الإيجابية والسلبية
في الشعر العربي
بين الجاهلية والإسلام
الدكتور علي الشعيبي
الإيجابية والسلبية
في الشعر العربي
بين الجاهلية والإسلام
2002
فهرس الموضوعات
مقدمة البحث ... 3
الباب الأول :
العصر الجاهلي ... 3
الفصل الأول: المفاهيم السلبية: ... 3
المنَاحي الاجتماعيَّة ... 3
- التفاخر بالأنساب. ... 3
- العصبية القبلية: ... 3
شعر التحريض: ... 3
المناحي الفكريّة ... 3
في المناحي الفكرية: ... 3
الطيرة والأوهام والخرافات: ... 3
الغيلان والسعلاة، ومزاعم أخرى: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
المناحي التربوية ... 3
توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ: ... 3
الفصل الثاني: المفاهيم الإيجابيّة ... 3
المناحي الاجتماعيّة ... 3
حل المشاكل الاجتماعية: ... 3
تسجيل خيانة القبائل وذمها: ... 3
المناحي الفكريّة ... 3
المظاهر العقلية في العصر الجاهلي ... 3
حركة التوحيد في الجاهلية: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
موقف الشعراء من تضخم الثروة: ... 3
أثر المال في العلاقات الاجتماعية: ... 3
دور المرأة في سياسة المال: ... 3
المناحي التربوية ... 3
في المناحي التربوية: ... 3
الخصال الحميدة التي يربى عليها الفتى: ... 3
الخصال الحميدة التي تربته عليها الفتاة: ... 3
مظاهر أخرى في التربية الجاهلية: ... 3
استنتاج: ... 3
الباب الثاني:
العصر الإسلامي ... 3
الفصل الأول ... 3
الشعر ونفوذه في الإسلام: ... 3
التغيرات البنيوية في المجتمع العربي بعد الإسلام: ... 3
الفصل الثاني : المفاهيم السلبيّة ... 3
المناحي الاجتماعية ... 3
شعر الفتن والتحريض: ... 3
شعر التحريض: ... 3
العصبية القبلية: ... 3
المناحي الفكرية ... 3
الاستخفاف بالدين!.. ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
المناحي التربوية ... 3
-توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ. ... 3
- تصعيد النزوات السلبية: ... 3
-التقليل من قيمة المعلم: ... 3
-ذكر الضحايا والموت والدمار: ... 3
-ذكر الجن والعفاريت والأشباح: ... 3
الفصل الثالث: المفاهيم الإيجابيّة ... 3
المناحي الاجتماعية ... 3
حل المشاكلات الاجتماعية: ... 3
التنديد بالفساد وفضح المرتشين: ... 3(1/1)
المناحي الفكرية ... 3
المحاكمة العقلية: ... 3
إظهار كلمة الحق، وفضح الباطل: ... 3
الأخلاق الفاضلة: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
ـ بدايات الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية: ... 3
- تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي: ... 3
فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات: ... 3
المناحي التربوية ... 3
- التربية ... 3
بناء الشخصية كما جاء في الشعر التربوي الإسلامي ... 3
الفضائل التي دعا إليها الشعر التربوي ... 3
نتائج التربية الفاشلة ... 3
ثمرة البحث ... 3
الفهارس الفنية ... 3
ـ فهرس المصادر والمراجع. ... 3
فهرس الأعلام ... 3
فهرس البلدان والمواضع ... 3
فهرس الفهارس ... 3
(((
مقدمة البحث
تحدثت كتب(1) النقد عن الخصومة والسّرقة بين الشعراء، كما تحدثت عن الصراع بين القديم والجديد في المعاني والمباني. وغدا ما نعرفه عن الشعر القديم مقسّماً إلى عصور تاريخية ضمّت نظريات مدرسية؛ وما نعرفه عن الشعراء موزعاً إلى زمر متعددة؛ فمنهم شعراء للمديح وآخرون للغزل، وغيرهم للوصف، وتسميات أخرى كثيرة ومعروفة، مرتبطة بأغراض الشعر المختلفة.
ويظل الحديث دائماً يدور في ساحة محصورة بين جدارين من القول الأول: يمثل السّلف من الشعراء، كما يمثل نوعية الشعر الذي قالوه والثاني: يمثل الخلف من الشعراء، كما يمثل نوعية الشعر الذي قالوه أيضاً. والناقد المبصر لهذا وذلك، يمثل حكم لعبة الكرة، يحدثنا عن انتقالها من فريق إلى آخر.
__________
(1) لاحظ مثلا – نقد الشعر، قدامة بن جعفر، مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنى ببغداد 1963م.
- النقد الأدبي، يوسف بيومي، دار الجيل، القاهرة. 1974م.
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، دار الجيل، بيروت 1972م.(1/2)
والسعي في الخروج إلى نوع آخر من الدراسة الأدبية ضروري في عالمنا المعاصر، فقد مللنا نظرية النقد على أساس هذا أمدح بيت قالته العرب، أو أهجى بيت سمعناه؛ كما مللنا نظرية هذا جديد وهذا قديم. نريد وضع شعر الخلف والسلف في طرف، ووضع مقياسٍ جديدٍ للشعر العربي نُبصر بموجبه الإيجابي والسلبي في طرف مقابل.
ومهمّة هذا المقياس أن نعرف في الشعر ما كان، وما يجب أن يكون بما قد كان.
وانطلاقاً من إيماننا بدور الأدب الفعال في حياة المجتمعات البشرية، نعلن ثقتنا بقدرة الشعر العربي على التغيير والتأثير إذا أحسن من يمارسه دوره الموكل إليه.
إن الفائدة المرجوة من ذلك تبصير الإنسان العربي المعاصر بالصفحات الأخرى من التاريخ حين يكون بعيداً عن ضغط عامل من العوامل مهما قل، وقد يبدو هذا مستحيلاً، ولكن المقياس الذي نضعه هو الضابط الذي نأمل فيه منعاً من التهور أو الشطط في القول.
إن كثيراً من الكتب الأدبية التي تغص بها المكتبة العربية، ولاسيما الكتب التي تتناول العصور القديمة غير كافية، ولا تعطي الصورة الكاملة لشعر تلك العصور، وهي كما نراها ونلاحظها تسير على خطوط كثرة. أهمها خطّان اثنان.
الأول: خط يحتوي على كتب تاريخ الأدب بما فيها مصادر حياة الشعراء، وهي كثيرة.
الثاني: خط يحتوي على كتب الحياة الأدبية عامة بما فيها مصادر المادة الفنية، ومصادر النقد الأدبي، ودواوين الشعراء.
ربما كان من المفيد أن ندرس خطاً جديداً في الأدب يرفد الخطوط السابقة بناءً على نظرة أخرى جديدة. وهذا هو هدف البحث الذي يسعى إلى ترسيخ خط جديد في دراسة الشعر العربي من خلال كشف واسع بالمواقف الإيجابية والسلبية التي اتخذها الشعراء من المفاهيم المتعددة في العصور التي ندرسها.(1/3)
وفي مثل هذا البحث خطورة تظهر في مراجعة بعض فصول التاريخ ومراجعة بعض المفاهيم الأدبية، وربما قلب البحث كثيراً من المفاهيم الفكرية الموروثة، وهذا يساعد الشعراء المعاصرين والقادمين من العرب في التعرف على الخطوات الإيجابية التي يجب أن تكون، كما يساعدهم في تجنب الخطوات السلبية التي كانت.
إن التاريخ يكتب باليد الحاكمة، وليس الذي يكتب نفسه شقيا بعاقل ما دام القلم بيده. وإن اللوحة الفكرية التي رسمتها قصائد المشهورين من الشعراء والتي تتصدر الأدب العربي القديم ليست وحيدة، وليست تامة. هناك لوحة أخرى غيرها ترسمها المقطعات الشعرية.
إن عدد الشعراء الذين ذكروا في المدارس الأدبية يكاد يكون محصوراً وإننا نتساءل: هل يعقل أن يكون عدد الشعراء محصوراً، في أمة لها تراثها الضخم العظيم!؟.. والجواب عندنا: لا.. طبعاً. فهل من ضير إذا راحت كلمات شعراء آخرين ترسم لنا صورة أخرى، وهل من ضير إذا وقفنا عند صور أخرى للشعراء المشهورين المعروفين أنفسهم؟. إن الشاعر ذو دور عظيم في المجتمع العربي. والشعر سجل بالإيجابي والسلبي من مواقف الشعراء والحاكمين، والمحكومين، سجل بالمفاهيم المختلفة التي تسود في كل عصر من العصور، ومن هنا فإنه يمكن الاعتماد على الشعر في إعادة تسجيل جزء من التاريخ. لكن الحديث عن نفوذ الشعر والشاعر في حياة العرب قد يجد معارضين، فلابد من التثبت واليقين في هذه المسألة لأهميتها من جهة، ولأننا نعتمدها في بحثنا كلّه من جهة ثانية.(1/4)
كان ملوك العرب وزعماؤهم يدركون أثر الشعراء في حياتهم، فكانوا يحسبون حسابهم، ويرضونهم لكسب الرضى العام، ويأخذون بآرائهم، ويعملون غالباً على كسب جانبهم، وإلا فلابدّ للحاكم من ملك أو أمير أن يأخذ الشاعر بالعقاب ليتخلص منه بطريقة يضمن فيها بعده ، ونجاته من لسانه. أرسل الملك عمرو بن هند طرفة بن عبد الشاعر الجاهلي بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين، وعمان، يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها(1) ، فتخلص منه.
كما روى أن النّوار زوجة الفرزدق، كانت احتكمت إلى عبد الله بن الزبير في زوجها. فقال: إمّا أن ترجعي مع ابن عمك وتتزوجيه وإمّا أن نقتله فلا يهجونا(2) " وهكذا يصبح الشاعر مرهوب الجانب مما يحمل القوم على معاملته بالحسنى والعناية به بوصفه ضيفاً خارقاً للعادة(3) . ولسيرورة الشعر على الأفواه، تجنب الأشراف ممازحة الشعراء(4) خوفا من ألفاظ تسمع منهم. فالشعراء أصحاب ألسنة حداد، على العورات موفية، وعن الخبايا باحثة. والاحتكاك المباشر بهم من أجل قضيّة ما قد يولد شعراً لا يريده الأشراف، فيحاولون كبح جماح الشاعر بالقوة؛ ولكن تلك القوة لم تكن تحول دون انتشار الشعر في جانب سلبي أو إيجابي.
__________
(1) انظر الخبر في: "الشعر والشعراء" ص49 ـ وفي سمط اللآلي: ص319، والأغاني ج9/322، دار الثقافة، بيروت 1959م.
(2) عاشت بخلاف مع زوجها، انتهى إلى طلاقها. انظر خبرها في ديوان: ج1/294.
(3) بلاشير، ر. تاريخ الأدب العربي: ج2/ ص178، وزارة الثقافة دمشق 1973.
(4) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لابن رشيق ج1 /ص77. بيروت دار الجيل – الطبعة الرابعة 1972م.
... وقد تحدث صاحب العقد الفريد عن مداراة الشعراء وتقيتهم، فاطلبه في العقد: ج6 /ص134. المكتبة التجارية الكبرى. القاهرة، 1953.(1/5)
روي أن الشّعبيّ(1) - وهو أحد قضاة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان – حكم بين رجل وامرأته، فحكم للمرأة، فقال زوجها:
فُتن الشّعبيُّ لمّا ... رفع الطّرف إليها
فتنتهُ ببنان ... وبخطيِّ حاجبيها
ومشت مشياً وَئِيداً ... ثم هزّت منكبيها
قال للجلواز: قَرّبْها وأَحضر شاهديها
فقضى جوراً على الخصم ... ولم يقض عليها
فأمر الشّعبيّ بالرجل فعوقب، ولكن العقاب لم يمنع الأبيات من الانتشار، فسارت مع الركبان شرقاً وغرباً. وحكى الشعّبيّ ذاته قال: مررت في البصرة بفتاة تملأ جرتُها وتتغنّى "فتن الشّعبيّ... فتن الشّعبيّ"، ولم تستطع أن تكمل البيت، فقلت لها:
فتن الشّعبي لمّا ... رفع الطرف إليها
ففرحت به فرحاً شديداً، وشكرتني، وانصرفت، وهي تتغنى بالبيت(2) هذا الشعر.
وأما الشعراء فهم ".. أمراء الكلام يقصرون ويمدّون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون، ويستعيرون"(3) .
كان الشاعر على بصيرة من أمره عارفاً مكانته في المجتمع، عاملاً على حفظ تلك المنزلة الرفيعة. وقد ورد أن الشاعر "الطفيل الدوّسي قدم مكة، ورسول الله بها، فحذّره رجال من قريش من سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يتأثر بقوله. قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت لا أسمع منه شيئاً، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي!... والله إني رجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته(4) .
__________
(1) وهو: عامر بن شراحيل الشّعبيّ الحميري. راوية من التابعين. كان فقيهاً شاعراً. الأعلام ج4 – ص18.
-انظر العقد الفريد ج1/ ص66 المكتبة التجارية الكبرى القاهرة، 1953م.
(2) تهذيب ابن عساكر: ج7 - ص138. والوفيات: ج1. ص244 وسمط اللآلي: ص751.
(3) المزهر للسيوطي. ج2 – ص/ 471.
(4) سيرة ابن هشام. ج1 – ص235، وفجر الإسلام، أحمد أمين، ص56.(1/6)
وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر، فإن بعض نقاد الأدب، ادّعى أن أشراف الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، فينهون أولادهم عنه، ويحتجون بقصة امرئ القيس مع أبيه، وأن أباه نهاه عن قول الشعر، فلمّا خالف أباه في وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه، وأخرجه من داره.
"وقد غفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعاً، متهتكاً شبّب بنساء أبيه، وبدأ بهذا الشعر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرئاسة، فكان إليه من أبيه ما كان ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة، فهذه، وقد جازت كثراً من الناس، ومرّت عليهم صفحا"(1) .
وربما أعرض عنه بعض الأشراف، لكن ليس لعيب فيه، بل لأنه وسيلة للتكسب. وكانوا يدركون قيمته تماماً ويعيبون من يتكسب به فهو "لجلالته يرفع من قدر الخامل، إذا مدح بهن مثلما يضع من قدر الشريف، إذا اتخذه مكسباً كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني في امتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان. هذا وإنما امتدح قاهر العرب،وصاحب البؤس والنعيم"(2) .
وهكذا فإن عالماً "تخطى الكلمة فيه بأهمية كبرى هو عالم يقدر الموهبين. فربّ خطبة أو كلام مرتجل يقعان في محلهما، قد يغيران مجرى الحوادث. إن الشعر يستمد قوته من ذاته وتبقى مكانة الشاعر الملهم الاجتماعية ثانوية(3) .
ويبقى نفوذ الشعر ذا دور مهم في حياة العرب العقلية، وتصرفاتهم الاجتماعية، وربما أهلك الشعر قبيلة برمتها، وهل أهلك عنزة وجرما وعكلا، وسلول، وباهلة، وغنيا إلا الهجاء؟!..
__________
(1) العمدة، لابن رشيق. ج1 – ص43. الطبعة الرابعة، بيروت 972.
(2) المصدر السابق: ص40 – 41. والبيان والتبيين، للجاحظ: ج1. ص241. – وصاحب البؤس والنعيم هو المنذر بن ماء السماء والد النعمان، وليس النعمان، وإنما القول "صاحب البؤس والنعيم" عن النعمان هفوة.
(3) تاريخ الأدب العربي بلاشير. ج2 /ص173 منشورات وزارة الثقافة.(1/7)
وهذه فيها فضل كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كلّه هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعباد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شرّبني تميم(1)
وإذا كان الشاعر مدركاً مكانته في المجتمع، فإنه مدرك أثر شعره وهيبته أيضاً، فيطالب بمنزلته الخاصة. "كتب هوذة بن علي الحنفي، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبه على رسالته التي أرسلها إليه: (ما أحسن ما تدعو إليه، وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني،فاجعل لي بعض الأمر أتبعك(2) ".
وربما قلل التحضر من مكانة الشاعر، فلم يعد الناس يخشون لسانه كما هو الأمر في مجتمع البداوة، ولكن هذا لا يعني انتهاء نفوذ الشعر إنه "ديوان العرب، وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"(3) .
وجاء الإسلام، وبقي أثر الشعر في المجتمع كما كان، تلهّى عنه الناس مدة من الزمن، ثم عادوا إليه. وربما حث الخليفة على تعلمه واتقانه، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة قائلاً: مُر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"(4) . ومن الملاحظ أنه مهما تكن المكانة التي يمثلها الشاعر في قبيلته فهو يهم بالتظاهرات الأساسية في حياة الجماعة"(5) .
__________
(1) البيان والتبيين: ج4 – ص35 – 38. الطبعة الثالثة. القاهرة 1968 وحسكة بن عتاب أحد فرسان تميم.
(2) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج1 – ص262.
(3) أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين. ص/ 104.
(4) العمدة، لابن رشيق: ج1. ص/28.
(5) تاريخ الأدب العربي – بلاشير ج2. ص173.(1/8)
وإذا ثبت بالدليل مقام الشعر والشاعر في البيئة العربية، فهذا عزّ مطلبنا لتثبيت خط جديد، ولتصحيح الفكرة القائلة بأن موقف الالتزام في الشعر المعاصر، هو وليد مفهوم سياسي معاصر، وفي مخالفة صريحة لكثير من الباحثين(1) ، وحين نؤكد صحة ما ندعيه، ونجد فيه إقناعاً كافياً، نكون قد أسقطنا تلك الفكرة، و حققنا هدفنا بأقدمية المواقف الصحيحة التي اتخذها الشعراء من أمهم، والتي تسمح باتخاذ مواقف جديدة بموجبها.
إن الشعر تعبير عن حالة نفسيّة يعيشها الشاعر، تظهر تحت تأثير المفاهيم التي يستقيها من البيئة؛ وهناك علاقة متبادلة بين المفاهيم والمواقف، فكلما ظهر مفهوم جديد في أمّة من الأمم، اتخذ شعراء تلك الأمة منه موقفاً ما، قد يكون سلبياً وقد يكون إيجابياً.
إن دور شعراء العرب من المفاهيم المتجددة في حياتهم أمر كبير، ربما تجاوز دوره في الأمم الأخرى. ويتبين للباحث أن دور الشعراء كان شاملاً لكثير من جوانب الحياة. إنه نفوذ اجتماعي، وسياسي، وفكري واقتصادي. بمعنى أن مناحي الحياة العربية كلها كانت واقعة تحت تأثير ونفوذ الشعر. و هذا يعزز ما ذهبنا إليه من دور الكلمة في تدعيم أركان الحياة السليمة أو تهديدها، تبعاً للمعنى سلباً أو إيجاباً.
ومن الجدير ذكره هنا أن هذا البحث غير خاضع لطريقة الناقد الفرنسي
(SAINTE -BEVBE)(2) من حيث العناية بالشخصيات الأدبية، وتعقب حياتهم، ولكنه محاولة جادة لتبيان طبيعة نوع من الشعر خدم الحياة العربية. ودفعها شوطاً في سير الحضارة، وهو الشعر الإيجابي، وتسليط الضوء على نوع آخر من الشعر أخّر مسيرة الحضارة، هو الشعر السلبي.
__________
(1) ماياكوفسكي، شاعر الثورة الروسية. وأتباعه فيما بعد. انظر الأدب المقارن د. محمد غنيمي هلال. ص397. الطبعة الرابعة، القاهرة 1970م.
(2) انظر النقد الأدبي لمؤلفيه:Jea-c-cFilloux وJ-Carloui الطبعة السادسة. باريس: 1969. المطابع الجامعية الفرنسية.(1/9)
رب شاعر مغمور، جاهلي، أو إسلامي، أدّى خدمات جلّى لقومه، واتخذ المواقف الإيجابية في شعره، دون أن يتصل بالقصور، مما جعله غير معروف في أمة ارتبط أغلب تاريخها بالحكام، إلا أن التاريخ يثبت صحة سلوكه في استخدام شاعريته، وهو المطلوب.
ورب شاعر مشهور كان رفيق الملوك والأمراء، غير أنه لم يحسن استخدام شاعريته، فكان في سلوكه بعيداً عن المواقف التي يجب أن يقفها من هو في مثل ذكائه من الشعب، موصوف عندنا بالسلبية.
ولعل القارئ لهذا البحث يفاجأ بأمرين اثنين.
الأول ... : كثرة الشعراء الذين لم يسمع بهم ا\إلا المختصون. فالمنهج يقضي الالتفات إلى المغمور من هؤلاء الشعراء نسد بشعرهم الفجوات التي تطالعنا بها حياتنا الأدبية، نسمع أصواتهم العذبة تطل على الدنيا. وأغلب هؤلاء كان بعيداً عن القصور، فكانت رؤيته للأحداث بعيدة عن منظار أصحاب تلك القصور. إن مجموع شعر هؤلاء يشكل تياراً كبيراً في الأدب العربي، يقابل تيار أدب القصور يمكن تسميته أدب الشعب(1) .
الثاني ... : شعر المقطعات، فالقضية دائرة بين مفهوم وموقف، و عادة يأتي رد الفعل سريعاً عند الشعراء، وحين يكون رد الفعل سريعاً لابد أن يكون قصير النفس. أنه من غير الممكن خضوع التراث الأدبي العربي كله لشعراء المطولات، إن شعر المقطعات قد يسلط ضوءاً قوياً على كثير من المفاهيم الدينية والتاريخية والأدبية.
والقيام بهذا عبء ثقيل وكبير، والمؤونة فيه كثيرة غير أنها ضائعة مبعثرة في بطون الكتب والدواوين في أغراضها المختلفة، والبحث في هذه الذخيرة الواسعة يحتاج إلى تحليل مسهب، وتقويم سليم وزمن مديد، وأمانة على النصوص، واستقامة في السيرة، والخلق.
__________
(1) على أن المقصود بأدب الشعب هنا، هو ما أنتجه شعراء الشعب، لا ما يمتع الشعب على اختلاف الأمكنة والأزمنة كإلياذة هوسيرس، أو ألف ليلة وليلة.(1/10)
نرجو الله أن يوفقنا لتحقيق هدفنا في هذه الدراسة، وهو القاهر فوق عباده القادر على ما شاء. وهي دراسة قصدت بها أن أمرّن الشعر لخدمة الأمة فإن أفلحت فهذه أمنيتي، وإن فشلت فعذري أنني إنسان، وقد خلق الإنسان ضعيفاً.
أصبح واضحاً أن غاية هذا البحث ترسيخ خط جديد في دراسة الشعر العربي، ليأتي ما قد يكون من هذا الشعر العربي المعاصر والمستقبلي متجنباً السلبي فيما كان، وآخذاً بالإيجابي الذي كان فيما يكون.
ومادام الشعر ذا أثر كبير في حياة العرب، فمن المؤكد أنه يستطيع أن يشارك في نهضتهم المعاصرة، وهذا هدف لنا أيضاً نبتغيه ونسعى إليه من خلال دراستنا. وعلى الرغم من انخفاض نسبة هذا النفوذ الذي كان للشعر في حياة العرب المعاصرة، فإنه يظل في طليعة ما يحرك الإنسان العربي، ويؤثر فيه. فمن الملاحظ أن غياب النصوص(1) الشعرية الأصلية – في مضامينها – من كتب التعليم، أعطى الوحدة التعليمية الشعرية مفهوماً سلبياً، فغدت صفحة القوم معرضة عن الشعر راكضة خلف ما يطربها وينسيها شيئاً من آلامها في هذا الشعر.
__________
(1) لاحظ مثلاً استعراض الشعر العربي، في المرحلة الثانوية من مدارس القطر العربي السوري، حيث يتخرج الطالب من هذه المرحلة وهو لا يعرف من الشعر سوى المديح والرثاء والفخر والهجاء، والنسيب، وما شابه تلك الأغراض المشهورة، والشعراء المشهورين.(1/11)
ليس من اليسير أن نعيد النظر في تراث ضخم من الشعر الجاهلي لنستنتج مفاهيم جديدة كان الشعر يعالجها، كما أن أمر الوقوف على الشعر الإسلامي أصعب من سابقه. فهذا يقتضي منّا فرزا دقيقاً، لنقف على المتبقي من المفاهيم الجاهلية في المجتمع الجديد، ولنرى المفاهيم الجديدة التي جاء بها الإسلام. في ضوء هذه الغاية نستطيع تحديد المنهج، وأنه من المهم جداً – ونحن بصدد وضع خط يرفد الخطوط السابقة في دراسة الأدب – أن تعرض تعريف الإيجابية والسلبية بالشكل الذي نقصده في دراستنا، لا على أنه الأصل في الدراسة الأدبية فقط، وغنما لأنه المقياس الذي نقيس بموجبه الثروة الشعرية الكبيرة التي نتعامل معها، فنأتي بالتعريف بعد توضيح المنهج.
جاء هذا البحث في: مقدمة، وبابين، وثمرة رجوناها.
فالمقدمة: تناولنا فيها ضرورة الوقوف على مفاهيم جديدة في الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي، من خلال استعراض كبير لمجموعة كبيرة منه ولاسيما شعر المقطعات. وقد اقتضى هذا أن نتعرض لمكانة الشاعر والشعر في المجتمع العربي القديم وأثرهما في توجيه المفاهيم والمواقف العربية القديمة كما اقتضى أمر هذا الخط الذي نسير عليه في هذه الدراسة، والذي ندعو إليه الباحثين والشعراء والمعاصرين. ثم كان لابد من ثبت بالتعريف الذي وضعناه عنواناً ليحثنا.
في الباب الأول: وقفنا عند (العصر الجاهلي) فدرسنا فيه مظاهر الحياة الاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية، والتربوية، من خلال المفاهيم السلبية التي أفردنا لها الفصل الأول، والمفاهيم الإيجابية التي أفردنا لها الفصل الثاني.
ففي الفصل الأول، وقفنا عند المناحي الاجتماعية، لأنها تظهر لنا التكوين الاجتماعي بما فيه من قيم سلبية كالتفاخر بالأنساب، والعصبية القبلية، وشعر التحريض.(1/12)
ومن الطبيعي أن ندرس المناحي الفكرية التي كانت تتحكم بحياة العرب الاجتماعية، لأنها تفسّر لنا مواقفهم الأولى من الإسلام، وما تسرّب منها إلى الدين الجديد واستطاع أن يحافظ على حياته حتى هذه الساعة من الواقع العربي المعاصر. كالطيّرة والأوهام، والغيلان والسّعلاة والمزاعم الأخرى الكثيرة.
وحين نأتي إلى الجوانب السلبية في المناحي الاقتصادية نقف على مفاهيم جديدة غير تلك التي اشتهرت في قيم العرب، كالبخل، والغدر، والطمع، واحتقار المهن!..
ونختم هذا الفصل بالحديث عن المناحي التربوية السلبية التي نعتبرها حصيلة طبيعية للمناحي السابقة فنقف على ما يؤذي التربية عامة، وما يؤذي تربية الأطفال خاصة.
فإذا تمت لنا دراسة المفاهيم السلبية، مضينا إلى دراسة المفاهيم الإيجابية في الفصل الثاني.
وكان طبيعياً أن نقف عند المناحي الاجتماعية أولاً، مراعاة للترتيب السابق فندرس أهم هذه المناحي الاجتماعية التي ظهرت في حل المشكلات على مستوى الأسرة وعلى مستوى القبيلة. وتسجيل خيانة القبائل في محاولة لتغير أفرادها من الخيانة والغدر. ثم نستعرض مجموعة من القيم الإيجابية الأخرى التي وجهت حياة العرب نحو الأفضل.
فإذا انتهينا من هذا وصلنا إلى المناحي الفكرية الإيجابية، تلك التي كان لها أثر كبير في قبول الدين الجديد فيما يعد عند كثير من الناس الذين لم يقاوموه كثيراً، فقد استجابوا لهذا القول الجديد، وكان للمظاهر العقلية، ولحركة التوحيد أثر عظيم في إحداث تلك الاستجابة، حيث رقّقت النفوس وهذبت وصارت قاعدة صالحة لاستقبال الدين الإسلامي.
وإذا انتهينا من توضيح هذا المنحى، انتقلنا إلى المناحي الاقتصادية، وبيان أثر المال في خلق التفاوت الطبقي، وأثره في العلاقات الاجتماعية ودور المرأة في سياسة المال.(1/13)
وفي نهاية المطاف في الفصل الثاني من الباب الأول ندرس المناحي التربوية لنتعرف على الخصال الحميدة التي كان الشعراء يدوّنونها شعرا، ويحملون أولادهم عليها، وتلك التي تراد للفتيات العربيات. ثم نمضي إلى مظاهر أخرى في التربية الجاهلية.
فإذا تمت لنا دراسة العصر الجاهلي، واتضحت لنا المفاهيم السلبية الإيجابية فيه مضينا إلى الباب الثاني وفيه ندرس العصر الإسلامي.
ونبدأ هذا الباب بالفصل الأول الذي ندرس فيه موقف الإسلام من الشعر ممثلاً بموقف القرآن الكريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام. ونحاول أن نرى الموقف من خلال رؤية جديدة لكثرة الدراسات(1) التي تطرقت لهذا الموضوع من جهة،ولطبيعة البحث من جهة ثانية،وسوف نركز في هذه الرؤية على الشعر ونفوذه في الإسلام.
ثم نمضي بعد هذا إلى التغيّرات البنيوية التي حصلت في المجتمع العربي بعد الإسلام، فنناقش أهم الأوجه السلبية والإيجابية في هذه التغيرات.
ثم نبدأ الفصل الثاني بالمفاهيم السلبية المنتشرة في المناحي المتعددة. ونأخذ المناحي الاجتماعية أولاً، ونحاول استجلاء أغلب هذه المناحي السلبية من خلال الوقوف على شعر الفتن وإثارة الضغائن، وعلى شعر العصبية القبلية، وشعر التحريض!...
__________
(1) لاحظ: جمهرة أشعار العرب – ج2. ولاحظ موقف الإسلام من الشعر، يحيى الجبوري – منشورات مكتبة النهضة، بغداد 1964.(1/14)
فإذا انتهينا من هذه المناحي الاجتماعية، مضينا إلى المناحي الفكرية حيث نقف على مفاهيم جاهلية استمرت في وجودها بالرغم من وجود الإسلام، وبالرغم من سلبيتها!.. كما نقف على شعر الاستخفاف بالدين! ثم نتناول المناحي الاقتصادية. ثم المناحي التربوية من خلال ما يؤذي التربية عامة وما يؤذي تربية الأطفال خاصة مستغلين المفاهيم الاجتماعية السلبية الأخرى، لتوظيف هذا الهدف التربوي، فندرس مظاهر التربية السلبية من خلال المظاهر الاجتماعية السلبية، ونترك هذا الحديث المفصل إلى المناحي الإيجابية في التربية الإسلامية.
وكان طبيعياً أن ننتقل إلى الفصل الثالث وهو الأخير من الباب الثاني لنتحدث عن تلك المفاهيم الإيجابية. فنبدأ أولاً بالمناحي الاجتماعية من حل للمشكلات الفردية والعامة، إلى تنديد بالفساد، وفضح للمرتشين.
ثم انتقلنا إلى المناحي الفكرية حيث وقفنا على النتائج الإيجابية في المحاكمة العقلية، وعلى إظهار دعوة الحق، وتمجيد الأخلاق الفاضلة.
فإذا انتهينا من المناحي الفكرية نفذنا إلى المناحي الاقتصادية، كما صوّرها الشعر الاقتصادي ممهدين له بنبذة عن نشوء الاقتصاد الإسلامي، فركزنا على تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي، لأننا لم نركز على هذا المنحى كثيراً في الفصل الثاني حيث الحديث السلبي، وذلك للتداخل الذي رأيناه في هذا المنحى.
ووقفنا على فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات لإكمال الدائرة الاجتماعية بالحديث عن الفساد، وفضح المرتشين.
ثم نفذنا إلى المناحي التربوية خاتمين بها الفصل الثالث والأخير، فوقفنا على أهداف التربية المعاصرة، وعلى أهداف التربية الإسلامية، كما مثلها الشعر التربوي، ورأينا المؤتلف والمختلف في التربية العربية من خلال منظور العصر.(1/15)
وأنهينا البحث عن الثمرة المرجوّة منه، والتي تتلخص بظهور خط آخر في دراسة الشعر العربي، ودور المقطعات في إعطاء صور متعددة عن مناحي الحياة العربية. ودور الشعر خاصة في نهضة الأمة العربية المعاصرة.
ومن الملاحظ أن دراستنا كلها تخضع لربط الشعر بالحياة، السلبي منه والإيجابي، من خلال مواقف الأدباء المتباينة، من المفاهيم المتعددة، تحت سلطان الشعر ونفوذه.
ومن الملاحظ كذلك أننا لا نعتمد الفصل التاريخي الرياضي في العصور التي ندرسها، ونمضي إلى الاعتقاد بتداخل العصور، والتأثير المتبادل بينها.
وعلى ضوء الهدف الذي أردناه لبحثنا، نريد الوصول إلى فصول من التاريخ نعتقدها غامضة، صار فيها لغط كبير.
فهذه المقطعات تتناول أغراضاً شعرية ندر أن تناولتها المطولات: حيث الحديث عن الصراع الطبقي، أو فضح أساليب القمع والقهر، والمساعدة في تحليل الواقع التاريخي. كما أن هناك شيئاً مهمّاً في شعر المقطعات، فإن ذلك الشعر المطوّل المشهور لا يمثل الشاعرية بصفاء النفس وصدقها، فالمقطوعة التي تطفر من النفس تحت تأثر درجة عالية من المشاعر الصوفية الصادقة هي الشعر الحقيقي، والذي نعنيه بالصوفيّة هنا، صفاء الدافع الذي وراء المقطعات.
ونجدّ في البحث عن تلك المقطعات القابعة في كتب التاريخ وكتب النقد وكتب تاريخ الأدب، وتاريخ النقد، ونأمل من وراء ذلك كلّه دعم الخط الجديد في الشعر العربي لنتوصل إلى جوانب الحياة المختلفة.
وهذا الخط الجديد يكاد يكون هو الحالة الثالثة التي نريد الوصول إليها "فالضوء المتولد من السالب والموجب، لا هو السالب ولا هو الموجب إنما هو الحالة الثالثة(1) .
كنّا ندرس تيار الأحداث لنصل من ورائه إلى الشعر، والأصل أن ندرس الشعر لنصل من ورائه إلى تيار الأحداث التي تكشف الجوانب المتعددة للحياة العربية.
__________
(1) أسعد علي: مصابيح القراءة للتأليف العلمي: دار السؤال للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية. 1979. ص29.(1/16)
سوف يتأكد لنا شيء مهم في نهاية هذا البحث فقد نرى أن حاجتنا عظيمة في تعديل كتبنا المدرسية الرخيصة في تاريخ الأدب، و حتى كتبنا الجامعية في هذا التاريخ!...
إن تلك الكتب بما تحتويه من شعر خاضع للدراسة المدرسية، أو تنوّع الأغراض الشعرية، وترسم للشعراء العرب الجاهليين والإسلاميين صورة مشوهة تثير استهزاء بعض النقاد المعاصرين، وتفتح للكثير منهم باباً للطعن في ذلك الشعر، لاسيما وأن تلك الكتب تسهّل عليهم إثبات ما يريدون.
كذلك بالنسبة لصورة العرب التي ترسمها قصائد الشعر المدرّس هي صورة تثير استهزاء أعداء العرب وتفتح لهم باباً للطعن.
إن هذا الخط الجديد في دراسة الشعر العربي ينسج لنا صورة أخرى للشعر والشعراء العرب، وللمجتمع العربي الجاهلي والإسلامي نحلّها محلّ الصورة الحالية.
ومن حقي أن أتحدث عمّا عانيته في هذا البحث، ففي غالب الأحيان كنت أصل إلى درجة اليأس والملل، والتعب المضني، ثم أعود فأسأل نفسي: من الذي ألزمني بهذا المنهج؟!..
إنها رغبتي، ولابد من تحمل كل الصعوبات في سبيل تحقيق الهدف الذي أردته من وراء البحث.
ويبقى أن أشير إلى المعاناة التي تصادف الباحث وهو يسعى ليبتعد عن الخمول من الشعر، الذي جانبته ما قدّر لي، لأكون واقفاً على قاعدة صلبة في بحثي، الذي لا أدّعي له التسنّم، بل كل ما أصبو إليه أن يكون ذا نضج، فيرفد المكتبة العربية بما تفتقر إليه، وأرجو أن يجد فيه الباحث والقارئ خطوة جديدة جديّة في عالم النقد والدراسة الأدبية.
(
الإيجابية والسلبية
لغة ودلالة
أولاً: الإيجابيّة لغة ودلالة:
لغة:
مصطلح الإيجابية غير موجود في المعاجم العربية؛ وما نجده في باب الجيم وفصل الواو هو جوب، ومصدره الإجابة كالطاعة، والطاقة. وهو غير الإيجابية التي نثبتها هنا، والإيجابية مصدر صناعي.(1/17)
وقد جاءت في معاجم اللغة الإنكليزية على أنها (Positvist) ولها معان أخرى كثيرة منها (Positive) بمعنى الصورة الموجبة،وكذلك جاءت على أنها الإيجابي، ومنها قولهم: (positive-charge) بمعنى الشخصية الموجبة وكذلك جاءت على أنها (Positivist check) بمعنى عائق إيجابي؛ وتأتي كلمة
(Positive) منفردة بمعنى متيقّن، موجب حاسم، أو بات(1) .
وفي الإنكليزية قولهم: (positive tur of mind) يعني عقلية إيجابيّة أو واقعية(2) . ومن تلك المعاني والمصطلحات نستطيع أن نقول: إن (Poetery posicive) مصطلح يعني الشعر الإيجابي. ويبقى مصطلح الإيجابية في الإنكليزية (posicivist) هو الأصل، ومنه اشتقّت بقيّة التسميات التي مرت بنا. ثم انتقلت الكلمة إلى الاستخدام السياسي والمنطقي، وأكثروا من استخدامها في علم النفس وشؤون التعليم وها نحن ندخلها في عالم الأدب(3) .
وهذا المعنى تشترك فيه عدة لغات أوربية أخرى منها الفرنسية(4) ، والإسبانية(5) ، والألمانية، كذلك تشترك الإنكليزية مع تلك اللغات بمصطلح
(Affirmatie) الذي يعني الإيجابي.
دلالة:
__________
(1) معجم انكليزي عربي للمفردات العلمية والفنية. حسن سعران. دار صادر، ودار بيوت، بيروت 1967م. ص/237.
(2) الكنز قاموس إنكليزي عربي. جروان السابق. إصدار دار السابق للتأليف والنشر طبعة أولى. بيروت. لبنان. ص/ 504.
(3) ذُكِرَ المصطلح في كثير من المقالات الأدبية. انظر على سبيل المثال مجلة العربي العدد 216/1976م.
(4) انظر معاجم اللغات: الفرنسية، والألمانية والإسبانية.
(5) في الإسبانية (positvo) بمعنى إيجابي. انظر: fcorriente
Dictonrlo Essan of Arate Instita to His ano arabede, Caltwra – Madrie – d 1970 - 361 .(1/18)
تدل كلمة الإيجابية على معان متنوّعة متعددة، تختلف باختلاف الفن الذي تضاف إليه: فهناك إيجابيّة التعليم، وإيجابية علم النفس والمنطق، وإيجابية الأدب، وهي مقصودنا، وفيها نقتصر على الشعر الذي قيل في العصرين الجاهلي والإسلامي، الذي يشتمل على عصر بني أمية أيضاً.
فالذي يدل على الإيجابية في الشعر، فضح قوى الظلم، وأداته البغي في صور متعددة، أهمها:
نبرة الاحتجاج الغاضب الذي يعمل على تحريك الرفض، وتعميق الوعي، وقرن القول بالفعل، بمعنى ربط الشعر بالممارسة العملية.
والذي يدل على الإيجابية فيه، التزام القيم الحميدة، والأخلاق الفاضلة المجيدة، والاهتمام بمصلحة الأمة وقضاياها الكثيرة، فنحن حين نحكم على شيء بوجود آخر فيه يكون إيجابياً وإذا حكمنا على شيء بعدم وجود آخر فيه فهو سلبي. فإذا حكمنا بوجود حل لمشكلة ما!.. في قصيدة ما!.. فهي إيجابيّة، وهو شعر إيجابي، وإلاّ فهي سلبية وهو سلبي.
ويكاد القارئ يعتقد أننا نريد بالإيجابية هنا أدب الواقعية الاشتراكية الأدب الذي يتناول قضايا الطبقات الكادحة؛ ومع أن هذا ليس قصدنا إلاّ أننا في معنى من معاني المصطلح نراه الشعر الذي يهتم بقضايا المجتمع، ويسعى إلى الأخذ بيده نحو ما فيه صلاحه.
والإيجابية في هذه الدراسة تدور حول المفاهيم والمواقف الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، والتربوية، في إطار من الشعر توجد فيه معاني تخدم القيم الفاضلة، وتغذي الأمة بالأخلاق السامية، والمفاهيم السوية، فتربّي المجتمع وتأخذ بيده نحو الأمثل.
ومثل هذا الأدب يدل على الحالة الاجتماعية صادقةً، بعيداً عن التزلف والتملّق، فهو المقياس الذي نميز بموجبه المواقف السليمة التي اتخذها الشعراء، من المواقف الخاطئة أمام مفهوم من المفاهيم.
وهذا المقياس يحتفظ بقوته وأصالته، وطاقة البقاء لديه داخلية، لأنه بعيد عن التعاريف التي تخضع لمذهب سياسي أو أدبي معين.(1/19)
كذلك فإن الإيجابية مصطلح يدل على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية حين يعطيها الصفة الواقعية في التصوير، ويضع لها الحلول التي تأخذ بيد المجتمع نحو الرقي والتقدم.
ومن هنا كان الشعر الإيجابي مقصوراً على شعر المنطقة الحارة بعيداً عن شعر الزخرفة والصنعة، منفصلاً عما يصدر من المنطقة الباردة فشعر المنطقة الحارة، هو الشعر النابع من الأحداث مباشرة، وله دلالة الصدق العاطفي والفني.
إن مدلول الإيجابية في الشعر يمثل المفاهيم الخيّرة التي يتبناها الشعر. وهو يوجه الأشياء، والأمور وجهة تخدم مجموع الأمة، ولا يقتصر على فرد معين فيها، مهما كان سلطانه، اللهمّ إلا إذا ساقه الشعر فرداً إلى خدمة الأمة التزاماً وإقداماً(1) .
وهو مدلول يشجع على السير في موكب الحق، يقاوم الشر وعوامل الفرقة والفساد يعالج الأمور بحكمة وروية معتمداً العقل بعيداً عن العصبية الفكرية الطائشة، أو العقلية المتهورة وهذا ملتقى طريق مع المنطق.
والحديث عن الحروب وويلاتها، وما تحمله من دمار وأذى، وبيان مضارها ذو مدلول إيجابي أيضاً. فكم عملت الحروب على هدم المجتمعات وإتلاف الخيرات، وقهر الناس وإذلالهم؟!.. وكم من أُسَرٍ مزقتها الحروب وقطعت أوصالها. فانتهى كل شيء فيها بطرفة عين.
والمدلول الإيجابي في الشعر دعوة إلى نبذ الحرب، والجنوح إلى السلم، وبيان آثار السلام في انتعاش الأمة، مع ملاحظة الضرورة الحربية أحياناً للدفاع عن الأمة وكرامتها ومقدارتاتها، فتكون الدعوة إلى القتال. – في هذه الحالة – أمراً إيجابياً.
__________
(1) لاحظ: فن الحياة فن الكتابة. د. أسعد علي ص 70 "مقابيسن الشعر الروحي" الطبعة الثانية دمشق دار السؤال.(1/20)
إن اتخاذ المواقف الفكرية المناسبة في الوقت المناسب، بعيداً عن المحاباة والمراوغة للفكر المتحكم بمصير الأمة، وحياة الناس أمر إيجابي؛ فيه شرح للمواقف الواجب اتخاذها إزاء المفاهيم المنتشرة، وتزيين لها في أعين الناس إن كانت زيْنَة، ومحاربة لها وإظهار لمفاسدها مع التضحية بكل شيء في سبيل إبادة تلك المفاهيم إن كانت شيْنَة، وغير ملائمة الشعب.
ولا نستطيع أن نبعد الشعر الذي يعالج دور المال في الحياة عن المدلول الإيجابي. فالشعر هنا قانون يحارب سوء توزيع الثروة، ويدعو إلى اتخاذ المواقف الجيدة من المفاهيم الاقتصادية، وهو بهذا يؤرخ لنا تطور الفكر المالي العربي، فيخدمنا في الاطلاع على أساليب استخدام الثروة عند العرب، ويساعدنا في تحليل كثير من الظواهر التاريخية التي مرت على الأمة العربية.
كذلك فالإيجابية مدلول على نوع من الشعر يكوّن وثائق تربوية فيها دعوة إلى الخصال الحميدة، وإلى زرع بذور العلم والحلم والحكمة في الأمة، متبنياً دعوةً غيريّة خيّرة.
نحن لا نحمّل الشعراء أمراً فوق طاقتهم، فقد كانت مكانتهم الاجتماعية تحتّم عليهم تبنّي مثل هذه المفاهيم التي احتواها المعنى الإيجابي للشعر كما نفهمه من خلال نظرتنا العصرية، لا كما فهمه بعض نقاد العرب القدامى وشعراؤهم، صنيع أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني، حين قال(1) :
الشّعر شيء حسن ... ليس به من حرج
أقلّ ما فيه ذها ... بُ الهمّ عن نفس الشجي
وحاجةٍ يسّرها ... عندَ غزالٍ غنج
وشاعرٍ مُطّرح ... مُغْلِقٍ، بابَ الفرج
قَربّه لسانُه ... من ملك متوّج
فعلّموا أولادَكم ... عِقارَ طُبّ المُهَج
ثانياً: السلبية لغة ودلالة:
لغة:
__________
(1) القيرواني، ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وأدابه ونقده. ج1 /ص46. الطبعة الرابعة بيروت 1972.(1/21)
السّلب هو الشيء أخذه من غَيْره قهراً؛ هذا في المعاجم العربية، لكن اللفظة، كما نهدف إليها غير موجودة في هذه المعاجم شأنها شأن الإيجابيّة. والموجود لها المصدر الصّناعي السّلبيّة، ولكن معاجم لغات أخرى توضحها أكثر.
فقد جاءت في المعاجم الإنكليزية على أنها (Negativesm) وتعني السلبية كأن يطلب إلى مريض الخلود إلى الراحة والابتعاد عن نوع معيّن من الطعام، لكنه لا يتقيد بما طلب منه، فيكون موقفه سلبياً.
ولما كان يُطلب إلى الشاعر احترام شاعريته وتفجير ينابيع الخير والعطاء السليم منها، فقد اعتبرنا عدم تقيده بما يطلب منه أمراً سلبياً. ولها معان عدة تشترك فيها النظريات الفلسفية والتعليمية والسياسية أيضاً، وها نحن نثبتها في الأدب(1) كذلك. فهناك ما يقال له: (Negatite Adataion) أي التكيف السلبي ويقولون (Negative attitude) بمعنى الموقف السلبي، وهناك التحول السلبي: (Positive Trausfer) يقابل التحول الإيجابي.
ونستطيع أن نقول(2) : (Poetry Negative) أي الشعر السلبي. ويبقى المصطلح الإنكليزي الذي اشتقّت منه تسميات وإضافات عدة: (Negativism) هو الأصل المعتمد، والمصدر الرئيسي للكلمة. ولابد من التنويه بلغات أوربية أخرى تستخدم هذه الكلمة بهذا المعنى، كالفرنسية، والألمانية، و الإسبانية.
دلالة:
لعلنا في التعريف اللغوي تطرقنا إلى الدلالة التي تمليها هذه الكلمة. ولابد من التوسع في الحديث عما تدل عليه هذه اللفظة كما يرسم البحث خطتها(3) .
__________
(1) ربما سُبقنا إليها في بعض المقالات الأدبية، كما هو الشأن بالنسبة للإيجابية.
(2) وهو لاتيني قديم.
(3) انظر في التعبير السلبي في اللغة فيما قاله ابن جنّي في الخصائص: ج1/ 135 حين تعرض لمعنى (ما جاءني غير زيد).(1/22)
إذا بحثنا عن موقف ما لشاعر ما، من مفهوم ما، وكان الموقف مناسباً، قلنا عنه: إنه موقف إيجابي. وإن لم نجد الموقف المناسب من هذا المفهوم، قلنا عنه: إنه موقف سلبي. وعلى هذا فدلالة السلبية هنا على ملتقى طريق مع المنطق، وهي أن نحكم على شيء بعدم وجود آخر فيه.
كأن يذكر التاريخ عهداً انتشر فيه الظلم والتعسف، ونبحث في الشعر الذي صدر في ذلك العهد عن صورة لتلك المظالم، فلا نجد لها أثراً فيه. ولا نجد من يفضح الظلم والتعسف الذي كان في ذلك العهد أو يندد بالفساد والاستعباد.
والشعر الذي لا توجد فيه بواعث القيم والأخلاق، ولا يحتوي إلا المعنى المبتذل الساقط، أو المعنى الفاسد. لا يدل عليه إلا مصطلح السلبية.
والشعر الذي يثير المنازعات على مستوى الأفراد ومستوى الجماعات، ويعمل على إثارة الفتن والاضطرابات، والسفه والطيش والنزق، شعر سلبي.
ويدل المصطلح السلبي على الشعر الذي يتناول الخرافات والأوهام مؤمناً بها، جاعلاً منها نظريات في العقيدة، ضمن متاهات فكرية وأحاديث خرافية تتحكم بمصير الإنسان ومآله في هذه الحياة، من طيرة، وأوهام وتشاؤم، وأمور أخرى تسلب إرادة الإنسان وتجعله تابعاً في مدار الخرافات، كما تظهر ملامحه في الكذب والقلق والضلال(1) .
__________
(1) لاحظ فن الحياة في الكتابة، د. أسعد علي. ص/ 69 مقاييس الشعر الشيطاني.(1/23)
وليس ثمة تعريف جامع مانع لأن قضية التعاريف ليست قضية قطعية وربما كان التعريف زئبقياً أحياناً لا يقف عند أمر قطعي. ومثالنا على ذلك اصطلاح الواقعية التي أوصلها بعضهم إلى معان كثيرة تجاوزت المائة فمن المصطلحات التي ذكرها "داميال غرانك" للواقعية مثيراً إلى تعدد فروعها وتشعب أشكالها: "الواقعية الانتقادية، الواقعية المستمرة، الواقعية الدينامية، الواقعية الخارجية، الواقعية المثالية، الواقعية الخيالية، الواقعية الشكلية، الواقعية الساخرة، الواقعية القاتلة، الواقعية الساذجة، الواقعية العرضية، الواقعية الوطنية.. الخ(1) . ومانستطيع التسليم به هنا، هو ما ذكرناه من دلالة، المصطلحين الإيجابية والسلبية فإن ما يقلق القارئ عنهما، هو المشروعية الفنية لصياغة هذين المصطلحين.
ولكننا هنا نحاول أن نكون بعيدين عن مسألة التراكم في أبحاث التراث، "وأحد وجوه هذه المسألة هو هذا التعميم في المصطلح النقدي، وفي اللفظ(2) ...".
مدلول الكلام عامة:
لا يستغني باحث عن أصل الألفاظ، وذلك لدلالتها على المعاني. وحين نريد الوقوف على أصل هذين المصطلحين (الإيجابية والسلبية) اللذين نعتبرهما السكة المزدوجة تحمل كل واحدة منهما بضاعة مخالفة لما تحمله الأخرى، حين نريد ذلك يجب أن نتذكر التطور الذي يحدث في الكلمة تبعاً لتطور الشؤون المحيطة بهذا المدلول.
__________
(1) غرانك، داميان: الواقعية، لندن، 1970م.
(2) الجمالي، حافظ: المناقشات التي دارت حول الموثبات في الأدب العربي للدكتور عادل جاسم البياتي: ج3 /ص66. منشورات اتحاد الكتاب العرب، المؤتمر العام الثاني عشر – دمشق، 1979م.(1/24)
وحين يحدث تطور من هذا القبيل فإنه يعطي الكلمة وجهة خاصة بها فكلمة سلبي (Negative) تستخدم كثيراً في بحوث علم النفس والمنطق ونستطيع أن نراقب تطورها في المواقف التي يتخذها الشعراء من المفاهيم، لنرى أنها كانت في المنطق تعني الحكم على شيء بعدم وجود آخر فيه(1) ، فأصبحت في الأدب تعطي المدلول. السابق مع تطور الكيفيّة.
وكلمة إيجابي "Positve" أو "Affirmatif”(2) في المنطق تدل على القضية الموجبة، وهي أن تحكم على شيء بوجود آخر فيه أصبحت في الأدب كما بينّاها في المدلول الذي وضحناه مع تطور الكيفية أيضاً.
إن اللغة كان حي يخضع للتطور والنمو والانقراض، وربما كان من المنطقي أن نقول: إن تكرار وكثرة استعمال كلمة ما، في معنى ما، يؤدي غالباً إلى انقراض المعنى الحقيقي لتلك الكلمة، ليحل محلها المعنى الجيد.
ولن يضير اللغة العربية أن تعتمد هذين المصطلحين في الأدب، فالتعريب هو أحد(3) العوامل التي تنمي اللغة. ولنا في الأولين من العرب أسوة(4) حسنة. فقد أخذوا ألفاظاً كثيرة من الأمم المجاورة، فأدخلوها على لغتهم. وهذا ليس شأن اللغة العربية فحسب، وإنما هو أمر تشترك فيه لغات العالم كلها، وينجم عن احتكاك الأمم ببعضها، ولاسيما في هذا العصر حيث صغرت الكرة الأرضية مئات المرات، وتقاربت شعوب الأرض، دون أن يتقلص حجم الكرة ولو بمقدار!. إنها مواصلات العصر، وسمته العمليّة وكثرة احتكاك أمم الأرض ببعضها.
__________
(1) المنطق: د – جميل صليبا. ص/27 /28/ الطبعة الثانية بيروت.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) أشهر عوامل تنمية ونشوء اللغة هي: التفئيم، والقلب المكاني، والإبذال والنحت والتعريب، والاشتقاق، والإصلاح، والمجاز.
... انظر: محمد بدر الدين أبو صالح المُدْخِل إلى العربية أبحاث توجيهية في اللغة العربية ص/87 وعوامل نمو اللغة العربية. مكتبة الشرق بحلب 1963.
(4) انظر المعرّب للجواليقي، طبعة القاهرة، 1969م.(1/25)
ولاشك أن مدلول السلبية أو الإيجابية يختلف من عصر إلى عصر. فما كان سلبياً في العصر الجاهلي، قد يكون إيجابياً في العصر الإسلامي. وما كان إيجابياً بمنظار الجاهلية قد يكون سلبياً بمنظار الإسلاميين. فوأد البنات كان قيمة إيجابية بنظر الجاهليين، يتخلصون فيه من مصدرٍ سلبي قد يجلب عليهم العار، فيعلّقون عواطفهم ويجهدون عقولهم وجوارحهم في التخلص من بناتهم. ثم جاء الإسلام فعكس الآية وقلب المعايير وحارب تلك القيمة واعتبرها سلبية يجب التخلص منها وتم له ذلك.
كذلك فتغير المدلول للمصطلحات(1) حاصل تغيره بتغير البيئة الطبيعية والاجتماعية. فما كان سلبياً عند الحجازيين، قد يكون إيجابياً عند التميميين(2) .
وما كان سلبياً في العصور التي تقصدها الرسالة قد يكون إيجابياً في عصرنا الحديث، أو بالعكس. وقد تحافظ القيمة على سلبيتها أو إيجابيتها بالرغم من تغير العصر أو البيئة. فالعصبية القبلية دليل القول الأول، كانت قيمة إيجابية في نظر الجاهليين، ثم أصبحت سلبية بمنظار الإسلاميين وهي دليلنا على القول الثاني أيضاً. فقد استمرت سلبيتها حتى العصر الحديث ولذا ونحن ندرسها بمنظار عصرنا نراها قيمة سلبية.
ويبقى حديث السلبية والإيجابية – هنا – بعيداً عن الثبت الإحصائي القائم على التقسيم، بقدر ما هو نظرة تحليلية لا تغفل منظار العصر، ولا تعني إهمالاً للعصور التي تقصدها الدراسة لبيان أثرها في مناحي الحياة قديمها وحديثها.
__________
(1) انظر: توحيد المصطلح العلمي في الأقطار العربية – مقالة بقلم د. يوسف عز الدين المجلة العربية – السنة الثالثة، العدد الثالث. ص/57-61.
(2) ولا يستبعد أيضاً أن يكون الاختلاف في بعض أمور اللغة بينهما مرده إلى اختلاف المعاني.(1/26)
ويبقى أن أشير إلى المراحل الشعرية التي أبدأ بها منذ الجاهلية. فقد مرّ الشعر الجاهلي بمرحلة حضانة ثم استوى عوده، واستقام شأنه، وعلا نبره، بعد أن كان الكلام كله نثراً(1) ، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم الأخلاق، وطيب الأعراق وذكر الأيام الصالحة، والأوطان النازحة لا لتهز نفسها إلى الكرم كما ادعى بعض نقاد الأدب القدامى(2) ، فهذا تحليل سطحي، ولكن لحاجة في المرء يشعر بها، ويؤكد عليها علم النفس الأدبي(3) .
إن الشاعر يقول الشعر لعدة أسباب، أهمها:
- أنه يشغل الآخرين بنتاجه.
- أنه يخلد نفسه بهذا النتاج.
- وأنه يحب من يحسن إليه، والمديح الذي يتلقاه الشاعر نوع من الإحسان.
- وأنه يعبر عن خلجات وانفعالات تلجلج في صدره، ولا تجد طريقاً تخرج منه سوى هذه التفاعيل.
- وأنه وجد في نفسه ميلاً فطرياً إلى هذا النوع من الكلام، فنمّاه بالموهبة وقوّاه بالتجربة، وربطه بالناس، فلم يعد يستطع بعداً عنهم.
ثم إن أولية الشعر العربي مجهولة، ولا نعتقد أنه حديث الميلاد، صغير السن، سبق الإسلام بخمسين ومائة عام أو بمئتي عام على غاية الاستظهار كما ادعى الجاحظ(4) .
لذا كان الحكم منصباً على الشعر الناضح مباشرة، وهذا هو الأصل الذي يجب أن يكون. وهو في نضجه يعطي صورة تامة عن قوة الكلام العربي الذي يعبر عن قوة الإدراك، وعن قوة في الإرادة. فالشعر الناضج أعطى صورة تامة لحياة الناس، وفكر الناس وعيش الناس ونمط معاشهم، ودخل كل معنى وكل شعب في حياتهم.
__________
(1) القيرواني، ابن رشيق: العمدة، ج1/ ص20. بيروت 1972.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) لاحظ مثلاً: التفسير النفسي للأدب، عز الدين اسماعيل، دار الثقافة بيروت 1963.
(4) الحيوان للجاحظ: ج1/ ص54، دار صعب بيروت، ج6/ ص/89 حيث جاء فيه: (وقد قيل الشعر قبل الإسلام في مقدار من الدهر أطول ما بيننا اليوم وبين أول الإسلام).(1/27)
وإذا كان الشعر الجاهلي ظلاً للمجتمع الجاهلي، فلا مندوحة من التسليم بالسلبي والإيجابي الذي يحتويه هذا الشعر، بعيداً عن التقسم النوعي.
وكذلك فالشعر الإسلامي ظل لمجتمعه مع وجود القرآن والحديث، فلا مندوحه أيضاً من البحث بالسلبي والإيجابي الذي يحتويه.
وندع هذا، لندخل في الحديث عن المناحي المختلفة التي خاض فيها الشعر قريباً من التحليل والاستقراء التاريخي.
((
الباب الأول :
العصر الجاهلي
الفصل الأول
المفاهيم السلبية:
1-المناحي الاجتماعية.
* التفاخر بالأنساب
* العصبية القبلية
* شعر التحريض
2-المناحي الفكرية.
* الطيرة والأوهام والخرافات
* الغيلان والسعلاة، ومزاعم أخرى
3-المناحي الاقتصادية.
4-المناحي التربوية.
*توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ
(
المنَاحي الاجتماعيَّة
- التفاخر بالأنساب.
الأنساب، واحدة النسب(1) ويعني القرابة. وهو الرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها. وذلك لأن أفراد القبيلة كلهم يشتركون بنسب واحد. والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية(2) .
وقد اهتم العرب كثيراً بالأنساب واعتبروها علماً واسعاً من العلوم التي تشغل تفكيرهم كثيراً، والتي تستأهل منهم المصنفات الضخمة(3) وهذا يدل دلالة واضحة على المكانة الخطيرة التي لعبتها الأنساب في حياة العرب.
فقد كانت هذه الأنساب توفّر الحماية والوقاية للإنسان، قبل أن تتولد الحكومات الكبيرة التي جاءت فيما بعد، فرعت الأمن وبسطت سلطانها وخففت من غلواء النسب والانتساب(4) .
__________
(1) لسان العرب: مادة نسب.
(2) علي، جواد: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج4/ ص314.
(3) لاحظ مثلاً: كتاب الأنساب، لأبي سعيد التميمي المسمعاني، (ت.562هـ). نشر د.س. مرجليوت 1912 وتصوير الأوفست، مكتبة المثنى، بغداد 1970.
(4) علي، جواد المفصل في تاريخ العرب، قبل الإسلام: ج4/ ص357.(1/28)
فهذا النسب، على هذه الشاكلة ظاهرة إيجابية، ومفهوم جيد في الحياة القبلية العربية. لأنه يربط شمل القبيلة،ويجمع شتاتها ويحميها من كل معتد أو طامع. لكنه حين يدفع إلى التفاخر والخيلاء، والزهو والغطرسة، يصبح ظاهرةً سلبيةً منبوذةً. يجب كشف ضررها، وبيان المناحي السلبية فيها.
وهي إذ تصبح كذلك، تنبذ ويؤخذ بالحسب بدلاً منها. وهذا سر نبذ الإسلام للتفاخر بالأنساب، واحترامه للحسب، على أنه الفعل الحسن كما في الحديث النبوي: "حسب الرجل خلقه(1) " وحسب المرء دينه مروءة عقله، وحسبه(2) عقله أيضاً.
وبهذا يكون الحسب أحياناً معززاً للإيجابي من النسب، وملتزماً معه بفائدة المجتمع وجزءاً من الخير العام الذي ينمّي القيم والمفاهيم الإيجابية.
وقد أكد بعض الشعراء قيمة هذا التلازم بين النسب والحسب، ليأتي منهما الخير العميم، وإلا فالنسب الكريم دون حسب يحميه يصبح لئيماً ذميماً كما في قول المتلمّس(3) :
ومن كان ذا نسب كريم، ولم يكن ... له حسب، كان اللئيم المذمما(4)
ويجنح هذا المفهوم إلى السلبية المغرقة حين يدفع كثيراً من القائلين به إلى التطرف بالتفاخر، وهو التعاظم، فيصبح هذا التفاخر من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية سلبية(5) .
وينشغل العرب بهذا الأمر، فيتفاخرون بالآباء والأجداد، وبالسيادة والشرف، وبالكثرة، وبالحسب(6) . ويجرّهم هذا التفاخر إلى الشطط، والتخلف الاجتماعي المؤلم، فيحصل النزاع بين قبيلتين أو أكثر.
__________
(1) اللسان: ج2/ ص629.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) جرير، ابن عبد العزى: أو عبد المسيح: من بني ضبيعة، من ربيعة شاعر جاهلي من أهل البحرين. وهو خال طرفة بن العبد. الشعر والشعراء: 52، وخزانة البغدادي: ج3 /
ص73.
(4) لسان العرب، ج2 /ص629.
(5) لاحظ لسان العرب مادة فخر ج/5 /ص48 وما بعدها.
(6) والحسب هنا (بالمفهوم الجاهلي) الشرف الثابت في الآباء.(1/29)
وقد علا هذا النبر السلبي ذات مرة في المدينة وجر إلى نزاع بين قبيلتين من الأنصار، بني حارثة، وبني الحارث، فتفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان، وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ يشيرون إلى القبر وتقول: الأخرى مثل ذلك، فأنزل الله(1) : "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر(2) ".
وقد اشتهر في هذا المنحى قول للشاعر المخضرم عمرو بن معد يكرب الزبيدي، يقول فيه(3) :
ليس الجمالُ بمئزرٍ ... فاعلم وإن رُدّيت بُرْدَا
إن الجمالَ معادنٌ ... ومناقبٌ أورثنَ حَمْدَا
فعمرو – الذي أسلم فيما بعد – لا يكتفي بالمناقب، وهي الأعمال والخصال الحميدة، بل يصرّ على المعادن، وهي الطبائع الشريفة التي يرثها الرجل عن آبائه.
وإذا كانت المناقب وجهة إيجابية، فإن التفاخر بالمعادن فقط وجهة سلبية، إذا لم يرافقها من المناقب ما يثبت ذلك فالأصل تتبعه الفروع وكي تكون الفروع مثل الأصل، يجب أن تَحْمِلَ مناقبَ الأصلِ كذلك.
وقد بلغ من إيمانهم بالنسب أن اعتقدوا أن النسب الوضيع – أو اللئيم كما سموه – لا يزكيه عمل مهما يكن حميداً!.. ومن هذا ندرك أنهم قبل الإسلام كانوا يؤمنون بأرستقراطية مسرفة تساوي في إسرافها الأرستقراطية الإنجليزية في العصر الفكتوري، حين كان الإنجليز يؤمنون أن بعض الدماء زكية أو (زرقاء) بطبيعة وراثتها، وأن من ولد من العامة لا يصير أبداً إلى أن يكون من الأشراف، حتى قالوا: (أن الملك يستطيع أن يمنح الألقاب ولكنه لا يستطيع أن يجعل من الشخص العادي جنتلماناً(4) ؟).
__________
(1) السيوطي، جلال الدين. أسباب النزول. ص256. الطبعة الأولى دمشق، لا تاريخ.
(2) سورة التكاثر، الآية /1/
(3) حماسة أبي تمام: ج1/ ص81. القاهرة 1955.
(4) النويهي، محمد: الشعر الجاهلي: ج1 /ص 230 الدار القومية للطباعة والنشر. القاهر بلا تاريخ.(1/30)
وقد جعلهم هذا المفهوم متغطرسين أحياناً، بحيث أن كثيراً منهم كان يعقد الأولويّة لنفسه في كل شيء، لأنه أفضل منهم، بل ربما غالى فجعل نفسه أفضل من كل الأموات أيضاً، ولو عُدّت قبور هؤلاء الموتى واحداً بعد واحد، كما جاء على لسان الشاعر الجاهلي عصام بن عبيد الزمّاني(1) في رسالة شعرية أرسلها إلى أحد أصدقائه(2) :
أبلغ أبا مَسْمَعٍ عنّي مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
أدخلتَ قبلي قوماً لم يكنْ لهم ... في الحق أن يدخلوا الأبواب قدّامي
لو عُدَّ قبرٌ وقبرٌ كُنْتُ أكرَمهم ... ميتاً وأبعدَهم من منزلِ الذَّامِ
ومن هذا ندرك أن أياَ من أبعد الأشياء عن الصحة أن ننسب إلى الجاهليين أي إيمان بالديمقراطية الصحيحة. ويجب علينا في هذا المجال، ألاّ نخلط بين الديمقراطية الصحيحة – وهي التي تنبع من إيمان عميق بأن الناس متساوون في قيمتهم الإنسانية وأن لكل منهم حقاً متساوياً في الحياة الكريمة – وبين التقارب في الحالة الاقتصادية الذي فرضته على معظم الجاهليين طبيعتهم الصحراوية الشحيحة القاسي(3) .
__________
(1) هو شاعر جاهلي مقل من بني حنيفة بن لُجيم، وَزَمان أَحَدُ أَجْدَادِه.
(2) حماسةُ أبي تمام ج1 /ص9.
(3) النويهي، محمد: الشعر الجاهلي ج1/ ص230.(1/31)
وقد تجلت المناحي السلبية لهذا المفهوم الجاهلي كذلك في فكرة مراعاة التكافؤ في الزواج، وهذا المفهوم هو نتيجة من نتائج فكرة النسب السلبية. فالأشراف لا يتزوجون إلا من طبقة مكافئة لهم، والسواد لا يتجاسرون على خطبة ابنة سيد قبيلة، أو أحد الوجهاء ويعيّر السيد الشريف، إن تزوّجَ بنتاً من سَوَاد الناس ولاسيما، إذا كانت ابنة صائغ أو نجّار أو ابنة رجل يشتغل بحرفة من الحرف اليدوية، لأنها من حرف العبيد!... وقد عيّر الشاعرُ الجاهلي عبدُ عيسى بن خفاف البرحميُّ(1) النعمانَ بن المنذر بأمه، لأنها كانت ابنة يهودي صائغ في قوله(2) :
لعنَ اللهُ ثم ثنّى بلَعْنٍ ... ابنَ ذا الصائغِ الظلومَ الجهُولا
يجمعُ الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدوَّ فتيلا(3)
ولم يكن من المستساغ عُرْفاً تزويج البنت الأصيلة الحرّة من ابن عبد أو من حفيد عبد(4) .
هذا المعتقد أوجد لديهم سلاحاً فعالاً في الهجاء، فصار الواحد من الشعراء إذا غضب من أقرب الناس هجاه، ولو كان من أهله وذويه. وإذا بحث عن مطعن أو مهمز، تذكر أنه من اللؤماء، أو ربما هجا قبيلته بأكملها فرآها من اللؤماء، وأن قومه لم يؤتوا في لؤمهم من قبل أمهاتهم، وإنما أتوا من قبل آبائهم، وأن المرأة الكريمة منهم تتزوج الرجل المسروق النّسب، كما في هجاء عميرة بن جُعل قومهَ بني تغلب في نزعة طيش وساعة سفه، إذ يقول(5) :
__________
(1) انظر ترجمته في الأغاني: ج7 /ص145. والمرزباني في معجم الشعراء. ص325.
