلة من الدروس على الخصوص وهى ما يكون من البلايا والأمور العظام فى أخر الزمان وبين يدى الساعة مما يعد بمثابة الإختبار والإبتلاء الذى يتميز عنده الصادق المصدق بالحق من المنافق المذبذب الذى يميل وينقلب عند الإختبار والإبتلاء والفتن....سواء كانت هذه الفتن والبلايا تسمى بأشراط الساعة الصغرى أو الكبرى أو علاماتها أو أماراتها أو تسمى بغير ذلك ...المهم أن تعرف حقيقة تسمية هذه الأمور بالفتن...وعرفنا فى الدرس السابق أن هناك حقائق هى كالأصول بين يدى تعلم هذه الأمور وما يتعلق بها...وهى:
1- بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هى من أول علامات الساعة.
2- موعد الساعة لا يعلمه بحال الا الله تعالى.
3- أكثر من ينشغل بالسؤال عن موعد الساعة متى هى هم العوام والطغام.
4- إجابة النبي صلى الله عليه وسلم للسائل عنها كانت بما يفيده لابما يريده السائل.
5- النبي وصحابته الكرام كانوا ينتظرون الساعة فى حياتهم ويتوقعون وقوعها.
6- الصحابة الكرام سألوا النبي عن الفتن ليستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح.
* وهذه الأصول لابد من معرفتها حتى لاينشغل العبد بطلب معرفة العلامات وترتيبها ومايكون منها أولًا وما يكون أخراً وما شابه وفقط...بل ينشغل بالإستعداد لها بالإيمان وكثرة العمل الصالح وهذا النهج والسبيل هو الذى هدى إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام وأتباعه الميامين , وعرفهم ماذا عليهم أمام الفتن أو قبل وقوعها , وعلمهم لماذا يذكرها ولماذا يُعَلمَهم ما يتعلق بها - أمر تلك الفتن - لماذا؟؟:
* فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ الدُّخَانَ أَوْ الدَّجَّالَ أَوْ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ"..[.م...ك...الفتن واشراط الساعة]...وفى رواية" و" بدل" أو"...
* وقوله ( بادروا بالأعمال ستا ) أي اعملوا الصالحات واشتغلوا بها قبل مجيء هذه الست التي هي تشغلكم عنها.... والمبادرة المسارعة بإدراك الشيء قبل فواته أو بدفعه قبل وقوعه.... وقال في النهاية تأنيث الست إشارة إلى أنها مصائب ودواهٍ ( وخاصة أحدكم ) يريد حادثة الموت التي تخص كل إنسان وفى رواية "خويصة" وهو تصغير خاصة وصغرت لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك ( وأمر العامة ) أي قبل أن يتوجه إليكم أمر العامة والرياسة فيشغلكم عن صالح الأعمال... وقال القاضي : أمَرَهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات فإنها إذا نزلت أَدْهَشت وأشغلت عن الأعمال أو سُدّ عليهم باب التوبة وقبول العمل ( طلوع الشمس من مغربها ) فإنها إذا طلعت منه لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ( والدخان ) أي ظهوره ( ودابة الأرض والدجال ) أي خروجهما سمي الدجال - من الدجل وهو الخلط والتغطية - لأنه خداع مُلبِس ويغطي الأرض بأتباعه....
* وفى الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرّجُلُ مُؤْمِناً ويُمْسِي كَافِراً، ويُمْسِي مُؤْمِناً ويُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا".[م..ك..الإيمان]
* وقوله:( كقطع الليل المظلم ) جمع قطعة وهي طائفة منه يعني وقوع فتن مظلمة سوداء .... والمراد الحث على المسارعة بالعمل الصالح قبل تعذره أو تعسره بسبب الإنشغال بما يحدث من الفتن المتكاثرة والمتراكمة كتراكم ظلام الليل وقوله:"المظلم" يعنى ليس مقمراً، تعبيرا عن فرط سوادها وظلمتها وعدم تَبيُن الصلاح والفساد فيها... وحاصل المعنى تعجلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن المظلمة من القتل والنهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدنيا والدين، فإنكم لا تطيقون الأعمال على وجه الكمال فيها، والمراد من التشبيه بيان حال الفتن من حيث أنه بشيع فظيع ، ولا يعرف سببها ولا طريق الخلاص منها..... ثم وصف نوعاً من شدائد الفتن بقوله ( يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ) وهذا لعظم الفتن يتقلب الإنسان في اليوم الواحد هذه الإنقلابات ( يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل ) أي بقليل من حطامها قال في الكشاف : العرض ما عرض لك من منافع الدنيا... أي بأخذ متاع دنيء وثمن رديء.....وقوله:(يصبح الرجل مؤمناً) أي موصوفاً بأصل الإيمان أو بكماله... (ويمسي كافراً) أي حقيقة أو كافراً للنعمة أو مشابهاً للكفرة أو عاملاً عمل الكافر....وقيل المعنى يصبح مُحَرماً ما حرمه الله، ويمسي مستحلاً إياه وبالعكس...
وقال بعض أهل العلم: في ذلك الحال وجوه:
أحدها: أن يكون بين طائفتين من المسلمين قتال لمجرد العصبية والغضب، فيستحلون الدم والمال.
وثانيها: أن يكون ولاة المسلمين ظلمة، فيريقون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون ويشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس منهم أنهم على الحق ويفتيهم بعض علماء السوء، على جواز ما يفعلون من المحرمات، من إراقة الدماء وأخذ الأموال ونحوها.
وثالثها: ما يجري بين الناس مما يخالف الشرع في المعاملات والمبايعات وغيرها فيستحلونها.
* وفى الحديث عن عابس الغفاري قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" بادروا بالأعمال ستا , إمارة السفهاء , وكثرة الشُرَط , وبيع الحكم , واستخفاف بالدم , وقطيعة الرحم , ونشوا - أونشئا - يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها"..[الطبرانى فى الكبير...وفى صحيح الجامع برقم:2812].
* وأمره صلى الله عليه وسلم بالمبادرة بالعمل في هذه الأخبار يقتضي المسارعة الى التوبة الى اللّه والحث على المبادرة إلى طاعته ومسابقة العوارض والقواطع قبل ورودها.
و( إمارة السفهاء ) بكسر الهمزة أي ولايتهم على الرقاب لما يحدث منهم من العنف والطيش والخفة , والسفيه هو ناقص العقل والسفه نقص العقل.
( وكثرة الشُرَط ) وهم أعوان الولاة والمراد كثرتهم بأبواب الأمراء والولاة وبكثرتهم يكثر الظلم , وسمو بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها والشرط العلامة.
( وبيع الحكم ) بأخذ الرشوة عليه.
( واستخفافاً بالدم ) أي بحقه بأن لا يقتص من القاتل , ويكثر القتل - كما هو فى نصوص أخر مما يكون قبل قيام الساعة .
( وقطيعة الرحم ) بإيذائه أو عدم الإحسان إليه أو هجره وإبعاده.
(ونشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها) أى يتغنون به ويتشدقون ويأتون به بنغمات مطربة , وقد كثر ذلك في هذا الزمان وانتهى الأمر إلى التباهي بإخراج ألفاظ القرآن عن وضعها , ويزيدون وينقصون فيها لأجل موافاة الألحان وتوفر النغمات , إذ ليس غرضهم إلا الاالتذاذ والإستماع لتلك الألحان والأوضاع .
* وهذا يعنى أن المهم فى المسالة هو المبادرة الى الإيمان والعمل الصالح , والعمل الصالح لايكون الا بالعلم الشرعى الصحيح الذى لاضلال فيه ولاتلبيس , وأعلم أن أول ما يكون من الفتن المضلة فشو الجهل وارتفاع العلم...
* ففى الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا"..[خ...ك..العلم].
* وعنه أيضاً قَالَ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ".[.خ..ك..العلم].
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ"..[.خ...ك...الجمعة].
* وفى رواية عند مسلم فى كتاب العلم:" عن أَبَى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتَقَارَبُ الزّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَىَ الشّحّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ" قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ".
* وقد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا كيف يقبض العلم ويرفع كما فى الحديث عن عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ َقُالُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ اللّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النّاسِ. وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ. حَتّىَ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِماً، اتّخَذَ النّاسُ رُؤُساً جُهّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَضَلّوا وَأَضَلّوا".[م..ك...العلم].
* قال النووى: هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه أنه يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون.... وقال أيضا: في هذا الحديث الحث على حفظ العلم وأخذه عن أهله واعتراف العالَم للعالِم بالفضيلة.
* فتعلُم العلم الشرعى ضرورة فى زمن الفتن , لأنك إن دخلت الى الفتن بجهلك وضلالك قد تهلك مع الهالكين.... فإما أن تكون من أصحاب الجهل والضلال...وإما أن تكون من أهل الإيمان والعلم ... والفريق الثانى هو الناج بفضل الله .... يقول تعالى:" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ "(9 الزمر).
* ويقول سبحانه:" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ......"(16 الرعد).
* وقال عز من قائل:" وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ"(58 غافر).
* وكل من لاعلم له أعمى...مسئ....ومن يعلم فهو مبصر بنور العلم يجره ذلك الى العمل الصالح...أذا فلابد من العلم الشرعى ومن العلم الشرعى معرفة الفتن والموقف الشرعى منها , وهذا يعنى أنك لابد أن تسأل نفسك سؤالا ... لماذا تتعلم أمور الفتن وأشراط الساعة...للقصص والتسلية لا......للتندر والتعجب لا ولا .....للعلم بالغيبيات لا ولا ولا....اذاً فلماذا؟؟؟....
* الكلام المتقدم فيه بعض الإجابة وحتى نعرف الإجابة التامة الكاملة لهذا السؤال الهام ... .. تعالى نتعلم مسألة هامة وهى:
* ما فائدة ورود وذكر أشراط الساعة وأمور أخر الزمان فى الكتاب والسنة؟؟:
أمور الفتن وما يكون بين يدى الساعة وما هو فى أخر الزمان مما أخبر به الله ورسوله - وخاصة ما جاء منهاعلى لسان الصادق المصدوق - منها ما يكون أمارات للساعة:
قال ابن حجر فى الفتح: قال الطيبي : الآيات أمارات للساعة إما على قربها وإما على حصولها فمن الأول الدجال ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف ومن الثاني الدخان وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس.
* وبالجملة فإن كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب من المذكورات التى أخبر صلى الله عليه وسلم بأنهأ ستقع بعده أو قبل أن تقوم الساعة , على أقسام :
* الأول: ما وقع على وفق ما قال , وهذا قد تقدم معظمه في علامات النبوة , وقد استوفى البيهقي في " الدلائل " ما ورد من ذلك بالأسانيد المقبولة , ومنه اقتتال الفئتين العظيمتين , وظهور الفتن , وكثرة الهرج , وتطاول الناس في البنيان , وتمنى بعض الناس الموت , وقتال الترك.(ولعلهم أهل الصين). وتمنى رؤيته صلى الله عليه وسلم , ومما ورد منه حديث المقبري عن أبي هريرة أيضا " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها "...وغير هذا كثير مما يعد من دلائل النبوة وقد جاءت به النصوص الصحيحة.
* والثاني: ما وقعت مباديه ولم يستحكم , ومن هذا النمط تقارب الزمان وكثرة الزلازل وخروج الدجالين الكذابين , " ومنها حديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة حتى لا يُقَسم ميراث ولا يُفرح بغنيمة " أخرجه مسلم , وحديث حذيفة بن أسيد أن قبل الساعة يقع عشر آيات فذكر منها " وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب " أخرجه مسلم , وحديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها " أخرجه الطبراني , وقد تقدم حديث أبي هريرة " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "
* والثالث: ما لم يقع منه شيء ولكنه سيقع (إن شاء الله), ومن هذا النمط طلوع الشمس من مغربها ; وحديث " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر " الحديث أخرجه مسلم , وحديث أنس " أن أمام الدجال سنون خداعات يُكذب فيها الصادق ويُصدق فيها الكاذب ويُخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن ويتكلم فيها الرويبضة ", وحديث سمرة " لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم ", وحديث أبي هريرة " لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول لو واريناها وراء هذا الحائط ", وحديث حذيفة ابن اليمان عند ابن ماجه " يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة , ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ويقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها " وحديث أنس " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله " أخرجه أحمد بسند قوي , وهو عند مسلم بلفظ " الله الله " وله من حديث ابن مسعود " لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " , وحديث أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله " , ولمسلم وأحمد من حديث ثوبان " ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين , وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان " ولمسلم أيضا عن عائشة " لا تذهب الأيام والليالي حتى تعبد اللات والعزى من دون الله " الحديث وفيه " ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى بها كل مؤمن في قلبه مثقال حبة من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم ".......وغير هذا كثير.
* قال البيهقي وغيره : الأشراط منها صغار وقد مضى أكثرها ومنها كبار ستأتي... قال ابن حجر: وهي التي تَضمنها حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم وهي الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها كالحامل المتم ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج والريح التي تهب بعد موت عيسى فتقبض أرواح المؤمنين " وقد استشكلوا على ذلك حديث " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله " فإن ظاهر الأول أنه لا يبقى أحد من المؤمنين فضلا عن القائم بالحق , وظاهر الثاني البقاء , ويمكن أن يكون المراد بقوله " أمر الله " هبوب تلك الريح فيكون الظهور قبل هبوبها , فبهذا الجمع يزول الإشكال بتوفيق الله تعالى , فأما بعد هبوبها فلا يبقى إلا الشرار وليس فيهم مؤمن فعليهم تقوم الساعة
* * إذا فنحن نتعلم أمور الفتن وما يكون بين يدى الساعة لأمور منها:
1- تجديد الإيمان بالله ورسوله وذلك من اعتبارنا بدلائل النبوة...الدالة على ربوبية الله من جهة وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- المسارعة الى التوبة والإنابة الى الله تعالى , حيث أن الموت والساعة لاتاتى ألا بغتة قال تعالى:" يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ... .."(187 الأعراف).
3- المبادرة بالإيمان والعمل الصالح لأنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم ...كإمارة السفاء...وكثرة الشُرط...والإستخفاف بالدم...وكثرة الهرج...وفشو الزنا والعياذ بالله تعالى.... وهى فتن تحتاج الى الصبر والحلم والعلم والإعتصام بحبل الله المتين.
4- الإقامة والمصابرة على الإيمان والعلم والتعلم والعمل المرضى , والتزود بالتقوى مخافة الإنقلاب وحتى لانكون ممن يصبح مؤمنا ويمسى كافرا والعياذ بالله.
5- لئلا نركن الى الدنيا وقد عاينا قرب الرحيل لنا أو للدنيا بقيام الساعة وذلك إذا عاينا أشراطها وعلاماتها.
6- لئلا نظن ان بقاء الدنيا أمامه دهرا , وأنه بقى فى عمرها قرونا عده لأن من علامات الساعة تقارب الزمان فلا مانع من وقوعها بعد زمن يسير تقع فيه العلامات كلها فى زمن يسير وان كان كثير فهو متقارب ... وعلم ذلك وعده عند ربى وحده..
* الخميس, 10 محرم, 1424هـ ,,,,,[ 13 / 03 / 2003 م 05:09:25 ص ]
الفتن وموقف المسلم منها
جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربى بن كمال
ــــــــــــــــ(1/91)
صونوا السفينة قبل أن تغرق! ( 1 )
جرت عادة العقلاء، على أخذ الحيطة والحذر من كل ما يخافون خطره على أنفسهم، وأموالهم وأسرهم وكل ما يمت إليهم بصلة من مصالحهم.
فتجد أهل الأموال يحرصون على إيداع أموالهم في البنوك التي يأمنونها على تلك الأموال، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بـ"الحرز" الذي يعد شرطا من شروط إقامة الحد على السارق.
وتجد المحاربين يبنون القلاع، ويحفرون الخنادق لحماية أنفسهم من هجوم أعدائهم، لمقاتلين.
وتجد السكان في المدن والقرى والبوادي، يحرصون على اتخاذ ما يستطيعون من حماية أنفسهم وأموالهم وأسرهم، من المغيرين والوحوش، وعلى حيواناتهم من الذئاب.. فيبنون البيوت، ويتخذون لها الأبواب المناسبة، ويوظفون الحراس، من البشر ومن الكلاب.... وتجد شركات المواصلات تحاول اتخاذ أقصى ما تستطيع من الوسائل التي تمكنها من إتقان صنعة مواصلاتها، بحيث يأمن المسافرون في أسفارهم على تلك المواصلات، سواء كانت سيارات، أو طائرات، أو قطارات، أو بواخر، بل حيوانات النقل، كالإبل والخيل والبغال والحمير... يجتهدون في تغذيتها وتدريبها على السير البعيد وحمل الأثقال..
وتجد الحكومات والدول تجتهد في اتخاذ الوسائل التي تحمي بها بلدانها مما يخل بأمنها الداخلي الخارجي:
فتتخذ لأمنها الداخلي جهاز الشرطة والمرور، وأجهزة المباحث المتنوعة المدربة على كل وسيلة تمكنها من التصدي للمجرمين-حسب مفهومها-فتبني لهم السجون وتعد المعتقلات، وتحضر لذلك كل وسيلة من وسائل التعذيب والقمع...
وتتخذ لحماية أمنها الخارجي إعداد الاستخبارات المتنوعة، والجيوش المدربة على أعلى ما تتمكن منه من التدريب، لجيوشها البرية والبحرية والجوية -ولكل فرقة من الفرق المتخصصة تدريبها الدقيق في تخصصها-وتوفير السلاح وما يتبعه من وسائل ...
كما تعد لحماية زعمائها حرسهم الخاص الذي توفر له من السلاح والتدريب، ما لا يتوفر لغيره...
وتعد لحماية عقول أبنائها من الأفكار والمبادئ التي تعتبرها خطرا عليها، المؤسسات التعليمية بمناهجها وكتبها وأساتذتها، والمناهج الإعلامية، لحماية تلك العقول من أفكار إعلام الأعداء الموجه إليها.
كأني بالقارئ هنا يقول: تلك أسباب ووسائل معروفة يتخذها الأفراد والأسر والجماعات والأحزاب والشركات والحكومات، كل منها يتخذ ما يراه مناسبا لمصلحته، ولا شك أن اتخاذ الأسباب والوسائل لحماية المصالح أمر مطلوب.
ولكن ماذا تريد أن تقول؟
ولم لم تدخل في صلب الموضوع؟
ومن تخاطب في عنوانك؟
وأي سفينة تريد؟
وما نوع الصيانة التي تدعو إليها؟
وفي أي بحر تخشى أن تغرق تلك السفينة؟
أخاطب جميع المسلمين في الأرض: حكاما ومحكومين، وكافة العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة أو غيرها من العلوم البشرية والكونية، وأعيان البلدان الإسلامية، من زعماء القبائل وقادة الجيش، ومسئولي التعليم والإعلام، والتجار والأغنياء، والمنظمات النقابية جميعها... والخلاصة جميع "أهل الحل والعقد" في بلدان المسلمين.
أما السفينة التي أقصدها، فهي سفينة حياة المسلمين في الأرض كلها، سفينتهم التي لها أرض وسماء، ويابسة وأنهار وبحار، ومقدسات في بلدان الوحي والرسل، ومساجد...
ولها قيادة وأعوان ووقود، وبها مرافق من الغذاء والدواء والكساء والمسكن، ومؤسسات تعليمية، ومؤسسات إعلامية، ومؤسسات اقتصادية، ومؤسسات عسكرية، ومؤسسات اجتماعية.... وأساس تلك المرافق والمؤسسات كلها هو الدين الذي نزل به القرآن وفصلته سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما أن بتلك السفينة ضرورات حياة، فرض الله على المسلمين كلهم حفظها، ولا حياة لهم بدون حفظها، وهي: "دينهم، ونسلهم وأعراضهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأموالهم"
وفي السفينة الصحيح السليم، والمريض السقيم، والشجاع الجسور، والجبان غير الصبور، وفيها المؤمن القوي الإيمان، الملتزم بمنهج الإسلام وطاعة الرحمن، وفيها قليل الدين ضعيف الإيمان، غلبه هواه وشهواته وعدوه الشيطان، وكلهم مأمورون بالتعاون على البر والتقوى، ومنهيون عن المعاصي والتعاون على الإثم والعدوان.
أما الصيانة التي أريد من ركاب السفينة اتخاذها للمحافظة عليها من الغرق، فألخصها في الأمور الآتية:
الأمر الأول: الاتفاق على منهج الرحلة الذي يضمن لهم النجاة والفوز والأفراح، ويقيهم الهلاك والخسران والأتراح.
هذا المنهج هو صراط الله المستقيم، غير المغضوب عليهم والضالين: ((اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) المنهج الذي أرسل الله به رسوله الكريم، وأنزل عليه به كتابه العظيم، وضمن لأهله الفلاح المبين، فقال: (( قد أفلح المؤمنون)) و ((أولئك على هدى من ربهم وألئك هم المفلحون))
الأمر الثاني: الاعتصام بحبل الله المتين، والأخوة الصادقة بين عباده المؤمنين: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [آل عمران: (103)]
وسأفرد لهذا الأمر حلقة خاصة بإذن الله تلي هذه الحلقة، لأنه هو المقصود في هذه المرحلة من مراحل الأمة الإسلامية.