(2) الجاحظ، الحيوان: ج4 /ص379. القاهرة طبعه عبد السلام هارون.
(3) يرزأ: ينقص، والفتيل: الهنة في شق النواة.
(4) علي، جواد: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام: ج4 /ص640.
(5) هو عميرة بن جعل: شاعر جاهلي؛ وهو غير كعب بن جعيل وقد فرق بينهما الآمدي في المؤتلف. ص83 – 84. انظر تحقيق ذلك في المفضليات. ص257. دار المعارف بمصر، 1964م.(1/32)
فما بهم ألاّ يكونوا طَرُوقَةً ... هجانا، ولكن عفّرتها فحولُهَا
ترى الحاصنَ الغرّاء منهم لشارفٍ ... أخي سَلّةٍ قد كان مِنْهُ سلْيلُهَا
وقد نجم عن هذا الادعاء – في ضرورة الزواج المتكافئ على أساس النسب في انحرافه السلبي – إلغاء فكرة الزواج على أساس الحب المتبادل إن لم يكن ثمة تكافؤ بين الحبيبين على أساس من تلك الفكرة، وهذا ما يفسر كثيراً من قصص الحب العربية التي لم يتزوج أصحابها كما حدث لعنترة بن شداد، أو لغيره من أبطال القصص الغرامية الكثيرة.
كذلك يستنتج من الانحراف الذي حدث في هذا المفهوم سبب انتشار ظاهرة الفخر التي خدّرت كثيراً من عقول القبائل العربية، قديماً وحديثاً، حتى غدا هذا الفخر أيضاً عاملاً من عوامل التخلف يقاوم سنن التطور، فلطالما دندن العرب بمثل قول لبيد بن ربيعة العامري(1) حين يتحدث عن أهله ويراهم:
ومن معشر، سنّت، لهم، آباؤهم ... ولكلّ قَوْمٍ سنّة، وإمامُها(2)
فهذا المفهوم المتوارث ذو نظرة قاصرة تولّد في المرء اتكالية وضعفاً، كما أنّه لا يملك المعاصرة ولا الأصالة في مجتمع متطور متنقّل.
ولكي نظهر جوانب السلبية أكثر في هذا المفهوم ومن هذه الزاوية، لابد من أخذ مثال عنه بعد ظهور الإسلام. فقد ظهر دوره في مناهضة التطور الجديد من خلال الجمود العقلي والتصلب الفكري فيه مع محاربة الإسلام له. فجميل بن معمر العذري(3) ، أحد أولئك الشعراء الإسلاميين الذين يتناولون هذا المعنى بعيداً عن الروح الإسلامية الجديدة، في قوله(4) :
__________
(1) لبيد بن ربيعة بن مالك: من المخضرمين المعمرين، ويعد من الصحابة؛ وهو أحد أصحاب المعلقات. انظر خزانة الأدب، للبغدادي ج1 /337 – 339.
(2) شرح القصائد العشر، صنعة التبريزي. ص257. حلب دار الأصمعي 1973م.
(3) جميل بن عبد الله بن معمر العذري: من عشاق العرب، أكثر في النسيب والغزل والفخر. ت. 82 هـ ابن خلكان ج1/115.
(4) حماسة أبي تمام ج1 /ص173 – 174.(1/33)
أبوكَ حُبَاب سارق الضيف بُرْدَه ... وجدّي يا حجّاج فارسُ شَمّرا(1)
بَنو الصّالحين الصّالحون ومن يكن ... لآباء صدقٍ يلقهم حَيْثُ سَيّرا
فهي القصيدة الجاهلية نفسها وإن كان الشاعر في شطره الأول قد استبدل بالشرف والمجد كلمة إسلامية كما في البيت الثاني (الصلاح).
ولعل هذا المفهوم السلبي مازال حتى اليوم من أكبر العوائق التي تحول دون اجتماع رأسين على وسادة واحدة. وما زال ينخر كثيراً في جسم المجتمع العربي المعاصر. فجمع من الناس يحتقر جمعاً آخر، وفرد منهم قد يحتقر فرداً آخر على الرغم من الحسب العظيم الظاهر في حسن فعالهم، فيزدرونهم لأنهم – بزعمهم – لا يملكون النسب الرفيع!...
ومثل هذا الأمر نعاني منه كثيراً في الجزيرة الفراتية من البلاد الشامية حتى أيامنا هذه.
- العصبية القبلية:
العصبية هي: "النصرة على ذوي القربى، وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة(2) .
والعصبية القبلية على هيئتها الجاهلية هي أساس النظام القبلي،وهي تعم العرب كلهم حضراً، وبدوا، وكما ظهر معنا في بداية مناقشة مفهوم "النسب" فإن العصبية القبلية ذات حدّين، فهي ظاهرة إيجابية في الحياة الاجتماعية العربية حين يكون المقصود بها نصرة دوي القربى حقاً؛ ذلك لأن الظروف التاريخية، والبيئة العربية الصحراوية، وما للمجتمع العربي من إطار قبلي، كل هذه الأمور جعلت العصبية القبلية من هذا الجانب ظاهرة نافعة وضرورية للمجتمع.
ولكن هذا المفهوم يصبح له جانب آخر مقيت ومؤذٍ حين يتّخذ منه الشعراء مواقف موحّدة، في أوقات، أو حالات تقتضي من الشعراء أصحاب العقل والاتزان، ودقّة الشعور ضرورة التغيير على مبدأ لكل حادث حديث ولكل عصر مواقف جديدة تقابل المفاهيم الجديدة، والمفاهيم القديمة المتطورة.
__________
(1) أصله سارق برد الضيف.
(2) انظر لسان العرب: مادة "عصب".(1/34)
ولكن التغيير لم يكن يحدث في كثير من الأمور وعلى العكس ظل مفهوماً أنه" ليس من العصبية والأخوّة القبلية أن تسأل أخاك عمّا وقع له. عليك تلبية ندائه، وتقديم العون له، معتدياً كان أم معتدى عليه(1) " وقد افتخر الشعراء بتلبية النداء، وإبعاد السؤال، كما في قول الشاعر القريط بن أنيف(2) :
قومٌ إذا الشّر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدَانا
لا يسألونَ أخاهم حينَ يندُبهم ... في النائباتِ على ما قالَ بُرْهَانَا
إن هذا التمسك منبعه خارجي، فكأن الظروف الطبيعية المحيطة بكل قبيلة تدفعها من جميع الجهات فتنكمش على نفسها، ولو أنها أهملت فرداً من أفرادها تعرض لشر عصبة أو قبيلة، ونجا، لعجل على تجنّب قبيلته والابتعاد عنها ونبذها. وتكرار هذا إنما يعني فرط عقد القبيلة التي كانت تمثل الوحدة الأساسية للمجتمع العربي في الجاهلية، وإذا حدث هذا فليس للقبيلة إلا الهجاء المُسرِّ المتمثِّل بالتمني خلاصاً من مورثاتها وانتساباً إلى قبيلة أخرى تمنع أفرادها أن يُستباحوا، وتكون الفضيحة حتى في أحسن الظروف،كما قال قريط(3) بن أنيف نفسه:
لو كنتُ من مازِنَ لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذُهْلِ بن شيبانا
ويصبح من المحتم على الفرد أن يبقى ضمن إطار قبيلته لأسباب معنوية ومادية، فالجانب المعنوي يعطيه صفة قتالية شجاعة، فيصبح لاحقاً بها، حتى إذا نصرف عنها قليلاً، اتهم بالخوف، فاضطر إلى الدفاع عن نفسه كما فعل طرفة بن العبد:
ولستُ بحلاّل التلاع، مخافةً ... ولكن متى يسترْفِدِ القومُ أرْفد(4)
__________
(1) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام. د. جواد علي: ج5/ 334.
(2) شرح الحماسة للتبريزي – ج1/ ص18 – 19. طبعة القاهرة 1955.
(3) المصدر السابق ج1 /ص17 وقريط هذا هو أحد بني الغبر، وبعضهم قال أن إسلامي.
(4) شرح القصائد العشر، صنعة التبريزي، ص/ 125 – حلب، دار الأصمعي طبعة: 2 1973.(1/35)
ويعود مردود الجانب المادي على القبيلة فتبدو متمسكة قوية تهابها القبائل الأخرى.
وقد كان يُخشى من حركة الصعاليك لسبب آخر غير سيفها، والخشية في كونها قد تصبح بديلاً حياً عن الوضع القبلي، الذي لم تكن الأمة على جانب من التطور بحيث تتخلى عنه، مع أن واقع الحال يثبت استنتاجاً مفاده أن الخيوط الرابطة تبين أفراد القبيلة أقواها خيط المصلحة الاجتماعية والاقتصادية في صحراء لا شرعة فيها ولا قانون، ثم أصبحت قالباً دموياً فيما بعد. مع ذلك فلو أتيح لحركة الصعاليك أن تجد قبولاً شعبياً أفقياً وعمودياً، لحلّت محل العصبية القبلية!...
وهذا الاندماج الكامل لشخص الشاعر في هيكل القبيلة أمر غير مقبول، أدّى إلى اختلال في فكر الشعراء، مما جعل العاقل النابه منهم، يتبع جاهل القوم، تحت ضغط الأعراف والتقاليد، وقد يملك رأياً ينقذ به القبيلة لو حملها عليه، لكنه يسير في إطار التبعيّة حيث الغيّ والرشد مرتبطان بالعشيرة؛ قال دريد بن الصمة(1) :
أمرتُهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا الرّشدَ إلاَ ضُحى الغدِ
فلمّا عصوني كنتُ منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غيرُ مُهْتَدِ
وما أنا إلا من غزيّة إِنْ غَوت ... غويتُ وإِنْ ترشد غزيّة أَرْشدِ
ونستطيع أن نرى خلاصة للعصبية في أنها عصبيتان، عصبية مضرّة بالقبيلة، وعصبية مفيدة للقبائل مجتمعة فهي "من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة فهي الجاهلية، لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد، وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك والحلفاء، والمستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئة حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي، وعلى الأعراب المتنقلين.
__________
(1) الأصمعيات: ص/ 107.(1/36)
بل هناك قبائل متناحرة، وإمارات متناصرة، إذا ارتكب إنسان جريمة في أرضها، وفرّ إلى أرضٍ أخرى نجا بنفسه، وأمّن على حياته هناك ولكنه كان يخشى من شيء واحد،لم يكن لأحدٍ فيه عليه سلطان هو العصبية وسنّة الأخذ بالثأر حيث يتعقبه أهل المغدور، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة، ولو بعد مضي عشرات السنين حتى يقتل، أو يقتل أقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة بالنسبة لسكان جزيرة العرب لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين(1) ".
ولكنها إذا جعلت الحق باطلاً، والباطل حقاً، تصبح غير مقبولة أبداً وهي سمة منبوذة،والحكم الفصل بين الوضع الأول والوضع الثاني. هو موقف الإسلام منها، فقد كثرت الآثار في ذمها، واعتبرتها شيئاً خطيراً، وعاملاً دائماً في زلزلة الجماعة.
ورد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة(2) ...")
كما اعتبرها الإسلام أخطر ما يمزق جسم المجتمع، وبيّن أن القتال تحت رايتها جاهلية عمياء. وأحاديث هذا الموضوع كثيرة، ولكن بعضها يحمل إشارة حمراء تفضح خطر العصبية(3) .
وتنطلق العصبية من عقال السلبية إذ تصبح مجلس أمن تثار فيه القضايا المصيرية للقبيلة، وتبحث فيه أفضل الحلول المناسبة، وتصبح استشارة أصحاب البيان والرأي في القبيلة أو في غيرها مثار فخر، إذا غاب عن المرء وجه الرأي الصحيح، يقول سعية بن الغريض(4) :
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي. ج5 /ص334.
(2) صحيح مسلم، شرح النووي: ج12 – ص 238 – 239. طبعة القاهرة 1349 هـ.
(3) انظر المصدر السابق: ج12 /ص240.
(4) الأصمعيات. ص83، الطبعة الثانية. القاهرة 1961. وسعيُة شاعر متقدّم وهو أخو السموءل.(1/37)
إذا ما يَهْتَدي حلمي كَفَاني ... وأسأَلُ ذا البيانِ إذا عَييتُ
فهو لا يستتكف عن استشارة غيره إذا غاب عنه الوجه الصحيح، كما أنه يفخر بإعانة قومه وبنصرهم.
وهو لا يسير إلى نهاية الأمر تعصباً، ويعذرهم على بعض تصرفاتهم، فلا يلومهم في وقفتهم بوجه الدهر وأحداثه، ويرى المجد والعزة في ثوب المغامرة. ويصل إلى الإيجابية المطلوبة منه، مما يدل على تطور في وعيه جعله يدرك قضايا السوء والخير، فيفخر لمفارقة السوء، ويخالف هوى النفس إذا بان له الضرر، يقول(1) :
ولا أَلْحى على الحَدَثان قومي ... على الحدثان ما تُبْنى البيوتُ(2)
أُياسِر معشري في كلِّ أمر ... بأَيْسَر ما رأيتُ وما أريتُ
وداري في محلِّهمُ ونصري ... إذا نزلَ الألدُّ المستميتُ(3)
وأجتنبُ المَقاذعَ حيثُ كانت ... وأتركُ ما هويْتُ لما خَشِيتُ(4)
وأحياناً لا يكاد المرء يتبين وجهاً للمسألة،وهنا يأتي دور المحاكمة الفكرية، فإذا حدث أن قتلت القبيلة أحد أفرادها، فما هو موقف الشاعر في القبيلة ذاتها، أو موقف أهل القتيل، وربما كان الشاعر فيهم؟.
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) لا ألحى: لا ألوم. الحدثان. نوب الدهر وحوادثه.
(3) الألدُّ: الخصم الجدل الشحيح الذي لا يزيغ إلى الحق.
(4) المقاذع: من القذع، وهو الفحش من الكلام الذي يقبح ذكره.(1/38)
لم يكن في المسألة بت، فبعضهم يفجع بقتل أخيه، ولا ينتقم له، فإذا انتقم له عاد ضرر ذلك عليه، لأن الرجل بعشيرته، وإذا صفح وعفا فهو خير له، فالانتقام من عشيرته يوهن عظمه ويضعف قومه. فعوضاً عن متابعة طلب الثأر الذي يستدعي بدوره ثأراً آخر تنتهي القضية بالوصول إلى حل مقبول (ثمن الدم) فيتقبل المنتقم ذلك على كره منه لأن شرفه قد مس، ولكن المداخلات التي أملاها الحس السليم، ومراعاة المصالح تتغلب على وساوسه فيرضخ للأمر الواقع بعد مساومات(1) . "وفي هذا يقول الحارث بن وَعْلة الجرمي(2) وقد قتل قومه أخاه(3) :
قَوْمي هُمً قَتَلو أُمَيْمَ أخي ... فإذا رَمَيْتُ يصيبني سَهْمِي
فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأَعْفون جَللاً ... وَلَئِنْ سَطَوْتُ لأوهِنَنْ عَظْمِي
وربما تبادر إلى الذّهن أنّ الخوف كان حائِلاً دون الانتقام، ولا يستبعد ذلك، ورغم أنه حوّل الكلام من الإخبار إلى الخطاب فإنه قد أجرى محاكمة عقلية في ذهنه تنم عن إدراك للبيئة وللعادات والتقاليد التي حوله.
لكن جلاء الأمر في إطار من الإيجابية يظهر في حادثة قتل أقرب كما في قول أعرابي قتل أخوه ابناً له(4) :
أقولُ للنَّفس تَأْسَاءً وتَعْزِيَةً ... إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِدِ(5)
كلاهما خَلفٌ من فَقْد صاحِبِه ... هذا أخي حين أَدْعُوه وذا وَلَدِي
__________
(1) تاريخ الأدب العربي: (بلاشمير. ج1 /29. دمشق 1964 منشورات وزارة الثقافة.
(2) شاعر جاهلي من فرسان قضاعة، وهو غير الحارث بن وعلة الشيباني.
(3) حماسة أبي تمام، شرح لاتبريزي: ج1 /ص100. القاهرة 1955. وأميم. مرغم. أميمة.
(4) المصدر السابق نفسه. والرغم، هو الإذلال.
(5) التأساء: ما يؤتسى به من الحزن، والتعزية: حسن التصبر. فهو يطلب التأسّي وحسن التصبر.(1/39)
يثبت الشاعر في إيجابيّة فيها تعقّل واتّزان أنكل واحد من الأخ الواتر والابن المفقود يصلح لأن يكون عوضاً من فقدان الآخر، فيطفئ، لهيب القلب على الولد المقتول بهذا الفكر المقلوب بالشعر، مدركاً أن الاقتصاص من أخيه يضعف مركزه في القبيلة فيكتفي بمصيبة واحدة.
ومع كثرة النصوص الجاهلية التي تصور التعصب القبلي بأنواعه المختلفة والتي ترفد نهر العصبية الكبير، فإن هناك مواقف أخرى لشعراء من قبائلهم لا تأتي على شاكلة التعصب، وإِنْ هي إلاّ شكل من أشكال الأنَفَة والعزّة. وهذه من السمات الإيجابية الموفّقة التي جاءت في الشعر الجاهلي.
فقتلُ خادمِ، أحد أثرياء قبيلة (خزيمة) العربية، يثير نخوة سيده فينتقم من القتلة مع أنهم أولاد عمه، ويفارق أهله من أجلهم.
أنفة فيها بسط الحماية على الخدم والموالي. ولو أدّى الأمر إلى فراق القبيلة التي تصبح غادرة باغية كما في قول طرفة الخزيمي(1) :
أَيَا راكباً إِمَّا عَرَضْتَ فبلِّغَنْ ... بَني فَقْعسٍ قولَ امرئ نَاخِل الصّدر(2)
فوالله ما فَارَقْتُكم عن كَشَاحةٍ ... ولا طيب نفسٍ عنكم آخر الدَّهْرِ(3)
ولكنّني كنْتُ امراً من قَبِيْلَةٍ ... بَغَتْ وَأَتتني بالمظَالِم والفَخرِ
فإنّي لشرّ الناس إن لم أتبهُمْ ... على آلة حَدْبَاء نَائِبَة الظّهر(4)
ولكن دافع الأنفة مصلحة شخصية دفعته ليأخذ بثأره. ويبقى أن نلاحظ ضمنياً موافقة الطبقة الغنية المتحكمة برقاب العبيد على تصرف طرفة وأمثاله. ويصبح للمسألة طرف آخر حين نتذكر أن دفاع الأغنياء والمالكين عن عبيدهم يصرّف الطاقة الثورية لدى هؤلاء العبيد، وهذا نوع من علم النفس الدعائي يعرفه البدوي بفطرته.
__________
(1) شاعر جاهلي من بني خزيمة بن رواحة بن ربيعة.
(2) ناخل الصدر: صافي القلب غير مناف.
(3) عن كشاحة: أي عن عداوة.
(4) حماسة أبي تمام: شرح التبريزي: ج1 /ص230. القاهرة 1955.(1/40)
وهكذا فالعصبية القبلية في الجاهلية ظاهرة فيها أخذ وعطاء بين السلبية والإيجابية، وربما اتصل السالب فيها بالموجب أحياناً فتكون الإضاءة المقبولة.وأكثر السلبي نجده عند شعراء القبائل التي كانت مشغولة بالحروب دائماً.
وقد كانت قانوناً تتوارثه أجيال الجاهليين. وعلى العموم فقد كان هذا القانون الصحراوي نفسه موضع التنفيذ أيضاً في مدن الحجاز: الطائف، ومكة، والمدينة(1) ".
كما تلخص قوانين العرف المشرّبة الإيجابية، بأن الغرض منها جعل الحياة ممكنة في الصحراء، ولذلك بالحدّ من اندفاعات كل فرد من الأفراد، فلكل ذنب قصاص، ويكفي وجود القوة لتطبيق هذا القصاص، ومن هنا تظهر فائدة الثأر المشؤوم بحد ذاته بما يثيره من أحقاد(2) .
شعر التحريض:
التحريض على القتال: هو الحث والإحماء عليه، وهو الحض فإذا كان القتال في سبيل أرض أو أخلاق أو اقتصاد، أو لرد عدوان، فهو الإيجابي المقبول، و إذا كان لغير ذلك فهو السلبي المذموم.. وسوف نرى أن التحريض أشكال متنوعة مختلفة.
كان الشعر – في بعضه – يستنفر الملوك، ويحرضهم على القتال. فقد يستنفر ملكاً على إحدى القبائل قتالاً وتحريضاً لعداوة موغلة في صدر شاعر، أو يستنفر قبيلة ويحرضها على أخرى، أو فرداً يحرضه على آخر فيقتله. ثم تبدأ سلسلة الأخذ بالثأر ويكون سبب هذا القتال والعداوة والبغضاء شاعراً محرضاً متخذاً المواقف السلبية المؤلمة التي تنخر بجسم الأمة.
__________
(1) تاريخ الشعور الإسلامية: بروكلمان: ص/ 19 – 20/ الطبعة الرابعة. بيروت 1965م.
(2) تاريخ الأدب العربي. ر. بلاشير ج1 /ص. /48 – 49/. وزارة الثقافة السورية 1964م.(1/41)
فمن باب تحريض الملك على القبائل ما فعله أوس بن حجر(1) . فقد أغرى النعمان بن المنذر ببني حنيفة لأن شعر بن عمرو السحيمي قتل المنذر، وهو حينئذ مع الحارث بن أبي شمر الغساني، فقال:
نُبّئْتُ أنَّ بني حنيفة أدْخَلًوا ... أَبْيَاتهم تامورَ قَلْبِ المُنْذِرِ
فغزاهم النعمان، وقتل فيهم وسبى، وأحرق نخلهم. فشعر بن عمرو السحيمي أحد أفراد بني حنيفة، يستشف من روح الموقف أن عداءً مستحكماً اشتد بين بني تميم وبني حنيفة، كما يظهر أن قبيلة حنيفة حظيت بمكانة مرموقة عند النعمان. وهذا يوفر لها المراعي الخصبة لمواشيها التي تشكل عنصراً رئيسياً في حياتها الاقتصادية، لذا نرى التحريض ينصب على التذكير بمقتل المنذر،فيدفع ابنه النعمان بثورة غاضبة، فيقتل منهم ويسبي من نسائهم، ويحرق نخيلهم، ولاشك أن إحراق النخيل انتقام اقتصادي وإجراء مهم ضد بني حنيفة بسبب اشتراكهم مع الحارث بن أبي شمر الغساني في مقتل المنذر.
وقد يحرض الشعر ملكاً على فرد، فيؤدّي إلى قتال مرير يذهب بقوى القبائل الاجتماعية والبشرية والاقتصادية كما كان يحدث في أيام العرب، ولاسيما في يوم (أواره الثاني).
فقد ترك عمرو(2) بن المنذر اللخمي ابنا له اسمه أسعد عند زرارة بن عدس التميمي. فلما ترعرع مرّت به ناقة سمينة فعبث بها، فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سُوَيْدٌ أحد بني عبد الله ابن دارم التميمي فقتله وهرب. فلحق بمكة فحالف قريشاً. وكان عمرو بن المنذر غزا قبل ذلك ومعه زرارة فأخفق، فلما كان حيال جبلي علي قال له زرارة:
__________
(1) أوس بن حجر بن مالك التميم، شاعر تميم في الجاهلية، لم يدرك الإسلام توفي 620م. انظر فيه الأعلام، ج1 /ص374.
(2) انظر الكامل في التاريخ، عز الدين بن الأثير: ج /ص553، بيروت عام 1965م.(1/42)
أي ملك إذا غزا لم يرجع ولم يصب، فحل على طيء فإنك بحيالها فمال إليهم فأسر وقتل وغنم، فكانت في صدور طيء على زرارة، فلما قتل سويد أسعد، وزرارة يومئذ عند عمرو، قال له عمرو بن ملقط الطائي(1) يحرض عمراً على زرارة:
من مبلغ عمراً بأن المرء لم يُخلَق صُبَارَهْ
ها إن عجزة أمّهِ ... بالسّفحِ أَسْفَل من أُوَارَهْ
فاقتل زرارةَ لا أرى ... في الْقَوْمِ أوفى من زُرَارَهْ
فقال عمرو:
يا زرارة ما تقول؟ قال: كذبت، قد علمت عداوتهم فيك. قال: صدقت. فلما جن الليل هرب زرارة إلى قومه فمالت الكفة ببني تميم الذين حرضوا النعمان على بني حنيفة،وقد ابتدأ كبيرهم عمرو فحث الملك عمرو بن المنذر على غزو طيء، فكانت تتحيز الفرصة لتنتقم لنفسها.
ولاشك أن الطائيين كانوا قادرين على محاربة التميميين ولكن حماية الملك لهم كانت تمنعهم من تحقيق هدفهم، فكان لابد من وضع هذا الإسفين بينه وبينهم. وهذا الشعر يحل محل الحرب الباردة في في إعلام العصر الحديث.
وهناك شعر شبيه بالتحريض وما هو بالتحريض!!.. لأن قائله معتدى عليه ومهدد، فيدافع عن نفسه وينتصر ويشتفي من الظالم لهُويّ صرحه.
خرج الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان بالشم فمرّ بأفاريق(2) من تغلب فلم يستقبلوه، وركب كلثوم بن عمرو التغلبي(3) ، فلقيه فقال له: ما منع قومك أن يتلقوني؟ فقال: لم يعلموا بمرورك، فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم أيقاظاً لقدومي. وهدد كثيراً. ولما عاد غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم ثم انهزم الحارث وبنو غسان، وقتل أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم(4) :
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) أفاريق، جمع فريق أقسام وقبائل.
(3) هو والد الشاعر الجاهلي المشهور عمرو بن كلثوم.
(4) هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. أشهر شعره معلقته. مات نحو 40 قبل الهجرة. الموافق 584م انظر الأغاني طبعة دار الكتب ج11 /ص52.(1/43)
هلاّ عطفت على أخيك إذا دعا ... بالثكل ويلَ أبيك يا ابن أبي شمرِ
فذق الذي جشَّمْتَ نفسَكَ واعترف ... فيها أخاك وعامر بن أبي حُجْرِ(1)
أنه التشفي من الظالم ورد الاعتداء وإيلامه بذكر من قتل من أصحابه، وهو يستحق ذلك لأنه جلب الشر على قومه.
والشعر الذي كان ينمي الفتن بين القبائل نوع من أنواع شعر التحريض وهو ظاهرة سلبية نراها في الحياة الاجتماعية الجاهلية. فمثل هذا الشعر كان عاملاً رئيساً في المحافظة على نار الحرب مشتعلة يذكي من جذوتها ويحميها. ويعمق الإحساس بالحقد والكراهية.
ولعل كثرة هذا الشعر هي التي عملت على كثرة أيام العرب، وشعر تلك الأيام حافل بالمعاني والمواقف السلبية التي نقصدها، فلكل يوم من أيامهم قصة وراءها شعر التحريض الذي يمثل فخراً وعزاً للمنتصرين، وصغاراً وذلاً للمنهزمين، ويدور على الألسنة فيكون حطباً جذلاً تحت جفان الحروب الداخلية، فيفتت عضد الأمة ويضعفها.
إنه ليس من غايتنا الوقوف عند أيام العرب أو عند شعر أيامهم كله. فهذا أمر يطول ذكره، وفي كثر من الكتب ما يغني عنه. ولكننا نأخذ عينه على ما نثبته في هذه الظاهرة ونترك شأن أيام العرب، لمن أراد أن يعود إليها(2) .
تطاحن العرب في يوم يقال له: "يوم النسّار". ومرت سنة كاملة من الحرب الباردة ثم التقى المتقاتلون في يوم النسّار مرة أخرى بفعل تلك الحرب في موضع يقال له: "الحفار"، فقتل خلق كثير وكشف القتال عن صبر تميم وعامر، لكن هذا المصير لم يكن حائلاً دون الهزيمة، فأكثر بشر بن أبي خازم الأسدي على بني تميم فقيل له: مالك ولتميم وهم أقرب الناس منك أرحاماً؟، فقال: إذا فرغت منهم فرغت من الناس ولم يبق أحد. وتشفى بقتله، فقال:
__________
(1) ابن الأثير، عز الدين الكامل في التاريخ: ج1 /ص540. بيروت 1965.
(2) انظر الكامل في التاريخ، ج1 /ص 620. بيروت 1965 وانظر: أيام العرب في الجاهلية. جاد المولى، البخاري، أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1942م.(1/44)
غضبَتْ تميم أن تُقَتّل عامَِرٌ ... يوم النِّسار فأعقبوا بالصَّيْلَمِ(1)
وتسير القصيدة في تعميق الشقاق والحث على متابعة القتال، وكأنه يعطي لبني تميم مبررات ومسوغات كثيرة لتعد جموعاً جديدة للقتال.
وفيها يخاطب تميماً وعامرا ويعيرهما بما لحق بهما من ذلك وفشل، ثم يشير إلى فرار رأس تميم في يوم "النِّسار(2) " حاجب بن زرارة، وإلى سقوط راية بني تميم، وعلو راية بني أسد عليها، ويفتخر بقومه، إذ يقول:
سائلِ تميماً في الحروب وعامراً ... وهل المجرّب مثلُ من لم يَعْلَمِ
غضبت تميم أن تُقتَّلَ عامرٌ ... يوم النِّسار فأُعقِبُوا بالصَّيْلمِ
ورأوا عقابهم(3) المدلِّة(4) أصبحت ... نُبِذَتْ بأفضح(5)َ) ذي مخالبَ جَهْضَمِ(6)
وتناول بني نمير وكلابا ولم ينس كعبها، فأشانهم جميعا في قوله:
وبني نُمَيْرٍ قد لقينا منهم ... خيلاً تَضِبُّ لثاتُها لِلْمغتَنَمِ
ولقد خبطنَ بني كلاب خبطة ... الصقتَهُمْ بدعائمِ المتخيَّمِ
وصلَقْنَ كعباً قبل ذلك صلقةً ... بقنا تعاورَهُ الاكفُّ مُقَوَّمِ
حتى سقيناهُمْ بكأس مُرَّةٍ ... مكروهةٍ حُسُواتها كالْعَلْقَمِ(7)
كان عليه أن يطيل الحديث عن نهاية المعتدي الأثيم، لا أن يصوّر ما قد يجلب لقومه البلاء، ويعزز عند أعدائه حب الانتقام والاعتداء فمثل هذا الشعر وسيلة إعلامية تشين قائله وتعترف بعدوانيته وتدينه في مجتمع جبل على المحافظة على المروءة والكرامة وحب الذات.
__________
(1) الصيلم: هو يوم الجفار، وإنما لقب به لكثرة من قتل فيه.
(2) أَجْبُلٌ متجاورة، وعندها كانت الوقعة.
(3) العقاب: الراية التي يقاتلون تحتها. قال المرزوقي: كانت راية بني تميم على صورة عقاب ورايه بني أسد على صورة الأسد.
(4) المدلة: التي أصحابها مدّلون بجمعهم.
(5) يعني بأسد فيه حمرة وبياض، إشارة إلى راية بني أسد.
(6) الجهضم القوي الشديد.
(7) الكامل في التاريخ: ج1/620، بيروت 1965م.(1/45)
وأحياناً يأتي التحريض من فرد يمثل قبيلة، يحرض ملكاً على فرد يمثل قبيلة أخرى بدافع الحضوة والتنافس على المكانة المقربة من الملك. ولاشك أن وراء هذه المكانة دوافعَ كثيرةً في طليعتها الأحوال الاقتصادية، والمنافع المادية. كما في الحادثة التالية:
افترى لبيد بن ربيعة العامري على الربيع بن زياد(1) عند النعمان(2) فتأثر العبسيون بهذا الافتراء وتدنت مكانتهم، وضاقت أحوالهم. وسبب ذلك أن الربيع كان ينادم النعمان ويهوّن من شأن بني عامر عنده، فدفعت بنو عامر شاعرها الشاب لبيد بن ربيعة فهجاه في حضرة النعمان واصفاً إياه بالبرص(3) ، وتوجّه بكلامه إلى النعمان قائلاً(4) :
مَهْلاً أبيتً اللعنَ لا تأكُلْ معَهْ
إنَّه استه من بَرَصٍ مُلَمّعَهْ
إنَّه يُدْخِلُ فيها أصبعَهْ
يُدْخِلُها حتى يواري أَشْجَعَهْ
كأنه يطلب شيئاً أودعه
فسخط النعمان ونفر من الربيع وقال له: أكذلك أنت؟!.. فقال: كذب ابن الحمقى اللئيم، فقال النعمان(5) :
قَدْ قِيلَ ذلك إنْ حقاً وَإنْ كَذِبَاً ... فما اعتذارُكَ من قَوْلٍ إذَاْ قِيْلاَ
__________
(1) الربيع بن زياد العبسي: أحد دهاة العرب وشعانهم. وكان يقال له الكامل ارتحل عن النعمان إلى عبس وحضر حرب داحس والغبراء. الأعلام ج3/ ص38.
(2) النعمان بن المنذر، أبو قابوس: من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية قتله كسرى نحو (ض5 ق.هـ). الأعلام ج9 /ص10.
(3) من أغرب ما جاء عن البرص، افتخار بعض العرب به. انظر الأوائل لأبي هلال العسكري. ج1 /ص98. على أن بعض العرب تتبرك بالبرص وتمدحه...
(4) أمالي المرتضى: ج1 /ص137. دار السعادة، بيروت.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/46)
ثم أمره بالانصراف إلى أهله، واشتعلت نار الفتنة بين القبيلتين بسبب هذا الشعر، و هو لا شك إيجابي بالنسبة لبني عامر، سلبي على بني عيس. لكنه سلبي بالنسبة للحركة الفكرية العربية عامة وللخط الذي نهجه في هذا البحث. وكفاه سلبية أنه أشعل نار الحرب بين العامريين والعبسيين مدة طويلة راح ضحيتها مئات من العرب، وكثير من المقدرات الاقتصادية والاجتماعية.
وقد اعتمد على تشخيص الحسي فصور مشهداً منفّراً جعل الملك يرفض جلوسه معه. كما صور هذا الشعر نفور المجتمع الجاهلي من البرص، الذي لا يزال المجتمع العربي ينفر منه اليوم؛ لكن ربما كان في الجاهلية دليل نحس لعدم وجود الوعي العلمي والمعرفة الطبيّة، على حين أن الطب الحديث يعرّفه مرضاً يصيب الدم فيظهر على الجلد.
ومن الشعر ما يكون تهديداً وتلويحاً قريباً من التحريض. فقد يكون اختلاف الخلق بين فردين قريبين دافعاً لأحدهما للقول، وبيان السلبيات التي تضر بالقرابة فتفسدها وينتهي الأمر إلى التشهير والفتنة والعداء، ومن ثمة الحرب والقتال، كما في قول ذي الإصبع الْعَدْوَانِي(1) :
لِيَ ابنُ عَمٍّ على ما كان من خُلُق ... مُخْتلِفَان فأقليه ويَقْليني(2)
أَزْرَى بنا أنّنا شالَتْ تعامتُنا ... فَخَاْلَني دُوْنَه وخِلْتُه دُوْنِي
يَا عمرو إلاّ تَدَعْ شَتْمي وَمَنْقَصَتي ... أَضْرِبْكَ حتّى تقولَ الهامة اسْقُوْني
عنّي إليكَ فما أمّيَ براعِيَةٍ ... ترعى الْمَخَاضَ، وما رَأْي بمَغْبُوني(3)
وَأَنْتُمْ مَعْشَرٌ زِيْدٌ على مائةٍ ... فاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ كُلاًّ فكِيْدوْني
__________
(1) اسمه حرثان، وسمّي ذا الإصبع لأن حية نهشت إبهام قدمه، فقطعها، وقيل لأنه كان له في رجله أصبع زائدة. وهو من قبيلة عدوان التي تنتهي إلى قيس عيلان. شاعر فارس. المفضليات /ص160.
(2) يقليني: يبغضني.
(3) الهامة الرأس. يقال: أن الرجل إذا قتل فلم يدرك بثأره خرجت هامة من قبره فلا تزال تصيح اسقوني حتى يقتل قاتله.(1/47)
لَوْ تَشْرَبُوْنَ دَمي لم يَرْوَ شاربكم ... وَلاَ دِمَائَكُمْ جَمْعَاً تُرَوّيني
لا يُخْرِجُ الكرْهُ منّي غيرَ مَأْبِيَةٍ ... وَلاَ أَلِيْنُ لِمَنْ لاَ يَبْتَغِي لِيْني
هذه القصيدة توقفنا على الحقيقة القبلية، فالعلاقات داخل القبيلة ليست قائمة على التأييد والتضامن دائماً. وهذا أقرب إلى الحقائق الاجتماعية في كل العصور. فابنا العم هنا يعيشان أعلى درجات البغضاء والحقد. وقد اختلفا اختلافاً فينا لدرجة جعلت ذا الإصبع يحكيه شعرا فينذره بالضرب حتى الموت ويعرّض به فيكشف لنا عن ازدراء الجاهليين لأبناء الإماء، ويرتفع مد العداء كأساً ترتوي به الأنفس.
وتخرج العداوة من إطار النزعة الفردية أحياناً، لا تنتشر في إطار جماعي مؤذٍ. كأن يحط شاعر قبيلة ما، من شأن كثير من القبائل مجتمعة فيؤلّب تلك القبائل على قومه. وأحياناً يفخر بقومه وبشدة بأسهم في الحرب على حساب قوم آخرين، يطعن بهم ويشكك في مقدرتهم، مما يولد لديهم حب الانتقام بدافع تكذيبه وبيان زيف قوله، فيكون أراد شيئاً، ولكنه حصد شيئاً آخر غير الذي أراده، وجلب الدمار على قبيلته.
ذهب ربيعة بن مقروم(1) إلى مثل هذا فذكر كثيراً من أيام العرب، كأيام بزاخة، والنسار، والطخفة، والكلاب، وذات السليم(2) . وافتخر بانتصار قومه على هوازن ومذحج، فقصد الحط من شأنهم والرفعة من شأن قومه،فقال(3) :
فدىً بِبُزَاخة أَهْلي لهم ... إذَا مَلأَوا بالجمُوْع الحَزِيْمَا(4)
وإذا لقيت عامِرٌ بالنِّسا ... رِمِنْهُمُ وطَخْفَت يوماً غشوما
__________
(1) ربيعة بن مقروم: شاعر مخضرم، من شعراء مضر، أسلم وشهد القادسية وغيرها. انظر أخباره في الإصابة ج2 ص/ 220.
(2) انظر ابن الأثير، عز الدين الكامل في التاريخ ج1 /ص/117 – 649.
(3) المفضليات: ص 183. دار المعارف – القاهرة 1964.
(4) بُزَاخةَ: موضع. والحَزِيْم: الصّلب من الأرض.(1/48)
به شاطروا الحيَّ أموالهم ... هوازِنَ ذا وَفْرِهَا والْعَدِيْمَا(1)
وساقَتْ لنا مَذْحِجٌ بالكِلابِ ... مواليَها كلَّها والصَّمِيْمَا(2)
فَدَارَتْ رَحَانَاْ بفُرْسَانِهِمْ ... فعَادوا، كَأَنْ لم يكونوا رِمَيْما
ولاشك أن هذا الشعر يخفف من الانتماء القومي العفوي. وأنه يصعد إحساس الشعراء من القبائل الأخرى بضرورة الرّد والدّفاع مما يقوي تيار التحريض والتفرق أيضاً.
وقد أصبح مجموع هذا الشعر تراثاً سلبياً للعرب المعاصرين، فخلافاتُهم الممتدة على طول الوطن وعرضه، ترتكز على قاعدةٍ من قواعد التراث وهي سلبية وحقيقة علميّة تؤكدها كتب علم النفس الإفرادي والجماعي. ومجموع هذا الشعر ولّد ما يُعْرَفُ بالنقائض. فَعَديّ ابن رعلاء الغساني(3) . يقول مثل قول ربيعة بن مقروم، فيحط ويرفع في معرض ذكر يوم (أباغ). وهو بين المنذر بن ماء السماء، وبين الحارث الأعرج بن ابي شعر جبلة، و سبب ذلك أن المنذر سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بـ (عين أباغ)، وأرسل إلى الحارث ملك العرب بالشام: "إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحرب، وكانت الحرب(4) "، فقال عدي(5) :
رُبّما ضَرْبَةْ بِسَيْفٍ صَقِيْل ... دُوْنَ بُصْرى(6) وطَعْنَةٍ نَجْلاَءِ
__________
(1) شاطروا: أخذوا الشطر، و هو النصف. ذا وفرها: أي ذا مال، فالوفر هو المال الكثير. والعديم: المقل.
(2) الموالي هنا: الحلفاء. والصميم: الصريح الخالص النسب.
(3) عدي بن رعلاء الضبياني شاعر جاهلي. والرعلاء اسم أمه اشتهر بها. انظر. ابن الأثير، عز الدين: الكامل في التاريخ. ج1 /ص542. بيروت 1965.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) الأصمعيات: ص162، دار المعارف، القاهرة 1964م. وانظر حماسة ابن الشجري ص51 ومعجم المرزباني /262.
(6) بصرى: من أعمال دمشق – وهي قصبة كورة حوران.(1/49)
وَغَمُوسٍ تَضِلُّ فيها يَدُ الآَ ... سِي(1) ويَعْيَا طَبِيْبُهَا بالدَّوَاءِ
رَفَعُوا رايةَ الضِّرابِ وآلوْا ... لَيَذُوْدُنَّ سامرَ الْمَلْحاءِ(2)
فَصَبَرْنَ النّفوس للطّعنِ حتى ... جَرت الخيلُ بَيْنَنَا في الدّمَاءِ
لَيْسَ من مَات فاسْتَراحَ بميّتٍ ... إنّما الميتُ ميّتُ الأَحْيَاءِ
إنما الميّت من يعيش ذَلِيْلاً ... سيئاً بَالُه قَلِيْل الرَّجَاءِ
أول ما يلفت النظر هنا هو أن ( أباغ) موضع بطرف العراق مما يلي الشام حيث أوقع الحارث، وهو يدين لقيصر الروم، بالمنذر وبعرب العراق وهم يدينون لكسرى.
وهذا يدل على تبعية القبائل العربية للدول الكبرى في ذلك الزمان، كما هو شأن كثير منها الآن. كما أنه حجة بيد من ينفي الشعور القومي العفوي عند العرب الجاهليين.
وهو من وجهة البحث التاريخية تخلف في لاوعي الاجتماعي والسياسي يأخذ شكل الموقف السلبي بين أبناء أرومة واحدة.
فقد كان أثر هذه القصائد سلبياً على المجتمعات العربية البدوية والحضرية. فمثل هذه القصيدة وما شاكلها فتيل كل معركة ووقود كل حرب ضحيتها كثير من الأبرياء.
كذلك مما يلفت النظر في هذه القصيدة البيتان الأخيران فقد قالهما في شأن من تدعه الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل والخزي، فحياته ليس إلا موتاً. ومثل هذا القول يُنْثَرُ فوق رؤوسِ قَوْمٍ أُبَاةٍ يرفضون الحياة الذليلة الرخيصة، كفيل بدفعهم إلى القتال من جديد. ولكن البيتين حين سارا بعد ذلك مسير المثل والحكمة الخالدة لكل حياة رخيصة، صارا فثي المواقع الإيجابية المحمودة المعزّزَة لرفض الهوان. والخيط بين الموقعين رفيع.
__________
(1) الغموس: الطعنة النجلاء الواسعة. الآسي الذي يَأْسُو الجروح ويداويها.
(2) سامر: اسم جمع بمعنى السمار، وهم القوم يتحدثون ليلاً. الملحاء: اسم موضع.(1/50)
وحين بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أول من أدرك أثر هذه القصائد في هدم المجتمع العربي، فكان ينهي عن تعلم هذا النوع من الشعر، مثلما نهى الناس(1) عن تعلم قصيدة الشنفرى في مقاطعة آل غسان – إن صح الحديث – التي يقول منها(2)
ما كلُّ يَوْمٍ ينالُ المرءُ ما طَلَبَا ... وَلاَ يَسُوْغه المقدارُ مَا رَغِبَا
لاَ تَقْطَعن ذَنَبَ الأَفْعى وَتَتْركَها ... إن كُنْتَ شَهْماً فَاتْبَعْ رَأْسَها الذَّنَبَا
همُ جرّدوا السَّيفَ فاجْعَلْهُمْ له جُزراً ... وأَضْرَموا النّارَ فاجْعَلْهُم لَهَا حَطَبَا
وربّما كان هذا الحديث منحولاً انتحله آل غسان، ولكن الروح، العامة له توافق كثيراً من الأحاديث النبوية الأخرى التي تنهى عن إذاعة الغش.
والبيت الأول خلاصة تجارب الحياة، وكذلك الثاني، بل إنه لمن المفيد تعلم مثل هذا البيت فهو من الحكم الحربية التي يجب التقيد بها داخل المدارس العسكرية، فمن غير المعقول أن تضع الحرب أوزارها وتتصور أننا أحرزنا نصراً في معركة قتلنا فيها الذنب وتركنا الرأس المدبّر يسعى ثانية ليجمع فلوله مرة أخرى.
والبيت الثالث أيضاً لا نجد فيه ما يستوجب المنع، فمن يشعل نار الحرب لابد أن يصطلي بها. وأصبحنا ولا رؤية لنا في هذا القول إلا أنه منحول على رسول الله انتحله آل غسان دفاعاً عنها وعن عزها الجاهلي، وقد علم فاعله أن مفعول القصيدة في الإسلام باطل، ولكنه أراد أن يخلّص غساناً من أمر شين نسب إليها في جاهليتها حين عادة العصبية جَذِعةً أيام الأمويين. وهذا لا يمنع أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حذر من تعلم شعر الفتن كما ذكرنا(3) .
__________
(1) أمين الحسيني، محسن. محاضرات مجمع اللغة العربية بدمشق ج3 ص147 دمشق
1954م.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) انظر: العمدة ج1 /ص27: (إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه).(1/51)
ومجمل القول في هذا النوع من الشعر المحرّض أنه ينمّي مفهوم القتل والجريمة في البيئة الأعرابية العربية، ويضعّف المجتمع، ويقطع أواصرَ الرّحم الصّلةِ، ويشعل نار الحرب، ويوقف عجلة التقدم ويجعل الشّعر أداةً هدّامةً ومعولاً فتاكاً يهدم أركان الأمة.
وهناك نوع من شعر المديح يقوم بتلك المهمة السلبية، لابد من الإشارة إليه، وهو الشعر الذي يقال في أُناسٍ لا تتوافر فيهم الصفات الحقةّ التي يذكرها الممدوح. والشعراء في هذا بين اثنين:
أول خاضع لإطار التعصب القبلي، والتفاخر الجماعي؛ وآخر خاضع للعوامل المادية التي سيطرت على قلوب الجزء الأكبر من شعراء هذا النوع من القول حيث الكذب التاريخي بقالب من قوالب الصدق الفني. ولابد أن نلاحظ ما عابه القدماء في هذا الشعر أنه السلبي الذي عنيناه ولكنهم أدرجوه تحت ظاهرة المبالغة(1) . ويأخذ شعر التحريض وجهاً إيجابياً حين يستخدم ليحرك قوماً خانعين فيولد فيهم الرفض، وينمي لديهم حب التمرد والثورة على السلبيات التي تعيشها القبيلة.
وخير شاهد على هذا المنحى الإيجابي لشعر التحريض لدى عرب الجاهلية ما ذكره أبو الفرج عن عمليق ملك طسم وجديس وسبب قتله(2) .
فقد أمر هذا الملك الظالم ألا تزوج بِكْرٌ من جَدِيْس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها، فلقوا من ذلك بلاء وجهد وذلا فلم يزل يفعل هذا حتى زُوّجت الشّموس وهي عفيرة بنت عباد فلما أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها القيان يتغنين:
ابدي بعمليق وقومي فاركبي ... وبادر الصبح لأمر معجبِ
فسوف تلقينَ الذي لم تطلبي ... ما لِبكْرٍ عنده من مهربِ
__________
(1) انظر: إبراهيم، طه، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الحكمة. بيروت مندور، محمد، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة الفجالة. القاهرة.
(2) الأغاني ج11 /ص153 – 154، دار الثقافة، بيروت 1959.(1/52)
فلما أن دخلت عليه افترعها وخلا سبيلها؛ فخرجت إلى قومها في دمائها شاقةً درعها من قبل ومن دبر والدم يسيل وهي في أقبح منظر، تقول:
لا أحدٌ أذلّ من جَدِيْسِ ... أهكّذا يُفْعَلُ بالْعَرُوْسِ
يرضى بهذا يا لَقَوْمي حُرٌّ ... أهدى وقد أعطى وسيق المَهْرُ
لأَخْذَةُ المَوْتِ كذا لنَفسهِ ... خَيْرٌ منْ أَنْ يُفْعَلَ ذا بعِرْسِهِ
وما زالت في أمرها حتى قالت تحرض قومها فيما أُتي إليها(1) :
أَيجعلُ ما يُؤْتى إلى فَتَياتِكُمْ ... وأَنْتُم رجالٌ فيكُم عَدَدُ النَّمْلِ
وَتُصْبِحُ تمشي في الدّماءِ عفيرَةٌ ... جَهاراً وزّفتْ في النّساءِ إلى بَعْلِ
وَلَوْ أَنَّنا كُنّا رِجَالاً وَكُنْتم ... نساءً لكنّا لا نُقِرُّ بذا الْفِعْلِ
فَمَوْتُوا كِرَاماً أَوْ أَمِيْتُوا عَدوَّكُم ... ودِبُّوا لِنار الْحَرْبِ بالْحَطَبِ الْجَزْلِ
وإلاّ فخلّوا بَطْنَها، وتحمّلوا ... إلى بَلَدٍ قَفْرٍ وَمُوتُوا من الْهزْلِ
فللبَيْنُ خَيْرٌ من مقَامٍ على أَذَىً ... وَ لَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِن مقَامٍ على الذُّلِ
وَإِنْ أَنْتُم لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذهِ ... فَكُوْنُوا نِسَاءً لا تُعَابُ مِن الكُحْلِ
وَدَوْنَكم طيبُ الْعَرُوس فَإنَّمَا ... خُلِِقْتُم لأَثْوابِ الْعَرُوْسِ وَلِلْغُسْلِ
فبعدا وسحقاً للذي لَيس دافعا ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
فلما سمع أخوها ذلك وكان سيدا مطاعاً قال لقومه: يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا وادهاننا(2) ما كان له فضل علينا. ولو امتنعنا لكان لنا منه النَّصف(3) . فأطيعوني فيما آمركم به، فإنه عزّ الدهر وذهاب ذل العمر واقبلوا رأي.
__________
(1) المصدر السابق/ ص155.
(2) الادّهان: المصانعة واللين، مثل المداهنة.
(3) النَّصف: إعطاء الحق، مثل النصف والإنصاف.(1/53)
وقد أحمى جديسا ما سمعوا من قولها، فقالوا: نطيعك،فاحتالوا لهم فقتلوهم، فقال أخوها في ذلك(1) :
ذُوْقِي بِبَغْيِك يا طسمٌ مُجلَّلةً ... فَقَدْ أَتَيْت لِعَمْري أُعجبَ الْعَجَبِ
إنّا أَبَيْنا فَلَمْ نَنْفَكُّ نقتلهم ... والبغيُ هيَّج منا سَوْرَة الْغَضَبِ
هذا الشعر الذي قالته الفتاة هو الحض وهو سلاح فعال استطاع أن يؤتي أكله، فقد حرك الهمم ورفض الذل وانتزع الحرية. فهو جانب عظيم يقوي من شأن القبيلة والأمة.
وفي نهاية المطاف لابد من ملاحظة هامة هنا نستنتجها من قرائن الأحداث.
يلاحظ المرء المهتم بتاريخ العرب والإسلام، أن آخر القبائل التي دخلت الإسلام وأول القبائل العربية التي ارتدت عنه هي تلك التي يحركها هذا النوع من شعر التحريض بوجهه السلبي.
كذلك عمل هذا الوجه على تعميق تيار التعصب القبلي، فتنعدم النزعة الإنسانية التي كانت في الأصل ذات لون باهت، وكأنها لم تكن من محتويات التطور التاريخي لمجتمع القبائل العربية بين الجاهلية والإسلام!..
وعلى الصعيد العربي المعاصر مازلنا نلمح آثار السلبي من شعر التراث يتسرب إلى العقلية المتنازعة، تحت أضواء ما يعرف بالحرب الباردة، على إطار جماعي أو فردي. لقد أثَّر هذا الشعر في حصر الأفق العربي ضمن إطار ضيّقٍ من التعصب المشين، فعمل على تكريس المجتمع العربي سياسياً، واجتماعياً، وفكرياً ضمن قوالب مصطنعة، شكلت دولاً متفرّقة مختلفة، تجمعها المصائِبُ حيناً، وتفرقها حالات الأمن أحياناًّ.. مما نجم عنه استمرارية في أوضاع غير سليمة، شارك الشعر السلبي في ديمومتها.
(
المناحي الفكريّة
في المناحي الفكرية:
لم يكن للعرب في جاهليتهم فلسفة، أو علم كلام، أو تصوف. فقد جاء تأثر الفكر العربي بالفلسفة اليونانية، وبغيرها من الثقافات متأخراً، وربما كان انتشارها بعد الفتح مؤكداً.
__________
(1) الأغاني ج11 /ص156. دار الثقافة – بيروت 1959.(1/54)
ويمكن حصر مناحيهم الفكرية، أو أغلب تلك المناحي، في معتقدهم الديني وأوهامهم وخرافاتهم، وهي – حين نجدّ في البحث عنها – كثيرة مبثوثة في الشعر الجاهلي، نستطيع أن نذكر منها:
التطير والتشاؤم، وحديث الحض، وعقد الرقيّ،والاعتقاد بأثر الغربان والسخرية بالفقير(1) وهجوه!.، والتعيير، وهجاء العرض، والفحش، والإيمان بالغول، وخروج الهامة من القبر، والغيبة، والنميمة، وحلول الأرواح في مظاهر الطبيعة، والإيمان بالعين التي إذا أصابت قتلت، وحبس البلايا، ونسبة الشعر إلى الحيوانات، وإلى الجن والتعشير، والإيمان بأثر دماء الأشراف والملوك وعقد الرّتم. واعتقادهم في النيران، ووأد البنات.
حين جاء الإسلام، كانت إحدى مهامه الرئيسية اقتلاع تلك المعاني التي تخالف تعاليمه، فعانى كثيراً وهو يحاول إرساء مهمته تلك. ولكن المعتقدات القديمة ما لبثت أن عادت إلى العقلية العربية، مما يفيد أنها كبتت إلى حين ولكنها لم تمت.
ولاشك أن الدافع وراء عودتها، هو تبني بعض الشعراء تلك المعتقدات وسقيها بماء الحياة، الشيء الذي جعلها تعيش حتى أيامنا(2) هذه فتجمّدُ العقلية العربية وتشدها فتمنعها من النهوض والتقدم.
ومن هنا تأتي أهمية استعراض تلك المعاني ورفضها لما فيها من سلبية في التفكير، وفيما يلي استعراض لأشهر تلك المعاني التي مازالت ماثلة كالطود في عقلية العرب، فتكون أحد أهم العوامل التي تحول دون تقدمهم.
الطيرة والأوهام والخرافات:
__________
(1) على الرغم من استغراب هذا الأمر.
(2) تذكر مثلاً أن التطير والتشاؤم، والاعتقاد بأثر الغربان، والإيمان بالغول، والإيمان بالعين التي إذا أصابت قتلت، وحبس البلايا، وغيرها أمور فكرية مازالت تجد لها رواجاً غير محدود في بعض البلاد العربية.(1/55)
الطيرة هي التشاؤم، وهي مصدر تطير مثل تحيّر حيرة(1) ، وقال بعض أهل اللغة لم يجيء، من المصادر هكذا غير هاتين، ويقال تطيرت منه، واطيرت(2) . ويقال لها في العبرانية: طير(3) Tayyar فهي من الأصل نفسه الذي أخذ العرب التسمية(4) .منه ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب(5) ، ويقال لها في الإنكليزية Augary(6)( والطيرة والزجر في معن واحد(7) .
وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم منه ورجع.
وربما كان أحدهم يهيّج الطير ليطير فيعتمدها. فجاء الشرع بالنهي(8) عن ذلك. وكانوا يسمّون السانح والبارح، فالسانح ما وَلاَكَ ميامنة بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بأن يمر عن يمينك إلى يسارك. وكانوا يتيمنون بالسّانح، ويتشاءمون بالبارح(9) ، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف يتعاطى ما ليس له أصل.
ولاشك أن للجغرافيا الطبيعية دوراً كبيراً في ولادة هذه القيم السلبية في المعتقدات الفكرية. فالملاحظ أن القوافل التجارية والموارد الاقتصادية والريح المنعشة كلها تأتي من الشمال أو اليسار، من بلاد الشام والعراق، فيكون التيّمن قادماً من جهة قدوم القوافل المحمّلة بالخيرات، ولعل هذا سرّ اختلافهم، بجهات التشاؤم والتيامن.
__________
(1) لاحظ فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني ج1 /ص180 دار المعرفة، بيروت.
(2) المعاجم العربية باب، طير.
(3) جواد، علي. المفصل ج6 /ص786. دار العلم للملايين بيروت طبعة أولى/ 1970م.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) المصدر السابق ص/ 787.
(7) أمالي المرتضى ج2 /202.
(8) كما في حديث "لا طيرة ولا عدوى ولا صفر...".
(9) فتح الباري: ج1/ ص180.(1/56)
وربما أكثر بعض الشعراء من النقل في طول البلاد وعرضها، داخل الجزيرة وخارجها فكسب واغتنى وعاد متخلصاً من السانح والبارح معبراً عن تحرره الفكري الذي أوصله إليه تحرره الاقتصادي، يقول عوف بن عطية(1) :
نَؤُمُّ البلادَ لِحُبِّ اللقاء ... ولا نتّقي طائِراً حيثُ طَارَ(2)
سَنَيْحاً ولا جارياً بارِحَاً ... على كُلِّ حال نُلاقِي يَسَارَ
ويبدو أن الوصول إلى النتائج الاقتصادية الإيجابية، والحصول على الخيرات الوفيرة يقوّيان معتقد المنكرين لهذه الأوهام. من هنا تظهر قيمة الشعر الإيجابي في محاربة هذا المفهوم السلبي، ومحاولة القضاء عليه.
ومن طريف هذا الجانب ما روى عن النابغة(3) - وكان من المتطيرين – وزبّان بن سيار(4) ، فقد خرجا يريدان الغزو، فبينما هما يريدان (5) الرحلة إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطيّر وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجهَ.. فلما رجع (زبان) من تلك الغزوة سالماً. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال(6) :
تخبّر طيرَه فيهَا زِيَادٌ ... لِتُخْبِرَهُ وما فِيْهَا خَبَيْرُ
أَقَامَ كأنّ لقمان بنَ عادٍ ... أَشَارَ له بِحِكْمَتِه مُشِيْرُ
تعلّم أنّه لا طَيْرَ إلاّ ... على مُتَطَيّر وهو الثّبور
بلى شيءٌ يُوَافِقُ بعضَ شيءٍ ... أَحَايَيناً وبَاطِلُه كَثِيرُ(7)
__________
(1) شاعر جاهلي، من فرسان العرب. ذكره أبو عبيدة البكري في السمط ص377 – 723/. أنه جاهلي إسلامي، ولم يؤيده، أحد في ذلك، ولم يذكره الحافظ ابن حجر في المخضرمين في الإصابة.
(2) المفضليات: ص415/. دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة 1964م.
(3) النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية انظر الأغاني طبعة الدار ج11.
(4) انظر أخباره في الحيوان ج3 /437.
(5) لاحظ ارتباط الرحلة إلى الغزو بالكثير من المعتقدات الفكرية العربية.
(6) الحيوان: ج3 /ص447، محمد عبد السلام هارون.
(7) انظر الحيوان، للجاحظ ج3 /ص. 437. محمد عبد السلام هارون.(1/57)
وقد كانت تلك الرؤية أعمق من رؤية أخرى لذات القضية، التي علّقها كثير من الشعراء بالغيب، كما في قول بعضهم(1) ممن اعتبره شُرّاح(2) الحديث إيجابياً، وهو عندنا وعي قاصر:
الزّجْرُ والطّيْرُ والكهّانُ كلّهّم ... مُضَللونَ وَدوْنَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ
وعلى الدرجة ذاتها من المستوى المفهومي يسدل شاعر آخر ستائره على هذا المفهوم معلقاً إياه بالغيب:
لَعَمْرُكَ ما تَدْرِي الطّوارِقُ بالْحَصى ... ولا زَاجراتُ الطّير ما اللهُ صَانِعُ(3)
ومع ذلك فهذا التحليل إيجابي بالنسبة لذلك العصر، وللعصور الإسلامية التي تلته، ولكنها رؤية قاصرة بالنسبة لعصرنا، سيما بعد الكشف عن دور الاقتصاد، في حياة الإنسان. مؤمنين بأن نصيب الناس من خير أو شر أمر لا يأتي من خارج أنفسهم، وإنما هو معهم مرتبط بنواياهم وبقدراتهم، وإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه. لكن هذا كله حديث آخر غير الحديث الاجتماعي الاقتصادي.
وقد كان كثير من الجاهليين يربطون رزقهم ومصير حياتهم بهذا المعتقد.
تحدث رجل(4) عن لعبة السانح والبارح في مصير الإنسان، وقد قالوا له: أغارت بهراء على إبلك فَأَسْحَفَتْهَا، قال: فأمسيت والله مالي مال غير الدّود فرمى الله في نواحيهن بالرَّغس(5) ، وإني اليوم لأكثر بني القين مالاً، وفي ذلك أقول(6) :
هو الدَّهْرُ آسٍ تارةً ثم جَارِحُ ... سوانحُهُ مَبْثُوْثَةٌ والبَوَارِحُ
__________
(1) لاحظ ابن حجر العسقلاني شرح صحيح البخاري.
(2) المصدر السابق ج1. ص/180. دار المعرفة، بيروت.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) معاد بن مذعور القيني، جاهلي، رئيس قومه بني القين. انظر أخباره في الأغاني ج1/ ص142 – 143.
(5) الرَّغْسُ: بوزن الفَلْسُ النّماء والخير، وفي الحديث: أن رجلاً رَغَسَه الله مالاً، أي أكثر له وبارك له فيه.
(6) أمالي القالي: ج1/ 143. دار الفكر بيروت، لا تاريخ.(1/58)
ولعلَّ قولَ مصادٍ هذا يقوي ما رأيناه من ارتباط هذا المعتقد الفكري بالمناحي الاقتصادية.
وقد اختلط أمر تشاؤمهم، واعتقد بعض الأدباء(1) من القدامى أن تشاؤمهم من الغراب جعلهم يشتقون من اسمه الغربة والاغتراب، والغريب، فوقع اللبس لغوياً كما وقع اللبس اقتصادياً.
ويبدو أن مفهوم التطير بقي قوياً ومنتشراً بين العرب جميعاً بما فيهم أهل المدن الذين يفترض فيهم تجاوز مثل تلك الأوهام.
وجاء الإسلام فكان الجاهليون يعمدون إلى هذا الوهم في مقاومة الحجة والمنطق، فكانوا يقولون كما جاء القرآن بلسانهم: { إنا تطيّرنا بكم، لئن لم تنتهوا لنرجمنّكم، وليمسّنكم منا عذاب أليم(2) . }
كما اعتبر الطيرة شركاً يؤدي بصاحبه إلى الكفر الصراح، فقال الرسول: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك (ثلاثاً) وما منّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكّل(3) ".
وعلى النقيض من الطيرة(4) ، يقع الفأل الذي بينه وبين الطيرة فرقان عند أهل النظر والمعرفة والحقائق، ذلك أن الفأل تقوية للعزيمة، وتحضيض على البغية، وإطْمَاعٌ في النيّة، والطّيرة تكسر النيّة، وتصد عن الوجهة وتثني العزيمة، وفي ذلك ما يعطّل الإحالة على المقادير(5) .
ومن هذا الفأل تسمية العرب للمنهوش بالسليم، وللبرية بالمفازة، وتكنيتهم الأعمى بأبي بصير، والأسود بأبي البيضاء(6) .
__________
(1) لاحظ: الحيوان، للجاحظ: ج2 /ص316 – 317.
(2) سورة ياسين. آية /13.
(3) جامع الأصول: ج7 /ص630. دمشق 1969 "وما منا... مدرج من كلام راوي الحديث. ابن مسعود، غير مرفوع كما قال البخاري وغيره.
(4) لاحظ: جواد، على: في كتابه الفصل ج6 /ص 802.
(5) العمدة: ج2 /ص 259. الطبعة الرابعة. بيروت 1972. دار الجيل.
(6) انظر المصدر السابق نفسه.(1/59)
وإيمانهم بباب الطيرة يدل على ضعف في "التسبيب" العقلي الذي كان عندهم، كما أنه يدل على عدم قدرتهم ربط المسببات بأسبابها ربطاً محكماً، ويدل كذلك على أنهم لم يكونوا يفهمون الارتباط بين العلة والمعلول.
وكانوا لا يتعمقون في بحث الأشياء، إنما كانوا ينظرون إليها نظراً عارضاً أو خاطفاً، يقفون عند الجزئيات، ولا يتعلقون بمدركات كلية "أو نظرات شاملة، وكل ذلك لا يوجد ضمن دائرة الحياة الحركية بعلمها كما هو الشأن في منظورنا المعاصر ومن هنا تكون أهمية تلك المفاهيم لأنها تكشف لنا عن قصور الوعي، كما تكشف لنا صورته عن الحياة الفطرية الساذجة عند العرب عصرئذ(1) .
وإذا كانت بعض هذه الأشعار التي تنفي الطّيرة أو تقول بها قد فضحت لنا ذلك المفهوم الفكري السلبي، فإنه من الواجب أن نؤكّد على فريق من العرب الذين لم يكونوا يؤمنون بالطيرة أو يعتقدون بها. وقد كان خزز بن لوذان السندوسي(2) في طليعة من ينكر الطيرة، وينسب إليه قوله(3) :
لا يمنعنّكَ من بُغا ... ءِ الخَيْرِ تَعْقَادُ التّمَائِمْ
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وكنْتُ لا ... أَغْدُو على واق وَحَاتِمْ
فإذا الأَشَائِمُ كالأَيَا ... مِنْ والأَيامِنُ كالأَشَائِمْ
وكَذلك لا خَيْرَ ولا ... شرَّ على أحدٍ بِدَائِمْ
قد خُطَّ ذلك في الزّبُو ... رِ الأوّليّات الْقَدَائِمْ
ولاشكّ أن هذا المفهوم الذي طرحته القصيدة يملك الأصالة الفكرية والمعاصرة، وأنّه مبني على نظرة دينيّة كما أشار الشاعر ذاته إلى ذلك في بيته الأخير.
الغيلان والسعلاة(4) ، ومزاعم أخرى:
__________
(1) لاحظ: شوقي ضيف في العصر الجاهلي ص/ 85. ط/ 3 دار المعارف.
(2) انظر أخباره في: المؤتلف والمختلف. /ص 102.
(3) تاج العروس (خزز) 4/ 34، والخزانة: 3/ 11.
(4) وقد تصف العرب العجائز والخيل بالسعلاة، انظر تاج العروس مادة (سعل).(1/60)
هناك أوهام أخرى وخرافات يعكسها الشعر السلبي تعتبر مأخذا سلبياً على الفكر العربي حتى المنظور المعاصر، إذ يطلعنا على نماذج أخرى من المعتقدات الجاهلية التي كانت تتحكم في حياة العرب، كما أن الوجه الإيجابي فيها، كشفها عن جذور كثير من المعتقدات التي ما زالت تعيش في حياة العرب حتى أيامنا هذه، فمعرفتها أمر مساعد للتخلص منها، وهي من جهة أخرى تعبر عن العقلية السامية التي لا تتخلى عن معتقد آمنت به مهما طال أبده، وتغير زمنه، وهي بهذا الشكل إنذار لنا لنتخلى عن هذا الجمود الذي ران على قلوبنا. والملاحظ أن هذه المعتقدات كثيرة، يهمنا أن نقف على الحي الباقي منها.
الغول من السّعال وجمعها غيلان، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول، والغضب غول الحلم لأنه يغتاله ويذهب(1) به.
هذا هو أصل المسألة القصة في (الغول) لكن المعنى اللغوي المجرد انقلب إلى صورة مادية حسية، فكانوا يزعمون أنه يعرض لهم في بعض الأوقات والطرق، فيغتال الناس، وأنه ضرب من الشياطين، حتى صار الشعراء يكثرون في وصف لقائها، فمنهم من يراها مرافقة له في القفار، ومنهم من يغالي فيزعم قتلها.
وأصل(2) هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة(3) . ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الأنس، استوحش ولا سيما مع قلة الاشغال والمذاكرين.
فقد ضل عبيد بن أيوب جوالاً في مجهول الأرض، فلما اشتد خوفه، وطال تردده، وأبعد، قال:
فلله درُّ الغول أيُّ رفيقةٍ ... لصاحب قفرٍ خائف متقتّرُ
أرنّت بلحنٍ بَعْدَ لَحْنٍ وأوقدتُ ... حواليّ نيراناً تلوح وتُزْهِرُ(4)
__________
(1) المعاجم العربية مادة "غول".
(2) الجاحظ، الحيوان: ج6 /ص 248 – 249.
(3) لحقته الوحشة والخوف والهم.
(4) الحيوان للجاحظ: ج6 /ص 248 – 249.(1/61)
واستدلال الجاحظ بهذا الذي سماه عبيد بن أيوب، يدل على أن الفكرة، وَهْمٌ يختلقها خيال الخائف المقفر، يجسدها عقله من ظلال الاحجار في القفار أو من ظلال النّيران الموقدة.