الأمر الثالث: تقوية الإيمان والعمل الصالح، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، وهو من أهم أبواب هذا الدين: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون)) [آل عمران: (110)]
الأمر الرابع: العلم اليقين أن أعداء هذه السفينة، يسعون جادين لإغراقها أو تعطيلها، حتى لا ترسوا على شاطئ الأمان، وهذا العلم من أهم ما يحفز أهل السفينة على صيانتها والدفاع عنها، وإذا فرطوا في ذلك فهم معرضون للهلاك واستبدال الله بهم غيرهم ممن يحمون حوزة الإسلام: ((يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) [البقرة: (217)]
((ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)) [المائدة: (54)]
((إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير)) [التوبة: (39)]
((هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) [سورة محمد: (38)]
الأمر الخامس: الوقوف صفا واحدا ضد من يريد إغراق هذه السفينة، من أعداء هذا الدين: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)) [الصف:(4)]
((يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)) [التوبة: (38)]
الأمر السادس: طلب العزة من الله وحده، فهو صاحبها، وهو واهبها، ولا قدرة لغيره على منحها، مهما عظمت قوته في الأرض، فردا كان أو جماعة أو حكومة، فالقوة لله والعزة لله لا لغيره:
((الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)) [النساء: (139)]
((ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم)) [يونس: (65)]
((من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور)) [فاطر: (10)]
((سبحان ربك رب العزة عما يصفون)) [الصافات: (180)]
((يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)) [المنافقون: (8)]
((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)) [آل عمران: (26)]
وأما البحر الذي أخشى أنت تغرق فيه السفينة، فهو بحر الخسران والذلة والمهانة، والعبودية لغير الله، فيفقد بذلك ركاب السفينة العزة التي يظنون أنهم قد ينالونها من غيره سبحانه:
((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))
((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)) [المائدة: (52)]
((مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)) [الفتح: (41)]
ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)) [آل عمران: (149)]
((ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)) [آل عمران (100)]
((ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)) [آل عمران: (149)]
وإنه لمؤسف كل الأسف أن تغفل الأمة الإسلامية-حكاما ومحكومين-عن هذا الكتاب العزيز الذي يهدي الضال، ويوقظ النائم، وينبه الغافل، ويرفع الراية للسالكين، مبينا لهم معالم طريقهم التي لا يمكن أن يعبروها بدون تلك المعالم.
لقد آلت أمريكا على نفسها أن تقضي على الإرهاب والإرهابيين في كل مكان في العالم.
ومعنى الإرهاب لدى أمريكا: كل ما يخالف مخططاتها الاستبداية الاستعمارية في العالم.
وسفينتنا التي بها نجاتنا نحن المسلمين، وهي دين الإسلام، هي الغاية الأولى من حملة أمريكا الإرهابية.
فالإسلام الحق الذي لا ترضى أمريكا له البقاء كما أرد الله له أن يبقى في الأرض، هو الإرهاب بعينه، والذين يتمسكون به ويدعون إليه ويريدون تطبيقه في حياتهم، هم عين الإرهابيين.
والمدن والقرى، والجبال والسهول، والنجود والوهاد، والوديان والشعاب، التي تؤوي الإسلام الذي يتخذه سكانها منهجا لحياتهم، هي مواطن إرهاب يجب تدميرها والقضاء على أهلها.
والشعب الذي يعتدي عليه المعتدون من قوى الظلم والطغيان، فيحتلونه ويطردون أهله، ويخربون بيوتهم، ويفسدون مرافقهم، ويدنسون مقدساتهم، وينتهكون أعراضهم، هو شعب إرهابي يجب أن يباد ويشرد في الأرض.
والدول التي تصر على تطبيق الإسلام المخالف لمنهج أمريكا، هي دول إرهابية.
الجماعات والأحزاب الإسلامية التي تصر على جعل الإسلام منهج نشاطها، هي جماعات وأحزاب إرهابية يجب استئصالها.
المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية التي لا ترضي عن مناهجها ومسؤوليها وأساتذتها، هي مؤسسات إرهابية يجب أن تزول هي ومؤسسوها.
والجمعيات الخيرية الإسلامية التي تجمع المال وتغيث به الجوعى، وتروي به العطشى، وتداوي به المرضى، وتؤوي به المشردين، وتكسو به العريانين، هي جماعات إرهابية لا بد من مضايقتها والحجر على نشاطها.
والحسابات المالية للجماعات أو الشخصيات الإسلامي ذات النشاط الإسلامي المؤثر في الناس، هي أموال إرهابيين يجب إغلاقها وتجميدها، وقد تقتضي المصلحة تعميمها واستعمالها في المصالح الدينية النصرانية أو اليهودية...
وأئمة المساجد وخطباؤها الذين ينشرون الوعي بحقائق الإسلام، وحقائق الكفر، ويردون على شبهات أعداء الإسلام المفتراة، ويكشفون عورات الأديان المحرفة، والسياسات الظالمة، هم -أيضا-إرهابيون، يجب عدم تمكينهم من اعتلاء المنابر وإمامة المصلين في محاريب بيوت الله.
وعلماء المسلمين الذين يقومون بواجب البلاغ المبين للأمة، ويبصرونهم بمصالحهم التي يجب عليهم حفظها والدفاع عنها بالمال والنفس، وينبهونهم على المفاسد التي يجب عليهم دفعها أو رفعها، هؤلاء العلماء هم إرهابيون لدى أمريكا يجب على دولهم أن يحجروا عليهم ويضيقوا الخناق عليهم، أو يسلموهم للاستخبارات الأمريكية (C.I.A) ليجاور زملاء له في المعتقلات والسجون الأمريكية، ويتعرض لإهانات الحاقدين على المسلمين عامة، وعلى علماء الإسلام خاصة، من قبل اليهود الصهاينة، والبروستانت الغلاة.
الجماعات والأحزاب-إسلامية كانت أو ما يسمونها بالوطنية-التي تعارض الاعتراف الكامل بالدولة اليهودية، هي جماعات وأحزاب إرهابية يجب أن تعقد للقضاء عليها مؤتمرات قمة دولية يشترك فيها زعماء العالم الإسلامي، ومنهم حكام العرب، على غرار مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد برئاسة "كلنتن" الرئيس الأمريكي السابق ضد المقاومة الإسلامية الفلسطينية.
اجتماع كلمة المسلمين القطرية والإقليمية والدولية التي ترمي إلى الاستقلال بمصالحها، دون الخضوع لأمريكا الطاغية، هي تجمعات إرهابية، يجب إيقافها عند حدها وعدم إعطائها فرصة التقارب والتعاون غير المأذون به من فرعون العصر الذي يقول: (أنا ربكم الأعلى)
الدول التي تسعى لتقوية مؤسساتها العسكرية القادرة على دفع العدوان الأمريكي واليهودي على بلدانها، هي دول إرهابية تملك أسلحة الدمار الشامل، يجب تدمير كامل قوتها العسكرية، وهذا التدمير لا يتم إلا بخراب غالب مرافق الشعب الذي ستحشد أمريكا لحربه التحالفات الدولية-ومنها حكومات الشعوب الإسلامية- التي ألفت حشدها بشريا وماليا وعتادا.
الدول التي لا تمنح المرأةَ فيها الحريةَ الكاملة بمفهومها الغربي، وهي التي لا تقيدها الأحكام الإسلامية، من سفور وعلاقات اجتماعية، وخروج عن آداب الإسلام التي جاء بها شرع الله، كالاختلاط غير المشروع، والإجهاض والخروج على طاعة ولي أمرها...
الدول التي لا تخضع للسياسة الأمنية الأمريكية، التي يجب أن تتدخل في التحقيقات مع رعايا تلك الدول أو غيرهم من المقيمين فيها، وتهيمن على سيرها وإجراءاتها، هيمنة تفقد بها الدولة سيادتها واستقلالها، هذه الدول التي لا تخضع للسياسة الأمنية الأمريكية، هي دول إرهابية، يجب إسقاطها وإقامة دول السمع والطاعة للإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية.
ومن باب النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، أرى من الواجب علي أن أصدع بما يغلب على ظني أن أمريكا عازمة على تنفيذه من السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي، ويحجم عن التصريح به غالب العلماء، إيثارا للمجاملة وخشية من الإثارة، ولكن الفتن الخطيرة التي تعم الأمة كلها، يجب أن بيانها والتحذير منها قبل أن يستفحل خطرها.
(((فأمريكا تريد))) أن تجعل حكومات الشعوب الإسلامية كلها عمليا-وإن لم تعلن ذلك رسميا- ولايات غير رسمية تابعة لها.
(((وأقول: هذا ما تريده أمريكا، ولا يعني أن حكام الشعوب الإسلامية سيخضعون بالضرورة لهذه الإرادة الجائرة، بل سنجد بإذن الله من لا يزال يحافظ على كرامة نفسه وكرامة شعبه، مهما كثرت الضغوط الظالمة من الإدارة الأمريكية)))
فالرئيس الفيدرالي هو الرئيس الأمريكي، وزعماء دول الشعوب الإسلامية-مهما كانت تسمياتهم-هم حكام لتلك الولايات، كالحال في الولايات المتحدة الأمريكية الرسمية، مع فارق جوهري، وهو أن للولايات المتحدة الأمريكية الرسمية صلاحياتها التي يحميها الدستور والقوانين الأمريكية الفيدرالية وقوانين الولايات، أما الولايات التابعة -غير الرسمية-فلا صلاحيات لها غير الأوامر الأمريكية، وإن بدت في الشكل غير ذلك.
ورئيس الاستخبارات الأمريكية (C.I.A ) هو الرئيس الفعلي لرؤساء الاستخبارات في الولايات التابعة غير الرسمية.
ولقد كانت حكومات الشعوب الإسلامية يخجلون، إذا نشرت صحيفة أو إذاعة، أو أي وسيلة إعلامية أن لهذه الوكالة السيئة السمعة صلة ببعض موظفيها من المباحث أو الاستخبارات أو السفراء، ولكن هذه الوكالة اليوم
ووزير الدفاع الأمريكي ستنصبه إدارته وزيرا عمليا للدفاع في الولايات غير الرسمية، يصدر الأوامر العسكرية التي لا يجوز لوزراء دفاع تلك الولايات عصيانها، وإذا عصوها فهم إرهابيون يجب أن ينالوا جزاءهم العسكري الرادع.
ووزير الداخلية الفيدرالي الأمريكي، هو الوزير العملي لوزراء داخلية تلك الولايات، يأمر بالمتابعة والإيقاف، والاعتقال، وحظر السفر، والتحقيق والتفتيش، لكل من تشتبه أمريكا في كونه إرهابيا، بحسب مفهومها للإرهاب: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)
((( ولْيُقَسْ ما لَمْ يُقَلْ))) كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته الشهيرة المفيدة.
الخلاصة: إن سفينتنا-نحن المسلمين-التي ترى أمريكا وأعوانها،من الداخل ومن الخارج، أنه يجب إغراقها، هي السفينة التي تحمل الإسلام الحق الذي يدعو إلى العزة والقوة وموالاة المؤمنين بعضهم بعضا، والوقوف صفا واحدا ضد أعدائهم الذين يعتدون عليهم، وعدم الركون إلى الذين ظلموا.
لكنْ هناك إسلامٌ -بالمفهوم الغربي-سيُمنحُ أفراد المسلمين -إذا شاءوا- الحق في اعتقاده، وفي العمل به، وهو الإسلام الذي يقوم به الفرد بينه وبين ربه.
فله أن يؤمن بما شاء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بشرط أن يكون إيمانه كامنا في قلبه، لا يحركه لدعوة غيره إلى الحرية التي يحققها ذلك الإيمان لصاحبه، وهي العبودية لله وحده، والكفر بجميع الآلهة الطاغوتية، بما فيها أمريكا التي تقول بلسان حالها اليوم: (أنا ربكم الأعلى)
وله أن يصلي الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر. وله أن يصوم الصوم الذي لا يثمر التقوى. وله أن يحج الحج الذي لا يشعر المسلم في حجه بتحقيق المنافع التي يجنيها المسلمون من حجهم، ومن أهمها تعاونهم على البر والتقوى، ومناصرة بعضهم بعضا على من اعتدى عليهم...
وله أن يحمل السبحة ليذكر ربه، الذكر الذي لا يؤدي إلى الصفقة الإلهية (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتُلُون ويُقْتَلُون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة: 111]
الذكر الذي لا يثمر حماسَ فلسطين، ولا جبهةَ مورو الإسلامية في الفليبين، ولا المجاهدين الشيشانيين في الشيشان، ولا المقاومة الجهادية في كشمير.
أما إذا أثمر الذكر تلك الكتائب الجهادية التي تدفع الظلم عن أرضها ودينها وأهلها، فكل سبحة تعتبر في الدستور الأمريكي سبحة إرهابية يجب أن تقصفها الطائرات الحربية، والصواريخ العابرة للقارات حتى تتقطع خيوطها، وتتناثر حباتها...
وصدق الله العظيم القائل: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [البقرة: 120]
والقائل: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 217]
http://www.aljazeera.net/news/asia/2001/12/12-9-1.htm
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
ــــــــــــــــ(1/92)
قبل أن تقع في محاضن الرذيلة
إلى من وقع فريسة لخيوط صيد العابثين ، وبات اليوم يعيش صراعاً ذاتياً ، وتفرقاً أسرياً ، ونظرة أحاديه من بني مجتمعه وأهالي الحي له بالذات جاءت رسالتي هذه
أخي الحبيب : أوما سألت نفسك لماذا خلقت ؟ وما هو سر وجودك في هذه الحياة ؟ وحينما تستطيع أن تجيب على هذه الأسئلة الإجابة الفعلية حينها يمكن أن تعيد صياغة نفسك صياغة ربانية أخروية ، سماوية ، غير الواقع الذي تعيشه هذه الأيام . صدقني أخي الفاضل هذه الأسئلة فقط هي تعيد ترتيب حياتك ، وتبث في نفسك جوانب من السرور تشع في حياتك ، وتزرع الأمل من جديد في ذاتك وروحك . ولكأني بك حفظك الله ورعاك تدرك جلياً أن واقعك الذي تعيشه واقعاً مراً ، ومؤلماً أجبرك في أحيان كثيرة أن تعيد النظر تارة وتارات .
أخي الحبيب : أدرك ويدرك غيري ويدرك كل عاقل أنك إنما حينما أوقعت نفسك في حمأ المخدرات لم يكن إلا ترفاً من التجربة ، وبحثاً عن السعادة ، وتنقيباً عن الجديد في عالم الحياة ! وحينئذ كانت المأساة عظيمة فلم تفق لتحقيق هذه الأماني بل زادتك ألماً ، وتشتتاً ، وأي طريق حينما يشعر فيه المرء بهذه المكدرات يدرك بلا شك أنه لم يختر الطريق الصحيح ، ولن يجد طعم السعادة في حياته ، ولن يتذوق ما ينشده من أفراح وما ذاك إلا أن هذا الطريق غير طريق السعادة الذي تبحث عنه ، وإنني من الإشفاق على شخصك الكريم أقول لك : لن تعيش السعادة ، ولن تتذوق طعمها ، ولن تدرك معانيها الحقيقية ما لم تعود إلى طريق الحياة الروحية الصحيح : طريق الهداية والاستقامة ، الطريق إلى بيوت الله تعالى ، الطريق نحو تحقيق قول الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ولئن أردت مني دليلاً واضحاً على صدق مقالتي فلن أجد لك أصدق تعبيراً من قول الله تعالى مرشداً إلى هذه الغايات : (( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة )) ولو تأملت الآية لأدركت جلياً أنه لاطريق غير طريق الإيمان والعمل الصالح لهذه السعادة التي تبحث عنها . ومن المقطوع به العقلاء أن الطريق الذي اخترته بحثاً عن السعادة طريق مخالف لما تريد من أصله وهو في الأصل طريق للظلام ، لغياهب السجون ، للعالم المجهول ، للنهايات المرة ، للخسارة الدنيوية والأخروية . وطريق بهذه المواصفات كيف ترجو منه السعادة ؟ وتؤمل عليه النجاة ؟
أخي الحبيب : دعني أسألك سؤال محب من الذي دعاك للتجربة ؟ ومن الذي أوهمك بأن هذا الطريق طريق الناجحين ؟ أصدقني أهم الصالحون العقلاء ؟ أم رفقة الأخيار في حيك ومجتمعك ؟ أم أنهم ثلل من رفقاء السوء ؟ جمعك بهم الشارع ، أو التيت بهم على أرض العمل ، أو جرّك للتعرف عليهم ساحات المقاهي ؟ غير أن من المقطوع به صدقاً أن من جرّك للدنيئة ما نصح لك ، وغش ذاتك ورعيتك ومجتمعك ، وهو يدرك سوء ما صنع غير أنه سقط في الحمأة فأحب أن يلحق بركبه جموعاً من أمثالك . ولك أن تتفكّر حفظك الله وردك للجادة أيسرك أن تتخذ طريق حياتك من شاب عرّف به المقهى ؟ أو من زميل تدرك يقيناً أنه لا يصلح للرفقة ، ولا تسعد به قرينا ؟ ولك أن تعيد الذاكرة قليلاً لتعرف من كان السبب وحينئذ لك أن تقرر الاستمرار أو الإقلاع ولا أحد أعرف بنجاة نفسك غيرك . وليست العبرة ببداية الخطأ فقد يقع فيه الكثير ، لكن من يخرج في النهاية ويعود للصواب هو العاقل الرشيد .
أخي الحبيب : دائماً نسمع في المجتمع وتسمع أنت كذلك ألفاظاً تنتشر بين عامة الناس ومثقفيهم ، ومن هذه الألفاظ ( الصالحون ، الأخيار ، المستقيمون ، ) ونسمع في الجانب الآخر : ( المهربون ، المجرمون ، الخونة ، ) وما أدري يارعاك الله أين يمكن أن تصنّف نفسك ؟ مع الأخيار والصالحين ! أم مع المجرمين والمهربين ! وتعلم حفظك الله الفرق العظيم بين الوصفين . أيسرك عافاك الله أن يصنفك صغار مجتمعك من أهل الإجرام والتهريب ؟ فإذا رآك أحدهم في طريق ، أو لقيك في مناسبة ، أشار بأصبعه إليك خائفاً منك ، ومحذراً غيره من شخصيتك . ,إذا ذُكر المجرمون في أي مناسبة أشرأبت الأعناق إليك ، وتطلعت فيك . ورأوا أن أصدق وصف يمثل شخصك أن تكون في عداد هذه النوعيات السيئة في أمتك ومجتمعك وصدق ابن القيّم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن آثار المعاصي فقال رحمه الله : ومن عقوباتها : أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن ، والبر ، والمحسن ، والمتقي ، والمطيع .... وتكسوه اسم الفاجر والعاصي ، والمسيء ، والمفسد فهذه أسماء الفسوق والله تعالى يقول : (( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان )) الذي يوجب غضب الديّان ، ودخول النيران ، وعيش الخزي والهوان . .... ))
أخي الحبيب . زوجك المسكينة وقد كانت تتطلع إلى كنف رجل يحميها ، وأسد من أمثالك يذود عنها ، ولم تقبل بك ذاك اليوم إلا لأنها رأت أنه قد تحقق فيك ما تأمله وترجوه ، فبأي ذنبك حفظك الله تجعلها تراجع نفسها في قرارها السابق الذي اتخذته لأجلك . إنها اليوم تصبح وتمسي حديث الصغير والكبير في مجتمعها ، وكل ذلك لأنها زوجك وشريك حياتك . أترضى أن تبقيها أسيرة اتهامات بنات حيها وأهل مجتمعها ، ناهيك عن الأسرة الشريفة أسرتها التي قررت أن ترتبط بك صهراً ، وتختارك دون غيرك من الآخرين ألا ترى أنهم اليوم يأسفون لذلك القرار الذي صدر منهم ، ويلومون من كان السبب في مصاهرتك لهم ، إلى غير ذلك من الأحوال التي لاتخفى على أمثالك . ناهيك عن حال أبنائك ذكوراً وإناثاً وما يتعرضون له من إشارات من زملائهم وأقرانهم وأظن أمثالك حفظك الله يدرك تماماً أنه لوكان هناك أمر غير هذه المخدرات أوصلت حال أهلك وأبنائك إلى مثل هذه الظروف لبادرت بالخلاص منها فليس أعز في الوجود من أهل الرجل وعشيرته ، فكيف إذا علمت يقيناً أن السبب الوحيد لكل ما ذكرت هي المخدرات .
أخي الحبيب : هب أن كل ما ذكرت لا يعيره شخصك الكريم اهتماماً وأعيذك من هذا أفليس من الواجب أن تنظر إلى النتائج التي تقع بينك وبين الله تعالى بعين البصيرة ؟ إن ذلك هو ما يفكر به العقلاء فمهما ازدانت للإنسان شهوات عاجلة ، ولذات فانية إلا أنه يبقى ما بين الإنسان وبين الله تعالى شيء يضع له العاقل حقه من النظر فتعالى لنتدارس النتائج المتوقعة من هذه المعصية أعاذك الله وأجارك . يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ومن عقوباتها أي المعصية : أنها تزيل النعم وتحل النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب ..... ومنها : ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً .... فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر : إن حركت الريح الباب ؛ قال : جاء الطلب ! وإن سمع وقع قدم ؛ خاف أن يكون نذيراً بالعطب ، يحسب أن كل صيحة عليه ، وكل مكروه قاصداً إليه . فمن خاف الله ؛ آمنه من كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء . اهـ . إلى غير ذلك من الأحوال التي إن لم تتب منها فستقف غداً بين يدي غلام الغيوب . سترك الله بستره .
أخي الحبيب : الخطأ جبلة في حياة الإنسان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل ابن خطاء وخير الخطائين التوابون . والله تعالى وجه الدعوة ليس للمخطيء ولكن للوالغ فيها ، المتدنّس في وحلها ، المسرف على نفسه غاية الإسراف حين قال : (قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمه الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) وليس عليك من الخطأ مهما كان جرمه ، فالتوبة تمسح آثاره ، وتغسل أدرانه ، وتكتبك في عداد الصالحين الأوابين . وكن عاقلاً أخب الحبيب ، واتخذ قرارك العاجل بالتوبة النصوح تُكتب إن شاء الله في الفالحين .
وأخيراً : اقرأ هذه الأسطر ، وتمعّن فيها ، وضعها في سيارتك وتأملها وقت خلواتك ، أو ضعها بجانب سرير النوم ، فلعلك تجد فيها شيئاً ينفعك ، وإنما كتبتها حباً فيك ، وأملاً في أن أراك على طريق الخير والفلاح ، فإن انتفعت منها فأنا في انتظار اتصالك ومهاتفتك ، في انتظار رسالة تخطها بيدك ، في انتظار أفراحك القادمة .. كتب الله أجرك وأعظم مثوبتك وردني وإياك إلى الجادة والل يتولاني وإياك برحمته .
مشعل بن عبدالعزيز الفلاحي
ــــــــــــــــ(1/93)
بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان
عن أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ، أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ). متفق عليه.
الشرح:
فيه أن الإيمان له حلاوة يجدها المؤمن في قلبه لذة ونورا وبشاشة للإيمان كما يجد حلاوة للعسل في فمه فالمؤمن كامل الإيمان في روحانية ونعيم وأنس بالله لا يمكن وصفه ولا يقدر قدره إلا من فتح الله عليه. و لا يحصل ذلك للعبد إلا إذا تحلى بهذه الخصال الثلاث وكان حريصا على الطاعة. وإنما يجد القلب حلاوة الإيمان إذا كان سليما من الأهواء المضلة والشهوات المحرمة أما إذا مرض لم يجد تلك الحلاوة كالبدن المريض لا يحس بحلاوة الطعام. وفيه أن تقديم العبد لمحبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم على سائر المحبوبات من الخصال التي تكمل إيمان العبد. فينبغي على العبد أن يقدم رضا الله ورسوله ومحبتهما على كل شيء من عرض الدنيا وملذاتها إذا حصل بينهما تعارض فيجعل شرع الله وطاعته هو الغاية ويجعل ما سوى ذلك وسيلة لتحقيق الغاية فيترك ما نهى الله عنه ويتقيد بما أذن الله فيه من مال وتجارة وشهوة. وفيه أن محبة المسلم أخاه لأجل الله لا لأجل عرض من الدنيا أو القرابة من خصال الإيمان العظيمة وقد ورد فضل عظيم للمحبة والمؤاخاة في الله وعاقبتها حسنة في الدنيا والآخرة وهي عون على الدعوة والطاعة وللأسف صار كثير من الناس اليوم يتآخون ويتواصلون لأجل الدنيا والله المستعان. فإذا أحب العبد إنسانا لا لنسبه ولا لبلده ولا لماله وجاهه وإنما أحبه في الله لما اتصف به من الإيمان والعمل الصالح كان ذلك دليلا على توقيره لله ومحبته له وذاق برد اليقين والإطمئنان بقلبه. وقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقواما غرباء لا تربطهم بهم رابطة النسب أو البلد أو المال أحبوهم في الله ولله وآثروهم على أنفسهم. وفيه أن من خصال الإيمان التي يتحقق بها إيمان العبد وتتم موالاته لله ورسوله أن يكره الكفر ويخاف ويحذر من هذا الخطر العظيم على دينه كما يكره ويخاف النار التي تحرق بدنه وماله لأن الكفر نار تحرق الدين قال الله تعالى: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) . وهذا يقتضي منه أن يتبرأ من الكفار الذين جحدوا ربه وخالفوا رسوله صلى الله عليه وسلم ويفر بدينه من كل ما يوجب فساد إيمانه ووقوعه في الكفر والعياذ بالله ويكون حريصا على موته على الإسلام. فإن العبد إذا كره شيئا وخافه فر منه فسلم منه. وقد تساهل بعض المسلمين اليوم في كراهية الكفر وأهله وصاروا يوالون الكفار ويوادونهم ويحسنون الظن بهم ومن وقر الكفار الذين أذلهم الله فقد خفر ذمة الله ورسوله.
خالد سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 3/2/1429
خالد بن سعود البليهد
ــــــــــــــــ(1/94)
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، عالم السر والخفيات الذي لايعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولافي الأرض وهو بكل شيء خبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
عباد الله اتقوا الله وراقبوه
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))النساء1
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))الحشر18
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)). هذه الآية أيها الإخوة اشتملت على جميع ما في القرآن..لأن جميع ما فيه هدى يهدينا إلى خيري الدنيا والآخرة، وأول ذلك وأهمه التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره دعوة لتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ((قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون)).الإنبياء
وقد جاء في القرآن توبيخ وإنكار على الذين اعترفوا بربوبية الله، ولكنهم لم يوحدوه في العبادة حيث أشركوا معه آلهة أخرى، وهو سبحانه المستحق للعبادة. ومن هذه الآيات التي يستدل بها على اعتراف الكفار بربوبيته قوله تعالى: ((قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار فسيقولون الله)) إلى قوله تعالى: ((قل أفلا تتقون)). وقوله تعالى: ((ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون)).
وهكذا جاء الإنكار عليهم بعد إقرارهم بالربوبية بأساليب مختلفة مثل قوله تعالى: ((فأنى تسحرون)) وقوله تعالى: ((قل أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً)) وقوله تعالى: ((أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون)) وقوله تعالى: ((أإله مع الله قليلاً ما تذكرون)). وقوله تعالى: ((أإله مع الله تعالى الله عما يشركون)) وغيرها كثير التي تعقب كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية والتي يراد منها الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته، فإذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار لأن المقر بالربوبية، يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة.
وإنني لأتعجب من الشخص الذي يتوجه بقلبه ولسانه، فيطلب من مخلوق الشفاء أو الفوز والفلاح في الدارين، أو الرزق والذرية أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ومما هو لا يطلب إلا من الخالق سبحانه وتعالى، بل ويزداد العجب ممن يطلب هذه الأمور من أصحاب القبور سواء كانوا أنبياء أو صالحين، ويترك من بيده ملكوت السموات والأرض، وصدق الله حيث قال: ((ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير)).
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم - الدعوة للالتزام بما شرعه الله عز وجل والتحذير من الهوى مقتدين في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه.
ومن هذه الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ((فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)). وقال تعالى: ((بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين))
وقال تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) وقال تعالى: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)) وقال سبحانه: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم)) وقال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)).
وآيات كثيرة فيها الهدي إلى اتباع السنة التي هي الوحي الثاني كما ثبت بالأحاديث الصحيحة وإلى الاقتداء بالهدي النبوي في عبادته وتشريعه وأمره ونهيه وفعله وتركه، لأن السنة فعلية وتركية، فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة مع وجود الداعي والمقتضي لذلك، نتركه.
وإنني لأتعجب ممن ينافح ويدعو إلى البدع والمحدثات في الدين وهو يستمع إلى قول الله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)) ويسمع قول الله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون))، وإن من يرفع صوته مدافعاً عن بدعة في الدين إنما يرفع صوته فوق صوت النبي، ويرفع طريقته فوق سنة النبي، ويرفع فهمه وعقله فوق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون خالف سبيل المؤمنين الصادقين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا سنته وساروا عليها دون زيادة أو نقص، هؤلاء الصحابة سلفنا الصالح الذين شهد لهم ربهم بالإيمان الحق وبالصدق وأمرنا نبينا باتباعهم والسير على خطاهم، بل لقد حضنا القرآن على التمسك والسير على طريقتهم وسبيلهم كما قال تعالى:
((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيراً)).
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هدية إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام، وقد وردت آيات كثيرة في ذلك منها قول الله تعالى: ((ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)) والمقصود ولا تخرجون إخوانكم. وقال تعالى: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل..)) أي لا يأكل أحدكم مال أخيه ... وحينما أخطأ الرماة بل بعضهم في عدم التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغادروا الجبل في غزوة أحد، فنزلوا، أصابهم ما أصابهم لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب في وجهه الشريف فتعجب الصحابة من هذا الأمر وهم على الحق ويدافعون عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم كما اخبرنا الله عز وجل في قوله تعالى: ((أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)) بالرغم من أن البعض فقط هم الذين أخطئوا ولكن الخطاب توجه للجميع لأن الأمة كلها كالجسد الواحد، فسبحان الله العظيم. كيف يحاسب الجسد كله على هذا الخطأ ويعامل الجسد كله كوحدة واحدة. إنها رابطة الدين.
لقد حصل خلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار ... فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال يا للأنصاري للأنصار .. فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)).
لا حظوا أيها الإخوة المهاجرين فيهم القرشي وغيره، والأنصار فيهم الخزرجي والأوسي وغيرهم .. ما تنادى هؤلاء بالآباء ولا بالأجداد ولا بالقومية بل بصفتين حميدتين .. الهجرة والنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك لم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم واعتبرها دعوى جاهلية منتنة فكيف بمن ينادي بالقومية أو الوطنية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد عباد الله
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)).
فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة ,
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام
((ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما))
فهذه هي قاعدة القرآن في العمل والجزاء . فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تهدينا وتسددنا اللهم اهدنا وسددنا اللهم اهدنا واهدي بنا وأجري على أيدينا الخير لكثير من خلقك إلى يوم القيامة اللهم اجعلنا مباركين حيثما كنا اللهم قنعنا بما آتيتنا. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم أعز دينك وأعلي كلمتك وانصر جندك يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الشر والشرك والفساد وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين. اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء. اللهم آمنا في البيوت والدور وأصلح ولاة الأمور اللهم وفق ولاة أمور المسلمين عامة للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان - اليمن
ــــــــــــــــ(1/95)
أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم
يراد بالضعف هنا ضعف الإيمان وضعف التمسك بالدين والاقتناع من غالب المسلمين بمجرد الانتماء إلى الإسلام دون التحقيق بتعاليمه ولا شك أن لذلك أسباباً عديدية أشدها كثرة الدعاة إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والفعل من أناس ثقلت عليهم الطاعات ومالت نفوسهم إلى الشهوات المحرمة كالزنا وشرب الخمر وسماع الأغاني ونحو ذلك فقاموا بالدعوة إلى الاختلاط وزينوا للمرأة التبرج والسفور وجعلوا ذلك من حقها ودعوا إلى إعطائها الحرية والتصرف في نفسها فجعلوا لها أن تمكن من نفسها برضاها ولو غضب أبوها أو زوجها فلا حد عليها ولا على من زنا بها برضاها وعند الانهماك في هذه الشهوات ثقلت عليهم الصلوات وتخلفوا عن الجمع والجماعات ومنعوا الواجبات وتعاطوا المسكرات والمخدرات مما كان سبباً لضعف الإيمان في قلوبهم وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية كثرة الفتن والمغريات حيث توفرت أفلام الجنس وأصوات المغنين والفنانين والفنانات وصور النساء العاريات أو شبه العراة ولك ذلك سبب الانهماك في هذه المحرمات فضعف الإيمان في القلوب وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية انفتاح الدنيا على أغلب الناس وانشغالهم بجمع الحطام الفاني والإعراض عن العلم والعمل والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب فكان سبباً لنسيان حق الله تعالى وتقديم الشهوات وما تتمناه النفس مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها، ومن الأسباب أيضاً ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي وقلة ما معهم من العلم الصحيح ورضاهم بأقل عمل مع مشاهدة كثرة الفساد وتمكن المعاصي وكثرة من يتعاطى على مرأى ومسمع من الجماهير ولا شك أن الأمة متى ضعف فيها جانب الإيمان والعمل الصالح وفسدت فطرها وانهمكت في الملاهي والشهوات وأعرضت عن الآخرة فإنها تضعف حسياً ويقوى الأعداء من كل جانب ويسيطرون على ما يليهم من بلاد المسلمين ولا يكون مع المسلمين قوة حسية ولا معنوية تقاوم قوة الأمم الكافرة وذلك ما حصل في كثير من البلاد الإسلامية التي تسلط عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب وتسلط عليهم ولاة السوء وأذلوهم وقهروهم حتى يرجعوا عن دينهم والله المستعان.
الشيخ عبدالله بن جبرين
ــــــــــــــــ(1/96)
حقيقة العمل الصالح
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
25/11/1422
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-----------
ملخص الخطبة
1 ـ العبودية لله مطلب دائم مستمر. 2 ـ اغتنام مواسم الخيرات. 3 ـ منزلة العمل الصالح وحقيقته. 4 ـ شروط القبول. 5 ـ حقيقة الإخلاص. 6 ـ عظم أمر النية. 7 ـ تحري الطيبات. 8 ـ المداومة على القليل. 9 ـ مراعاة جميع الحقوق. 10 ـ الحث على الاجتهاد والتحذير من الغفلة. 11 ـ هم القبول.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وارغبوا فيما عنده، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فطالبها مكدود، والمتعلق بما متعب مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوى مطاع، وعُمُر مُضاع، ورحم الله عبدًا أعطي قوةً وعمل بها في طاعة الله، أو قصر به ضعف فكفَّ عن محارم الله.
أيها المسلمون، للمسلم في كل ساعة من عمره وظيفة لربه، عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة، فاتقوا الله ما استطعتم، لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
ناهيكم ـ أيها المسلمون ـ بما امتن الله به على عباده من مواسم الفضل ونفحات الدهر، في شهر رمضان كله، ثم في عشره الأخيرة، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة، ثم في الحج ومناسكه، في كل هذه المواسم والنفحات مزيدُ الفضل ومضاعفات الأجر.
إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمَّس الأعمال الصالحات، ويتحرَّاها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
الأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة، ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله، وأثره وثمرته وجزؤه، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه: 112]، إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف: 107]، مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
كتاب الله العزيز وسنة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد تظافرا في بيان حقيقة ذلك ومتطلباته، وأثره وثماره، وسعة دائرته وعلامة صحته، وأسباب قبوله.
أيها الإخوة:
الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، وإتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار والبكاء على الخطيئة، كل أولئك علائم ومنارات وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح.
من عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تمَّ له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكبَّ على الذنوب لم ينتفع.
عباد الله:
لا يرجو القبول إلا مؤمن بربه وبآياته، عابدٌ مخلص، وجلٌ مشفق، يستصغر عباداته، ويستقلُّ طاعاته، مدركٌ لجلال الله وعظمته، وعلمه وإحاطته، رقيب له في شعائره ومشاعره.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
العمل الصالح لا بد أن يكون سليمًا من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيِّه وجليِّه، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف: 110]، وفي الحديث الصحيح: ((يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))(1)[1].
ولا بد في العمل الصالح أن يكون سليمًا من البدع ومحدثات الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(2)[2]، و((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(3)[3]، ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(4)[4]، فلا بد من لزوم متابعة المصطفى محمد ، فلا يُعبد الله إلا بما شرع رسول الله ، وفي التنزيل العزيز: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، بالمتابعة يتحصن المسلم من البدع كلها، فخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها.
والعمل الصالح ـ أيها الإخوة المسلمون ـ لا بد فيه من الإخلاص، إن من أشد المفسدات، ومانعات القبول، ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: ((إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)) رواه ابن خزيمة في صحيحه(5)[5].
وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعًا خطيرًا ذلكم هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه، ويبتغي حُظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغاياتها.
الإخلاص ـ حفظك الله ـ أن يستوي حال الظاهر والباطن، عبدُ الله المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أم لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجهٌ إلا لله، وليس له طمع إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، ليس له هرب إلى من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله.
المخلص لن يزيد عمله لأجل الحظوظ العاجلة، ولا ينقص بنقصها، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إذا حضر لم يعرف، وإذا غاب لم يُفقد.
أيها المسلمون، حجاج بيت الله:
إن موضوع النيات ومعالجاتها موضوعٌ خطير دقيق، هو أساس القبول والرد، وهو سبيل الفوز والخسران، يقول سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئًا أشدَّ من نيتي، فإنها تنقلب عليَّ"(6)[6]، وعن يوسف بن أسباط: "تخليص النية وفسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد"(7)[7]، وما أتي كثير من الناس إلا من ضياع نياتهم وضعف إخلاصهم.
الله الله في أنفسكم عباد الله، إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب وإخلاصها. الإخلاص ـ بإذن الله ـ يورث القوة في الحق والصبر والمثابرة والمداومة، بالإخلاص يتضاعف فضل الله، ويعظم أجره وثوابه، بل الإخلاص يجعل المباحات طاعات وعبادات وقربات، ومن ثمَّ تكون حياة العبد كلها لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163].
أيها الإخوة:
ويقترن بالإخلاص تحري الطيبات، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والطيب ما طيَّبه الشرع، لا ما طيَّبه الذوق، والطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].
ومن صفات نبينا محمد أنه يحلُّ الطيبات، ويحرم الخبائث، والمؤمن طيبٌ كله؛ قلبه ولسانه وجسده، فقلبه طيب لما وقر فيه من الإيمان، ولسانه طيب لما يقوم به من الذكر، وجسده طيب لما تقوم به الجوارح من كل عمل صالح. ومن أعظم ما يحصل به طيب العمل طيب المطعم، وحل المأكل، فالعمل الصالح لا يزكو إلا بأكل الحلال، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال آمرًا رسله عليهم السلام: ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً [المؤمنون: 51]، وقال آمرًا عباده المؤمنين: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172].
يقول بعض السلف: "لو كنت مقام السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك"، وكل لحم نبت بالحرام فالنار أولى به.
ولا تنس ـ رعاك الله ـ وأنت تتحرى الأعمال الصالحة، لا تنس المداومة عليها، وفي الخبر الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قل))، وقد كان عمله عليه الصلاة والسلام ديمَة(8)[8]، يقول الإمام النووي رحمه الله: "بدوام القليل تستمر الطاعة، تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنطقع أضعافًا كثيرة"(9)[9]، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: "مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقت ما كمن لازم يومًا كاملاً ثم انقطع".
ويقترن بالمداومة تحري القصد والاعتدال والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسؤوليات، فإن لنفسك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب، ((فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) (10)[10]، و((إن الله لا يمل حتى تملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون)) (11)[11].
أيها الإخوة:
هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، الموفَّقون للعمل الصالح ذوو القلوب المخلصة، والتوحيد الخالص، وهِمَمٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار، يرجون رحمة الله، وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57 ـ 61].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مستيقنٍ بها في جنانه، ومقرٍّ بها بلسانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبلغُ للوحيين: سنته وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون، الغفلة رأس الخطايا، يقول الحسن رحمه الله: "الحسنة نورٌ في القلب، وقوةٌ في الدبن، والسيئة ظلمة في القلب، ووهن في البدن، وظُلم المعصية يطفئ نور الطاعة".
فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة في الطاعات، والمسابقة إلى الصالحات، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [المعارج: 10، 11]، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] ولِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْراتِ [البقرة: 148] وفقكم الله، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت يأتي بغتة، والتسويف من مداخل الشيطان، والمبادرة أخلص للذمة، وأحسم في الأمر، وأبعد عن المطل، وأرضى للرب، وأمحى للذنب.
ولقد استوقف الصالحين قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، وكان فيها خوف السلف، بكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، وقد كنت وكنت؟ فقال: "إني أسمع الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"، ويقول أبو الدرداء : (لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها؛ إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا وحاسبوا، كيف بمن عرف الله فلم يؤد حقه؟! وكيف بمن يدعي محبة رسول الله فلم يعمل بسنته؟! وكيف بمن يقرأ القرآن ولم يعمل به؟! يتقلَّب في نعم الله فلم يشكرها، لم يتخذ الشيطان عدوًا، لم يعمل للجنة، ولم يهرب من النار، لم يستعد للموت، اشتغل بعيوب الناس، وغفل عن عيوب نفسه، هذا وأمثاله في غمرة ساهون، تستدرجهم النعم، ويطغيهم الغنى، ويلهيهم الأمل، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة: 19]، ولسوف يندمون إن لم يتوبوا، ولات ساعة من مندم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وجدُّوا واجتهدوا وسددوا وقاربوا والقصد القصد تبلغوا، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله...
----------------
(1) أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه أحمد (4/126 ـ 127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95 ـ 96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين" وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/227) من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد مرفوعًا، وصححه ابن خزيمة (2/67) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (31)، ومحمود بن لبيد من صغار الصحابة، وجل روايته عن الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخرج البيهقي (2/290 ـ 209) هذا الحديث من طريق عاصم عن محمود بن لبيد عن جابر رضي الله عنهما.
(6) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1/317)، وانظر الحلية لأبي نعيم (7/5).
(7) انظر: جامع العلوم والحكم (ص 13).
(8) أخرجه البخاري في الرقاق (6465)، ومسلم في صلاة المسافرين (782، 783).
(9) شرح صحيح مسلم (6/71).
(10) 10] أخرجه البخاري (6098) من حديث أبي هريرة بنحوه.
(11) 11] أخرجه البخاري في الإيمان (43)، ومسلم في صلاة المسافرين (782) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
http://www.alminbar.net المصدر:
ــــــــــــــــ(1/97)
متى يكون العمل الصالح مقبولاً ؟
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
الحمد لله
لا يكون العمل الصالح مقبولاً إلا بشرطين:
الإخلاص والمتابعة
فأما الإخلاص فأن يكون العمل خالصا لله - عز وجل -، لا يُريد به الإنسان رياء ولا سمعة
قال - سبحانه وتعالى -: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
وقال - عليه الصلاة والسلام -: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتُغي به وجهه. رواه الإمام أحمد وغيره.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: قال اللّهُ- تبارك وتعالى -: أَنَا أَغْنَىَ الشّرَكَاءِ عَنِ الشّرْكِ،.مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.رواه مسلم.