كذلك زعم الشاعر الجاهلي تأبط(1) شراً ذات مرة أنه لقي الغول في ليلة مظلمة، ومازال بها حتى قتلها، وقال(2) :
فلم أنفكُّ مُتَّكِئَاً عَلَيْهَا ... لأنظرَ مُصْبَحاً ماذا أَتَاني؟
إذا عينانِ في رأسٍ قَبيْحٍ ... كَرَأْسِ الْهَرّ مَشْقُوْقُ اللْسَانِ
ورجلا مخدج ولسان كَلْبٍ ... وَجِلْدٍ من قُرَابٍ أو شنَانِ(3)
وهذا زعم باطل، والأبيات إمّا أن تكون منحوله لتخدم اللغويين وإما أنه كاذب فيما ذهب إليه، وقد قصد ادعاء البطولة.
وحين جاء الإسلام نفى الغول المجسد مادياً في الصور المتعددة التي جسدها خيال الشعراء على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يستعرض بعضاً من معتقدات الجاهليين، فيبطل العدوى، ويبطل اعتقاد الشر في شهر صفر، وينبغي وجود الغول، فيقول: "لا عدوى، ولا صفر، ولا غولٌ(4) .
ولا أريد أن أتجاوز هذا المفهوم إلى غيره قبل الأداء بالحقيقة المؤلمة التي تشير إلى إيمان كثير من العرب المعاصرين بالآثار السيئة التي يخلفها شهر صفر – كما يزعمون أو بالغول وحديثها الذي مازال يأخذ دوره في ليالي الشتاء على موائد المواقد في قرى الجزيرة والفرات.
__________
(1) الحيوان للجاحظ: ج6 /ص 248 – 249.
(2) ثابت بن جابر بن سفيان (ت نحو 80. ق.هـ - 540م) شاعر عدّاء من فتيان العرب في الجاهلية.
(3) الأغاني، لأبي الفرج طبعة الساسي. ج8 /ص 212.
(4) مخدج: ناقص الخلق، والشواة، الأطراف، والشنان: جلد القربة البالية. والقصيدة في الحيوان منسوبة لأبي البلاد الطهوى.(1/62)
ومن مزاعم العرب الأخرى حية في البطن تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه وأنها تعدي، فأبطله الإسلام. وهذا زعم باطل، ولعلهم اعتقدوا ديدان البطن التي تخرج من الإنسان أحياناً نوعاً من الحيات خاص بالبطن فيكون القصور وعياً في الطب.
كذلك هناك حديث في الاعتقاد حول ما يسمى بهامة القبر، والهامة عند بعضهم اسم طير(1) . وكانوا يقولون: ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج من قبره هامة. ومعنى هذا الزعم الذي يبررون فيه أخذ الثأر والقتل، أن الإنسان إذا قتل، ولم يطلب بثأره خرج من رأسه طائر يسمى الهامة، ويظل يصيح على قبره: اسقوني!.. إلى أن يطلب بثأره.
والناتج السلبي في هذا المعتقد التقاؤه مع شعر التحريض من جهة، والقصور في لاوعي من جهة أخرى، وقد كان قاسماً مشتركاً، وإنذاراً للقتال كما في قول ذي الأصبع العدواني(2) :
يا عمرو إلاّ تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني
وحديث الحيوانات وشعرها لون آخر من ألوان الخرافة العربية في الجاهلية. فشعر نسبوه إلى الحيوانات، وآخر إلى الجن فيه معان سلبية.
فقد نسبوا شعراً للضب قاله حين خاصم ضفدعاً في الظمأ، أيهما أصبر، وكان للضفدع ذنب،وكان الضب ممسوحاً(3) . فلما غلب الضب أخذ ذنبها، فخرجا في الكلأ فصبرت الضفدع يوماً ويوماً، فنادت: يا ضب، وردا وردا، فقال الضبُّ:
أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا(4)
إلا عرادا عردا ... وصليانا بردا(5)
فلما كان في اليوم الثالث نادت الضفدع ياضب، ورداد وردا!. قال: فلما لم يجبها بادرت إلى الماء، ثم تبعها الضب، فأخذ ذنبها(6) .
__________
(1) الحيوان للجاحظ: ج3 /ص 442 وما بعدها. تحقيق عبد السلام هارون.
(2) النويري، نهاية الأرب ج3 /ص121.
(3) المسح: نقص وقصر في ذنب العقاب، ويقال مسحه بالسيف ضربه.
(4) إذا انتهى القلب عن شيء، صرد عنه.
(5) العراد: كالشحاب، وآخره دال: حشيش طيب الريح.
(6) الحيوان للجاحظ: ج6 /ص 125 – 126.(1/63)
ونستطيع اعتبار هذه الخرافة نوعاً من أنواع (الفابولا) العربية على الرغم من زعم بعض المستشرقين أنها اتخذت من بلاد الاغريق موطناً لها(1) .
وهذا الشعر بالمنظور المعاصر نوع من التعاليل التي قالها الأقدمون يبحثون فيه عن علل الأشياء في مظاهر الحياة. ويرى علماء الأساطير الطبيعيون، وعلماء الأساطير الفلكيون في الحكاية الخرافية محاكاة للظواهر الطبيعية أو الجوية(2) .
وحديث الضب موجود عند كثير من الشعوب، فأهل أمريكا الجنوبية يزعمون أن الإنسان سرق النوم من الضب الذي ينام دائماً(3) .
كما أن وجها معاصراً إيجابياً نلمحه في هذا الشعر، فمجموعه الدائر حول الخرافات، يعمق الإحساس بفكرة وجود الخرافات العربية التي لا ترجع إلى أصول هندية أو بوذية، أو فارسية.
وفي الوقت الذي "لا نستطيع أن نتعرف على أثر أية حكاية خرافية هندية في أوربا قبل القرن الثاني عشر(4) "، نستطيع أن نقول: إن العرب عرفوا الحكاية الخرافية قبلهم(5) ، عرفوها مبتدعين، لا ناقلين فحسب.
وهذا فيما نرى وجه إيجابي ناصع لمثل ذلك الشعر الجاهلي الذي يعلل بعض ظواهر الطبيعة من جهة، ويكون أساساً من أسس أدب الأطفال.
وليس أدل على ذلك من قصة تباري الضفدع مع الضب في الصبر على الظمأ، ففيها تعليل لظاهرة الذنب في الضب، ودليل على بواكير أدب الأطفال عند العرب.
__________
(1) انظر فون دير لايين، فريدريك: الحكاية الخرافية. ص32 ترجمة د. نبيلة إبراهيم، القاهرة 1965.
(2) المصدر السابق/ ص60.
(3) المصدر السابق /ص 86.
(4) المصدر السابق /ص 183.
(5) الحكايات الخرافية غير الأساطير. لاحظ فن الكتابة فن الحياة. د. أسعد علي. ص 158. دار السؤال دمشق 1977.(1/64)
لكن حديث خرافة الحيوانات ليس وحيداً، فهناك خرافات أخرى حول البشر. أي نوع من البشر؟.. إنهم الملوك، والأشراف! والحديث يتناول دمائهم التي تشفي من عضة الكلب الكلب، وتشفي من الجنون وهذه نظرية تقدس الملوك والأشراف، وتزعم أنهم مخلوقون من مادة أخرى، والدم الذي يجري في عروقهم غير دماء المملوكين فهم الملوك، دمهم دواء يراه فحول الأطباء فيقفون منه موقف المستسلم كما في قول الشاعر الجاهلي عاصم بن القرية(1) :
وَدَاوَيْتُه مِمّا بِهِ من جِنَّةٍ ... دمَ ابن كهّال والنِّطَاسُ واقفُ(2)
وقلّدته دهراً تميمةَ جدّه ... وليسَ لشيءٍ كادَه الله صاَرِفُ
وهذا مفهوم صنعه الملوك والأشراف، يهدف إلى إخضاع الجماهير والتسليم بما للملوك والأشراف من حق إلهي مزعوم في التحكم والحكم.
كما يهدف إلى حفظ دمائهم أن تهدر، مادامت بلسماً شافياً من مرضين يهابهما العرب، الجنون الذي يخشون التعاير به، حيث يكون المجنون الواحد من القبيلة مجالاً كبيراً لانتقاص قيمتها وهجائها والكلب الذي ينتشر بسرعة بين كلابهم التي لا تفارق موائدهم، ولا دوابهم حرّاساً أمناء.
وقد كان من المفترض على الشعراء أن يكشفوا زيف هذا المعتقد والهدف الأخير الذي يسعى إليه مشيعوه.
وفيما بعد اصطدم الجاحظ بهذا المفهوم ولم يقبله، ولكنه ذهب إلى تعليل الدم الكريم بالثأر الملمّ(3) ، بمعنى أنه لا يشفي مجنون الحي من آلامه على قتلاه إلا معركة يقتل فيها ملوك القوم وأشرافهم ثأراً لقتلى من به جنّة، فيشفى.
كذلك إذا كلب من الغيض والغضب فأدرك ثأره، فذلك هو الشفاء من الكلب، وليس أن هناك دماً يشربه.
__________
(1) الحيوان للجاحظ ج2 ص/ 8 – 7. طبعة عبد السلام هارون.
(2) المجنّة: الجنون، وابن كهال أحد أشراف العرب في عصر الشاعر.
(3) الحيوان للجاحظ ج2 /ص 7 – 8 وبلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب محمود شكري الألوسي، الطبعة الثالثة ج2. دار الكتب الحديثة القاهر، لا تاريخ.(1/65)
والأرواح عند الجاهليين تحل في مظاهر الطبيعة المحيطة بهم ويأتي عداء بينها وبين حيواناتهم... فإذا أوردوا البقر، فلم تشرب إمّا لكدر الماء أو لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم الماء، لأن البقر تتبعه، فكانوا إذا امتنعت ظنوا ذلك من عمل الجن، وإيحائهم(1) .
وفي حديث للأعشى ما يدل أن الشعراء عرفوا أصل الحكاية بوعي، فقال في ورد البقر الماء:
وَمَا ذَنْبُه إن عافتِ الماءَ باقِرٌ ... وما أَنْ تَعَافَ الماءَ إلاّ لِتَضْرِبَا(2)
وقد أدرك الجاحظ في كلامه السابق هذا المعنى فأتم الأَمْرَ. ومن الملاحظ أن هذا المعتقد ما زال موجوداً في قرى الجزيرة والفرات من بلاد الشام، وإن استبدلت بالبقر الأغنام.
وهناك أمور جاهلية أخرى مازال بعض العرب في أيّامنا يؤمنون بها. فقد كان الجاهليون يؤمنون بالعين التي إذا أصابت قتلت، وهم يقولون عن المصاب بالعين رجل تعيّن، إذا أخذ بالعين. ويقولون: أن العين تسرع بالإبل، أي تذهب بها.
والتعشير، مزعم ومعتقد واهٍ عند العرب في الجاهلية، مفاده أن الرجل فيهم إذا أراد دخول قرية يخاف وباء فيها، وقف على بابها فعشّر،
وهو أن ينهق كما ينهق الحمار، فإذا دخلها لم يصبه وباؤها(3) ، كما في
قول عروة بن الورد(4) :
لَعَمْرِي لَئِنْ عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع
ومن أهم تلك المفاهيم السلبية ذات الآثار المادية السيئة نكاح المقت وحبس البلايا.
__________
(1) الحيوان للجاحظ ج1 /ص 18. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة.
(2) علي، جواد المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج6 /ص 355 وما بعد.
(3) نهاية الأرب، للنويري. ج3 /ص 125.
(4) المصدر السابق نفسه. وعروة بن الورد بن زيد عبسي، من غطفان: من شعراء الجاهلية وفرسانها، كان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم.(1/66)
وأما نكاح المقت فهو أن يأتي أكبر أولاد الميت، فيلقي ثوبه على امرأة أبيه بعد وفاته، فيرث نكاحها(1) ، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض أخوته بمهر جديد، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال، وكان هذا شأنهم حتى نزلت الآية الكريمة، "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضُلُوهن(2) "، ثم فصّح القرآن وحرم فقال: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة وساء سبيلا".
وكون المرأة متاع يورث، أمر قائم في كثير من الحضارات القديمة، فهي في بلاد اليونان من جملة مقتنيات الرجل تنتقل بعد وفاته لمن يريد، وما عليها إلا الطاعة. ولم يكن هذا الأمر مقصوراً على زوجه، بل كان معمماً على ابنته(3) .
ومع اعتراف المجتمع الجاهلي بوجود هذا الزواج إلاّ أنه كان مقيتاً، ويعيّر به أهله، ولذا سمّي بزواج المقت(4) ، وكان الشعراء اتخذوا منه مواقف إيجابية فأنكره أوس بن حجر التميمي، في هجائه لبني قيس:
والفارسيّة فيهم غَيْرُ مُنْكَرَةٍ ... فكلّهم لأبيه ضَيْزَن سلف(5)
ويبدو أن الدافع الأساسي والمنطلق الرئيسي في هذا الزواج هو الاحتفاظ بميراثها لأهل المتوفى من الذكور(6) .
__________
(1) وهو ليس جمعاً بين أختين كما ذكره شوقي ضيف في العصر الجاهلي. ص 75، الطبعة الثالثة. دار المعارف بمصر.
(2) سورة النساء آية 19.
(3) C.Letouraau; la candititon de ga Fe mme P.416 - 423.
... تصدير بينهم. من كتاب (المرأة في التاريخ والشرائح ص/ 67.)
(4) لسان العرب ج7 ص/90.
(5) والضَّيْزَن هو الذي يملك أباه على امرأته إذا ما طلقها، أو مات عنها.
(6) المحبّر ص 32 وبلوغ الأرب ج2 /52.(1/67)
وحبس البلايا مرتبط بالموت، فإذا مات الرجل منهم، كانوا يشدون ناقته إلى قبره، ويعكسون رأسها إلى ذيلها، ويغطون رأسها بوليّة (وهي البردعة)، فإن أفلتت، لم تُرَدُّ عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك ليركبها صاحبها في المعاد ليحشر عليها، فلا يحتاج أن يمشي.
ويجب إن نعرف القيمة العصرية لمثل هذا الشعر، فهو وإن يكن دالاً على سلبية في المفاهيم: إلا أنّه أرّخ لنا تاريخاً فنياً حياة العرب الفكرية في الجاهلية لدرجة أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في يوميات الإنسان العربي إلا سجلها.
ثم إن الحديث عن هذه المعتقدات والخرافات، والتقاليد والعادات يشكل جسراً بين المناحي الفكرية، والمناحي الاجتماعية، فالأمة لها عاداتها وتقاليدها الاجتماعية الخاصة التي يوحي بها إيمان راسخ في نَفْعِ أو ضرّ تلك العادات، وتلك التقاليد.
وهناك معتقدات فكرية خاصة تفضح كثيراً من سلبيات الجاهليين وتقدم لنا صورة عن وعيهم الاجتماعي والعقلي، فيكون الشعر الذي يكشفها قد قدم نفسه إيجابياً مسفراً عن وجه حقائق قاصرة.
وعقد الرتم(1) ، صورة من صور تلك المفاهيم، وهو أن يعمد الجاهلي النّاوي على السفر إلا رتم فيعقده، فإن رجع ورآه معقوداً، زعم أن امرأته لم تخنه، وإن رآه محلولاً زعم أنها قد خانته، وقد أدرك بعض شعراء الجاهلية فساد هذا المعتقد، وسلط الأضواء على الحقيقة القائمة بعيداً عن الاغترار بالحلف وبعقد الرتم، فقال(2) :
خَانَتْهُ لمّا رأت شَيْباً بمفرقه ... وَغَرَّهُ حَلْفُها والعقُد للرَّتَمِ
وهذا من المفاهيم التي مازالت سائدة في قرى الجزيرة والفرات، حيث يعمد المسافر إلى شجرة فيشد غصنين منها!..
وشاعر آخر وضع يده على الحقيقة الحافظة للمرأة حيث يكون المرء مقياس الأفكار والمعتقدات، فقال:
__________
(1) الرتم نبت، والرتيمة خيط يشد في الأصبع لتستذكر به الحاجة.
(2) نهاية الأرب، النويري: ج3 /ص 125.(1/68)
إذا لم تَكُن حاجَاتُنا في نفوسِكم ... فليس بمغنٍ عَنْك عقدُ الرّتَائِم(1)
ويبقى هذا الشعر ظلاً لحقيقة يشير إليها البيتان السابقان، تتمثل في معنى انتشار ظاهرة الخيانة الزوجية، وتستند على علاقات الشك التي تدفع الرجل إلى اتخاذ مظاهر الطبيعة الثابتة أو المتحولة دليلاً قطعياً يقيه شر الظن، ويضعه على قاعدة من اليقين، حيث يخبره مظهرها عن حقيقة ما جرى في غيابه!...
كما يشير هذا المفهوم إلى ظاهرة البغاء الذي لم يكن محموداً عند العرب وهو كذلك دليل على سبب مقت العرب للمرأة في الجاهلية خيفة العار.وهذا ينفي ادعاء بعض الباحثين من أن العرب لم يعتبروا البغاء عيباً(2) ، بل اعتبروه من إمارات الرجولة. فقد ضرب بعض النساء الحرائر أروع أمثلة الوفاء للعهود الزوجية خلال التاريخ(3) .
__________
(1) انظر مختار الصحاح (رتم)
(2) علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج5/ 133.
... كان بعض أغنياء الجاهلية يستغل رقيقه، ويكره فتياته على البغاء ليأخذ ما يأتين به من مال.وفي ذلك نزل قوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أَرَدْنَ تحصناً، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا "سورة النور: الآية 33. ومختصر الأمر: أن الزّنا كان منتشراً بين العرب في الجاهلية وهو عار كبير في مجتمع الرجال والنساء إذا كان في الحرة. ولما نزلت الآية: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألاّ يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم". الممتحنة/ 12 وفرغ الرسول من بيعة الرجال بمكة واجتمع إليه نساءٌ من قريش فيهن هند بنت عتبة، وأخذن يبايعن الرسول فلما وصل إلى قوله تعالى (ولا يزنين)، قالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟. انظر تاريخ الطبري، فتح مكة.
(3) بلوغ الأرب، النويري: ج1 /149.(1/69)
بالإضافة إلى كل ما تقدم هناك مجموعة من المواقف الاجتماعية التي اتخذها الشعراء من المفاهيم السلبية التي كانت سائدة ديار العرب في الجاهلية. وما زال الشعر يخدمنا في كشف هذه المفاهيم السلبية المعتقدات الفكرية الوهمية بما فيها من سلبيات كانت خاضعة للظروف التاريخية التي مرت على الجزيرة العربية قبل الإسلام.
ويمكن للباحث أن يلاحظ ترابطاً بين شتى المناحي الاقتصادية والاجتماعية، والفكرية في الحياة العربية القديمة.
وأما الطبيعة الجماعية لهذه المناحي فواضحة. تتجلى بطبيعة الحياة العربية في بيئة صحراوية متشابهة. ويكون من الواضح أن هذه البيئة قادرة على ولادة مفاهيم وهمية متشابهة في هذه الصحراء الضارية. فيكون الوجود سيداً في المجموعات والمفاهيم التي تظهر لنا متناقضة في حين يجمعها خيط مشترك. ولنتسائل عن العلاقة بين انحباس الأمطار والسيول المندفعة من البطاح والنار التي توقد للاستمطار! إنها بلا شك محاولة الحفاظ على هذا الوجود.
فمن هذه المفاهيم التي كانوا يؤمنون بها معتقدهم في النيران. وقد خلدها شعر المقطعات فدل على عقلية قاصرة، وكان سجلاً خالداً بدقيق المفاهيم والأفكار التي كانوا يؤمنون بها. ويبقى هذا الشعر إيجابياً لعقلية سلبية قاصرة فقد قرنت النيران بأحداث حياتها، فهناك نار الاستمطار التي يلجأون إليها إذا احتبس(1) المطر، ثم يصعدون بها في الجبال الوعرة ويشعلون فيها النار، زاعمين أن ذلك سبب للمطر. كما في قول أمية بن أبي الصلت(2) :
سلعٌ ما، ومثله عَشَرٌ ما ... عائلٌ ما، وَعَالَتِ البِقْوَارُ
__________
(1) هناك في الإسلام ما يعرف بصلاة الاستسقاء وهي طلب السقيا من الله تعالى عند حصول الجدب. وانقطاع المطر.
(2) العسكري، أبو هلال الأوائل:ج1 ص/ 35. والبقور في البقر. والبيت في حيوان الجاحظ. ج4 – ص/ 469.(1/70)
وهناك نار الحلف التي يوقدونها، ويعقدون حلفهم عندها، ويذكرون منافعها ويدعون بالحرمان والمنع على ناقض العهد، قال(1) أبو هلال العسكري: وإنما كانوا يخصون النار بذلك دون غيرها من المنافع لأن منفعتها تختص بالإنسان لا يشركه فيها شيء من الحيوان. قال أوس بن حجر(2) :
إذا اسْتَقْبَلته الشّمْسُ صدّ بوجههِ ... كما صدَّ عن نّارِ المهوِّل حَالِفُ
وهناك مفهوم إيجابي تقدمه النار وذلك حين توقد لفضح من يغدر من العرب. فإذا غدر الرجل بجاره أوقدت له نار بمعنى أيام الحج على الأخشب(3)، ثم صاحوا هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم:
فَإن نَهْلِكْ فَلَمْ نعرف عُقُوقا ... وَلَمْ تُوْقَد لَنَا بالْغَدْرِ نارُ(4)
ولكن بعض الباحثين نظر في آخر هذه النار بمنظور المعاصرة، فرفض أن تكون النار والفعل حقيقة، وحمل الأمر على المجاز، مدّعياً أنه لا يجد عليه الدليل في مراجع التاريخ والأدب، ورفض أن يُشْرح قول الحادرة الشاعر الجاهلي:
اسمّى وَيْحَك هل سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ ... رُفعَ اللواء لَنَا بها في مَجْمَعِ
على الحقيقة التي أخذ بها بعض الشراح القدماء القائلين "وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له بسوق عكاظ لواء ليعرّقه. الناس "وحاول الباحث في شرحه أن يذهب إلى تأكيد المجاز ناسباً إباه لشرّاحٍ آخرين لكنّه لم يذكرهم مع الأسف، وبقى قوله عاجزاً عن إقناع القارئ(5) .
ولاشك أن النظرة العصرية لا تر هذه النار هي التي حملت الشارح الحديث على اعتبار ذكرها من المجاز.
__________
(1) المصدر السابق
(2) المصدر السابق.
(3) الأخشب: جبل مطلّ على منى.
(4) لاحظ في المفاهيم الإيجابية: تسجيل خيانة البائل وذمها.
(5) النويهي، محمد الشعر الجاهلي: ج1 /ص 218.(1/71)
وقد لجأ الجاحظ في حيوانه(1) إلى تعليل معظم خرافاتهم، وأوهامهم وحاربهم بالنفي. وتوسع فقيه الأندلس ابن حزم(2) في تعليله الظواهر ومحاربته الأوهام والخرافات التي صارت إلى الإسلام، فاعتقدها الناس من الدين وما هي منه بشيء حتى زعم قوم أنّ الفلك والنجوم تعقل، وأنها ترى وتسمع.. وهذا دعوى بلا برهان، وصحة الحكم بأن النجوم لا تعقل أصلاً(3) ..." وذكر حديثاً مطولاً عن منابع الأنهار، وأن اليهود وبعض العامة يزعمون أن أنهار النيل، وجيحان، ودجلة والفرات تخرج من الجنة، وتسقي جميع المعمور. وقد ورد هذه المزاعم ورفضها مبيناً منابع هذه الأنهار.
وهكذا يكون حديث الخرافات في الجاهلية أساساً آخر يضاف إلى مجموعة الأسس التي دخلت الدين الإسلامي واستمرت فيه، ثم أصبح جزء منها على رفوف الصحاح معتقداً، كما في حديث الدجّال حين جمعَ نداءٌ أمرَ به رسولُ اللهِ الناسَ، ثم قال:
__________
(1) لاحظ الحيوان الجاحظ: تحقيق محمد عبد السلام هارون ج1/ 18 ج2/ 7 – 8 وما بعد.
(2) فقيه وأديب الأندلس، صاحب طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاَّف ت 456 هـ.
(3) الملل والنّحل، للشهر ستأتي. ج5 /ص 36 – 38. القاهرة 1168م.(1/72)
"أتدرون لما جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم"، قال: إني والله ما جمعتكم رغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أَقْرُب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أَهْلَبُ، كثير الشعر، لا يدرون ما قُبُله من دُبَره، فقالوا ويلك، ما أنت، قالت؟ أنا الجساسة قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل الذي في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمّت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أَرْفَأْنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقرُبِهَا(1) فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا ندري ما قبله من دبره من كثيرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجسّاسَة(2) ، قلنا: وما الجسَّاسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال: أخبروني عن نخل بيسان(3) ،
__________
(1) أقرب: القارب، سفينة صغيرة، ولعل أقرب جمع قارب وليس معروفاً ففي جمع فاعل أفعل.
(2) فعالة، من التجسس: وهو الفحص عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال ذلك في الشر.
(3) بيسان: مدينة في فلسطين..(1/73)
قلنا: عن أي شأنها تستخبر، قال: أسألكم عن نخلها لعل يثمر؟ قلنا له: نعم قال: أَمَا إنَّه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن مائها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغر، قالوا: عن أي شأنها تستخب؟ قال: هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين، قلنا له نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبيّ الأميّين، ما فعل؟ قالوا خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه، أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، أنا المسيح(1) وإني أوشك أن يؤذن ليّ في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها، في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أردت أن أدخل واحدة، أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها، وأن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها(2) ...".
ولاشك أن الحديث غير صحيح بالرغم من وجوده في الصحاح، لا نرى فيه إلا نفس الخرافة السلبية الأوهام انتقلت من حديث العامة إلى كتب الأحاديث النبوية على أنها حديث صحيح!... وهي في واقع الحال موجودة في كتب الأدب في باب قول الجن الشعر على ألسنة العرب(3) .
__________
(1) الدحال: أي الكذاب، وهو اسم لهذا الرجل المشار إليه في الشريعة.
(2) أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، جامع الأصول: ج10 /ص 332 وما بعدها. دمشق 1972م.
(3) جمهرة أشعار العرب، أبو زيد القريشي: ج1 /53 – 55 – 56. دار النهضة بمصر. القاهرة 1967م.(1/74)
ففي خبر للعلاء بن ميمون الآمدي يرويه عن أبيه، قال: ركبت بحر الخزر أريد ناجورا، حتى إذا ما كنت غير بعيد لجج مركبنا فساقته ريح الشمال شهراً في اللجة، ثم، انحرف بنا، فوقعت أنا ورجل من قريش إلى جزيرة في البحر ليس فيها أنيس، وإذا فيها شجر طوال وطيور منكرة فجعلنا نطوف، ونطمع في النجاة، فبينا نحن كذلك إذا أشرفنا على غار بعيد يخرج منه دخان، وإذا بشيخ مستند إلى شجرة عظيمة فلما رآنا تحشحش تحشحشا(1) ، وأناف(2) إلينا، ففزعنا منه فزعاً شديداً ثم دنونا منه، وقلت: السلام عليك أيها الشيخ. قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فآنسنا به، وقعدنا بجنبه، فقال: ما خطبكما وما شأنكما؟.
فأخبرناه أنّا من ولد آدم، فضحك، وقال: ما وطئ هذا المكان أحد من ولد آدم قط، فمن أنتما؟ قلنا: من العرب! قال: بأبي وأمي العرب، فمن أيها؟ قلت: أما أنا فرجل من خزاعة، وأما صاحبي فمن قريش، قال: بأبي وأمي قريش وأحمدها! ثم قال: يا أخا خزاعة، هل تدري من القائل(3) :
كَأن لم يكن بَيْنَ الحجُون إلى الصّفا ... أَنَيْس ولم يَسْمُر بمكَّةَ سَامرُ
بلى، نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صروفُ اللّيالِي والجدُودُ الْعَوَّاثِرُ
قلت: نعم، ذلك الحارث بن مضاض الجرهمي. قال: ذلك مؤدّيها وأنا قائلها في الحرب التي كانت بينكم معشر خزاعة وبين جرهم.
يا أخا قريش، أولد عبد المطالب بن هاشم؟ قال: قلت أين يذهب بك رحمك الله؟ نعم، ومات مذ دهر طويل، فارتاع وقال: أرى زماننا قد قارب آبّانه، أفولد ابنه عبد الله؟ قلنا: وأين يذهب بك؟ إنك لتسألنا مسألة من كان في الموتى ثم بعث.
قال: فتزايد ثم قال: فابنه محمد الهادي؟ قلت هيهات!... مات
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أربعين سنة.
__________
(1) تحشحش: تحرك.
(2) أناف: أشرف وأطل.
(3) البيتان في السيرة الحلبية منسوبان إلى عمرو بن الحارث.(1/75)
قال: فشهق حتى ظننا أن نفسه قد خرجت، وانخفض حتى صار كالفرخ يرتعد، وأنشأ يقول:
ولربّ راجٍ حِيْلَ دَوْنَ رَجَائِه ... وَمُؤَمّل ذَهَبَتْ بِهِ الآَمالُ
ثم جعل ينوح ويبكي حتى بل دمعه لحيته، فبكينا لبكائه. ثم قال: ويحكما، ممن ولى الأمر بعده؟ قلنا: أبو بكر الصديق، وهو رجل من خير أصحابه، قال: ثم من؟ قلنا: عمر بن الخطاب. قال: أفمن قومه؟ قلنا: نعم. قال: أَمَا إن العرب لا تزال بخير ما فعلت ذلك.
قلنا: أيها الشيخ، قد سألتنا فأخبرناك، فنسألك بالله إلا أخبرتنا من أنت؟ وما شأنك؟ قال: أنا السفاح بن الرقراق الجنيّي، لم أزل، مؤمناً بالله ومصدقاً برسوله، وكنت قرأت التّورَاة والإنْجِيْل، وكنت أرجو أن أرى محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فلما تفرقت الجن، وتطلقت الطوالق المقيدة من وقت سليمان عليه السلام أخبأت نفسي في هذه الجزيرة لعبادة الله تعالى وتوحيده وانتظار نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وآليت على نفسي أن لا أبرح هنا حتى أسمع بخروجه، ولقد تقاصرت أعمار الآدميين وإنما صرت إلى هذه الجزيرة منذ أربعمائة عام، وعبد مناف إذ ذلك غلام يَفَعَة، ما ظننت أنه ولد له، وذلك أنا نجده في علم الأحداث ولا يعلم الآجال إلا الله تعالى. والخير بيده، وأما أنتما أيها الرجلان فبينكما وبين الآدميين من الغامر مسيرة أكثر من سنة، ولكن خذا هذا العمود، وأخرج عموداً من تحت رجله، فاكتفلا به كالدابة إذا نام الناس، فإنه يؤديكما إلى بلدكما، وأقرئا قبر نبيكما السلام، فإني طامع بجوار قبره. قال: ففعلنا ما أمرنا به فأصبحنا في مصلى آمد.
لقد أخذنا هذا النص على طوله لنقارنه بالحديث الذي يزعم المحدّثون صحته، ولنرى مدى الخطر الذي أدخلته الأوهام الفكرية على الدين الإسلامي.(1/76)
بالمركب الذي أبحر شهراً واحد في الحديث المزعوم، وفي الرواية القصصية، والشيخ المستند إلى شجرة عظيمة في القصة الطريفة، إنسان عظيم مجموعة يداه إلى عنقه، وهو يسألهم وهم يجيبونه، ويلاحظ تركيز الأسئلة حول شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وظهوره، في الخبرين مع طول الخبر الثاني.
في نهاية حديثنا عن السلبي في شعر الخرافات، من خلال استعراض بعض المفاهيم الفكرية التي عرضت بقالب خرافي، نشير إلى النتيجة التي تعتمد التغليب في مذهب السلبية، حيث كان لكل مفهوم منظوران، واحد سلبي والآخر إيجابي، بحسب المنطوق العصير، ويبقى التغليب السلبي هو الدافع نراه حصر هذه المفاهيم في هذا الفصل.
(
المناحي الاقتصادية
لاشك أن الأساس الذي قامت عليه نظرية الكرم الجاهلي، وإحلاله منزلته العالية في قائمة الفضائل والقيم العربية، هو أساس اقتصادي.
كما أن هذا الجانب الاقتصادي هو أحد العوامل التي دعمت نظرية الشك في كثير من الشعر الجاهلي عند طه حسين، الذي كان يرى أن الشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها(1) ويعترض على هذا الجود والكرم من خلال تلمّس الحياة الجاهليّة في القرآن لا في الأدب الجاهلي.
ولمّا كان القرآن(2) يلح في ذم البخل ويلح في ذم الطمع، فقد اعتبر البخل والطمع من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية.
__________
(1) حسين، طه في الأدب الجاهلي. ص/ 77 دار المعارف بمصر، ط2، 1927م.
(2) أكد ذلك بالآية: "إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا".(1/77)
وإذا كنا نرى البخل والطمع سلبية في الفضائل العربية الجاهلية، فإننا لا نؤيد الدعوة إلى تلمس الحياة الجاهلية في القرآن فقط، وسوف نرى أن بعض المقطعات الشعرية تكشف لنا صورة المجتمع الجاهلي، وتمثل كثيراً ممن يزّورون الفضائل في سبيل جمع المال، كما تمثل البخل الفردي والقبلي، إلى جانب صور الكرم الجاهلية المعروفة، وعلى كل حال يبقى تصوّر طه حسين خاطئاً.
وقد كفانا مؤونة الرد عليه تلميذ له مخلص المودة، فناقش موقف أستاذه من إيمانه بقية التناقض بين الصورة التي يرسمها القرآن، والصورة التي يعتقد أن الشعر الجاهلي يرسمها لكرمهم، والتي جعلها حجة من حججه في رفض صحة هذا الشعر وإثبات بخله، واعتبر أن أستاذه قد "أخطأ الدلالة الصحيحة التي يدلها الشعر الجاهلي، وظنها مناقضة للصورة التي يرسمها القرآن، والحق أن لا تناقض، فالشعر الجاهلي يرسم للعرب الجاهليين صورة الكرم التام إلا إذا أخطأ الاستنباط وغفلنا عن دلالة الكلام(1) ".
فإذا تركنا الأستاذ وتلميذه، وذكرنا مرة أخرى بطبيعة هذه الدراسة في سعيها إلى بيان المفاهيم المتعددة من خلال المواقف السلبية والإيجابية، تبيّن لنا أن الشعر الذي يتناول قضية البخل، يكشف لنا عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي كانت تتحكم بظهور قيم معينة في حياة العرب، وتؤكد قلة القيم النفسية الحرّة.
وهذا الأمر نستنبط منه حكماً مفاده أن تلك القيم يمكن أن تتغير بتغيّر البيئة والمحيط والقوى الخارجية التي تحيط بالمجتمع العربي، وهذا يكذّب نظرية العقلية الآسيوية التي تغنى بها المستشرق الفرنسي "رينان(2)
__________
(1) النويهي، محمد: الشعر الجاهلي: ج1 /ص 233، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة بلا تاريخ.
(2) لاحظ رينان في كتابه "تاريخ اللغات السامية المقارن.
Histoine generale. Et systeme Comparedes lanques.
... ولاحظ مقالة "الشعوبية المعاصرة" المجلة العربية، العدد /4/ السنة الرابعة، بقلم. د. بكري شيخ أمين.(1/78)
من جهة ثبوت القيم وتحوّلها.
إن الجوانب السلبية في شعر البخل كما يراها الجاهليون، خلل بميزان الحياة الاقتصادية من حولهم.
فالحياة البدوية المهددة دائماً بانحباس المطر تجعل الأغنياء عرضة للفقر، والفقراء عرضة للغنى، وهذا يفرض على الجاهلي أن يكون كريماً كي يحمل الآخرين على معونته إذا افتقر. وقد عبّر عن هذا المعنى أحد شعرائهم، فقال(1):
وإنّكَ لا تَدْري إذا جَاءَ سَائِلٌ ... أَأَنْتَ بما تُعْطِيْه أَوْ هو أَسْعَدُ
عَسَى سائِلٌ ذو حاجَةٍ إذا مَنَعْتَهُ ... من اليوم سُؤلاً أَنْ يكونَ له غَدُ
وَفَي كَثْرَةِ الأيدي لذي الجَهْلِ زَاجِرٌ ... للْحِلْمِ أَبْقَى للرجَالِ وَأَعْوَدُ(2)
وهذا يثبت نظرية الكرم المبنيّة على أساس الخوف من الحاجة الاقتصادية. فيكون هذا المفهوم إيجابياً بالنسبة لانتشار قيمة الكرم تحت سيف الحاجة وسلبياً لأنه ينهي القيم النفسية التي محتها من النفوس صحراءٌ مُجْدِبَةٌ قاحِلَةٌ ونفر عميم ضارب أطنابه في القبائل العربية هنا وهناك، وربما كان هذا الوضع الاقتصادي المؤلم يحتاج إلى مواقف البخل أحياناً، أو فلنقل الحرص. فالأبيات تدعو إلى إعطاء السائل(3) دون منّةٍ، فإنه لا يعلم أحد ما تأتي به الأيام. فالدهر يومان يوم لك ويوم عليك.
فكأن هذا العمل نوع من التوفير الاقتصادي، أو رصيد عينيّ من السلع الاقتصاديّة يُدْفَع حين الحاجة.
__________
(1) حماسة أبي تمام: ج2 باب الأدب، رقم 19 والقطعة غير منسوبة.
(2) الجهل هنا بذاءة اللسان وفحش القول في خفة وطيش،وقوله وفي كثرة الأيدي معناه كثرة الإخوان والأعوان.
(3) وقد أخطأ محمد عبد المنعم خفاجي، حين حمل المعنى على أن ما يصل إلى المعطى من المكافأة والثناء وأنفع... وألحق أن الشاعر يريد أن يقول: أعطه اليوم ليعطك إذا اغتنى وافتقرت فيكون عطاؤك أنفع لك في المستقبل.(1/79)
وربما هاجر الفرد من رهطه إلى قبيلة أخرى ساعياً وراء عيشه، و لكنه لا يجد ما يسد رمقه، فيضطر إلى كشف البخل الجماعي للقبيلة كلها، ويؤكد بخلها على من ليس ذا نسب قريب فيها، فيقول(1) :
لعمري لرهطُ المَرْءِ خير بَقيّةٍ ... عَليه وَإنْ عَالُوا به كلَّ مَرْكَبِ(2)
من الجَانبِ الأَقْصَى وإِنْ كانَ ذا غنى ... جزيل ولم يخْبِرْكَ مثلُ مُجرّبِ
إذا كُنْتَ في قَوْمٍ ولم تكُ منهُمُ ... فَكُلْ ما عُلِفْتَ من خبيثٍ وطيّبِ
فهذه المقطوعة تكشف عن أمر مهم يظهر في وحدة القبيلة الاقتصادية خوف الفقر والحاجة، فخيراتها محصورة على أفرادها، وليس للغريب إذا أراد ان يحيا فيها إلا أن يأكل ما تقدمه له مهما كان خبثه أو طيبه.
ويتجاهل المنأى الواسعَ في الأرض للكريم الذي لا يصبر على الأذى، فيدعو إلى البقاء مع رهط الرجل، و إن أركبوه المراكب الصعبة، لأنهم – في رأيه – أنفع في إيصال الخير، ودفع المضرّة من الأباعد، وإن كانوا أصحاب مال كثير.
__________
(1) حماسة أبي تمام ج1/ ص201 – القاهرة 1374 هـ - 1955م مطبعة محمد علي صبيح.والأبيات غير منسوبة.
(2) انظر السعي وراء الحرية، في المناحي الفكرية الإيجابية في العصر الإسلامي.(1/80)
إنه يريد أن يحمّل الناس مَحْمَلاً صعباً حين يقارن بين ذل رهط المرء له، وذل القبيلة التي لجأ إليها، فيفضل ذل جماعته. وإن أركبوه مركباً صعباً. فالحاجة الاقتصادية دفعته إلى تفكير اقتصادي سلبي حين وازن بين ذلين، واختار الأهون منهما، في حين يجب على المرء أن يتحمل مشاق الرحيل والهجرة من مكان إلى آخر حتى يجد العزة والكرامة والحياة الأفضل. كما كان شأن الشنفرى الجاهلي وغيره من الشعراء الإسلاميين وكما فعل المعاصرون من أبناء سورية ولبنان في القرن الماضي حين ازدادت الأحوال سوءاً فهاجر كثير منهم ليستبدلوا بالفقر غنى، وبالضعف قوة وبالعبودية حرية. ولم يقرنوا بين الذل الذي كانوا يعانونه في وطنهم والذّل الذي صادفوه في غربتهم، بل تحركوا من مكان لمكان بحثاً عن الحرية، وعن الحياة الأفضل.
وهذا شاعر(1) آخر يشكو إساءة الجيرة ويصوغ شكواه في تهكّم وسخريةٍ لاذعةٍ، ويندم على تركه لقومه، وقد كان فارقهم مرغماً لهم وجاور كَلْبَاً فلم يحمد جوارهم ففارقهم ذاماً لهم، وهو يقول(2) :
فَنِعْمَ الحيُّ كلْبٌ غيرَ أَنّا ... رَأَيْنَا في جِوَارِهم هَنَاتِ
وَنِعْمَ الحيُّ كَلْبٌ غيرَ أَنَّا ... رُزِئْنَا من بنيْنَ وَمنْ بَنَاتِ
فإن الغَدْرَ قد أَمْسى وَأَضْحَى ... مُقيماً بَيْنَ خَبْت إلى المساتِ(3)
تَرَكْنَا قَوْمَنا مِنْ حَرْبِ عَامٍ ... ألا يَا قَوْمِ لِلأَمْرِ الشّتَاتِ
وَأَخْرَجْنَا الأَيَامَى من حصوْنٍ ... بها دارُ الإقَامَةِ وَالثّبَاتِ
__________
(1) هو البرج بن مُسْهر الطّائي، من معمّري الجاهليّة وكان خليلاً للحصين بن الحمام ونديماً له على الشراب. ثم جرت بين قبيلتيهما حرب فوقع أسيراً فعرف الحصين حق عشرته له فمنّ عليه وجزّ ناصيته وخلّى سبيله ثم ذهب إلى بلاد الروم فلم يعرف له خبر. الحماسة ج1/ 202.
(2) حماسة أبي تمام ج1/ ص202، القاهرة 1374 هـ، 1955م.
(3) خبت والمسات: ماآن لكلب.(1/81)
فَإنْ نَرْجعْ إلى الْجبَلَيْنِ يَوْماً ... نُصَالح قَوْمَنا حتّى الْمَسَاتِ(1)
واضح أَن الطمع والبخل قد دفع الكلبيين إلى الغدر، وهذه آفة من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية(2) .
إن بخل هؤلاء قد بلغ في نظر الشاعر درجة الغدر(3) . فقد لاقى منهم الأمور المنكرة، وتألم لما فعلوه بهن فاستخدم الاستثناء المنقطع – في الناحية الفنية – مرتين، ليظهر فجيعته، و يعم الغدر في بني كلب فيراه مقيماً في كلب بين مائيها من خبت إلى المسات.
ثم أظهر ندمه على مفارقة قومه، وتذكر صور الحرب التي جعلته يجلو عنهم والأيامى الذين حصدت الحرب أزواجهم، وتعلم من هذه الحياة قيمة المحبة والسلام فصار يعد بالصلح والسلامة أن عاد إلى قومه.
فإذا عدنا إلى الواقع التاريخي والاجتماعي الذي تبرزه هذه المقطوعة نرى الطمع والبخل في أفراد القبيلة الكلبية بحيث اجتمعوا على إيذاء جارهم المستجير بهم خلافاً لما هو معروف عند العرب من حماية الجار المستجير، وهؤلاء وأمثالهم حاربهم القرآن في قوله: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً سعيرا" وأظهر الشعر غدرهم وطمعهم، لبخل فيهم.
ونتجاوز البخل والطمع والغدر في البعيدين عنهم، لنقف عند ظاهرة اقتصادية أخرى فيها كشف لقيمةٍ سلبيّةٍ مماثلةٍ تظهر في بخل الأقارب فقد جاءت أشعار عن جوانب أخرى حيث يختل الوضع الاجتماعي ويفقد توازنه تحت تأثير الحاجة فتبخل الأم على أولادها، مدّعية التقتير؛ عندها تختل الموازين التربوية أيضاً، فتبدأ المخاتلة والمراقبة حتى إذا انتهز الواحد من هؤلاء فرصة غياب أمه في بعض حقوق أهلها، دخل الخيمة وأخذ ما يريد ثم خرج، يقول(4) :
__________
(1) أجأ وسلمى.
(2) حسين، طه: في الأدب الجاهلي ص77.
(3) النويهي، محمد: الشعر الجاهلي ج1/ ص239.
(4) وهو المزّرد بن ضرار أخو الشمّاخ بن ضرار الشاعر الذبياني الغطفاني أدرك الإسلام وكان هجّاء.(1/82)
ولمّا مضت أُمّي تزورُ عيالَها ... أَعَرْتُ على العكم الذي كان يُمْنَعُ(1)
خَلَطّتُ بصاعَيْ حنطةً صاعَ عَجْوَةٍ ... إلى صَاع سَمْنٍ فَوْقَهُ يتربَّعُ
وَدَبَّلْتُ أمثالَ الأَثَافِي كأنَّها ... رؤوس رِخَالٍ قُطّعَتْ لا تُجَمَّعُ(2)
وقلُت لِبَطْنِي أَبْشِرِي اليومَ إنّه ... حِمى أُمَّنَا مما تفيدُ وَتَجْمَعُ
فَإنْ كُنْت مصفوراً فهذا دواؤه ... وَإِنْ كُنْت غَرْثانا فَذَا يَوم تَشْبَعُ
هذه المقطوعة وثيقة اقتصادية تكشف كثيراً من السلبيات التربوية التي لجأت إليها الأم في محاولة التقتير، أو في بخلها فدفعت ابنها إلى السرقة التي لا يأثم صاحبها... كما أنها تكشف عن صعوبة الحياة الاقتصادية التي دفعت الأم إلى هذا التصرف.
وقد اختلط هذا الأمر الاقتصادي الاجتماعي على الأصمعي، فاعتبر تصرف المزرو دليلاً على الجشع والنهم، ولم يعلل تصرفه بالجوع، ولا تصرف أمه بالتقتير أو البخل . الأول، بدافع من الحياة الفقيرة الصعبة، والثاني بدافع نفسي. ولاشك أن الأصمعي لم يكن يجرأ على اتهام العرب بالبخل ولاسيما في حضرة الرشيد حين قص عليه أمر القصيدة(3) .
ويشكو بعضهم من بخل أقاربهم الآخرين الذي يدفعهم إلى الغدر طمعاً في مال قريبهم مع أنه ابن أخت لهم. فقد فضح غسان بن وهلة(4) غدر أخواله من بني سعيد، وقد أغاروا على إبله(5) ، فقال:
إذَا كُنْتَ في سَعْدٍ وأمُّكَ منْهُمُ ... غريباً فلا يَغْرُرْكَ خالُكَ من سِعْدِ
__________
(1) والعكم: ما عكم به المتاع، أي شد وربط.
(2) دبل اللقمة: كبرها، والرخال: جمع رخل، وهو الأنثى من ولد الضأن.
(3) لاحظ قصة الأصمعي والرشيد حول هذه القصيدة في العقد الفريد: ج6 /ص/ 302 – 303.
(4) وهو أحد بني مرة بن عباد، شاعر مخضرم وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى ابن دريد هذا الشعر للنمر بن تولب في بني سعيد وهم أخواله.
(5) حماسة أبي تمام: ج1/ 289.(1/83)
فَإنّ ابنَ أُختِ الْقَوْمِ مُصْغىً إِنَاؤُه ... إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَه بِأَبٍ جَلْدِ(1)
الفردية القبلية هي أهم ما يستنتجه المرء من هذين البيتين، فالأعمام إذا لم يكونوا أقوى من الأخوال، لا يمكن أن يحمي ابن أختهم من غدرهم وحين يحمي لقوة أعمامه لا يكون لهم فضل في حمايته. ويكون الواقع الاجتماعي السلبي قد فُضِحَ على يد هذه الإشارات الاقتصادية الإيجابية في مطاردتها لمواقف القبائل والأفراد السلبية.
وهذا ما يفسر اشتهار حُمَيْد الأَرْقَط(2) بالبخل، الجانب السلبي المقابل للجانب الإيجابي المتمثّل بكرم حاتم الطّائي. فقد كان الأرقط هذا يصف أكل ضيفه وصفاً ينم عن بُخْلٍ شديد، وَضيْقِ نَفس، فيقول(3) :
ما بَيْن لُقْمَتِه الأُوْلَى إذَا انْحَدَرَتْ ... وَبَيْنَ أَخْرَى تليها قيدُ أُظْفُوْر
يخشى الجاهلي كثيراً هذه الصورة الكاريكاتورية "المضحكة، فيفضل ألا يمرّ على قائلها خشية أن يقول فيه ما يضحك المجتمع منه.
ويبدو أن حُمَيْدَاً هذا قد تصدّر للأضياف يطاردهم هنا وهناك إذ ما المانع أن يأتيه فرد من قبيلته يطلب منه هجاء أضياف عنده؟!.. ما دام هو القائل في هؤلاء الأضياف(4) :
لا مَرْحَبَاً بوُجوه الْقَوْم إِذا نَزَلُوا ... دُسْمَ الْعَمَائِم تَحْكِيها الشّياطِيْنُ
أَلْقَيت جُلَّتنا الشِّهْريزَ بَيْنَهم ... كأنّ أَظْفَارَهم فيها سَكَاكِيْنُ(5)
__________
(1) المصغى: المال، كناية عن ضعف الجانب والمزاحمة.
(2) يقال له: هجّاء الأضياف "كما وصف بالأرقط لأضيافه"، انظر أخباره في: العقد الفريد: ج6/ 302، القاهرة 1368 هـ - 1949م.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق نفسه، انظر شعراً في طرد الأضياف: حماسة أبي تمام ج2 /ص 553 – 554.
وإنا لَنَجْفو الضيفَ من غير عُسْرَةٍ ... مخافَة أَنْ يَضرَى بِنَا فَيَعُوْدُ
ونشلي عليه الكلْبَ عند مَحْلِه ... ونُبْدِي له الْحِرْمَاَن ثمَّ نزِيْدُ
(5) الشهريز: ضرب من التمر.(1/84)
وهكذا يتّضح خطأ طه حسين في ادعّائه عن الشعر الجاهلي أنه يمثل العرب أجواداً كراماً مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها. وفي(1) طلبه للحياة الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية في القرآن الكريم فحسب.
ولكن أسوأ السّلبيات التي ظهرت في هذا المنحى الاقتصادي
ما حتّمه استتباع المفهوم القبلي والحياة القبلية من اتخاذ موقف سلبي
من الحرف ومن الزراعة.
وقد عكس الشعر الجاهلي، في منحاه القبلي صورة هذا الاحتقار للعمل والزراية به، وبدت شخصية الشاعر وكأنها نقيض الحرفي أو الزارع، فالشاعر – على رأى بعض الباحثين(2) - صنو الساحر القديم يروم تبديل الواقع أو احتماله بوسائل أقرب إلى الوسائل السحرية.
وهكذا قدّر لهذا الشعر أن يكون له موقفٌ سلْبِي من الحرف والمهن التي كانت منتشرة في اليمن نتيجة الحضارة التي قامت فيها، لذلك اقترن الفخر بهذه النظرة، فنرى أمية بن خلف الخزاعي يهجو حسان بن ثابت وهو من أصل يمني بقوله(3) :
أَلاَ مَنْ مُبْلِغ حسّان عنّي ... مُغَلْغَةٌ تدبّ إلى عُكَاظِ
أليسَ أبوكَ قَيْناً كان فِيْنَا ... لدى الْقَيْنَات فَسَلا في الْحِفَاظِ
يَماَنِيّاً يظلُّ يشدّ كِيْرَاً ... ويَنْضَحُ دَائِباً لهبَ الشّوَاظِ
ولعل اليمنيين هم الذين حملوا الفاعليات الاقتصادية، والحضارية، ولكن هذا السبق الحضاري صار مجلبة للعار في مفهوم الشاعر الجاهلي عبد قيس
بن خفان البرجمي، ومن ثم يَجِدُ في الصناعة مطعناً إلى هجاء النعمان بن المنذر(4) :
لعنَ اللهُ ثمّ ثنّى بِلَعْنٍ ... ابنَ ذا الصّائغِ الظّلومَ الْجَهُوْلاَ(5)
__________
(1) في الأدب الجاهلي /ص77/.
(2) سركيس، حسان، مُدْخِل إلى الأدب الجاهلي. ص/ 125. دار الطليعة، بيروت 1979م.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) الحيوان، للجاحظ: ج4 /379.
(5) وللبيت رواية أخرى: ... وارثَ الصائغِ الجبانَ الجُهُوْلاَ
0@قبّح الله ثم ثنّى بلعنٍ(1/85)
ولم يقف الأمر عند احتقار الصناعة، بل تجاوزه إلى احتقار الزراعة، فظل العمل الزراعي عموماً يُنْظَرُ إليه من خلال المفاهيم القبلية نظرة لا تليق بمكانته، وإن تكن هذه النظرة أعلى من مثيلتها إلى الحرف(1) ، لأن الزراعة مجال لتبديل الطبيعة. وتجميلها يُدْرك بالإحساس المباشر.
وحتى الأعشى الذي كان من سكان قرية منفوحة وكان ينطوي على حسٍّ حضاري لكثرة تردده على مواطن الحضارة الدارسة أو القائمة، لم يتورع في سورة نزوة قبلية أن يفضل رعي الإبل والغنم على العمل الزاعي، وقد هجا إياداً في بعض شعره لأنها تعتمد على الزراعة بقوله(2) :
لسْنَا كَمَن جَعَلَتْ إيادٌ دَارَها ... تِكْريتَ تنظرُ حبَّها أنْ يُحْصَدا
ويبدو أن ضيق الأراضي المزروعة بالنسبة إلى الصحراء جعل العرب قوماً يكرهون الزراعة وينفرون منها ويرون المزارع مواطناً من الدرجة الثانية.
ولو كانت للعرب مياه فائضة وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها. فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شأن الزراعة، ولهذا اختلفت عنهم أهل اليمن وبقية القبائل العربية الجنوبية ومن وجد عندهم
الماء(3) .
ولم يكن هذا الموقف شاملاً كل البيئة العربية، فقد وجدت بيئات عربية أثرت في ساكنيها، وفي وارديها.
ولئن كان هذا العمل مرغوباً عنه في الصحراء فقد تركت الطبيعة في تلك البيئات غير الصحراوية تأثيرات وجدت فرصتها للظهور في مثل منطقة الحيرة أو المنطقة الفراتية، ونجد ذلك في قول عبيد بن الأبرص(4) :
تذكَّرْتُهم ما إنْ تَجِفّ مَدَامِعِي ... كَأنْ جَدْوَلٌ يُسقي مزارعَ مَخْروبِ
__________
(1) سركيس، حسان: مُدْخِل إلى الأبد الجاهلي. دار الطليعة، بيروت 1979.
(2) المصدر السابق/ ص 126.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/86)
ونجد لدى حسان بن ثابت وصفاً للواحة، وهو نادر في الشعر البدوي. ويقرنه حسان هنا بموضوع فخري، وكأنه ينطوي على نظرة حضارية تحترم الزراعة وتدعو للمباهاة بها(1) :
لَنَا حَرَّةٌ مَأْطُورَةٌ بجِبالِها ... بنى المجدُ فيها بيتَه فَتَأهّلا
بها النَّخْلُ والآطَامُ تَجْري تحثُّها ... جَدَاوِلُ قد تَجْري رِقَاقاً وجَرْوَلا
إذا جَدْوَلٌ منها تصرّمَ مَاؤُه ... وَصَلْنا إليه بالنواضحِ جَدْوَلا
وهذه بلا شك صورة حضارية، ذات وجه إيجابي من مفهوم الزراعة، وليس غريباً أن تصدر من حسان اليمني ذي الجذور الحضارية.
ويبدو أن النظرة إلى الصناعة والزراعة بقيت عند العرب هكذا حتى جاء الإسلام ثم الفتح، حينها حدث الاختلاط بالعناصر الأعجمية الحضارية، فأدى ذلك الاختلاط إلى كسر شوكة ما اعتبروه عيباً في امتهان حرفة ما ولكن تقبل العمل الحرفي على إطلاقه لم يجد قبولاً عند العرب حتى بعد مجيء الإسلام(2) ، وربما لا نغالي إذا قلنا أن هذه النظرة لما تزل موجودة عند كثير من القبائل العربية حتى الآن.
وأما القبول الزراعي الذي نجده في بلاد العرب الزراعية اليوم، فقد سبق إليه قبولهم، فكانت المواطن المليئة بالنخيل والزروع وعلف الحيوان والدواب مدعاة للفخر لأن هذه الأمور تمثل عماد الحياة الاقتصادية التي يستطيعون بوساطتها الاستمرار في البقاء(3) ، وفي هذه الزروع والنخيل يفاخر الأعشى علقمة فيقول(4) :
أَلَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ أصْبَحَ بَطْنُها ... نخيلاً وزَرْعاً ثَابِتاً وفَصائِصَا
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) انظر السلبية في المناحي الاقتصادية الإسلامية من هذا البحث.
(3) القيسي، نوري حمودي، الطبيعة في الشعر الجاهلي، ص 72.
(4) الأعشى، ديوان: ص 151/ شرح وتعليق: د. م محمد حسين، ط. النموذجية، القاهرة، 1950.م(1/87)
أما المحافظة على الغسيل فكانت تشغل جانباً من هذا الاهتمام بالبخيل، وكانوا يحافظون عليه بتغطية عروقه، خوفاً من الجراد والدبار والحر والقر، وهذا ما جعل الطفيلَ الغنوي يشبه أحبته في ظعونهم بالغسيل المكمم(1) :
أشاقَتْكَ أظْعَانٌ بِجَفْنَ بَيْنَهُم ... نَعَمْ بُكّراً مثلَ الغَسِيْلِ المُكَمَّمِ
(
المناحي التربوية
نتفق مع منكري وجود النصوص التربوية الجاهلية، لكننا نختلف معهم إذا نظرنا إلى الوصايا التي ترد في سياق نصوص شعرية كثيرة. ومنذ اللحظة الأولى يجب الاعتراف بأن هذه المفاهيم التربوية السلبية ذات علاقة قوية بالواقع الاجتماعي، ولا سيما تلك المفاهيم الاجتماعية السلبية من ذلك الواقع.
إذا أردنا أن نقف عند أهم هذه المفاهيم التربوية السلبية، وجب علينا أن ننظر إلى المفاهيم الاجتماعية القاصرة من وجهة أخرى غير تلك التي رأيناها، ومع هذا فقد نعود مرة أخرى إلى مناقشة مفاهيم اجتماعية من زاوية تربوية.
أهم ما نراه سلبياً في هذه المناحي التربوية ذات العلاقة الاجتماعية هو التوجيه السلوكي الاجتماعي والأخلاقي الخاطئ حيث كان جزء من هذا التوجيه الخاطئ منصباً على الفتاة العربية وعلى مكانتها الوضيعة في المجتمع الجاهلي..
كانت الفتاة العربية الجاهلية تتعرض كثيراً إلى أنواع مختلفة من المهانة والمذلة، ولكن ما نريد ذكره هنا هو فقدانها المعيل.
وما ينتج عن هذا الأمر من مفهوم الوأد الخطير وغير ذلك من المفاهيم الأخرى التي شملت البنين والبنات. كذلك سوف نتحدث عن أهم ما يراه الجاهلي من قيم يستحق العيش من أجلها، ثم نقف عند المفاهيم الغيبية الأخرى التي عالجناها في المناحي الاجتماعية.
ولنبدأ أولاً بالحديث عن:
توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ:
__________
(1) الطفيل الغنوي؛ ديوان: ص 41، لندن 1927.م(1/88)
جُبِل المجتمع الجاهلي على كراهية الفتاة! وقد حكينا قصة هذا المفهوم الاجتماعي السلبي، وكيف عالج الشعر الاجتماعي بعضاً من نتائجه السيئة(1) .
كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر! وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل الشناعة في الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها ويرفع البشرية كلها. فقال في موضع: { وإذَا بُشِّرَ أحَدُهُم بالأُنْثى ظلَّ وجهُه مسوداً وهو كَظيمْ يَتَوارى من القومِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بهِ أيمسكه على هُون أم يدسُّهُ في التُّراب؟ ألا سَاءَ ما يَحْكُمُون } (2) .
واستمر القرآن يفضح مواقفهم السلبية من قضية الفتاة، فقال في موضع آخر: { وإذا بُشِّر أحدُهُم بما ضربَ للرحمن(3) مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كَظِيمْ.. } (4) .
وكشف أوراقهم المزيفة التي يقتلون بناتهم بموجبها في قوله: { لا تقتلوا أولادَكم خشْيَةَ إمْلاَقٍ نحنُ نرزقُهم وإيَّاكُم } (5) .
ولكن أعظم الصور التربوية والاجتماعية المخزية تلك هي صورة الوأد التي كشفها القرآن في قوله: { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت } (6) .
__________
(1) انظر المناحي الاجتماعية الإيجابية، حل المشكلات على الصعيد الفردي. من هذا الكتاب.
(2) سورة النحل: آية 59.
(3) أي البنات.
(4) سورة الزخرف: آية 17.
(5) سورة الإسراء: آية 31.
(6) سورة التكوير: الآيات 8-9.(1/89)
قد كان الوأد يتم في صورة قاسية. فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها دفعاً ويهيل التراب عليها! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة. فإذا كان المولود بنتاً رمت بها فيها وردمتها. وإن كان ابناً قامت به معها! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله!
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس.
كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه. ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها. لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها أو أن تفتدي نفسها منه بمال، في هذه الحالة أو تلك... وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد. إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها... وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها. وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها. أو يزوجها من ابنه الصغير طمعاً في مالها أو جمالها.(1) . فهذه كانت نظرة التربية الجاهلية إلى المرأة من خلال المفاهيم الاجتماعية القاصرة. ومعلوم أن علاقة الفرد بالمجتمع تنضج من خلال موقف الفرد بإزاء قواعد السلوك السائد في هذا المجتمع.(2)
__________
(1) ظلال القرآن، سيد قطب. ج 8/ ص 479. دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1967.
(2) أو من خلال الدور الذي يمثله في المجتمع ومن خلال اختباراته الذاتية الخاصة.(1/90)
على ضوء هذه القواعد السلوكية التي كانت سائدة في بعض مجتمعات القبائل الجاهلية، ولدت ظاهرة المعاناة والخوف من فقدان المعيل.
وهذا سر تخوف المرأة الجاهلية على زوجها في مسعاه للقتال، إنها في الحقيقة تخشى فقدان المعيل، وكذلك البنت الجاهلية تخشى على أبيها الموت لأنها تخاف التشرد، فوق عاطفة الأبوة، قال سلامة بن جندل(1) :
تقولُ ابنتي: إن انطلاقَك واحِداً ... إلى الرّوعِ يوماً تاركي لا أَبَا لِيا
دَعيْنَا من الإشْفَاقِ، أو قدّمي لَنَا ... من الحَدَثانِ والمنيّةِ راقِيَا
سَتَتْلفُ نفسي، أو سأجْمَعُ هَجْمَةً ... ترى سَاقِيَيْهَا يَأْلَمانِ التراقِيَا(2)
وقد أدرك بعض الشعراء خوف بناته من التشرد والضياع بدافع حبه الكبير، وأيقن أن عليه حراستهن، والسعي أمامهن، قال حطان بن المعلى(3) :
لولا بنيّاتٌ كزُغْبِ القَطَا ... حُطِطْنَ من بَعْضٍ إلى بَعْضِ
لَكَانَ لي مضطَرَبٌ واسِعٌ ... في الأرْضِ ذاتِ الطّولِ والعرْضِ
وإنَّما أوْلادُنا بَيْنَنَا ... أكْبَادُنا تَمْشِي عَلى الأرْضِ
ولم يفلح الجاهليون بالقيام على أمر الإعالة فكان الوأد نتيجة من نتائج الخوف هذا؛ ومع أن الفقر لم يكن السبب الرئيسي لهذا الوأد إلا أنه أقوى الأسباب.
صحيح أن الإسلام أبطل الوأد إلى غير رجعة، ولكن مظاهر أخرى متفرعة ظلت فيما بعد وكلها تحتقر المرأة وتهون من شأنها.
ولا شك أن محاربة تعليم الفتاة- غير القرآن- من أعظم تلك المظاهر السلبية التي تمثلت في العقلية العربية فيما بعد، فكانوا يكرهون لها تعلم الشعر حتى قال القابسي:
__________
(1) سلامة بن جندل، الديوان ص 200، المكتبة العربية، حلب، 1963.م
(2) هجمة: جماعة الإبل ما بين الثلاثين والأربعين إلى المائة. والترقي مقردها الترقوة، وهي ها هنا أعلى الصدر حيث يرتقي النفَس (ويألمان التراقيا) أي تألم تراقيهما من شدة التعب حين يسقيان الهجمة.
(3) العقد الفريد. ج2/ 241.(1/91)
وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومن مصالحها، فأما أن تعلم الترسل والشعر وأشبهه فهو مخوّف عليها(1) . وقال الجاحظ:
"كان يقال لا تعلموا بناتكم الكتاب ولا ترووهن الشعر وعلموهن القرآن ومن القرآن سورة النور"(2) .
وهذا كله نتيجة من نتائج الحيف الذي نشأت عليه الفتاة العربية في الجاهلية، ولا تستطيع الحالات الخاصة التي ظهر فيها تعلم بعض فتيات المسلمين ونبوغهن في الشعر أو الأدب في العهود الإسلامية أن تسد تلك الفجوة الهائلة في التربية العربية القديمة.
ومن هذا التوجيه الأخلاقي الخاطئ حديث بعض الشعراء عما يستحق المرء أن يعيش من أجله محصوراً في بعض القيم السلبية التي تضر بالأخلاق، ولاسيما إذا كانت الدعوة إلى الفتيات والفتيان من أبناء الأمة.
إن تهذيب الأخلاق في نظر بعض المربين، هو الغرض الأسمى من التربية فإذا عني المتعلم بتغيير ما في نفسه من بعض النواحي، وأهمل هذه الناحية المهمة، كانت تربيته وبالاً عليه ومفسدة لمجتمعه، إذ ليس ثمة ما يمنعه من استعمال عقله وعلمه في سبيل الشر"(3) .
وقد كانت البوادي العربية مدرسة كبيرة يتعلم فيها الأبناء الشعر ومحكم القول(4) . وفي هذا الشعر من السلبيات التربوية ما ينعكس على تصرفاتهم حين يكبرون، أو حين يعودون إلى المدن، ويتسلمون المناصب والمراتب، فيتصرفون في بعض تصرفاتهم حسب ما حفظوه من شعر ذي أثر سلبي.
فالفرد لا بد أن يتأثر بالمحيط من حوله، وإذا كان الشعر ذا نفوذ كبير في هذا المحيط- وقد رأينا ذلك في المقدمة- فلا بد أن يتشرب ماءه صافياً كان أم معكراً ماهجاً.
__________
(1) التعليم في رأي القابسي، ص 266. نشر أحمد فؤاد الأهواني.
(2) الجاحظ، البيان والتبيين: ج 2/ 180.
(3) الوعي التربوي، ص/ 40، بيروت 1972، عدة مؤلفين.
(4) انظر البيان والتبيين: ج2/ ص 180.(1/92)
فحديث طرفة بن العبد عن القيم الثلاث التي جعلها من أسباب عيش الفتى في الحياة، يضر ويحدث تغييراً سلبياً في سلوك من حفظه ليعمل به. قال طرفة(1) :
فلولا ثلاثٌ، هنَّ من عيشةِ الفتى ... وجدّكَ لم أحْفل: متى قام عُوّدي
فمنهنَّ سبقُ العاذلاتِ، بشربةٍ ... كُميتٍ، متى ما تُعْلَ بالماءَ تُزْبِدِ
وكرّي، إذا نادى المضافُ، مُحنّباً ... كسيد الغضى، نبَّهَتْهُ المتورّدِ
وتقصيرُ يوم الدَّجنِ، والدجنُ معجب ... بِبَهْنَكةٍ، تحت الطِّرافِ، المعمَّدِ
فالحياة هينة عليه لولا لذات ثلاث يجد فيها متعة تنسيه الهم والحزن، وتذهب عنه الوحشة واليأس، وتدعوه إلى القوة والبأس، هذا في نظره دون أن يعلم الخلفيات السلبية لأثر هذا الشعر في المجتمع من الناحية التربوية.
الخمر، والمرأة، والنجد. مثل عليا، اثنان منها يتصلان بشخصه. وهما الخمر والمرأة، وثالث بقبييلته، وهو الدفاع عنها ونجدة المستغيث والهدف الثالث إيجابي رفع بشكله العام خارج إطار الزمان والمكان.
ولكن الخمر والمرأة لا يمكن أن يكونا كل شيء في حياة المرء، وليس لقائل أن يقول: إنها خاصة بطرفة فهذا من شعر الشعب، سلبياته وإيجابياته تعود على الشعب.
فالمرأة جعلها ملاذاً للذة والشهوة، متجاهلاً أنها الأم أو الأمة.
فالأم والأمة مَشْغَلة الباحثين في التربية والسياسة. والحقيقة التربوية ملتقى الأم والأمة.(2)
ولكن الشاعر ضيق الأبعاد للمرأة، وجعلها في اللذة والمتعة فكانت هذه النظرة من أهم العوامل المساعدة التي أدت إلى ظهور وانتشار مفهوم الوأد سابق الذكر.
__________
(1) شرح القصائد العشر، الخطيب التبريزي، ص 134، دار الأصمعي، حلب 1973.