وأما متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقوله - تعالى -: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)
ومن مشاقّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداع ما لم يشرعه لأمته ولم يتعبّد به - عليه الصلاة والسلام -.
قال - عليه الصلاة والسلام -: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد رواه البخاري ومسلم
وفي رواية: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
سُئل الفضيل بن عياض عن قوله - تعالى -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) قال: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فلا بدّ من اجتماع الإخلاص لله مع المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل
قال ابن القيم: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله - سبحانه - أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
وقد نص العلماء على أن المتابعة لا تتحقق إلا بستة أمور:
الأول: سبب العبادة.
الثاني: جنس العبادة.
الثالث: قدر العبادة.
الرابع: صفة العبادة.
الخامس: زمان العبادة (فيما حُدِّد لها زمان).
السادس: مكان العبادة (فيما قُيّدت بمكان مُعيّن).
وطالما أننا نتكلّم عن السنة ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بُد في إثبات عبادة أو قُربة وطاعة على وجه مخصوص من دليل خاص.
فليس كل عمل مشروع تُشرع آحاده.
ولذا أنكر ابن مسعود - رضي الله عنه - على مَن سبّحوا بالحصى، بل رماهم بالحصى وسيأتي تفصيل ذلك.
فالذّكر مشروع ولكن الوسيلة والطريقة غير مشروعة فأنكر عليهم.
وسوف أشير إلى قصة سعيد بن المسيّب مع الرجل الذي يُصلّي بعد العصر.
فالصلاة مشروعة لكن الصلاة في ذلك الوقت أو على صفة تُخالف الصفة المشروعة مُحدّثة.
والصيام عبادة، لكن لا يُشرع أن يتقرب الإنسان إلى الله بصيام الليل مثلا
ولا باقتران الصيام بأمر خارج عنه بقصد القُربة كما لو صام ونذر أن لا يتكلم أو لا يستظل ونحو ذلك.
فالنّيّة هنا لها أثر في العمل، تماماً كما في مسألة الصيام لأجل فلسطين، فقد رأيت لبعضهم بدعة جديدة! وهي الاتفاق على صيام يوم معيّن لأجل فلسطين (وتفصيل ذلك كان في محله ووقته).
وهكذا.
فلو أراد شخص أن يتقرّب إلى الله بصلاة، لقلنا: نعم. الصلاة مشروعة، ولكن ما صفة تلك الصلاة، وفي أي وقت تريد أن تُصلي؟
فلو قال أريد أن أتقرّب إلى الله بثلاث ركعات بعد الظهر لمُنِع من ذلك.
لأن هذه الصفة لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ولو قال أريد أن أُصلي ركعتين ولكن بعد العصر لمُنِع من ذلك أيضا
وربما قال: أريد أن أُصلّي وأتقرّب إلى الله، والصلاة مشروعة وقُربة
فيُقال له: الصلاة مشروعة، ولكنها في هذا الوقت ممنوعة
وهذا ما فهمه السلف الصالح، فقد رأى سعيد بن المسيب رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟!! قال: لا ولكن يعذبك على خلاف السنة. رواه عبد الرزاق.
ومثله الأذكار، فقد أفرط فيها بعض الناس، وجعلوا لها آلات يعدّون بها التسبيح وجعلوا لهم أعداداً ما شرعها لهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
من أجل ذلك أنكر ابن مسعود - رضي الله عنه - بل وشدد في الإنكار على من كانوا يعدّون التسبيح بالحصى وقد تحلّقوا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد روى الدارمي عن عمر بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن اني رأيت في المسجد أنفاً أمراً أنكرته ولم أر والحمد لله الا خيرا. قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوما حلقاً جلوسا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصاً فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم ان يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصاً نعدّ به التكبير والتهليل والتسبيح قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ان لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وأنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلي ملة هي أهدي من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا الا الخير! قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها.
فانظر إلى فقه ذلك الصحابي الجليل - رضي الله عنه -، وإلى نظرته الشديدة للبدعة ووأدها في مهدها، وأن حسن النية وسلامة المقصد ليس عذرا في ارتكاب البدع
ثم قال كلمة تُخطّ بماء العيون: وكم من مريد للخير لن يصيبه.
ثم انظر بعين بصيرتك إلى آثار البدع كيف حملت أصحابها على مفارقة السنة ومجانبة الحق وأهله، حتى قاتلوا خير الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقاتلوا الصحابة في يوم النهروان، قد خرجوا مع الخوارج.
فعليكم عباد الله بالتمسك بالسنة لتحشروا في زمرة صاحبها - عليه الصلاة والسلام -.
وفي البدع سوء أدب مع مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال الإمام مالك - رحمه الله -: من ابتدع في الدين بدعة فرآها حسنة فقد اتّهم أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.
فكأن من يبتدع في دين الله يستدرك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُريد أن يعمل عملا لم يعمله - عليه الصلاة والسلام - بحجة أن ذلك العمل من أعمال الخير.
فهل نحن أحرص على الخير من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحابه؟؟
إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى أصحابه بوصية عظيمة فقال:
فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.
وكان - عليه الصلاة والسلام - يفتتح خطبه بقوله:
قال جابر بن عبد الله: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. رواه النسائي وغيره.
فها هو أفصح ولد آدم يقول: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم يأتي من يقول: إن من البدع ما هو حسن أو مُستحسن!
ولقد أحسن ابن مسعود - رضي الله عنه - عندما قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم.
نسأل الله أن يُلهمنا رشدنا وأن يرزقنا الفقه في ديننا والتمسك بسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -والله أعلم.
http://saaid.net المصدر:
ــــــــــــــــ(1/98)
الاستمرار على العمل الصالح
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. إلهنا تَمَّ نورك فهديتَ فلك الحمد.. عَظُمَ حِلْمُكَ فغفرتَ فلك الحمد.. بسطت يا رب يدك فأعطيت فلك الحمد.. تطاعُ فتشكر.. وتُعصى فتغفر وتجيب دعوةَ المضطر ولا يبلغ مدحتك قولُ قائل وأشهد أن لا إله إلا الله ـ وحده لا شريك له ـ يقلّب الله الليلَ والنهار إن في ذلك لعبرةً لأولى الأبصار، هو الذي جعل الليلَ والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سَيّدُ المرسلين.. وإمامُ المتقين.. وخاتمُ النبيين.. اللهم صل وسلم عليه وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وزوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته وأصحابه الأكرمين.. ومن تبعهم بإحسان واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.. أَمَّا بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واستقيموا على طاعة الله ورسوله إن كنتم تريدون سعادةَ الدنيا والآخرة..
{ومن يطع الله ورسوله ويخشى اللهَ ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
عباد الله: - إِن مرورَ الليالي والأيام، وتعاقب الفصول والشهور، ليذكرُنا بأنَّ هذه الحياة الدنيا مراحل كلُ مرحلةٍ تقرّبُنا إلى الدار الآخرة وتبعدُنا عن دار الغرور.
وما هذه الأيام إلا مراحلٌ * * * يحثٌ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجبُ شيءِ ـ لو تأملتَ ـ أنها * * * منازلُ تطوى والمسافر قاعدُ
قال الحسن - رحمه الله - : (الموتُ معقودٌ في نواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم، ابنَ آدم إنما أنت أيامٌ مجموعة كلما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك).
ولئن كانت سرعةَ مرور الأيام وتعاقبَ السنين تذكِّرُنا بأننا نقطعُ سفرَنَا إلى الدار الآخرة فإنها أيضاً تُحَتِّمُ علينا بأن نعيَ ونعلمَ أن كلَّ مرحلةٍ لها قيمتُها ومكانتُها، ولها كذلك واجباتُها التي ينبغي أن نؤدَيها في وقتها المناسب، وهذه المراحل موصولةٌ مفصولة فهِي موصولةٌ بتتابعها والتحامها في مجرى الزمن.
وهي مفصولةٌ إذ لكل منها واجبٌ مستقل وحسابٌ قائم ولذلك جاء عن الحسن - رحمه الله - إنه قال: (ما من يومٍ ينشقُ فجره إلا نادى منادٍ من قبل الحق: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزوّد مني بعملٍ صالح فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة).
إن الوقت في حياة المسلم له أهميةٌ عظيمة بل هو الحياةُ وكفى.
ولذلك فإن من التوفيق والسعادةِ أن يُصرفَ هذا الوقتُ في العمل الصالح والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعلّم العلم والذكر وقراءة القرآن وفي كل أمرٍ لا بد للإنسان منه فمن فَعَلَ ذلك أدرك قيمةَ وجودهِ في الحياة.
قال أبن القيم ـ عليه رحمة الله ـ: (وقَتُ الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو يمرُّ مَرَّ السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياتُهُ وعُمُرُه، وغيُر ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عَيشَ البهائم).
أَمَّا مَنْ صرف أوقاتهَ وضيعّ ساعاتَه في غير طاعة الله بل في أعمالٍ تُسخط الله ورسوله وتُلحق الضرر بالمؤمنين، وتنفعُ أعداءَ الدين، فإن هذه الساعاتِ واللحظات ستكون حسرةً عليه يوم القيامة.
أيها المسلمون: وإذا كانت هناك للطاعات مواسم ُ ينتهزُها المؤمنون ليتزوّدوا من الأعمال الصالحة فليس معنى هذا أن يَعْقُب هذا المواسمَ ركود أو جمود وإلا ضاع في فترات العجز والكسل ما تجمع في أوقات الجِدِّ والعمل إن على المرءِ أن يواصلَ الخير بدون ملل " فأحب العمل إلى الله أدومُهُ وإن قَلّ المسلم مطالبٌ بأن يستقيم على طاعة الله - عز وجل - إلى الممات وأن يستمر على عبادة الله كما قال الله - تعالى -: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).. وقال - تعالى -: (فاستقيموا إليه واستغفروه).. وقال - جل وعلا -: (فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير).
وهكذا كان سلفنا الصالح - رحمهم الله - يعظمون شعائر الله، ويهتمون بالفرائض والواجبات طول الحياة وعلى تعاقب السنيين ولا سيما صلاةُ الجماعة هذا الربيعُ بن خُثَيْم - رحمه الله - : (يُقاد إلى المسجد للصلاة وهو مصابٌ بالفالج فقيل له قد رُخّص لك قال: إني أسمعُ " حي على الصلاة "فإن أستطعتم أن تأتُوها ولو حبواً). وكان الأسود بن يزيدٍ - رحمه الله - : (إذا حضرت الصلاة أناخَ بَعيرَهُ ولو على حَجَرَ). أمَّا الصحابي الجليل عدي بن حاتم - رضي الله عنهما - فيقول: (ما دَخَلَ وقتُ صلاةٍ إلا وأنا مشتاقٌ إليها) (وما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء). وصحَّ عن التابعي سعيد بن المسيِّب - رحمه الله - أنه قال: (ما فاتتني الصلاة مع الجماعة منذ أربعين سنة وما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنه إلا وأنا في المسجد). وهذا سليمان الأعمش - رحمه الله - (بَلَغَ من العمر سبعين سنة ولم تفته التكبيرة الأولى ويقول الراوي: ترددتُ إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة). وكان مفتي دمشق سعيدٌ التنوخي - رحمه الله - (إذا فاتته صلاة الجماعة بكى، حزناً وأسفاً).
أمَّا عامر بن عبد الله بن الزبير - رحمهم الله - فلقد سَمِعَ المؤذن يؤذنُ لصلاة المغرب وهو يجودُ بنفسه أي عند الموت وحضور الأجل فقال - رحمه الله - لمن كان عنده: (خذوا بيدي فقالوا: إنك مريض معذور فقال: سبحان الله أسمع داعي الله فلا أجيبه فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في صلاة المغرب فركع ركعةً ثم مات - رحمه الله -، الله أكبر على هذه النفوس الزكية والقلوب النقية، هكذا كان السابقون في الحرص على الخير والمحافظة على الصلاة مع الجماعة، بل تقويمهُم للرجال ومعرفتُهم بالأخيار من خلالِ النظر في مدى المحافظة على الفرائض.
يقول الإمام إبراهيم التميمي - رحمه الله - (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه).
فرحمةُ الله عليهم أجمعين {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والأبصار} هؤلاء هم المستقيمون حقاً وهم المسابقون صدقاً فما أعظمَ جزاءهم وما أرفعَ منزلتهم {إِن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ ولا هم يحزنون.. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون}.. وقال - سبحانه وتعالى -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزلُ عليهم الملائكةُ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنةِ التي كنتم توعدون.. نحن أولياءوكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نزلاً من غفوراً رحيم}.
اللهم اجعلنا من أولياءك المقربين.. وحزبك المفلحَين.. اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رَبَّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.. أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واستقيموا إليه واستغفروه لعلكم تفلحون.
أيها الإخوة: إن المسلمين الأصحاء حينما يودعون شهراً كرمضان ويستقبلون شهراً كشوال يتذكرون حقَّ التذكر أن رمضان كان موسماً مباركاً للطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع العبادات ولكنهم يتذكرون في الوقت نفسه أَن الله الذي جعل رمضان ميداناً للتنافس في الخيرات هو الذي هيأ ما تبقى من أجزاء الزمان لكي يشغلها المسلم بما يرضي رَبَّه ويصلح أمره في دينه ودنياه، فواجبٌ عليه ألاّ ينكص عليه عقبيه بعد رمضان ليتفلّت من واجب أو ليهمل في عبادة، بل هو يواصل أعمالَ البر وخصالَ الخير مستعيناً بالله متوكلاً عليه جاعلاً وصيةَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمام ناظريه حين قال: (قل آمنتُ بالله ثم أستقم) متذكراً أنه سيغادر هذه الدنيا إلى الآخرة وستصيبُه مصيبةُ الموت عندها {يتذكر الإنسان وأني له الذكر يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي} ويقول ياليتني عملت بطاعة الله ولم أفرّط في جنب الله ويتمنى أن يرجع ليعمل ولكن هيهات حَضَرَ الأجل، وانقطع العمل {فاليوم لا تظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون}.
اللهم إنا نسألك أن تصلح قلوبنا، وتنوّرها بنور الإيمان..اللهم أهدنا ويَسِّرِ الهدى لنا.
http://www.islamlight.net المصدر:
ــــــــــــــــ(1/99)
المداومة على العمل الصالح
عبد الباري بن عوض الثبيتي
الخطبة الأولى:
أمّا بَعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتَقوَى الله، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
هنيئًا لمن وفِّق للصيام، هنيئًا لمن تقبَّل الله منه، هنيئًا لمن جأَر إلى الله بأصدق الدَّعَوات، هنيئًا للتّائبين، هنيئًا للمستغفِرين. كم من تائبٍ قُبِلت توبتُه ومُستغفِرٍ مُحيَت حَوبَته، كم من مستوجِب للنار أجارَه الله منها وأسعَده. يا من صُمتم رمضانَ، هنيئًا لكم قولُه: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، للعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاءُ في الدنيا حُسنُ رعايةِ الله، ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي عليها)) رواه البخاري.
جزاءُ العمل الصالح المودَّةُ في قلوبِ المؤمنين، قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله: ((إذا أحبَّ الله العبدَ نادى جبريلَ: إنَّ الله يحب فلانا فأحبِبْه، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبُّ فلانا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض)).
حسن الذكر جزاءُ العمل الصالح، قال - تعالى -: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27]، أي: جمع الله - تعالى -لإبراهيم - عليه السلام - بين سعادة الدنيا الموصولَة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزقُ الواسع الهنيّ والمنزِل الرَّحب والمورد العَذب والثناء الجميل والذكرُ الحسَن وكلُّ أحدٍ يحبّه ويتولاَّه.
تفريجُ الكروب جزاءُ العمل الصالح، قال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وفي الحديث عن النبي: ((بينما ثلاثةُ نفَر يمشونَ أخذَهم المطر، فآوَوا إلى غار في جبل، فانحطَّت على فمِ غارهم صخرةٌ منَ الجبل فانطبَقَت عليهم)) رواه البخاري ومسلم، فلم يُنقِذهم إلاّ توسّلُهم إلى الله بأعمالهم الصالحة.
مَن صام رمضان وظنَّ أنَّ الصيام والقيامَ قد انقضى بانقضاء رمضانَ فقد أخطأ، فمِن علامة الحسنة فِعلُ الحسنة بعدها، ونهايةُ العمل يكون بالموت، قال - تعالى -: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. ومِن علامة قبول التوبة والأعمالِ أن يكونَ العبد أحسنَ حالا بعد الطاعة عمَّا قبل. ومن علامةِ القبول التوفيقُ بعد العمَل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاء الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاء السيئة سيّئة بعدها"، فالأعمال الصالحة تجرّ بعضُها بعضًا، والأعمال السيّئة يسوق بعضها بعضًا، قال بعض السلف: "من وجَد ثمرةَ عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القَبول آجلا".
أيها المسلمون، داوِموا على الخير الذي قدَّمتموه والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، وفي مقدّمة هذه الأعمال الصالحة الصلاةُ، الزكاة، الصيام، الحجُّ، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاونُ بها مطلقًا والتقليلُ من أهمِّيَّتها.
العمل الصالح لا يقتصر على عباداتٍ معيّنة وحالات مخصوصة، بل هو عامّ واسع ومفهومٌ شامل، فمن بنى مسجدًا أو أنشأ مدرسةً أو أقام مستشفى أو شيَّد مصنعًا ليسُدَّ حاجةَ الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحا وله به أجر. من وَاسَى فقيرًا وكفل يتيما وعاد مريضًا وأنقذ غريقًا وساعد بائسا وأنظر معسِرا أرشد ضالاًّ فقد عمل صالحا، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((كلُّ معروف صدقة)) رواه البخاري.
كل عمل صالح ينتفع به الآخرون أنت مأجور عليه وهو من الصالحات. الإحسانُ إلى البهائم عمَلٌ صالح، رجل سقَى كلبًا فشكر الله له سعيَه فغَفر له. غرسُ الأشجار إماطةُ الأذى عن طريق الناس عمَل صالح. الخِدمة العامّة للمجتمع صيانةُ مرافق المسلمين العامّة عمل صالح بالنِّيَة الصادقة، فقد قال: ((مرَّ رجلٌ بغصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله، لأنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمِين؛ لا يؤذِيهم، فأُدخِل الجنةَ)) رواه البخاري ومسلم، وقال: ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو: بضع وستون ـ شعبة))، وفيه: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
على المرء أن لا يحقِرَ المعروفَ وعمَل الخير مهمَا كان صغيرًا، فالله يجازي على وزن الذَّرَّة من الخير، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7، 8]، وفي الحديث: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلق)).
وإذا قعدَت بالعبد قلَّةُ ذات اليد وكان يملك نفسًا توَّاقةً للعمل الصالح فتَح الله له من ميادين الخيرِ حسبَ طاقته، فعن أبي موسى عن النبي: ((على كلِّ مسلمٍ صَدقة))، قالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم يجد؟! قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة)) أخرجه البخاري ومسلم.
كلُّ من يؤدي رسالةً لأمته فهو في عملٍ صالح؛ الكاتبُ بقلمه الصالح، والطبيب بأدويتِه النافعة، والباحث في معمَله، والفلاح في مزرعَتِه، والمعلِّم بين يدَي طلاَّبه، والمسئول يؤدِّي ما ائتُمِن عليه، كلُّ هؤلاء ينصرون الدين ولهم فضل عظيم.
أيها المسلمون، المداومة على الأعمال الصالحة من أحبِّ الأعمال إلى الله، ومن هديِ رسول الله المداومةُ على العمل الصالح، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانَ رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نامَ من الليل أو مرضَ صلَّى من النهار ثِنتَي عشرةَ ركعةً. رواه مسلم.
بارَك الله لي ولَكم في القُرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه عَلَى توفِيقِه وامتِنانِه، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنِه، وأشهد أنَّ سيّدَنَا ونَبيَّنا محمّدًا عَبده ورسوله الدَّاعي إلى رِضوانه، صلى الله علَيه وعلَى آله وأصحابه وأتباعه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، ورَاقِبوه في السرّ والنجوَى.
قال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاةِ المكتوبة الصلاةُ في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيامُ شهر الله المحرَّم)).
ومن العمل الصالح ـ إخوةَ الإسلام ـ صيامُ ستٍّ من شوال، فقد قال: ((من صام رمضانَ ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهر)) أخرجه مسلم.
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
5/10/1427
http://www.alminbar.net المصدر:
ــــــــــــــــ(1/100)
ضوابط العمل الصالح
جمال أحمد بشير
في توجه العبد المؤمن إلى ربه، وفي سيره وانقطاعه إليه يحتاج إلى ما يضبط سلوكه ويزن أفعاله حتى لا يحيد عن الطريق ولا يخطئ الجادة. لذلك ذكر سلفنا الصالح شروطاً وضوابط للعمل الصالح باستقراء نصوص الكتاب والسنة وبدون هذه الشروط والضوابط يكون العمل معرضاً للخلل والنقصان؛ بل والرد على صاحبه فلا يجني من عمله إلا التعب والمشقة.
ونذكر فيما يلي أهم هذه الشروط:
الأول: الإخلاص لله - عز وجل -.
الثاني: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فلا بد من إخلاص النية لله في أي عمل يعمله العبد. قال - تعالى -:[ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ][البينة: 5]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "[1] ؟ وقال - صلى الله عليه وسلم-: " قال الله - تعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه؛ وهو كله للذي أشرك " [2] .
ولا بد في إخلاص العمل من أن يكون هذا العمل مما شرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول - تعالى -:[ قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ] [آل عمران: 31] ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [3] وفي لفظ. " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك. يقول ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله -:(فهما توحيدان، لا نجاه للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -) [4] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان،أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع. لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) كما قال - تعالى -:[ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ].