(2) كتاب الأمهات: أسعد علي، ص 19-20، وانظر كتاب "الطلاب وإنسان المستقبل" أسعد علي، حديث طرفة بن العبد. وشعر الشعب هو الشعر الذي له الشعبية والقبول عند الشعب.(1/93)
وأما الخمر، فهي مفسدة للأجساد، مهلكة للأموال، مضيعة للعقول. ومع ذلك جعلها هدفاً لذاتها، وهذا أمر مشين عرف أثره السيئ بعض عقلاء الجاهلية فحرّمها.
كان قيس بن عاصم(1) قد عانى من هذه الخمر التي اخترقت عليه درع شرفه، ولباس فروسيته حين شرب ذات يوم فسكر سكراً شديداً، فجذب ابنته وتناول ثوبها. فلما صحا أخبرته ابنته بما صنع، فآلى لا يذوق الخمر أبداً، وقال(2) :
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها ... خصالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الحكيمَا
فَلا والله أشْرَبُها صحيحاً ... ولا أشْفى بها أبداً سَقِيْما
ولا أَعْطِي بها ثَمَناً حَياتِي ... ولا أَدْعُو لها أبداً نَدِيْما
وقد صدق الأعرابي الذي سئل عن الخمر، فقال: لا أشرب ما يشرب(3) عقلي. كذلك مما يشين التربية في هذا التوجيه عدم الاكتراث بالأولاد فأحياناً كانت سورة الغضب تدفع الجاهلي فيراهن على بنيه غير مكترث بهم وغير مدرك ضرر قوله فيهم، قال أحيحة ابن الجلاّح(4) :
يُرَاهِنُني فيرهنني بَنِيه ... وأرهنه بنيَّ بما أَقُولُ
ومن المعلوم أن هذا الحديث مؤذٍ، ومثبطٌ لعزائم الأولاد، ومذيب عاطفة الأبناء. كما أنه محرّض لهم على التمرد، ودافع لهم على التشرد، وهذا ما يفسر لنا الدعوة التي رأيناها عند الشنفرى وغيره من الشعراء في الدعوة إلى مغادرة العشيرة والأهل بحثاً عن الاحترام والشعور بوجود الغير. ومن المؤلم أن "أُحَيْحَة" هذا كان يرى المالَ فوق القرابة والنسب، ويقول(5) :
فلا يغرّنكَ ذو قُرْبى وذو نَسَبٍ ... من ابن عمٍّ ومن عمٍّ ومن خَالِ
كلُّ النّداء إذا ناديْتُ يَخْذِلُني ... إلا ندائي إذا ناديْتُ يا مالِي
__________
(1) وأد بناته في الجاهلية: أسلم وحسُنَ إسلامه.
(2) الأوائل: ج1/ ص59 والأبيات في سمط اللآلي: 488 منسوبة لصفوان بن أمية.
(3) الأوائل: ج1/ ص10.
(4) جمهرة أشعار العرب. ج2/ ص 647، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة،
1967.م
(5) العقد الفريد: ج2/ ص 309.(1/94)
بينما يرى الحطيئة أن السعادة ليست في جمع المال، وإنما هي
تقوى الله(1) ، قال:
وَلسْتُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ... ولكن التّقى هو السّعِيْدُ
وَتَقْوَى الله خيرُ الزّاد ذُخْراً ... وعنْدَ الله للأتْقَى مَزيْدُ
فكان الآباء يوصون أبناءهم أن يعملوا بقول الحطيئة هذا(2) . وإذا كانت التربية تسعى إلى تغيير ما في نفس الفرد عن طريق تنمية مواهبه وتعديل ميوله وإصلاح سيرته، فإن هذه المفاهيم التي طرحت تنمي المواهب السلبية لدى الفرد.
وأما ذكر الجن والعفاريت والأشباح والعوالم الخفية الأخرى التي لا يراها المرء، فقد مر ذكرها بالمناحي الفكرية السلبية، ولا ضرورة للعودة إليها هنا، ولكن لا بد من التذكير بالتعزيز السلبي الذي يضعف الحقائق الموضوعية، والحاصل من وراء تلك المعتقدات التي تبعدنا عن الواقع الموضوعي وتشدنا إلى عالم الأوهام. فتكون من أخطر السلبيات في تربية الأطفال، وقد نشأ عليه الناشئ، وربى به الطفل(3) .
((
الفصل الثاني:
المفاهيم الإيجابيّة
1-المناحي الاجتماعيّة.
*حل المشاكل الاجتماعيّة.
*تسجيل خيانة القبائل وذمها.
*مواقف وقيم إيجابية أخرى.
2-المناحي الفكريّة.
* المظاهر العقلية.
... (حلم- علم وفلسفة- حكمة).
* حركة التوحيد.
3-المناحي الاقتصاديّة.
* مواقف الشعراء من تضخم الثروة
* أثر المال في العلاقات الاجتماعية
* دور المرأة في سياسة المال
4-المناحي التربويّة.
* الخصال الحميدة التي يربى بها الفتى.
* الخصال الحميدة التي تربى بها الفتاة.
* مظاهر أخرى في التربية الجاهلية.
(
المناحي الاجتماعيّة
__________
(1) الأغاني: ج2، ص 146، دار الثقافة، بيروت 1959.م
(2) انظر المصدر السابق نفسه وصيه عبيد الله بن شداد لابنه محمد حين حضرته الوفاة.
(3) الجاحظ، الحيوان: ج7/ ص 289.(1/95)
كان الشعر في الجاهلية مطولات شغلت الناس، ومقطعات لم تأخذ مكانها لا عند الجاهليين، ولا عند الإسلاميين، ولكن حركة التدوين لم تهملها. وإذا كانت المطولات قد عاشت مادة لمتحاربين(1) في خصومة طويلة، بين مشكك ومثبت، فإن المقطعات لم تكن كذلك.
من هنا تكون المرآة التي تعكس لنا الحياة الاجتماعية الجاهلية بكل دقائقها، بشكل يجعلها سجلاً لكل ما وقعت عليه عين الجاهلي، أو دار فيه فكره فعلل، وقدم هذا التعليل بشكل سريع، فالبيتان والثلاثة والأربعة والخمسة قادرة على تصوير حدثٍ ما، أو معتقدٍ ما دون خضوع لمراقبة الشاعر لنفسه، ودون خضوع للزمن، وهي الشعر الفوري، كما التصوير الفوري، يعلق على الحادثة ويخلدها قبل أن تغيب عن الأذهان والوجود، إنها مُتحف فني مؤلف من آلاف الصور الفردية لم تعرض في معرضٍ معيّن.
في كل عصر زوايا معتمة لا تستطيع كل القصائد الوصول إليها وإنارتها، ولكن المقطعات تستطيع ذلك لأنها في الأصل مبنية لتلك الزوايا، فيكون حديث المقطعات قادراً على وصف الضئيل والغريب من الأمور مهما كان صغيراً. كما يتنوع حديثها عند أصحابها، فلا يتركون شيئاً دون أن يصفوه مهما كان ضئيلاً منبوذاً، "من عَظْمٍ بالٍ إلى حَجَرٍ مَطْروحٍ، وإبلٍ، وجُعَلٍ، ووردة، وحية، وخنفساء، وكل المظاهر الطبيعية(2) ".
والمظاهر الاجتماعية أيضاً جناحها في معرض المقطعات واسع كبير: يوميات الأفراد، عاداتهم، تقاليدهم، قيمهم، ومثلهم، أمانيهم أحلام الشباب منهم، وطموح الرجل، وضع المرأة ومكانتها بينهم. ويبقى الدخول إلى المعرض الذي تشكله المقطعات هو القلم الموضّح لكل هذه الأمور.
حل المشاكل الاجتماعية:
__________
(1) انظر طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر، 1927م.
(2) الحيوان، للجاحظ، ج6/ ص 277، طبعة عبد السلام هارون.(1/96)
الشعر قادر، وليس كل شعر قادراً!.. وقدرة التحويل والتبديل موجودة في زوبعة الشعر الإيجابي الذي يدفع النفوس إلى سبيل الرشاد، والخير، والعلو بها نحو أهداف يسعى إليها المفكرون والأدباء.
وقد أدرك الشعراء واجبهم نحو مجتمعهم، فتحركوا نحو حل كثير من مشاكله، ونستطيع أن نقف في الجانب الإيجابي على مثالين اثنين لبيان أثر الشعر في دفع النفوس نحو طريق سليم، يضغط مراحل زمنية كثيرة، ويحرق شوطاً من الزمن طويلاً.
الأول ... : يمثل قدرة الشعر فرداً في القضاء، على مشكلة اجتماعية معقدة، كان الجاهلي يعاني منها كثيراً.
والثاني ... : يمثل القدرة الإعلامية للشعراء في إطفاء نار الحرب بين الأخوة والأعمام وأفراد الجنس العربي.
أما قدرة الشعر فرداً فمثاله عند الشعراء الذين كانوا يحسون بآلام الناس من المفاهيم الخاطئة، التي أوجدتها ظروف مختلفة مجتمعة، فعانى المجتمع الجاهلي منها وتمنى الخلاص، ولكن مَنْ مِن الناس يملك القدرة على محاربة المفاهيم الموروثة؟.. ليس لها إلا أناس يملكون احترام المجتمع، ولهم حماية جماعية، وهؤلاء هم الشعراء في مجتمعهم الجاهلي.
والأمثلة كثيرة نكتفي بواحد منها، فنقف عند الأعشى(1) الشاعر، والمحلق الرجل التائه في أنواع المفاهيم التي تزدري أمثاله من الناس، بإغراق القيم، والنظر إلى المرأة على أنها عبء ثقيل يجب التخلص منها بوأدها، أو بذلها وهوانها، والنظر إليها على أنها عالة وحمل ثقيل.
ومهما كانت الأسباب الواعية، وغير الواعية التي كانوا يتذرعون بها فلا عذر لهم في دوامة المقت التي كانوا يغمسون فيها المرأة دون رحمة أو شفقة.
__________
(1) ميمون بن قيس بن جندل: ت نحو 629م. انظر أخباره في الأغاني، ط دار الكتب، ج9/ ص 154-156، وانظر ديوان الأعشى، ط لندن 1927، تحقيق المستشرق غاير.(1/97)
وهكذا كان دأبهم في المدر والوبر، يبحثون عن أودية يتوارون فيها من القوم حين يبشر الواحد منهم بالأنثى كما في الشريعة القرآنية التالية: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } (1) .
إنها محاربة للتشاؤم بها ولولادتها جاء به القرآن. كما أسس لها مكانة عالية في المجال الإنساني، والاجتماعي، والحقوقي ليبدد سواد الوجه، ويبعد الخوف من نفوس الرجال.
ومما يؤلم أن عِلْيَة القوم كانوا على غير ذلك، فالفرز الطبقي وارد هنا تماماً أيضاً(2) ، فحال بنات الأشراف لم يكن كذلك.
وهكذا خلق الجاهليون بأنفسهم، لأنفسهم، مفهوماً اجتماعياً متخلفاً عاشوا في دوامته، وعمقوا مأساة المرأة العربية، وأشعروا الرجل المئناث بأنه وضيع منبوذ، كما نبذوا المرأة المئناث، فكان هذا الأمر أحد الأسباب التي أدت إلى تعدد الزوجات بحثاً عن الذكور، في مجتمع وسيلة الإنتاج فيه يد رجل، ووسيلة المواصلات فيه يد رجل، وآلة الدفاع فيه يد رجل.
وقد تجاوز قوم من العرب ما زالوا على ضفاف الفرات، كل
المواقف الإسلامية الرامية إلى بيان الإنسانية، التي أناطت أمر الذكر والأنثى بالذات الإلهية العليا، { يخلق ما يشاء ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور } (3) .
__________
(1) سورة النمل: الآيتان 58-59.
(2) لاحظ الأمالي، لأبي علي القالي: ج2/ ص 104، دار الكتب المصرية القاهرة.
(3) سورة الشورى: آية 49.(1/98)
وتجاوزوا معطيات العصر وكفاح الأحرار من المفكرين الذين قادوا حركات ثورية مريرة لتحرير المرأة، تجاوزوا- على حد مفاهيمهم- الدين والدنيا وعادوا إلى نظرة أجدادهم الجاهليين في التواري من القوم، أو دسّ الوجه في التراب إذا ما بشر بالأنثى. فانظر إلى أي حد كان خطر هذا المفهوم السلبي. من هنا يصبح المتصدي لهذا المفهوم، المفلح في إزالته ذا مكانة عالية بين صفوف المغيّرين المفكرين الأحرار.
في هذا الوضع الاجتماعي الصعب يأتي نوع من الشعر فيذيب جليد المفهوم المتخلف، ويرفع ضيم الرجل المئناث، وحيف المرأة، متجاوزاً حاليهما إلى حديث "حريري" عن الأخلاق، والقيم الكريمة التي تهم الفرد في المرأة، وتعمق إحساس الناس بمكانتها.
ومع أن وعي بعض الشعراء كان قاصراً في معالجة هذا المفهوم، إلا أنه كان مقبولاً منه أن ينافح بوعي مهما كان مدّه.(1/99)
وقد اشتهر الأعشى بحادثة طريفة عندما قدم مكه ذات يوم، فتسامع به الناس، وسمعت به امرأة عاقلة، عاملة على رفع قيود، وتحطيم أغلال ترسف بها وبناتها، قيل: هي زوجة للمحلق(1) وقيل: بل أمه، ونحن نقول: هي المرأة... التي قالت لزوجها، للرجل: أن الأعشى قدم، وهو رجل مفوه مجدود في الشعر، ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه، وأنت رجل كما علمت فقير خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقمة نعيش بها، فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة، ونحرت له، واحتلت لك فيما تشتري به شراباً يتعاطاه، لرجوت لك حسن العاقبة، فسبق إليه المحلق، فأنزله ونحر له، ووجد المرأة قد خبزت خبزاً وأخرجت (نِحْياً) فيه سمن وجاءت بوَطْب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب، واشتوى له من كبد الناقة وأطعمه من أطايبها، فلما جرى فيه الشراب، وأخذت منه الكأس سأله عن حاله وعياله، فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى كفيت أمرهن(2) ، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته:
أرِقْتُ وما هذا السُّهاد المُؤرِّق ... وما بيَ مِنْ سُقْمٍ وما بيَ مَعْشِقُ(3)
ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:
لَعَمْري لقد لاحَت عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوء نارٍ باليفاعِ تُحرّقُ(4)
تُشبُّ لمَقْرُورَيْن يصطليانها، ... وبات على النّار النّدى والمحلّقُ(5)
رَضِيْعَي لبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تحالفا، ... بأسحَم داجٍ عَوْضُ لا نتفرّقُ(6)
__________
(1) العمدة في محاسن الشعر، لابن رشيق القيرواني ج1/ ص 48. بيروت 1972.
(2) ديوان الأعشى، ص 116، بيروت 1960، دار صادر، دار بيروت.
(3) يروى (أرقتَ) على الخطاب، وما بكَ، وما أثبتناه، رواية الديوان.
(4) اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
(5) المحلق: ممدوح الشاعر وهو المحلق بن خنثم بن ربيعة الكلابي، الديوان، ص 116.
(6) بأسحم داج: أي بليل أسود. عوض: أبداً.(1/100)
ترى الجودَ يجري ظاهراً فوق وجههِ ... كما زانَ متنَ الهندوانيِّ رَوْنَقُ(1)
نفى الذمَّ عن آلِ المحلّق جَفْنَةٌ ... كجابيةِ الشّيخ العراقيِّ تَفْهَقُ(2)
ترى القومَ فيها شَارِعِيْنَ، ودُوْنَهُمْ ... من القوْمِ وِلْدانٌ من النّسلِ دّرْدقُ
طويلُ اليدَيْنِ، رَهْطُهُ غيرُ ثِنْيَةٍ، ... أشمُّ كريمٌ جاره لا يُرَهَّقُ(3)
فما أتم القصيدة، إلا والناس ينسلّون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف.(4)
وحسبك من الأعشى أن امرأة كسدت عليها بناتها، فرغبت إليه في أن يشبب بواحدة منهن لعلها تنفق، فشبب الأعشى بإحداهن فتزوجت ثم شبب بالثانية فوجدت قريناً، ثم شبب بالثالثة فأسرع إليها الخاطبون، وما زال يشبب بهن واحدة واحدة، ويتقاضى على ذلك جزوراً حتى زوجهن جميعاً(5) .
وبهذا يكون الشعر قد خدمنا فقدم لنا صورة اجتماعية تمثل العوامل التي تشد الناس إلى الزواج، فإذا بالكرم عامل جذاب يشد الناس إلى صاحبه ويزاوجونه، وإذا بالشهرة والمفاخرة التي يجلبها الشعر تنتج مصاهرة وخلاصاً من واقع مؤلم، وتحطم مفهوماً اجتماعياً متخلفاً. كل هذا بفضل حسن استخدام الشاعرية.
وأما الذي يمثل قدرة الشعر قوة في إطفاء نار الحرب بين الأعمام والأفراد العرب، فهو عند زهير بن أبي سلمى.
__________
(1) الهندواني: السيف المنسوب إلى الهند.
(2) تفهق: تفيض، الجابية: الحوض الضخم، الشيخ العراقي: قيل أراد به كسرى.
(3) الثنية: الذي دون السيد، لا يرهَّق لا يضايقه الدائنون بالمطالبة. والأبيات رواية الديوان، ص 120-121، بيروت 1960م.
(4) العمدة: ج1/ ص 49، بيروت 1972، الطبعة الرابعة، دار الجيل.
(5) الأغاني: ج8/ ص 79، طبعة الساسي.(1/101)
وقد رأينا فيما مضى أن وعي الشاعر لا يكاد ينفصل عن وعي القبيلة، وإذا كانت العلاقات الإنسانية داخل القبيلة قد قامت على التأييد والتضامن، فإنها مع القبائل الأخرى تقوم على التنافس والتناحر. وإذا قامت حرب بين قبيلتين، فإنه من النادر كبح جماحها، ولما كان زعماء القبيلة أنفسهم لا يملكون القوة التنفيذية أيضاً، فقد انعدم عند البدو وجود القانون الجنائي وأمسى من الضروري أن يفزع كل فرد إلى استخلاص العدالة من قاتل نسيبه أو سالبه، بالطرق الشخصية.(1)
وصحيح أن من واجب الزعماء في القبيلة أن يعملوا على إيجاد تسوية بين المتخاصمين، من غير أن يملكوا حق فرضها عليهم، ولكن العشائر كثيراً ما لا تنتهي إلى الأخذ بهذه التسويات إلا بعد أن تكون قد تفانت ودقت بينها عطر مَنْشم.(2)
وإذا كانت الحال هكذا، فإنها بحاجة إلى شاعرية قوية يمتلكها شاعر فيه ميل شديد إلى الخير والمحبة والسلام، يملأ عقول القوم بشعر عظيم فيه تصفية للإحسان والبغضاء وتنقية لقلوبهم من الضغائن والثارات، ويدمل الجراح ويوحد بين الصفوف.
ويلمع بين شعراء الجاهلية زهير بن أبي سلمى يرسى دعائم السلام في أشهر قصائده، وهي معلقته التي نظمها مشيداً بهرم بن سنان والحارث بن عوف حين سعيا بالصلح بين ذبيان وعبس، اللتين خافتا حرباً ضروساً في المذبحة المشهورة بحرب داحس والغبراء.
قد أدرك زهير وظيفته فشذّ عن ذوق الجاهليين وأفكارهم التي تطالب بالثأر وتدعو إلى القتال وسفك الدماء، وقضى يظهر سلبيات الحرب في صور مفزعة مخيفة، لعل الناس يرتدعون عنها وينتهون منها. فهي حيناً أٍسدٌ مفترس، وحيناً آخر نار ملتهبة تلتهم الأخضر واليابس، وثالثة رحى تطحن الناس بلا رحمة ولا رأفة، ورابعة حامل تلد ذراري الشؤم.
__________
(1) كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 19، طبعة 4، دار العلم للملايين، بيروت 1965.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 19.(1/102)
ولم يفته أن يسخر من الحرب، ويتهكم بها عن طريق عرض الصور التي تنبه إلى خطورة الحرب الحرة التي تغل لهم ما لا تغله أرض العراق من الغلال، والدراهم، قال(1) :
وما الحربُ إلاّ ما عَلِمْتُمْ، وذقتُمْ ... وما هُو، عنّها، بالحديث، المرجَّمِ(2)
متى تبعثُوها تبعثُوها، ذميمةً ... وتَضْرَ، إذا أضْرَيْتُموها، فَتَضْرَمِ(3)
فتعرُككُمْ عَرْكَ الرّحى، بثفالِها ... وتَلْقَح كشافاً، ثم تُنْتِجْ، فَتُتْئِمِ(4)
فتَنْتِج لكم غِلْمانَ أشْأَمَ، كلُّهم ... كأحمر عادٍ، ثم تُرْضِع، فتفطِمِ
فَتُغْلِلْ، لكم(5) ، ما لاتُغلُّ لأهلها ... قرىً بالعراق من قفيز(6) ، ودِرْهَمِ
وتصوير سلبيات الحرب، وما تخلفه وتنتجه من مصائب، وويلات دعوة إيجابية في الالتزام بأمر السلام. والدعوة إلى الخير والطمأنينة. ثم يعطف على ما هم فيه من بوار فيصور حروبهم التي توردهم موارد تزخر بالرماح والدماء، فيقول:
رَعَوْا ما رَعَوْا، من ظمئهم، ثم أوْرَدُوا ... غماراً، تفرَّى، بالسّلاحِ، وبالدَّمِ
__________
(1) شرح القصائد العشر، صنعة التبريزي، تحقيق فخر الدين قباوة، ص 181، حلب،
1973.
(2) الحديث المرجم: الحديث المظنون.
(3) تبعثوها: تهيجوها. تضرى: يقال ضرى الأسد: إذا تهيأ للفريسة. وتضرم: تشتعل، وأضرى: درب وعوّد.
(4) تعرككم: تطحنكم. الثقال: جلد يجعل تحت الرحى حين تطحن. وتستخدم في أيامنا هذه (في البادية عندنا) للف الخبز، يوقال له: تفال الخبز.
... وقال يعقوب: هذا تهكم وهزء، يقول: لا يأتيكم منها ما تسرّون به، مثل ما يأتي أهل القرى من الطعام والدراهم. ولكن غُلَّة هذا عليكم، ما تكرهون. شرح التبريزي السابق الذكر، ص 184.
(5) قال الأصمعي: يريد: أنها تغل لهم دماً، وما يكرهون، وليست تغل لهم ما تغل قرى العراق من قفيز ودرهم.
(6) القفيز: وزنة ثمانية أرطال، وثمنه ثلاثة دراهم بوزن الثقال، انظر الماوردي الأحكام السطلانية، ص 161 وما بعدها.(1/103)
فقضُّوا منايا، بينهم، ثم أصْدَرُوا ... إلى كلأٍ، مُسْتوْبِلٍ، متوخَّمِ(1)
فهو ينشد السلم من بابه الواسع، ويقيمه على النية الطيبة والرغبة الصادقة ليدوم ولينتفع الناس به.
كان زهير أخلاقياً اجتماعياً، مرتفعاً في تفكيره وفي مثاليته على المستوى السائد في عصره الجاهلي، ومقاومته لمقاييس الجاهليين الذين كانوا يتباهون بالبطش والاعتداء وقسوة الانتقام، ونزعته العميقة إلى السلم والتصالح، وحملته القوية الحارة على الحرب وبطولاتها الدموية، ومديحه الجميل المخلص لأفراد سموا هم أيضاً بطباعهم وعاداتهم على الشائع المألوف في ذلك العصر. كل هذا يحله في ضميرنا الحيدث محلاً رفيعاً.(2)
وعلى الصعيد الفردي نجد زهير بن أبي سلمى، يستخدم شاعريته في تدعيم خط الخير والصلاح والعدل، فيحسم الموقف. وذلك فيما كان من غارة الحارث بن ورقاء الأسدي على عشيرة زهير، فساق إبلاً وغلاماً لزهير يسمى يساراً. وغضب زهير غضباً شديداً، وهدده إن لم يرد عليه إبله أن يهجوه هجاء مقذعاً، مذكراً له بما بين عشيرتيهما من مواثيق وعهود نقضها نقضاً، واكتفى بالسخرية قائلاً:
ومَا أدْرِي وسَوْفَ إِخَالُ أدْرِي ... أقومُ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ
وهو إلى ذلك ذو شعر حكيم فيه أخلاق ومحبة وإخاء، وما يكرهون، وليست تغل لهم استخدام الإيجابية في الشعر، وقد كان عمر بن الخطاب يعجب بقوله:
فإنَّ الحقَّ مقطعُهُ ثلاثٌ ... يمينٌ أو نِفارٌ أو جَلاءُ(3)
__________
(1) النهويهي، محمد: الشعر الجاهلي، ج2، ص 646.
(2) قوله: ثم أصدروا إلى كلأٍ أي: إلى أم استوضحوا عاقبته، وهذا مثل.
(3) النفار: هي المنافرة إلى شيوخ القبائل للحكمة، والجلاء: انكشاف الأمر.(1/104)
وكان يقول: لو أدركته لوليته القضاء لحسن معرفته ودقة حكمه.(1) وقد أدرك الشعراء دورهم في مواجهة الولاة الطغاة، فانقسموا قسمين، بعضهم انتهج الواقعية الثورية، فراح يفضح طغيان الملك، ويظهر جوره ليعمق إحساس الناس بالمصائب التي يصبها عليهم الملك الجائر، فيرفض الانقياد للقصور ويكشف للجماهير باطنها فاضحاً أصحابها كما في قول شاعر جاهلي يفضح حكم عمرو ابن هند في الحيرة(2) :
أبى القلبُ أنْ يَهْوَى السَّديرَ وأهْلَهُ ... وإن قِيْلَ عَيشٌ بالسَّديرِ غريرُ(3)
به البقُّ والحُمَّى وأُسْدُ خفيّةٍ ... وعمروَ بن هندٍ يَعْتَدي ويَجُورُ
ويفضح بعضهم الآخر بطريقة جمع الضرائب، ويهدد بقتل الملوك الذين يسلبون الشعب ويثقلون كاهله بالضرائب، والإتاوات التي يؤدونها في أسواق العراق وغيرها من أسواقا لعرب، ويلوح بالدم مهدداً، بقول جابر بن حني التغلبي(4) :
ويَوْماً لدى الحشّارِ(5) من يَلْوِ حقّه(6) ... يُبَزْبَزْ(7) وينزع ثوبَهُ مُتلطًَّمِ
وفي كلّ أسواقِ العراقِ إتاوةٌ ... وفي كلّ ما باعَ امرؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ
ألا تستحي منّا ملوكٌ وتتَّقِي ... محارِمَنا لا ؟؟ الدَّمُ بالدَّمِ
نُعاطي الملوكَ السِّلْمَ ما قصدوا بنا ... وليسَ عَلَيْنا قَتْلَهُم بمُحَرَّمِ(8)
__________
(1) كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، ص 342، طبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
(2) 554-569م.
(3) الأغاني: ج 21/ ص 126، طبعة الساسي.
(4) انظر ترجمته في معجم الشعراء للمرزباني، ص 206.
(5) الحشّار: الجابي بحشر المال.
(6) يَلْوِي: يمطل.
(7) يبزبز: يتعتع، أي يدفع.
(8) الأصمعيات: ص 211، دار المعارف بمصر، تحقيق عبد السلام هارون.(1/105)
فهذه صورة رائعة مطموسة في أدبنا القديم فيها فضح لمظالم الملوك، وكشف لمواقف الشعراء الإيجابية التي كانوا يتخذونها من مجتمعهم، فالصورة تفضح الجابي الذي كان يحشر المال حشراً، وتظهر لنا طريقة انتزاع الضرائب. فذلك الذي يمطل (يلوي) يرغم على الدفع وينزع عنه ثوبه ويجلد حتى لا يعود إلى تأخير الدفع وتتحدث القصيدة عن الخَراج الذي يدفع في كل أسواق العراق للملوك، فكل سلة عليها دراهم معينة يجب أن تدفع!..
وهذه اللوحة محشوة بنفَس المُعاصرة، فكثير من القرى العربية كانت إلى حد قريب جداً تعيش طريقة جمع الضرائب الجاهلية التي تحدث عنها الشاعر، حيث العنف والإرهاب والقسوة لمن يتأخر عن الدفع ومثلها مع السجن وربما القتل لمن لا يدفع.(1)
واتخذ بعض الشعراء الآخرين مواقف إصلاحية فيها الاستجداء والاستعطاف وذلك أن بعض الملوك كان يهم بغزو بعض القبائل، فيستعطفه شعراؤها راجين منه ألا يفعل. فقد روى أن عمرو بن المنذر الأكبر همّ بغزو عبد القيس فقال الممزَّق(2) العبدي يستعطفه:
أحَقّاً أبيتَ اللَّعْنَ أنَّ ابنَ فَرْتَنا ... على غَيْرِ إجْرامٍ بريقي مُشرِّقي(3)
فإن كنتُ مأْكولاً فكنُ خَيْرَ آكِلٍ ... وإلاَّ فأدْرِكْني ولمَّا أُمَزَّقِ
وظنّي به أنْ لا يكَدِّرَ نِعْمَةً ... ولا يَقْلِبَ الأعداءَ منه بمَعْبَقِ(4)
تسجيل خيانة القبائل وذمها:
ويعمل الشعر الإيجابي عمله فيحافظ على العهود والمواثيق بطريقة طريفة يخشاها العرب ويرهبونها.
__________
(1) انظر عبد الله النديم. البطل الثوري في كتاب محمد أحمد عطية. البطل الثوري في الرواية العربية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1972م.
(2) وهو شأس بن نهار من بني عبد القيس، انظر أخباره عند المرزباني في معجم الشعراء، ص 495.
(3) ابن فرتنا: يراد به اللئيم
(4) الأصمعيات، ص 166، دار المعارف بمصر، 1964م.(1/106)
والطريقة تعتمد على سجل يضبطه هذا الشعر بخيانة من يخون أو يغدر من القبائل، تشهيراً وإظهاراً للخيانة الفردية أو الجماعية، على أنها أمر محتقر منبوذ فينفر الناس منها ويبتعدون عنها.
اعتمد الشعراء لهذا الأمر الصور التي تقوم على عناصر السخرية والهزء، كي تتولد طاقة الكره والاشمئزاز من الشر وعناصره، ويتعود الناس الأمانة والوفاء فيستقيم المجتمع، وتحترم المواثيق، وتسود الثقة بين الناس المحتاجين إليها حقاً وحقيقة.
وقد سجل أعشى(1) باهلة لبني نفيل خيانتهم، وغدرهم بالمنتشر(2) الذي خرج يريد مكاناً، وكان بنو نفيل أعداء له، فغدروا(3) به بعد أن أمنوه، فلجأ الشاعر إلى فضح من لم يحترم عهده ولا مواثيقه، فلا تأمنه العرب بعدها فقال يفضح صاحب رأى الغدر بعد الأمان هند بن أسماء، وقبيلته نفيل:
أصبْتَ في حَرَمٍ منّا أخا ثِقَةٍ ... هندَ بنَ أسماء لا يهنئ لك الظّفَرُ
إمّا سلكْتَ سبيلاً كُنْتَ سالِكَها ... فاذهب فلا يبعدنك الله مُنْتَشِرُ
لَوْ لَمْ تَخَنْه نفيل وهي خائِنَةٌ، ... ألمَّ بالقومِ وِرْدٌ منه أو صَدَرُ(4)
وقد كان الشاعر الجاهلي يغتفر بضمير الجماعة التي يمثلها، ويرى مجده من مجدها، وعزته من عزتها، فيقف منافحاً عنها ومادحاً في سبيلها من يرى أنهم يضايقون أفرادها، ويشفع لهم ليخلصهم من الذل إن حلَّ بهم أو الأسر إن وقعوا فيه.
وترتفع نسبة وعيه عالياً حين لا يقنع إلا بخلاصهم جميعاً.
__________
(1) عامر بن الحرث بن رياح، وهو شاعر جاهلي مجيد من أصحاب الأصمعيات.
(2) المنتشر بن وهب بن سلمة، أخو أعشى باهلة لأمه كان لقومه رأساً وشهاباً يستضيئون به.
(3) انظر خبر مقتله في خزانة الأدب للبغدادي.
(4) الأصمعيات، ص 92، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية.(1/107)
كان الحارث بن أبي شَمِر(1) الغساني قد أوقع بالمنذر بن ماء السماء(2) فقتله وأسر جماعةً من أصحابه، فيهم شأس بن عبدة، ثم من بني حنظلة مائة أسير فوفود علقمة بن عبدة الشاعر- وهو أخو شأس- على الحارث مستشفعاً مادحاً، إلا ليخلّص أخاه وحده، وإنما طمعه في تخليص جميع الأسرى، ثم دخل عليه، وأنشده(3) :
إلى الحارثِ الوهّابِ أعملتُ ناقَتي ... لكلكلها والقُصْريين وجَيْبُ
إليك أبيتَ اللّعنَ كان وجيفُها ... بمشتبهات هَوْلُهُنَّ مهيْبُ(4)
وهَدانِي إليكَ الفَرْقَدان ولاحِبٌ ... له يومُ أعلام المتان علوْبُ
فلا تحرمّنّي نائلاً عن خباية ... فإنّي امرؤ وسط القباب غَريْبُ
وفي كل حيّ قد خبطت بنعمةٍ ... فحُقّ لشاسٍ من نداك ذنوْبُ
__________
(1) الحارث بن أبي شمر الغساني (8.00هـ-670م) من أمراء غسان في أطراف الشام. كانت إقامته بغوطة دمشق. وأدرك الإسلام فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً مع شجاع بن وهب. ومات في عام الفتح، الأعلام ج2/ ص 157.
(2) هو المنذر بن امرئ القيس الثالث ابن النعمان بن الأسود اللخمي، وماء السماء أمه. ثالث المناذرة ملوك الحيرة وما يليها من جهات العراق في الجاهلية، ومن أرفعهم شأناً وأِدهم بأساً وأكثرهم أخباراً. الأعلام، ج8/ ص 226.
(3) انظر الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، ج1/ ص 545-546، بيروت، 1965م.
(4) في الديوان، وفي الأصول: كأن وجيبها، والوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل، أما الوجيب فهو الاضطراب.(1/108)
فلما بلغ إلى قوله: "فحق لشاس من نداك ذنوب" قال الملك: إي والله وأذنبه، ثم أطلق شأساً وقال له: إن شئت الحياء وإن شئت أسراء قومك؟ وقال لجلسائه: أن أختاء الحباء على قومه فلا خير فيه. فقال: أيها الملك ما كنت لأختار على قومي شيئاً. فأطلق له الأسرى من تميم وكساه وحباه، وفعل ذلك بالأسرى جميعهم وزوّدهم زاداً كثيراً فلما بلغوا بلادهم أعطوا جميع ذلك لشأس وقالوا: أنت كنت السبب في إطلاقنا فاستعن بهذا على دهرك، فحصل له مال كثير من إبل وكسوة وغير ذلك.(1)
فانظر كيف حل هذا الشعر وثاق الأسرى وبدّل وجهة نظر الحارث فجلا القلوب من إخنها، وأثّر في مسار الأحداث، وحمى القبيلة وغيرها ممن عرفهم الشاعر. وعاد عليه بالفائدة المادية، وإذا كان هذا الشعر قد حرك فرداً ليحل مشاكل المجموع، فإن شعراً يحرك مجموعاً لتحل مشاكل الأفراد، ويؤدي إلى تشكيل حلف لحماية المظلوم والذود عن الضعيف.
تحدثت كتب الأدب(2) وغيرها(3) عن سبب تشكيل حلف الفضول، ومفاد الحديث أن رجلاً من بني زبيد قدِم مكة معتمراً في الجاهلية ومعه تجارة له، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فأواها إلى بيته، ثم تغيب فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس(4) حين أخذت قريش مجالسها في المسجد، ثم قال:
يا آلَ فِهْرٍ لمظلوم بِضاعَتُه ... بِبَطْنِ مكّة نائي الدّار والنَّفَرِ
ومُحْرِمٍ شَعِثٍ لم يقضِ عُمْرَته ... يا للرّجال وبين الحِجْرِ والحَجَرِ
__________
(1) الكامل في التاريخ، لابن الأثير: ج1/ ص 545-546، بيروت 1965.
(2) الأغاني: ج17/ ص 287، والكامل والأوائل ج1/ ص 71-74. وسبب تشكيل الحلف مختلف فيه، الهيئة المصرية للكتاب 1970.
(3) السيرة النبوية لابن اسحق، ج1/ ص 140.
(4) اسم جبل في مكة.(1/109)
هل مخفرٌ من بني سَهْم بخَفْرَتِه ... فعاذلٌ أم ضلالٌ آل معتَمرِ(1)
إنَّ الحرامَ لمن تمت حرامته ... ولا حرامَ لثوبِ الفاجرِ الغُدْرِ(2)
فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان، ووضع لهم طعاماً يومئذ كثيراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ معهم، قبل أن يوحي الله إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة. فاجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة تَيْم، وكان الذي تعاقد عليه القوم: تحالفوا على ألا يُظْلَم بمكة غريب ولا قريب ولا حرّ ولا عبد إلا كانوا معه، حتى يأخذوا له بحقه، ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم(3) . وفي هذا أنشد بعض أهل العلم قول بعض الشعراء(4) :
تيمُ بن مرَّةَ إن سألت وهاشمٌ ... وزهرةُ الخير في دار بن جُدعانِ
متحالفون على النَّدى ما غرَّدت ... ورقاء في فَنَنٍ من جِزْع كُتْمانِ
لقد فرز الموقف الإيجابي مفهوماً إيجابياً في الشعر، فأدى إلى تشكيل هذا الحلف، أو شارك في الحماس والإباء لحفظ حق الغريب والقريب، فكان، بمثابة الحكومة التي تضرب يد الظالم والباغي، لتعيد الحق إلى نصابه.
وفيما بعد ظهرت آثار الحلف الإيجابية واضحة جلية. جاء رجل من قبيلة (خثعم) إلى مكة وبصحبته ابنة جميلة له يقال لها (القتول) فعَلِقَها رجل يقال له (نُبيه بن الحجاج) وغلب أباها فيها، فأتى أبوها حلف الفضول فمنعوها منه، وصانوا عرضها، فقال نُبيه(5) :
لولا الفضولُ وحِلْفُها ... والخوفُ من عُدوانِها
لدَنَوْتُ من أبْياتِها ... ولطفتُ حَوْلَ خِبائِها
وشربْتُ فضلةَ رِيْقِها ... ولَنِمْتُ في أحْشائِها
__________
(1) الخفرة: الذمة.
(2) هناك رواية أخرى للأبيات.
(3) الأغاني: ج17/ ص 289، ط الهيئة المصرية للكتب، 1970.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 291.
(5) الأوائل لأبي هلال العسكري. ج1/ ص 71-74، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1975م.(1/110)
وهذا يعكس لنا مهمة الحلف الذي أخذها على عاتقه، والمتمثلة بحماية المال والعرض ولا شك أن هذا المر غاية ما يريده المرء في هذه الحياة، الطمأنينة والحماية والسلامة لكل ما يملك.
ويجب أن نلاحظ فوائد قريش التي تجنيها من وراء هذا الحلف، فحين يعلم التجار أن بضاعتهم مؤمّنة في مكة، وأن حقهم مضمون، فإنهم سوف يوجهون قوافلهم إليها، فتتحرك الأسواق التجارية وتعود عائدات مالية كثيرة على أهل مكة.
وهكذا فحصادٌ مادي وحصاد معنوي، ومن هنا أثبت موجودية تاريخية ما زالت في المعاصرة إيجابية.
والقيم الأخلاقية التي تغنى بها شعراء الجاهلية كثيرة تصور المفاهيم الفاضلة التي كانت عرضة لكثير من الباحثين(1) والمفكرين(2) .
فالحلم، والكرم، والوفاء، والشجاعة، والصدق، والدفاع، عن حمى القبيلة، وحماية الجار، وسعة الصدر، والإعراض عن الشتم، والغض عن العورات ونجدة المحتاج والملهوف، قيم تغنّى بها العرب وخلدها في شعره ونثره.
ولعل خير من مثل شخصية العربي في شعر عمرو بن كلثوم(3) ، حيث الأنفة والإباء ورفض الهوان، وإنكار الضيم، وإعلان الصرخة الأبية في حينها، والإصرار على التمتع بنعم الحرية كما فهمها الجاهلي، ومما يمثل ذلك قوله وهو يخاطب عمرو بن هند الملك:
أبا هنْدٍ، فلا تَعْجَل علينَا ... وانظرْنا، نخبّرك اليقينا(4)
بأنّا نورد الرايات بيضأً ... ونُصْدِرُهُنَّ حمراً قد روينَا
وأيامٍ، لنا غُرٍّ طوال ... عصينا الملكَ، فيها، أنْ نَدِينا
__________
(1) لاحظ المفصل في تاريخ العرب، د. جواد علي.
(2) لاحظ زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة.
(3) عمرو بن كلثوم التغلبي صاحب المعلقة، وهو تغلبي مشهور، وكان أبو عمرو الشيباني قد تحدث عن بني تغلب وعظمتها، فقال: كانت... من أشد الناس في الجاهلية. المعلقات العشر، التبريزي، ص 318، الطبعة العربية حلب 1973.
(4) شرح القصائد العشر، صنعة التبريزي، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ص 345، ط 2، حلب 1972.(1/111)
ألا، لا يجهَلَنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ، فوقَ جَهْلِ الجاهِلِيْنا
بأيِّ مشيئة عمرَ بن هندٍ ... نكونُ لقِيْلكم فيها قطِيْنا
فإنَّ قناتنا يا عمرو، أعْيَتْ ... على الأعداء، قبلكَ أن تَلِيْنا
وليس ألصق بطباع العربي من الشهامة والتضحية بذاته تضحية لا يرجو من ورائها شيئاً في سبيل أصدقائه، والشعر القديم خاصة يضع بين أيدينا الدليل على أنهم كانوا يجزعون أشد الجزع إذا رأوا جاراً ينكث بعهد جاره على أن هذا ليس في كل الأوقات والحالات إذ يكون الطمع دافعاً للغدر، حتى لو كان المغدور قريباً.
ولأننا سنفرد قسماً خاصاً للمناحي الفكرية الإيجابية في الجاهلية نغض الطرف عن الحديث المفصل في هذه القيم الأخلاقية الكثيرة، مكتفين بما أوردناه عن شخصية العربي التي لم يستطع نيكلسون(1) في تاريخه للأدب العربي تحديد صفاتها السلبية كما سيرد معنا.
(
المناحي الفكريّة
المظاهر العقلية في العصر الجاهلي
كانت الصحراء الممتدة أمام العربي مدرسة فكرية على ترابها درج الجاهلي ونشأ، ومن سعتها تعلم كيف يعشق الحرية، ومن مظاهرها تعلم كيف يفكر. فكل ما في الصحراء يدعو الإنسان إلى التفكير، الطبيعة الصحراوية الممتدة برمالها وكثبانها، وسمائها وشمسها ونجومها والتي لا أثر لليد الإنسانية فيها، عامل مساعد يبعث على التفكير. وقد عكس الشعر الجاهلي تلك المظاهر العقلية التي كانت الصحراء عاملاً رئيسياً في ولادتها.
ولعل أعظم المظاهر العقلية عند عرب الجاهلية تنحصر في الحكمة والحلم وفي الخطرات النفسية والعلمية.
__________
(1) Nieholso alieterang history of the ara 6s. P.84.(1/112)
فالحكمة جزء من الفلسفة، التي تكون في الشعر إذا احتوى على نظام شامل ذي مقدمات ونتائج منطقية، لا يشترط لها أن تخوض في تعليل(1) مظاهر الوجود فقط بل تسعى إلى إدراك الواقع الاجتماعي للعرب والسعي بهذا الواقع نحو الأفضل بفهم الأسباب والنتائج التي تحقق لهم السلامة والحكمة في تصرفاتهم اليومية.
والمنتظر أن تكون الحكمة في الأمثال، "على أنك واجد في الشعر الجاهلي أمثالاً وحكماً أبرع لأنها لم تدخل الشعر إلا بعد إعادة نظر ولأن الشاعر يتخير منها ما هو خليق بشعره، فتجيء عصارة للاختبار العام ونظرة أعمق في الحياة وأشمل لها"(2) .
وبإمكان الدارس أن يقف على كثير من شعر الحكمة، ولكننا سنقف عليه عند ثلاثة شعراء، زهير الشيخ الحكيم(3) ، وطرفة(4) الشاب القتيل، وعبيد بن الأبرص(5) الرجل المحتاج.
__________
(1) عبقرية العرب في العلم والفلسفة، ص 9. عمر فروخ، الطبعة الأولى، دار اليقظة دمشق.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) زهير بن أبي سلمى (00-13ق.هـ، 00-609م) من مضر، حكيم الشعراء في الجاهلية من أصحاب المعلقات والحوليات. كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين.
(4) طرفة بن العبد (نحو 86-60ق.هـ، 538-564م) شاعر جاهلي من الطبقة الأولى. ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد. هجا عمرو بن هند، فقتله المكعبر شاباً. أشهر شعره معلقته.
(5) عبيد بن الأبرص من بني أسد (00-25ق.هـ، 00-600م) شاعر من دهاة الجاهلية وحمائها، له مناظرات مع امرئ القيس، قتله النعمان في يوم بؤسه.(1/113)
أما زهير بن أبي سلمى، فقد تجلت عبقريته في الدعوة إلى السلم، في زمن كان العالم كله غارقاً في الحروب، يعتقد أن الحرب هي السبيل الوحيد لحل المشاكل. فقد كانت أوربة منذ أواخر القرن الرابع للميلاد غارقة في غزوات(1) البرابرة الهون والجرمان في اليونان، وفي إيطالية وفرنسة، وانكلترا وفي شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث قام الوندال بحروب طاحنة.(2)
وكذلك كانت الحرب بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومية قائمة على قدم وساق. وكانت أوربا حافلة بالشعراء، وأثناء الحروب الطاحنة لم ينقطع النبلاء في أوربا عن نظم الشعر(3) ، ولم نسمع بينهم من دعا إلى نبذ الحرب والعيش بسلام.
في تلك الأجواء التي لا تسمع فيها الأذن إلا أصوات السلاح، ولا ينصرف الفكر فيها إلى غير الحرب، ولا يقضي البشر حياتهم في غير العداوة، قام زهير بن أبي سلمى يدعو إلى السلم وينفّر الناس من الحرب بإظهار ويلاتها، ويعلن أن كل غرامة مهما كانت باهظة تعود خفيفة في جانب النعمة التي يضفيها السلام على الناس.(4)
وحين قام هرم بن سنان والحارث بن عوف يدفعان ديات القتلى من مالهما، نهض زهير يمدحهما، ويجسم بشاعة الحرب، ليرى الناس العمل العظيم الذي قام به الرجلان، فقال(5) :
سعى ساعيا غيظ بن مُرَّة، بعدما ... تبزَّلَ ما بين العشيرةِ بالدَّمِ
يميناً، لنعم السَّيّدان وجدتُما ... على كلِّ حالٍ، من سحيل ومُبْرَمِ
__________
(1) انظر تاريخ أوربا (العصور الوسطى القسم الأول) تأليف هـ.ا.ل نشر. ترجمة محمد مصطفى زيادة والسيد الباز العريني. الطبعة الثالثة. دار المعارف بمصر، ص 31. 1957.
(2) المصدر السابق، ص 30.
(3) المصدر السابق، ص 29.
(4) عبقرية العرب في العلم والفلسفة، ص 21، عمر فروخ.
(5) شرح القصائد العشر للتبريزي، ص 165 وما بعد.(1/114)
تداركتُما عَبْساً وذبيانَ، بعدما ... تفانوا، ودقّوا بينهم عطرَ مَنشِمِ(1)
وَقَدْ قُلْتُما إن نُدْرك السلمَ واسعاً ... بمالٍ، ومعروفٍ من القولِ، نَسْلَمِ
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث، المُرَجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً ... وتضرَ، إذا ضّريتموها، فتَضْرَمِ
فتَعْرُككُم عركَ الرّحى، بثفالها ... وتلقح كشافاً، ثم تنتج فتُتْئِمِ
وأما طرفة بن العبد البكري، فقد أساءت الحياة إليه وأساء إليه أهل الحياة؛ وأهله أيضاً فاشتد عليه الظلم، وزادته الحياة ألماً حين حرمه أعمامه من إرث أبيه، فانقلب مادياً لا يبصر من الحياة إلا كل لذة عاجلة ولا يرى الدنيا إلا شجرة مثمرة إن أنت لم تتمتع بظلها وتأكل من ثمرها فاء الظل وفسد الثمر وسقط(2) . فليس للبشر حظ إلا في ما يأتونه في حياتهم الدنيا، أما الخلود في هذه الحياة فليس إلا لبقايا الأحجار على الجثوة توضع فوق القبر، ولقد عبر طرفة عن ذلك كله تعبيراً بارعاً، فقال(3) :
ألا أيُّهذا اللائمي، أحْضُرَ الوغى ... وأن أشْهدَ اللّذّاتِ، هل أنتَ مُخْلِدي؟
فإن كُنْتَ لا تستطيع دفعَ منيّتي ... فدعني، أبادرها بما مَلَكَت يَدِي
أرى قبرَ نحَّامٍ بخيلٍ بمالِه، ... كقبرِ غويّ، في البطالة مُفْسِدِ(4)
ترى جُثْوَتين من تُرابٍ عليهما ... صفائح صمٌّ من صفيحٍ مُنضَّدِ
أرى الموتَ يَعْتامُ الكرامَ، ويصطفي ... عقيلةَ مال الفاحش، المتشدِّدِ(5)
أرى الدّهرَ كنزاً، ناقصاً كلَّ ليلةٍ ... وما تنقصُ الأيامُ، والدَّهْرُ، يَنْفَدِ(6)
__________
(1) قال أبو عمرو بن العلاء: "عطر منشم" إنما هو من التنشيم في الشر.
(2) عبقرية العرب في العلم والفلسفة، عمر فروخ، ص 30.
(3) شرح القصائد العشر صنعة الخطيب التبريزي. تحقيق فخر الدين قباوة، ص 122 وما بعد، حلب 1969.
(4) نحام أو زحار، بخيل.
(5) يعتام: يختار. وعقيلة كل شيء خيرته وأنْفَسه عند أهله. والمتشدد: البخيل.
(6) أراد أهل الدهر، فحذف المضاف(1/115)
لعمرك، إن الموتَ، ما أخطأ الفتى ... لكالطّولِ المرخى، وثنْياهُ باليَدِ(1)
وظُلْمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ... على المرء من وقعِ الحُسامِ، المهنَّدِ(2)
وقد أجاد طرفة وأبدع حين قال:
سَتُبْدِي لكَ الأيامُ ما كنْتَ جاهِلاً ... ويأتيكَ بالأخْبارِ من لَمْ تُزَوِّدِ
أي ستظهر لك الأيام ما لم تكن تعلمه، ويأتيك بالخبر من لم تسأله عن ذلك ولم تزوده. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتمثل هذا البيت دائماً.(3)
وقد كانت حكمة العربي الجاهلي مبنية على إيحاء منظر خاص أعجبه فتحرَّك له. ولكنها ليست وليدة نظرة عامة شاملة، فما هي إلا خطرات تملأ صدره. فحديث الحياة والموت والغنيمة والخيبة، وحصر السؤال بالله، ووحدانيته، والبلاغ بما قد يدركه الضعيف أخذ من تفكير الشعراء كثيراً، فربما أدرك الضعيف، بضعفه ما لا يدركه القوي بقوته، وقد يخدع الأديب العاقل، عن عقله، والدهر خير واعظ للناس، ومن لم يتعض به، فإن الناس لا يقدرون على عظته، وقد عبَّر عن هذا عبيد بن الأبرص، فقال(4) :
وكُلُّ ذِي غيبةٍ يَؤوبُ ... وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
أعاقرٌ مثلُ ذاتِ رحْمٍ؟ ... أوْ غانِمٌ مثلُ من يَخيْبُ؟
من يسأل النّاسَ يحرموه ... وسائِلُ اللهِ لا يَخيْبُ(5)
بالله، يُدْرَكُ كُلُّ خَيْرٍ ... والقَوْلُ في بَعْضِه تَلْغيْبُ
والله، ليسَ له شَريْكٌ ... علاّمُ ما أخْفَتِ القُلوبُ
أفلح بما شئت، فَقَدْ يَبْلغَ الـ ... ـضَّعيفِ، وقد يُخْدَعُ الأرِيْبُ
لا يَعِظُ الناسُ من لا يعظ الـ ... ـدَّهْر، ولا ينفع التَّلْبِيبُ
__________
(1) الطول: الحبل. وثنياه: ما ثُنى منه.
(2) قيل إن هذا البيت لعديّ بن زبد العبادي، شرح التبريزي، ص 137.
(3) ذكره ابن كثير عن قتادة. وذكره مارجوليوث "أصول الشعر العربي"، ص 49.
(4) شرح القصائد العشر. صفة التبريزي، ص 472-474. تحقيق قباوة، حلب 1969.
(5) قال ابن الأعرابي: هذا البيت ليزيد بن ضبة الثقفي. المصدر السابق، ص 473.(1/116)
وإذا كانت مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية معروفة في اللغة والشعر والأمثال والقصص، فإنها غير ظاهرة في العلم والفلسفة. فما رأيناه وأمثاله لا نستطيع أن نطلق عليه مذهباً فلسفياً، إنها خطرات فلسفية، وهناك فرق كبير بين مذهب فلسفي وفطرة فلسفية، فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث المنظم وهو يتطلب توضيحاً للرأي وبرهنة عليه، ونقضاً للمخالفين.
وهذه منزلة لم تصل إليها العرب في الجاهلية. اما الخطرة الفلسفية فدون ذلك لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون، من غير بحث منظم وتذليل وتفنيد، وهذه درجة وصل إليها العرب".(1)
فمجتمع العرب "ذو أفق عقلي محدود"(2) ، وهذا لا يمنع أن "نجد في بيت من الشعر الجاهلي أو في مثل من أمثالهم أو قصة من قصصهم فكرة راقية، وربطاً للأسباب بالمسببات، ولكن حتى هذه يعوزها العمق في التفكير، كما يعوزها الشرح والتعليل".(3)
وإذاً فطبيعة هذا التفكير تكون بعيدة عن العلم ومع أنه "كان عندهم معرفة بالأنساب والأنواء والسماء، وبشيء من الأخبار، ومعرفة بشيء من الطب، ولكن من الخطأ البيّن أن تسمى هذه الأشياء علماً"(4) .
__________
(1) فجر الإسلام، أحمد أمين. ص 49. الطبعة العاشرة، القاهرة، 1969.
(2) تاريخ الأدب العربي، بلاشير، المجلد الأول، ص 52.
(3) فجر الإسلام، ص 41.
(4) المصدر السابق، ص 42.(1/117)
وهذا لا يمنع من مجيء خطرات علمية أيضاً وقد اعتبر ابن خلدون(1) علم الجبر والمقابلة من فروع علم العدد، وهو صناعة يستخرج بها العدد المجهول من العدد المعلوم إذا كانت بينهما صلة تقتضي ذلك. وقد "وصل(2) شيء من هذا الفن إلى عرب الجاهلية، فكثير ذكر(3) المعادلة ذات المجهول الواحد في الشعر" قال النابغة(4) :
واحْكُمْ كَحكْمِ فتاةِ الحيّ إذْ نظرت ... إلى حمام سراعٍ واردِ الثَّمَدِ(5)
قَالَتْ: ألاَ لَيْتَما هذا الحَمَامُ لَنَا ... إلى حَمامَتِنا مع نصفهِ فَقَدِ
فحسبوه فأَلْفَوه كما ذَكَرَتْ: ... تسعاً وتسعين لم تنقصْ ولم تزِدِ
فكملَّتْ مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبةً في ذلك العَدَدِ
لقد أعجب النابغة بالمدرك الاستقرائي(6) : س + س/2 + 1 = 100
وليس صعباً أن نعرف العلم الذي يأتي عن طريق الشعر، وإذا كان تعريف العلم دراسة تتعلق إما بمجموع من الوقائع المبرهنة أو بمجموع من الوقائع الملاحظة التي ترتّب ثم يجمع بعضها إلى بعض على نظام مخصوص ليستخرج منها قوانين عامة، على أن يقوم ذلك كله على أساليب موثوقة تمكّن الدارس من اكتشاف حقائق جديدة في الناحية التي يوليها اهتمامه"(7) . إذا كان تعريف العلم كذلك- وهو كذلك- فإن الحقائق التي يكتشفها الشعر، ويريد فرضها اكتشاف علمي في الفكر وهذا تعريف مطلق يشمل كل مظاهر الوجود بما فيها الشعر.
__________
(1) المقدمة، ص 898.
(2) تاريخ العلوم عند العرب، عمر فروخ، ص 140. دار العلم للملايين، بيروت، 1970.
(3) ربما بالغ الدكتور عمر فروخ هنا. فإن حديث المعادلات لم يكثر في الشعر الجاهلي.
(4) في معلقته يعتذر إلى النعمان.
(5) الثّمد: الماء.
(6) تاريخ العلوم عند العرب. د. عمر فروخ، مصدر سابق.
(7) عبقرية العرب في العلم. عمر فروخ، ص9، الطبعة الأولى، دار اليقظة، دمشق.(1/118)
والعلم شيء غير الحلم، وأحياناً تختلط الأمور بينهما، وقد يسمى بعض الناس الشيء علماً وليس بعلم. وقد فضّل العقل على المنطق حكمه، وفضّل المنطق على العقل هجنه. وخير الأمور ما صدّق بعضها بعضاً كما في قول زهير بن أبي سلمى(1) :
وكائن تَرى من صامتٍ لكَ معجبٍ ... زيادَتُه أوْ نَقْصُه في التكلّمِ
لسانُ الفتى نِصْفٌ ونصفٌ فؤادُهُ ... فلم يَبْقَ إلا صورةُ اللّحْمِ والدَّمِ
والحلم "نوع من رحابة الصدر المسمى بالحلم وهو مزيج غريب من كبر النفس والحيلة الناجحة"(2) .
وقد أدرك الجاهليون أن الحلم يجب أن يحمى بحد السيف وإلا فإنه ينقلب ضعفاً وشتان بين الضعف والحلم، كما أن الجهل في قبيلة ما يصبح نقمة كبيرة إذا لم يكن في تلك القبيلة حليم يردع الجاهل عن جهله. وقد عبر عن هذه الفكرة النابغة الجعدي في قوله:
ولاَ خيرَ في حلمٍ إذا لَمْ تكُن لَهُ ... بوادر تَحْمي صَفْوهُ أنْ يُكدَّرا
ولا خيرَ في جَهْل إذا لم يَكُن لَهُ ... حلومٌ إذَا ما أوْرَدَ الأمْرَ أصْدَرَا
ولا شك أن التواضع سمة إيجابية وهذا التواضع الذي قصدناه هنا ليس التساهل بل هو ترك الغرور والابتعاد عن التكبر. وأن الحلم عند العربي الجاهلي كالحكمة لا يتجاوز الفطرة السليمة، فهو ينطلق من التجربة فيسجلها. ففي هذا الوسط حيث علاقات الفرد والمجموع متوترة، تزودنا الحكمة ببعض النصائح العملية، التي تحتوي حديثاً عن الحلم، يقول المرار القفعميّ(3) :
إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة ... فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم
وللحلم خير فاعلمنّ مغبة ... من الجهل إلا أن تشمن من ظلم
وربما كان للأحوال الاقتصادية والاجتماعية الدور الفعال في ولادة هذه القيم. وهذا يعني أنها خاضعة للتغيير بحسب التبدل الحاصل في تلك الأحوال كما سنرى في العصر الإسلامي.
__________
(1) العقد الفريد، لابن عبد ربه، ج2/ ص 241.
(2) تاريخ الأدب العربي، بلاشير، المجلد الأول، ص 38.
(3) المرزوقي، شرح حماسة أبي تمام، 119.(1/119)
حركة التوحيد في الجاهلية:
عرف التوحيد لدى عرب الجاهلية، ليس لدى خاصتهم فحسب مثل خالد ابن سنان الحكيم المتأله (40ق.م) وأكثم بن صيفي الواعظ الرشيد وغيرهما، بل لدى عامتهم.(1)
"وليس هذا القول بالقول العجيب. فإن الحقيقة التي جاء بها إبراهيم وابنه إسماعيل، والتي تقول بتوحيد الله وتصفه بالكمال والجلال والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات التنزيه، كانت معروفة بل وشائعة فيهم، وأن الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة ما اخترعتها عقول لعرب إلا للتقرب بها إلى الله العلي القدير"(2) .
وفي هذه الفقرة لا نريد الخوض في ديانات العرب الجاهلية، ففي كتب الأدب العربي شيء كثير عنها(3) ، لكن الجانب الذي يتصل بالبحث هنا، يدور حول المتألهين الموحدين من الشعراء، الذين تشعر قلوبهم بالله حقيقة والذين يملكون شعور الخير، والرجاء آملين، يحسون بالخوف من الخطأ فيجللهم الحياء من اقتراف الموبقات.
وقد وقف الباحثون من هذه القضية على طرفين متناقضين، فنفى بعضهم الحس الديني، وجعل المسألة ديناً متوارثاً عن آبائهم، "فاقتدوا بهم، وساروا على أعرافهم، فكان الشعراء يمدونها ويذكرونها في شعرهم، في حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء"(4) .
وذهب بعضهم الآخر إلى المبالغة فزعم أنهم كانوا موحدين، والمتفحص الباحث يجد شعراً فيه حس ديني متأله كما وجد هذا الحس عند عامة الناس.
__________
(1) الإصابة، ج1، 466.
(2) التربية والتعليم في الإسلام، د. محمد أسعد طلس، ص 40، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1975.
(3) انظر: إيمان العرب في الجاهلية، النجيري، أبو اسحاق، المطبعة السلفية، القاهرة، بلا تاريخ.
(4) Goldzi her; history of classical Arabic literature, P.15.(1/120)
وقد ذكر عن قريش أنها "اجتمعت يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له يعكفون عنده ويدورون، وكان ذلك عيداً لهم، في كل سنة يوماً، فخلص منهم أربعة نفرنجياً، ثم قال بعضهم لبعض:
تصادقوا ولْيَكْتُمْ بعضكم على بعض قالوا: أجل،... فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء.(1)
فالحقيقة عند عقلاء القوم كانت واضحة تحت نور الحق ولا شك أن كثيراً من الشعراء مارسوا دورهم تحت نور الحقيقة. وممن جاء عنده ذكر الله منزّهاً من كل شريك عبيد بن الأبرص في معلقته، حين يقول(2) :
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب
ومشهور قول زهير في معلقته الذي يدل على أنه كان متألهاً، كما في قسمه بالبيت العتيق:
قأقسمت، بالبيت، الذي طاف حوله ... رجال، بنوه من قريش، وجُرْهُمِ(3)
ويؤمن باطلاع إله على الغيب، مما يشعرنا بإيمانه بالله واحداً(4) :
فلا تكتمنّ الله ما في صدوركم ... ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم
يؤخّره فيوضع في كتاب، فيدّخر ... ليوم الحساب، أو يعجل، فينقم
وقد سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت لبيد بن ربيعة العامري المشهور:
ألا كلُّ شيء ما خلال الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
فقال: أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد "ألا كل شيء ما خلا الله
باطل"(5) .
__________
(1) السيرة النبوية لابن اسحاق، ج1، 237.
(2) رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ص 186. وشرح القصائد العشر صنعة التبريزي، ص 473، حلب 1973. وفيه قال ابن الأعرابي: هذا البيت ليزيد بن ضبة الثقفي.
(3) شرح القصائد العشر، ص 173، حلب، 1973م.
(4) المصدر السابق، ص 179.
(5) الشنقيطي، شرح المعلقات، ص 35-38.(1/121)
وقد كان لحركة التوحيد قبل الإسلام أثر في إشعاع حضاري حاز على نفس طيب عند النبي المرسل فيما بعد.
وأهم من قال بالتوحيد من الجاهليين، ورقة بن نوفل(1) ، وزيد بن عمرو بن نفيل(2) ، وأمية بن الصلت(3) ، وقس بن ساعدة الإيادي(4) . كلهم كان موحداً، لكن قساً فاز بقصب السبق.
__________
(1) ورقة بن نوفل من قريش: حكيم جاهلي، اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وامتنع من أكل ذبائحها، وتنصّر، وقرأ كتب الأديان، الأعلام، ج9، ص 130.
(2) زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي. نصير المرأة في الجاهلية، وأحد الحكماء. كان يكره عبادة الأوثان ولا يأكل مما ذبح عليها. ورحل إلى الشام باحثاً عن عبادات أهلها، فلم تستمله اليهودية ولا النصرانية، فعاد إلى مكة يعبد الله على دين إبراهيم. كان عدواً لوأد البنات، لا يعلم ببنت يراد وأدها، إلا قصد أباها وكفاه مؤنتها، رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة، وسأل عنه بعدها، فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده. له شعر قليل، منه البيت المشهور:
أربّاً واحداً أم الف ربّ ... أدِيْنٌ إذا تقسمت الأمور؟
... الأغاني، ج3، ص 15. وتاريخ الإسلام للذهبي.
(3) شاعر جاهلي حكيم، من أهل الطائف. قال عنه الأصمعي: ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة. الأعلام، جزء 1، ص 364.
(4) من بني إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية. قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - : يحشر أمّة وحده. وكان أسقف نجران، ويقال أنه أول عربي خطب متوكئاً على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: أما بعد وكان يفد على قيصر الروم، فيكرمه ويعظمه انظر أخباره في البيان والتبيين ج1/27 والأغاني ج14/40.(1/122)
وقد طيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكره عندما قدم عليه وفد إياد. فقال: ما فعل قس بن ساعدة؟ قالوا: هلك يا رسول الله. فقال: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ يخطب الناس على جمل أحمر، ويقول: أيها الناس اسمعوا وعوا. من عاش مات. وم مات فات، وكل ما هو آتٍ آتْ. ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأنهار مجراة، وإن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبرا.
ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا يقسم قسّ بالله قسماً لا إثم فيه أن لله ديناً، هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكراً، ثم أنشأ يقول:
في الذّاهبين الأوّليـ ... ـن من القرون لنا بصائِرْ(1)
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادِرْ
ورأيت قومي نحْوَها ... يمضي الأكابر والأصاغِرْ
لا يرجع الماضي إليْـ ... يَ ولا مِنَ الباقين غابِرْ
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائِرْ
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمع الشعر، فقال: يعرض هذا الكلام يوم القيامة على قس بن ساعدة، فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة.(2)
ومثل هذه الشهادة من الرسول تُعطى لقس، تبشر المؤمنين العارفين للخير وتخسف ركاماً من الفقه أوجد نوعاً من العداوة بين الله والإنسان.
والتيار التوحيدي "لا يظهر في اعتناق اليهودية والمسيحية فحسب فإن المؤلفين المسلمين الذين عُنوا بنشأة الإسلام قد أشاروا إلى وجود أناس متدينين قليلي العدد في مكة أطلقوا عليهم اسم الحنفاء، ثم أن معطيات
__________
(1) الأغاني، ج15، 246. وانظر خطبته المشهورة بجمع الأمثال، ج1/ 52، وفي البداية والنهاية، ج2، 230. والعقد الفريد، ج4، 128.
(2) المصادر السابقة.(1/123)
هؤلاء المؤرخين.. قد توضحت.. بآيات قرآنية(1) تشير إلى وجود مذهب توحيدي"(2) .
وفي التقويم العصري للسلبي أو الإيجابي في حركة التوحيد الجاهلي، يصبح الإيجابي سلبياً في عصرنا، حيث لم يعد أحد من الناس يعبد صنماً أو وثناً، وتعود للحركة إيجابيتها إذا كشف المعاصرون من الشعراء الحقيقة الأزلية للإيمان في كل نفس، فيرفعون أحقاداً تاريخية ويوحدون الله حق توحيده، عارفين أنه الأول والملجأ، فيأتي التجاوز ليمرر الإنسان المؤمن المقيد بالأغلال الكثيرة والقابع بين النبع وبين الأٌقدام الواقفة على الحافة ظانة نفسها في الوسط الديني المطلوب.
إن إيجابية التوحيد المعاصرة تطلب من الإنسان أن يستخدم مناشط التوحيد للتوصل إلى معانيه.(3)
(
المناحي الاقتصادية
حين نقول المناحي الاقتصادية الجاهلية، نكون قد قصدنا أثر التجارة وأربابها في المجتمع الجاهلي، وأثر الماشية من إبل، وغنم، وخيل، وكل دابة نافعة.
كما نقصد الفوائد التي يجتنيها العرب من حراسة القوافل التجارية، الخارجية والداخلية.
فالبيزنطيون "كانوا يعتمدون في شؤونهم التجارية على قوافل البدو التي كانت تحمل لهم الأحجار الكريمة والتوابل من بلاد الهند، والجلود والمعادن والمواد الغريبة والحرير من الصين، لأجل ثياب أباطرتهم وحظاياهم وكهنتهم، والعطور من بلاد المجوس، والبخور من بلاد اليمن، والصمغ من أفريقية من أجل كنائسهم وقصورهم"(4) .
__________
(1) وردة كلمة "الحنيفية" في القرآن اثنتا عشرة مرة وهي من أصًل غير موثوق به ويرى بعضهم أنها مشتقة من الثلاثي (حنف) أي مال، وحنث في يمينه، ويرى المستشرق هاليفي بقربها من الآرامية حانف أو حانفا ومعناه الرياء (المجلة الآسيوية، مجلد 1905،
ص 144).
(2) تاريخ الأدب العربي، بلاشير، ج1/ 75.
(3) لاحظ د. أسعد علي، فن الحياة، المقدمة وقدمية الصدق، دمشق، 1977م.
(4) Derme nghem; the leferial Mahomet, PP. 25-26.(1/124)
"وكانت كثرة التجارة مع بلاد العرب الجنوبية تنقل إلى الشام ومصر عن طريق الحجاز. وقبل أن يبدأ القرن السابع كان طريق الحجاز كله في أيدي العرب الذين ينزلون فيه، والذين جعلوا من مكة مركزاً إدارياً لهم"(1) .
كما كانت للعرب أسواق تجارية داخلية، وهي كثيرة منتشرة، ففي أقصى الشمال هناك سوق دومة الجندل، وعلى طول الخليج العربي تنتشر عدة أسواق، حيث سوق المشقر في الهجر، وسوق صحار، وسوق دبي، وفي الجنوب أسواق كثيرة أيضاً. أهمها سوق الشحر، وسوق الرابية بحضرموت، وسوق صنعاء.(2)
وقد عرفت مكة أسواق عكاظ وذي المجاز، وسوق مجنة، وعرفت تهامة سوق حباشة(3) ، وهناك أسواق أخرى مشهورة.(4)
وقد نتج عن التجارة وكثرة الأسواق، أمور مهمة في حياة العرب، في طليعتها: أنها كانت سبباً في تشكيل طبقة الأغربة في المجتمع العربي الجاهلي. ومنها فرز المجتمع البدوي إلى طبقتين أساسيتين:
طبقة أرباب المخائض، كما يحلو لبعض الشعراء أن يسميهم وهي طبقة ملاك الإبل، والإبل هي الرصيد المالي والمحرك لأحداث حياتهم منها "مهور نسائهم، وديات دمائهم ورهن ميسرهم"(5) .
والطبقة الثانية، هي طبقة الفقراء من الصعاليك وغيرهم، كما نتج عن ذلك سعي إلى تأمين دماء التجار وأموالهم، فأوْجدوا في تلك الأسواق من ينصب نفسه لنصرة المظلوم، ويسمون الذادة المجرمين.(6)
هذه هي أهم النشاطات أو الألوان الاقتصادية التي يمكن أن يقتصد فيها الناس، فتكثر لديهم الثروة، والتي يمكن أن يتخذ الشعراء منها مواقف واضحة يمكن ذكرها.
موقف الشعراء من تضخم الثروة:
__________
(1) C. Lary; Arabia Befeur Mahammad, PP. 180-181.
(2) تاريخ اليعقوبي، ج1، ص 213-214.
(3) معجم البلدان لياقوت، مادة "مجنة، وعكاظ، وحباشة".
(4) لاحظ الأغاني، ج21، ص 92.
(5) Lammeus; Le Bercaaaud al; Is lamvol; 1 p.134.
(6) تاريخ اليعقوبي، ج1، 313.(1/125)
لا ندّعي أن وعي الشعراء المالي والاقتصادي في الجاهلية كان صاعداً واضحاً، لكننا نحاول أن نثبت، من خلال النصوص الشعرية التي بين أيدينا أن الشعراء كانوا يدركون أثر المال في خلق التفاوت الطبقي، كما يدركون أثره في تسوية العلاقات الاجتماعية.
قبل كل شيء لا بد من الاعتراف بقصور وعيهم الذي لم يمكنهم من إدراك قيمة العمل بصفته نشاط الناس العقلاني الهادف إلى إنتاج الخيرات المادية.
والشاعر الجاهلي يدرك خطأ المجتمع حين يذم الفقير لفقره، ويمدح الغني لغناه، كذلك يدرك بوعي منه جهل الناس الذين يفسرون غنى الأغنياء بنشاطهم وكثرة حركتهم، وفقر الفقراء بكسلهم، إنه تجاوز عن الحقيقة وتجاهل لجهود العاملين الكادحين.
ولكنه يخطئ حين يفسر القضية تفسيراً يعتمد على الحظ والقسمة كما في قول رجل من بني قريع(1) :
متى ما يرى الناس الغنيَّ وجارُهُ ... فقيرٌ يقولون عاجز وجليد(2)
وليس الغنى والفقر من حيلةِ الفتى ... ولكن أحاظ قُسِّمَت وجدود(3)
فهذا الظن القاصر، يفرغ المسألة الحقيقية القائمة على الاستغلال.
ويرى بعض الشعراء الجاهليين أن الراحة بالغنى، والتعب بالفقر، فلا يغادر الأغنياء أرضهم، على حين تحصد الغربة الفقراء الباحثين عن مصدر قُوتهم، فيكشف لنا عن طبيعة الحقيقة المتباينة للطبقتين المتباينتين، الأغنياء والفقراء، يقول إياس بن القائف(4) :
تُقِيمُ الرّجال الأغنياء بأرضهم ... وترمى النّوى بالمقترين المرامِيا(5)
ولا شك أن هذا الوعي وليد مدرسة الحياة والتجربة والحنكة، فقد أدركوا أثر الغنى في نفوس الناس، وكيف يوجد عندهم الحب الكاذب والبغض الكاذب.
__________
(1) حماسة أبي تمام، شرح التبريزي، ج2، 28.
(2) الجليد: الصلب، وأراد به نقيض العاجز.
(3) الأحاظي: الحظوظ، مرادف للجدود.
(4) حماسة أبي تمام، شرح التبريزي، ج2/18، القاهرة، 1955م.
(5) النوى: الغربة. والمغتر: الفقير.(1/126)
فثار بعضهم على نمط التفكير المتخلف، وطالب الفتيان بالعمل، لينالوا مالاً، ويوجدوا سعادة، أو يغنوا دون ذلك. وإنه لعار أن يقصد المرء الفقير رجل سوء يستعطيه دون فائدة، وعلا مدّ الوعي فطالب بعض الشعراء بالعمل، ولو أدى ذلك إلى الهجرة، التي ربما أدت إلى الموت، والموت أشرف من القصود وسؤال مولى السَّوْء الذي يدنو حين اليسر، وينكر حين العسر، وينصح ألا يبطر الغنى عن الأهل وذوي القربى؛ وبهذا يكون متفهماً طابع العمل لتعديل الانحياز الاجتماعي، قال سهم بن حنظلة(1) :
يُدْني الفتى للغنى في الرَّاغِبينَ(2) إذا
لَيْلُ التّمام(3) أهمَّ المُقْتِر(4) العَزَبا(5)
حتى يصادفَ مالاً أو يُقال فتىً
لاقى التي تشعب الفتيانَ فانْشَعَبا(6)
إن انتيابك(7) مولى السوء تسْألُه
مثلُ القعود ولمّا تتخذ نشبا(8)
إنه إدراك لواقع الحالة، لكنه غير مشحون بمضمون ثوري فيه دعوة إلى التغيير، ولا يمكن إعفاء الشاعر من هذه المهمة لأنه كان من المخضرمين، وهؤلاء المخضرمون عاشوا مرحلة المسح والتغيير.
فإدراكه قائم على معرفة نظرية اقتصادية بمفاهيم فطرية مفادها، أن قوة الطبقات الغنية جاءت على حساب الطبقات الفقيرة.
وهو مدرك أخلاق أصحاب تلك الطبقة. فهم إن رأوك غنياً ألانوا جانبهم لك، واقتربوا منك أكثر، وهذا يعني أنهم أدركوا أثر المال في ولادة ظاهرة النفاق، وهي قيمة سلبية، ولنتابع قصيدة سهم بن حنظلة:
إذا افتقرْتَ نأى واشتدَّ جانبه ... وإن رآكَ غنياً لانَ واقتربَا
__________
(1) وهو أحد بني نمير غني بن أعصر، فارس مشهور وشاعر محسن مخضرم. الأصمعيات، ص 53، القاهرة 1964م.
(2) الراغبون: الموسرون.
(3) ليل التمام: أطول ليالي الشتاء.
(4) المقتر: الفقير المقل.
(5) العَزْبُ: من ليس له زوجة.
(6) تشعب الفتيان: وقد عنى بها المنية.
(7) انتاب الرجل القوم: قصدهم مرّة بعد مرّة.
(8) النَّشَبُ: المال الأصيل.(1/127)
وذو القرابة عند النَّيْلِ يَطْلُبُه ... وهو البعيدُ إذا ما جِئْتَ مُطّلِبا(1)
لا يَحْمِلَنَّكَ إقْتارٌ على زُهْدٍ ... ولا تزل في عطاء الله مُرْتغِبا
ألا ترى أنّما الدنيا مُعلِّلَةٌ ... أصحابها ثم تَسْري عنهمُ سلَبا(2)
لا تَكُ ضَبّاً إذا استغنى أضرَّ ولم ... يَحْفِل قرابةَ ذي قُرْبى ولا نَسَبا(3)
أثر المال في العلاقات الاجتماعية:
على الرغم من بساطة وعي الشعراء في الجاهلية، فقد استطاعوا تسليط الأضواء على أغلب مؤثرات المال في العلاقة الاجتماعية.
فالمال قد يفسد الزوجة، فتجاهر زوجها بالمفارقة والمغاضبة لأنه متلاف للمال كما في قول المرقش الأصغر(4) :
آذنت جارتي بوشكِ رحيل ... باكراً جاهرت بخطب جليل(5)
أزمعت بالفراق لمّا رأتني ... أتلف المال لا يُذَمُّ دخيلي(6)
ثم ينحسر وعيه فينعى على مكتنزي المال الغافلين عن ريب الزمان، معلناً أن الرزق قدر وتقدير، لا اجتهاد وتشمير، وهذه سلبية اقتصادية مفرطة ما زال لها رصيد من الناس في مجتمعنا المعاصر يعيشون على نظرية "اصرف ما في الجيب، يأتي ما في الغيب":
عجبت ما عجبت للعاقد الما ... ل وريبُ الزَّمان جَمُّ الخُبول(7)
أجْمِلِ العَيْشَ إنّ رزقَكَ آتٍ ... لا يَردُّ الترقيحُ شروى فَتِيْلِ(8)
__________
(1) يقرب منك إذا رغب في نيلك وعطائك، فإذا ما طلبت منه شيئاً نأى عنك.
(2) تسري عنهم السلب: تنزعه، والسلب ما يسلب.
(3) الضب: يضرب به المثل في العقوق.
(4) ربيعة بن سفيان، عم طرفة بن العبد، وابن أخي المرقش الأكبر وأشعر منه.
(5) المرأة جارت زوجها لأنه مؤتمر عليها. والقصيدة في المفضليات، ص 250، دار المعارف بمصر، 1964م.
(6) أزمعت: عزمت. دخيلي: من يدخل إليّ. يريد أنه يتلف المال لئلا يذمه الضيف.
(7) العاقد المال: الذي يجمعه ويعقده. والخبول: جمع خبل، وهو الفساد.
(8) الترقيح: إصلاح المال والقيام عليه. الشروى: المثل. الفتيل: الخيط الذي في شق النواة.(1/128)
ومحرز بن المكعبر(1) يجعل ماله فدىً لقومه، ووسيلة لخدمتهم. وإذا اشتدت اللزبات، وقامت ساعة القتال، فإن كلَّ ماله تحت تصرف قومه:
فدى لقومي ما جمّعت مِنْ نَشَب ... إذ لفّت الحربُ أقواماً بأقوامِ(2)
وإذا كانت زوجة المرقش الأصغر تريد تركه لعدم حرصه على المال، فإن زوجة عبيد بن الأبرص استقلت مال زوجها وعابت حاله، فأذاقته مرّ العيش حتى نفر منها فخيّرها بين الفراق والبقاء على هذه الحال، يقول(3) :
تلك عرسي غضبى تريد زيالي ... ألبينٍ تريد أم لدلالِ؟
إن يكن طبُّكِ الفراق فلا أحفـ ... ـل تعطفي صدور الجمالِ
أو يكن طِبُّكِ الدّلال، فلو، في ... سالف الدهر والليالي الخوالي
فاتركي مطَّ حاجبيكِ وعيشي ... معنا بالرجاء والتَّأْمالِ
والمال قد يجلب على صاحبه الموت إذا خرج غازياً في سبيله. وإذا كانت كل من الزوجتين السابقتين تريد ترك زوجها لقلة ماله، فإن زوجة مضّاض بن عمرو تمثل وعياً مناقضاً فهي حريصة على زوجها تخشى عليه القتل والهلاك، إن هو خرج غازياً، فيقول على لسانها(4) :
تقول: أقم فينا فقيراً وما الذي ... ترى فيه ليلى أن أقيم فقيرا
وإن كثرة حديث النساء عن المال تجعلنا نفرد لها فقرة خاصة بها.
دور المرأة في سياسة المال:
كثيرة هي النصوص الشعرية الجاهلية التي تصور لنا ما كان يدور بين المرأة والرجل ضمن سياسة المال، ورعاية الجار، واحتمال الحقوق والعطف على الفقير والحديث عن الأملاك والموارد الاقتصادية من زرع ونخيل، ومراع وإبل وأغنام؛ حديث شعري واقعي جاء في وقت مبكر على لسان بعض شعراء الجاهلية.
__________
(1) جاهلي من بني ضبة، انظر أخباره في المفضليات ص 251، دار المعارف بمصر،
1964م.
(2) النشب المال الأصيل.
(3) البيان والتبيين، ج1/ 236، الطبعة الأولى، القاهرة، 1948م.
(4) انظر أخباره في جمهرة أشعار العرب، ج1، ص 54، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م. وانظر الأبيات في الأغاني، ج13/ 113، طبعة بولاق، 1920م.(1/129)
كان العربي يعتز بفرسه ويكرمها لأنه يرى فيها الأداة الرئيسية في الحروب والوسيلة السريعة في الركوب.
وتراقب زوجة سوق الخيل، فتلح على زوجها في بيع فرسه، محتجة في ارتفاع أثمانها، وترى أنها فرصة سانحة لبيعها، مما يدل على أنها كانت تراقب الحركة الاقتصادية، وتشارك الرجل في سياسة المال، وربما قصدت بذلك ألا يذهب زوجها إلى الغزو، فليس لها إلا أن تسلبه فرسه، لكنه لا يرد عليها، ولا يستجيب لها، بل يبين لها مناقب فرسه الأصيلة، كما في الحديث الذي جرى بين حاجب بن حبيب الأسدي وزوجه التي تريده أن يبيع فرسه ثادق(1) :
باتت تلومُ على ثادِقٍ ... ليشترى فقد جدَّ عصيانُها
وقالت: أغثنا به إنني ... أرى الخيل قد ثاب أثمانُها
فقلت: ألم تعلمي أنّه ... كريمُ المكبّة مبدَانُها(2)
وهذا يعني أن القضايا الاجتماعية الخاصة بين الزوج والزوجة، قد ارتبطت بنمو إنتاجية العمل، وبالمردود المالي.
فمثل هذه الزوجة تتجاوز آلية الإنتاج (الفرس) على حين يدرك زوجها أن الفرس هي إنتاجية العمل، ولا شك أن المحافظة على إنتاجية العمل دليل هام على تقدمية الوعي الاجتماعي لدى الشاعر، كما أنه لا بد من الاعتراف بأن إنتاجية العمل التي عناها تقوم على اعتماد حركة الصراع.
وهذا التدخل السلبي في آلية الإنتاج الحربي من قبل الزوجة، يفسر لنا جفاء كثير من الشعراء عن آراء النساء لدرجة أن الشنفرى الشاعر الصعلوك صار يفخر بأنه لا يأخذ برأي عرسه، ولا يطالعها في شأنه، ولا يخبرها بشيء من أفعاله(3) :
ولا جبَّأٍ أكْهى مُربٍّ بعرسهِ ... يُطالِعُها في شأنهِ كيفَ يفعلُ(4)
__________
(1) المفضليات، ص 368-369، دار المعارف بمصر، 1964م.
(2) المكبة: الحملة في الحرب، والدفعة في القتال والجري، وشدته.
(3) أمالي القالي، ج1، ص 155، الطبعة الثالثة، دار الفكر، بيروت.
(4) الجبأ: الجبان. الأكْهى: الضعيف الجبان أيضاً. مُربٍّ بعرسه: مقيم لا يفارقها. وعرس الرجل زوجه.(1/130)
ويدرك عروة بن الورد(1) أثر المال في المجتمع الذي لا يحترم الفقير لأنه في نظره "شر الناس وأحقرهم، وأهونه عليهم مهما يكن له من فضل، يجافيه أهله، وتزدريه امرأته، حتى الصغير يستطيع أن يذله أما الغني فمهما يفعل يقبل منه، ومهما يخطئ يغفر له، فللغني رب يغفر الذنوب جميعاً"(2) . ولكن منطق الزوجة يختلف، فهي تخشى عليه القتل فيطلب منها أن تتركه وشأنه يسعى في دروب الحياة التي عرفها(3) :
ذريني للغنى أسعى، فإنّي ... رأيت النّاس شرّهم الفقيرُ
وأدْنأهُمْ، وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسبٌ وخيرُ
يباعده القريب، وتزدريه ... حليلته، ويقهره الصغيرُ
ويُلْقى ذو الغنى، وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطيرُ
وقد أدرك الصعاليك أسباب الصراع، ووضعوا يدهم على الجرح، فكانوا حرباً على أولئك الذين تكدست لديهم الثروة، فصنعت التفاوت الطبقي. وكأن الصعاليك أرادوا أن يعيدوا توزيع الثروة على أسنة الرماح، ورؤوس السهام، فصاروا يؤثرون على أنفسهم، ويوزعون ما عندهم من مال وثروة على الفقراء من الناس، فكلما أوشك عروة على الغنى، حال بينهما فقير أبو عيال(4) :
إذا قلت قد جاء الغنى، حال دونَه ... أبو صِبْيَةٍ يشكو المفاقر أعْجَفُ
له حِلَّةٌ لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته خطوب تجرِّفُ
وربما فعل عروة ذلك ليحافظ على تماسك الأسرة التي راحت تتفتت تحت تأثير الحاجة.
__________
(1) كان يلقب بعروة الصعاليك. انظر أخباره في "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" يوسف خليف، القاهرة، 1966م.
(2) الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، يوسف خليف، ص 328، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر، 1966م.
(3) البيان والتبيين، ج1، ص 234، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1968م وديوان عروة، ص 198. دار الكتب المصرية، 1935م.
(4) حماسة أبي تمام، شرح التبريزي، ص 467، طبعة 1955م، القاهرة.(1/131)
ويبدو أن الأغنياء تباخلوا أكثر في سبيل الحصول على بعض زوجات الفقراء اللواتي كن يرحلن عن أزواجهن، ويصدفن عنهم إلى غيرهم من الرجال لا لشيء إلا لأنهم فقراء وغيرهم من الذين اخترنهم أغنياء، كما في حديث سبيع بن الخطيم(1) التميمي وهو يعرض مأساته مع زوجه التي اختارت عليه رجلاً غنياً:
بانت صدوف فقلبه مخطوف ... ونأت بجانبها عليك صدوفُ
واستبدلت غيري وفارق أهلها ... إنّ الغنيّ على الفقير عنيفُ
وشكواه، ما زلنا نشكو مثلها. فإن كثيراً من نساء عصرنا يغلقن عقولهن، ويذبحن قلوبهن ركضاً خلف مالٍ زائلٍ، أو جاهٍ زائفٍ. ولا شك أن وعي الشاعر الجاهلي هذا، سابق وعي كثير من الشعراء في عصرنا من الذين لم يعالجوا هذه المعضلة المنتشرة في مجتمع نساء اليوم.
فالمرأة لها دورها الكبير في العلاقات المالية سلباً كما رأينا في إيجاد نوع من تفسخ العلاقات الإنتاجية، فرآها الشنفرى مثبطة للهمة، فلم يستشرها، وإيجاباً في مشاركتها الحياة الاقتصادية.
كما دلت على أن وجود الإنتاج الجماعي، يكاد يكون مفقوداً. وأنها الورقة الرابحة التي كانت بيد الأغنياء لهدم الأسر وتفرق الزوجات عن أزواجهن وأولادهن.
ومنطق آخر فيه السلبية أيضاً تمثل في خوف بعض النساء على أزواجهن فيُحاوِلنَ تثبيط الهمم خِيفة القَتْل.
__________
(1) المؤتلف والمختلف للآمدي بشر بن آمد، ص 112. القاهرة، بلا تاريخ.(1/132)
ولما كان أثر المال كبيراً في المجتمع الجاهلي، فإنه لا بد من الاعتراف ببعض أغنياء الجاهلية وحكامها- وهم قلة- من الذين تجاوزت ألمعيتهم حدود قبائلهم فكانوا يدركون أثر المال في جمع الناس، وتفريقهم، ويشركون الفقراء في أموالهم، فلا يقصدهم سائل إلا عاد مخصباً، ومعه ما يركبه من ناقة أو بعير أو فرس، وهؤلاء قوم بشر بن عمرو(1) الشاعر الجاهلي يشكلون وحدة إنتاجية جماعية، فالمرء يعيش بينهم(2) :
في إخوة جمعوا ندىً وسماحةً ... هُضْمٍ إذا أزْمُ الشتاء ترعَّبا
غلبت سماحتهم وكثرةُ مالِهِم ... لزباتِ دَهْرِ السوءِ حتى تَذْهبا(3)
وتَرى الَّذِي يَعْفُوهُمُ لحِبائِهِمْ ... يُحْبى ويرجو منهمُ أنْ يَرْكَبا
إنه نوع من العمل الجماعي المباشر يعزز مواقع الطبقة الكادحة. كما أنه نوع من الاشتراك الجماعي الذي يساعد التغلب على العادة الأنانية في معارضة المصالح الاجتماعية في وقت كان التاريخ العربي فيه "يسجل صراعاً مع ظروف الحياة لا صراعاً بين الطبقات فحسب"(4) . فكانت مواقف الشعراء تلك "تقوم على المفاهيم البسيطة التي تعارف عليها الناس في (العصر الجاهلي) نتيجة عوامل غير العوامل التي انبعثت منها الاشتراكية الحديثة"(5) .
ولكن هذا لا يعني أنهم غير ملومين،. كان الأجدى بالشعراء أن يحطموا مفهوم قداسة المال، لا أن يصرعهم بريقه، فيصارعون في سبيل ما يرفع من شأنهم نزولاً عند ما هو سائد في المجتمع عصرئذ.
لقد اعتقدوا بأن مسألة الغنى حظ وقسمة، وهذه سلبية في التفكير، كما رأوا الناس يحترمون الغني لغناه، فأجهدوا أنفسهم للوصول إلى الغنى علهم يحترمون وهذه سلبية في العمل والتفكير أيضاً.
__________
(1) بشر بن عمرو بن مرثد شاعر جاهلي قديم.
(2) المفضليات، ص 277، دار المعارف بمصر، 1964م.
(3) لزبات: جمع لزبة، وهي القحط الشديد.
(4) الفروسية في الشعر الجاهلي، نوري حمودي القيسي، 307، بغداد، مكتبة النهضة،
1964م.
(5) المصدر السابق نفسه.(1/133)
كان عليهم أن يحصروا نفوذهم بالوقوف إلى جانب الحقيقة المتمثلة بسوء توزيع في الثروة قام به الأغنياء حين استغلوا جهود الشغيلة المتعبة. كما كان عليهم رفع قيمة الفرد لأن المكانة قيمة تكمن في الفرد ذاته، في تفكيره وسلوكه، لا في جيبه أو رصيده. إن مواقفهم تنازل كبير ويجب ألا يقع فيه شعراء اليوم، وهم يستلهمون الماضي لتأدية دورهم في الحاضر المشابه لدورات تاريخية كثيرة جاهلية وغير جاهلية.
والسؤال الآن: ما هي المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها مثل هذا الشعر؟
الملاحظ أنه ليس إصلاحياً، كما أنه ليس ثورياً. إنهم أخطأوا التفسير فلم يعرفوا كيف يعالجون مواقف الناس من المفاهيم المالية فلم يصلحوا،. كما أنهم ليسوا ثوريين، ليكون شعرهم ثورياً. فما هو الانتماء الأدبي لهذا الشعر؟
إنه صورة واقعية، وصورة صامتة لمجتمع قامت فيه علاقات تسلط.
ولو أتيح للشعراء نظرية سياسية تتبنى واقع الكادحين، وتعمل على تغييره، لفتح أمامهم باباً طويلاً،. ولكن هذا لم يكن لطبيعة الإطار التاريخي العربي عصرئذ. وحتى شعراء الصعاليك فإن وعيهم وطبيعة حركتهم لم تنبعا عن نظرية سياسية ثورية تتمنى تغيير بنية المجتمع، فآلت إلى العقم إنه شعر موضوعي واقعي كما يعبر عنه في اللاتينية إنه يدور في عالم واقعي. كما في قول حاجب بن حبيب السابق(1) :
باتت تلوم على ثادق ... ليشترى فقد جد عصيانها
وقالت: أغثنا به إنني ... أرى الخيل قد ثاب أثمانها
فهي تراقب السوق، وتلاحظ ارتفاع أثمان الخيل فتطلب بيعه، كما تفعل المرأة المعاصرة وهي تراقب ارتفاع الذهب فتطلب من زوجها بيع ما عنده لتشتري شيئاً آخر وهو واقعي في جوابه لها:
فقلت: ألم تعلمي أنه ... كريم المكبة مبدانها
__________
(1) المفضليات، ص 368، دار المعارف بمصر، 1964م.(1/134)
كما أن الحديث عن وضع الطبقات الفقيرة، حديث واقعي، وبكلمة أدق: إن الشعر الذي مر بنا، تناول قسماً مهماً من حياة الأدب، بتعقيدها، يدور حول الإنسان بأوضاعه المادية المختلفة، ومواجهته لهذه الأوضاع، وبهذا فتح هذا الشعر حدود الأدب الجاهلي إلى أقصى أبعاده، وزاده غنى وتنوعاً."
والوجه الإيجابي الذي نراه بمنظور عصرنا، يكمن في نوعية الصدق الفني يحمله هذا الشعر في التعبير عن روح المجتمع، وليس صدقاً في التعبير عن قوانين الحياة وتطورها.
كما أنه الكاشف عن عوامل تقبل الطبقات الكادحة التي ألفت الإسلام فيما بعد.
(
المناحي التربوية
في المناحي التربوية:
لسنا هنا أمام وثائق تربوية إذ أننا- ولسوء الحظ- لا نملك وثائق في هذا الجانب، ولكننا نقف على ما وصلنا من التراث، من أشعار كثيرة، إلى خطب وأمثال، وقصص، ونوادر.
وأكثر ما نعتمد في بحثنا هذا الشعر لنقف من ورائه على المناحي التربوية في المجتمع الجاهلي. هناك أصول وأعراف تربوية أخذ بها الجاهليون واستمر كثير منها بعد الإسلام.
فقد كان العربي يريد لابنه التربية الحسنة، ولابنته التربية الخلقية الرفيعة ولجيرانه احترام جيرتهم، ثم إنه يملك الغيرة والعفة وهذه سمات فطرية في النفس العربية يربى عليها الجاهلي.
الخصال الحميدة التي يربى بها الفتى:
التصق أدب الجاهليين بحياتهم اليومية التصاقاً وثيقاً، فالعربي كان يقتبس خلقه من تجاربه ومن حنكته، ويجعها سجلاً للمثل والأخلاق العربية الجاهلية والوثائق التربوية الشعرية تسجل تلك المثل وتحببها إلى نفس الفتى العربي، مما جعل للشعر دوراً في مجال التربية، يمكن استخدامه في التربية الحديثة.(1/135)
ومثل هذا الشعر يعتبر من الأدب الرفيع والخلق السامي. فقصيدة مفضلية من أولها إلى غايتها سياسة رسمها الشاعر لابنه "جبيل" اقتبسها من خلق العربي ومن تجاربه وحنكته. فهي بذلك سجل للمثل الأخلاقية العالية عند العرب ودليل على عناية هؤلاء القوم بتربية أبنائهم، وحرصهم على السمو بها، وهي للشاعر عبد قيس بن خفاف(1) قال(2) :
أجُبيْلُ إنّ أباك كارَبَ يَوْمُه ... فإذا دُعيت إلى العظائِمِ فاعمَلِ(3)
أوصيك إيصاءَ امرئٍ لك ناصِحٍ ... طَبِنٍ بريب الدَّهرِ غير مُغَفَّلِ(4)
الله فاتَّقِهِ وأوف بنذرِهِ ... وإذا حلفت محارباً فتحلَّل(5)
والضيفَ أكْرِمْهُ فإنَّ بيتَهُ ... حقٌّ، ولا تك لُعْنَةً للنزَّلِ(6)
واعلم بأنّ الضيفَ مخبرُ أهْلِهِ ... بمبيت ليلتهِ وإنْ لم يُسْألِ
ودع القوارص للصّديقِ وغيرهِ ... كي لا يروك من اللئام العزَّلِ(7)
فهو يضع الخطوط العريضة فيحمله على الأخذ بتقوى الله، وإيفاء النذور، ومواصلة الصديق الوفي بالود، وألا يدخل في جدال عقيم، ويحثه على إكرام الضيف، وتجنب الكلام القبيح.
ثم يحذره في قسم آخر من الإقامة في دار الهوان، فمن أقام في دار الهوان سهل عليه الهوان، وليس من يرفض الهوان، كمن يعتمل الضيم ويقوم عليه، يقول(8) :
وصِلِ المواصِلَ ما صفا لك وُدُّه ... واحذر حبال الخائن المتبدِّلِ
__________
(1) شاعر جاهلي من بني عمرو بن حنظلة من البراجم، أخباره في الأغاني، 7/145، والأمالي 3/21. وقد أخطأ السيوطي في شواهد المغني، إذا زعم أنه إسلامي، فإنه لم يزعم هذا أحد غيره، ولم يأت هو عليه بدليل.
(2) المفضليات، ص 384، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1964م.
(3) كارب: (قرب ودنا). أو كارب يومه، بوزن اسم الفاعل، أي قريب.
(4) طَبِن: حاذق فطن.
(5) المراء: الجدال. وقد نهى عنه الإسلام.
(6) لُعْنَة: بضم اللام وسكون العين: يلعنه الناس كثيراً.
(7) القوارص: الكلام القبيح.
(8) المفضليات، ص 384.(1/136)
واترك محل السوء لا تحلل به ... وإذا ؟؟ منزل فتحوَّلِ
دار لهوان لمن رآها دارَهُ ... أفَراحِلٌ عنها كمن لم يَرْحَلِ
ولْيتَّئد المرء إذا تحدثه نفسه بالشر، وليسرع إلى عمل الخير عاجلاً. هذه تعليمات لاحقة في القصيدة ذاتها في وقت كان الناس فيه يكيلون الصاع صاعين.
وهذا لا يعني أن ينصاع الإنسان للقوارص، فيطلب منه ألا يسكت على الظلم وأن يدفع العدوان بالعدوان، ولكن العدوان هنا دفاع عن النفس ونفي للذل والهوان، يقول(1) :
وإذا هممت بأمْرِ شرٍّ فاتَّئِدْ ... وإذا هممت بأمر خيرٍ فافْعَلِ
وإذا أتتك من العدوِّ قوارِصٌ ... فاقرُصْ كذلك ولا تقُل لم أفْعَلِ
وليس مطلوب من المرء أن يتجشع ويتذلل إن حل به الفقر، كما يجب ألا يرجو زيادةً أو فضلاً عن غير المفضلين.
وفي الحرب على المرء أن يكون فتاكاً شجاعاً، يتقيه الناس ويتحامونه كما يتحامون الأجرب وطلاءه.
وخير ما يستغني به الإنسان عن الناس هو الله، فحين يغني الله يكون الصرف من ماله، وإذا وقع الفقر، فليس أفضل من التجلد وتكلف الصبر، يقول:
وإذا افتقرت فلا تكن متخشناً ... تزجوا الفواضل عند غير المُفْضِلِ
وإذا لقيت القوم فاضرب فيهم ... حتى يروك طلاء أجربَ مُهْمِلِ
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خَصاصةٌ فتجمَّلِ(2)
والجاهلي يريد لولده أن يتعلم الأناة والصبر في الأمور كلها، ولا يريد له التودد(3) ، كما يدربه على حسم الأمور، فإذا حدث ونازعته نفسه في أمرين، ما عليه إلا أن يلجأ إلى العفيف منهما. والتفريج عن الكرب أمر يريده الجاهلي لولده، فمواساة المحتاج وإجابته لما يريد وتخليصه من الهم والكرب أمر ذو قيمة رفيعة فيها دربة تربوية، قال:
__________
(1) المصدر السابق.
(2) الخصاصة: الفقر والحاجة. { يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } الحشر/ 9.
(3) وهذا الرأي التربوي السليم استمر حياً لصحته، قال المتنبي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا(1/137)
واسْتَأنِ حلمك في أمورك كلِّها ... وإذا عزمت على الهوى فتوكَّلِ(1)
وإذا تشاجَرَ في فؤادِك مرّةً ... أمرانِ فاعْمِدْ للأعفّ الأجْمَلِ
وإذا لقيتَ الباهشين إلى النَّدى ... غُيْراً أكفُّهم بقاعٍ مُحصلِ(2)
فأعِنْهمُ وايْسِرْ بما يَسَروا بهِ ... وإذا هُمُ نَزَلُوا بِضَنكٍ فانْزِلِ(3)
والذي نأخذه على أصحاب تلك الوثائق التربوية أنها تأتي متأخرة عند الكبر والشيخوخة، أو عند الموت. والأصل في هذا أن تصدر عن قوة وعزيمة فتكون ورقة نافعة وعملية، بدل أن تكون عظةً مؤثرة في ساعة موت. فهذا عبدة بن الطبيب(4) لما أسنّ ورابه جمع بنيه يوصيهم في هذه القصيدة. فأنشأ يسرد لهم ما خلف من مآثر باقية. ثم نصحهم بتقوى الله وبر الوالد، والاتحاد وترك التنابذ، والحذر من النمّام والمنافق ثم نوّه بحسن رأيه في المفضلات وغلبته في المفاخرة.
ثم صور يومه الأخير، وذكر البكاء والقبر، وقدم لبنيه عزاء بأن الموت غاية كل حي، قال(5) :
أبنيْ إنّي قَدْ كبرتُ ورابَني ... بَصَري، وفي المصلِحِ مستمتعُ(6)
فلئنَ،ْ هَلكْتُ لَقَدْ بنيتُ مساعياً ... تبقى لكم منها مآثِر أرْبَعُ(7)
__________
(1) استأن: من الأناة.
(2) الباهش: الفرج، يريد الذين يأتونه يلتمسون جداه ونائله.
(3) وايسر بما يسروا به: أسرع إلى إجابتهم. الضنك: الضيق أي أسهم في ضيقهم.
(4) هو عبيدة بن الطبيب، والطبيب اسمه يزيد بن عمرو ينتهي بنسبه إلى زيد مناة بن تميم. شاعر مجيد ليس بالمكثر، وهو مخضرم أدرك الإسلام فأسلم وكان عبدة أسود. وقد أدرجناه مع الجاهليين هنا ولا شك أن قصيدته تحمل طابعاً إسلامياً في كثير من المعاني التي جاء بها. المفضليات، ص 145.
(5) المفضلات، ص 145-146.
(6) يقال: رابني الشيء، إذا تيقنت منه الريبة، وأرابني: إذا شككت فيه. لمصلح: لمن استصلحني فاستمتع بعقلي ورأيي.
(7) المساعي: المكارم.(1/138)
ذِكْرٌ إذا ذُكِرَ الكرامُ يزيّنكُم ... ووراثةُ الحَسب المقدّم تنْفَعُ(1)
ومَقامُ أيامٍ لهنَّ فَضِيْلَةٌ ... عندَ الحفيظَةِ والمَجامِعِ تجمعُ(2)
ولُهىً من الكسب الذي يغنيكم ... يوماً إذا احْتَضَر النّفوسَ المطمعُ(3)
ونصيحةٌ في الصَّدْرِ صادِرَةٌ لكُمْ ... ما دمْتُ أبصر في الرّجالِ وأسمعُ
أُوْصِيكم بتقى الإله فإنَّه ... يُعْطي الرّغائبَ مَنْ يشاء ويمنعُ(4)
وببرّ والدكم وطاعةِ أمْرِه ... إن الأبر من البنين الأطمعُ
إن الكبير إذا عصاه أهْلُهُ ... ضاقَتْ يَداه بأمره ما يصنعُ
ودعوا الضَّغيْنَةَ لا تكُنْ من شَأْنِكم ... إنَّ الضَّغائن للقرابة توضعُ(5)
واعصُوا الذي يزجي النمائم بيْنكم ... متنصحاً، ذلك السّمام المنقعُ(6)
إنّ الحوادث يخترمن، وإنّما ... عمر الفتى في أهله مستودعُ(7)
يسعى ويجمع جاهداً مستهتراً ... جداً، وليس بآكلٍ ما يَجْمعُ(8)
ويلاحظ أن هذه الخطوات والتوجيهات التي يريدها الشاعر- ولنا عودة إليها- ما هي إلا استجابة لحاجات كانت قائمة في المجتمع الجاهلي.
الخصال الحميدة التي تربى بها الفتاة:
بالإضافة إلى تلك القيم التي مرت هناك أمور تربوية أخرى تتلقنها الفتاة في الجاهلية مرةً عن أبيها ومرةً عن أمها.
__________
(1) الذكر: الشرف والصيت.
(2) المقام، بفتح الميم: مقام ساعة في خطبة، وخصومه أو نحو ذلك. الحفيظة: الغضب.
(3) اللُّهى، بضم اللام: العطايا، واحدتها لهوة، وأصلها الحفنة من الطعام تطرح في الرحى.
(4) الرغائب: جمع رغيبة وهي الشيء الواسع الكثير، والشيء النفيس.
(5) توضع: من قولهم أوضعت البعير: إذا حملته على العدد. أراد ن الضغئن في القرابة سريعة التفشي.
(6) يزجي: يسوق. المنتصح: المتشبه بالنصحاء. السمام: جمع سم. منقع: معتق من قولهم: انقع السم: عتقه، وانقعته الحية: جمعته.
(7) يخترمن: يقتطعن ويستأصلن.
(8) المستهتر: المولع بالشيء الذاهب العقل فيه من حرصه عليه.(1/139)
ففي الزواج هناك تعليمات خاصة ونصائح تربوية قيمة تقدمها الأم لابنتها حرصاً منها على سعادتها ونجاح زوجها.
من ذلك ما روي عن خطبة عمرو بن حجر إلى عوف بن محلم الشيباني. فقد خطب عمرو أمَّ إياس ابنة عوف، فقال: نعم أزوجها على أن أسمي بنيها وأزوج بناتها. فقال عمرو بن حجر: أما بنونا فنسميهم بأسمائنا وأسماء آبئنا وعمومتنا، وأما بناتنا فيكحن أكفاؤهن من الملوك، ولكني أصدقها عقاراً في كندة وأمنحها حاجات قومها، لا ترد لأحد منهم حاجة، فقبل ذلك منه أبوها وأنكحه إياها.
فلما كان بناؤه بها خلت بها أمها، فقالت: أي بُنَيَّة، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي فيه درجتِ، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا طيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع مهلكة وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة فلا تبقين له أمراً ولا تفشين له سراً، فإنَّكِ إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتماً، والكآبة بين يديه إذا كان فرحاً.(1)
وأحياناً كانت التربية الجاهلية تحسن إلى المرأة في اختيار زوجها وتستشار بأمر زواجها فتختار من تريد.
ذُكر أنَّ هند بنت عقبة بن ربيعة- بعد أن فشلت في زواجها الأول من الفاكه بن المغيرة المخزومي- قالت لأبيها:
__________
(1) العقد الفريد لابن عبد ربه، ج6/ 34.(1/140)
يا أبت إنك زوّجتني من هذا الرجل ولم تؤامرني في نفسي، فعرض لي معه ما عرض، فلا تزوجني من أحد حتى تعرض عليَّ أمره، وتبين لي خصاله. فخطبها سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها، وهو يقول(1) :
أتاكِ سهيلٌ وابنُ حَرٍْ وفيهما ... رضً لك يا هند الهنودِ ومَقْنَعُ
وما منْهُما إلا يُعاشُ بِفَضْلِهِ ... وما منهما إلا يضرُّ ويَنْفَعُ
وما منْهُما إلاّ كَريْمٌ مرزّأٌ ... وما منْهُما إلا أغرّ سمَيْدَعُ
فَدُونَكِ فاخْتَارِي فأنت بَصِيْرَةٌ ... ولا تُخْدَعي إن المُخَادع يخدَعُ
قالت: يا أبت، والله ما أصنع بهذا شيئاً، ولكن فسّر في أمرهما وبيّن لي خصالهما، حتى أختار لنفسي أشدهما موافقة لي. فبدأ بذكر سهيل بن عمرو فقال: أما أحدهما ففي سطة(2) من العشيرة وثروة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله.
وأما الآخر فموسّع عليه منظور إليه، في الحسب الحسيب، والرأي الأريب، مِدْره أرومته، وعزّ عشيرته، شديد الغيرة، كثير الطّيرة، لا ينام على صفة ولا يرفع عصاه عن أهله.
فقالت: يا أبتِ، الأول سيّد مِضْياع للحرّة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتصنع تحت جناحه، إذا تابعها بعلُها فأشِرَت، وخافها أهلها فأمّنت، فساءت عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمّه لي.
وأما الآخر فبعل الفتاة المزيدة، الحرة العفيفة، وإني للتي لا أريب له عن عشيرة فتغيره، ولا تصيبه بذعر فتغيره لأخلاف مثل هذا لموافقة، فزوِّجنيه، فزوّجها من أبي سفيان.
وهناك مواقف أخرى من المرأة، بعضها أيّده العلم، وبعضها لا يؤيده علم ولا شرع.
__________
(1) المصدر السابق، ص 39. ولاحظ أمالي القالي، ج1، ص 160.
(2) سطة: أي هو من أوساطهم وخيارهم. والسطة: الشرف أيضاً.(1/141)
فإنهم يرون أن الغرائب أنجب وبنات العم أصبر، ويقولون في هذا اغتربوا ولا تضووا. أي انكحوا في الغرائب، فإن القرائب يضوين البنين. ومن عجيب معتقدهم في الوقوع على المرأة أنه يتم هذا إذا أراد الرجل أن يصلب ولد المرأة، فله أن يغضبها ثم يقع عليها، وفي هذا يقول أبو كبير الهذلي(1) :
ممن حُمّلن به وهنّ عواقد ... حُبكِ النِّطاق فشبَّ غيرَ مهبَّلِ
حَمَلَتْ به في ليلةٍ مزؤدةٍ ... كرهاً وعقدِ نطاقها لم يُحْلَلِ
وفي العقد الفريد جزء يسير من هذه الأخبار.(2)
وهناك رؤى ترتبط بالنظرة العامة التي يراها العربي الجاهلي في المرأة، حيث ينظر إليها على أنها مكمن اللذة تطارد في الرجل شبابه وماله، وهو أيضاً لا يجد فيها إلا ملاذاً للذة، فيأتي برؤية قاصرة ذات حدين، وقد اعتبر أبو عمرو ابن العلاء علقمة بن عبدة(3) أعلم الناس بالنساء في الجاهلية إذ يلخص رأي المجتمع الجاهلي في المرأة ويحدثنا عما تبتغيه في الرجل، وإذا كان لقول علقمة التالي الذكر من وجهة إيجابية فهو يعطينا صور عن نظرة المجتمع الجاهلي إلى المرأة، لكنها في الحقيقة صورة قاسية سلبية تحصر المرأة التي تشكل نصف المجتمع البشري في نطاق ضيق من الحياة، وفي رؤية المصلحة المادية واللذة الذاتية، يقول(4) :
فَإنْ تَسْألُوني بالنّساءِ فإنّني ... بصيرٌ بأدْوَاءِ النّساءِ طَبيْبُ
إذا شابَ رأسُ المرء أو قلَّ ماله ... فليس له من ودّهُنّ نَصيْبُ
يُرِدْنَ ثراء المالِ حيثُ عَلِمْنَهُ ... وشرخُ الشّباب عندهنَّ عَجِيْبُ(5)
__________
(1) حماسة أبي تمام، شرح التبريزي، ج1/ ص 19.
(2) انظر العقد الفريد، ج6 (المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن).
(3) هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس، من مضر، شاعر جاهلي مجيد. كان من صدور الجاهلية وفحولها.
(4) المفضليات، ص 392. الطبعة الثالثة، دار المعرف بمصر، 1964م.
(5) الثراء: الكثرة. شرخ الشباب: أوّله.(1/142)
وهذه النظرة القاصرة امتدت في التربة العربية حتى أيامنا حيث ما زال قسم كبير من الأعراب والعرب لا يرى في المرأة إلا الغدر، وقصر النظر وأن مودتها لا تعطى إلا لمن كثر ماله أو كان شديد سواد الشعر.
وهذه النظرة تقرير يقدمه الشاعر الجاهلي عن نظرة أهل الجاهلية إلى المرأة في وقت كان أغلب فكره فيه محصوراً في الانتقاء والتفضيل بعيداً عن العلة والتحليل.
مظاهر أخرى في التربية الجاهلية:
ومن هذا المنحى التفضيلي في عالم التربية تفضيلهم بعض الأصدقاء على الأقارب، واختيار القرين، وهذا أمر هام، فمن خلال هذا القرين يُحْكَم على المرء، كما في قول عدي بن زيد(1) :
عَن المَرْءِ لا تَسَل وسَل عَنْ قَرِيْنِه ... فكلُّ قَرِيْنٍ بالمقارن يقْتَدِي
ومن هذه القيم التربوية التحبب إلى الناس، وإظهار صفات المودة والمحبة. وشعارهم في هذا الوفاء لأهل عصبيتهم ولمن يعطى العهد فلا يسعهم أن يغدروا، وإذا حدث وغدر الرجل منهم رفعوا له في سوق عكاظ لواء ليعرف الناس غدره، فيفضحوه، فيرتدع غيره عن مثل عمله لتكون للتربية جوانب عملية، وإلى هذا اللواء كان قطبة بن أوس الحادرة يشير إذ قال(2) :
أسمّي ويحكِ هل سمعتِ بِغَدْرَةٍ ... رفع الواء لَنَا بها في مَجْمَعِ
ومن أسس التربية السليمة التي سار عليها الجاهليون، مبدأ { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، فقد كانوا يرون أن أولى الأمور بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً ولداً لآباء لئام لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً ولداً لآباء كرام لم ينفعه ذلك، وفي هذا يقول عامر بن الطفيل العامري(3) :
وإنّي وإن كنتُ ابنَ سيد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكبِ
فما سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ ... أبى اللهُ أنْ أسمو بأمٍّ ولا أبِ
__________
(1) العقد الفريد لابن عبد ربه، ج2، ص 311.
(2) المفضليات، ص 56، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة، 1964م.
(3) عيون الأخبار، ج1، ص 227.(1/143)
ومن الشعر التربوي ما يعلم مكارم الأخلاق كما في لامية الشنفرى. فهذه اللامية تحتوي على اصول تربوية عريقة استقاها الشاعر من الحياة وفيها يبحث على الإباء، ودعوة إلى مفارقة من لا يرجى خيره، ودعوة إلى الصبر والجلد، وتحمل المشاق في سبيل المآرب الجليلة.
وقد نسجت حول هذه القصيدة أقاويل كثيرة(1) . وتبقى في ذهننا القصيدة التي تعطي صورة حية عما يريده الجاهلي من تربية ويراه خير ما يتوصل إليه الإنسان العربي، يقول:
أقِيْموا بني أُمّي صدورَ مطيكُمْ ... فإنّي إلى قَوْمٍ سواكم لأَمْيَلُ
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى ... وفيْها لِمَنْ خافَ القِلَى مُتَحوَّلُ
لَعَمْرُكَ ما في الأرضِ ضيقٌ على امْرِئ ... سرى راغِبَاً أو رَاهِباً وهو يَعْقِلُ
فالدعوة إلى إباء الضيم، ومفارقة من لا خير فيه، وترك البلاد التي تؤذي المرء صريحة واضحة. ويقدم كشفاً بالصفات السلبية التي لا يرتضيها:
ولستُ بمهيافٍ(2) يعشّى سوامَه(3)
مجدّعة(4) سُقْبانُها(5) وهي بُهّلُ(6)
ولا جبأٍ(7) أكْهَى(8) مُربٍ(9) بعِرْسِهِ
يُطالعُها في أمْره كَيْفَ يَفْعَلُ
ولا خَرِقٍ(10) هَيْفٍ(11) كأنّ فؤادَه
يظلُّ به المكّاءُ(12) يعْلُو ويَسْفُلُ
ولا خالف(13) داريه(14) متغزّل
__________
(1) نسب إلى الرسول قوله: [رووا أولادكم لامية الشنفرى، فإنها تعلّم مكارم الأخلاق ولا ترووهم مقاطعة آل غسان]. محاضرات مجمع اللغة العربية. دمشق، ص 147، 1954. ولا نعتقد صحة لهذا الحديث، وقد جاء في أمالي القالي، ج1، ص 154 أن هذه القصيدة لخلف الأحمر.
(2) المهياف: السريع العطش.
(3) يرعاها ليلاً خوف العطش.
(4) سيئة الغذاء.
(5) أولادها.
(6) ما يشد به ضرع الناقة لئلا يرضعها ولدها.
(7) جبان.
(8) جبان ضعيف، فكأنه وصف ونفى وأكد النفي.
(9) ملازم لزوجه.
(10) دهش من الخوف.
(11) رقيق طويل.
(12) طائر.
(13) لا خير فيه.
(14) لا يفارق البيوت فهو فيها دائماً.(1/144)
يروحُ ويغدو داهناً ؟؟
ولستُ بِعُلٍّ(1) شرُّه دونَ خَيْره
ألفّ(2) إذا ما هجتَهُ اهتَاجَ أعزَلُ(3)
ولستُ بمِحْيار الظَّلاَم إذا انْتفَتْ
هدى الهَوْجَل(4) العسيف(5) بهماء هَوْجَلُ(6)
وكثيراً مما افتخر به الشاعر وعابه ما زال ماثلاً في أذهان العرب في عصرنا هذا، ففي الجزيرة الفراتية. ما زال الناس هنا يعيبون على الرجل جلوسه في البيت ويعيبون عليه استشارته لزوجه، ويفتخر بعضهم بأنه لا يعبأ برأي المرأة ولا يأخذ له اعتباراً مهما كان. كما أنه من المعيب عند بعضهم أن يطالع زوجه بما يريد أن يفعل. ثم يسرد صفات إيجابية أخرى تصلح مثالاً في تربية الأعرابي، يقول:
إذا الأمعزُ(7) الصّوان لاقى مناسمي ... تطايَر منه قادحٌ ومغلَّلُ
أُدِيْمُ مُطال الجُوْع حتى أمِيْتُه ... وأضْرِبُ عَنْهُ الذكر صَفْحاً فأذهَلُ
جلد على المتاعب، وصبر على المشاق، وإقدام وقوة. كما يخط سياسة الإباء في رفض تحمل منة الناس، مهما كانت الحاجة ماسة:
وأستفُّ تُرْبَ الأرض كيلا يرى له ... عليّ من الطول امرؤ متطولُ(8)
ولولا اجتناب(9) الذأم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لديّ ومأكلُ
ولكنّ نفساً حرّةً لا تُقِيْمُ بي ... على الضيمِ(10) إلا ريْثَما أتحولُ
استنتاج:
يلاحظ الباحث التربوي أن هذه النصوص الشعرية التربوية- على قلتها- تؤكد أموراً تربوية مهمة.
__________
(1) المسن الصغير الجثة.
(2) عاجز.
(3) لا سلاح معه.
(4) الطويل الذي فيه تسرع وحمق.
(5) الأخذ على غير الطريق.
(6) فلاة لا أعلام فيها.
(7) الأرض الحزنة، الغليظة ذات الحجارة، والصوان حجارة يقدح بها.
(8) المن والمتطول: الممتن.
(9) الذام والذأم: العيب.
(10) الظلم.(1/145)
فمن جهة تظهر على أنها استجابة لحاجات كانت قائمة في المجتمع الجاهلي، ومن جهة أخرى فإنها تؤكد أموراً تربوية عربية معاصرة كما سيظهر معنا في نهاية الاستنتاج. كما أنها تقرير تربوي ميداني عن تأديب النفس، ورياضتها على مكارم الأخلاق، وتنمية التفكير، والنهوض بتكاليف إيجابية كثيرة ترتكز على الأصالة.
"إن التربية في جوهرها عمليات نفسية واجتماعية تصدر عن شخصية الإنسان بجملتها، جسماً وفكراً ووجداناً وإرادة وخلقاً، تتحقق على خير وجوهها إذا شملت تلك النواحي وعملت على تكاملها وهي إنما تفهم طبيعتها بالاستناد إلى الفكر الإنساني وتطور العلم الحديث في مجال العلوم السلوكية خاصة، والممارسة الواقعية والتجريب، وتحتاج خاصة إلى سند من التحليل الفلسفي والتحليل العلمي، يعني الأول خاصة بالأهداف، والغايات، والثاني خاصة بالأساليب والوسائل والعمليات"(1) .
أمام هذا النص المطول نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى القصائد التي مرت بنا. فعبد القيس البرجمي مجرّب مرت عليه سنون من دراسة المجتمع حوله بأشكاله، وأنواع معاملاته، فيخرج لابنه بتحليل نفسي وعلمي ليرسم له أهداف وجوده في هذه الحياة، وليصنع له الوسائل الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف، ويؤكد له قيمة وصيته النابعة من أصالة المجتمع الذي يعيشه بقوله:
أوصيكَ إيصاء امرئٍ لكَ ناصِحٍ ... طَبنٍ برَيْب الدَّهْر غير مغفَّلِ
__________
(1) استراتيجية تطوير التربية العربية، وضع لجنة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ص 33-34، الطبعة الأولى، 1979م.(1/146)
ثم يضع له خطوطاً تربوية كثيرة يبدأها بالخط الإيجابي، أو المبدأ الإيماني بالمصطلح المعاصر، فيطلب منه تقوى الله، وتقوى الله أمر كبير يوجد شخصية متزنة في مناحيها الكثيرة، اتزان بين الروح والجسد، واتزان بين المعرفة والوجدان، وبين الفكر والعمل، وبين الإرادة والمسؤولية، وهي الأنواع المتعددة الشاملة المنظمة لشؤون الحياة عامة(1) .
وبعد أن وضح له المبدأ الإيماني، راح يغرس فيه مجموعة من القيم النفسية المستمرة، ويعتبرها نظام حياة شاملة، ومتكاملة في تفاعلها مع ظروف الزمان والمكان.
ثم يأتي عبدة بن الطبيب ويقدم مجموعة أخرى من القيم، ثم يؤكد على تقوى الله كذلك بحلة إيمانية موحدة. ومع أن الشاعر مخضرم أدرك الإسلام إلا أن هذا النَّفَس التربوي في قصيدته لا يعني أنه سالم من كل ما هو جاهلي، وتكاد تكون كسابقتها، عدا أنها تأخذ طابع وصية أكثر من كونها تعاليم تربوية.
فهو يذكرهم بالمكارم التي بناها لهم، من شرف وصيت وحسب ومال. وهذه القيم النفسية والمادية مما يعتز به الجاهليون والمسلمون ويظهر أن التعاليم الإسلامية بارزة التأثير في الأبيات السبعة الأخيرة ففيها إنجاز الحركة الإسلامية الفاصلة من صدٍّ عن نزعات الغي، والهوى الشخصي، وتذكيرٍ بنهاية المرء والحياة.
ومن خلال النظر في هذه النصوص تتبين لنا مكانة الإنسان الصالح في الوجود.
فهي تسعى إلى شمولية في النظر إلى تكوين هذا الإنسان. وهذه مبادئ "تسعى إليها أرقى النظم الاجتماعية المعاصرة، وتحاول المذاهب التربوية الحديثة تمثلها والدعوة إليها"(2) .
فصلاح المجتمع من صلاح الفرد، وصلاح الفرد يأتي من خلال نظرة تربوية شاملة.
والحقيقة أن هذه الخطوات، أو فلنقل المبادئ التي طرحت هنا لا تخلو من سلبيات وإيجابيات.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 43.
(2) المصدر السابق، ص 46.(1/147)
فالسلبيات التي نحصلها من هذه النصوص- على ضوء الدراسة الاجتماعية والتاريخية- تتمثل في مظاهر مختلفة ولكنها متداخلة.
فهناك انقطاع تام بين التربية العربية الجاهلية وتربية الأمم المجاورة وذلك لما قلناه من أنها استجابة لحاجات كانت قائمة في المجتمع الجاهلي.
وهناك واقع عربي في إطار قبلي فقير يجعل التربية في حالة من الركود. ويجعلها تسعى إلى تغير معالم الفقر عن طريق الحث على الكرم والسخاء، فتأخذ طابعاً إصلاًحياً.
كما أن هذا الأمر يهز أهداف التربية الديمقراطية... ويجعلها متفاوتة بتفاوت الوضع الطبقي. فإذا دعا الغني ابنه إلى الكرم والسخاء، فإلامَ يدعو الفقير ابنه في هذا الجانب؟..
كذلك السنّ التعليمية أو الوقت التعليمي الذي يبدأ الشاعر فيه، سلبية بحد ذاته، وهذه السلبية تجعل من التعليم التربوي مجرد نصائح خاصة تأتي للكبار، ومن بعد عمر مديد.
والإيجابيات نستطيع إجمالها بقيمة الأهداف السلوكية التي تبتغيها هذه التربية، فهي تملك خصائص أصلية نابعة من حاجة المجتمع، لكنها لا تملك المعاصرة.
كما تبرز هذه الإيجابيات في الوحدة الإيمانية، وفي وحدة العادات والتقاليد، وفي وحدة الهدف اللغوي.
وعلى ضوء المبادئ الاستراتيجية(1) المقترحة في التربية العربية المعاصرة والمتمثلة بالمبادئ التالية:
1-المبدأ الإنساني.
2-التربية للإيمان.
3-المبدأ القومي في التربية.
4-المبدأ التنموي.
5-المبدأ الديمقراطي.
6-مبدأ التربية للعلم.
7-مبدأ التربية للعمل.
8-التربية للحياة.
9-مبدأ التربية للقوة والبناء.
__________
(1) الاستراتيجية: لفظة استخدمت أصلاً في الحياة العسكرية وتطورت دلالاتها فيها حتى أصبحت تعني فن القيادة العسكرية في مواجهة الظروف الصعبة وحساب الاحتمالات المختلفة فيها، واختيار الوسائل الرئيسية المناسبة لها. وقد امتد استعمال هذه الكلمة في السنوات الأخيرة بمعان متقاربة إلى أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية.(1/148)
10-مبدأ التربية المتكاملة.
11-مبدأ الأصالة والتجديد.
12-مبدأ التربية للإنسانية.
من هذه المبادئ العربية المعاصرة، ما جاء في وثائق الجاهليين والإسلاميين الشعرية والتربوية. فمبدأ التربية للإيمان وجدناه في الدعوة إلى تقوى الله وما ينجم عنها. وكذلك مبدأ التربية للقوى والبناء مع اختلاف بين البناء القبلي والبناء القومي، ومبدأ التربية المتكاملة كذلك مع الاختلاف الذي ذكرناه أيضاً.
أما المبدأ الإنساني، والتنموي، ومبدأ التربية للحياة، والمبدأ الديمقراطي، ومبدأ التربية للعمل وللعلم، ومبدأ التربية للإنسانية فقد أكدت عليها التربية الإسلامية فيما بعد.
يزداد حرصي في نهاية الحديث عن العصر الجاهلي أن أيبن شيئاً ربما تبادر إلى ذهن القارئ أنه سلبي في هذه الدراسة الخاصة بالسلبية والإيجابية.
الحقيقة أنني حاولت أن أحشد أهم المواقف السلبية والإيجابية من أهم المفاهيم الجاهلية.
وقد جعلنا هذا الأمر نتجاوز الكيف أحياناً في معالجة بعض المواقف فبدا الأمر كأن خللاً في تأليفنا هذا.
(((
الباب الثاني:
العصر الإسلامي
الفصل الأول
1- الشعر ونفوذه في الإسلام.
2- التغيّرات البنيويّة في المجتمع العربي.
(
الشعر ونفوذه في الإسلام(1) :
يمكن تلخيص أهم المتغيرات التي أحدثها الإسلام بما يلي:
استنكار قريش للدين الجديد استنكاراً مدعّماً بأقوال الشعراء المشركين مما جعل القرآن يرد عليهم وينزل بحقهم آيات بينات تفضح مواقف الشعراء السلبية كما في قوله: { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون } (2) .
__________
(1) احترست عن الحديث في "الشعر والإسلام" لكثرة من خاض في هذا الموضوع، مستقلاً في كتاب- مثل كتاب الدكتور يحيى الجبوري: "الشعر والإسلام" بغداد، 1964م. أو ضمن دراسة أدبية. لاحظ مثلاً شوقي ضيف "العصر الإسلامي".
(2) سورة الشعراء، الآيات 222-226.(1/149)
كما أن أهم صور الانقلاب جعل (يثرب) التي سميت المدينة فيما بعد عاصمة الدولة الدينية. حيث أحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثورة في (التأهيل) والاقتصاد والسياسة والنفوذ الديني.(1)
ولا شك أن الدين الجديد، وقد اعتنقه أغلب أهل المدينة قد رفع من شأنها، وصار مؤكداً على بدء سيطرة شرقي الجزيرة العربية وكان لا بد من الرد على المشركين باللغة التي يفهمونها، فجعل شعراء المدينة الشعر سلاحاً فعالاً فيه قيم إيجابية وردود عملية على تحدي المشركين، فنزلت بقية الآية تخفف من حدة إثم الشعر: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعدما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } (2) .
وهكذا استثنى القرآن الشعراء المؤمنين، وهم في بحثنا الإيجابيون وأشار إلى ضرر قوم آخرين منهم سماهم (الغاوين) وهم في بحثنا السلبيون.
ومن أهم ما أحدثه الإسلام ظهور الفعالية الأدبية في المدينة المنورة باعتبارها قد أصبحت مركزاً حضرياً. ولم يفتأ شعراء المدينة أن تأثروا بالمعطيات الجديدة التي قدمها الإسلام.
وقد توضح عشية تمكن الإسلام في المدينة أن المطلوب من الشعراء وقوفهم وشعرهم إلى جانب الدين الجديد في الصراع بين الخير والشر.
فكان يهجو قريشاً ثلاثة نفر من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر وبعيرانهم بالمثالب وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إليه، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر، فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة"(3) .
__________
(1) تاريخ الأدب العربي، د. بلاشير، ج2، ص 980، دمشق 1973، وزارة الثقافة.
(2) بقية الآية من سورة الشعراء، 226-227.
(3) الأغاني، ج5، ص 28، طبعة الساسي.(1/150)
وحين انتصر الإسلام، وساد شبه الجزيرة العربية حمل الشعراء الذين أسلموا على هجر السباب والموضوعات الهجائية المثقلة بالنزعة البدوية الوثنية، والابتعاد عن التغني بالمفاخر الجاهلية، وتبني القيم السليبة التي حاربها الإسلام. وظهر تأثر هؤلاء الشعراء المسلمين بالقرآن الكريم ودعوته بعد إيمانهم به.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكأن يعبر عن الشعر الإيجابي الذي يوصل من ورائه إلى تدعيم خط الخير- يقول: "فضل لسانك تعبّر فيه عن أخيك الذي لا لسان له صدقة"(1) .
ولا شك أن بعضاً من الشعراء لا نكاد نجد عنده اختلافاً في شعره بين الجاهلية والإسلام، ولا شك أيضاً أن هذا الصنف من الشعراء كان من أصحاب الدين الرقيق.(2)
وقد جاء دعم القرآن الكريم للخط الإيجابي في الشعر حين استثنى الشعراء المؤمنين، فخفف من حدة الشعر في كل شيء وخفف من أثر الشاعر في المجتمع الجديد تخفيفاً بيناً حيث صارت المكانة في هذا المجتمع الجديد لقارئ القرآن، وللعامل بما فيه.
ولم يهمل الشعر، فقد وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر الإيجابي ونمّاه ودعا إليه وحارب الشعر السلبي جاهداً وكان يقول: [إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن وما لم يوافق الحق منه فلا خير منه](3) .
وأكد أن الإيجابي من الشعر هو الطيب، والسلبي منه هو الخبيث في قوله: [إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبث وطيب](4) .
ومن هنا كان حرصه على توجيه الشعراء نحو تمثل المفاهيم الإسلامية، ونشر المثل الجديدة التي تنأى عن التمسك بضلالات الجاهلية وعصبياتها، لئلا يكون في الشعر عبث ومجون وإذا شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بميل الشعراء نحو ترديد مُثُلٍ جاهلية نبّه وعاتب، ووجه.
__________
(1) البيان والتبيين، ج1، ص 258، الطبعة الأولى، القاهرة، 1948م.
(2) لاحظ تصرف الحطيئة في أخباره الكثيرة.
(3) العمدة لابن رشيق، ج1، ص 27.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/151)
وقد حرص على جعل المدعاة والمباهاة دينية جماعية محاولاً إسدال الستائر على مباهاة الجاهلية الفردية، والقبلية وأرادها دينية بحتة. وقد سمع كعب بن مالك الأنصاري ينشد:
ألا هَلْ أتى غسان عنّا ودونَنَا ... من الأرْضِ خرق غُوله مَتَعْتِعُ
مُجالدُنا عن جذمنا كلَّ فَخْمةٍ ... مدرّبةٍ فيها القوانسُ تَلْمَعُ
فقال له: لا تقل عن (جذمنا) وقل عن ديننا"(1) .
عملت إشارات الرسول(ص) وتوجيهاته في هذا الجانب، على تقوية التيار الإيجابي في صدر الإسلام، أيام حياته - صلى الله عليه وسلم - واستمر في صعوده إلى أن جاء يوم صار ينزل، وتعلو السلبية بدلاً منه ، فكلما ابتعد الزمن عن عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقاصر الخط الإيجابي، وتطاول الخط السلبي، حتى إذا كان العهد الأموي، علت السلبية في الشعر، وعادت إليه الصور الجاهلية جدِعةً نشِطة. ويمكن للشكل المرافق أن يقدم صورة تقريبية.
"التغيرات الحاصلة في الشعر الإسلامي حسب العهود"
... ... 1-صدر النبوة
أفقياً : ... 2-الخلفاء الراشدون
... ... 3-العهد الأموي
عمودياً: ... قياسات تقريبية للإيجابية والسلبية حسب التغييرات الحاصلة ويلاحظ في هذا البيان التصويري ارتفاع المد الإيجابي (اللون الكاشف) للشعر أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقصور المد السلبي المتمثل في البقية من القيم الجاهلية (اللون الغامق).
ويلاحظ في عهد الخلفاء الراشدين تطاول السلبي على حساب الإيجابي حين ظهرت العصبية القبلية مرة أخرى.
وتنقلب المقاييس في عهد بني أمية، فيرتفع المد السلبي معادلاً الإيجابي في صدر الإسلام، ويضمر الإيجابي معادلاً السلبي تقريباً في صدر الإسلام.
__________
(1) السيرة النبوية، ف2، ص 133-136، طبعة الشلبي والأبياري وأبي الفضل، القاهرة.(1/152)
وسبيلنا الآن أن نتحدث عن نفوذ الشعر في العهد الإسلامي فقد تبين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يريد أن يدخل الشعر في المعركة مع قريش وكان يقول: [ما يمنع القوم(1) الذي نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟] فقال حسان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرّني به مقول بين بصرى وصنعاء"(2) .
كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى في بعض الشعر حكمة، ويرى في البيان الواضح منه سحراً يأخذ بالألباب، وكل هذا يدل على نفوذ الشعر في عصره.
وربما أثّر الشعر في ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فحمله على إصدار العفو عن الذين اتخذوا المواقف السلبية من الدعوة الجديدة، كما فعل مع كعب بن زهير(3) . ومن هذا القبيل موقفه من قتيلة بنت النَّضر، فقد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أباها النّضر بن الحارث بن كلدة عقب معركة بدر، لشرّه وشدّة أذاه، فجاءته قتيلة فأسمعته(4) :
أمُحَمَّدٌ ولأَنْتَ ضَنءُ نَجِيْبَةٍ ... في قَوْمِها والفَحْل فحلٌ مُعْرِقُ
ما كانَ ضرَّكَ لو مننْتَ وربَّمَا ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنِقُ
فالنّضر أقربُ من تركْتَ قرابةً ... وأحَقّهم إنْ كانَ عِتْقٌ يَعْتِقُ
فرق لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبكى، وقال: [لو بلغني شعرها قبل قتله ما قتلته](5) .
__________
(1) يريد الأنصار.
(2) الأغاني، ج4، ص 137، طبعة الساسي.
(3) لاحظ ديوان كعب بن زهير: ص 6، دار الكتب المصرية، والعمدة، ج1، ص 23، بيروت، 1974م.
(4) أسد الغابة لابن الأثير الجزري، ج7، ص 271. طبعة كتاب الشعب، القاهرة. وفي البيان والتبيين ذكر الجاحظ أنها (لعلي)، ج4، ص 43، الطبعة 3 القاهرة، 1968. وفي زهر الآداب، ص 29، الطبعة الأولى، القاهرة، 1953م. قال الزبير بن بكار: وسمعت بعض أهل العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول: إنها مصنوعة.
(5) الأبيات والخبر تجدها في المصادر السابقة كلها.(1/153)
والظاهر أن التأثير جاء رسول الله من حيث هي فتاة فقدت معيلها ووالدها.
لأن الشعر- كما ترى- لا شيء فيه سوى الحديث عن مواقف يتخذها رؤساء القبائل في حروبهم، من عفو عند المقدرة، ومن كرم. وما كان رسول الله إلا نبياً رحيماً ليس إلا.
كذلك عفا النبي عن أسرى حنين من هوازن بشعر أبي جرول الجشمي وكان رئيس قومه، فوقف وهو بين الأسرى الذين أسرهم الرسول يوم حنين، وأنشده(1) :
امْنِنْ علينَا رسول في حرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
امْنِنْ على نسوة قد كنتَ ترضعها ... يا أرجحَ النّاسِ حِلماً حين يختبر
إنّا لنشكر للنعمى التي كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله، ولكم، فقال الأنصار: وما كان لنا فهو لله ورسوله"(2) .