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا. يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله - تعالى -:[ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ][5] .
ويقول ابن القيم - رحمه الله -: (فلا يكون العبد متحققاً بـ[ إيَّاكَ نَعْبُدُ [إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: الإخلاص للمعبود [6].
والعمل - بالمشروع يحصن المؤمن من الوقوع في المبتدع من الأعمال ويغنيه عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وكذلك العباد: إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً، وذاقوا طعم الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية، والمقامات العلية، والنتائج العظيمة، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه، كالتغبير ونحوه، من السماعات المبتدعة، الصارفة عن سماع القرآن، وأنواع من الأذكار والأوراد، لفقهاء بعض الناس. أو في قدره، كزيادة من التعبدات، أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها) [7] .
ومن الضوابط المهمة التي ذكرها أهل السنة في شأن الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله - تعالى -: القصد. والمداومة.
قال - تعالى -:[ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ][البقرة: 185]
وقال - تعالى -:[ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ][الحج: 78].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا [8] .
وعن عائشة - رضي الله عنها -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سددوا وقاربوا، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل " [9] .
وعنها - رضي الله عنها - قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل. وقال. اكلفوا من الأعمال ما تطيقون [10] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " [11] .
قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح الحديث الثاني: (ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة) [12] .
وقال ابن حجر في شرح (واكلفوا، من الأعمال ما تطيقون): (ما تطيقون) أي قدر طاقتكم، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال) [13] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الاقتصاد في العبادة) [14] إلى أن قال: فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها، كانت محرمة، مثل أن يصوم صومأ يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب. وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة) [15] .
وأورد قول ابن مسعود: (إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي ) [16]. وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في معرض شرحه للأحاديث المذكورة السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله - عز وجل - شيئان:
أحدهما: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل آله وأزواجه من بعده. وكان ينهى عن قطع العمل [17] .
والثاني: أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير [18].
وقال ابن رجب - رحمه الله - في تفسير (سددوا وقاربوا): المراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه [19] .
وحول معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - » وأبشروا « قال: يعني أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال. فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها. وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره. وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله - عز وجل - صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح) [20] .
ومما يتعلق بهذا الباب ما ثبت في الصحيح من نصح النبي - صلى الله عليه وسلم- لعبد الله ابن عمرو بن العاص بأن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، وبأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام عندما رآه مقبلاً على الطاعة والعبادة وقال له: " إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، فائت كل ذي حق حقه ". فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه.
لذلك نرى ابن القيم قد قسم الناس في العبادة إلى أربعة أصناف، ثم رجح الصنف الرابع الذين: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته [21]. وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهل السنة بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس. فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر. قال الشاطبي - رحمه الله -(أصل آخر: وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل) [22]. ثم زاد الأمر توضيحًا فقال:
(فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل) [23]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع، وأتبع، كان أفضل. فإن الأعمال. لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما
يحصل في القلوب حال العمل) [24] ومما ينبغي التنبيه عليه أن هذه الأمور وأمثالها لا تدرك إلا بالعلم وطلبه ولذلك ورد في حديث عائشة السابق (واعلموا) وهو إشارة إلى أهمية العلم النافع الذي يثمر العمل الصالح المقبول.
---------------
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، وابن ماجه في الزهد، ومسند أحمد 2 /301، 435.
(3) متفق عليه.
(4) شرح العقيدة الطحاوية / 200.
(5) مجموع الفتاوى ا /333-334.
(6) مدارج السالكين 1/ 83.
(7) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 99.
(8) رواه البخارى ح 6463.
(9) المصدر السابق ح 6464.
(10) المصدر السابق ح 6465.
(11) صحيح البخاري، كتاب الإيمان 0.
(12) فتح الباري 11/298.
(13) فتح البارى 11 / 299.
(14) الفتاوى 5/272.
(15) الفتاوى 5/272 -273.
(16) المصدر السابق 5/276.
(17) المحجة في سير الدلجة / 45.
(18) المصدر السابق / 46.
(19) المصدر السابق / 51.
(20) المصدر السابق /52، 53.
(21) مدارج السالكين 1 / 88.
(22) الموافقات للشاطبي 2 /128.
(23) المصدر السابق /129.
(24) الفتاوى 25/281-282.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــــــــ(1/101)
شروط العمل الصالح
إن العمل لا يكون عبادة إلا إذا كمل فيه شيئان وهما : كمال الحب مع كمال الذل قال الله تعالى : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) البقرة/165 ، وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء/90 .
فإذا علم هذا فليعلم أن العبادة لا تقبل إلا من المسلم الموحد كما قال تعالى عن الكفار : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) الفرقان/23 .
وفي صحيح مسلم ( 214 ) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ لا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" يعني أنه لم يكن يؤمن بالبعث ، ويعمل وهو يرجو لقاء الله .
ثم إن المسلم لا تقبل منه العبادة إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان :
الأول : إخلاص النية لله تعالى : وهو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره .
الثاني : موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به : وذلك يكون بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وترك مخالفته ، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام .
والدليل على هذين الشرطين قوله تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف/110
قال ابن كثير رحمه الله : " ( فمن كان يرجوا لقاء ربه ) أي ثوابه وجزاءه الصالح ( فليعمل عملا صالحا ) أي ما كان موافقا لشرع الله ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .ا.هـ
وكلما كان الإنسان أعلم بربه وأسمائه وصفاته كان أكثر إخلاصاً ، وكلما كان أعرف بنبيه صلى الله عليه وسلم وسنته كلما كان أكثر اتباعاً ، وبالإخلاص والمتابعة تحصل النجاة للعبد في الدارين . نسأل الله الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.
موقع الإسلام سؤال وجواب
ــــــــــــــــ(1/102)
النية في العمل الصالح
فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1782)
سؤال رقم 20742- النية في العمل الصالح
كيف يجب أن تكون نية الشخص وهو يقوم بعمل صالح ؟ هل يجب أن يقوم به لوجه الله ونبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أم يكون لوجه الله ومن محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وسنته ؟ أم يكون لوجه الله سبحانه وتعالى فقط ؟.
الحمد لله
الواجب في العبادة أن تكون خالصة لله تعالى وحده ، كما قال الله تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) البينة/5 .
وقال : ( وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) الليل/19-20 .
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ
بِهِ وَجْهُهُ ) رواه النسائي (3140) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (52) .
وتأمل قول الله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) التوبة/59 .
كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله ، وجعل الحسب ( وهو الكفاية ) لله وحده ، فلم يقل : ( وقالوا حسبنا الله ورسوله ) وجعل الرغبة إلى الله وحده
فقال : ( إنا إلى الله راغبون ) ولم يقل : وإلى رسوله . كما قال تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) الانشراح / 7-8 .
انظر : زاد المعاد (1/36) .
فيجب إفراد الله تعالى بالعبادة ، ولا يجوز أن يقوم بالعبادة وهو ينوي بها التقرب إلى أحد من المخلوقين .
وأما حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته فذلك يكون باتباعه وتعظيم سنته لا بصرف العبادة إليه .
والعبادة لا تكون مقبولة عند الله تعالى إلا إذا توفر فيها شرطان :
الأول : الإخلاص لله تعالى .
الثاني : متابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموافقة شريعته .
وقد دل على هذين الشرطين قول الله تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف / 110 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( فليعمل عملا صالحا ) ما كان موافقاً لشرع اللّه ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وهو الذي يراد به وجه اللّه وحده لا شريك له ، وهذان ركنا
العمل المتقبل ، لا بدَّ أن يكون خالصاً للّه، صواباً على شريعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اهـ .
فعليك أن تقصد بالعبادة وجه الله تعالى وحده ، وتجتهد في موافقة سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل الصالح . والله تعالى أعلم .
ــــــــــــــــ(1/103)
شروط العمل الصالح
فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1968)
سؤال رقم 21362- شروط العمل الصالح
متى يقبل الله عمل العبد ؟ وما هي الشروط في العمل كي يكون صالحاً مقبولاً عند الله ؟.
الحمد لله
وبعد : فإن العمل لا يكون عبادة إلا إذا كمل فيه شيئان وهما : كمال الحب مع كمال الذل قال الله تعالى : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) البقرة/165 ، وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء/90 .
فإذا علم هذا فليعلم أن العبادة لا تقبل إلا من المسلم الموحد كما قال تعالى عن الكفار : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) الفرقان/23 .
وفي صحيح مسلم ( 214 ) عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ لا يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" يعني أنه لم يكن يؤمن بالبعث ، ويعمل وهو يرجو لقاء الله .
ثم إن المسلم لا تقبل منه العبادة إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان :
الأول : إخلاص النية لله تعالى : وهو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره .
الثاني : موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به ، وذلك يكون بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وترك مخالفته ، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام .
والدليل على هذين الشرطين قوله تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) الكهف/110
قال ابن كثير رحمه الله : " ( فمن كان يرجوا لقاء ربه ) أي ثوابه وجزاءه الصالح ( فليعمل عملا صالحا ) أي ما كان موافقا لشرع الله ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .ا.هـ
وكلما كان الإنسان أعلم بربه وأسمائه وصفاته كان أكثر إخلاصاً ، وكلما كان أعرف بنبيه صلى الله عليه وسلم وسنته كلما كان أكثر اتباعاً ، وبالإخلاص والمتابعة تحصل النجاة للعبد في الدارين . نسأل الله الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة . الشيخ محمد صالح المنجد
ــــــــــــــــ(1/104)
الإعجاب بالنفس بعد العمل الصالح
فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5361)
سؤال رقم 6356- الإعجاب بالنفس بعد العمل الصالح
يشعر الإنسان في بعض الأحيان بالإعجاب بالنفس أو الرياء إذا عمل الخير أو أدى العبادة ويخاف أن يكون ذلك مبطلاً لأعماله ، فما هو توجيهكم ؟
الحمد لله
إذا دخل على الإنسان عجب بعد العمل الصلح أو خوف من الرياء فعليه أن يطرده ويحاربه ويستعيذ منه بقوله ( اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم ) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومثل هذا الشعور ينتاب كل إنسان ، لكن عليه أن يستحضر الإخلاص ، ويستغفر الله تعالى ، ويتذكر أنه لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى ، فلولا أن الله تعالى أعانه على أداء هذا العمل ما أطاق فعله ، فلله الحمد أولاً وآخراً .
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : ( يا معاذ والله إني لأحبك ، أوصيك يا معاذ : لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم وهو صحيح.
ولا يترك العمل الصالح خوفاً من الرياء , لأن هذا من خطوات الشيطان لتخذيله عما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال .
أما مجرد الفرح بالعمل الصالح فإنه لا ينافي الإخلاص والإيمان ، فقد قال سبحانه ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرمما يجمعون ) يونس / 58 أي إذا حصل الهدي والإيمان والعمل الصالح وحلت الرحمة الناشئة عنه حصلت السعادة والفلاح ، ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( إذا سرتك حسناتك ، وساءتك سيئتك ، فأنت مؤمن ) . رواه أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث أبي أمامة وهو حديث صحيح .
وكذا لو أثنى الناس عليه وعلى عمله الصالح ، فإن هذا من بشرى الله تعالى له العاجلة ، فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه ؟ قال : ( تلك عاجل بشرى المؤمن ) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وهو دليل رضى الله تعالى عنه ومحبته له فيُحببه إلى الخلق .
نسأل الله تعالى صلاح النية والعمل .
المرجع : مسائل ورسائل/محمد المحمود النجدي ص21
ــــــــــــــــ(1/105)
ما يراد بالإيمان إذا قرن بالإسلام أو العمل الصالح
وَأَمَّا إذَا قُيِّدَ الْإِيمَانُ فَقُرِنَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَهَلْ يُرَادُ بِهِ أَيْضًا الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ لَا يَكُونُ حِينَ الِاقْتِرَانِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ ؟ بَلْ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضًا وَلَا لَازِمًا هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ الْأَسْمَاءِ يَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْمَعْرُوفِ " وَ " الْمُنْكَرِ " إذَا أُطْلِقَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلُهُ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ كُلُّ خَيْرٍ وَفِي الْمُنْكَرِ كُلُّ شَرٍّ . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فَغَايَرَ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ - كَمَا غَايَرَ بَيْنَ اسْمِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ ؛ وَاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } غَايَرَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَخَلَتْ الْفَحْشَاءُ فِي الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ : { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ الْمُنْكَرِ اثْنَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } جَعَلَ الْبَغْيَ هُنَا مُغَايِرًا لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ فِي ذَيْنِك الْمَوْضِعَيْنِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْعِبَادَةِ " فَإِذَا أُمِرَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا دَخَلَ فِي عِبَادَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ ؛ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } . وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } . وَقَوْلِهِ : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } . ثُمَّ قَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَقَوْلِ نُوحٍ { اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } . وَكَذَلِكَ إذَا أُفْرِدَ اسْمُ " طَاعَةِ اللَّهِ " دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً فِي طَاعَتِهِ وَكَذَا اسْمُ " التَّقْوَى " إذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ كُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَتَرْكُ كُلِّ مَحْظُورٍ . قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ : التَّقْوَى : أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنْ اللَّهِ تَخَافَ عَذَابَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } .وَقَدْ يُقْرَنُ بِهَا اسْمٌ آخَرُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } . وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَقَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } مِثْلُ قَوْلِهِ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } وَقَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَعَطَفَ قَوْلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ ؛ كَمَا عَطَفَ الْقَوْلَ السَّدِيدَ عَلَى التَّقْوَى ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّقْوَى إذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَ فِيهَا الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ فِي حَقِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } وَإِذَا أُطْلِقَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ التَّوَابِعِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَوْلُهُ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَةَ وَإِذَا قِيلَ : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } وَإِذَا قِيلَ : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِنْفَاقُ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } كَمَا يَدْخُلُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } . مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 162)
ــــــــــــــــ(1/106)
لا بد من العمل الصالح ، وهو الواجب والمستحب
إِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا ؛ وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ . فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . كَمَا قَالَ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ وَعَلَيْهِ جَاهَدَ ؛ وَبِهِ أَمَرَ وَفِيهِ رَغَّبَ ؛ وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ . وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ } . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا . وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتِهَا لَهُ . وَإِخْلَاصِ دِينِهَا لَهُ كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذَّ وَلَا أَطْيَبَ وَلَا أَلْيَنَ وَلَا أَنْعَمَ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ ؛ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ . فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ ؛ فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا . وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعَبَّدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ ؛ فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ ؛ كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ ؛ بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا [ وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ ] ؛ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 213)
ــــــــــــــــ(1/107)
أهمية العمل الصالح.
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
ملخص الخطبة
1- أهمية العمل الصالح. 2- العمل الصالح كل أحد يطيقه لكثرة أعمال الصلاح وتوعها. 3- بعض ما جاء في الحض على أعمال من الخير.
--------------
الخطبة الأولى
العمل الصالح ميدان العاملين، وسمة المؤمنين، وديدن الموحدين لا يطمئنون إلا إليه، ولا يتنافسون إلا فيه، ولا يتسابقون إلا عليه، يتفانون في حبه، ويسابقون لكسبه ولا يحيدون عن دربه.
المؤمن يعلم أن الإيمان عمل واعتقاد، ويقين وجهاد، وأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فلا يغتر بطول الأمل، ولا يركن إلى العجز والكسل. ويعلم أن المؤمن القوي خير من الضعيف، فهو مستعين بالله غير عاجز، حريص على ما ينفعه غير غافل. يعلم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، وأن التميز والتفاوت هو بالتقوى وإحسان العمل، قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:2].
الإيمان بلا عمل كالجسم بلا روح، والشجر بلا ثمر، وكالمفتاح بلا أسنان. فلا ينفع انتساب للإيمان بلا برهان، ولا قيمة للدعوة بلا حقيقة، ولذلك يقرن القرآن دائماً بين العمل والإيمان، ليلفت نظر الإنسان أنه لا قيمة لإيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، قال جل وعلا: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً [الكهف:107]. والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر].
إن تحديد مصير الإنسان يوم القيامة مبني على إحسان العمل أو إساءته، إن أحسن فله الجنة مع الأبرار، وإن أساء فماله إلا النار، قال تعالى: يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [الروم:15].
وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى للمرسلين: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم [المؤمنون:51].
وقال تعالى للمؤمنين: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [الحج:77].
ما أعظم سرور المؤمن بأعماله، وما أسعده يوم القيامة بأفعاله!! وما أشد ندامة المسيء، وأعظم حسرة المفرط!! في موقف لا ينفع فيه الندم ولا تجدي فيه الحسرة، ولا تغني فيه الدمعة. في موقف أمام رب الأرباب يوم يحشر الناس للحساب، ويطير الصواب، ويوضع الكتاب، قال تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
قد يتصور بعض الناس أن الأعمال الصالحة حمل شاق، وأمر مرهق، وميدان ثقيل، وأن لها أناساً لا يطيقها غيرهم، ولا يتحملها سواهم، فيعرض عن ميدانها، ويصرف نفسه عن أفنانها. فالفقير يتصور أن فرصته في العمل محدودة، ومحاولته مردودة، وأن ذلك من شأن الأغنياء، ومن حظ الأثرياء. والمريض يتصور أنه لا فرصة للعمل إلا مع الصحة، ولا مجال لفعل الخيرات إلا مع العافية. والمقصر والمفرط والمتلبس ببعض المعاصي، يظن أن ذلك عن فعل الخير حائل، وأن ليس له من وراء بحثه على العمل الصالح طائل. فالعمل عندهم وقف على الأولياء، وقصر على الأتقياء، وهذا كله أفق في غاية الضيق، ودلالة على قلة التوفيق، فالمجال مفسوح، والميدان مفتوح، والفرص كثيرة، وأبواب الخير متعددة، ومجالات البر متنوعة، وكل يستطيع أن يأخذ منها بنصيب مهما كان حاله، وأياً كان وضعه. فقيراً أو غنياً، كبيراً أو صغيراً، صحيحاً أو سقيما، قوياً أو ضعيفاً، مجتهداً أو مقصراً.
قال جندب بن جنادة قلت يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله))، قلت: أي الرقاق أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكفّ شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)) [متفق عليه].
ما أعظمه من حديث، وما أروعها من معانٍ تدل على عظمة هذا الدين وشموليته ويسره وسهولته!!!.
فجاهد نفسك، وأخلص قصدك، وراقب ربك، وأحسن عملك، واعلم أن أفضل الأعمال وأحبها إلى ذي الجلال أن يتقرب إليه بما افترض عليك، وأن تؤدي ما أوجب عليك، ثم تترقى بعد ذلك في درجات التقرب إلى الله، والفوز برضاه، حتى تنال محبته، وتصبح من خاصته وذلك بالإكثار من النوافل وأولئك في الناس قلائل.
يقول : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [رواه البخاري].
فيا لها من منزلة عظمى، ودرجة عليا، ومرتبة كبرى!! وفقني الله وإياكم لطاعته، والفوز بمحبته، وأن نكون من أهل خاصته.
وإليك هذا العرض لبعض أبواب الخير وسبل البر، التي دلنا عليها أعظم الناس براً وأكثرهم خيراً، وأسبقهم عبادة.
يقول : ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) [رواه مسلم].
وقلا : ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ولك بكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [متفق عليه].
ويقول : ((عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق)) [رواه مسلم].
وأخبر أن امرأةً بغياً من بني إسرائيل غفر لها بسبب سقيها لكلب كاد يموت من العطش.
ويقول : ((لا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)) [رواه مسلم].
ويقول : ((أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلا أدخله الله بها الجنة)) [رواه البخاري].
ويقول : ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن بغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب)) [رواه مسلم].
بل إن الأكل والشرب قد يكون من أعمال الخير ويثاب عليه الإنسان: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) [متفق عليه]. ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) [رواه الترمذي].
اللهم وفقنا إلى صالح الأعمال والأقوال إنك سميع مجيب.
ــــــــــــــــ(1/108)
حقيقة الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/1/1416
النور
ملخص الخطبة
1- علقت النصوص القرآنية النجاة بالعمل الصالح. 2- العمل الصالح يشمل أعمال القلوب والجوارح. 3- من العمل الصالح ما هو إحسان إلى الخلق. 4- الدعوة إلى الله من أفضل العمل الصالح لتعدي نفعها. 5- وجوب العمل على تغيير المنكرات في مجتمعنا. 6- صلاح العمل مرتبط بصلاح النية. 7- عاقبة العمل الصالح في الدنيا والآخرة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن للعمل الصالح مكانة عظيمة جداً في شريعة الإسلام. إنه ثمرة الإيمان بالله وباليوم الآخر وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولأهمية العمل الصالح: تجد هذا الحشد الهائل من الآيات في كتاب الله.
فمرة تقرنه بالإيمان، ومرة تبين جزاءه الحسن، وأخرى تصرح بأن ما ينفع الإنسان في آخرته، هو الأعمال الصالحة، وتارة تبين الآيات بأن الأعمال الصالحة سبب لتفكير السيئات، وغفران الذنوب، وتارة تبين بأن الخسارة تلحق الإنسان لا محالة إلا من آمن وعمل الصالحات، فمن هذه الآيات قول الله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم.
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً.
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً.
ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً.
والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
أيها المسلمون: إن الأعمال الصالحة، ميدانها واسع ولله الحمد في دين الإسلام، وهذا من نعم الله جل وعلا، والذي يقصر في باب بعد إتيانه بالأركان. يمكنه أن يزيد في باب آخر.