ولعب الشعر الدور ذاته بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي أبرز مسائل العقيدة وفي ركن من أهم أركان الإسلام وهو الجهاد. فيحقق المخبّل السعدي غايته في استرداد ابنه شيبان الذي خرج مع سعد بن أبي وقاص إلى غزو فارس، وكان شيخاً مسناً ضعيفاً، فما برح يناديه ويتألم لفراقه ويدعوه للعودة ألماً عليه ووَجْداً، وحين لم يملك الصبر، مضى إلى الخليفة عمر، فأنشده(3) :
أيهلكني شبيان في كلِّ ليلةٍ ... لقلبي من خَوْف الفراق وجيبُ
ويخبرني شيبان أن لم يعفني ... تعق إذا فارقتني وتحوبُ
فإن يك غصني أصبح اليوم بالياً ... وغصنك من ماء الشباب رطيبُ
فإني حنت ظهري خطوب تتابعت ... فمشي ضعيف في الرجال دبيبُ
أشيبان ما يدريك أن كلَّ ليلة ... غبقتك فيها والغبوق حبيبُ
__________
(1) لاحظ محاضرات المجمع العلمي العربي، ص 156، دمشق، 1954م.
(2) المصدر السابق نفسه، مقال، بقلم محسن الأمين الحسيني.
(3) الإصابة لابن حجر، ج3، ص 227، القاهرة، 1323هـ.(1/154)
فأمر باشخاصة إليه(1) . وتأثر كثيراً فأمر بألا يغزو من له أب هرم إلا بعد أن يأذن له راضياً بهجرته(2) . وعرف الشعراء نفوذ الشعر في عهد عمر، ففزع إليه أبو خراش الهذلي(3) حين هاجر ابنه مع المجاهدين إلى الشام. فأنشده شعراً مؤثراً، فأمر برده عليه، وأصدر أمره السابق الذكر.
وقد وقف أعرابي على عليّ بن أبي طالب، فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك. فقال له علي: خط حاجتك في الأرض فإني أرى الضرَّ عليك، فكتب الأعرابي على الأرض (إني فقير) فقال عليّ: يا قنبر، ادفع إليه حلتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه، فقال:
كسوتني حلّة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوكَ من حُسْن الثّنا حلَلا
إن الثّناء ليحي ذكرَ صاحبه ... كالغيث يُحْي نداه السّهل والجبلا
لا تزهدِ الدَّهر في عرف بدأت به ... فكلُّ عَبْدٍ سيُجْزى بالذي فعلا
__________
(1) الإصابة، ج3، ص 227، ابن حجر العسقلاني، 852هـ، مطبعة السعادة بمصر 1323هـ. والأغاني، ج12، ص 38، طبعة الساسي.
(2) الأغاني، ج21، ص 21، طبعة الساسي.
(3) انظر ترجمته في الأغاني، ج2، ص 47، طبعة الساسي، وديوان الهذليين، ج2،
ص 170.(1/155)
فقال علي: يا قنبر أعطه خمسين ديناراً، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [انزلوا الناس منازلهم](1) . ثم إن الثناء ليس إلا الإعلام ويكون في الإيجابي من الأمور. وهو في الشعر مقابل لوسائل الإعلام في عصرنا. فهي من أكثر الأمور نفعاً للمرء، فالصحف، والإذاعات، والرأي، والتصوير بأشكاله المتنوعة، في عالمنا المعاصر تعطي مردوداً إيجابياً لمن دارت حوله تلك الوسائل، إن كانت فيه تلك الصفات حقاً، وإلا فالمردود عكسي. ومردود تلك الوسائل لا يقل عن مردود الثناء الشعري الإيجابي عصرئذ.
التغيرات البنيوية في المجتمع العربي بعد الإسلام:
لن نبحث في الحالة الاجتماعية منصرفة عن التغيرات الفكرية، وبإمكانك أن ترى أننا نركز على التغيرات الاجتماعية من منظار التغيرات الفكرية الثقافية، وقد زعم قوم من المستشرقين أن الإسلام الثقافي لم يجد طريقة إلى قلوب المسلمين، إلا في العصر العباسي(2) ، وأنه انتشر انتشاراً جغرافياً سياسياً، وهذا زعم باطل، فالرجوع إلى الشعر العربي بعد الإسلام يؤكد لك استناد هذا الشعر إلى كثير من المدارك الإسلامية التي وجدت طريقها في الشعر العربي منذ الهجرة على وجه التأكيد.
__________
(1) العمدة لابن رشيق، ج1، ص 201، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1968م.
(2) انظر عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، ج1، ص 257-258.(1/156)
ولا شك أن قيام كيان سياسي للعرب يعتبر من أكبر التغيرات ذات الأبعاد الواسعة، كما أن جعل (المدينة)- وقد سميت بهذا الاسم حين نزلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مركزاً شبه حضري يتمركز فيها الرسول بدينه الجديد، جعلها قبلة أنظار الشعراء- ولأن الشعراء حساسون بالتأثيرات المنبثقة عن المراكز الحضرية وشبه الحضرية، فإنهم ما تأثروا بهذا الوجود الجديد، مستخدمين ذكاءهم في التلاؤم مع هذا الوضع حيث أصبحت الكلمة العليا هنا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه الممتلئين إيماناً الحافظين للقرآن الكريم، المرددين لأحاديث النبي المرسل، فأهمل الناس الشعر إلى حين.
وكان من جرّاء ذلك أن انقلبت الموازين النقدية(1) ، فبعد تمكن الإسلام وانتصاره انسلخت مفاهيم كثيرة من ذهنية الشعراء الذين تأثروا بالكلمة القرآنية وبالنفس الإيماني الذي جاء به الإسلام، فلم يعد الشعر أكذبه كما كان بل صار أصدقه كما يريد الإسلام، وكما في قول حسان بن ثابت:
وإنَّ أشعرَ بيت أنت قائله ... بيتٌ يقال إذا أنشدته صَدَقا
وقد أخطأ كثير(2) من النقاد والدارسين حين فهموا تغير الشعر في الإسلام بأنه لين، وقد غرهم في هذا ما قيل لحسان بن ثابت يوماً، فقد قيل له: "لان شعرك- أو هرم شعرك- في الإسلام يا أبا الحسام، فقال: يا ابن أخي إنَّ الإسلام يحجز عن الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب"(3) .
__________
(1) انظر مقالة في هذا الموضوع، مجلة الجامعة الإسلامية، عدد /2/ سنة /3/، 1970.
(2) لاحظ تاريخ النقد الأدبي عند العرب، طه إبراهيم، دار الحكمة، بيروت. لاحظ تاريخ الشعر العربي حتى القرن الثالث، د. نجيب البهبيتي. لاحظ الشعر العربي بين الجمود والتطور، محمد الكفراوي. لاحظ طبقات الشعراء لابن سلام، ص 22.
(3) الاستيعاب، ج1، ص 346.(1/157)
وقد ناقض حسان نفسه بين شعره وقوله. إنهم في الحقيقة لم يكونوا مدركين للكلمة التي تعبر عما حدث في الشعر بعد مجيء الإسلام. إنه تجاوب وإيجابية، فقد تجاوب الشعراء مع الدين الجديد فحدث التغير.
وحين أراد الأصمعي أن يضع يده عما حدث ويعبر عنه(1) ، قال بأن الشعر إذا دخل في باب الخير لان. ولم يدرك ما حدث، فعاد إلى دائرة حسان في قوله، ولم يصب كبد الحقيقة أيضاً.
وبعد أن تمكن الإسلام وحفظ الناس القرآن، وتأكدوا أنه قد اكتمل نزوله، عادوا إلى الشعر متأثرين بالمعطيات الجديدة التي قدّمها الإسلام. منهم من تغير بعد إسلامه وإيمانه، ومنهم من لم يتغير لأنه كان رقيقاً في دينه منافقاً في إيمانه، من هذا نرى النقاد مخطئين في استخدام كلمة "الليونة في الشعر الإسلامي" لأنها لا تنطبق على شعر المنافقين وضعيفي الإيمان من الشعراء كالحطيئة وأضرابه.
كما أنها لا تنطبق على الشعراء المؤمنين لأنهم تأثروا فتغيروا وجاءوا بشعر جديد موافق لكل معطيات الخير التي تحدث عنها الدين الجديد والتي نريدها بالإيجابية الإسلامية. وقد كانت تعاليم الإسلام حامية حارة فهجر الشعراء قبائلهم مبتعدين عن الإطار القبلي الذي حاربه الإسلام، وجعلوا من أنفسهم شعراء مدافعين عن الدين الجديد وعن الدولة التي أسسها هذا الدين، فولد لهذا النوع من الشعر نفوذ جديد بعد أن تلاشى نفوذه القديم، أو كاد..
__________
(1) انظر الموشح للمرزباني، ص 62-65.(1/158)
هذا على صعيد الشعر، أما على صعيد الدين فقد كان الحدث عظيماً، خلّص الإسلام الناس من عبادة العباد، وربطهم بعبادة الله الفرد الصمد، وأنقذ القبائل من الآلهة التي كانت تعبدها، ونقلها إلى عبادة (رب العالمين) ووضعت آيات القرآن الخطوط العريضة والدقيقة للإنسان كما يريده الإسلام فهو المتّقي، المتوكّل، المحسن، الخيّر، العامل، النشيط، الغيري الذي يحب للآخرين ما يحب لنفسه، البعيد عن الفساد والظلم الكاره للمظاهر المادية، المتعلق بجوهر الحياة. العابد لله كأنه يموت غداً، والعامل لدنياه كأنه يعيش أبداً، المحب للناس جميعاً البعيد عن الشقاق والنفاق، والكسل، البعيد عن غلبة الرجال.
ومن استعراض بعض القيم الكثيرة التي جاء بها الإسلام يلاحظ أن الإيجابي من الشعر ما تبنى تلك القيم، والسلبي منه ما أنكرها واتخذ منها موقف الرافض، وعاد إلى الجاهلية يستقي منها ويصدر عنها.
كذلك يعتبر تشكيل الكيان السياسي للعرب من أهم التغيرات السياسية، فقد حلّت العصبية الدينية فيه محل العصبية القبلية وأصبحت الدعوة للدولة لا للقبيلة، وهذا يحدد الوجهة الأدبية حيث يصبح الشعر سلبياً إذا اتجه وجهة عصبية مرة أخرى. ومن الملاحظ أن كثيراً من الصفات الإيجابية الجاهلية في شخص القائد السياسي، بقيت محبوبة في الإسلام، فالقاعدة في السلوك الشخصي ظلت مسجلة في قيمة المروءة وكلمتها التي يحدد أفقها التصوري للفضائل الآتية:
الشجاعة، والحلم، والكرم، والثبات في الملمات، فالنّفس ما هي إلا نطفة في شنة- واحترام العهود، أمر دعا إليه القرآن، وأهم من كل ذلك مما يجب أن يتحلى به القائد المسلم، دين يتمكن في نفسه فيسوقها نحو الخير دائماً، من هنا كان مديح القائد المسلم بما يمدح به القائد الجاهلي على إطلاقه(1) نوعاً من المواقف السلبية.
__________
(1) لاحظ مثلاً مديح حسان بن ثابت للرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتب السيرة والفتوح، ومديح كعب بن زهير في الأنصار.(1/159)
كما أن أهم ما يطلب إلى الجمهور المسلم في المجتمع الجديد السمع والطاعة، ولو استعمل عليهم العبد الحبشي ما أقام كتاب الله فيهم، فلم تعد القيادة محصورة في أبناء طبقة معينة، أو تابعة لعرق معين.
حارب الإسلام نظام القبيلة الذي كان قائماً ودعا إلى نظام جماعي يضم كافة القبائل العربية، كما تشير إليه الآية الكريمة، { هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } (1) ، فأصبح محتماً على الشعراء أن يدعوا إلى التمسك بأهداب الدين لتبقى الأمة واحدة، الأمة التي يراها الله { خير أمة أخرجت للناس } (2) يجب أن تحافظ على الحق والعدل وهذا يحتم أن تقاد الأمة للإسلام، الذي حصر حق الثأر بالدولة.
وانطلق الإسلام يلملم القبائل، ويكوّن منها المجتمع الجديد بما رفده من عناصر أخرى، لا يعتبر الفرد منها مؤمناً إلا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولا شك أن الوحدة الأساسية في هذا الكتاب الجديد هي الأسرة التي دعا الإسلام إلى تأسيسها بمتانة وصلابة، ثم جعل من مجموعها أمة متعاونة على الخير.
واستمر يقطع أواصر الجاهلية، ويبني الأواصر الإسلامية، فعمل على إذابة الفوارق القبلية والجنسية، وجعل الناس جميعاً في الحقوق، والواجبات، وفرض الله تعالى على المسلمين المقتدرين زكاة معلومة(3) وأكد على ذلك كثيراً، فلم ترد في القرآن آية تدعو إلى إقامة الصلاة إلا مقرونة بالدعوة إلى إيتاء الزكاة، فالزكاة والصلاة دعامتان متينتان بُني عليهما الإسلام، من ذلك قوله تعالى: { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } (4) . كما أن المسلم لا تحصل أخوّته الدينية للمسلمين إلا بأدائهما، { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } (5) .
__________
(1) سورة الأنباء، آية 92.
(2) سورة آل عمران آية 110.
(3) الزكاة صدقة، والصدقة زكاة، اختلف الاسم واتفق المسمى، الماوردي في أحكامه السلطانية.
(4) سورة الحج، الآية 78.
(5) سورةا لتوبة، الآية 11.(1/160)
وأنذر النبي - صلى الله عليه وسلم - مانعي الزكاة بالجذب وضيق العيش فقال: [وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القَطْر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا](1) .
ولم يجعل الإسلام الزكاة هوى شخصياً للفرد إن شاء أعطى وإن شاء منع، بل جعلها إجبارية لأنها حق الفقير في مال الله الذي أعطاه للغني لقوله تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } (2) ، فكان حقاً على الإمام المسلم أن يجمع حقوق الفقراء ويوزعها عليهم بالعدل.
وبهذا ضمن الإسلام للفقراء حقوقهم مدركاً أن البطون إذا جاعت دفعت أصحابها لاستساغة جميع صنوف الجرائم. من هنا كانت مواقف الخليفة الأول عظيمة إذ قاد حرباً لإعادة حقوق الفقراء، كما فعل عروة بن الورد في الجاهلية مع الفارق بالمنطق والأهداف، فكانت حرباً أهلية "لإنصاف الطبقة الفقيرة، ولن تجد في جميع الحروب الأهلية التي قامت لإنصاف الطبقة الفقيرة في أوربا ما يعادلها إخلاصاً ونزاهة، ذلك لأن الذين حاربوا لإنصاف الطبقة الفقيرة في أوربا هي الطبقة الفقيرة نفسها حاربت تحت تأثير الحاجة، أما الذين حاربوا في زمن الخليفة أبي بكر فهم سراة الصحابة، ورجال الحل والعقد وعلى رأسهم الخليفة نفسه"(3) .
أما هذا المفهوم العظيم الذي جاء به الإسلام وجب على الشعراء أن يتخذوا مواقف معينة، فما كان داعياً إلى إثبات هذه الحقوق كان إيجابياً، وإن كان بعيداً عنها فهو سلبي بعيد عن مهمته.
إن المواقف التي اتخذها أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) من تلك الطبقات التي كدست الذهب ومنعت الحق أن يصل إلى أصحابه كاملاً، قد تأتي في الشعر أيضاً. وهذا ما نبحث عنه في الإيجابي من الشعر الإسلامي في المناحي الاقتصادية.
__________
(1) لاحظ جامع الأصول لابن الأثير، ج4، ص 550، باب الزكاة.
(2) سورة المعارج، الآية 24-25.
(3) إصلاح الإسلام الاقتصادي، هاشم الدفتردار المدني، انظر روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة، ص 333، بيروت، 1969م.(1/161)
والإسلام الذي قلب المجتمع القبلي إلى أمة قوية راح ينظم العلاقات العامة من ميراث، وتجارة، وزراعة، وصناعة، إلى دفاع قوي عن المرأة، وإنقاذ لها من أصناف العذاب، وأشكال الموت الذي كانت تعانيه.
على صعيد التغيرات الفكرية، نلاحظ أن العربي ارتقى بالإسلام إذ خلصه من السلبيات التي مرت بنا، ونجاة من الحماقات والخرافات التي كانت من صميم تفكيره الجاهلي.
كذلك دفعه إلى التفكير بخالق هذا الكون وموجده، وربطهم إلى العقل في قضايا الوجود والحياة والموت. وأسس فكرة التدبر عند العرب، وجعل طلب العلم فريضة، { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب } (1) .
وطالب القرآن المسلمين بأن يطلبوا العلم لأنه يهديهم إلى القول الفصل في كل ما يرجون معرفته من حقائق علوية وكونية: { وقل رب زدني علماً } (2) .
وقد أثبت الإسلام أصولاً تحمي العقل من الجمود والرجعية، فهو دين الحجة والبرهان، ودين العقل لا الظن، وعدو للتقاليد وداع للأخذ بالأحسن.
وإذن فالتهمة التي ذاعها الأوربيون في القرن الماضي التي مؤداها أن الإسلام كان حرباً على حرية الفكر، وأنه كبت جميع الحركات العلمية.(3) تهمة خاطئة .
وقد أرسى الإسلام كثيراً من الفضائل: كالإحسان، والتقوى، والصبر، والعفو، والصدق، والاستقامة، وإصلاح النفس وتزيكتها، والإصلاح بين الناس، وحسن المعاشرة، والإيثار، والكلام الحسن، والتعاون.(4)
وكل شعر دار في فلك هذه الفضائل ودعا إلى نموّها إيجابي فكري.
__________
(1) سورة الزمر: الآية 9.
(2) سورة طه، الآية 114.
(3) أرنست رينان، في كتاب "الإسلام والعلم".
(4) روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح، ط8، ص 198 وما بعد.(1/162)
كما حارب الإسلام الرذائل: كالانقياد لهوى النفس، والكبرياء، والزنا، والخمر والقمار، والكذب ومظاهره، والتجسس، والغيبة والنميمة، والظن السيئ، والغضب، والشراهة، واللغو، والحسد، وما إلى ذلك من سوء الخلق. وكل شعر دار في فلك هذه الرذائل ودعا إلى نموها شعر سلبي فكري. ولا شك أن من أجمل ما جاء به الإسلام، الإيمان بحرية الفكر، فإنه: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } (1) .
وقد قبل الإسلام الشعر الذي كان إلى الله وحده. وفيما يلي ندرج أهم المعاني الشعرية التي يقبلها الإسلام وفيها النَّفَس الإيجابي الذي نبحث عنه في المناحي الفكرية الإسلامية:
- أن يكون الشعر قيماً روحية، فيها دعوة إلى طهارة النفس، ونبذ لكل فاحش ورذيلة.
- أن يراقب الشاعر ربه في كل ما يأتي به من قول أو فعل.
- ألا يكذب الشاعر في قول يأتيه.
- ألا يعود إلى تمجيد كهانة، أو شعوذة، أو خرافة، أو سحر تشاكلي أو اتصالي.(2)
- أن يذكّر بقدرة الله وتدبيره ووحدانيته.
- أن يدعو الناس إلى التفكير والإمعان والتدبر.
- أن يبصر الناس بالفضائل الكثيرة التي دعا إليها الإسلام.
- أن يبتعد عن الرذائل التي حاربها الإسلام.
- ألا يخوض في غمار العصبية وأن يبتعد عن التنابذ والتنابز.
- ألا يدعو إلى الأخذ بالثأر، وأن يجعله من اختصاص الدولة.
- أن يعي دور المال في المجتمع، فيدعو إلى رد مال الزكاة إلى بيت مال المسلمين، لتعود على الفقراء، حقاً ثورياً لا استجداء أو استعطافاً.
- أن يحترم الإنسان وحقوقه عامة مشتقة من هدى القرآن الكريم.
__________
(1) سورة البقرة، الآية 255.
(2) لاحظ الفصل الذهبي، دراسة السحر والدين، سير جيمس فريزر، ج1، ص 108، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971م.(1/163)
فالشعر الذي يخالف هذه المعتقدات سلبي بالنسبة للدين الجديد وهو الخاضع للذم، الذي حاربه القرآن الكريم وقصد أصحابه في قوله: { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون } (1) .
((
الفصل الثاني
المفاهيم السلبيّة
1- المناحي الاجتماعية
* شعر الفتن
* شعر التحريض
* العصبية القبلية
2- المناحي الفكريّة
* مفاهيم جاهلية
* الاستخفاف بالدين
3- المناحي الاقتصاديّة
* التواكل
* المديح الكاذب
* سرقة أموال الدولة
4- المناحي التربويّة
* ما يؤذي التربية عامة
* توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ.
* تصعيد النزوات.
* التقليل من قيمة المعلم
* ذكر الضحايا والدماء واليتم والموت والدمار.
* ذكر العفاريت والجن والأشباح
(
المناحي الاجتماعية
شعر الفتن والتحريض:
من المفروض أن يكون الشعر في صدر الإسلام ممثلاً لروحه وأخلاقه فقد تأثر المسلمون بأدب القرآن وبلاغته، فأصبح الشعر العربي بعد ظهور الإسلام يغاير قليلاً أو كثيراً الشعر الجاهلي، ويصور عقلاً غير العقل الجاهلي.
غير أن بعض الشعراء خاض في نوع من الشعر ذي المردود السلبي فكان يثير الفتن وينمّي الضغائن.
والغريب أن يخوض شاعر الرسول، حسان بن ثابت(2) في مثل هذا الحديث فيحرّض طرفاً من المسلمين على طرف آخر، ويحث أهل الشام على قتال المسلمين وكأنها الجاهلية الجهلاء، يقول في رثاء عثمان بن عفان:
مَنْ سَرَّهُ الموت صرفاً لا مِزاجَ له ... فَلْيَأْتِ مأدُبةً في دار عثمَانَا
ضَحَّو بأشمطَ عُنوانُ السُّجودِ بهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيْحَاً وقُرْآنَا
لتَسْمَعَنَّ وَشِيْكاً في دِيَارَهُمُ ... اللهُ أكبرُ يا ثارَات عُثْمَانا
__________
(1) سورة الشعراء، الآية 223.
(2) انظر ترجمته في الشعر والشعراء ج6/ ص 264. والموشح ص 60 وسير أعلام النبلاء للذهبي طبعة، دار المعارف ج2/ 1ص 115 وص / 366 وما بعدها. والأغاني، طبعة الساسي ج16 ص 12 وما بعدها.(1/164)
ويبدو أن مواقف التحريض عند حسان شجعت بعض الناس على اتهامه بقصة الإفك التي دارت حول عائشة زوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما جعله يبادر إلى الاعتذار عمّا نسب إليه(1) فقال:
حصانٌ رزانٌ ما تُزَّنُ برِيْبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثي من لحوم الغوافلِ(2)
فإن كنْتُ قد قلْتُ الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إليَّ أنا مِلِي
وقد وجه كلامه الأخير إلى بعض المهاجرين وكانوا برئاسة صفوان ابن المعطل أثاروه في هذا الحادث، حتى وجد وجداً شديد، ولم يجد أمامه وسيلة يدافع بها عن نفسه سوى التحقير من شأنهم فسماهم الجلابيب استصغاراً لشأنهم وقال:
أمسى الجلابيب قد عزّوا وَقَدْ كثروا ... وابن الفريعةِ أَمْسى بيضةَ الْبَلَدِ(3)
ومن الشعر الذي كان يذكي نار الفتنة، ويحط من شأن الآخرين، هجاء الحطيئة(4) للزبوقان بن بدر(5) .
سار الزبوقان إلى عمر بصدقات قومه، فلقيه الحطيئة ومعه أهله وأولاده يريد العراق فراراً من السَّنةِ وطلباً للعيش، فأمره الزبرقان، أن يقصد أهله وأعطاه أمارة يكون بها ضيفاً له حتى يلحق به ففعل الحطيأة، ولأنه لم يحقق ما يريد نسي حسن الكرمِ، ثم هجاه بقوله(6) :
دَعِ الْمَكَارمَ لا تَرْحَل لبُغْيَتِهَا ... واقْعُدْ فَإنّكَ أنْتَ الطّاعمُ الكاسي
__________
(1) العمدة، لابن رشيق: ج1/ ص 595، طبعة دار الشعب.
(2) حصان عفيفة، رزان: ذات وقار، تزنّ: تتهم. غرثى: جائعة، أي لا تغتاب النساء.
(3) سير أعلام النبلاء للذهبي، طبعة دار المعارف، ج2/ 115، ص 366 وما بعد ومن أمثال العرب: هو أذل من بيضة البلد لأن النعام يترك بيضه فيحتضنه غيره.
(4) انظر أخباره في الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ج1/ 238، وديوانه ص 174.
(5) انظر ترجمته في أسد الغابة، لابن الأثير، ج2، ص 248.
(6) المصدر السابق نفسه والقصة مشهورة في كتب الأدب.(1/165)
وقد كان جشعاً مسؤولاً ملحفاً دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلاً، قبيح المنظر، رثّ الهيئة، مغمور النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شاعر من عيب إلا وجدته فيه، وقلما تجد ذلك في شعره(1) "وقد فهم الدين أنه تعلق بشخص الرسول، وما دام الرسول قد مات، فلا يحق لأحد بعده أن يتابع عقيدته ومبادئه، فخاض في حديث كبير وخطير حرّض فيه الناس ضد أبي بكر وخلافته، وقوى المرتدين في سوء صنيعهم، كما في قوله(2) :
أطَعْنَا رسولَ الله إذ كَانَ بَيْننا ... فيا لعبادِ الله مَا لأبي بَكْرِ
أيُورثها بكراً، إذا مات، بعده، ... فتلكَ، وبيت الله، قاصمةُ الظَّهْرِ
ومن المؤكد أن أهم سلبيات شعر الفتن إثارة العصبية القبلية.
شعر التحريض:
شعر التحريض هنا أكثر سلبية من الشعر الجاهلي، فالدين الجديد غسل النفوس من أدران الجاهلية، ووضع أسساً جديدة للحياة ودعا إلى الطيب من الكلام ينتشر بين العباد في عامة البلاد، وفي عمق الزمان، ومثل الكلمة الإيجابية الطيبة في قول الله: { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } (3) .
ضرب الله الأمثال للنّاس عامة، والشعراء من الناس، أكثر دقة في فهم المقصود بالكلام الطيب، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه"(4) .
__________
(1) الأصمعي: أغاني دارا لكتب، ج2/ ص 163.
(2) من الرواة من نسب هذين البيتين إلى غيره، انظر تاريخ الطبري، ج2/ ص 477، حيث نسب البيتين إلى أخيه الخطيل.
(3) سورة إبراهيم: الآية 23.
(4) العمدة، لابن رشيق، ج1/ ص 27.(1/166)
وجاء القرآن بتشبيه آخر من الكلام الخبيث وأعقبوه من الكلم المشبه بالشجر الخبيث مثل المقتلع لخبثوه ، فقال تعالى: { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } (1) .
وبالرغم من معرفة الشعراء مقصود الكلمة الطيبة، وحب الله لها ومقصود الكلمة الخبيثة، وبغض الله لها، فقد سار قسم منهم في هذا الخبيث من الكلم، يحرض المسلمين على بعضهم فيضعف من قوتهم، وينتقص من إيمانهم.
لمّا قامت الفتنة التي انتهت بقتل عثمان بن عفان (رض) صار بعض الشعراء يحرك العصبية، ويحرض معاوية بن أبي سفيان على قتال علي ابن أبي طالب. كما في شعر الوليد بن عقبة(2) الذي أرسله إلى(3) معاوية:
مُعاوى إنَّ الشام شامُكَ فاعتصمْ ... بشَامِكَ لا تدخل عليك الأَفَاعِيَا
وإنّ علياً ناظِرٌ ما تُجِيْبُهُ ... فَأهْدِ له حَرْباً تشيبُ النَّواصِيَا
أين هذا الكلم مما جاء به الإسلام؟ إنه من الخبيث السلبي ففيه وفي أمثاله حققت الغاية، مدعوماً بقابليات مسبقة. فعلي بن أبي طالب الخليفة الجديد، وأصحابه في رأي الوليد بن عقبة أفاع وما على معاوية إلا أن يهدي له الحرب الضروس.
ويبدو أن قابلية معاوية لهذا الشعر عميقة متينة، فقد استفاد منه وجاءه آخر غيره يقوى من فطرته التي هو عليها في قوله(4) :
أبلغ معاوية بن حرب خطةً ... ولكل سائلةٍ تسيل قرارُ
لا تقبلنّ دنيّة تعطونها ... في الأمر حتى تقتّل الأنصارُ
وكما تبوء دماؤهم بدمائِكم ... وكما تُهدَّم بالدِّيار ديارُ
وترى نساَهم يَجُلْنَ حواراً ... ولهنّ من علق الدّماء خوارُ
__________
(1) سورة إبراهيم: الآية 24.
(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أموي قرشي، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه من شعراء قريش وأجودهم، فيه ظرف ومجون، ولهو، مات بالرقة، الأعلام ج9 ص 143.
(3) ابن مزاحم ص/ 98، وقعة صفين. ط2، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 382هـ.
(4) وقعة صفين، لابن مزاحم، ص 98، القاهرة، 1382هـ.(1/167)
وحين انتقل الناس إلى حرب صفين، كان لهذا الشعر دور كبير في تأجيج نار الحرب.
وأهم دور لعبه شعر التحريض السلبي في أيامه الأولى أيام حرب صفين، ولا سيما في قصة هذا اليوم تلخص بأن أصحاب معاوية استولوا على مشرب القوم من نهر الفرات، وبقي أصحاب علي يوماً وليلة بلا ماء فقال رجل من السكون من أهل الشام يعرف بالسليل بن عمرو(1) يا معاوية:
اسمع اليوم ما يقول السليلُ ... إنّ قولي قولٌ له تأويلُ
امنع الماء من صحاب علي ... أن يذوقوه والذليل ذليلُ
واقتل القومَ مثل ما قُتل الشـ ... يخُ ظمأً والقصاص أمر(2) جميلُ
فحديث الكلم الخبيث غير بعيد عنّا، اذكره واسمع قوله: "امنع الماء من صحاب علي"، وقوله "الذليل ذليل" ثم تعريضه بقتلة عثمان تحريضاً. أين هذا من تعاليم الإسلام التي جاءت لمثل هذا الموقف متمثلة في قوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحدهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله(3) } .
نسي الشامي الشاعر كلام الله هذا، فحرض وحرض حتى قال معاوية: "لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبداً حتى يقتلوا بأجمعهم عليه(4) ".
ثم نجم عن هذا الأمر الفعل عند الشاعر، ورد الفعل عند معاوية- انفجار حرّك عليا وأصحابه، فاستولى على الماء ثانية: ولك تحت تأثير الفعل، ورد الفعل عند رجل من أصحابه ينادي، وكان مغتماً لما فيه أهل العراق من العطش(5) :
أيمنعنا القومُ ماءَ الفرات ... وفينا الرّماح وفينا الجُحفْ(6)
فذبّوا إليهم كبُزْلِ الجمال ... دُوين الذَّميل وفوق القطفْ(7)
__________
(1) المصدر السابق، ص 163.
(2) الشيخ، أراد به، عثمان بن عفان.
(3) سورة الحجرات: الآية 49.
(4) وقعة صفين، لابن مزاحم: ص 163.
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) الجحف: جمع جحفة. وهو الترس من جلود الإبل يطارق بعضها ببعض.
(7) الذميل والقطف: ضربان من السير.(1/168)
فإما تحلّوا بشط الفرات ... ومنّا ومنهم عليه الجيفْ
قولا لدودان عبيد العصا ... وعبد العصا مُسْتَذلٌ نَطِفْ(1)
وإلا فأنتم عبيد العصا
وقد كان معاوية في هذه الحرب حريصاً ألا يترك فرصة تفوته دون أن يسعى لتحريض الناس ضد علي، كي يتوصل إلى ما يريد في حربه مع علي.
ففيها عزل علي بن أبي طالب الأشعث عن رياسة كندة، وأجمع الأمر لحسان بن مخدوج، فدعا معاوية مالك بن هبيرة فقال: اقذفوا إلى الأشعث شيئاً تهيّجونه على (علي) فدعوا شاعراً لهم، فقال هذه الأبيات، وكتب بها مالك بن هبيرة إلى الأشعث، وكان له صديقاً وكان كندياً:
من كان في القوم مثلوجاً بأسرته ... فالله يعلم أني غير مثلوجِ(2)
زالت عن الأشعث الكندي رياستُه ... واستجمع الأمرَ حسانُ بنُ مخدوجِ
يا للرِّجال لعار ليس يغسله ... ماءُ الفرات وكربٍ غير مفروجِ
إن ترضَ كندة حساناً بصاحبها ... يرض الدُّنَاةُ وما قحطانُ بالهوجِ
ليست ربيعة أولى بالذي هُذيت ... من حق كندة، حقٌ غيرُ مَحْجُوجِ(3)
وقد أدرك أهل اليمن الفتنة التي أرادها معاوية. فلما انتهى الشعر إليهم، قال شريح بن هانئ: يا أهل اليمن ما يريد صاحبكم إلا أن يفرق بينكم وبين ربيعة. وإن حسان بن مخدوج مشى إلى الأشعث بن قيس برايته حتى ركزها في داره، فقال الأشعث: إن هذه الراية عظمت على (علي)، وهو والله أحق على من زف النعام(4) ، ومعاذ الله أن يغيرني ذلك لكم.
فعرض عليه علي بن أبي طالب أن يعيدها عليه فأبى... فقال له علي: أنا أشركك فيه. فقال له الأشعث: ذلك إليك، فولاه على ميمنة أهل العراق(5) .
__________
(1) عبيد العصا: يقال للقوم إذا استذوا. قال امرؤ القيس:
1@ما غرّكم بالأسد الباسل
(2) وقعة صفين، لابن مزاحم: 136-137.
(3) حذيت: أعطيت. والحذوة، العطية.
(4) زف النعام: ريشه الصغير.
(5) وقعة صفين: ص 139-140.(1/169)
لقد أراد معاوية شراً بشعر صاحبه السلبي، وجاء رد الفعل، مولداً موجة إيجابية في نفوس أهل اليمن، فأدركوا أصل الفتنة، وترفعوا فوقها، وصاروا إلى الوحدة والوئام، وحل الإمام علي بقية الأمر بتوليه الأشعث على ميمنة جيشه.
وليس بعيداً عن هذا ما تقع فيه بعض أجهزة الإعلام، وهي تسعى في محاربة أمر ما في نفوس القوم، فإذا هي تحببه إليهم، أو تقوم بالعكس فتحصد نتيجة معاكسة كذلك.
ولو أن إسلام هؤلاء المحرضين كان صحيحاً ما حرضوا على قتال المسلمين بعضهم ببعض، وأثاروا فتنة طويلة. فالإسلام ينهي عن مثل هذا الكلام. لكنها الروح الجاهلية التي عاشت في نفوسهم، فهم بعيدون عن المفهوم الحقيقي للإسلام، مكتفون بالتظاهر، بعيدون عن المنطوق القرآني والنبوي. وكثير من الشعراء من "كان جافياً في دينه، وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية(1) ".
العصبية القبلية:
نبذ الإسلام العصبية، وألغى المفهوم القبلي، ووضع مفهوم الأمة بدلاً منه. وأقرّه بصريح القرآن { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } (2) . فذم حاملها وداعيها والغاضب من أجلها وناصرها بصريح الأحاديث الكثيرة، نحو: "من قتل تحت راية عميّة يدعو عصبيّة، أو ينصر عصبيّة، فقتلة جاهلية(3) " ونحو:
"ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل عصبيّة، وليس منا(4) من مات على عصبية "وفهّم الناس أن الدفاع عن العشيرة لا يعني العصبية فكان يشجع الدفاع عنها، فيقول:
__________
(1) الشعر والشعراء، لابن سلام. ص 125، في أخبار الشاعر ابن مقبل العجلاني.
(2) سورة الأنبياء: الآية 92
(3) أخرجه مسلم، جامع الأصول، لابن الأثير، ج10/ ص 58، دمشق 1970م.
(4) المصدر السابق، ص 59.(1/170)
"خيركم المدافع عن عشيرته، ما لم يأثم"(1) وواضح أنه يقيد الدفاع عن العشيرة بعدم الإثم. وقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصبية المنبوذة بأنها إعانة قومك على الظلم ففي حديث واثلة بن الأسقع (رض) قال:
قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم(2) .
لكن ربما انفلتت بعض القصائد في الفخر القبلي، فغض الرسول طرفه عنها لأنها كانت تخدم العقيدة في وقت من الأوقات إذ كانت قريش يؤلمها مثل هذا الحديث، ويبقى حديث العصبية والفخر القبلي سلبياً، وعاملاً مؤشراً إلى ضعف الوعي الإسلامي الذي لا يؤمن بالعصبية أصلاً.
ومن الغريب أن تظهر مثل هذه المواقف عند حسان بن ثابت الذي لصق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمع منه ويتشبع بأحاديثه، فأصبح انتصار الأمة الناشئة انتصار قبلياً!!. ولعل حساناً الذي كان يلتفت حوله فلا يجد إلا عدة مئات من المسلمين اعتقدهم عشيرة واحدة يحق له أن يفتخر ببعض قبائلها، كما في قوله عقب معركة بدر(3) :
لقد علمت قريشُ يوم بدر ... غِداةَ الأسرِ والقتل الشديد
بأنّا حين تشتجر العوالي ... حماة الحرب يومَ أبي الوليد(4)
قتلنا ابني ربيعة يوم سارا ... إلينا في مضاعفة الحديد(5)
وفرّ بها حكيمٌ يوم جالتْ ... بنو النجار تخطر كالأسود(6)
وولّت عند ذاك جموع فهر ... وأسلمها الحويرث من بعيد
__________
(1) المصدر السابق، ص 79.
(2) المصدر السابق، ص 59.
(3) ديوان الفتوح صنعة، د. فخر الدين قباوة. مخطوط: 27 ألقاه في كلية آداب حلب 1969.
(4) تشتجر: تختلط وتشتبك، والعوالي، أعلى الرماح والأبيات في شرح الحماسة ببعض الاختلاف.
(5) مضاعفة الحديد: الدروع التي ضوعف نسجها.
(6) تخطر: تهتز وتتجرد في المشي إلى لقاء أعدائها.(1/171)
لقد لاقيتم ذلاً وقتلاً ... جهيزاً نافذاً تحت الوريد(1)
وكلُّ القوم قد ولّوا جميعاً ... ولم يلووا على الحسب التليد
وإذا كان الإسلام قد قضى على العصبية القبلية في وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً بين ظهراني الأمة، فإن سبيلنا إلى كشفها بعد ذلك أن نتتبع هذا الخط تاريخياً.
فمن الثابت أن الشيخين حاربا العصبية(2) القبلية، التي لم تلبث أن ظهرت في خلافة عثمان بن عفان، حين حكم الناس بالعصبية الأموية، فاستيقظت الفتنة، وتحرك ما كان كامناً في النفوس من العداوة القديمة الجاهلية(3) بولادة العصبية من جديد تشوه صفاء الدين، وصارت تولد أحاديث لا أصل(4) لها، فاعتبر عثمان على أنه أول من فتح أبواب الظلم، وأرتج أبواب الحق(5) .
ولا شك أن بني أمية قد تعصبوا وتكاتفوا في إطار قبلي، وكأن تعاليم الإسلام لم تقرع آذانهم أو تهز أوتارهم قلوبهم، فبعد مقتل عثمان بن عفان مضى شعراؤهم يحرضون معاوية على الأخذ بثأره، وكان الوليد بن عقبة يكثر من هجاء بني هاشم، ومن هجاء علي بن أبي طالب ويقول في تحريض معاوية مخاطباً بني هاشم(6) :
وإنّا وإياكم وما كان منكم ... كصدع الصفّا لا يرأب الصدعَ شاعبُه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازِبُه
__________
(1) كأنه يريد فهم المحافظة على النسب، ويعيب عليهم الفرار، وهذا موقف سلبي مشين في علم النفس الحربي، إذ يبعث نار النقمة ويشحن الأعداء بطاقة فعالة.
(2) د. عبد الحسين، طه، أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني الهجري/ 13 1968.
(3) المصدر السابق، ص 14، وانظر الفرق بين الفرق ص 223 والمال والنحل ج1
ص 365، مطبعة الأزهر.
(4) شرح نهج البلاغة ج20/ ص 462.
(5) الأغاني: ج 17/ ص 152 الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970م.
(6) الأغاني: ج5/ ص 122، وما بعدها، طبعة دار الكتب والاستيعاب /622/ والطبري، ج3/ ص 449.(1/172)
فالذي فهمه من الإسلام كان مشوهاً جعله يرى الخليفة إمبراطوراً ويرى المسلمين مرازبه. ونستطيع أن نلاحظ ارتفاع الخط القبلي بعد مقتل عثمان، ولا شك أن بعض الشعراء كان يقوى نار العصبية بشعر الفتن والعداوة، مما أدى إلى انفجار المنافرات ذات الدافع القبلي بين بني أمية وبني هاشم، ثم تشجعت بعض القبائل الأخرى كما فعل الأنصار، فحسان بن ثابت الذي دعا إلى الأخذ بثأر عثمان، لا يسمح لبني أمية التطاول على المدينيين.
ولا يغيب عن البال بداية العصبية المدينية التي بدأت عقب وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة.
ولا ريب أن تفاخر الأنصار وتعاليهم قد بدأ بعد وفاة النبي كما ذكرناه، وثمة مقطوعة في ديوان حسان تحتوي على فقرة يبدو فيها هذا النوع من الفخر؛ ولا ريب في أن هذا لاحق قليلاً لزمن حسان ولعلّه من زيادات ابنه عبد الرحمن الذي شهد النزاعات بين المدنيين والأمويين(1) ، قال:
وإنك لن تلقى من النّاس معشراً ... أعزّ من الأنصار عزّاً وأفضلاً
وأكثر أن تلقى إذا ما أتيتهم ... لهم سيداً ضخم الوسيعة(2) جحفلاً
وَعِدّاً خطيباً لا يطاق جوابهُ ... وذا أُرْبَةٍ في شعره متنخّلا(3)
وبعد ذلك راح إطار القبلية العصبية ينداح حتى وصل أطراف الدولة الإسلامية، فقويت دعوى الجاهلية بالانتماء إلى القبيلة، واستصرافها للهياج والشر، فعاد الناس إلى حيث كانوا قبل الإسلام!!..
__________
(1) ديوان حسان بن ثابت، ص 352. القاهرة، طبعة عبد الرحمن البرقوقي.
(2) ضخم الوسيعة: كثير العطاء.
(3) العدّ: الماء الدائم الذي لا ينقطع. والعِدّ أيضاً البئر القديمة.(1/173)
ويبدو أن شعر الجاهلية العصبية انتشر مبكراً في العراق، فمما جاء في خطبة لزياد بن أبية(1) في أهل البصرة، وقد جاءها والياً لعلي بن أبي طالب قوله: "إيايّ ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلاّ قطعت لسانه(2) ".
ثم جاءت حرب صفين فكشفت "الغطاء عن القماقم الجاهلية فانبعثت منها شياطينها، تثير الفتن بين القبائل، وتنطق شعرها بأحاديث عصبياتها القديمة، وساعد على ذلك تلك الأرستقراطية البدوية من رؤساء القبائل وأشرافها الذين كانوا يحيون حياة أشبه ما تكون بحياة رؤساء القبائل وأشرافها في الجاهلية(3) ".
وقد نسب ابن(4) مزاحم إلى الإمام علي شعراً يمتدح به بعض القبائل التي خاضت غمار القتال معه؛ فيه ريح العصبية.
قد يكون الإمام علي أثنى على القبائل(5) التي ناصرته ليرفع من روحها المعنوية، وليشجع غيرها على البلاء الحسن، ولا شك أن الثناء غير التعصب، إن الإيمان الذي تشبعه الإمام يمنعه أن يفعل ذلك، وربما كان ذلك الشعر من صنع تلك القبائل لتضيف إلى أمجادها مدح الإمام علي لها، وربما اقتصر الشاعر من شيعته في حديثه على قومه، وسخر شاعريته وهو يضرب على وتر العصبية القبلية فينقل حديث الإسلام إلى حديث قبلي، فيحدثهم كما يتحدث ابن القبيلة إلى قبيلته، وكان في إمكانه أن يجعل الحديث دينياً، فيظهر الحق، ويدعو كافة المسلمين إلى نصرته.
__________
(1) انظر ترجمته في "الطبرى ج6/ ص 162. ولاحظ الإعلام، لخير الدين الزركلي ج3/ ص 89-90.
(2) انظر الخبر مطولاً في البيان والتبيين "أخبار زياد بن أبيه".
(3) حياة الشعر في الكوفة. د. يوسف خليف، ص 457، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968م.
(4) وقعة صفين، لابن مزاحم، ص 310-326.
(5) كقوله لربيعة "أنتم درعي ورمحي" المصدر السابق ص 402: وقوله لهمذان "أنتم درعي ورمحي ياهمدان" المصدر السابق ص 429.(1/174)
لكن الشعراء من شيعته كانوا يعزفون على القيثارة العصبية، فيذكرون قبائلهم بمنعتها ونجدتها وشجاعتها، وبأبطالها الكماة، وبتراث أجدادها التليد.
فعادت الأمور جاهلية عميقة يخوض الفرد فيها غمار القتال مقاتلاً من أجل عزة قبيلته والحفاظ على منعتها، لا من أجل نصرة الحق الممثل بالشرعية التي يملكها الإمام علي، فصار يعتز بها ويفتخر، وهو يرتجز:
إنّي أنا الأشتر(1) المعروف السِّير ... إنِّي أنا الأفعى العراقيُّ الذَّكَرْ
لست من الحيّ ربيع أو مُضَر ... لكنني من مَذْحِجَ البيض الغررْ
آليت لا أرجع حتى أضربا ... بسيفي المصقول ضرباً معجباً
أنا ابن خير مذحج مُركّبا ... من خيرها نفساً أمّاً وأباً(2)
ولعل ميادين صفين هي التي استمعت إلى الأنغام الأولى المنبعثة من قيثارة العصبية القبلية القديمة التي نقلتها معها القبائل العربية في هجرتها من البادية إلى المدن التي سكنتها.
ومن الواضح أن السبب في هذا يرجع إلى الطبيعة التي اكتسبتها حرب صفين، فهي حرب أهلية بين القبائل العربية، وإذا كانت هذه القبائل قد نسيت كتاب الله في قتالها، فلم يعد الدين –هنا- يقدر على منع القتال، فإن الشعر كان بإمكانه أن يؤدي دوراً إيجابياً لأنَّ النفوس صارت جاهلية قديمة. وإذا أضفنا إلى هذا أن علياً ومعاوية كانا يحشدان كتائبهما حشداً قبلياً(3) ، أدركنا سر انتشار مثل هذه الأنغام القبلية السلبية في مجتمع ثيابُ نبيِّه لم تُبْلَ بَعد، وآنِيَتُه لم تُكْسَر!..
وربما كان بلاء بعض القبائل ذا وجه إيجابي في القتال، ودافعاً إيجابياً يولده ثناء علي أو معاوية.
__________
(1) انظر ترجمة الأشتر النخعي، ت 37 هـ في: الولاة والقضاة: 23-26 وسمط اللآلي/ ص 227.
(2) مروج الذهب، المسعودي: ج2/ ص 17، طبعة بولاق/ 1283/هـ.
(3) انظر وقعة صفين،(1/175)
فقد أبلت ربيعة في قتال صفين بلاءً حسناً جعل علياً يثني عليها ثناء أثار حسد المضرية. فطلبت منه أن يفرد لها أياماً تقاتل فيها وحدها حتى ينظر بلاءها. ولا بد أن الإمام علي كان في حيرة من أمره معها، لكنه استجاب لرغبتها مدركاً سلبية هذا الطلب في القتال، فأمر ربيعة أن تكف عن القتال. وتزداد العصبية القبلية سوءاً وسلبية حين تحدد مضر لكل قبيلة منها يوماً تنفرد فيه بالقتال. فينطلق شاعر المضرية مفتخراً بشعر تشيع فيه روح العصبية السلبية، ولا نبالغ إذا قلنا أنه تجسيد للروح الجاهلية، حيث يسيطر الإحساس(1) القبلي:
حامت كنانةُ في حربِهَا ... وحامت تميمٌ، وحامت أَسَدْ
وحامت هوازن يوم اللّقا ... فما خام منّا ومنها أحَدْ
ثم يوسع حديث العصبية مفرداً قبيلة قبيلة، وهو يتحدث عن لقائهم قبائل اليمن:
لقينا قبائل أنسابهم ... إلى حضرموتَ وأهل الجَنَدْ
فلما تنادوا بآبائهم ... دعونا معدّاً ونعمَ الْمعَدْ
فظلنا نُفلِّق هاماتهم ... ولم نك فيها ببَيْضِ الْبَلَدْ
ونعم الفوارس يوم اللقاء ... فَقُلْ في عديدٍ وقل في عُدَدْ
وقل في طعان كفُرع الدِّلاء ... وضرب عظيم كنار الوَقَدْ
ولكن عصفنا بهم عصفةً ... وفي الحرب يُمْنٌ وفيها نَكَدْ
طمنّا الفوارسَ وسطَ العجاج ... وسقنا الزعانف سَوْقَ النَّقَدْ
وحديث العصبية هذا عمل على تفريق الجماعة الإسلامية بعد وئام وكان مجموع الشعر الذي قبل في صفين النار الكبرى التي أوقدت الفتنة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ومدت تيار الانهيار الذي لحق بالمجتمع بعد ذلك، ولا نبالغ إذا قلنا أن مجموع شعر صفين السلبي هو انقسام الأمة الرئيسي.
__________
(1) عامر بن وائلة الكناني. ابن مزاحم: وقعة صفين ص 353.(1/176)
ولو أدرك الشعراء مهمتهم في الحياة ودورهم في الإسلام، والمواقف المطلوبة منهم في تلك الحرب، لو أدركوا قيمة مواقفهم السلبية في هدم الأمة، فامتنعوا!.. لو أدركوا أيضاً قيمة مواقفهم الإيجابية في جمع الشمل فقالوا، لكان شأن الأمة قد تغير حتماً.
لكن معول العصبية راح يهدم ما بناه الإسلام، فشعراء ربيعة يعزفون على قيثارتهم ألحاناً تغضب المضرية، على لسان حصين(1) بن المنذر الرّقاشي(2) وقد ذُكر أن علياً كان لا يعدل بربيعة أحداً من الناس، فشق ذلك على مضر، وأظهروا لهم القبيح، وأبدوا ذات أنفسهم، فقال الحصين قولاً شجع الفتن، واضعف صف جماعته، وأغضبهم، وفتت عضدهم، ولا نغالي إذ نقول إن قوله هذا كان سبباً رئيسياً في عدم الحسم لصالح الإمام علي، ومما قاله:
رأت مضرٌ صارت ربيعةُ دونهم ... شعارَ أمير المؤمنين، وذا الفضلُ
فأبدوا إلينا ما تجنُّ صدورهُم ... علينا من البغضاء وذاك له أصْلُ
ونحن أناس خصّنا الله بالتي ... رآنا لها أهلاً وأنتم لها أهلُ
فيتصدى لهم شعراء مضر بألحان يفتخرون فيها بقبائلهم وقول عامر بن واثلة الكناني يفخر بالمضرية، وبما كان منهم على ربيعة(3) :
حامت كنانة في حربها ... وحامت تميمٌ وحامت أسدْ
وحامت هوازن يوم اللقا ... فما خام منّا ومنهم أحدْ
لقينا قبائل أنسابهم ... إلى حضرموت وأهل الجددْ
لقينا الفوارس يوم الخميـ ... ـس والعيدِ(4) والسبت ثم الأَحَدْ
__________
(1) انظر ترجمته في (الإصابة).
(2) وقعة صفين، ابن مزاحم. ص /348-349/.
(3) المصدر السابق/ ص 312.
(4) يوم العيد، أي يوم الجمعة.(1/177)
فمثل هذا الشعر كان سلبياً ولم يزل كذلك فهو الداء الذي يفتّ عضد الأمة، ولنتصور أن الدول العربية التي اشتركت في حرب تشرين، تختلف فيما بينها أثناء الحرب، وتعقد اتفاقاً تخوض بموجبه كل واحدة منها الحرب مفردة، مع الفارق في الزمان، والشخصيات طبعاً، إن مثل هذا العمل تهور جنوني يعصف بالقوة ويأتي بالضعف والوهن. فالمنظور التاريخي لهذا المفهوم واحد لم يتغير، وإذا كانت العصبية القبلية في العصر الجاهلي تأخذ وجهة إيجابية أحياناً، فإنها بعد تكون الكيان السياسي للعرب لم تعد تملك تلك الوجهة الإيجابية، وما هي إلا داء ينخر في بنيان الأمة وجسمها.
وإذا كانت نيران صفين قد هدأت فيما بعد، فإن نيران العصبية القبلية التي أشعلتها لم تهدأ بفعل هذا الشعر السلبي، فثارت نار الفتنة بين اليمنية والنزارية، وصار التفاخر متبادلاً ودامياً، وكان أحد الأسباب التي أطاحت بدولة بني أمية.
وقد أشان حديث العصبية القبلية الثورات التي قامت فيما بعد فظهرت كأنها في حقيقتها ثورات قبلية بعيدة عن المطالبة بالعدل والحق.
"ومن الممكن أن نلاحظ أن الشاعر عبد الله بن خليفة الطائي شاعر ثورة حجر بن عدي، في قصيدته الرائيّة التي بعث بها إلى سيد قبيلته عدي بن حاتم من منفاه بجبلي طيء، يذكره وعده بالعمل على إعادته إلى وطنه الكوفة.
وقد مزج الشاعر في هذه القصيدة بين حديث الثورة وحديث العصبية القبلية. فحديث الثورة لم يشغله كثيراً، فيندفع في حديث قبلي يوجهه إلى قبيلته التي تخلت عنه، وتركته وحيداً دون أن تنتصر له. وهو يتحدث إليهم كما يتحدث ابن القبيلة إلى قبيلته ويعيّر قومه بأنهم أسلموه لعدوه، ولم ينصروه ظالماً أو مظلوماً، كما كان شأن الجاهلية(1) :
فهأنذا داري بأجبال طيء ... طريداً، ولو شاء الإله لَغيّرا
نفاني عدوي ظالماً عن مُهاجري ... رضيت بما شاء الإله وقدّرا
__________
(1) الطبري: ج2-1/ ص 151. تاريخ الأمم والملوك (ليدن 1879-1901).(1/178)
وأسلمني قومي لغير جنايةٍ ... كأن لم يكونوا لي قبيلاً ومعشرا
ثم يتحدث طويلاً، ويعلن أنه لن يستغني عنهم ولو أضاعوه:
فلا يبعدنْ قومي وإن كنت غائباً ... وكنت المضاع فيهمُ والمكفّرا
فإذا مضينا إلى ثورة المختار لاحظنا شاعرها عبد الله بن همّام السلولي يثير العصبيات القبلية ويعرضها بسلبية مقيتة "في وصف القتال الذي دار بين المختار وبين والي الكوفة، فيستعرض أعمال كل قبيلة(1) . كأنّ تاريخ صفين يعيد نفسه مما يشير إلى استمرارية التعصب القبلي، واستمرار التيار السلبي في الشعر حيث لم يستفد الشعراء من خاصيتهم أو خاصية المفكرين الذين كانوا يقودون الثورات، فلم يوسعوا دائرتهم كما يجب، وحصروها في الإطار القبلي.
(
المناحي الفكرية
المناحي السلبية في الفكر تعني التعرض للمواقف الناجمة عن مفاهيم سلبية. ومن الواضح أن السلبيات(2) التي مرت بنا في المناحي الاجتماعية، والتي ستمر في المناحي الاقتصادية والتربوية مردّها كلّها إلى الفكر السّلبي.
ومع خطورة هذا الموضوع ودقته، فإنه لا بد من الاعتراف باستحالة الإلمام بكل خاطرة فكرية سلبية أو إيجابية. لذلك نكتفي بالتعرض للمفاهيم الشهيرة التي ظهرت من خلالها بعض المفاهيم الفكرية السلبية كتلك التي تعيش في يوميات العرب وتصرفاتهم.
ويجب أن نلاحظ قبل كل شيء أن تأثر الشعر بالحياة الفكرية لا يقرّبه من الحياة العقلية القائمة على قواعد ونظريات، ومنطق ومناقشة وجدل، وإنما هي مجموعة أفكار تأخذ مساراً يشبه المسارات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي تعاملنا معها. فهي الأفكار التي يقدمها الشعراء إلى الناس، يعيشون معها ويتأثرون بها تأثراً مختلفاً حسب مستوياتهم العقلية.
__________
(1) انظر العصبية في تاريخ الأمم والملوك، الطبعة السابعة ج2/ ص 637.
(2) انظر السلبية في المناحي الاجتماعية في هذا البحث.(1/179)
ولا شك أن التيارات الفكرية السلبية التي ظهرت في العصر الإسلامي نوعان، نوع جاهلي، ونوع إسلامي، ولا أقول إسلامي جاء به الإسلام فحاشا لله، وإنما أعني أنه ظهر أو ولد في العصر الإسلامي.
ولنقف عند النوع الأول، حيث استطاعت مجموعة من المفاهيم الجاهلية(1) الفكرية أن تشق طريقها وتأخذ مكانها في الفكر العربي بعد ظهور الإسلام، على الرغم من محاربة الإسلام الشديدة لهذه المفاهيم الفكرية.
وقد سبق اعتذارنا أنه من غير الممكن استقصاء الشعر الذي جاء في كل فكرة قديمة، وإنما نسعى للاكتفاء بشاهد عن كل مفهوم عقلي، وهذا يحررنا لننطلق إلى فكرة أخرى.
فالطيرة مفهوم جاهلي قديم، وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء وغيره. حار بها الإسلام بشدة، كما في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، "الطيرة شرك، الطيرة شرك ثلاثاً(2) ". وقال عن الشؤوم: "لا شؤم وقد يكون اليمن في الدار والمرأة والفرس(3) " لكن هذا لم يمنع الفكر الجاهلي السلبي من الاستمرار ليكسف صفة الأصالة، واستمر الشعراء يقولون به، فيما يختص بمصير حياتهم، والمهم منها، والوجه السلبي في الطيرة أنها "تكسر النيّة، وتصد عن الوجهة، وتثني العزيمة، وفي ذلك ما يعطل الإحالة على المقادير(4) ".
فالزواج أهم الحالات الخاصة التي يجب على الإنسان أن يأخذ بها عن طيب خاطر، وسابق خبرة، ومعرفة، وحسن معشر، ليؤدم بين الزوجين، هذا الأمر إلهام يأتي عند الشاعر الهذلي(5) بالطيرة، يقول وهو يذكر امرأته:
زجرت لها طير السنيح فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها(6)
__________
(1) انظر السلبية في المناحي الفكرية الجاهلية في هذا البحث.
(2) جامع الأصول، ج7/ 630.
(3) المصدر السابق، ج7/ 633.
(4) العمدة: ج2/ 259.
(5) انظر أخباره في العمدة ج 2/ 259.
(6) المصدر السابق نفسه.(1/180)
ويبدو أن الجاهليين كانوا كثيرى الطيرة، بدليل أن القرآن الكريم أعلن أن الله يغفر كل شيء، ولكنه لا يغفر الشرك(1) ، وقد سبق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الطير شرك.
ومثل هذه العقلية التي لا تقبل التغيير بسرعة هي التي شجعت "رينان"(2) وغيره من المستشرقين أن يقولوا بالعقلية الآسيوية ومن هذه المفاهيم السلبية ما احتواه الشعر الذي يدعون فيه أن حيواناً ما قد حدّثهم ونصحهم، واستمعوا إليه في أمر كبير ومنعطف إيماني خطير!..
من هذا القبيل قصيدة تنسب لرجل يقال له: رافع بن عميرة ويقال رافع بن عمر، وهو دليل خالد بن الوليد لما سار من العراق إلى الشام.
فقد نسب إلى نفسه حديثنا حدثه إياه ذئب مرّ به إذ كان يرعى الغنم قبل أن يسلم، ثم دعاه إلى اللحوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال(3) :
رعيت الضأن أحميها بكلبي ... من اللّصت الخفي وكل ذيب
ولما أن سمعت الذئب ينادى ... يبشرني بأحمد من قريب
سعيت إليه قد شمّرّت ثوبي ... على الساقين قاصدة الركيب
فبشرني بقول الحق حتى ... تبينت الشريعة للمغيب
وأبصرت الضياء يضيء حولي ... أمامي إن سعيت ومن جنوبي
ولا شك أن الشاعر ممن أراد أن يضيف إلى نفسه مجداً، فقد تحدث عن معجزة تمثلت بحديث الذئب، وربما أراد بهذا أن يغطي ماضياً سيئاً له، فقد قيل: إنه كان لصاً في الجاهلية(4) " وذلك بهذا الادعاء الذي يجعل له مكانة مرموقة بين المسلمين تظهر في الطريقة التي يسرّها له الله ليؤمن بالدين الجديد.
__________
(1) أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء" سورة النساء/ 48.
(2) رينان، مستشرق فرنسي، وهو أول من فتح باب الهجوم على العرب في كتابه: تاريخ اللغات السامية المقارن.
Historind genenale et Systeme Compnedes langaes se mitigues.
(3) أسد الغابة: ج2/ ص 195-196/ دار الشعب، القاهرة 1970.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/181)
ونقول ربما كان الشعر كله منحولاً انتحلته قبيلة طيء، ونسبته لرجل منها لتصل إلى الكرامة والمعجزة التي تحدثنا عنها.
وشبيه من هذا ما ادعوه من عمل للجن، في شعر نسبوه إلى نسائهم في مقطوعة طريفة تروى على أنها من رثاء الجن، ونوح نسائهم في الحسين بن علي (رض) حين استشهد، وفيها(1) :
نساء الجن يبكين ... من الحزن شجيات
ويسعدن بنوح الـ ... نساء الهاشميات
ويندبن حسينا عظمت تلك الرزيات
ويلطمن خدوداً كالـ ... دنانير النقيات
ويلبسن ثياب السو ... د بعد القصبيات
ألا يذكرنا هذا الشعر بالأحاديث النبوية التي وضعت على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو منها براء(2) ، تلك التي ترفع من قدر إنسان بعينه، أو تحجز له مكاناً في علّيين، ولا يحتاج المرء جهداً كبيراً ليعرف أن هذا من وضع الشيعة الذين لم يدر بخلدهم إلا فكرة تعظيم الجن وحزنها الشديد على استشهاد الحسين، فوضعوا على لسانها مثل تلك القطعة الشعرية التي تشير إلى قصور في الوعي.
إن الإنسان يمتاز بنعمة العقل، وربما كانت الوظيفة الأولى للعقل أن يقينا شر المخاطر، وربما كانت المراوحة في المفاهيم المتخلفة هي أهم تلك المخاطر التي لم يستطع العرب التخلص منها.
إن هذه المفاهيم الفكرية وما يليها من مفاهيم سلبية أخرى جديدة، ظهرت في العصر الإسلامي –كما سنرى بعد قليل- ليست إلا نكوصاً أو هروباً من الواقع الجديد الذي حدث بعد ظهور الإسلام.
__________
(1) مناقب آل طالب ج3/ 219، المازندراني، المطبعة الحيدرية، النجف 1376هـ.
(2) الاعتقاد في الجن على هذا النحو، أو شبهه كان متفشياً في الجاهلية ولا تزال الأوهام والأساطير عن تدخل الجن في حياة الناس تسود في بيئات كثيرة من مجتمع العرب.(1/182)
ومع ذلك فإن تلك الأوهام لم تكن نوعاً من وميض البرق في عالم الفكر، بل كانت مختلطة بالأصالة فاستمرت في حياة العرب إلى أيامنا هذه مما يشير إلى ظاهرة مؤلمة في العقلية العربية، تتمثل في الجمود على السلبي من المعتقدات، وهذا معارض حتى للواقع الطبيعي، حيث تكشف لنا الطبيعة دائماً أنها على استعداد مستمر للتغيير مهما كان بطيئاً.
ومهما يكن من شيء، فإننا نعتقد أن جمود العقلية العربية على هذه المفاهيم الجاهلية يعطينا فكرة واضحة عن مفاهيم الحرية الخاطئة التي فهمها المقنون بالأفكار الجاهلية، وربما كان في وسعنا أن نربط فكرة الحرية بفكرة القيمة، فنقول: إن قيمة كل إنسان تتوقف طردياً على درجة حريته، وهذه الحرية نفسها ليست سوى بحث عن القيم وسعي وراء الممكنات، وجهد متواصل من أجل العمل على تحقيقها(1) ".
الاستخفاف بالدين!..
وأما النوع الثاني، فإنه تيار فكري سلبي ظهر في العصر الإسلامي، ويمكن القول بأنه نوع من الجهل بتعاليم الإسلام الدقيقة أو عدم اهتمام، ويمكن تلخيصها بأنها نوع من الاستخفاف بالدين!...
وقد يكون مستغرباً أن نقول باستخفاف شعراء مسلمين بالدين الجديد، وهم من أتباعه!... ولكن العجب يزول حين نتذكر أن الدين هو الإسلام وأن الإسلام خلوص وتعرٍّ من الآفات الظاهرة والباطنة، فيصبح المقصود بمن يستخف بالدين، عمل أولئك الذين يخرجون عن أهم تعاليمه، فيتنابزون، ويتبجحون بالقتل والسّفه والطيش لتكون جاهلية القرن الأول، وردّةً بالمعنى العميق. ويبدو أن كثيراً من هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون تياراً معيناً من الناس، خشي إعلان ردّته لِمَا شاهدوه من مصير أولئك الذين أعلنوا ردّتهم فصار ممثلوهم من الشعراء ينتهزون المواقف السلبية التي تظهر من القادة المسلمين، فيظهرون نقمتهم استخفافاً بالدين، وسيراً في طرق ملتوية متعددة، منها:
__________
(1) إبراهيم، زكريا: مشكلة الحرية /ص 236/، دار مصر للطباعة والنشر القاهرة، 1963م.(1/183)
التبجح بقتل أصحاب رسول الله، أو أبنائه، ومنها استخفاف بدوافع الجهاد، وجعل الهدف منه المغنم والمكسب. ومنها إعراض عن أوامر الله تعالى، ولعل أمثلة على هذه الظواهر تكفي لإثباتها.
فقد قتلَ رجلٌ يقال له ابن جرموز الزبيرَ بنَ العوام(1) ، وكان اشترك في وقعة الجمل مقاتلاً علي بن أبي طالب، فناداه علي ودعاه، ثم انصرف عن القتال، فنزل بوادي السباع(2) ، وقام يصلي، فأتاه ابن جرموز فقتله!
وجاء بسيفه إلى علي فقال: إن هذا سيف طالما فرجّ الكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال: بشّر قاتل ابن صفية بالنار(3) .
وقيل(4) أن ابن جرموز استأذن على علي، فلم يأذن له، وقال للآذن:
بشّره بالنار، فقال(5) :
أتيت علياً برأس الزبيـ ... ـر أرجو لديه به الزّلفهْ
فبشَّرَ بالنّار إذ جئته ... فبئس البشارة والتّحفهْ
وسيّان عندي قتل الزبير ... وضرطة عنز بذي الجحفه(6)
هل أبصرت الأثر النفسي؟!.. يأتي عليا برأس الزبير، فلا يستقبله علي ويبشره بالنار، ويظهر معتقده الذي يجعل ضرطة عنز تعادل قتل صحابي من أقرباء الرسول!.
لا شك أنها الردة التي لم يعرفها أبو بكر، ولا شك أنه لا يمثل حالة فردية إنها ظاهرة يمكن اعتمادها. فمن العجب أن يصبح قتل صحابي معادلاً ضرطة عنز في صدر الإسلام! في حين ندر أن نجد إنساناً من الناس مسلماً، في عصرنا هذا على اختلاف الملل والنحل، يرى رؤية ابن جرموز تلك.
__________
(1) أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول من سلّ سيفه في الإسلام، وهو ابن عمة النبي (ص) لاحظ أخباره في: تهذيب ابن عساكر ج5/ ص 355 وصفة الصفوة: ج1/ ص 132.
(2) وادي السباع، على سبعة فراسخ من البصرة.
(3) أسد الغابة، ج2/ ص252، دار الشعب، القاهرة 1970م
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) أسد الغابة، ج1/ ص 252، القاهرة 1970م.
(6) اسم واد.(1/184)
وإذا كان قول ابن جرموز سلبياً في عصره، فإنه مفرق في السلبية في كلّ العصور، ويكشف لمنظورنا العصري بحاجة الناس الذين ارتدوا ولم يُحاربوا في ذلك العصر!..
كما يخرق رداء القداسة الذي نسجه المتأخرون من الفقهاء حول إيمان الناس في القرن الأول، فيأخذ طابعاً إيجابياً كاشفاً ومحللاً، فيه نستطيع تحليل الكثير من التصرفات التي بقيت لكثير من التساؤلات.
وإذا كان ذلك الأعرابي قاتلاً للزبير مبشراً بالنار، فإن رجلاً آخر يدخل على ابن زياد(1) بن أبيه مفتخراً بقتل سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسين بن علي، ويقرّ أمامه أنه قتل خير الناس طرّاً، ويعتز بعمله السلبي، ساعياً إلى الذهب والفضة مقابل فعلته الرهيبة، فيقول(2) :
أوقر ركابي فضّة وذهبَاً ... فقد قتلت الملك المحبّبَا(3)
قتلتُ خيرَ النّاس أمّاً وأباً ... وخَيْرهم إذ ينسبون نَسَبَا
ثم إن عمر بن سعد(4) نادى في أصحابه: من ينتدب للحسين ويواطئه فرسه؟ فانتدب عشرة، فأتوا فداسوا الحسين. بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره(5) !.
إنها الردة التي لم تحارب، أطلّت برأسها على لسان شاعر فاجر يفتخر بقتل الحسين فتجاوز كل حدود التصور، وإذا كان لهذا الشعر من منظور في عصرنا، فإنه كسابقه دليل آخر على وجود تيار ردّة لم يحارب إلاّ أنه تلبّس لبوس الدين.
__________
(1) عبيد الله بن زياد، وقيل إن قاتل الحسين وقف على باب عمر بن سعد ونادى بالشعر؛ لاحظ تاريخ الطبري ج5/ ص 454. وقاتله هو شمر بن ذي الجوشن. المصدر السابق نفسه.
(2) مروج الذهب للمسعودي: ج2/ ص 71. وتاريخ الطبري المصدر السابق نفسه.
(3) وفي رواية الطبري: /أنا قتلت الملك المحببا/.
(4) قائد قوات عبيد الله بن زياد إلى حرب الحسين بن علي.
(5) تاريخ الطبري: ج5/ ص 455.(1/185)
وغير التبجح بقتل أصحاب رسول الله وأحفاده، فإننا نقف على كشف بالعقلية الوثنية التي ظلت راسخة في ذهن الكثير من مقاتلة الفتوح الإسلامية الذين حافظوا على مميزاتهم البدوية الجلفة بعيداً عن العقلية الجهادية الساعية إلى تقديم الخير للناس ديناً، أو للنفس شهادة فجنة عرضها السموات والأرض.
بل الأمر عند تلك الزمرة سعي حثيث من أجل النفوذ الشخصي والمنافع الذاتية، والاهتمام بالغنائم، كما كانت الحال في الجاهلية فظل هذا الاهتمام متأصّلاً في نفوسها، كما في قول بشر بن أبي ربيعة الخثعمي أحد المقاتلين في معركة القادسية(1) :
أنختُ ببابِ القادسيةِ ناقتي ... وسعدُ بن وقاص عليَّ أميرُ
وسعدٌ أميرٌ شرُّه دونَ خيره ... وخير أمير العراق جريرُ(2)
وعند أمير المؤمنين نوافل ... وعند المثنى فضَّةٌ وحريرُ(3)
تذكّر –هداك الله- وقع سيوفنا ... ببابِ قُديس والمكرُّ عَسيْرُ
عشيّة ودَّ القومُ لو أنَّ بعضهم ... يعارجَنَا حَيْ طائر فيطيرُ
إذا ما فرغنا من قراع كتيبةٍ ... دلفنا لأخرى كالجبالِ نسيرُ
ترى القومَ فيها أجمعين كأنهم ... جِمالٌ بأحمالٍ لهنَّ زَفِيْرُ
في هذا المضمار نجد المقارنة مهمة، فأمير المؤمنين يجهزهم للقتال، ويذكّرهم بما عند الله، لكنهم يتذكرون الغنائم التي عند المثنى بن حارثة الشيباني، فالغنائم تعطي الأعرابي دفعاً ولكنها يجب ألا تنسيه مهمته الأولى.
ومثل هذا الشعر صار حجّة بيد أعداء العرب، ووصمة عار بتاريخهم، وهو شاهد على حقيقة دوافع الفتوح كما أرادها الغربيون والمستشرقون.
__________
(1) تاريخ الأدب العربي، ر- بلاشير ج2 / ص 277-278/.
(2) جرير، هو جرير بن عبد الله من قادة القادسية، لاحظ أخباره في تاريخ الطبرى ج3/ ص 577.
(3) المثنى، هو المثنى بن حارثة الشيباني أحد قادة الفتح الإسلامي، مات من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر. لاحظ أخباره في تاريخ الطبري ج3/ ص 470 وما بعدها.(1/186)
فالسلبية واضحة في قوله بشكلها الواسع لا سيما في منظور العصر الذي كان فيه، فقد فضح نفسه وأتباعه ممن انطلقوا جباةً جامعين، لا مجاهدين هادين. كما أنّه الشعر السلبي في منظور عصرنا حيث صار هذا الشعر وأمثاله حجة بيد أعداء العرب والإسلام.
ومن هذا الشعر ما يدل على استخفاف بما أمر الله به أن يبطل ويرفض ونهي عن الحديث فيه. حتى لو كان الحديث مجرّد ادّعاء لا أساس له من الصحة.
فقد ادّعى النعمان بن عدي(1) أنه شرب الخمرة في منادمة له مع أصحابه، فجلب عليه ادعاؤه شراً وبيلاً.
وقصة هذا الأمر تبدأ حين خرج والياً على ميسان(2) وأراد امرأته على الخروج معه فأبت، فكتب إليها بالأبيات التالية(3) :
فمن مبلغ الحسناء أن حليلَها ... بميسان يُسْقَى في زجاج وخَنْتَمِ(4)
إذا شئتُ غنّتي دهاقين قرية ... وصّناجة تحدو على كلِّ مَنْسمِ(5)
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلِّمِ(6)
7
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّمِ(7)
فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني قولك:
لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّمِ
وأيم الله، لقد ساءني، ثم عزله. فلما قدم عليه سأله، فقال: والله ما كان من هذا الشيء وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط.!
__________
(1) وهو قرشي عدوي استعمله عمر بن الخطاب على ميسان. انظر في الإصابة ج6/ 243.
(2) ميسان: كورة واسعة كثيرة القرى والنخل، بين البصرة وواسط. معجم البلدان ج4/ ص 714.
(3) أسد الغابة: ج5/ 375، القاهرة. دار الشعب، 1970 والإصابة ج6/ ص 243.
(4) الخنتم: جِرارٌ خضْرٌ تضرب إلى الحمرة.
(5) الصّنج: ما يكون في الدفوف، وذو الأوتار، وهو فارسي معرّب.
(6) الأكبر: أراد به القدح الأكبر.
(7) الجوسق: الحصن، وقيل شبيه بالحصن معرب وأصله كوشك.(1/187)
فقال عمر: أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً. فنزل البصرة ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات(1) .
أوقع هذا القول بصاحبه، وأطاح به عن كرسي الولاية، على الرغم أنه مجرد قول، وما شربها قط كما قال: ويبدو أنه كذب عمر في قوله:
"وما كان إلا فضل شعر وجدته".
إنه في حقيقة الحال أراد أن يغيظ زوجته، وأن يحملها على الخروج إلى ميسان، وربما وجد حرجاً في البوح، ولو فعل لعاتبه عمر على قوله وعلى خذلان زوجه له بالخروج إليه، فقد قيل إنه كان صالحاً، وإنما قال هذا الشعر ليعزله عمر(2) .
وإن صح ما قيل عنه من صلاح، فإنه ارتكب خطأ ليصل إلى ما يريد: مستخدماً وسيلة غير سليمة للوصول إلى غايته.
وقد كان بعض الشعر السلبي من المقطعات المخالفة للواقع التاريخي، والصدق الحقيقي، يصل إلى يد بعض الباحثين، ويدرس في الكتب التعليمية(3) على أنّه صوت يناضل ضد الوضع الاجتماعي الذي يزيد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ويدعو إلى العدالة التي قضى عليها التمييز حتى في ثمرات الجهاد كما في قول الشاعر الفارس عمرو بن معد يكرب الزبيدي في وقعة القادسية:
إذا قُتلنا ولا يَبْكي لنا أحدٌ ... قالت قريش: ألا تلك المقادِيْرُ
نُعطى السّويةَ من طَعْنٍ له نَفَذٌ ... ولا سويّةَ إذ تُعْطَى الدّنَانِيْرُ
__________
(1) ويقال: إن الرجل كان صالحاً، وإنما قال هذا الشعر ليعزله عمر.
(2) أسد الغابة: ج5/ 3359، القاهرة. دار الشعب 1970م.
(3) لاحظ. الأدب الاجتماعي القديم في كتاب الثالث الثانوي الأدبي ج1/ الذي يدرس في الجمهورية العربية السورية /75-1980م/.(1/188)
والحق أن لهذين البيتين قصة طريفة حدثت يوم كان سعد بن أبي وقاص يقسم في القادسية فيصل عطاءُ الفارسي ستة آلاف يقبضها عمرو، ثم يزيده سعد في أهل البلاء خمسمائة، ولكنه لا يقنع، إذ تبقّى بعد ذلك شيء كثير، رأى سعد أن يرسل به إلى المدينة ليسال الخليفة عمّا يفعل به، فيرد عمر: "ردّ على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ولم يشهد الواقعة" ونفّذت الوصية وبقي لديه ما اضطره أن يسأله ما يفعل له، فطلب منه: أن يوزع في حملة القرآن، ولم يكن عمراً منهم فقد سأله سعد: ما معك من كتاب الله تعالى؟ فحك عمرو رأسه ثم أجاب بعد لحظات: إني أسلمت باليمن ثم غزوت، فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبى سعد أن يجعل له من مال الحفّاظ نصيباً، فإذا عمرو يقول(1) :
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش: ألا تلك المقاديرُ
نعطي السّويّة من طعن له نفذ ... ولا سوية إذ تعطى الدّنانيرُ
ووصل أمره إلى عمر، فأمر عمر بأن يعطى على بلائه، فأعطاه ألفي درهم.
وقد أوقع عمرو في قوله هذا بقوم حقدوا على الإسلام وتاريخه لدرجة أنهم اعتبروه صوتاً يناضل ضد الإقطاع وتركز السلطة، بعد أن حدث فرز طبقي، في عصر مَنْ؟!.. في عصر عمر بن الخطاب الفاروق. أفليس هذا عجيباً؟!..
__________
(1) الأغاني: ج14/ ص 39، طبعة الساسي.(1/189)
والحق أن عمر بن معد يكرب كان مليئاً بالعزة الشخصية، وإن هي إلا لحظة طيش، وساعة نزق أراد بها أن يسرق من مال الحفاظ بروح ملؤها الكسب والمغنم بعيداً عن الحلال والحرام. وحين لم يتح له ذلك قال: ما قال: ولم يكن هناك ظلم أو قهر أو فرز، بل الأمانة والعدل والقسمة الحقة، تتجلى في كلام عمرو نفسه في جوابه لعمر بن الخطاب حين سأله عن سعد بن أبي وقاص في جنده، فقال: هولهم... "أعرابي في نمرته أسد في تامورته، نبطي في حبوته، يقسم بالسويّة، ويعدل في القضية وينضر في السّرية، وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذّرة(1) .
ووجه السلبية الواضح في قول عمرو تجنب الصدق التاريخي، في محاولة نابعة عن اعتداء على حقوق الآخرين، كما أنه خادع بعض الباحثين المعاصرين(2) الذين يحاولون بناء الظواهر الاجتماعية بعيداً عن الواقعية التاريخية مندفعين بحقد دفين لتاريخ أمتهم!..
ومع أننا سنتحدث عن وقائع مؤلمة كشفها الشعر الإيجابي جرت في عهد عمر بن الخطاب، فصور النهب والسلب على يد بعض قادة الجند من الفاتحين، إلا أن هذه المسألة باطلة، ولا حق لعمرو بن معد يكرب بقوله. وبعد أن قال ليس لنا أن نصدقه لأننا وقفنا على المناسبة التاريخية التي نجم عنها قوله.
(
المناحي الاقتصادية
__________
(1) لاحظ شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام. النعمان عبد المتعال القاضي، ص 205، القاهرة 1965م.
(2) كاتب المقال في الكتاب التعليمي المذكور سابقاً.(1/190)
لن نطيل الحديث هنا، فالموضوع دقيق وأكثره يأتي في المناحي الإيجابية، واتباعاً لخطة البحث لا بد من الإشارة الخاصة إلى هذا السلبي في الأمور الشعرية التي تعالج جوانب اقتصادية. وقبل كل شيء يجب الاعتراف بأننا في هذا الحديث لا نعالج الجوانب السلبية في الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من خلال الشعر، لأن هذا الهيكل(1) بأركانه العامة لا يوضح بالشعر كما أنه لم يكن قد استكمل بعد. غير أننا إذا عرفنا صفات هذا الاقتصاد، نكون قد ولجنا الباب من الجانب الشعري.
والصفات الأساسية لهذا الاقتصاد أنه اقتصاد واقعي، وأخلاقي معاً. واقعي في غاياته التي يرمي إلى تحقيقها، وأخلاقي في الطريقة التي يتخذها لذلك(2) . وهكذا يكون الشعر الذي خالف الواقع الاقتصادي، أو اتخذ طريقاً غير أخلاقي لتحقيق ذلك الواقع، شعراً ينم عن مفاهيم سلبية لمواقف مماثلة في سلبيتها.
فالواقع المالي الجديد الذي أوجدته الفتوحات الإسلامية، يشير إلى وجوب توزيعه على أفراد الدولة الجديدة لتحيا واقعها الذي توصلت إليه بما يحتاجه الفرد، ولكن تكديس المال في جوانب المجتمع ولا سيما في قريش، أدى إلى ظهور تأثيرات سلبية في الشعر الإسلامي في وقت مبكر تبلّورت في الشعر الدّاعي إلى الزهد في متاع الدنيا والتعلق بالنسك والعبادة(3) .
ونحن إذا تأملنا في ظواهر الحياة لهذا العصر وجدنا الجانب الاقتصادي يتغلغل في صميم كل ظاهرة منها حتى الاتجاهات الروحية في الأفراد يمكن أن تعلل من بعض جوانبها بعلل اقتصادية(4) .
__________
(1) مبدأ الملكية المزدوجة، ومبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود، ومبدأ العدالة الاجتماعية.
(2) اقتصادنا: محمد باقر الصدر ج 2/ ص 266، دار الفكر، بيروت بلات.
(3) انظر في هذا المعني: التطور والتجديد في الشعر الأموي لشوقي ضيف ص/ 118. دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة، بلا تاريخ.
(4) المصدر السابق ص/ 117-118.(1/191)
وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الزهد في الحياة الدنيا ومتاعها الزائل، فإن تلك الدعوة تهذيبية تربوية تحمل في تضاعيفها الحث على التقوى والعمل الصالح، بدوافع تربوية خلقية وعسكرية، وعلى كل فقد بقيت دعوة الإسلام تلك معتدلة أوجزها الله تعالى بقوله:
"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا"(1) .
ولا بد أن نفرّق بين شعر الوعظ والزهد والتقى الناجم عن الموجة الواسعة التي صدرت عن أناس يملكون المال الوفير، والشعر ذاته الناجم عن ردة فعل من أناس لا يملكون مالاً ولا ثراء، فاتجهوا إلى شعر الزهد والوعظ، ولا شك أن النوع الثاني هو المقصود بالسلبي هنا، فهو تعبير عن هزيمة من مواجهة الواقع الاقتصادي الجديد وهروب على شاكلة الرومانسيين إلى واقع نفسي يخلقونه لأنفسهم.
وقد غرق هؤلاء في السلبية الاقتصادية حين أوجدوا مبدأ التوكل وقد ظهر هذا المبدأ عند فقيه المدينة عروة بن أذينة "وله أبيات تصور مبدأ مهمّا شاع بين الزهاد في هذا العصر وهو مبدأ التوكل على الله والثقة في أنه لا يترك أحداً بدون رزق يكفيه، وبلغ من مبالغة بعضهم في هذا المبدأ أن رأوا في السعي والكد نقصاً في التوكل والثقة بربهم، يقول عروة:(2)
لقد علمتُ وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسْعَى له فيعنّيني تَطَلُّبُه ... ولو قعدت أتاني لا يعُنِّيْنِي
ظني كريمٌ ونفسي لا تحدِّثني ... أن الإله بلا رزقٍ يُخلِّيْنِي
__________
(1) سورة القصص: الآية/ 77.
(2) ضيف، شوقي: العصر الإسلامي ص 372، دار المعارف بمصر، القاهرة، بلا تاريخ. ونأخذ على الكاتب قوله: "ولا شك في أن هذا المبدأ يفضي إلى طمأنينة نفسية قوية". ففي الحديث: "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد: أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك". الترمذي، جامع الأصول ج4/ ص 670.(1/192)
الحق أن الإسلام حث على وجوب العمل، وأكد أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. على حد قول عمر بن الخطاب (رض):
لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول(1) :
"اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الله تعالى إنما يرزق بعضهم من بعض، ثم تلا قول الله جل وعلا: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون(2) } .
وإذا كان قد جعل الرزق من الله فإنه يطالب باتخاذ الأسباب المطلوبة لهذا الرزق، ويطالب بالعمل الحثيث، وقد كان الرسول يقول: لأن يغدوا أحدكم فيحتطب على ظهره فيصدق به ويستغني به عن الناس خير من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول(3) .
وقد كان أبو الأسود الدؤلي في زهده يدعو إلى السعي في الدنيا حتى يكسب المرء لنفسه ما يحيا به حياة كريمة، يقول لابنه(4) :
ولا تقعد على كَسَلٍ تمنَّى ... تُحِيْلُ على المقادِر والقضاءِ
وهناك موقف مالي آخر غير التوكل، يظهر في دعوة الشعراء السلبية إلى إتلاف المال كرماً مزعوماً!..
فحين عالج القرآن كثيراً من المسائل المالية، عالج قضية تدبير المال فقال: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً
محسوراً } . هذه القاعدة لم تعجب بعض الشعراء فراحوا يضفون على ممدوحيهم صفة إتلاف المال كما في قول الحطيئة(5) :
مفيدٌ ومتلافٌ إذا ما سألته ... تهلّل واهتزَّ اهتزازَ المهنّدِ
وفي العمدة(6) بقية أبيات تسبق هذا البيت، يقول فيها:
__________
(1) العقد الفريد، ج2/ص305، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1953.
(2) سورة الجمعة: الآية 10.
(3) جامع الأصول: ج10/ ص146.
(4) ضيف، شوقي: العصر الإسلامي. ص 374.
(5) العقد الفريد: ج2/ ص305، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1953.
(6) ج2/ص137.(1/193)
تزورُ فتىً يعطي على الحمد مَالَهُ ... وَمَنْ يُعْطَ أثمانَ المكارِم يُحْمَدِ
تزورُ فتىً يعطي على الحمد مَاله ... ويعلمُ أنّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ
يرى الْبُخْلَ لا يبقى على المرء مَا لَهُ ... ويعلم أن المرءَ غيرُ مُخلَّدِ
فالله جلّ وعزّ يدعو إلى عدم بسط اليد، كما يدعو إلى عدم إغلالها كما في الآية الكريمة، { والحطيئة يريد طمعاً وشرها أن يجعل من ممدوحه متلافاً للمال، ليخجل ممدوحه فيعطيه ما يريد.
ومن الواضح أن فرقاً اقتصادياً كبيراً كان بين طبقتين من الناس، طبقة تتركز في أيديها الثروة والنفوذ، وتحيط نفسها بالضياع والإتباع، ويسيل الذهب من بين أصابعها، وطبقة تعيش على هامش الحياة بعيدة عن مراكز الثروة والنفوذ(1) .
ولا أريد أن أقف أمام هذا المجموع الواسع من الشعر الذي يدعو إلى التواكل، أو من شعر المديح الكاذب، بما فيه المديح السياسي، فإن هذين النوعين من الشعر هما مواقف سلبية لا تمت إلى الواقع الاقتصادي الذي كان، ولا يعمل بالأخلاقية المطلوبة في مثل هذه المواقف.
وقد ظهرت سلبيات أخرى، ربما كان لها بعض الأوجه الإيجابية نؤجلها إلى حديث المناحي الإيجابية الاقتصادية.
ولكن هذا لا يعني أن نتجاوز الحديث عن بعض المفاهيم الاقتصادية السلبية الهامة.
فبعض هذه المفاهيم يتبجح بسرقة أموال الدولة!.، وبعضها الآخر يشين الجهاد، وبعضها يدل على ازدراء الإسلاميين الحرف كما كان شأن العرب في الجاهلية!..
فالمفهوم الأول هو انحراف وفساد وخيانة يرتكبه والٍ في سبيل مطامع مالية شخصية.
__________
(1) خليف، يوسف: حياة الشعر في الكوفة، ص471، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968م.(1/194)
فقد ظهر ولاة سرقوا ما جبي في ولايتهم وهربوا(1) . ويذكر أن علي بن أبي طالب (رض) ولى عبد الله بن سوّار بن همام العبدي البحرين فجبى مالاً وهرب، فكتب إليه علي يتهدده فكتب إليه ابن سوار بشعر قاله بكر بن وائل الطاحي (من الأَزْد)(2) .
ما إن نُبالي إذا ما كنت جنّتنا ... أن نَسْرُط المال سرط الماء بالعسلْ
وأنت بحرٌ على قومٍ تخاصمُهُم ... وصخرة في الأداني ماؤها وشلْ(3)
فهذا يفضح سيرة الولاة الخائنين الذين حكموا بعض البلاد العربية والإسلامية منذ صدر الإسلام، ويؤكد فكرتي الطمع والغدر اللتين ذكرناهما.
والمفهوم الآخر ما جاء على ألسنة كثير من الفاتحين، وهم ينتشرون شرقاً وشمالاً، وغرباً يفتحون بلاداً غنية طمعاً في مال وغنى يكسبونه وسوف نفرد لهذا حديثاً خاصاً في غير هذا الموضع، لكن لا بأس من الإشارة إليه هنا.
قال الطرماح بن حكيم(4) :
وإنّي لمقتادٌ جوادي وقاذفٌ ... به وبنفسي العامَ إحدى المقاذف
لأكسبَ مالاً أو أؤول إلى غنى ... من الله يكفِيْنِي عدات الخَلائِق(5)
فهذا الشعر وأمثاله ينفي الأسباب الدينية للجهاد، ويؤكد الأسباب الاقتصادية الشخصية، والمطامع المالية، فيشين الصورة الإيمانية التي تعلل بها العرب ليفتحوا البلاد. وصحيح أنه يتحدث عن عودته إلى الله، لكنه يقدم المال والكسب أولاً!..
__________
(1) يذكر أبو هلال العسكري في الأوائل: ج2/ ص 20 "أن ابن عباس أول أمير أخذ ما جبي وهرب".
(2) الأوائل، أبو هلال العسكري. ج2/ ص 21-22.
(3) الوشل: الماء القليل.
(4) الأغاني، ج12/ ص 40-41/ دار الثقافة، بيروت 1959.
(5) العدات: جمع عدة، وهي ما يوعد به من صلة، والخلائف ج خليفة.(1/195)
والمفهوم السلبي الثالث هو ازدراء الإسلاميين المهن! ومن خير ما يؤكد هذا أن بعضاً من الناس كانوا ينبزون واصل بن عطاء(1) ويقولون (واصل الغزّال) لأنه كان يجلس إلى عبد الله الغزّال أحد دعاته.
وقد كان دعاته أنبل من جميع رؤساء النّحل خلفوا الأزواج والولدان، وأهملوا الأموال، وليس هذا بصفة غزّال، ولا أحد مما يعالج الحرف.
وكان أبو الطروق(2) (من أتباعه) يردّ ذلك النبز، ويقول(3) :
متى كانَ بيّاع الغُزول مُقَدَّماً ... على كلِّ حالٍ في الرّهانِ وسابقِ
متى اجتمع الشرق المنير وَغَرْبُه ... لبيّاع غزل خاملِ الأَصْلِ مارقِ
فهذا التناثر يؤكد احتقار العرب حرفة الغزل، والدفاع عن واصل ونفي المهنة عنه يدل على ذلك أيضاً. ... ... (
المناحي التربوية
سبق منّا القول بأننا لا نملك وثائق تربوية عن النظري والعملي في التربية العربية الجاهلية(4) . ولكننا لم نعجز أمام هذا الواقع حين أخذنا ببعض الشعر فدرسناه وحللناه لنستنبط منه مواقف ومثلاً وقيماً تربوية.
والحديث عن سلبيات الواقع التربوي الإسلامي هنا، لن يأتي من خلال نصوص دينية إسلامية، وإنما يأتي من خلال النظرة الاجتماعية للفرد ولا بد من الاعتراف بأن التربية في النظرية والتطبيق لم تشغل مكانة بالغة أو غير بالغة عند الشعراء الإسلاميين، شأنهم شأن الشعراء الجاهليين وهذا بحد ذاته أمر يبدو لنا سلبياً.
ومع ذلك فإننا حين نبحث عن نظام التربية السلبي كما عكسه الشعر الإسلامي علينا أن نحدد نوع هذا الشعر، ما دمنا قد اعترفنا بأن التربية لم تشغل مكانة عند الشعراء!..
__________
(1) انظر ترجمته في: وفيات الأعيان: ج2/ ص 170، ومرآة الجنان ج1/ ص 274.
(2) هو أبو الطروق الضبي، شاعر من شعراء المعتزلة، مدح واصل بن عطاء. وفيات الأعيان ج1/ ص 170. الحيوان ج6/ ص 92.
(3) الأوائل: ج2/ ص 138.
(4) المناحي الإيجابية في التربية الجاهلية من هذا البحث.(1/196)
هذه السلبيات التربوية نجدها في بعض السلبيات الاجتماعية، فالشعر يعكس سلامة المجتمع كما يعكس أزماته، وبتعبير آخر إذا أردنا أن ندرس سلبيات التربية في الشعر الإسلامي علينا أن ندرس سمات المجتمع السلبية من جهة أخرى تختلف عن المناحي السلبية الاجتماعية التي مرّت بنا.
ولندرك بشيء من الوضوح أثر النظرية التربوية في تفكيك المجتمع الإسلامي، وفي حياة المسلمين علينا أن نتصدى لدراستها من خلال بعض المفاهيم التي تضر بالمجتمع، وبالفرد.
إن التربية مرتبطة بالمصلحة العامة، وإذا كانت هذه المصلحة العامة متناثرة مجزأة، فلا بد أن يكون هذا ناجماً عن سلبيات.
وإذا علمنا أن تربية المرء لا تنمو في يوم، أدركنا الأثر الذي يمكن أن تخلفه استمرارية سلبيات ممثلة في شعر اجتماعي له صلة وثيقة بالتربية لأنه يعكس مفاهيم مضرّة.
ومما تقدم ينبغي أن ندرس هذه السلبيات من خلال سلبيات الواقع الاجتماعي وهذا يؤكد استسلامنا بأنه لا يوجد أسس علمية للتربية في الشعر إنما هي مفاهيم تربوية في واقع اجتماعي.
ففي هذا الشعر ما يؤذي التربية عامة وفيه ما يؤذي تربية الأطفال خاصة وتظهر سلبيات النوع الأول في الأمور التالية:
1-توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ.
2-تصعيد النزوات.
3-التقليل من قيمة المعلم
كما تظهر سلبيات النوع الثاني في:
1-ذكر الضحايا والدماء واليتْمِ والموت والقبور والدمار.
2-ذكر العفاريت والأشباح والجن، وحديث الأساطير.
هذا –في نظرنا- أهم ما يشين التربية، فقد لا نجد نصوصاً كثيرة توافق في مضامينها هذه السلبيات، لكن أغلبها كان شاغلاً لكثير من الشعراء، وسوف نتناول أهم الجوانب السلبية.
-توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ.(1/197)
يبدو هذا التوجيه الاجتماعي من خلال مواقف كثيرة، أهمها دفع القبيلة إلى العدوان والشر من خلال التهكم والسخرية من مواقفها النبيلة وقد كان بعض الشعراء الإسلاميين يلجأ إلى هذا التوجيه الخاطئ ليقص على عوامل الخير، ويزرع عوامل سيئة لها دورها السلبي في تكييف شخصيات القبيلة.
قال قريط بن أنيف(1) يسخر من قومه لأنهم ليسوا أصحاب شر!.. ولأنهم متسامحون راقون في معاملاتهم مع الناس، ثم يتمنّى لو أنه أخذ بهم أقواماً، فهو، يحب القتل والسفك الذي تحدثه الإغارة(2) :
ولكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عَدَدٍ ... ليسوا من الشّرِ في شيءٍ وإن هانَا
يجزُوْنَ من ظُلْمِ أَهْل الظَّلْمِ مَغْفِرةً ... ومن إساءَة أَهْلِ السّوء إحْسانَا
كأن ربَّك لم يخلق لخشيتهِ ... سواهم في جميع النَّاسِ إنسانَا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شدّوا الإغارة فرسانَا وركبَانَا
كذلك مما يشين توجيه المجتمع والأفراد مقالة أحد شعرائهم في الدعوة إلى إفشاء الأسرار على شاكلة قوله(3) :
لا أَكْتمُ الأَسْرَار لكنْ أُثمُّلا ... ولا أَتْرُكُ الأَسْرَار تَغْلي على قلْبِي
وإنّ قليلَ الْعَقْلِ من باتَ لَيْلَهُ ... تُقلّبهُ الأَسْرَارُ جَنْباً إلى جَنْبِ
ومن هذا التوجيه الخاطئ التقليل من قيمة الحضارة والحضري على حساب رفع قيمة البداوةِ، والبدوي كما في قول الشاعر(4) الذي يهجو الحضري ويمدح البدوي:
جوّاب بيداء بها عَزُوُف ... لا يأكل البقل ولا يريفُ(5)
__________
(1) قريط بن أنيف أحد بني العنبر شاعر إسلامي.
(2) حماسة أبي تمام، ج1/ ص 19.
(3) حماسة أبي تمام، ج2/ ص 549.
(4) حماسة أبي تمام، ج2/ 242-343
(5) يريد أن البدوي طواف في المفارز المخيفة، مقيم على التطواف ليس بضعيف ولا كسلان ولا يأكل البقول التي ترخي الأعصاب، ولا ينزل بلاد الحضر.(1/198)
ولا يُرَى في بيته الْقَلِيْفُ ... إلاَّ الْحَميتُ المُعْقَمُ والمكْشُوفُ(1)
للْجَارِ والضَّيْفِ إذا يَضيْفُ ... والحضَريُّ بَطْنُهُ مَعْلُوْفُ(2)
لِلْغَسْوِفي أَثْولِبِه شَفْيفُ ... أَعْجَبُ بَيْتيهِ له الكنِيفُ(3)
أَوْطَانُه مَبْقَلَةٌ وَسِيْفُ(4)
والقطامي(5) الشاعر يعيب الحضارة ويرفضها، وذلك في معرض الفخر باحتفاظ قومه ببداوتهم ورفضهم الحضارة الجديدة، ويصر على البداوة القديمة بكل تقاليدها العتيقة، كما يرفضون النظام الحضاري الجديد الذي جاء الإسلام يدعو العرب إليه ويسعى في نقلهم إليه، بما مهد لهم من وسائل روحية ومادية، سياسة واجتماعية وثقافية. يقول(6) :
وَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فأَيَّ رجال باديةٍ تَرَانَا
وَمَنْ ربَطَ الْجِحَاشَ فإنّ فِيْنَا ... قناً سُلباً وأَفْراساً حِسَانا
وكنّ إذا أَغَرْنَ على جَنَابٍ ... وأَعْوَزهُنَّ نَهْبٌ حيث كَانا
أَغَرْنَ من الضبابِ على حُلُولٍ ... وضبَّةِ أنَّة من حانَ حَانَا
وأحياناً على بَكْرٍ أَخِيْنَا ... إذا ما لَمْ نَجِدْ إلاَّ أَخَانَا
__________
(1) القليف: ثمر ينزع نواه، ويكنز في ظروف من خوص. والحميت وعاء السمن، والمفعم: ملآن.
(2) معلوف: ممتلئ من كثرة الأكل.
(3) يريد أن ثيابه رقت لكثرة فسوه فيها، وأنه يحبّ الكنيف لحاجته إليه، لكثرة أكله.
(4) يعيب على الحضري أن يسكن ساحل البحر! وأن يسكن موضع البقول. السيف: ساحل البحر.
(5) القطامي لقب غلب عليه واسمه عمير بن شميم، شاعر إسلامي مقل وكان نصرانياً. (ت 117هـ).
(6) حماسة أبي تمام: ج1/ ص 193.(1/199)
معلوم أن هذا الشعر له أثره الكبير في المجتمع وهو عامل من العوامل(1) الاجتماعية بل من أهمها في تكوين الشخصية البدوية وهذه العوامل الاجتماعية لها دورها في تكييف الشخصية النامية وتوجيهها والإنسان لا ينمو ويترعرع بمعزل عن بيئته الاجتماعية، بل يتفاعل معها ويتأثر بثقافتها، ويكيف نفسه وفقاً لها(2) . وهذا ما يفسر كونها مفاهيم سلبيّة أثرت في العملية التربوية بشكل سلبي، وعملت على تأخير التحضّر العربي، وربما ما زالت هذه العقلية هي التي تسيطر على عقل عرب البوادي المعاصرين.
- تصعيد النزوات السلبية:
تصعيد النزوات عامل تربوي سلبي له دور كبير في تأخير النمو الأخلاقي فالمرء مجموعة من القابليات، والتربية عملية تتفتح بها القابليات الكامنة في نفس هذا المرء، كما تتفتح الأزهار والنباتات، وما وظيفة التربية إلا العمل في سبيل تفتح هذه القابليات ونموّها(3) .
وهذا يعني أن ما يتفتح عليه الطفل يجب أن يكون إيجابياً ليعطي ثمره الصالح. لكن تصعيد نزوة الشر عامل سلبي في التربية النظرية والتطبيقية. وقد بدأ التصعيد الشرير في المجتمع الإسلامي في وقت مبكر، ونحا منحى سياسياً في بداية الأمر.
لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان، وهو يقول:
"والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم! أين المستضعفان! أين الأذلان عليّ والعباس! وقال:
أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك فأبى علي عليه، فجعل يتمثل بشعر المتلمس(4) :
إن الهوانَ حمار الأهل يعرفُه ... والحرُّ ينكره والرَّسْلَةُ الأَجُدُ
ولا يقيم على ضيمٍ يُراد به ... إلا الأذلاّن عَيْر الحيّ والوتدُ
__________
(1) بالإضافة إلى العوامل الأخرى: الطبيعية والبيولوجية.
(2) الوعي التربوي، عدة مؤلفين ص/ 173. مكتبة رأس بيروت، بيروت 1972م.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 30.
(4) تاريخ الطبري. ج3/ ص 209.(1/200)
هذا على الخسف معكوس برُمّته ... وذا يشجُّ فلا يبكي له أحَدُ
فزجره علي، وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله لطالما بغيت للإسلام شرّاً! لا حاجة لنا في نصيحتك(1) .
ورواية اليعقوبي للحادثة تذكر أنه تخلف عن بيعة أبي بكر، وقال لعلي امدد يدك أبايعك، وقال(2) :
بني هاشمٍ لا تطمعوا النَّاس فيكم ... ولا سيما تَيْمَ بن مرّة أو عديّ
فما الأمر إلاّ فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن، فاشدد بها كفَّ حازمٍ ... فإنَّك بالأمر الذي يُرْتَجَى مَلِيّ
الموقف في كلا الروايتين سلبي يدل على تصعيد نزوة الشر، وعلى شق عصا الطاعة في أمة فتية لا حبّاً بعلي، وإنما ليرثها هو أو أولاده بعد، علي، وإلا لما خالفه معاوية وشق عليه عصا الطاعة فيما بعد؟!..
هذا الغدر الأموي، فتح الباب على مصراعيه في تنمية شجرة الشر فتفرعت وأثمرت أشكالاً متعددة من الكره، والبغضاء، والقتل والسفك حتى أصبحت البغضاء مادة شعرية يتداولها الشعراء ويفصحون فيها عمّا يكنونه من أحقاد وأضغان دفينة في الصدور.
قال الفضل بن عباس(3) من قصيدة يخاطب بها بني أمية وينمي نزعة الشر:
مهلاً بني عمّنا، مَهْلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مَدْفُوْنَا
الله يعلم أنّا لا نحبُّكمُ ... ولا نلومُكُم أن لا تُحبُّونَا
كلٌّ له نيّةٌ في بغض صاحبه ... بنعمةِ الله نقليكم وتَقْلُونَا
التهكّم، والسّخرية، والتباغض مفاهيم خطيرة أورثوها أبناءهم في وقت مبكر، ولمّا تزل تنخر جسد العرب حتى اليوم مع كل أسف!.
-التقليل من قيمة المعلم:
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) تاريخ اليعقوبي. ج2/ ص 126، دار صادر، بيروت.
(3) الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، شاعر إسلامي مجيد وله صحبة مع علي بن أبي طالب. انظر الحماسة، ج1/ ص 116.(1/201)
أكرم الله العلم والعلماء(1) ، وأعز الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعليمَ وجعله أمانة في أعناق المعلمين وكان يقول: "أيما مؤدب وَلِِيَ ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسّوية فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين(2) ".
ولكن المعلم لم يجد المكانة(3) اللائقة بما يحمله في صدره، وبما يعطيه للناس فكان بعض الشعراء يسخر من بعض المعلمين، مما يشير إلى تلك المكانة الدنيئة التي احتلها المعلم عند العامة والخاصة.
وربما جاء التقليل من قيمة المعلم في معرض الهجاء، كما فعل مالك بن الريب في هجاء الحجاج بن يوسف الثقفي وكان معلم صبيان بالطائف(4) :
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فلولا بنو مروان كان ابنُ يوسفٍ ... كما كان عبدٌ من عبيد إياد
زمانَ هو العبد المقرُّ بذلّه ... يُراوح صبيان القرى ويُنَادِي
فحين أراد الشاعر أن يهجو الحجاج، بحث عن أسوأ ما يمكن أن يقال عنه ويعاب فيه، ففعل، وفيه يقول شاعر آخر:
أينسى كليب زمانَ الهزال ... وتعليمه سورةَ الكَوْثَرْ(5)
رغيف له فلكة ما ترى ... وآخر كالقمر الأَزْهَرْ
لقد فات الشاعر كما فات المجتمع الذي عاش فيه أن جوع المعلم الذي عيب فيه هو إدانة لذلك المجتمع، ودليل على انشغال الناس عن العلم.
-ذكر الضحايا والموت والدمار:
لا شك أن ذكر القتل والدماء والدمار والضحايا، وما تخلفه الحروب من يتم وموت كلها أمور تعد من السلبيات الواضحة في تربية الأطفال.
__________
(1) لاحظ الإيجابية في التربية الإسلامية من هذا البحث.
(2) آداب المعلمين، ابن سحنون، ص 42، طبعة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، تونس 1348هـ.
(3) كما هو موقف الجاحظ من هؤلاء المعلمين.
(4) العقد الفريد، ج5/ ص 255، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1953م.
(5) انظر المعارف ابن قتيبة، ص 238، والشعر والشعراء، ج1/ ص 314. والبيان والتبيين: ج1/ ص 252.(1/202)
وربما كان من المفيد في هذا الجانب أن نذكر بعض تلك الصور للأطفال وننفرّهم منها بكلمات، فنكون قد زرعنا في نفس المرء ومنذ طفولته تجنب الأفعال الضارة وتهيّبها في سن مبكرة.
وأغلب هذه الصورة المؤلمة حدثت بين المسلمين أنفسهم، وهي متعددة أسبابها وأشكالها لكنها تنضوي تحت الوحدة الوحشية في مضمونها. ففي وقعة الجمل شدّ أَحَدُ المقاتلين على محمد بن طلحة(1) فقتله، ثم أنشد يقول(2) :
وأشعثَ قوَّامٍ بآيات ربّه ... قليل الأذى فيما ترى العيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ له بالرّمْحِ جيبَ قمِيْصِه ... فخرَّ صريعاً لليدينَ ولِلْفَمِ
يذكّرني (حم)(3) والرمحُ شاجرٌ ... فهلاّ تلا (حم) قبل التَّقدْمِ
على غير شيءٍ غيرَ أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحقَّ ينْدَمِ
وقد كثرت هذه المواقف السلبية المؤلمة في وقعة الجمل. جُرِحَ يوم الجمل عُمير بن الأهلب الضّبي، فمرّ به رجل من أصحاب علي، وهو في الجرحى فقال له عميرة: ادن منيّ، فدنا منه، فقطع أذنه، وقال عمير بن الأهلب(4) :
لقد أوردتنا حومة الموت أمُّنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواءُ
لقد كان عن نصر ابن ضبَّة أمَّهُ ... وشيعَتَها مندوحةٌ وغناءُ
أطعنا بني تَيْم بن مُرّة شَقْوَةً ... وهل تَيْمٌ إلا أَعْبدٌ وَإمَاءُ!
ويصل ذكر القتل إلى أبعد درجات الوحشية حين يكون بذنب وبلا ذنب القتل للقتل! كما في قوله(5) مسلم بن عقبة، قائد قوات يزيد بن معاوية في وقعة الحرّة، وهو جالس على كرسي يحمله الرجال ويقاتل ابن الغسيل(6) :
أحيا أباه هاشمُ بن حَرْمَلَهْ ... يوم الهباتَيْنِ، ويومَ اليَعْمُلَهْ
كلُّ الملوك عندهُ مُغَرْبَلَهْ ... ورُمْحُهُ للوالِدات مَثْكَلَهْ
__________
(1) انظر الخبر في تاريخ الطبري، ج4/ ص 526.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) سورة حاميم، في القرآن.
(4) تاريخ الطبري، ج4/ ص524.
(5) تاريخ الطبري، ج5/ ص 491.
(6) وهو حنظلة ابن الغسيل صاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/203)
لا يُلْبثُ القتيلَ حتّى يَجْدِ لَهْ ... يَقْتُلُ ذا الذَّنْبِ وَمَنْ لا ذَنْبَ لَهْ
وأحياناً يوجه الشاعر وصيّة لأبنائه يذكر فيها البكاء والقبر، وهذه ذات أثر سلبي في نفسية الأطفال خاصة. قال عبده بن الطبيب، يذكر البكاء والقبر في وصية لأبنائه(1) :
ولقد علمت أنّ قصري حُفْرَةٌ ... غبراء يحملني إليها شرجَعُ(2)
فبكى بناتي شَجْوهنَّ وزوجتي ... والأقربون إليّ، ثم تصدَّعُوا(3)
وتُرِكْتُ في غبراء يُكْرَهُ وردها ... تسفي عليّ الرّيحُ حين أُودَّعُ
-ذكر الجن والعفاريت والأشباح:
حديث الجن وحده كاف، فهو تعزيز سلبي يضعف الحقائق الموضوعية. ولسنا بهذا نعني إنكاراً له، لا، لكن الذي نريده في معرض تبيان ما يسيء إلى تربية المرء والأطفال خاصة أن نبين مدى الخرافات التي امتلأ بها بعض الشعر فأساء إلى تربية الأطفال، وأوقعهم بالخوف.
وقد أدرك الجاحظ هذه الحقيقة وكشف خطرها في تربية الأطفال، ثم راح يعلل تصورهم في هذا الأمر فقال(4) : "إذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقصت أخلاطه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، وربى به الطفل...".
ومن هذه الأحاديث ما كان الأعرابي يعلل به سبب إسلامه، ترفعاً كيلا يقال بأنه أسلم عنوة أو خوفاً!.
__________
(1) المفضليات، ص 146.
(2) الشرجح: خشب يشد بعضه إلى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى.
(3) الشجو: الحزن. تصدعوا: تفرقوا.
(4) الجاحظ، الحيوان: ج6/ ص 250-251.(1/204)
وفد سوادُ بنُ قارب على عمر بن الخطاب، وكان كاهناً. وحدّث عمر قائلاً: كان لي نجيٌّ من الجن، إذ أتاني في ليلة وأنا كالنائم فركضني برجله ثم قال: "قم يا سواد، فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم. قلت له: تنح عنّي فإني ناعس، فولّى عني وهو يقول(1) :
عجبت للجن وتبكارها ... وشدّه العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصَّفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
كل هذه المفاهيم يعيشها رجال القبلية وأفرادها، كما يتوارثونها أبّاً عن جد، وهذا يشير إلى ما تنطوي عليه علاقة الفرد بالمجتمع، من علاقة تتأثر بقواعد السّلوك السائدة في القبيلة، كما تتأثر بالمفاهيم التي تؤمن بها القبيلة فتنعكس على تصرفاته، ويتغير ما في نفسه من فطرة سليمة وهذا مصدر الخطر السلبي الذي ينجم عن التربية من خلال المفاهيم الاجتماعية السلبية.
إن هذه المفاهيم السلبية ما زالت تحظى برصيد هائل وكبير في بعض البيئات الإسلامية، وربما كان من المفيد أن نتذكر خطر التعميم، وإلا كنّا نقول بأن أغلب البيئات الاجتماعية الإسلامية ما زالت مشدودة إلى الوراء مدة ألفي عام بفضل هذه الترّهات التربويّة.
((
الفصل الثالث
المفاهيم الإيجابيّة
1-المناحي الاجتماعيّة
* حل المشكلات الاجتماعية
* التنديد بالفساد وفضح المرتشين
2-المناحي الفكريّة
* المحاكمة العقلية
* إظهار كلمة الحق وفضح الباطل
* الأخلاق الفاضلة
3-المناحي الاقتصادية
*بداية الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية.
*تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي.
*فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات.
4-المناحي التربويّة
*التربية وبناء الشخصية.
*الفضائل التي دعا إليها الشعر التربوي.
*نتائج التربية الفاشلة.
(
المناحي الاجتماعية
حل المشاكل الاجتماعية:
__________
(1) جمهرة أشعار العرب. ج1/ ص 51 وما بعد.(1/205)
كان للشعر سلباً وإيجاباً دور اجتماعي على كل صعيد، فعلى صعيد الأسرة:
كان الشعر الإيجابي يحل الأزمات العائلية، ويكشف عن المواقف السلبية التي يتخذها الأزواج من زوجاتهم وهم يحملون معتقداً جاهلياً يفضّل البنين على البنات.
فقد تزوج شيخ من الأعراب، جارية من رهطه، وطمع أن تلد له غلاماً. فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمرّ بخبائها بعد حول، وإذا هي ترقص بنيتها منه، وتقول(1) :
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظلّ في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ... تا لله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فلمّا سمع الأبيات مرّ الشيخ(2) نحوهما حُضْراً حتى ولج عليها الخباء وقبّل بنيتها وقال: ظلمتكما ورب الكعبة.
فمثل هذا الموقف الإيجابي الذي أوجده هذا الرجز قضى على فرق ما بين الذكر والأنثى، وأصلح ما أفسدته العقلية الأعرابية، وهي تريد من المرأة ألاّ تلد البنات.
وهذه العقلية القاصرة بمفهومها نقدها القرآن الكريم(3) وفضحها ثم حاربها الإسلام مجملاً، ولكنها بقيت في الذهنية العربية، فكان لمثل هذا الشعر دور كبير في كشفها وفضحها وتبصير الرجال بالقيمة الإنسانية للمولود أياً كان جنسه.
وقد برع النسوة في كشف سلبيات الرجال، ولفت النظر إلى حقهن بإيجابية شعرية فعالة:
__________
(1) البيان والتبيين ج4/ ص 47-48/ الطبعة الثالثة، القاهرة 1968م.
(2) ذكر الجاحظ: ج1/ ص 186، الطبعة السابقة، على أنه: أبو حمزة الضبي ورواية أخرى:
وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزّراعيها
ننبت ما قد زرعوه فينا
(3) قال تعالى في سورة النحل: { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون } . الآيات 57-60.(1/206)
إن امرأة أتت عمر بن الخطاب (رض) فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله، فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك. فجعلت تكرر عليه القول، وهو يكرر عليها الجواب، فقال له كعب بن سور الأزدي(1) يا أمير المؤمنين، هذه امرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه فقال له عمر (رض) كما فهمت كلامها فاقض بينهما، فقال كعب:
عليّ بزوجها، فأتى به فقال له: امرأتك هذه تشكوك، فقال الزوج أفي طعام أو شراب؟ فقال كعب: لا في واحد منهما، فقالت المرأة(2) :
يا أيها القاضي الحكيم أرشده ... ألهى حليلي عن فراشي مسجدُهْ
زهّده في مضجعي تعبده ... نهاره وليله ما يرقُدُهْ
فلست من أمر النساء أحمده ... فاقض القضاء يا كعب لا تُرَدِّدُهْ
فقال الزوج:
زهدني في قربها وفي الحجل ... أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف جلل(3)
فقال كعب:
إن لها حقاً عليك يا رجل ... نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
لقد أدرك كعب بفطنته قصد المرأة وغايتها، وحين جلست وزوجها للمقاضاة كشفت سلبياته وإهماله لها في الحديث عن الإيجابي من أعماله، وحملت القاضي والمتهم برجزها عن سلوك الدرب ذاته، فحققت الغاية دون حرج أو جرح.
وقد أثر هذا الشعر الذي يريد أصحابه من ورائه حاجات لهم عامة أو خاصة في شخص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فكان يستجيب لما يراه فيه من صواب.
__________
(1) انظر ترجمته في: أخبار القضاة، لوكيع ج1/ ص 274-283/. ورغبة الأمل:
ج8/ 152.
(2) نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري: ج6/ ص 286.
(3) تعالج سورة النحل موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية، والوحي، والبعث وتلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم ودين محمد عليهما السلام، وتتحدث عن الإيمان والكفر والهدى والضلال كما تعالج موضوعات المعاملة.(1/207)
فقد كان في المدينة رجل يسمّى جعدة، ويرّجل شعره ويتعرّض للنساء المعزبات، فكتب رجل من الأنصار كان في الغزو إلى عمر بن الخطاب (رض):
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فدىً لك من أخي ثقةٍ إزَاري
قلاَئِصنَا هداكَ الله إنّا ... شُغْلِنا عنكم زمنِ الحصارِ
يعّقلُهنَّ جَعْدٌ شَيْظَمِيٌّ ... وبئسَ مُعقِّلُ الذَّوْدِ الظَّوارِ
فكنى بالقلائص عن النساء وعرض برجل يقال له جعدة. فسأل عنه عمر فدلّ عليه، فجز شعره ونفاه عن المدينة(1) إلى خراسان. وحقق الرجل مراده بهذه القطعة التي أفاد بها عامة المسلمين الذين كانوا في الغزو وقد خلفوا نساءهم معزبات في المدينة. وسمع عمر امرأة في الطواف تقول:
فمنهُنَّ مَنْ تُسْقى بعذب مُبَّردٍ ... نُقَاخ فتكلمْ عند ذلك قَرَّتِ
ومنهنَّ من تُسْقَى بأخضرَ آجنٍ ... أُجاج ولولا خشيةُ الله فَرَّتِ
ففهم شكواها، فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم فخيره بين خمسمائة درهم وطلاقها. فاختار الدراهم فأعطاه وطلقها(2) . وحققت امرأة أمراً خاصاً كانت تعتبر تحقيقه محالاً.
وربما كان الشعر قادراً على تحقيق مآربه في أمور مهمة كالعودة من الجهاد. فقد أنشد المخبّل السعدي(3) أبياتاً لعمر بن الخطاب (رض) يظهر فيها الضرر الذي أصابه من جراء ذهاب ابنه شيبان لحرب الفرس مع سعد بن أبي وقاص: وكان قد أسن وضعف ولم يملك صبراً عن ابنه فاستجار بشعره فأجاره وحقق الغاية في قوله:
إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى؟ ... أرى الشخصَ كالشخّصينِ وهو قريبُ
ويخبرني شيبان أن لن يعقني ... تعقُّ إذا ما فارقتني وتَحوبُ
__________
(1) العقد الفريد، ج2/ ص 264. المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1953.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) انظر أخباره في: الإصابة ج3/ 227، الأغاني ج 12/38، طبعة الساسي.(1/208)
فرّق له عمر، وكتب إلى سعد يأمره أن يرد شيبان إلى أبيه، فرده إليه ولم يزل عنده حتى مات(1) . وقد حمل هذا وأمثاله عمر بن الخطاب أن ينهى من لهم آباء شيوخ يعولونهم عن الهجرة براً بهم.
وقد أدرك حرثان بن الأسكر أثر هذا الشعر في عمر ففرغ إليه يشكو هجرة ابنة كلاب إلى حرب الفرس، وهو يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً ... كتاب الله إن حفظ الكتابَا(2)
إذا هَتَفَتْ حمامةُ بَطْنِ وجٍّ ... على بَيْضَاتِها ذكَرَا كلابَا
تركت أباكَ مُرْعَشَةً يداه ... وأمُّكَ ما تُسيغ لها شرابَا
فأمر باشخاصه إليه(3) . ومثل هذا الشعر الذي يحقق الغاية في إطار صلاحها كثير في العصر الإسلامي(4) .
وقد توصل الحطيئة إلى حاجته في الخلاص من سجن عمر والعودة إلى أولاده بالكلام المتخير كما يبلغ ذلك الخطيب بخطبته، فأفلح في مسعاه حين ذكر أن حبسه قد حال بينه وبين الاهتمام بأولاده، وهو يخاطب عمر بن الخطاب، ويحجّه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَاخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شَجَرُ
ألقيتَ كاسبهَمُ في قعَر مُظْلِمَةٍ ... فاغفرْ عليك سلامُ الله يا عمَرُ
فلان له قلب الخليفة، وعفا عنه بعد أن أخذ عليه العهد ألا يعود إلى الهجاء، ويقال إنه اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم(5) .
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) يقصد ما في القرآن الكريم من رعاية وبر بالإباء.
(3) الشعر والشعراء، لابن سلام: ص 160، طبعة دار المعارف بمصر.
(4) انظر في حالات مشابهة: الأغاني: ج21/ ص 69، طبعة الساسي، وديوان الهزليين: ج2/ 170، وأمالي أبي علي القالي: ج2/ ص 309 وذيله ص 109.
(5) انظر القصة في الأغاني: ج2/ص171 ، والأبيات في ديوانه بشرح ابن السكيت والسكرى والسجستاني القاهرة 1908م، مطبعة البابي الحلبي.(1/209)
وقد ظل الأمراء طويلاً يستجيبون لمطالب الشعراء، وكان هذا النوع من الشعر قادراً على تلبيات رغبات كثيرة كتلك التي أنشدها المخبّل السعدي في أيام الأمويين، فيحل مشاكل خاصة ربما عجز كثيرون عن حلّها.
كانت امرأة من أهل الشام، وكان بالسند، فجمر، والتجمير أن يترك في البعث ولا يرد، فصانعت في إذنه، فأعياها، وطلبت حتى شهرت فقال لها قائل: هل لك فيمن إن طلب لك أُذن لابنك وهو أيسر من تطلبين كلاماً؟ قالت: وددت ذاك، قال الفرزدق، قالت: من لي به، وهو بالبصرة؟ قال: اركبي الساعة سفينة حتى تأتي البصرة فسلي عن منزلة فقولي: إني عذت بقبر غالب. فإذا سألك، فأخبريه، ففعلت، فأتته وهو في البيت، فلما قيل له امرأة بالباب تسأل عنك كاد يطير من الفرح، ووثب يعدو إليها، فلما رأته قالت: إني عذت بقبر غالب.
قال: وما حاجتك؟ قالت ابن لي ليس لي ولد غيره قد جُمّر بالسّند، وقد صانعت فيه فأعياني ذلك، وأخبرته بما قيل لها فيه فقال: يا غلام هات رقاً ودواة، وقال: ما اسم ابنك؟ قالت:
خنيس، فقال الفرزدق، وكتب بها إلى عامل الناحية التي ابنها فيها(1) :
كتبت وعجلتُ البَراءَةَ، إنَّني ... إذا حَاجَةٌ طالبْتُ عَجَّتْ ركابُهَا
وَلِي ببلادِ الهند، عند أميرها، ... حوائِجُ جَمّاتٌ، وعندي ثوابُهَا
فَمِنْ تلك: أنّ العامريّة ضمّها ... وبَيْتَي نَوَار، طابَ منها اقترابتُها
أتتني تهادى بَعْدَما مالت الطُّلى، ... وعندي رَواحُ الجوف فيها شرابُها(2)
فقلت لها: إيِهِ اطلبي كلَّ حاجةٍ ... لَدَيَّ، وخفَّتْ حاجَةٌ وطلابُهَا
فقالتْ: سوى ابني لا أطالبُ غيرَه، ... وَقَدْ بك عَاذَتْ كلَثَمٌ وغلابُها(3)
تميمَ بنَ زيدٍ! لا تهونَنَّ حاجتي ... لَدَيْكَ، ولا يعيا عَليَّ جَوابُهَا
__________
(1) ديوان الفرزدق: ج1 ص / 85-86/ دار صادر، دار بيروت، بيروت 1380هـ 1960م.
(2) الطلي: الأعناق، الواحدة طليا. الرواح: الواسعة.
(3) كلثم: اسم المرأة. غلاب اسم ابنتها.(1/210)
ولا تقلبن ظهراً لبطن صحيفتي، ... فشاهدُ هاجيها عليك كتابُهَا
وَهَبْ لي خُنَيْساً واتّخذ فيه مِنّةً ... لِحَوْبَةِ أمٍ ما يسوغُ شَرابُها(1)
ثم قال: أعندكِ رسول؟ قالت: نعم! فسرحت به رسولاً.
فلما قدم كتابه على تميم سأل عن الرجل، ولم يزل يبحث عنه حتى قيل له: هو من مرابطة التاكيان، فكتب فيه حتى أتوا به، فسأله ما بينك وبين الفرزدق؟ فقال: ما يعرفني. قال: فإنه قد كتب فيك. وحمله البريد وكساه، وبعث معه رسولاً وقال: ادفعه إلى الفرزدق، فقدم به إلى البصرة فقال: "النجاء إلى أمك(2) ".
-على صعيد القبيلة:
جاء الإسلام، والمجتمع العربي، قبلي، فيه كثير من السلبيات التي راح يحاربها الدين الجديد. وقد نهى الإسلام عن التنابذ بالألقاب التي كانت تجلب العار والخجل لأصحابها، فقال تعالى:
{ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان(3) } .
وكان بعض الشعر الإيجابي عاملاً مساعداً في القضاء على تلك الألقاب السيئة، التي تقلل من شأن القبيلة وأفرادها.
فالرجل من بني أنف الناقة(4) كان إذا قيل له: ممن الرجل قال: من بني قريع، فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قومٌ هم الأنف والأَذْنَابُ غَيْرَهُم ... وَمَنْ يُسَاوِي بأنف النّاقةِ الذَّنَبَا
فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة(5) .
__________
(1) الحوبة: العيال.
(2) ديوان الفرزدق، ج1/ ص 86.
(3) سورة الحجرات، الآية/ 11.
(4) أنف الناقة هو جعفر بن قريح بن عون، سمي قُرَيْعاً لأنه نحر جذوراً فقسمها بين نسائه فبعثت جعفراً هذا أمه –وهي الشموس، من بني وائل- فأتى وقد قسم الجذور فلم يبق إلا رأسها وعنقها، فقال: شأنك! فأدخل يده في أنفها وجعل يجرّها فسمى أنف الناقة.
(5) البيان والتبيين: ج4/ ص 38، الطبعة الثالثة، 1968، القاهرة.(1/211)
وربما أدى الهجاء غرضاً إيجابياً على نقيض ما يتصور، قتلت عشيرة الحارث بن عوف المرّى داعياً الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقال حسان بن ثابت فيه، وفي عشيرته(1) :
إن تغدروا فالغَدْرُ منكم شيمَةٌ ... وَالغَدْرُ ينبت في أصول السَّخْبَرِ(2)
وحين سمع الحارث قوله بكى من هجائه بدموع غزار، واستجار بالرسول - صلى الله عليه وسلم - متوسلاً إليه أن يكفه عنه(3) . فأدى الغرض وفرض الدين وبلغ الشعر الإيجابي على مستوى القبيلة- مبلغه المطلوب حين جمع شمل قوم كادت العصبية أن تفتك بهم، "فقد كان من الأشعث بن قيس، شيء عند عزل عليّ إياه عن الرياسة، وذلك أن رياسة كندة وربيعة كانت للأشعث، فدعا علي حسان بنَ مخدوج(4) ، فجعل له تلك الرياسة فكتم في ذلك أناس من أهل اليمن، منهم الأشتر(5) ، وعدي الطائي وزفر بن قيس وهانئ بن عروة، فقاموا إلى علي فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رياسة الأشعث لا تصلح إلا لمثله، وما حسان بن مخدوج مثل الأشعث. فغضب ربيعة(6) ، فقال: حريث بن جابر(7) :
يا هؤلاء، رجل برجل، وليس بصاحبنا عجز في شرفه وموضعه، ونجدته وباسه، ولسنا ندفع فضل صاحبكم وشرفه، فقال النجاشي(8) في ذلك:
رضينا بما يرضى عليٌّ لنا به ... وإن كانَ فيمَا يَأْتِي جدعُ المناخِرِ
وصيُّ رسول الله من دون أهله ... ووارثهُ بَعْدَ العموم الأَكابرِ
رضي بابن مخدوج فقلنا الرّضا به ... رضاك وحسّانُ الرِّضا للعشائِرِ
ولِلأَشْعَثِ الكندي في الناس فضله ... توارثه من كابرٍ بعد كابِرِ
__________
(1) انظر في ترجمته: الأغاني ج4/ص137، دار الكتب.
(2) السَّخْبر: شجر، ومن أمثال العرب: ركب فلان السَّخْبَر إذا غدر.
(3) انظر الأغاني: ج4/ ص 137، دار الكتب.
(4) رأس ربيعة في جيش علي.
(5) وهما من خير أصحاب علي كرم الله وجهه.
(6) القبيلة.
(7) من أصحاب حسان.
(8) من أصحاب الأشعث.(1/212)
وليس لنا إلا الرضا بابن حرة ... أشمَّ طويل الساعدين مهاجِرِ(1)
يمثل هذا الشعر الانقياد للقائد على حساب جدع المناخر العصبية ولم لا فالقائد هو وصي رسول الله، وقد رضي بحسان، وما على الآخرين إلا الرضا به، وهذا لا يعني إنكاراً لفضل الأشعث الكندي في الناس، لكنها الكلمة الطيبة التي تغسل القلوب من أدران الجاهلية.
كما يمثل هذا الشعر ذوبان العصبية عند وجود القائد الفذ القائد المحبوب، وهذا الوجه الإيجابي يفرض نفسه على مرَّ الدهور وكرّ العصور. إن هذا المنطوق الذي يتجاوز العصبية القبلية ولدته قيادة حكيمة، ولا شك أنه لو أتيح لكل أمة ممزق أوصالها قائد له من الحب في قلوب شعبه كما كان للإمام علي في تلك الوقعة لتغلبت الأمة على انقسامها الذاتي انصهاراً في بوتقة الوحدة، سيما وأن التعصب القبلي أقوى بكثير من انقسام الأمة.
ومن الشعر الإيجابي ما يحقق النصر لقوم على آخرين، ويعمل عمله النفسي في عقلية القوم المعادين تماماً كما يفتك (الطابور الخامس) بالقوم من داخلهم ويساعد على تحقيق النصر.
فمن هذا شعر قاله معاوية(2) بن الضحاك بن سفيان، وكان مبغضاً لمعاوية وأهل الشام. وله هوى مع أهل العراق وعلي بن أبي طالب، وكان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل(3) العامري ويبعث بها إلى علي، فبعث إلى عبد الله بن الطفيل: إني قائل شعراً أذ عُربِهِ أهل الشام وأرغم به معاوية. وكان معاوية لا يتّهمه، وكان له فضل ونجدة ولسان، فقال ليلاً ليسمع أصحابه ويزعج أهل الشام حين ذكروا أن علياً أظهر أنه مصبح غداً معاوية ومناجزه، فبلغ ذلك معاوية ونزع أهل الشام لذلك وانكسروا، قال(4) :
أَلا لَيْتَ هذا الليل أطبق سرمداً ... علينا وأنّا لا نرى بعده غدَاً
__________
(1) ابن مزاحم، وقعة صفين/ ص 136.
(2) وهو صاحب راية بني سليم مع معاوية بن أبي سفيان.
(3) من أصحاب علي بن أبي طالب.
(4) ابن مزاحم وقعة صفين، 468-469.(1/213)
ويا ليته إن جاءنا بصباحهِ ... وجدنا إلى مجرى الكواكب مَصْعدَا
حذار عليّ إنّه غيرُ مُخْلف ... مدى الدَّهر ما لبّى المُلبُّون، مَوْعِدَا
فأمّا قراري في البلاد فليس لي ... مقام ولو جاوزت جَابُلْقَ مصعدا(1)
كأنّي به في النّاس كاشف رأسهِ ... على ظهر خوّار الرِّخالة أَجْرَدَا
يخوض غمار الموت في مرحجنّة ... ينادون في نقع العجاج محمَّدَا
فوارسُ بدرٍ والنَّصر وخيبرَ ... وأُحْد يُردُّون الصَّفيْحَ المهنّدَا
ويوم حُنينٍ جالدوا عن نبيّهم ... فريقاً من الأحزابِ حتّى تبدَّدا
وبعد أن يوقع هيبة الإمام في نفوس القلوب ليخلع قلوبهم وهو يعدد مآثره يوجه كلامه لمعاوية:
فَقُلْ لابن حَرْب ما الذي أنت صانع ... أتثبت أم ندعوك في الحرب قعْدُدَا(2)
وظني بأن لا يصبرَ القوم موقفاً ... يقفهِ وإن لم يُجْرِ في الدَّهر للمَدَى
فلا رأي إلا تركنا الشام جهرةً ... وإِنْ أَبْرَق الفجفاج فيها وأَرْعَدا(3)
فلما سمع أهل الشام شعره أتوبه معاوية فهمّ بقتله، ثم راقب فيه قومه وطرده عن الشام فلحق بمصر. وندم معاوية على تسييره إياه..
وقال: "والله لقول السُّلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي، ما له –قاتله الله- لو أصاب خلف جابلق مصعداً نفذه(4) .
وبعودة العصبية القبلية عادت الشاعر مكانته وعادت القبائل تحتمي بشعرائها بدل أن تلوذ بالحكومة لتحميها من لسان الشعراء ولا بد من الاعتراف بعجز حكومة الأمويين عن حماية القبائل من ألسنة الشعراء الْحِدَاد، لأنها هي التي تبنت هذا الأسلوب من أيام هجاء الأخطل للأنصار برأي يزيد بن معاوية وتحت حمايته، فكان لا بد للقبائل من شعراء تحميها من الهجّائين أو المعتدين.
__________
(1) جَاْبُلْقَ: مدينة بالمشرق، وجَاْبلَصَ: مدينة بالمغرب ليس بعدها شيء.
(2) : الجبان القاعدة عن الحرب.
(3) الفجفاج: كثير الكلام.
(4) وقعة صفين، لابن مزاحم ص/ 468.(1/214)
فَمِن حمى قبيلته زياد الأعجم(1) ، وذلك أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس فبلغ ذلك زياداً وهو منهم، فبعث إليه: لا تعجل وأنا مهد إليك هدية، فانتظر الفرزدق الهدية، فجاءه من عنده:
فما ترك الهاجون لي إِنْ هَجَوْتَه ... ممأ أراه في أديم الفرزدقِ
ولا تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرقِ
سأكسر ما أبقوا له من عظامه ... وأنكت مخ الساقِ منه وأنتقي
فإنّا وما تُهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يُلْقَ في البحر يغرقِ
فلما بلغته الأبيات كف عما أراد، وقال: لا سبيل إلى هجاء هؤلاء ما عاش هذا العبد فيهم.
ولم يكن بعض الشعراء نافعاً للقبيلة فحسب، فقد ينقذ الشعر صاحبه من مأزق يقع فيه أو سجن يقذف به كما في حكاية ابن شهاب الزهري عن يزيد ابن عبد الملك، فقد دعاه ذات مرة بعد مضي شطر الليل فرآه الخليفة فزعاً، فقال: لا بأس عليك اجلس، فجلس، واندفعت جاريته حبابة تغني:
إذا رُمْتُ عنها سلوةً قال شافعٌ ... من الحبّ: ميعاد السلوّ المقابرُ
سَتَبقى لها في مُضْمَرِ القَلْبِ والحشا ... سريرةُ حبٍّ يوم تُبْلى السَّرائِرُ
فسأله يزيد: لمن هذا الشعر؟ فقال له: للأحوص(2) ، قال: ما فعل الله به؟ فقال له: إنه محبوس، فكتب من ساعته بإطلاقه، وأمر له بأربعمائة دينار، وقدم إليه فأحسن جائزته(3) .
ومن الحق القول بأن الوجه الإيجابي هنا فردي ذاتي، وهو من أدب القصور المقيّد بالأغلال السلبية فإذا كان الأحوص ارتكب إثماً سجن عليه فإنه لا يحق ليزيد بن عبد الملك إطلاقه متناسياً إِثْمَهُ لمجرّد أنه أعجب بالبيتين وطرب لهما، فهي السلبية وهو السلبي من وجهة أخرى.
__________
(1) من شعراء الدولة الأموية، جزل الشعر، فصيح الألفاظ، انظر أخباره في: الأغاني ج 14/ ص 98-105، وطبقات فحول الشعراء، 551-557.
(2) انظر أخباره في الأغاني: ج4/ ص 40-85، والشعر والشعراء/ ص 204 وخزانة الأدب للبغدادي ج1.
(3) العمدة: ج1/ ص 71، الطبعة الرابعة 1972، بيروت.(1/215)
التنديد بالفساد وفضح المرتشين(1) :
جاء الإسلام بعالم شامل للحياة الفكرية والمادية، وأرسى بتعاليمه القرآنية قواعد أخلاقية متينة، من فهمها واستوعبها، فإنه لن يخضع بأخلاقه لنتائج التفاعلات الاقتصادية في المجتمع. ومن لم يفهمها ولم يأخذ بها فإنه معرض لاهتزاز واضطراب كبير في أخلاقه ومن ثمة معاملاته. فكلما تغيرت علاقات الإنتاج تغيرت معها قيمه الأخلاقية التي يحملها. وهذا التغير قد يكون إيجابياً، وقد يكون سلبياً فيعم الفساد وتظهر الرشوة.
والرشوة(2) هي الاستعانة بالمال يقدم إلى الحكام أو المسؤولين على أكل أموال محرمة.
وقد حرمه القرآن الكريم في قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } (3) .
"ويظهر في الآية نهي عمّا نسميه حديثاً (الرشوة) فالشريعة تحرم الرشوة التي هي الإدلاء بالأموال للحكام، لغرض التسهيل، أي ليسهل الحكام للراشين أكل أموال الآخرين بالإثم عن علم.. وسمى تلك الأموال المأكولة، بناء على الرشوة، "فريقاً من أموال الناس كأنما يشخص المال المأكول، ليتذكر الراشي والمرتشي: أن عملهم كاغتيال الأحياء وأكل لحومهم(4) ".
وكي يحمي الإسلام ولاة المدن والحكام عامة الذين يتولّون شؤون الدولة، أجرى لهم أرزاقاً معلومة، واعتبر أخذ الزيادة غلولاً، كما في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : [من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول(5) ].