إن مفهوم الأعمال الصالحة شامل، في شريعة رب العالمين، يدخل فيها أعمال القلوب والجوارح في الظاهر والباطن، في القوى والملكات، والمواهب، والمدركات، أعمال خاصة وأعمال عامة، أعمال فردية وأخري جماعية.
هناك من الأعمال الصالحة ما لو عملها الإنسان فإنها تمتد معه إلى ما بعد الممات، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، هناك أعمال يومية يقوم بها الإنسان، إذا صحت بها النوايا، و استقامت على الطريقة دخلت في صحائف صالح الأعمال.
إن الأعمال الصالحة كما أسلفنا ميدانها واسع، بل ميادينها فسيحة، من أعمال بدنية ولسانية وقلبية، فالشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج في مقدمة الأعمال الصالحة. وبقية الواجبات والفرائض والمندوبات والمستحبات، من الأعمال الصالحة ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
وإذا أردتم أيها الأحبة مزيداً من طرق الأعمال الصالحة، فبر الوالدين، وصلة الأرحام وإكرام الضيف والجار، والجهاد في سبيل الله وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، ودعوة ترفعها تدعوا بها لإخوانك المسلمين في كل مكان.
ومن الأعمال الصالحة، أن تواسي فقيراً وتكفل يتيماً وتعود مريضاً وتنقذ غريقاً وتساعد بائسا، وتنظر معسراً، وترشد ضالاً وتهدي حيراناً، وتعين محتاجاً، بل ومن الأعمال الصالحة هذا السؤال من الصحابي، ثم هذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) [متفق عليه]. ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)) [متفق عليه].
ثم إليك أخي المسلم جملة من الأعمال اللسانية، وكلها تصب في نهر الأعمال الصالحة: ذكر، ودعاء، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وتعليم للعلم النافع، ناهيك عن الشفاعة الحسنة، تفك بها أسيرا، وتحقن بها دماً، وتجر بها معروفاً، وتدفع بها مكروهاً. ((قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)) ثم التبسم في وجه أخيك، ورد السلام، تشميت العاطس وكل قول جميل وكلام طيب، منطوقاً ومكتوباً، مذاعاً أو منشوراً.
أما الأعمال الصالحة القلبية، فبابها أوسع من أن يغلق دونه أحد. إيمان بالغيب والحب والبغض لله، والغضب والرضاء والخوف والرجاء، والخشية والصبر والتذلل للمولى جل وعلا والانكسار بين يديه، وتعلق القلب بالمساجد.
ومن ذلك الأعمال الفكرية، من التخطيط والتفكير والتأمل والعزم والتصميم بشرط أن تصب في خدمة الإسلام.
بل إن النيات والمقاصد لها في الإسلام شأن عظيم، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمري ما نوى.
أيها المسلمون: لا شك بأن الأعمال الصالحة كلها خير، وأي باب سلك المسلم فهو إن شاء الله على خير، لكن لابد أن يعلم بأن بين الأعمال الصالحة تفاوت وتفاضل، كما بين السماء والأرض، وكل ما كان العمل الصالح نفعه متعدٍ للآخرين فلاشك في أفضليته فيما إذا كان العمل الصالح قاصداً نفعه على المرء نفسه، وبهذه المناسبة لابد من كلمة ونحن نتحدث عن الأعمال الصالحة، بأن في مقدمة الأعمال الصالحة في هذا الزمان مما هو نفعه متعدي: الدعوة إلى الله عز وجل. ومحاولة جر الآخرين إلى طريقة الهداية، وانتشال الناس من هذا الوحل والطين الذي هم غارقون فيه إلى حياة طيبة كريمة، هذا في الدينا، ثم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً. أي خير لك أخي المسلم، وأية منّة من الله جل وتعالى، أن يكون لك شرف المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل.
كم في أوضاعنا من فساد يحتاج إلى تغيير، وكم في مجتمعاتنا منكرات تحتاج إلى إزالة بل وكم في حياتنا الشخصية من أمور وأمور تخالف تعاليم الإسلام.
بماذا تتصورون أن يتغير كل هذا، هل يغيرها التسبيح والتمحيد والتهليل؟ أم يغيرها بر الوالدين وصلة الأرحام؟ إنه لا يغيرها إلا الدعوة إلى الله عز وجل، وعندما نقول بأن كل مسلم ينبغي أن يكون له شرف المشاركة في الدعوة، فإن هذا لا يعني ما يفهمه الناس خطأ، وهذا الفهم مع كل أسف تفكير كثير من المسلمين، وهو أنه يعتقد أنه لا يصلح للدعوة، إلا إذا كان خطيباً مفوها، أو عالماً بارزاً ،أو فقياً أو قاضياً أو على الأقل خريجاً لإحدى الكليات الشرعية، وهذا فهم قاصر بل خاطئ، إذا كان الأمر كذلك فإن معنى هذا بأن عدد المصلحين والناصحين في منطقة صغيرة كمنطقتنا، يعدون على أصابع اليد الواحدة، إن كل فرد منا أيها الأخوة، يصلح أن يكون داعية، بحدود قدراته وإمكانياته، بشرط أن يكون محباً للأعمال الصالحة ويكون من أهل الأعمال الصالحة.
وأنت تسير في طريقك من البيت إلى المسجد، فترى شخصاً على خطأ ما تنصحه بالكلمة الطيبة هذه دعوة، تدخل بقالة لتشتري بعض حاجياتك فترى شيئاً يخالف الشرع، تنصح فاعله بكلمة هادفة، هذه دعوة، تدخل بيتك فترى الزوجة مقصرة في بعض الواجبات، تنصحها ترشدها، هذه دعوة، أحد أبناءك أو بناتك تراه يفعل ما لا يرضى الله، تقدم له النصيحة ثم التربية السليمة، هذه دعوة.
زملاؤك في العمل ممن تحتكُّ بهم يومياً تجد أن هذا يدخن، والثاني: يتأخر عن عمله يومياً، والثالث: مهمل وغير مبالٍ لمعاملات الناس، والرابع: لا يتورع من أكل وسرقة المال العام، والخامس والسادس والسابع.
فمن الواجب عليك شرعاً أمام الله عز وجل، أن تدعوا هؤلاء، كلمة لهذا، ونصيحة لهذا، وجلسة انفرادية مع الثالث، وتوجيه وإرشاد للرابع، أما أن تبقى ساكتاً وأنت ترى هذا الفساد الإداري، وهذه المخالفات الشرعية، ثم لا تحرك ساكناً، فأخشى أن تكون ممن يشاركهم في الإثم، لأنك ترى الخطأ، وتعلم عنه ثم تغض الطرف.
أيها الأحبة: إن الخطبة ليست عن الدعوة إلى الله وسيكون لنا كلام طويل في المستقبل إن شاء الله تعالى حول هذا الموضوع، لكنها خاطرة خطرت في موضوع العمل الصالح. الذين كفروا وصدوا عن سيبل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
بارك الله لي ولكم..
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
اعلموا رحمني الله وإياكم ،بأن صلاح العمل مرتبط بصلاح النية، والعكس صحيح فإن فساد العمل مرتبط بفساد النية، فلو جاءنا شخص ما - وقدم أعمالاً صالحة، أمام الناس، من بناء للمساجد، ومساعدة للأيتام وبذل في وجوه الخير، ونحن نعلم سوء طوية هذا الرجل والعياذ بالله، وفساد نيته فنقول، بأن أعمالك مردودة عليك، ومن حكمة الله تعالى ولطفه وإحسانه أن جعل لأهل الإيمان والهدى والأعمال الصالحة، علامات يعرفون بها، كما جعل لأهل المعصية والفجور والخيانة، صفات يعرفون بها، وإن تظاهروا أمام الناس بالصلاح، وإن ادعوا أنهم يخدمون الإسلام، ويعطفون على الفقراء والأيتام.
قال الله تعالى في حق المؤمنين المتقين تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في حق المنافقين المخادعين، الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم وقال عز وجل: يعرف المجرمون بسيماهم المقصود أن الله تعالى ميز أهل الإيمان والأعمال الصالحة الصادقة، أولئك الذين لهم قدم صدق في الإسلام بعلامات لا يمكن أن تخفى أو تلبس على الناس، وفي المقابل ميز تعالى أهل الإجرام وأهل النفاق وأهل الأعمال الصالحة الكاذبة بعلامات لا يمكن أن تخفى على عباد الله المؤمنين. قال الله تعالى: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار، وقال عز وجل: وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون، وقال سبحانه: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
واسمع بعد هذا إلى هذا الكلام الجزل المتين للإمام ابن القيم رحمه الله في كتابة أعلام الموقعين (4/200) حيث يقول: وقد جرت عادة الله التي لا تبدل، وسنته التي لا تحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه، ما هو بحسب إخلاصه ونيته، ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء. انتهي كلامه رحمه الله.
وصدق والله ابن القيم، فإن الأمة تعرف مخلصيها، ويقذف الله في قلوب أبناء الأمة محبة لهؤلاء المخلصين، بحسب إخلاصهم ونياتهم ومعاملتهم مع ربهم، ولا يمكن أن يلبس على الناس بغير هذا، كما أن الأمة تعرف مجرميها ويقذف الله البغض في قلوب أبناء الأمة، بحسب جرمهم وخبثهم وخياناتهم، وإن تظاهروا بالصلاح والاستقامة، ولا يمكن أيضاً أن يلبس على كل الناس، وفي النهاية تكون العاقبة والتمكين لأهل الأعمال الصالحة، لا لأهل الأعمال الخبيثة، قال الله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
أيها المسلمون: إذا كانت العاقبة لأهل صالح الأعمال، والخسارة والبوار لأهل سيء الأعمال، فمن العقل ومن الحكمة ،و من مصلحة الجميع أن لا نوكل أعمالنا الخاصة والعامة إلا لمن نعلم أنه من أهل صالح الأعمال، وذلك لكي يسيِّر أعمالنا بصلاحه، أما ذلك الذي ملوث ليلة مع نهاره بسيء الأعمال، لا يقوم ولا يقعد، ولا يتكلم إلا بنفاق ودجل، فهذا لا يصلح أن يعاشر الناس أصلاً، فضلاً أن يولى أمانات، ويوثق على أموال وأعراض وحرمات المسلمين قال الله تعالى: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
من أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس، هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الكذاب شاهداً على الناس هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الجاهل معلماً للناس مفتياً لهم، هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الجبان مقاتلاً مدافعاً عن الناس هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الأحمق سائساً للناس، هل يصلح هذا ؟ لا يصلح.
وكذلك أن يجعل صاحب الأعمال السيئة والنوايا السيئة في مصالح المسلمين الخاصة والعامة ولو حصل شيء مما سبق ذكره، فإنه هذا يوجب فساد المجتمع وخراب الأوضاع وتدهور الحال.
فنسأل الله جل وتعالى، أن يصلح أحوالنا، ويصلح نياتنا، ويصلح أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ــــــــــــــــ(1/109)
المبادرة إلى العمل الصالح
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
20/2/1423
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- مفتاح الفوز والفلاح والسعادة. 2- الحث على المسارعة إلى العمل الصالح. 3- حقيقة الأعمال الصالحة. 4- معوّقات العمل الصالح وموانعه: الفقر، الغنى، المرض، الهرم، الموت، الدجال، الساعة. 5- معوّقات أخرى. 6- حرص السلف الصالح على الإسراع إلى الأعمال الصالحة. 7- تعدّد سبل الخير. 8- التحذير من الاستهانة بالمعاصي.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن فلاح العبد وسعادته وعلو درجته عند خالقه هو بإيمانه وإخلاصه وكثرة أعماله الصالحة، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
ولِما للأعمال الصالحة من عظيم المنزلة عند رب العالمين أرشد الله تعالى إلى المسارعة إليها بقوله: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [البقرة:148]، وقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وحث رسول الرحمة على المبادرة إلى الخيرات والمسارعة إلى الصالحات تزوُّداً ليوم المعاد وتقرباً لرب العباد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنظرون إلا إلى فقر مُنْسٍ، أو غنى مطغٍ، أو مرض مفسد، أو هرم مُفنِد، أو موت مجهز، أو الدجال فشرّ غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) رواه النسائي والحاكم وصححه والترمذي وقال: "حديث حسن"(1)[1].
والأعمال الصالحة هي قيمة العمر وثمن الآجال، فمن لم يعمر أيام حياته بالأعمال الصالحة فقد خسر نفسه وأضاع دنياه وأخراه، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
والأعمال الصالحة هي ما أمر الله بفعله أو أمر به رسوله وجوباً أو استحباباً، أو ترك ما نهى الله عنه أو نهى عنه رسوله تقرباً إلى الله واحتساباً.
والأعمال الصالحات تكون زاكيةً في تمام وافية الأجر والثواب إذا كانت خالصةً صواباً، مع فراغ القلب من سواها، وانتفاء مبطلاتها والمعوقات لها.
وأعظم المعوِّقات والموانع من الأعمال الصالحة الفتن الخاصة أو الفتن العامة، وفي هذا الحديث المبارك رغّب النبي بالمبادرة والمسارعة للأعمال الصالحة قبل الموانع منها والمعوِّقات عنها، وقبل اشتغال الإنسان بخاصة نفسه، أو اشتغاله بفتنة عامة، وما أجلَّ وأعظم وصية الله ووصية رسول الله .
فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال سبعًا)) أي: سابقوا وقوعَ الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتموا بها قبل حلول الفتن، وقبل المعوِّقات.
ومعنى قوله عليه السلام: ((هل تنتظرون إلا إلى فقر مُنسٍ)) توبيخٌ على تقصير المكلَّفِين في أمر دينهم، أي: متى تعبدون الله، وتعملون صالحاً؟! فإنكم إن لم تعبدوه مع قلة الشواغل وقوة البدن، فكيف تعبدونه مع كثرة الشواغل وضعف البدن؟! لعل أحدكم ما ينتظر إلا إلى فقر منس يشغله في خاصة نفسه، ويندهش معه، ويستولي عليه همُّ الرزق، والتردد في طلب القوت، وقضاء الحاجات، فلا يقوم بالعبادة إلا في بلبلةِ القلب وتشوُّش الخواطر.
ومعنى: ((أو غنى مُطغ)) أي: مُوقع في الطغيان، وهو مجاوزة الحد في كل شيء، والله تعالى يقول: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]، والمال فتنة لصاحبه إن لم يأخذه المرء بحقه، ويعرف حق الله فيه، ويؤدي إلى كل ذي حق حقه منه، وكثيراً ما يكون الغنى جسراً لصاحبه إلى جهنم، إما لكسبه من حرام، أو إنفاقه على الشهوات والملذات المحرمات، أو لانشغاله به عن العبادة والطاعة، وانهماكه في تحصيله، معرضاً عن الدار الآخرة، أو لبخله بما عليه من الحقوق فيه، قال الله تعالى: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180]، وفي الحديث: ((ما من صاحب كنزٍ لا يؤدي زكاته إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع ـ أي: ثعباناً ـ فيأخذ بلِهزِمتيه ـ أي: شدقيه ـ ويقول: أنا مالك أنا كنزك))(2)[2].
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((أو مرض مفسد)) إما مفسد للبدن لشدته، أو للدين لأجل الكسل الحاصل به، أو مفسد للعقل فلا يلتذ بالعبادة، ولا يتمكن من الطاعة على وجهٍ يثاب عليها.
ومعنى: ((أو هرم مفند)) هو الكبر الذي يوقع في الخرف والهذيان واختلاط العقل، والفَنَد الخرَف وإنكار العقل لهرم أو مرض، وهذا عائق عن الطاعة لمن أصيب به والعياذ بالله.
ومعنى: ((أو موت مجهز)) سريعُ الوقوع يأتي بغتة، فلا يقدر صاحبه على توبة من الذنوب، فيقدم على ربه مجرماً عبداً آبقاً، قد أعد الله له العذاب الأليم والخزي العظيم بذنوبه، ولا يقدر على وصية واجبه أو مستحبة يبيِّنها، ولا يؤخَّر أجله فيكسب خيراً، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
ومعنى قوله عليه السلام: ((أو الدجال فشر غائب يُنتظر)) أي: خروجه، وهو أعظم فتنة عامة منذ خلق الله الخلق إلى قيام الساعة، ليس من فتنة أعظم من فتنته، وهو رجل من بني آدم، أعور العين اليمنى، يزعم أنه رب العالمين، يُجري الله على يديه خوارق للعادات ابتلاءً وامتحاناً، يقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: انبتي، فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، ويبرئ الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى بإذن الله، وتجتمع عنده الأطعمة، وليس للمؤمنين في زمانه طعام ولا شراب إلا التسبيح والتحميد يجري منهم مجرى الطعام والشراب، فيتبعه كل منافق ومنافقة، وأكثر أتباعه اليهود وأولاد الزنا والنساء لافتتانهن بالدنيا وزينتها وهمل الناس وسقطهم، ثم يقتله عيسى عليه الصلاة والسلام بباب لُدّ بفلسطين.
ومعنى: ((أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) أي: أكثر مرارة من جميع ما يكابده الإنسان في الدنيا من الشدائد إن قامت ولم يستعد لها بالعمل الصالح، والساعة أمرها عظيم، وهَوْلها شديد، تقذف الطيور لها ما في حواصلها من هولها، وتجتمع لفزعها الوحوش، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، والموت هو القيامة الصغرى، ففي الحديث عن النبي : ((إذا مات المرء قامت قيامته)) لأنه قد بُشر بالجنة أو النار، وعذب بعمله أو سعد به.
فأرشد النبي أمته إلى البدار إلى الأعمال الصالحة قبل حلول شيء من هذه الأمور السبعة، والمراد الحث على فعل الطاعات والاستكثار من أنواع القربات في حال الصحة والفراغ، وقبل مداهمة الفتن الخاصة أو العامة كالدجال والساعة، والحث على التزوُّد من الخيرات في الحياة قبل الممات، ومفهوم العدد غير مرادٍ في الحديث، فليست الموانع والمعوِّقات للأعمال الصالحة محصورة في هذه الأمور السبعة، وإنما نبَّه النبي على هذه السبع لأهميتها وكثرة تعرض الناس لبعضها، ومما يدل على أن مفهوم العدد غير مراد وأن الموانع والمعوقات للأعمال الصالحة أكثر من هذه السبع ما روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عن النبي قال: ((بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدّابة وخاصة أحدكم وأمر العامة))(3)[3] أي: الفتنة الخاصة والفتنة العامة، وفي البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))(4)[4]، وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))(5)[5].
وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يتمسَّكون بهذه التوجيهات النبوية ويعملون بهذه الإرشادات الربانية حتى قال ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري(6)[6]، وفي الحديث: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))(7)[7]، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ بالتقرب إليه بطاعاته، والبعد عن محرماته، فقد فتح الله لكم ـ معشر المسلمين ـ أبواب الخيرات، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وفي الحديث عن النبي : ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) رواه مسلم(8)[1].
فاحرص ـ أيها المسلم ـ على فعل الحسنة كبيرة كانت أو صغيرة، بإخلاص وسنة، فإن الحسنة مضاعفة، قال الله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وفي الحديث عن النبي : ((لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً، ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق))(9)[2]، وإياكم والمعاصي ولو كانت في أعينكم صغيرة، فإن لكل سيئة طالباً كما قال النبي : ((إياكم ومُحقِّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه))(10)[3].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
----------------
(1) أخرجه الترمذي في الزهد (2228) من طريق محرز بن هارون، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث الأعرج إلا من حديث محرز"، ومحرز بن هارون متروك كما في التقريب. وأخرجه الحاكم (4/320-321) من طريق معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقال: "صحيح إن كان معمر سمع من المقبري"، والصحيح أن بينهما رجلا لم يسمَّ، ولذا ضعف هذا الحديث الألباني في السلسلة الضعيفة (1666). وقد صُرِّح باسم هذا الرجل عند الطبراني في الأوسط (4/192) فأخرجه من طريق معمر، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة، ومحمد بن عجلان صدوق اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة (2228) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم في الفتن (2947).
(4) أخرجه البخاري في الرقاق (6412).
(5) هو في المستدرك (4/341) وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي علة في الشعب (7/263) وهي أن الصحيح فيه أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلا، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
(6) أخرجه البخاري في الرقاق (6416).
(7) هذا اللفظ أخرجه أحمد (5/18-19) (2803)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه القرطبي في تفسير (6/398)، وأصل الحديث أخرجه أيضا الترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
(8) أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) أخرجه مسلم في البر (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(10) أخرجه الطيالسي (400)، وأحمد (1/402)، والطبراني في الكبير (10/212)، والبيهقي في الكبرى (7/187) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (3/212): "رواه أحمد والطبراني والبيهقي كلهم من رواية عمران القطان، وبقية رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح"، وله شواهد يتقوى بها ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (389).
ــــــــــــــــ(1/110)
حيّ على العمل الصالح
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/10/1424
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- مزرعة الحياة الدنيا. 2- الوسيلة إلى الله تعالى. 3- سبب السعادة والشقاء. 4- عظم أهوال يوم القيامة. 5- حقيقة العمل الصالح. 6- التذكير بالموت.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، فتقوى الله تنجِي من عذابٍ شديد، ويهدَى صاحبُها لكلّ أمرٍ رشيد.
عبادَ الله، إنّ الحياةَ الدنيا دار عملٍ للصالحات ودارُ ابتلاء بالسيّئات، مَن أحسن فيها العمل جزاه الله بخيرِ الثواب، ومن أساء العملَ جزاه الله بأليم العذاب، ويتفضّل الله على المحسنين، ويحلم على الجاهلين، ويتقبّل توبةَ التائبين. وجعل الله العملَ الصالحَ وسيلةَ قربى لربّ العالمين، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]، ومن أساءَ العملَ في الدّنيا وقدِم على ربّه مضيِّعًا للفرائض مقترفًا المحرّمات كافرًا بربّه لا يقبَل الله منه فديةً، ولا يقبَل الله مالاً ولا شفاعة شافِع، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 36، 37]، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 48] والآيات في هذا كثيرة، ومِن النّاس من يخلِط عملاً صالحًا وآخرَ سيّئًا، فتناله الشّفاعة بإذن الله إذا سلِم من الشّرك.
ومِن رحمةِ الله وحكمتِه وقدرته أن جعلَ فعلَ الأعمال الصالحة وتركَ الأعمال المحرّمة سببَ التقرّب إليه وسببَ الدخول في جنّات النعيم والنجاةِ من عذابٍ أليم، ولم يجعل ذلك بسببٍ آخر، قال رسول الله : ((قال الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحَرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصِر به يدَه التي يبطِش بها ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) رواه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(1)[1]، ومعنى قوله تعالى: ((كنت سمعَه الذي يسمَع به وبصرَه الذي يبصِر به ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشِي بها)) معنى ذلك أنّ الله تبارك وتعالى يحفَظ على هذا العبد جوارحَه بطاعةِ ربّه والبُعدِ عن معصيتِه فيستعمِله فيما يرضِيه.
أيّها المسلم، لن تسعدَ في الدنيا والآخرة إلاّ بما يوفّقك الله له من العملِ الصّالح والعِلم النّافع، ولن تشقَى إلاّ ببُعدك عن العلمِ النّافع والعمل الصّالح، وربّك جلّ وعلا لن يظلِم أحدًا مثقالَ ذرّة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وفي الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجَد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلاّ نفسه)) رواه مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه(2)[2].
وليكن همُّك ـ يا عبدَ الله ـ إصلاحَ العمل وحفظ حدودِ الله، فقد جعل الله العمل الصالحَ وقايةً للعبد من كربات الدنيا والآخرةِ، عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنَى الشمس يومَ القيامة من الخلقِ حتى تكون منهم كمقدار ميل))، قال: ((فيكون النّاس على قدرِ أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى رُكبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجِمه العرق إلجامًا)) وأشار رسول الله إلى فيه. رواه مسلم والترمذي(3)[3].
وفي هذا الموطِن يصيب الناسَ من الكرب والشدّة ما لا يقدرون على تحمُّله.
واذكر ـ أيّها المسلم ـ أهوالَ يومِ القيامة حينَ لا يذكُر أحدٌ أحدًا، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرتُ النّار فبكيت، فقال رسول الله : ((ما يبكيك؟)) قلت: ذكرتُ النّار فبكيت، فهل تذكرون أهلِيكم يومَ القيامة؟ قال: ((أمّا في ثلاثة مواطن فلا يذكُر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخفّ ميزانه أم يثقل، وعند تطايُر الصّحف حتّى يعلم أين يقع كتابُه في يمينه أم في شمالِه أم مِن رواء ظهره، وعند الصّراط إذا وضِع بين ظهرَي جهنّم حتى يجوز)) رواه أبو داود(4)[4]. قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 33-37]، يسأل الرجل ولدَه حسنةً واحدة فلا يعطيه، ويسأل الرجلُ زوجته حسنةً فلا تعطيه، ويقول كلّ أحدٍ: نفسي نفسي، ويتمنّى المؤمن لو يلقى الله بعملِ سبعين نبيًّا. وفي الحديث: ((يُؤتَى بجهنّم تُقاد بسبعين ألفَ زمام، في كلّ زمام سبعون ألفَ ملك))(5)[5] ، فلا يبقَى ملكٌ مقرّب ولا نبيّ مرسَل إلاّ جثا على ركبتَيه.
فاستكثر ـ أيّها المسلم ـ مِن العمل الصّالح في هذه الدّار، فليس بعدَ هذه الدّار إلا الجنّة أو النّار.
واعلم أنّ العمل الصالحَ الذي يرضى الله به عن العبدِ وينفعه هو ما كان خالصًا لوجهِ الله، يريد به المسلم وجهَ الله وثوابه، ولا يريد به رياءً ولا سمعة ولا محمَدةَ النّاس وثناءهم ولا عرضًا من أعراض الدّنيا، والشرطُ الثّاني أن يكونَ العمل على هديِ رسول الله ووفقَ سنّته، قال الله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال النبيّ : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))(6)[6]، قال الله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر والحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على توفيقه وامتنانه، والشّكر له على فضلِه وإحسانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه وإخوانه.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون.
عبادَ الله، لقد أنشأكم [الله عزّ وجلّ] في هذه الدّار، وآتاكم من الأسبابِ والنّعَم ما يعينكم على طاعتِه، ووعَدكم وعدَ الحقّ، وأنتم ترونَ القرونَ والأجيال تمضي إلى ربّها، ولا يرجع أحدٌ إلى الدّنيا، وبالموت ينقطِع العمل، وفي هذا أعظمُ داعٍ إلى المسارعة إلى فعلِ الخيرات وأكبر زاجرٍ عن المحرّمات، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 31، 32]، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم نافع أو ولدٍ صالح يدعو له أو صدقة جارية))(7)[1]، وفي الحديثِ الآخر: ((إذا مات الميّت تبِعه ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقَى واحد، يتبعه أهلُه وماله وعملُه، فيرجع أهلُه وماله، ويبقى عمله))(8)[2]، إمّا أن يكونَ مؤنسًا له، أو يكون موحِشًا له في قبرِه، قال الله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر: 55-59].
فأصلِحوا ـ عبادَ الله ـ ما بينكم وبين ربّكم يصلِح لكم دنياكم وأخراكم، ويصلِح لكم ما بينكم وبين الناس.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
---------------
(1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502).
(2) صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2577).
(3) صحيح مسلم: كتاب الجنة (2864).
(4) سنن أبي داود: كتاب السنة (4755)، وأخرجه أيضا أحمد (6/101) مختصرا، وصححه الحاكم (8722) فقال: "هذا حديث صحيح، إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحّت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة"، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1018).
(5) أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2842) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(6) أخرجه مسلم في الأقضية (1718) وهو في البخاري بلفظ آخر.
(7) أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(8) أخرجه البخاري في الرقاق (6514)، ومسلم في الزهد (2960) عن أنس رضي الله عنه.
ــــــــــــــــ(1/111)
الحرص على العمل الصالح وعدم استقلاله
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
ملخص الخطبة
1- تعدد وجوه الحث على الأعمال الصالحة في القرآن الكريم. 2- وسيلة للتشجيع على العمل الصالح. 3- لذة العبادة. 4- تنوع الأعمال الصالحة. 5- التحذير من الاستهانة بالعمل الصالح. 6- تفاوت الأعمال الصالحة في الأجر باختلاف الأوقات.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس، وبادروا بالعمل الصالح؛ فإنه لا نجاة لكم إلا به، ولا ينفعكم سواه، هو زادكم في الآخرة، وطريقكم إلى الجنة، هو الذي خلقكم من أجله، وأعطيتم المهلة والصحة والغنى والفراغ لتحقيقه، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:99، 100].
عباد الله، كرر القرآن الكريم وأعاد في الحث على الأعمال الصالحة والسعي إليها، جاء ذلك بطرق متعددة: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51], وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:105]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
أخبر الله سبحانه في كتابه أنه خلق السماوات والأرض والموت والحياة وجميع ما على الأرض ليبتلي العباد ويختبرهم ويعرف أيهم أحسن عملاً: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7].
عباد الله، أعظم وسيلةٍ لتشجيع العاملين وحفز همم المتقاعسين هي المجازاة على الأعمال، إن خيرًا فبالإحسان والجائزة, وإن شرًا فبالنقمة وعسير المؤاخذة, ليزيد المحسن في إحسانه, ويقلع المسيء عن إساءته.
وإن الجزاء على الأعمال الصالحة يتنوع، ففي الدنيا نعيم وسرور ولذة، وما في الآخرة أعظم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124، 123].
عباد الله، إن انشراح صدر المؤمن بنوافل العبادات أمر لا بد منه، فصاحب النوافل المحافظ عليها في سرور ولذة دائمة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولا تظن أن قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14] يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم دائم في دورهم الثلاثة ـ يعني في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة ـ، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة".
بل إن نوافل العبادات ـ أيها الناس ـ من أحب الأعمال إلى الله، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يقول: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
عباد الله، الأعمال الصالحة ليست قاصرة على عمل واحد، بل كل ما أمر الإنسان به من قول أو عمل فإنه يتقرب إلى الله به، ولقد كافأ الله أقوامًا على أعمال عملوها لما أخلصوا فيها لله سبحانه وتعالى.
الصلاة عمود الدين، من تركها فقد كفر، ومع ذلك فمن تنفل بشيء من الصلوات فإن له منزلة عند الله، ولقد رفع الله أقوامًا وبلّغهم منازل في الجنة بنوافل الصلوات، فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه كان لا يساوي عند أهل مكة شيئًا، لما صدق العهد مع الله سبق الرسولَ في الجنة، يقول بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أصبح رسول الله ، فدعا بلالاً فقال: ((يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟! فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي))، فقال بلال: يا رسول الله، ما أذّنت قطّ إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قطّ إلا توضّأت عندها، ورأيت أن لله عليّ ركعتين، فقال رسول الله : ((بهما)) رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه.
الصوم ـ عباد الله ـ قربة يتَقرّب بها إلى الله، ولقد تكفل الله لعبد صام أن يباعد وجهه عن النار سبعين خريفًا كما روى ذلك أصحاب السنن.
الزكاة حقّ مفروض واجب على كل من توفرت فيه الشروط، ومع ذلك فمن تزوّد من الصدقة فقد تقرّب إلى الله تعالى، ولقد بلغ عثمان بن عفان رضي الله عنه منزلة رفيعة بفضل صدقته. لما جاء المهاجرون إلى المدينة لم يكن بها ماء عذب إلا بئر رومة، وكان صاحبها يبيع ماءها، فقال رسول الله : ((من يشتري بئر رومة وله الجنة؟)) فاشتراها عثمان. رواه الترمذي. ولما جاءت غزوة تبوك كان الصحابة في حاجة ماسة إلى المال، فجاء عثمان بألف دينار، فصبها في ثوب النبي ، فجعل رسول الله يحركها ويقول: ((ما على عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي.
عباد الله، خرج الصحابة يوم بدر مع رسول الله لا يريدون غزوًا، وإنما يريدون قافلة، فإذا هم بجيش قريش، فثبتوا وثبّتهم الله، ولم يضِع الله جهدهم، بل أعطاهم منزلة ليست لغيرهم، ولهذا لما غضب عمر بن الخطاب على حاطب بن أبي بلتعة قال له رسول الله : ((أليس قد شهد بدرًا؟!)) قال عمر: نعم، فقال رسول الله : ((وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) رواه البخاري.
إن الإنسان ليتقرب إلى الله بأعمال يظنها يسيرة، ولكنها عند الله عظيمة، وهذه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ناصرت الرسول في أحرج الأوقات: والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر. فما ضاع ذلك عند الله، بل جاء جبريل إلى رسول الله ذات يوم فقال له: (هذه خديجة قد أتت معها إناءٌ فيه طعام، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا صخب) متفق عليه.
خزيمة بن ثابت رجل من عامة الصحابة أراد الله به الخير فدله على الخير، روى أبو داود أن رسول الله ذات يوم اشترى فرسًا من أعرابي، وطلب منه أن يتبعه إلى بيته ليأخذ الثمن، فلما خرج الأعرابي جعل الناس يساومون في الفرس، وما علموا أن رسول الله قد اشتراه، فقال الأعرابي لرسول الله : إن الثمن قد زاد، فقال له رسول الله : ((أما بعتني؟!)) فقال الأعرابي: لم أبعك، ألك شهود؟ والرسول يقول: ((بلى، قد بعتني))، فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد أنك قد بعته على رسول الله، فأقبل الرسول على خزيمة وقال: ((كيف تشهد وأنت لم تره؟!)) فقال خزيمة: نصدّقك في خبر السماء ولا نصدقك في خبر الأرض؟!
فانظروا ـ عباد الله ـ إلى هذه الفطنة العجيبة من خزيمة بن ثابت، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]. لقد كافأ رسول الله خزيمة مكافأة لا يبلغها أحد مهما بلغ من المكانة والشرف، لقد جعل شهادته تعادل شهادة رجلين حتى صار يسمى بين الصحابة: ذا الشهادتين.
عباد الله، أعمال يسيرة بلغ بها أصحابها منازل رفيعة في الدنيا والآخرة، لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا ليوم القيامة يوم الجزاء والمحاسبة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي نوع بين أوقات الطاعات، أحمده سبحانه وأشكره، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما يعد: فإن من رحمة الله بعباده أن فارق بين الساعات في الأجر والدرجات ليختبر الصادقين فيسهل لهم أعمالاً في وقت دون وقتٍ، ليعرف الجاد من الهازل والصادق من الكاذب.
عباد الله، الليل محلّ لمضاعفة الجزاء واستجابة الدعاء، إذا خمدت الأصوات ونامت العيون آن للمحب أن يلتقي مع ربه في ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل خيرًا إلا أعطاه، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، يقول الرسول : ((يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وَصَلّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ويقول سهل بن سعد فيما رواه الطبراني بسند حسن: جاء جبريل إلى رسول الله فقال: (يا محمد، غش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، يقول يحيى بن معاذ: "الليل طويل فلا تقصره بمنامك".
أيها الناس، إن أمامنا بابًا مفتوحًا كلّ ليلة لرفع الدرجات وحطّ الخطيئات، فما بالنا قصّرنا فيه؟! روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي قال: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام)).
وروى محمد بن نصر أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه ودثاره ولحافه ومن بين أهله وجيرانه، فتوضأ ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي على ما صنع؟ فيقولون: ربّنا رجاء ما عندك، فيقول الله: فإني أشهدكم أني أعطيته ما رجا وأمنته مما يخاف).
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا أيامكم ولياليكم فيما ينفعكم، فإن مهلة الإنسان في هذه الدنيا قصيرة، ومدته محدودة، وأجله مقدّر، والإنسان في هذه الحياة رهن لعوارض تعوقه عن العمل، فحريّ بالعاقل اغتنام الفرص قبل فواتها.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الله أمركم بالصلاة على رسوله فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
ــــــــــــــــ(1/112)
العمل الصالح ويوم عرفة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
8/12/1424
بلال بن رباح
ملخص الخطبة
1- فضل العمل الصالح. 2- أهمية العمل الصالح. 3- ثواب العمل الصالح. 4- التوسل بالعمل الصالح. 5- فضل حسن الخلق. 6- فضل يوم عرفة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: إخوة الإيمان، العمل الصالح عُدة كل مؤمن، وسبيل كل مخلص، وذخيرة كل وجِل خائف من ربه عز وجل، وصلاح العمل معناه أن يكون العمل خالصا لله تعالى وأن يكون موافقا لما جاء به رسول الله ، والعمل الصالح هو العمل الذي يرضاه الله سبحانه ويحث عليه ويرغب فيه رسوله ، وهو في نفس الوقت كل عمل يعود على المسلمين بالنفع والبركة، هذا هو العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه.
وكثيرا ما يستهين بعض الناس بالعمل الصالح ولا يعدونه أمرا مهمًّا، بل يقول قائلهم: العبرة بما في القلب، أي: إن كان قلبي سليما صافيا فأنا على خير، وما دمت مؤمنا بقلبي فهذا يكفي، ونسي هذا المسكين أن العمل الصالح دليل الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ما ذكر الإيمان في أغلب آيات القرآن إلا ذكر معه العملَ الصالح، وفي هذا إشارة إلى أن الإيمانَ والعملَ الصالحَ متلازمان متّحدان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالله سبحانه يقرن في كثير من الآيات بين الإيمان والعمل الصالح ليبين لنا سبحانه أن الإيمان يقتضي العملَ الصالح، من ذلك قوله سبحانه عن الفائزين من عباده: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]، كما يستثني سبحانه أهل الإيمان والعمل الصالح من الوعيد في أكثر من آية من آيات كتابه، من ذلك قوله سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات التي يجمع فيها سبحانه بين الإيمان والعمل الصالح، والتي يبلغ عددها في القرآن أكثر من خمسين آية، فالعجب العجب ممن يريد أن يفصل بين شيئين جمعهما الله سبحانه وتعالى، فهل يُتصور إيمان بدون عمل صالح؟!
إذا كان إيمانك صحيحا ـ أيها المسلم ـ فلا بد أن يدفعك إلى العمل الصالح، أما إذا كان الإيمان ادعاءً أو كان ضعيفا هشا فإن الإنسان لا يجد رغبة في العمل الصالح، فالمداومة على العمل الصالح والتفاني فيه علامة على صلاح المرء في هذه الدنيا، فلا يختلف اثنان من الناس على تقدير العمل الصالح وتقدير أهله خاصة إذا كان هذا العمل متعلقا بمصالح الناس، صح عنه أنه قال كما في صحيح الجامع: ((أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله)) أي: لعباده.
وثواب العمل الصالح وبركته يناله الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا العمل الصالح سبب مباشر في الحياة الطيبة يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وهو سبب في الأمن والتمكين في الأرض يقول سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، إلى غير ذلك من ثمار في هذه الحياة.
أما في الآخرة ففضل الله أكبر وكرمه أوسع، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، ويقول سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29]، وطوبى ـ على قول المفسرين ـ شجرة في الجنة عظيم ظلها، ورد ذكرها في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد حيث يقول : ((طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها))، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، إن شئتم فاقرؤوا: وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)) أخرجه البخاري عن أنس. هذا قليل من كثير من الآيات والأحاديث التي تبين فضل العمل الصالح ومنزلة أهله في الحياة الدنيا وما أعد الله لهم في جناته من نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، جعلنا الله جميعا ممن يؤمنون به حق الإيمان ويعملون صالح الأعمال.
والعمل الصالح ـ عباد الله ـ من أفضل ما يتوسل به العبد إلى مولاه، ومن أفضل ما يقدم العبد بين يدي ربه عز وجل في قضاء حاجاته، فهو من أنواع التوسل الثلاثة المتفق عليها بين علماء الأمّة، وهي التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتوسل بدعاء الرجل الصالح والتوسل بالأعمال الصالحة، فللأعمال الصالحة بركة عظيمة على العبد إن هو فعلها لوجه الله رغبة فيما عند الله مخلصا فيها قدر الإمكان، وهذا ما سرده علينا رسول الله في حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وحبستهم داخل الغار، فاتفقوا على أن يذكر كل واحد منهم عملا صالحا عمله لوجه الله لعل الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، ففعلوا ففرج الله عنهم وخرجوا من الغار يمشون، والحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر، يقول : ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم; قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا ـ أي: لا أشرب أنا ولا أهلي لبن المساء حتى يشرب منه والدي، فالغبوق هو ما يُشرب في المساء، وعكسه الصبوح وهو ما يُشرب في الصباح ـ، ثم يقول هذا الرجل: فنُئيَ بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما ـ أي: تأخرت عنهما في يوم من الأيام حتى ناما ـ، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ـ أي: كرهت أن أشرب أنا أو أهلي من اللبن قبلهما ـ، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي: تعرضت لسنة قحط وجدب ـ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحلّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدّني أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلّه فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
فانظروا ـ عباد الله هداني الله وإياكم ـ إلى بركة العمل الصالح، انظروا إلى عظمة أثر بعض الأعمال الصالحة التي قد يستهين بها بعض الناس، انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى سرعة استجابة الرحيم الرحمن لدعاء هؤلاء القوم المكروبين وكيف سمع مناجاتهم من فوق سبع سماوات وهم في داخل غار مظلم مغلق عليهم وأزال همهم، فلماذا لا نُنزل حاجاتنا بالله؟! ولماذا نلتجئ لغيره ولا نلتجئ إليه إذا عز الناصر وقل الظهير وضاقت علينا الأرض بما رحبت؟! ولماذا نحقر العمل الصالح ونهمله ونزهد فيه؟!
إن للعمل الصالح ـ عباد الله ـ أثرا كبيرا ولو كان هذا العمل صغيرا في ميزان البشر، يقول في الحديث الذي رواه أبو هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) أخرجه مسلم وأبو داود. فهل نعجز عن عمل مثل إماطة الأذى عن الطريق؟! أم هل نعجز عن بسمة صادقة نتبسمها في وجوه إخواننا؟! يقول في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
فانظر ـ أيها المسلم ـ إلى سعة فضل الله سبحانه، فببسمة تطلقها في وجه الناس متسامحا معهم تنال فضل الله ورضوانه، وكثير من الناس يتفانى في العمل الصالح ويداوم عليه إذا كان بينه وبين ربه كالعبادات من صلاة وصوم وذكر وغيرها، ولكنه لا يسعى بالقدر نفسه في العمل الصالح المتعلق بالناس رغم أنه مهمّ أيضا، فعبادتك لك ولا يستفيد منها الناس بشيء في الغالب، أما معاملتك للناس فإنهم يتأثّرون بها إما نفعا وإما ضرّا، لهذا كانت الأعمال الصالحة التي توسّل بها أصحاب الغار الثلاثة كلّها متعلقة بالناس والإحسان إليهم، وهذا يدلنا على أن من العمل الصالح المتعلّق بالناس ومصالحهم ما هو أهم من العمل الصالح الذي بين الإنسان وربه، وهذا الفهم غائب عن كثير من المسلمين.
فينبغي علينا جميعا أن نجتهد في صالح الأعمال قبل انفراط سنين العمر واقتراب الآجال، وقبل أن نعض أصابع الندم إذا نزلت بنا المنايا ونحن في أسوأ حال، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على عبدك ورسولك محمد أفضل رسلك وأنبيائك، وعلى آله وصحبه الذين أثنيت عليهم في محكم كتابك.
إخوة الإيمان، تكلمنا عن العمل الصالح وعن منزلته من ديننا الخاتم وعن بركته على من يقوم به مخلصا فيه لوجه الله تعالى، ولله سبحانه وتعالى أوقات فضلها على سائر الأوقات، له فيها نفحات يتفضل فيها على العباد ويفتح أمامهم أبواب الرحمة ويبسط في طريقهم بساط القبول والعطاء، فينبغي للعبد أن يستثمر هذه الأوقات ولا يجعلها تخلو من عمل صالح يقدمه بين يدي مولاه، ويوم غد يوم عظيم مشهود هو يوم عرفة، قال عنه رسول الله كما في صحيح مسلم من حديث عائشة: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟)).
أفلا نتشوف ـ عباد الله ـ إلى أن نكون غدا من عتقاء الله من النار؟! ألا نخلص لله ونتوب إليه في هذا اليوم العظيم لعل أسماءنا تدرج في قائمة العتقاء فنكون من السعداء؟! إنه ـ والله ـ ليوم عظيم لمن عرف قدر الأيام العظيمة، يوم يجتمع فيه حجاج بيت الله على صعيد واحد، أتوا من كل فج عميق، يوم يتجلى الله فيه برحماته على عباده، ويؤتيهم من فضله العظيم وفيضه العميم، ويباهي بهم ملائكته وهو الغني عنهم سبحانه، لله في هذا اليوم نفحات، والسعيد السعيد من تعرض لهذه النفحات وأخذ منها بقسط وافر، هذا اليوم العظيم هو من الأيام التي يُستحب فيها العمل الصالح، ونحن نتكلم اليوم عن العمل الصالح، ويُضاعف فيها أجر هذه الأعمال الصالحة، وفيه من الفرص ما لا يوجد في غيره، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد: ((صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة))، وهذا فضل عظيم لمن يرجو رحمة الله ويتتبع مواطنها.
فتوبوا إلى الله في هذا اليوم، وتضرعوا إلى الله بالدعاء، واعرضوا عليه همومكم وحاجاتكم، وتيقنوا أنه لن يخيبكم ما دمتم تتوجهون إليه بقلوب مخلصة وأنفس منكسرة، وعمروا يومكم بالذكر والصلاة والتهليل والتكبير، يقول : ((خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) أخرجه الترمذي عن ابن عمر. فأكثروا ـ وفقني الله وإياكم ـ من الدعاء والتهليل، فلا ندري لعل أعمارنا تقصر عن بلوغ هذا اليوم في العام التالي.
فاللهم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين وفقنا إلى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك في يوم عرفة وفي سائر الأيام، اللهم ووفقنا إلى الأعمال الصالحة واجعلها ذخرا لنا يوم نلقاك...
ــــــــــــــــ(1/113)
حرص المؤمن على العمل الصالح.
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/7/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
ملخص الخطبة
1- حرص المؤمن على العمل الصالح. 2- رؤيا النبي في أصحاب الأعمال الصالحة. 3- نماذج لأعمال صالحة وما فيها من الأجر. 4- حقيقة الرجاء.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ المؤمنَ يحرص على الأعمال الصّالحة، فيؤدّيها مخلصًا لله فيها، موافقًا فيها لشرع الله، يرجو بذلك ثوابَ الله. فمَن عمل عملاً صالحًا أخلَص فيه لربّه فإنّ ذلك العملَ الصالح بتوفيقٍ من الله سيرى آثارَه الحسنة في دنياه، وسيَرى آثارَه الحسنة يومَ لقاء الله، سيَرى لتلكم الأعمالِ الصالحة النتائجَ الطيّبة والثمرات اليانعة، يرى تلك الأعمالَ الصالحة وقد صارت سببًا لخلاصِه من عذابِ الله وفوزه بجنّة الله وكرامته.
فيا أخي المسلم، احرِص على صالح العمل، فلن يضيعَ عند الله عمل، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195].
أيّها المسلم، واسمَع حديثَ رسول الله يبيّن لك ما للأعمال الصّالحة من آثار حميدة، ينتفع بها العامل أحوجَ ما يكون إليها، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
روى سعيد بن المسيّب عن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب قال: أتانا رسول الله ونحن بالصفَّة، فوقف علينا وقال: ((رأيتُ البارحةَ عجبًا، رأيت رجلاً من أمّتي أتاه ملك الموتِ يقبض روحَه، فجاءه برُّه بوالديه، فردّ عنه ملك الموت، ورأيت رجلاً من أمّتي قد بُسط عليه العذاب في القبر، فجاءه وضوؤه، فاستنقذه من ذلك، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشتهُ الشّياطين، فجاءه ذكرُه لله عزّ وجلّ، فطردَ الشّيطان عنه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشته ملائكةُ العذاب، فجاءته صلاتُه، فاستنقذَته من أيديهم، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يلهث عطشًا، فجاءه صيامُه لشهر رمضان، فأسقاه وأرواه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي ورأيتُ النّبيّين حِلَقا حِلقًا، كلّما دنا من حلقة طُرد، فجاءه غسلُه من الجنابة، فأخذ بيده فأقعَده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمّتي مِن بين يديه ظُلمة ومن خلفِه ظلمةٌ وعن يمينِه ظلمة وعن يسارِه ظلمة ومِن فوقه ظلمة ومن تحتِه ظلمَة وهو حائرٌ في ذلك، فجاءَه حجّه وعمرتُه، فاستخرجاه من الظّلمات وأدخلاه النّور، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يرُدّ بيديه وهَج النّار وشررَها، فجاءته صدقتُه، فصارت سِترًا بينه وبين النّار وظلّلته فوق رأسه، ورأيت رجلاً من أمّتي يكلّم المؤمنين ولا يكلّمونه، فجاءته صِلته لرحمِه، فقالت: يا معشرَ المؤمنين، إنّه كان واصلاً لرحمِه فكلّموه، فكلّمه المؤمنون وكلّمهم وصافحوه وصافَحهم، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشته الزّبانية، فجاءه أمرُه بالمعروفِ ونهيُه عن المنكَر، فاستنقذوه من أيديهم وأدخلوه إلى ملائكةِ الرّحمة، ورأيتُ رجلاً من أمّتي جاثيًا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسنُ خلقِه، فأدخله على الله، ورأيتُ رجلاً من أمّتي وقد ذهبت صحيفته من بين يديه إلى شماله، فجاءه خوفُه من الله، فأخَذ صحيفتَه فوضعها في يمينه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد خفّ ميزانُه، فجاءه أفراطُه، فثقّلوا ميزانَه، ورأيت رجلاً من أمّتي قائمًا على شفيرِ النار، فجاءه رجاؤه لله عزّ وجلّ فاستنقذه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يهوي في النّار، فجاءته دمعتُه التي بكاها من خشيةِ الله، فاستنقذته، ورأيت رجلاً من أمّتي واقفًا على الصّراط يرتعِد كالسّعفة في الرّيح الشّديدة، فجاءه حسنُ ظنّه بربّه، فسكَّن روعتَه وأنقذه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يزحف على الصّراط، يحبو حينًا ويتعلّق حينًا، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدمَيه وأنقذته، ورأيتُ رجلاً من أمّتي انتهى إلى أبواب الجنّة فأغلِقت دونَه الأبواب، فجاءته شهادةُ أن لا إله إلا الله ففتحت له أبوابَ الجنّة وأدخلته))(1)[1]، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا حديث عظيم، شواهد الصّحّة دالّةٌ عليه"(2)[2].
أيّها المسلم، هذا فضل الله، وهذا عطاؤه وكرمه وجودُه لمن اتّقى الله وأدّى الأعمال الصالحةَ وأخلصها لله واغتَنم حياته، فسابِق إلى فعل الخيرات موقِنًا بأنّ وعدَ الله حقّ، وأنّه أكرَم الأكرمين وأجوَد الأجوَدين، ولا يهلِك على الله إلاّ هالك.
يقول : ((من أحبّ أن ينسَأ له في أجلِه ويُبسط له في رزقِه فليصِل ذا رحمه))(3)[3]، وأيّ رحمٍ أعظم من رحم الوالدين؟!
ويقول في الوضوء: ((إنّ المسلمَ إذا توضّأ فغسل وجهَه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غسل يدَيه خرج من يديه كلّ خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسَل رجلَيه خرجَ من رجليه كلُّ خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء))(4)[4].
وإنّ الشياطينَ لتفرّ من ذكر الله، فتفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة، وإنّ الصلاة شفاعة لصاحبها، برهان ونجاةٌ له يوم القيامة، وإنّ صومَ رمضان عمل صالحٌ يقول الله: ((كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام، فإنّه لي وأنا أجزي به))(5)[5]، وفي الجنة باب يقال: الرّيّان، يدخله الصّائمون لا يدخله غيرهم. وإنّ غسلَ الجنابة أمانةٌ بين العبدِ وبين ربّه، فما ائتَمن الله عبدًا ما ائتمنَه على غسلِ الجنابة. وإنّ الحجَّ والعمرة لهما أثر عظيمٌ في حطّ الخطايا، يقول : ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ [فإنّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجّة المبرورة ثواب إلا الجنة]))(6)[6].
أيّها المسلم، وإنّ الصّدقةَ لتطفئ غضبَ الربّ، وفي الحديث يقول : ((فاتّقوا النّار ولو بشقِّ تمرة))(7)[7]. وإنّ صلةَ الرّحم لبركة في العمر وبركة في الرّزق ونجاة من عذاب الله. وإنّ الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر له فضلٌ عظيم، فإنّه بأمره بالمعروفِ ونهيه عن المنكر خلّص المسلمَ من المصائب وأنقذه مِن الضلالِ وهداه إلى الخير. وإنّ حسنَ الخلُق يوضَع في الميزان، فما وُضع في الميزان أفضَل من حُسن الخلق. وإنَّ الخوفَ من الله لينجِي العبدَ من المهالك، ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. وإنّ أفراطَ المسلم الذين يسبقونَه يثقّلون ميزانَه وهم حجابٌ له من عذابِ الله. وإنَّ حسنَ الظنّ بالله لعمل صالح، ففي الحديث: ((لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسِّن الظنّ بربِّه))(8)[8]. وإنّ البكاءَ من خشية الله له فضل عظيم، وفي حديث السّبعة الذين يظلّهم الله تحتَ ظلِّ عرشه: ((ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))(9)[9]. وإنّ الصّلاةَ على النبيّ حسناتٌ عظيمة، فمن صلّى عليه صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا. وإنّ كلمةَ التوحيد مفتاحُ دار السلام، ومن لقي الله بها فإنّ الله يدخله بفضلِه الجنّة، فكلمة التّوحيد مفتاح دارِ السلام، فهي أساس الأعمالِ الصالحة، فمن ختِم له بخير فخُتم له بهذه الكلمة العظيمةِ نالَ خيرًا كثيرًا، ومَن كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنّة.
فالحمد لله على كمالِ فضله، والحمدُ لله على كمالِ إحسانه، أعمالٌ يسيرة ينال بها العبد درجاتٍ عظيمة. فاستقيموا على طاعةِ الله، واعملوا بالأعمالِ الصّالحة رجاءَ ثوابِها عند الله.
أسأل الله أن يتقبّل منّي ومنكم أعمالنا، وأن لا يجعلنا من الخاسرين، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
---------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
إنّ الرّاجي لله حقًّا من يعمَل الأعمالَ الصّالحة، فيرجو بها ثوابَ الله، وأمّا المعطِّل لصالح العمل فإنّ رجاءَه أمانيّ ولا خيرَ فيها، إنّما الرّاجي لله من يؤدّي الأعمالَ الصالحة، إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218[، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ [العنكبوت:5].
فالمسلم حينما يعمَل الأعمال الصّالحةَ ويؤدّيها طاعةَ لله، رغبة في ثواب الله، طمعًا فيما عند الله، يؤدّيها موقنًا بذلك، مصدّقًا بهذا الوعد، يرجو أن يحقِّق الله له ما وعد على لسان نبيّه ، ورؤيا الأنبياء حقّ، وتلك رؤيا رآها رسولُ الله في المنام، وبشّر بها أصحابَه ليزدادوا طمعًا فيما عندَ الله، ليزدادوا رغبةً في الأعمال الصّالحة، ليزدادوا حِرصًا على الأعمال حتّى يجدوا ثوابَ ذلك أحوجَ ما يكونون إليه.
فلنتّق الله في أنفسنا، ولنواصِل الأعمالَ الصّالحة، ولنحقّق رجاءَنا في ربّنا بالإتيان بأسباب الخير والتّعرُّض للأعمال الصّالحة، عسى أن نُوفَّق لذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
-----------------
(1) أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (3/231)، وقال الهيثمي في المجمع (7/179): "رواه الطبراني بإسنادين، في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي، وكلاهما ضعيف"، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/697-700)، والعراقي كما في فيض القدير (3/26)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (2086).
(2) انظر: الوابل الصيب (ص113).
(3) أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) أخرجه مسلم في الطهارة (244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في مناسك الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رصي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (650).
(7) أخرجه البخاري في الزكاة (1417)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(8) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2877) من حديث جابر رضي الله عنه.
(9) أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ــــــــــــــــ(1/114)
عشر وسائل للمداومة على العمل الصالح بعد رمضان
وماذا بعد رمضان؟ كنت في رمضان في إقبال على الله..أُكثر من النوافل..أشعر بلذة العبادة.. وأكثر من قراءة القرآن الكريم.. لا أُفرط في صلاة الجماعة.. منُقطعا عن مشاهدة ما حرم الله.. ولكن بعد رمضان فقدت لذة العبادة التي أجدها في رمضان ولا أجد في ذلك الحرص على العبادة.. فكثيرا ما تفوتني صلاة الفجر مع الجماعة... وانقطعت عن كثير من النوافل وقراءة القرآن.. وووووووو....
فهل لهذه المشكلة من حل أو علاج؟!
إليك أخي عشر وسائل للمداومة على العمل الصالح بعد رمضان:
1- أولاً وقبل كل شي طلب العون من الله - عز وجل - على الهداية والثبات وقد أثنى الله على دعاء الراسخين في العلم "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ".
2- الإكثار من مُجالسة الصالحين والحرص على مجالس الذكر العامة كالمحاضرات والخاصة كالزيارات.
3- التعرف على سير الصالحين من خلال القراءة للكتب أو استماع الأشرطة وخاصة الاهتمام بسير الصحابة فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة.
4- الإكثار من سماع الأشرطة الإسلامية المؤثرة كالخطب والمواعظ وزيارة التسجيلات الإسلامية بين وقت وآخر.
5- الحرص على الفرائض كالصلوات الخمس وقضاء رمضان فان في الفرائض خير عظيم.
6- الحرص على النوافل ولو القليل المُحبب للنفس "فان أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل" كما قال - صلى الله عليه وسلم-.
7- البدء بحفظ كتاب الله والمداومة على تلاوته وأن تقرأ ما تحفظ في الصلوات والنوافل.
8- الإكثار من ذكر الله والاستغفار فإنه عمل يسير ونفعه كبير يزيد الإيمان ويُقوي القلب.
9- البعد كل البعد عن مفسدات القلب من أصحاب السوء و أجهزة التلفاز والدش والاستماع للغناء والطرب والنظر في المجلات الخليعة.
10- وأخيرا أوصيك أخي الحبيب بالتوبة العاجلة.. التوبة النصوح التي ليس فيها رجوع بإذن الله فإن الله يفرح بعبده إذا تاب أشد الفرح.
أخي المبارك لا تكن من أولئك القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان لقد قال فيهم السلف "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان"وداعاً أيها الحبيب إلى رمضان آخر وأنت في صحة وعافية واستقامة على دين الله إن شاء الله.
http://saaid.net المصدر:
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
1- ... البشارة العظيمة لهم ... 21
2- ... لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين (1) ... 23
3- ... هم أصحاب الجنة ... 25
4- ... لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين (2) ... 28
5- ... توفية أجورهم كاملة ... 35
6-دخول الجنات (1) ... 38
6- ... دخول الجنات (2) ... 40
7- ... توفية أجورهم وزيادة ... 45
8- ... المغفرة والأجر العظيم ... 50
9- ... لا خوف ولا حزن عليهم في الدرين ... 51
10- ... رفع الحرج عنهم ... 53
11- ... عدم تكليفهم ما لا يطاق ... 59
12- ... الجزاء بالقسط ... 64
13- ... الهداية ... 68
14- ... الشكر والصبر ... 71
15- ... الإخبات إلى الله ... 72
16- ... طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ... 75
17- ... جزاء من أطاع الرحمن وعصى الشيطان ... 77
19-لن يضيع الله تعالى أجر من أحسن عملا ... 81
20- جزاء الحسنى ... 85
21- لهم جنات الفردوس نزلا ... 87
22- لا يُظلَمون أبدا ... 93
23- سيجعل لهم الرحمن ودا ... 96
25- ... لا ظلم ولا هضم لحقوقه ... 99
26- ... لا كفران لسعيه ... 100
27- ... دخول الجنات ... 103
28- ... الجنات والذهب واللؤلؤ ... 104
29- ... المغفرة والرزق الكريم ... 107
30- ... الاستخلاف في الأرض ... 109
31- ... تبديل السيئات حسنات ... 113
32- ... الشعراء خاسرون إلا من كانوا مؤمنين صادقين ... 122
33- ... الفلاح في الدارين ... 125
34- ... ينظرون بنور الله إلى حقائق الأشياء ... 127
35- ... الجزاء بأحسن أعمالهم ... 135
36- ... الدخول في الصالحين ... 137
37- ... الغرف العالية في الجنة ... 138
38- ... في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ... 141
39- ... الجزاء من فضل الله ... 142
40- ... جَنَّاتُ النَّعِيمِ ... 144
41- ... جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً ... 145
42- ... المَّغْفِرَةٌ وَالرِزْقٌ الكَرِيمٌ ... 147
43- ... جَزَاء الضِّعْفِ ... 150
44-المَّغْفِرَةٌ وَالأَجْرٌ الكَبِيرٌ ... 152
45-لا مساواة بين الصالحين والمجرمين ... 153
46- الرزق في الجنة بلا حساب ... 154
47- فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ... 155
48- الزيادة في الثواب من فضل الله ... 159
49- الدخول في رحمة الله ... 161
50- تكفير السيئات ... 163
51- إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار ... 164
52- المغفرة والأجر العظيم ... 166
53- ... تكفير السيئات ودخول الجنات ... 170
54-إخراجهم في من الظلمات إلى النور ... 172
55-الأجر غير الممنون (1) ... 175
56-الأجر غَيْرُ المَمْنُونٍ (2) ... 177
57-الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ... 178
58- ... الأجر غَيْرُ المَمْنُونٍ (3) ... 183
59- ... هم خير البرية ... 186
60- ... الربح في الدارين ... 189
الباب الثاني ... 199
مقالات حول تلازم الإيمان والعمل الصالح وثمؤاتهما ... 199
الإيمان والعمل الصالح لا ينفك أحدهما عن الآخر ... 199
معنى العمل الصالح ... 205
العمل الصالح طريق العزة ... 211
أعظم أسباب السعادة ... 215
كيف تكون سعيداً ؟ ... 218
ما هي السعادة ... 229
أسباب مغيبة لانتصار المسلمين ... 235
أعظم الأسباب لراحة القلب وطمأنينة النفس ... 238
خصائص الإيمان ... 240
قيمة المؤمن ... 247
أسباب السعادة وطريق الفلاح ... 253
تربية الفرد المسلم بالعمل الصالح ... 257
كيف تكون بطلاً ... 260
سعيد النورسي .. ومضات بين العلم والإيمان ... 265
فوائد الإيمان وثمراته ... 270
فوائد الإيمان وثمراته ... 277
الإيمان والعمل الصالح قرينان ... 285
في رحاب آية..جزاء المؤمنين الصادقين... ... 289
ثمار الإيمان ... 292
الحياةُ الطيبة ... 326
ضبط الوقت وأثره في إنتاجية المجتمع ... 333
سجن المؤمن وجنة الكافر ... 340
ثلاثون سببا لدخول الجنة من القرآن وصحيح السنة ... 344
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام الأمان ... 353
لماذا نتعلم أشراط الساعة وعلامات الفتن ... 356
صونوا السفينة قبل أن تغرق! ( 1 ) ... 364
قبل أن تقع في محاضن الرذيلة ... 374
بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان ... 377
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ... 379
أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم ... 385
حقيقة العمل الصالح ... 386
متى يكون العمل الصالح مقبولاً ؟ ... 392
الاستمرار على العمل الصالح ... 397
المداومة على العمل الصالح ... 401
ضوابط العمل الصالح ... 405
شروط العمل الصالح ... 411
النية في العمل الصالح ... 413
شروط العمل الصالح ... 415
الإعجاب بالنفس بعد العمل الصالح ... 418
ما يراد بالإيمان إذا قرن بالإسلام أو العمل الصالح ... 420
لا بد من العمل الصالح ، وهو الواجب والمستحب ... 422
أهمية العمل الصالح. ... 425
حقيقة الإيمان ... 429
المبادرة إلى العمل الصالح ... 436
حيّ على العمل الصالح ... 443
الحرص على العمل الصالح وعدم استقلاله ... 448
العمل الصالح ويوم عرفة ... 453
حرص المؤمن على العمل الصالح. ... 459
عشر وسائل للمداومة على العمل الصالح بعد رمضان ... 464(1/115)