__________
(1) يقال بأن أول من ارتشى هو يَرْفَأ حاجب عمر بن الخطاب، الأوائل ج1/ ص 254 وزارة الثقافة، دمشق.
(2) الرُّشوة بكسر الراء وضمها، والجمع رُِشا بكسر الراء وضمها أيضاً، وارتشى أخذ الرشوة.
(3) سورة البقرة: الآية/ 188.
(4) تفسير القرآن المرتب، د. أسعد علي ص 371-372، دار السؤال للطباعة والنشر، دمشق 1979.
(5) جامع الأصول: ج 10/ ص 573-574.(1/216)
كما أمن له زوجةً، وخادماً يقوم على خدمته، ومسكناً، وأكد أنه سارق، أو غال أن اتخذ غير ذلك. وقد أكدت الشريعة أحقيّة هذه الحاجيات في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "من كان لنا عاملاً ليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم، فليكتسب خادماً، فإن يكن له مسكن فليكتسب مسكناً، ثم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق(1) ".
فالإسلام لم يهمل أمر الولاة والحكام كي يستقيم أمرهم بين الناس ويكونوا حراساً أمناء لدين الناس ودنياهم. فإذا تجاوزوا ما فرضه الإسلام لهم، وجدوا بين الشعراء الحريصين على مصالح الشعب من يرفع أمرهم إلى الخليفة شعراً فاضحاً ليقتص منهم.
ويبدو أن الصراع قديم بين بعض الولاة الفاسدين والشعراء، وعلى الرغم من كل المعلومات التاريخية التي تذهب إلى تأكيد العدالة والحق في عهد عمر ابن الخطاب، فقد حدث الفساد في بعض نواحي الفتح.
ففي خبر صدّر به أبو عبيدة(2) كتاب "منافع الشعر ومضاره". قال: كتب يزيد بن قيس(3) الصعق الكلابي إلى عمر رضي الله عنه(4) :
أَبْلغْ أميرَ المؤمنين رسالةً ... فَأَنْتَ أمينُ الله في النَّهْي وَالأَمْرِ
وَأَنْتَ أَمِيْنُ الله فيْنَا وَمَنْ يَكُنْ ... أميناً لربّ النّاس يَسْلَم له صَدْرى
__________
(1) جامع الأصول: ج10/ ص 573-574.
(2) هو معمر بن المثنى، 110-109هـ أخذ عن يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء، ولم يرد ذكر لهذا الكتاب في المصادر التي بين أيدينا الإعلام: ج8/ ص 191.
(3) وهو يزيد بن عمرو بن خويلد (وهو الصعق)، انظر أخباره في الإعلام ج9/ ص 240.
(4) الأوائل، أبو هلال العسكري. ج1/ ص 246-247/، وانظر القصيدة باختلاف بسيط في: فتوح البلدان، البلاذري ص/ 384، طبعة ليدن 1866، والإصابة في تمييز الصحابة. ج2/ ص 96، ج6/ ص361، مطبعة السعادة بمصر، القاهرة، 1323هـ.(1/217)
فلا تَدَعَنْ أَهْلَ الرَّساتيق والقرى ... يضيعونَ مالَ الله في الأدم الوْفَرِ(1)
فأرسل إلى الحجاج(2) فاعرف حسابه ... وأرسل إلى جَزْء(3)ٍ) وأَرْسِلْ إلى بِشْر(4)ِ)
وتَنْسَيَنَّ النَّافِعيْن(5)ِ) كِلَيْهِمَا ... ولا ابنَ غلاّبٍ(6) من سراة بنيَ نَصْرِ
وما عاصمٌ(7) منّا بصفرٍ عنانْه ... وذاك الذي في السّوقِ مَوْلَى بني بَدْرِ(8)
وأرسل إلى(9) النّعمان وابن مغفّلٍ(10) ... وصهر(11) بني غزوانَ إنّي لَذو خُبْرِ
وشبلٍ(12) هناك المال وابنِ مُحرِّشٍ(13) ... وَقَدْ كانَ في أَهْلِ الرَّسَاتيقِ ذا ذِكْرِ
فأرسل إليْهم يَصْدُقُوكَ ويُخْبِرُوا ... أحاديث هذا المال ذي العَلَم الدَّثْرِ
فقاسِمْهُمُ، نفسي فِدَاؤُكَ، إنَّهمُ ... سَيَرْضَوْنَ إن قاسَمْتَهُمْ منك بالشَّطْرِ
ولا تَدُعَونِّي للشهادة إنَّني ... أعيبُ ولكنّي أرى عجَبَ الدَّهْرِ
__________
(1) الرساتيق: ج. رستاق وهو السواد والقرى.
(2) هو الحجاج بن عتيك الثقفي، كان على الفرات.
(3) هو جزء بن معاوية، عمّ الأحنف، كان يلي السوق.
(4) هو بشر بن المحتضر المرّيّ كان على جند نيسابور.
(5) هما نافع بن الحارث، كان على غنائم الأُبلّة، وهي بلدة على شاطئ دجلة أقدم من البصرة، وأخوه: نُفَيْعٌ أبو بكرة.
(6) ابن غلاب خالد بن الحارث بن أوس من بني دهمان، كان على بيت المال بأصبهان.
(7) هو عاصم بن قيس بن الصلت السلمي، كان على المناذر وعلى الصدقة.
(8) هو سُمْرة بن جندب، كان على سوق الأهواز.
(9) هو النعمان بن عون بن فضلة من بني عدي بن كعب.
(10) ابن مغفل هذا هو ابن مغفل المزني الذي نزل فيه: { وما على المحسنين من سبيل } التوبة، آية 91.
(11) صهر بني غزوان، هو مجاشع بن مسعود.
(12) هو شبل بن معبد البجلي
(13) ابن محرش هو أبو مريم إياس بن صبيح، كان على رامهرمزة(1/218)
أَرَى الحُوْر كالغزلانِ والبيضَ كالدُّمى ... وما ليس يُحْصَى من قِرام ومن سِتْرِ(1)
ومن رَيْطَةٍ مَكْنُونَةٍ في صيانها ... ومن طيِّ أستارٍ مُعَصْفِرَةٍ حُمْرِ(2)
إذا التّاجر الداريّ جاء بفارةٍ ... من المسكِ راحت في مَفَارِقِهمْ تَجْرِي
نؤُوب إذا آبوا وَنَغْزُوا إذا غزوا ... فَأنَّي لَهُمْ وَفْرٌ ولسنا ذوي وُفْرِ
فلما قاسمهم عمر أموالهم أجاب الكلابيَّ، الحارثُ الغلابيُّ:
أبِلغْ أبا المُخْتَارِ إمّا لَقْيتَهُ ... فقد كان ذا قربى إليك وذا صَهْرِ
فما كانَ مالي من جبايةِ خَائِنٍ ... فتجعلنَي مما يؤلّف في الشّعرِ
ولكِنْ عَطَاءُ الله في كلّ ركبةٍ ... إذا الخيلُ جَالَتْ بالمثقّفةِ السُّمْرِ
وصَبرى إذا حَادَ النّجِيْدُ عن الْوَغَى ... وَأَمْرِي إذا حارَ المُدَجَّجُ بِالصَّبْرِ
فإن كُنْتَ للنُّصْحِ ابْتَغَيْتَ قصيدَةً ... فإنّ لدى الله المُثوبَةَ بالأَجْرِ
وَإِنْ كَانَ عَنْ بَغْيٍ وفرط نفاسةٍ ... فشُّربني الحواء ذي النَّيْرَبِ المُغْرِي
ومن غير شك لو لم يكن لقصيدة يزيد الكلابي أثر كبير لما صالح الخليفة عمَّا لَه على أموال أخذها منهم، ولمَا أرسل إليه الحارث الغلابيُّ يعلمه مصدر ثروته. وهذا يدل على الأثر الإيجابي الكبير الذي فعلته قصيدة الكلابي، فقد ظل عمر يسأل عن أموال ولاته، وعن مصدرها فيحاسبهم عليها، ويسترد منها ما أخذوه من بيت مال المسلمين.
__________
(1) القرام: ستر فيه رقم ونقوش.
(2) الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ونسيجاً واحداً(1/219)
ولما قلّد عمر بن الخطاب عمرو بن العاص على مصر بلغه أن قد ظهر له مال كثير من ناطقٍ وصامت فكتب إليه: "أما بعد، فقد بلغني ما ظهر لك من كثرة المال، ولم يكن ذلك في رزقك، ولا كان لك قبل، ذلك فأنّى لك ذلك؟ فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من أختان مال الله لكثر همي وانتشر أمري، وقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك، ولكني قلدتك هذا الأمر رجاء غنائك، فإن كان ذلك لك فإنا لا نُؤْثِرَك على أنفسنا، فاكتب إليّ من أين لك هذا المال وعجل"
ثم وجه إليه محمد بن مسلمة، فسلمه شطر ما في يده من مال(1) .
وقد بلغ الشعر ذلك المبلغ بحثاً عن الحق الضائع في مال المسلمين، فصار عبد الرحمن بن حنبل يناقش الخليفة عثمان بن عفان حساب فيء المسلمين، ويتهمة بتبديده، وتوزيعه بين أهله وخاصته:
وأحلف بالله جهدَ اليَمِيْنِ ... ما ترك الله أمراً سُدَى
ولكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك أو تُبْتَلى
دعوتَ الطّريدَ فأدنيتَه ... خِلاَفاً لما سنّه المُصْطَفَى
وَوَلّيْتَ قرباكَ أَمْرَ العِبَادِ ... خلافاً لسنّة من قَدْ مضى
وَأَعْطَيْتَ مروانَ خُمْسَ الغليمةِ آثرْتَهُ وَحَمَيْتَ الْحِمَى
ومالاً أتاكَ به الأَشْعَرِيُّ ... مِن الْفَيء أَعْطَيْتَهُ مَنْ دَنَا
فإنَّ الأمينيْن قَدْ بيّنا ... منارَ الطريقِ عليه الْهُدَى
فما أخذا درهماً غيْلَةً ... ولا قَسَماً درهماً في هَوَى
وفي أيام الأمويين كان بعض الولاة يجورون، ويرتشون، مستترين وراء مناصبهم خادعين الشعب، سارقين أمواله، مستخفين بالدين وبتعاليمه مستندين على دعم الخليفة لهم، وقد يفضح الشعراء أمثال هؤلاء، فيصبح لزاماً على الخليفة أن يقيله.
ومن عظيم المقدرات أن يتصدى لهؤلاء الولاة شعراء لم يرهبوا جانب الدولة ولم يخرسوا أصواتهم، أو يسكتوا، فأما طوا اللثام عن وجوه هؤلاء الولاة، وفضحوا سلوكهم الفاسد بوعي ينم عن معرفة واسعة لمجرى الأحداث.
__________
(1) المصدر السابق، ص 250-251.(1/220)
كان معاوية بن أبي سفيان قد نصب عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي(1) والياً على الكوفة، فكان سيء السيرة فاسد الأخلاق والدين، ظالماً مهملاً شؤون الفلاحين مما أدى إلى خراب الأراضي الزراعية الخيّرة فلا غلالا ولا مواسم.
وأحسَّ الشعراء بوطأة الفساد، وبموجة الغلاء، فأظهروا غضبهم ونهجوا في شعرهم منهجاً ثورياً، فصوروا مصير العراق، مدركين ارتباط الظواهر الاجتماعية بالبناء العام للمجتمع، فرفعوا أصواتهم يعمقون الإحساس ويفضحون الجوانب السلبية، ويدعون إلى التغيير.
كتب عبد الله بن همام السلولي(2) قصيدة في رقاع، ألقاها في المسجد الجامع في الكوفة جاء فيها:
أَلاَ أَبْلِغْ معاويةَ بنَ صَخْرٍ ... فَقَدْ حَزَب السَّوادُ فَلاَ سَوَادَا
أَرَى الْعُمّالَ أقساءَ عَلَيْناً ... بِعَاجِلِ نَفْعِهمْ ظَلَمُوا العِبَادَا
فَهَلْ لكَ أن تَدارِكَ مَاْ لَدَيْنا ... وتدْفعَ عَنْ رعيّتَكَ الفَسَادَا
وتعزل تابعاً أبداً هَوَاهُ ... يخرّب من بَلاَدتهِ الْبِلاَدَا
إذا ما قُلْتَ: أقصر عن هواه ... تمادى في ضلالته وَزَادَا
فبلغ الشعر معاوية، فعزله، وولاه مصر، ولكن الجماهير العربية في مصر كانت قد تسلحت برؤية واقعية، فخرج أحد(3) زعمائهم فاستقبله على مرحلتين من مصر، وقال له: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة، فرجع إلى خاله(4) "
__________
(1) هو ابن أخت معاوية فأمه أم الحكم أخت معاوية، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاّه خاله الكوفة بعد موت زياد، الإعلام: ج4/ ص 84.
(2) أسْدُ الغابة: ج3/ ص 438، دار الشعب، القاهرة، 1971.
(3) وهو معاوية بن خديج.
(4) أسد الغابة: ج3/ ص 438، دار الشعب، القاهرة 1971م.(1/221)
تدل تلك المقطوعة الشعرية على نهوض الوعي لدى بعض الشعراء عصرئذ كما تشير إلى فكرة تعميم لهذا الوعي يبرز في حركة عرب مصر الرافضة استقبال عبد الرحمن والياً من قبل الخليفة. وهي شاهد رئيسي على دور الأدب الإيجابي في كشف سلبيات الولاة.
إنها رؤية صادقة للمجتمع عصرئذ دوّنها الشعر الإيجابي، وهذا الأدب" برؤيته الصادقة للمجتمع وبنماذجه وشخصياته الإيجابية يسهم في دفع حركة التقدم في المجتمع غير أنه لن يكون بدلاً من العمل الفعلي الواقعي لتطوير المجتمع وتثويره... إن الأدب قد يحض على الثورة وقد يدفع الجماهير إلى تبني أفكار الثورة، ولكنه وحده لن يصنع الثورة(1) ".
وحديث المنظار التطوري للمصطلح يحل لنا مشكلة الواقعية الجديدة في مثل هذا الشعر الذي يفضح سليبات الولاة والحكام، فأحياناً نقف في نقطة التقاء بين المنظورين، القديم، والحديث. إن فضح الظلم أمر إيجابي في منظور العصرين، والتحلل من تعاليم الدين التي تأمر بالعدل سلبية قطعية عند الأقدمين، ومسألة ثابتة عند من يهمهم العدل أياً كان مصدره حديثاً.
وعبد الرحمن بن عبد الله الثقفي الذي تقترف آثاماً كثيرة بحق الفلاحين في سواد العراق، وبحق الذين والسكان الآمنين فاضح سلبياته هذه المرة حارثة بن بدر الذي يقول عنه(2) :
نهارُهُ في قَضَايَا غيرُ عَادِلَةٍ ... وَلَيْلُةُ في هوى سعد بنِ هبّارِ
ما يسمع النّاسُ أصواتاً لهم عرضَت ... إلا دَوّياً، دويَّ النَّحل في الغارِ
يدين أصحابه فيما يدينَهم ... كأساً بكاسٍ وتكْرَاراً بِتَكْرَارِ
فأصبح النَّاسُ أخلاقاً أضرَّ بهم ... حثُّ المطيّ وما كانوا بسُفَّارِ
وثمة أمر هنا، من حيث الرؤية التي ترى مظاهر الفساد وتصورها دون أن تقدم حلاً قاطعاً، سريعاً، ومباشراً، إنها رؤية غير واضحة تماماً أو فلنقل غير مدركة تماماً.
__________
(1) لاحظ البطل الثوري في الرواية العربية الحديثة، أحمد محمد عطية ص 27، 1971م دمشق.
(2) العقد الفريد: ج6/ص350.(1/222)
ويبدو أن الفساد قد عمّ وانتشر بين بعض السعاة الذين كانوا يجمعون الزكاة في نجد داخل الجزيرة العربية!.. مما جعل الشاعر الراعي يتضايق، ويوجّه شكوى سريعة إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، يصف فيها سنةً مجدبة أصابت قومه بني نمير، ومع ذلك فرض عليهم(1) السّعاةُ فروضاً ثقيلة، وقد جاء في تلك الشكوى(2) .
أخليفةَ الرّحمن إنّا مَعْشَرٌ ... حنفاءُ نَسْجِدُ بكْرَةً وأَصِيْلاَ
إن السّعاة عصوكَ يومَ أَمَرْتَهُمْ ... وَأَتْوا دَواهِيَ لو عَلِمْتَ وغولا
فادفع مظالمَ عيّلتْ أبناءَنَا ... عنّا وأنقذ شِلْوَنَا الْمَأكُوْلاَ
وقد ارتفع هتاف المدّ الثوري لدى بعض الشعراء لدرجة أنه صار يجد واجباً عليه ملاحقة الولاة الظالمين، مصعّداً إحساس الكادحين والناس أجمعين بسوء سيرة ولاتهم الفاسدين، وهذا يعني ضرورة إزالتهم والإطاحة بهم، الأمر الذي يجعل الوالي يفكر أكثر من مرة في مسألة غير شرعية يحاول أن يقدم عليها.
وابن همام السلولي الذي رأيناه ملاحقاً والي معاوية على الكوفة عبد الرحمن الثقفي، يفضحه في كل مكان، كان يؤجج هذه النار في صراع حاسم مع كل الولاة الطغاة، ويأخذ على عاتقه تنمية الوعي لدى الجماهير، ويدرك دوره التاريخي في معارك التحرر والمصير مع السلطة، فيخوضها متخلياً عن همومه الخاصة جاعلاً هموم الجماهير ميدانية الخاص، ويوجه لعبد الله بن الزبير الخليفة القاعد في مكة رسالة عنيفة يشكو فيها عمّاله في العراق، يستهلها بقوله(3) :
يا بنَ الزّبير أميرَ المؤمنين ألم ... يبلغكَ ما فعلَ العمَالُ بالْعَمَلِ
باعوا التّجار طعامَ الأرضِ واقتسموا ... صُلْبَ الخراجِ شحاحاً قسمة النَّفُلِ
__________
(1) جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي ص/ 355، المطبعة الرحمانية، القاهرة بلا تاريخ.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) الأغاني: ط دار الكتب، ج9/ ص 254.(1/223)
وكي لا يكون حكمنا سريعاً أيضاً نتتبع هذا الخط، فنقف في عهد عمر ابن عبد العزيز على شعراء خرجوا من حالة السلبية، والرؤية القاصرة وأخذوا يحسّون سوء واقعهم، ويرفضونه بعناد ونضال، لينحسر عنهم مدّ الظلم، ويشرق فجر العدالة والسعادة، حيث يقف الشعر حاجزاً أمام ظلم الولاة.
والشاعر رجل ثائر أمام الخليفة يقدم له الحقائق، ويدعوه إلى تجريد السيف، وجلد رقاب العمال الذئاب الذين ينهشون أموال الأمة وأعراضها. كما في موقف كعب الأشقري(1) وهو يخاطب(2) عمر بن عبد العزيز:
إنْ كُنْتَ تحفظ ما يليكَ فإنّما ... عمالُ أَرْضِكَ بالبلادِ ذئَابُ
لن يستجيبوا للذي تدعو له ... حتى تُجلَدّ بالسيوفِ رقابُ
بأكفّ منصلتين أهل بصائرٍ ... في وقعهن مزاجرٌ وعقابُ(3)
ويبدو أن ظلم بني أمية شيء متفق عليه تاريخياً، فقد رأى الطبري(4) في تاريخه بعض روايات عن الولاة الأمويين المقيمين على شؤون الخراج والزكاة أنهم كانوا يستغلون وظائفهم في جمع ثروات ضخمة غير مراعين إلاَّ ولا ذِمّةً. فالمهلّب بن أبي صفرة مثلاً، حين صرفه الحجاج ابن يوسف الثقفي عن الأهواز، كان قد احتجن لنفسه من بيت المال ستة آلاف ألف درهم(5) .
ويقال: إن راتب خالد القسري في ولايته على العراق كان عشرين ألف ألف درهم، ولم يكن يكفيه كل هذا الراتب، إذ كان يستصفي لنفسه- بوسائل غير مشروعة- ما يزيد على مئة ألف كل عام وقد استخرج منه ومن موظفيه يوسف الثقفي حين ولّى يده العراق سبعين ألف ألف(6) .
__________
(1) هو كعب بن معدان الأشقري من أَزْد عمان.
(2) البيان والتبيين: ج3/ ص358/، الطبعة الثالثة، القاهرة 1968م.
(3) المنصلت: الماضي في الأمر. البصائر: جمع بصيرة، وهي العدم واليقين.
(4) تاريخ الطبري: ج5/ ص 135.
(5) تاريخ الطبري: ج5/ ص 303.
(6) تاريخ اليعقوبي: طبعة أوربا ج2/ ص 55 و 388.(1/224)
وكأنه قد صار معلوماً لدى الناس قاطبة أن الولاية على الأمة أصبحت طريقاً للسلب والنهب، والسرقة والخيانة والغنى العريض حتى نسمع أنس بن أبي أناس(1) يقول(2) لحارثة بن بدر التميمي حين ولى على (سرق) إحدى كور الأهواز:
أحارِ بنَ بَدْرٍ قد ولّيْتَ إمارَةً ... فَكُنْ جُرَذاً فيها تَخونُ وَتَسْرِقُ
وحين جاء عمر بن عبد العزيز أمر برفع المظالم، وإلغاء الشتائم(3) ، ورَفع ألوان الضرائب الاستثنائية، كما أمر بحط الجزية عمن أسلم من العوالي، وأرسل إلى الأطراف عمالاً جدداً ينفذون سياسته في إدارة الولايات بحرية يختارونها، لا يشاورونه إلاّ في أهم المهمات مما يشكل عليهم أمره(4) .
كان لهذه السياسة خطرها إذ استغلها هؤلاء الولاة، فنبذوا الكتاب واستحلوا المحارم، فارتفعت شكوى الشعراء، ونددوا بفساد هؤلاء العمال وبظلمهم.
وكان بعض من هؤلاء الشعراء يندد بسياسة عمر بن عبد العزيز فبي هؤلاء الولاة، ويرحل إلى الشام ليرفع ظلامة إثر ظلامة، وربما كان على المنبر فدخل عليه رجل، فقال:
إنّ الذينَ بعثْتَ في أَقْطَارِهَا ... نَبَذُوا كتابِكَ واسْتحِلَّ الْمحرَمُ
طلسُ الثّيابِ على منابرِ أَرْضِنَا ... كلٌّ يجورٌ وكلُّهم يتظلَّمُ(5)
وإنما كنى بغبرة الثياب عن قذارة نفوسهم فهم طلس الثياب، وهم ظلمةٌ جائرون.
ربما تبادر إلى ذهن العربي المعاصر أنها صيحات غضب عقيمة، وهذا في منظورنا المعاصر. ولا شك أن سبب هذه المبادرة معرفتنا الوثيقة بالواقعية الثورية. ولكننا حين نتذكر أن أدب الواقعية الجديدة هو الوسيلة التاريخية لمعرفة الحياة معرفة موضوعية تبعد ذلك التيار.
__________
(1) لاحظ الشعر والشعراء: ج2/ ص715.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) الأغاني: ج9/ ص 254، طبعة دار الكتب.
(4) الإسلام والحضارة العربية. محمد كرد علي ج2/ ص 172، لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة 1959م.
(5) البيان والتبيين: ج3/ ص 359/، القاهرة، 1968م.(1/225)
ويمضي الشعر الإيجابي يبشر بالثورة، ويدعو إلى الإطاحة برؤوس هؤلاء الولاة لينهي الظلم والفساد، مثبتاً موجوديّةً للشعر العربي الذي يثير الاهتمام، ويبقى في ذاكرة الأجيال بقوة إشعاع فيشكل جذوراً للواقعية العربية الثورية بما يجسده من فضح لقوى القهر ومحاربة دائمة لها، ليأتي البديل الفعلي والواقعي الملائم للمجتمع حيث تنتفي علاقات الاستغلال، ويسود العدل والحق.
ولكن طبيعة المرحلة التاريخية التي كانت الأمة تمر بها جعلت الشاعر يوجّه دعوة الإطاحة إلى الخليقة لا إلى الشعب صاحب القضية كما في المنظور المعاصر.
وقد كان الشاعر كعب الأشقري يدرك أن العمال الذئاب في أطراف الدولة الإسلامية لن يستجيبوا لدعوة العدل التي طرحها الخليفة عمر بن عبد العزيز إلا إذا حكم بالسيوف رقابهم وقد مر بنا قوله:
إِنْ كُنْتَ تحفظُ ما يَلِيْكَ فإنّما ... عمّالُ أرْضِكَ بالبلادِ ذئَابُ
لَنْ يَسْتَجيْبُوا للّذي تَدْعُو له ... حتّى تجلّد بالسيوفِ رِقَابُ(1)
إننا لنرفض غمزاً في مثل هذا الشعر العربي، كما أن محاولة وضع هذا الشعر الموضع المطلوب تماماً في منظار المعاصرة ليس مقبولاً عقلاً ومنطقاً ما دمنا نؤمن بالتطور التاريخي لفن من الفنون، ولكننا لا نستطيع إغفال مثل هذا الشعر وإكباره أيضاً.
ويبدو أن مجموع هذا الشعر حرك شعراء القصور أيضاً ليرفعوا أصواتهم بالشكوى، لكنها الشكوى الذاتية، للوصول إلى المكاسب والمنافع الشخصية. فقد دخل جرير على عمر بن عبد العزيز، وجعل يشكو ابن سعد الأزدي الذي تولى صدقات الأعراب وأعطياتهم، ولكنه لم يتمثل هموم جماهير الأعراب، بل صار يتحدث عن همومه الفردية وعن المفارقة بينه وبين ابن سعد، فقال(2) :
وإنَّ عيالي لا فواكَه عندهم ... وعندَ ابنِ سَعد سكّر وزبيْبُ
__________
(1) البيان والتبيين: ج3/ ص 358/، القاهرة 1968م.
(2) الكامل، للمبرد: ج2/ ص 651، طبعة القاهرة، 1937م.(1/226)
وَقَدْ كَانَ ظنّي بابنِ سَعْد سَعَادَةً ... وما الظنّ إلاّ مُخْطِئ ومَصيْبُ
إنها النزعة السلبية المفعمة بالروح الأنانية، فالشاعر يعلم علم اليقين حالة الشعب المتردية، والظلم الذي يلقاه الأعراب من ابن سعد وهو متخم شبع، ولكنه يريد المزيد من الرفاهية مثل ابن سعد هذا يريد مائدة خاصة مما تتناوله الأسر المشبعة في ليالي الشتاء جانب المدفأة أو تحت نجوم السماء في ليالي الصيف، فيرفع صوته طمعاً شرهاً مستعطفاً، ولا غرابة في أقوال جرير وأمثاله من رواد القصور.
إن مجموع الشعر الإيجابي الذي مرّ بنا وأمثاله من القطعات المتناثرة في بطون الكتب يجرّنا لنتحدث عن شخصيات قائلية، فهي في مجموعها تمثل قوى التقدم الصاعدة عصرئذ، والتي كانت تعبر عن مطالب الشعب، ورغباته من جهة، وتعكس لنا صوراً مظلمة من تاريخنا أغفلها كتاب التاريخ الذي عاشوا تحت ظلال القصور الحاكمة من جهة ثانية.
إن مجموع شعر هؤلاء هو تيار الشعر الشعبي الذي أغفلته النظرية المدرسية للأدب. تلك التي وقفت عند القمم الشامخة من كل عصر متناسية ومتجاوزة كثيراً من الشعراء المؤرخين مسارب الأحداث الدقيقة الهامة، دون إصغاء لأصواتهم العذبة.
كما أن هؤلاء الشعراء هم السُّدَادات التي تسد الفجوات الواسعة التي نراها في تاريخنا السياسي أو الأدبي. وبإمكان الباحث أن يجد كثيراً من هؤلاء الذين نطلق عليهم مصطلح (المحجوبون) وما أكثر المحجوبين الذين تحول ظروف عديدة دون بروزهم وظهورهم مما يجعل الدائرة الأدبية ناقصة، فتأتي أبحاثنا مبنية على هذا النقص، وهذا وجه الخطر في دراسة الأدب من وجهة رسمية، كما أن هذا هو أحد الأسباب التي من أجلها وجد هذا البحث.
وإذ بدت أهمية هذه المواقف واضحة هنا، فإننا سوف نعود إليها حين نتناول المناحي الاقتصادية أيضاً لأهميتها هناك، ولكن من وجهة أخرى.
(
المناحي الفكرية(1/227)
كانت دراسة الجوانب الحماسية والوجدانية في الشعر العربي دليلاً على أن دارسيه وناقديه لم يلقوا بالاً لأهمية الفكر في الشعر العربي ثم جاء ناس من أناس(1) ، فدرسوا الفكر الإسلامي من خلا العقائد التي تؤمن بها الفرق الإسلامية.
وجاء بعض المعاصرين(2) فكتب عن شعر الفرق الإسلامية، باعتبار ميل الشعراء الفكري إلى هذه الفرقة أو تلك، وبقيت دراسة الفكر في الشعر العربي بعيدة عن متناول الدارسين والباحثين مقتنعين بثوب الشعر العاطفي، وبإيقاعه الموسيقي.
"على أن الأدب بمدلوله: العالمي العام، لا يقتصر على ما تحركت فيه العاطفة، وتجلى فيه الإيقاع الموسيقي، وبرزت فيه الصياغة الفنية بل هو ما استقامت فيه هذه المزايا إلى جانب الفكرة الطريفة، والتعليل البارع، والتكهن المبتكر(3) ".
وإذا كان الفكر تأملاً وإجهاداً للخاطر في الشيء، فإن هذا يعني أن نتأمل في مجموع التراث الشعري منذ فجر الإسلام إلى نهاية العهد الأموي، ولكن "ليس الهدف هنا أن نلم بكل خاطرة فكرية خطرت لشاعر لذلك يكفينا هنا أن نعرض المجاري الرئيسية التي جرت فيها المبادئ الفكرية العامة(4) .
ولا شك أن المنحى الفكري في النثر أقوى منه في الشعر وأظهر ولكن هذا لا يعني أن الفكر ظل محصوراً في النثر، كما أن حصره هنا ليس سهلاً كذلك.
__________
(1) الملل والنحل، للشهرستاني، ولاحظ: الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الأندلسي، القاهرة، 1329هـ.
(2) لاحظ الفرق الإسلامية في الشعر الأموي. د. النعمان القاضي دار المعارض بمصر، القاهرة 1970م.
(3) معالم الفكر العربي في العصر الوسيط. د. كمال يازجي ص 102. دار العلم للملايين، بيروت 1974م.
(4) المصدر السابق ص 105.(1/228)
وما دامت الصعوبة الفكرية موجودة في كلا الصناعتين، فإنه لا بد من الاعتراف أن مرد هذه الصعوبة يعود إلى طبيعة الشؤون الفكرية. ونستطيع حصر هذه الشؤون أكثر حين نذكّر مرة أخرى بطبيعة المسارات التي أخذت بها هذه الدراسة من حيث وقوفها على نماذج إيجابية وسلبية.
نبدأ الحديث عن المحاكمة العقلية من خلال الشعر، ثم نتحدث عن القوة الفكرية في إظهار كلمة الحق، وفضح الباطل، وننهي الفقرة بالحديث عن الصداقة الخالصة والأخلاق الفاضلة.
المحاكمة العقلية:
عشية تمكن الإسلام وانتشر، أوجد انتماء جديداً في أتباعه، ورفض الانتماء القبلي، والتفاخر بالأنساب، وجعل حسب المرء دينه وفعله الحسن(1) . وقد رأينا كيف عادت تلك الروح الجاهلية، فتسربت إلى المجتمع الجديد، وكيف عادت العصبية القبلية جذعة(2) .
أمام هذا الواقع الجديد كان لا بد من فرز في المواقف ولا سيما في الفكر أمام اختلاط المفاهيم القديمة بالجديدة. ثم صار التمسك بالخير أمراً إيجابياً ضرورياً يعزز من قيمة ما جاء به الإسلام من فكر خيّر ويدعم خط هذه القيم، كما يقاوم التيار الجاهلي الذي كان يحاول الاستمرار والتقدم.
فأمام مد الأنساب المنحرف الذي قوى تيار العصبية القبلية وقف أناس من المسلمين وأعلنوا انتماءهم الديني الإسلامي، في محاولة لمقاومة ذلك المفهوم الجاهلي.
وليس عجيباً أن يظهر هذا التمسك من رجل صحابي كسلمان الفارسي (رض) فيؤكد أن الإسلام هو كل شيء في حياته، وإليه ينتسب إذا ما انتسب الناس كما يفعل التميميون والبكريون مثلاً، ويعلن أن انتسابهم دعوى جاهلية، وأن من يدعو بها يأثم، ويعيب الأدعياء الذين يلحقون أدعياء أمثالهم طلباً للحسب الرفيع، فيقول(3) :
__________
(1) انظر الافتخار بالنسب في هذا البحث.
(2) انظر العصبية القبلية في هذا البحث.
(3) البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي. ج2/ ص 600، مكتبة أطلس، دمشق.(1/229)
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا ببكر أو تميمِ
بدعوى الجاهلية لم أجبهم ... ولا يدعو بها غير الأثيمِ
دعيُّ القوم يِبْصُرُ مُدَّعيهِ ... ليُلْحِقَهُ بذي الحسب الصَّمِيْمِ
وهذا يعني أن الشاعر مؤمن بالانتماء الديني الجديد على أنه الرابطة الجديدة التي تقوم عليها الأمة. وهذا موقف إيجابي إذا ما قارناه بالمواقف الجاهلية التي رأيناها.
ولكن ألا يبدو الأمر غير عادي حين يصدر عن سلمان الفارسي الذي لم يكن له من قبيلة عربية!... ومع ذلك ولعلمنا أنه كان بإمكانه أن يصبح قبلياً بالولاء، ولكنه رفض هذا الأمر وعابه، فإننا نعتبر موقفه رداً حاسماً على المواقف السلبية التي كانت تعود بالمفاهيم إلى مرحلة ما قبل الإسلام.
ومثل هذه الدعوة بالتمسك الانتمائي إلى الإسلام تعتبر إيجابية عدد الحركات الدينية الإسلامية المعاصرة، وسلبية بنظر الدعوات القومية لكنها من أقوى المواقف الإيجابية عصرئذ.
وقريب من هذا الأمر، موقف آخر اتخذه بعض الشعراء وذلك في قضية تشغيل العقل وتحكيمه في المفاهيم المتحكمة في حياة المجتمع ومخالفة الجمهور لأنه على باطل، قريب من هذا الموقف الذي اتخذه من يشحذ عقله ويعمل فكره في قضية عبادة الأصنام، فقد جاء رجل يقال له خزاعي بن عبد نهم، وكان يحجب صنماً لمزينة يقال له:
"نهم"، وقف أمامه وحكم عقله فيه وفي ألوهيته المزعومة، فتوصل إلى الحقيقة الموضوعية، ثم كسر الصدم، ولحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وهو يقول(1) :
ذهبتُ إلى نُهْمٍ لأَذْبَح عنده ... عَثِيْرة(2) نُسْكٍ كالذي كنتُ أَفْعَلُ
فقلت لنفسي حين راجعت حَزْمَها ... أهذا إله أبكمٌ ليس يعقل؟
أَبَيْتُ، لديني اليوم دين محمد ... إله السماء الماجد المتفضّل
__________
(1) انظر كتاب الأصنام، ابن الكلبي. ص 39-40.
(2) العثيرة: ذبيحة كانت تذبح للأصنام، فيصب دمها على رأسها.(1/230)
فبايع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على مزينة(1) . فهذه المقطوعة الفكرية هي خلاصة المحاكمة العقلية التي أجراها خزاعي حين جاء ليقدم ذبيحته، فأعمل عقله، وواجه الأمور بجرأة وقوة نادرتين تخالفان ما كان عليه الناس آنذاك. فقد نسف الفكر البالي، ولخص قرار الحكم بمقطوعة تنم عن إيجابية حكيمة يحتاجها المرء دائماً في حياته ولا شك أن الإنسان العربي المعاصر إذا أراد أن يتقدم نحو الحضارة المعاصرة، فإنه من الواجب عليه ألا يقدم على القيام بعمل ما دون دراسة جدية مبنية على قواعد موضوعية يعقبها قرار قوى متزن، وهذا ما نحتاجه كثيراً لا سيما في حياتنا السياسية المعاصرة ولا بد من الدعوة إلى هذه المحاكمة العقلية المتزنة في حياتنا الفكرية المعاصرة أيضاً، فنترك كل ما هو موروث من التراث لا يملك الأصالة ولا المعاصرة إن كان دينياً أو اجتماعياً أو ما شابه ذلك.
وإذا تذكرنا حديث الجمود في العقلية العربية في كثير من المناحي فيما مرّ أو فيما سيمرّ بنا في تضاعيف هذا البحث، عرفنا القيمة التاريخية لهذه المقطوعة وأمثالها لا سيما في بيان خطأ المفهوم الذي توصل إليه المستشرق "رينان(2) " عن العقلية الآسيوية عامة، والعربية منها خاصة.
ولم يكن موقف الخزاعي من الأصنام بعد المحاكمة العقلية فريداً، بل ربما كانت هناك أصوات أخرى تفوق صوته في بيان زيف الموقف العبادي المتعلق بالأصنام. فقد طرحت هذه القضية في قالب شعري فكري فيه موازنة ومطالبة بأعمال العقل وترجيح الأفضل.
__________
(1) أسد الغابة: ج2/ 123، دار الشعب، القاهرة 1970م.
(2) في كتابه "تاريخ اللغات السامية المقارن".(1/231)
ولأنَّ الشعر أقدر على إقناع العربي، ومن حيث هو دعوة ملحة، فإن هذه الدعوة الفكرية تجد تجاوباً، وتؤدي غرضاً إيجابياً وقد سلك شداد بن عارض الجشمي هذا المسلك الفكري في انتقاص قيمة الأصنام ودحرها أثناء سير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ورفع صوته مطالباً بخذلان اللات، مؤكداً أن الله مهلكها، ثم طرح سؤالاً فكرياً قوته تكمن في موضوعيته، وسأل مستنكراً نصر من ليس ينتصر، ودعا إلى هدرها، وقال(1) :
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف يُنْصر من هو ليس ينتصرُ
إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم يقاتل لدى أحجارها هَدَرُ
إن الرسول متى نزل بداركم ... يرحل، وليس بها من أهلها بشرُ
إن أوليات الكسب الفكري تقتضي الهدم والبناء بمعنى أن من يريد أن يكسب الناس إلى صفه فعلية أن يظهر سوء ما هم عليه من معتقد فيكون قد عمل على الهدم ليبدأ بناء ما يريد من جديد على قاعدة صلبة. وإذا ما لمحنا هذه الأوليات في هذه القطعة التي تطالب بالتخلي عن اللات، بعد أن تظهر سلبيته، وتهدم لتبني، فإننا ندرك صحة المنحى الإيجابي الذي سلكته.
ولكن أروع المقطوعات الشعرية العربية في باب المحاكمة العقلية، تلك التي سطرها أيمن بن خزيم. فطالما تألم المرء وهو يقرأ عن الدم المسفوح فوق كل كلمة وكل سطر من كتب التاريخ العربي(2) ولطالما تمنى أن تقع عيناه على خبر شخصية عربية اتخذت موقفاً إيجابياً من تلك المعارك الطاحنة بين العرب، وانسحبت مستنكرة.
وإذا كانت الحوادث الفردية لا تشكل ظاهرة عامة، فإننا نستأنس ببعض تلك الظواهر الفردية ونحن نبحث في المحاكمة العقلية، لنعمق هذا التيار الإيجابي، ونقوي إحساس الشعراء العرب المعاصرين بأهمية هذا التيار ليشاركوا في دعم التلاحم العربي المعاصر.
__________
(1) أسد الغابة: ج2/ ص 508، دار الشعب، القاهرة 1970م، الأصنام ابن الكلبي: /17/، وسيرة ابن هشام ج2/ ص 481.
(2) لاحظ تاريخ الطبري:(1/232)
حين قاتل مروان بن الحكم، الضحاك بن قيس أرسل إلى أيمن بن خزيم إنا نحب أن نقاتل معنا. فقال: إن أبي وعمّي شهدا بدراً، وإنهما عهدا إليّ أن لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله إلا الله فإن جئتني ببراءة النار قاتلت معك، قال: اذهب. ووقع فيه، وسبه، فأنشأ يقول(1) :
ولست مقاتلاً رجلاً يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعليّ إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش
أأقتل مسلماً من غير جرم ... فلست بنا فعي ما عشت عيشي
والحق أن المرء يشرح صدره حين يجد في الشعر رجلاً وفي ذلك الوقت يغمد سيفه ليوفر الدماء العربية، ويبرأ إلى الله من الدماء التي تنزف هنا وهناك. وقد استطاع أن يعطي الحكم ملخصاً في هذه المقطوعة، وأن ينحو منحى إيجابياً.
ولا شك أن هذه الصفة الإيجابية تملك الديمومة عند كل دعاة السلام والخير والمحبة على مرّ العصور. ولا شك أيضاً أن أثرها السلبي عند مروان ابن الحكم وأمثاله من الذين يقفون موقفه من شاعرنا خلال التاريخ أثر واضح.
كما أن هذا الموقف إيجابي بالنسبة للمسلمين، وغير المسلمين من المؤمنين عامة، وهو يملك الأصالة، والمعاصرة، كما أن فيه روحاً قانونية تمنع القتل في غير جرم يستوجب.
إظهار كلمة الحق، وفضح الباطل:
من المفاهيم الفكرية الجديدة التي جاء بها الإسلام، الإجهار بالحق وفضح الظلم وقد اعتبر سيد الشهداء رجلاً قام إلى حاكم ظالم(2) فنهره. هذا المفهوم المتنوّر يدخل ميدان العمل السياسي أكثر من المجال الفكري لكنه ينمّ عن العقلية السليمة وهو عنوان الخصب الحضاري في الأمم.
__________
(1) أسد الغابة: ج1 ص/ ص 189، طبعة دار الشعب، القاهرة 1970م وقيل: إن عبد الملك ابن مروان هو الذي دعاه إلى قتال ابن الزبير وأغراه بالمال فرفض. ابن سعد ج6/ ص 25 كتاب الطبقات الكبرى، ليدن 1323هـ.
(2) كما في الحديث "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فنهره فقتله".(1/233)
فالأمة التي لا يوجد بين أفرادها من يقول للحاكم إذا أخطأ أخطأت لا خير يرجى منها ولا إمكانية لها في النهضة والتحرر، لأن الطغيان، الفردي سوف يشل حركتها وقدرتها، وعقول مفكريها وباحثيها.
ومن حسن حظ هذه الأمة العربية أن بعضاً من شعرائها، خلال فترة من حياتها السياسية كان يرفع صوته عالياً في وجه السلطة الجائرة الظالمة ليقول كلمة حق عند سلطان جائر، ومن أبرز هذه المواقف ما تبناه بعض المفكرين من الشعراء السياسيين، وما جاء عفو الخاطر من مظلومين في حضرة الخليفة أو الأمير.
ومن المواقف الأولى قول الكميت(1) الشاعر الشيعي في مخاطبة حكام بني أمية(2) :
فقل لبني أمية حيث حلوا ... وإن خفت المهند والقطيعا(3)
أجاع الله من أشبعتموا ... وأشبع من بجواركم أجيعا
بمرضي السياسة هاشمي ... يكون حياً لأمته ربيعاً(4)
فهذه المقطوعة صوت إيجابي يرفع في وجه السلطة داعياً الناس إلى تحدي الظلم والقهر، وربما كان هذا الصوت يحمل وجهاً سلبياً عند دعاة الواقعية الاشتراكية، وذلك لأنه في جزء منه يقوم على الدعاء بتجويع أتباع الدولة الأموية وبإشباع الجياع الذين ظلمهم الأمويون فيسحب اليد الإنسانية الفاعلة، ويفرغ المسألة من وجهتها الحقيقية، حيث كان من الواجب أن يدعو إلى مقاومة السلطة الجائرة لإعادة الحق إلى أصحابه. ومع ذلك، فلا نكران له بأنه صوت إيجابي في العصر الأموي.
__________
(1) انظر ترجمته في الأغاني (ط. السايسي) ج15/ ص 108، والشعر والشعراء ج2/ ص 562.
(2) البيان والتبيين، لجاحظ ج3/ ص 365.
(3) القطيع، السوط، يقطع من الجلد.
(4) حيا: أي بمنزلة لحيا، وهو المطر تحيا به الأرض.(1/234)
ومن المواقف الثانية التي جاءت عفو الخاطر، تملك القوة الإيجابية والقدرة على تغيير نوايا الحاكمية، قطعة شعرية لفتاة تدعى لرجل يقال له أسلم بن عبد البكري، إذ كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره بقتله لشيء بلغه عنه فأحضره الحجاج وقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر والله تعالى يقول:
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(1) } . والذي بلغه عني باطل، فاكتب إلى أمير المؤمنين أني أعول أربعاً وعشرين امرأة وهنّ بالباب فأحضرهنّ فهذه أمه، وهذه عمته وزوجته وابنته، وكان في آخرهن جارية قاربت عشر سنين، فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته أصلح الله الأمير! ثم أنشأت تقول(2) :
أحجاج لم تسد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج لم نقبل به إن قتلته ... ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلاً أن تزدنا تضعضعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتلنا معاً
فبكى الحجاج، وقال: والله لا أعنت عليكن ولا زدتكن تضعضعاً. وكتب إلى عبد الملك بن مروان بخبر الرجل والجارية، فكتب إليه عبد الملك: إن كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقد الجارية، ففعل(3) .
فهذه القطعة الشعرية تملك القوة الفكرية المغيّرة، حيث نجد فيها بيان منزلة الرجل وما يعيل، وبيان مصير الجموع العائلية التي يعيلها إن هو قتل، وتختم بالحجة والمنطق. وكفاها أنها أنقذت حياة إنسان كان موته محتماً لولا ما فعلته من تغيير إيجابي، وأنها وقفة أعظم المحامين الملمين بقضية صعبة لا يرتجى منها أي أمل يذكر، تنتهي بمرافعة مؤثرة تهز القاضي والجمهور وتحرك القانون لمصلحة قضيته، فيكسب القضية بعد أن فقد الأمل فيها.
__________
(1) سورة: الحجرات، الآية 6.
(2) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج /4/ ص 585-586.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/235)
ومن المحتم لو أن الرجل كان قاتلاً حقاً، أو مجرماً فعلاً ونجا من عقوبة الحق العام بفعل الأثر الذي خلفته تلك القطعة لكان وقعها ومسارها سلبياً مؤلماً يشجع الإجرام ويخفف من قيمة القانون.
وأحياناً يستطيع بيت واحد من الشعر أن يحقق الغرض الذي يريده صاحبه. فيأخذ جانباً إيجابياً خاصاً. وقد استطاع شاب من الأنصار أن يقف أمام عمر بن الخطاب، ويقول(1) :
اذكر بلائي إذ فاجأك ذو سفه ... يوم السقيفة والصّدّيق(2) مشغول
وكان الفتى قد رد عن عمر قول سفيه من موالي الأنصار كلاماً أغلظ فيه لعمر بن الخطاب، فقال عمر: أنا ذاكر لبلائك ثم قال بأعلى صوته:
ألا إن هذا رد عني سفيهاً من قومه يوم السقيفة، ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه، وولاه صدقة قومه وقرأ عمر: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان(3) ".
وأحياناً تأتي قطعة شعرية إيجابية لتقاوم مفهوماً سلبياً عاماً، وتخرج عن الواقع المادي الخاص، تدافع بشعرها عن واقعة عامة تهم الأمة الإسلامية كلها. وتسعى إلى تحقيق منفعة روحية.
فهذا عبد الله بن كثير السهمي(4) يسمع عمال خالد بن عبد الله القسري(5) يلعنون علياً والحسين على المنابر، فيرفع صوته مدافعاً عنهم، مخترقاً سلطانهم، متناسياً ما قد يلحقه من أذى جراء جرأته ورده عليهم، مقابل أن يتقرب إلى بيت آل النبوة، فيكسب لديهم حظوة، تنفعه بشفاعة يوم لا شفيع إلا بإذنه، فيقول(6) :
لعن الله من يسب علياً ... وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطيبون جدوداً ... والكرام الأخوال والأعمام(7)
__________
(1) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي: ج2/ ص 817.
(2) وهو أبو بكر الصديق، الخليفة الأول.
(3) سورة الرحمن، ص آية 55.
(4) انظر أخباره في: البيان والتبيين: ج3/ ص 359-360/.
(5) عامل الأمويين على العراق.
(6) البيان والتبيين: ج3/ ص 359-360.
(7) في معجم المرزباني: "أتسب المطيبين" بالخطاب.(1/236)
يأمن الظبي والحمام ولا يأ ... من آل الرسول عند المقام(1)
طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً ... أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم ... كلما قام قائم بسلام
ويلجأ الشاعر إلى تعميق الإحساس بالواقع المؤلم فيقارن بين واقع بيت آل النبوة بما يحيطهم من ظلم، وأمان للطيور والحيوانات!...
ومن المواقف الإيجابية الفكرية في إظهار الحق، وردع الباطل بعض الوقائع الطريفة التي يفضحها الشعر، والتي تكشف زيف بعض المتنسكين الذين يخدعون الناس بمظهرهم.
روى أبو الفرج أنه كان لرجل يقال له حمزة بن بيض صديق من عمال ابن هبيرة فاستودع رجلاً ناسكاً ثلاثين ألف درهم، واستودع مثلها رجلاً نبيذياً، فأمسك الناسك فبنى بها داراً وتزوج النساء وأنفقها وجحدها، وأما النبيذي فأدى إليه الأمانة في ماله، فقال ابن بيض فيهما(2) :
ألا لا يغرنك ذو سجدة ... يظل بها دائباً يَخْدَعُ
وبالتقى لزمت وجهه ... ولكن ليأتي مُسْتَوْدِعُ
كأن بجبهته حلية ... يسبح طوراً ويسترجِعُ
ثلاثون ألفاً حواها السجود ... فليست إلى ربها تَرْجَعُ
وردّ أخو الكأس ما عنده ... وما كنت في رده أطْمَعُ
فلا يغرن الناس رجل يطنطن بالصلاة، وإنما الحكم الفصل في صلاح أخلاقه في معاملته حيث يكون الدرهم والدينار كاشفاً مدى هذا الصلاح.
وبالمقابل فلا يظلمن الناس رجلاً قاده قدره إلى حان يعاقر فيها كؤوس الراح، فربما كان أميناً مخلصاً وفياً في معاملاته مع الناس، وهذا ما يهم المجتمع وهذا أيضاً مفهوم فكري إيجابي يملك المعاصرة في وقت يحتاج فيه الناس إلى معاملة المرء لا إلى ركعاته التي يعود نفعها عليه شخصياً.
الأخلاق الفاضلة:
حين جاء الإسلام، أحدث نقلة كبيرة بين الأخلاق السائدة، في الجاهلية، والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وكان الرسول يدعو إليها وبمثلها، بالشهادة الكبرى التي أنزلها الله تعالى:
{
__________
(1) المقام: الحرم.
(2) العقد الفريد: ج6/ ص 365.(1/237)
وإنك لعلى خلق عظيم } (1) .
والناظر في هذه القصيدة، كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزاً أصيلاً فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء...
والدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معاً للنية والضمير، والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور. وقد لخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته في هذا الهدف النبيل. "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(2) .
وهذا ما يفسر اتجاه الشعراء المتأثرين بالروح القرآنية إلى الأخلاق الفاضلة لأنها الدعامة الأولى في بناء كل مجتمع سليم(3) .
وقد أظهر الشعر الفكري الإيجابي أصولاً عالية في الأخلاق، مستمدة من الروح الإسلامية. كما أظهر الشعراء معرفتهم بأخلاق الناس المتباينة وعمقوا إحساس المجتمع بها ليأخذوا بالطيب منها، وتجنبوا الخبيث، على شاكلة قول أبي البلاد الكوفي(4) :
وإنا وجدنا الناس عودين طيباً ... وعوداً خبيثاً لا يبضّ على العصر(5)
تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أخلاق الفتى وهو لا يدري(6)
__________
(1) سورة القلم: آية 4.
(2) في ظلال القرآن، ج8/ ص 222-223/.
(3) انظر: روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة، 1999، ط2 بيروت 1969. دار العلم للملايين.
(4) هو شاعر أعمى جيد اللسان، كان من أروى أهل الكوفة، مولى لعبد الله ابن غطفان وهو غير أبي البلاد الطهوي.
(5) يبض: يخرج منه ماء.
(6) البيان والتبيين: ج3/ ص 104.(1/238)
والدعوة إلى الأخلاق الفاضلة عند بعض الشعراء أثر من آثار التغيرات التي أحدثها الإسلام، وقد عمل صفاء كثير من نفوس شعراء المدر والوبر الذين صاروا يستشعرون المعاني الإسلامية الروحية على التقيد بما جاء به الإسلام من أخلاق فاضلة جعلتهم يدافعون عنها في شعرهم.
وقد لجأ بعضهم إلى كشف الأخلاق السيئة عن طريق فضح أصحابها وتعميق الإحساس بسلبية أخلاقهم. ففي الغيبة والنميمة يقول سويد بن أبي كاهل اليشكري(1) :
بئس ما يجمع أن يغتا بني ... مَطْعَمٌ وَخْمٌ وداءٌ يدَّرَعْ(2)
ويحيّني إذا لاقيته ... وإذ يخلو له لحمي يرَتَعْ(3)
فهذا يولد ردة فعل تعمل على نبذ هذه القيمة السلبية السيئة. وقد كان القرآن عالجها، فذم الذين يتعرضون للناس في غيابهم قدحاً وذماً، واعتبرهم كأنهم يأكلون لحم ميت!.. زيادة في التنفير وفضحاً لهذه المواقف السلبية، فقال: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه(4) } .
فهذا التعبير العجيب الذي ينهى عن الغيبة يبدعه القرآن إبداعاً رائعاً حين يعرض مشهداً تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية، مشهد الأخ يأكل لحم أخيه... ميتاً!.. ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز وأنهم إذن كرهوا الاغتياب(5) .
__________
(1) انظر ترجمته في الشعر والشعراء ج1/ ص 384، والأغاني، طبعة دار الكتب ج13/ ص12، والخزانة: ج2/ ص 546.
(2) المفضليات: ص 190 وقوله: وخم: غير مريء، ويدرع: يلبس.
(3) رتع: أكل بنهم.
(4) سورة الحجرات: آية /12/.
(5) في ظلال القرآن: ج7/ ص 535.(1/239)
ثم لجأ بعض الشعراء إلى فضح سلبيات هؤلاء المغتابين بمواقف إيجابية تشكل سياجاً فاضلاً حول المجتمع الجديد. وكان الحكماء من الشعراء يثبتون هذا الأمر في شعرهم ويبثون أفكارهم هذه في كل مكان، وقد توفرت بعض هذه الصفات لدى الشاعر سويد بن الصامت(1) الأنصاري، فكان يقول(2) :
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يقرى(3)
مقالته كالشَّهد ماكان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر(4)
يسرّك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبترى عقب الظهر(5)
تبين لك العينان ماهو كاتم ... من الغلِّ والبغضاء بالنضر الشزر(6)
فرّشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبرى(7)
__________
(1) أنصارى من الأوس، وكان قومه يدعونه الكامل لحكمته وشرفه.
(2) أسد الغابة: ج2/ ص 489-490، دار الشعب، القاهرة، 1970م.
(3) يقرى: يختلق.
(4) المأثور: السيف.
(5) تبترى: تخت، والعقب، العصب.
(6) الشزر: هو النظر بمؤخرة العين، وأكثر ما يكون في حال الغضب، وإلى الأعداء.
(7) راشه: قواه وأعانه على معاشه وأصلح حاله، والبرى: النحت والقطع.(1/240)
فالقيمة الإيجابية الرائعة في هذه القطعة تظهر في مقاومة العمل الدنيء الذي يضر بالأخلاق وهي دعوة إلى تطهير القلوب من مثل هذا الاتجاه اللئيم الذي يعمل على تتبع عورات الآخرين، وكشف سوءاتهم تمشياً مع أهداف الإسلام في نظافة الأخلاق وطهارة القلوب(1) ، وقد تشدد، رسول الله (ص) في هذا الأمر متمشياً مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض فقال، وقد سأله أبوهريرة: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال (ص): "تذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرايت أن كان في أخي ما أقول؟ قال(ص): [إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته]. (2)
ومن الواضح أن الشاعر في القطعة السابقة متأثر بهذه التعاليم الإسلامية الفاضلة التي ترد على الذين يطعنون الإسلام، ويزعمون أنه خال من الأخلاق!... (3)
وربما امتد سور هذه التعاليم ليشمل بعضاً من الشعراء الذين ظلوا على دينهم، وعرفوا بحسن الأخلاق، وسعة الآفاق والإرشاد كما كان شأن أبي زبيد الطائي(4) وهو يدعو إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة الراقية، وعدم الانسلاخ منها حين تسلَّم إمارة أو منصب ما، يقول(5) :
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء والحسب الوثيقِ
فكلّ إمارة إلا قليلا ... مغيّرة الصديق على الصديقِ
__________
(1) انظر: سورة الحجرات، في التفاسير القرآنية.
(2) رواه الترمذي، وصححه, جامع الأصول، ج8، ص 447، الكتاب الخامس في الغيبة والنميمة.
(3) لاحظ موقف "البحث عن الدين الحقيقي"، تأليف المسيو زكولي، والرد عليه في كتاب روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة. ص 199.
(4) وهو المنذر بن حرملة من طيء أدرك الإسلام، ومات نصرانياً، معمر، له شعر جيد، انظر أخباره في الشعر والشعراء، ص 57، والأغاني ج7/ص24، طبقات فحول الشعراء، ص505.
(5) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي، ج1/ص114.(1/241)
ألا تلاحظ معي أن هذين البيتين وثيقة إيجابية من جانبين.؟ فالجانب الأول فيه كشف لسيرة بعض الأمراء السلبية ممن كانوا يستخدمون الإمارة لمصالحهم الشخصية وينسلخون عن أخلاقهم الفاضلة التي كانوا عليها.
والجانب الثاني: وليد الجانب الأول وفيه دعوة حارة إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة، قبل وبعد تولى الإمارة. فلطالما غيرت الإمارة أخلاق الأصدقاء حتى عن أقرب أصدقائهم، وبعيداً عن الشرح الأدبي، وعلى ضوء الدراسة الاجتماعية والتاريخية يكون هذا الشعر وثيقة تدين كثيراً من أعمال الولاة في عصر الشاعر. وبعد ذلك يطالب بسيرة حسنة، وبسلوك معتدل كيلا يبدو ضعيفاً فيتضعضع، أو جلفاً لا تقبله النفوس، ويضرب مثلاً عن السيرة الحسنة مع الأصدقاء(1) ، فيقول:
فلا تك عندها حلواً فتحسى ... ولا مُرَّاً فتنشب في الحلوقِ
أعتاب كلَّ ذي حسبٍ ودينٍ ... ولا أرضى معاتبةَ الرَّفيقِ
وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديقِ(2)
هذه أيضاً مقطوعة فيها حس فكري متزن يملك قوة المعاصرة، فالمعاناة من الانسلاخ الطبقي، ظاهرة تعاني منها بعض الأحزاب، ولاسيما الاشتراكية منها.
كثر أولئك الذين كانوا على جانب من الأخلاق الفاضلة العالية، يعطفون على الفقراء والمساكين، ويدعون إلى إصلاح حالهم والوقوف إلى جانبهم، فيتأمل المجتمع كل خير منهم ولكن مايكاد أحدهم يستلم منصباً أو مركزاً ما، حتى ينسلخ من واقعه ومجتمعه القديم، فينسى الفقراء والمعوزين، ليدور في فلك الطبقات الغنية ا لتي كان ينقدها ويرها آكلة حقوق الفقراء.
ومن أجمل ما خلفه الفكر الإيجابي من قيم هامة، الدعوة إلى بعث روح العمل، والسعي وراء الحرية في بعض أشكالها!...
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) نسب هذا البيت في عيون الأخبار: ج3/ص16. إلى ابن الأعرابي.(1/242)
فقد تضيق البلاد بالمرء لذل يلاقيه فيها أو حزن يعاني منه نتيجة ضيق الخناق حوله، فيفكر في حل لواقعه فلا يجده إلا في الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، حيث يجد خلاصاً ما يعاني. وهذا ماسجله الشاعر عبد الله بن الحارث ابن قيس(1) القرشي في قوله:
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... تنجي من الذل والمخزاة والهون(2)
أنا وجدنا بلاد الله واسعة
ولا خزي الممات وغيب غير مأمون(3)
فلا تقيموا على ذل الحياة
فالشاعر هنا كان يستهدي في قوله أي الذكر الحكيم التي تدعو إلى الهجرة من دار الكفر بالدين والعزة والحرية، كما في قوله تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم... قالوا: فيما كنت؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها } (4) ؟!..
فالقرآن هنا يعالج نفوساً بشرية، ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها، وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص.(5)
أما السياق الشعري في مواجهة الهجرة، فجانبه الإيجابي لا يملك المعاصرة إذا كانت المواجهة في مقدور من يعاني من الذل والمخزاة والهون ممكنة الوقوع.
ووجه الاختلاف بين الهجرة التي دعا إليها القرآن، والهجرة التي دعا إليها الشاعر، أن الأولى هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، هجرة بالدين والإيمان والثانية هجرة الحرية ودعوة إلى استبدال العزة بالذل والكرامة بالخزي والهون. وهي قريبة من دعوة الشنفرى إلى الرحيل عن موطن الذل والهوان في قوله(6) :
__________
(1) وهو الشاعر المعروف بالمبرق، لبيته الذي يقول فيه:
إذا أنا لم أبرق فلم يسعنني ... من الأرض بر ذو قضاء ولا بحر
(2) في السيرة:
1@ي في الممات وغيب غير مأمون
(3) ناقصة من الأصل.
(4) سورة النساء، الآية 97.
(5) في ظلال القرآن: ج2/ ص 500.
(6) أمالي القالي: ج1، ص 155، الطبعة الثانية، وهناك شك في نسبتها إلى الشنفرى لكنها في الباب الذي نتناوله على حل حال.(1/243)
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى أهل سواكم لأميل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
روح المغامرة هذه تخلص المرء من المضايقات التي تحيط به، بدرجة قدرها ثلاثمئة وستون من المئة دون أن يجد منفذاً ومخرجاً مما هو فيه، ولاشك أن المنجاة مطلوبة هنا، فتكون إيجابة هذه الدعوة أنها تعزز فكرة الهجرة طلباً للأفضل وخلاصاً من الشر.
وقد يكون العجز والضعف والهوان مسيطراً على المرء ولا يشعر بميل إلى الهجرة تجاه بنفسه من كل هذه المعوقات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
وربما كانت الحاجة الاقتصادية ماسة، وهناك ضرورة في الرحيل لكن المرء لا يجد مشجعاً أو دافعاً على الهجرة في سبيل التماس الغنى والتخلص من العوز. هذه الظاهرة السلبية تحتاج إلى نوع من الشعر يبددها، ويولد قدرة في المرء وطاقة إيجابية كبيرة وقد ذكر أبو حيان التوحيدي بيتاً من هذا الشعر جاء(1) فيه:
فَسِرْ في بلاد الله والتمس الغنى ... تعشّ ذا يسار أو تموت فتعذرا
وقد ذكر أن هذا البيت قد بيَّتَ أكثر من مئة ألف في المساجد(2) وهو يريد أن الناس يضربون في الأرض من أجل المال فينامون في المساجد.
في نهاية هذا الموضوع، نشير إلى أننا تحدثنا عن أكثر الخواطر والأفكار التي كانت تصور مظاهر العقلية الجاهلية عن حلم وحكمة ودعوة إلى العلم والفلسفة. فقد استمرت هذه القيم على شاكلة، خطرات فلسفية مبثوثة في كثير من دواوين الشعراء الإسلاميين.
__________
(1) البصائر والذخائر: ج2/ ص710/ والبيت فيعيون الأخبار ج1/ ص 243 غير منسوب وقبله:
إذا المرء لم يكسب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لاقى الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاًّ وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا
وما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من الناس إلا من أجد وشمرا
فلا ترضى من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان مُعْسِرَا
(2) البصائر، والذخائر: ج2/ص710.(1/244)
إلا أن الجديد في بعض هذه الخطرات عند بعض الشعراء، هو جمعه بين الحلم والإسلام، فيعتبرهما وازعاً مشتركاً للإنسان، وقد أنشدوا في هذا قول كثير عزة(1) :
وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيِّم
بصائر وشد للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم.
وهذا يذكر بالقاعدة التربوية الناجحة في غرس القيم الفاضلة، والأخلاق الصادقة عن طريق التعلم، فليس المرء يولد عالماً.
ومن هذا الجديد في تقوية قيمة جاهلية ما أشاعه الإسلام في نفوس أتباعه من بر ورحمة بالأهل والأصحاب، فتناثر الشعراء بما جاء في مثل هذه القيم، وكانت خير معين لتقليم أظفار الضغن، وكان ممن ينحو هذا المنحى معن بن أوس المزدّي(2) ، مع قريب له أساء إليه إساءة كبيرة، وتصرف بطيش وسفه، وهو يكثر أشعاره في صفحة عن زلاته برأيه وطمعاً في إصلاحه، مع تجنيه عليه وتجرمه بحقه حتى أفلح، فقال(3) :
وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم
فما زلت في لين له وَتَعَطّفٍ ... عليه كما تحنو على الولد الأم
فمن غير شك أن الشاعر كان مشدوداً إلى المفاهيم القرآنية، باتخاذه هذا الموقف الداعي إلى البر بالأقرباء والصفح عنهم.
والحق ـ كما ذكرنا ـ وليس ثمة حاجة في العودة إليها، مادمنا لا نرى جديداً فيها، ويمكن للقارئ أن يعود إلى دواوين أشهرهن(4) ظهرت لديه هذه المفاهيم العقلية الإيجابية.
__________
(1) البيان والتبيين : ج1/ ص/197، الطبعة الأولى، القاهرة 1948م.
(2) انظر ترجمته في الأغاني : ج2/ ص54، طبعة دار الكتب، والإصابة: ج6/ص179، والخزانة، ج3/ص258.
(3) الأغاني: ج2/60، طبعة دار الكتب.
(4) انظر ديوان الهذليين، طبعة دار الكتب المصرية، وديوان معن بن أوس المزني، طبعة ليبزج، وشعر كعب بن زهير في الأغاني، ج15/ ص140. طبعة الساسي، وشعر سويد بن الصامت الأنصاري في أسد الغابة، ج2، ص 489-490/، طبعة دار الشعب، القاهرة 1970م.(1/245)
ولابد من الاعتراف بأن هذه القيم من المعاد المكرور الذي ترصع ببعض المفاهيم الإسلامية الجديدة، فإذا أحلنا إلى عمل بعض الشعراء فلن يكون في عملنا خلل، كذلك يفيد في هذا المنحى عمل بعض المفكرين المعاصرين.(1)
(
المناحي الاقتصادية
الأصل من القصد في المعيشة ألا يسرف الإنسان ولا يقتر(2) ، والاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها(3) .
ومن الملاحظ أن الحديث عن أي مذهب اقتصادي لأي مجتمع هو حديث عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشاكلها العملية(4) .
ـ بدايات الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية:
قد يكون بعض العلماء المسلمين دوّن دراسة عن النظم الاقتصادية أو عبّر عن الواقع الاقتصادي الذي كان سائداً بالنظم. ويحتمل أن تكون تلك المدونات قد اندثرت أو اختفت ولم يسمح لها بالظهور تحت تأثير قوة أو سطوة الأغنياء الحاكمين من أمراء وخلفاء، "وربما اتخذوا القهر وسيلة لذلك، أو لعلهم اتخذوا المال والعطايا يقدمونها للعلماء ليتحكموا في أقلامهم، ويسيطروا على
عقولهم(5) ".
وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعل ظهور علم الاقتصاد السياسي في الفكر العربي غير واضح، كما يجب أن يكون الوضوح في مثل هذه المسالة الدقيقة التي تحتاجها الأمة لتسعد بحياتها كلها.
__________
(1) انظر تاريخ الفلسفة في الإسلام. ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريده، طبعة لجنة التأليف، القاهرة.
(2) لاحظ المعاجم العربية، مادة قصد.
(3) اقتصادنا. محمد باقر الصدر، ص6: الطبعة الثالثة، بيروت 1969م.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) السياسة والاقتصاد في التفكير الإسلامي، د.أحمد شلبي، ص 21، الطبعة الثالثة، القاهرة.(1/246)
غير أن كثيراً من الشعر الذي تناول الاقتصاد أو دار حول الواقع الاقتصادي نجا من عبث العابثين، كما لم : يلفت نظر أولئك الذين اتخذوا القهر وسيلة للتحكم في أقلام العلماء. فجاء يعكس أحوال المجتمع الإسلامي الاقتصادي في أطواره المختلفة، وكان راصداً للتغييرات الاقتصادية منذ تكون الدولة الإسلامية على يد الرسول في المدينة المنورة.
ومهمة هذا الفصل تتمثل في الكشف عن المواقف والأفكار الاقتصادية الإيجابية من خلال هذا الشعر الاقتصادي كما يتناول بعض المواقف السلبية أيضاً، ولكن كيف بدأ الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية؟
تحدث القرآن الكريم عن اتصال العرب الاقتصادي بغيرهم من الأمم فقال: { لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } . فأحد هاتين الرحلتين كانت إلى الشام، حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس، وإذاً فهناك حركة تجارية، وهذا يشير إلى وجود الطبقية.
والقرآن يقسم العرب إلى فريقين، فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، وفريق المعدمين، وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين، وناضل عنهم، وذاد خصومهم، والمسرفين في ظلمهم"(1) .
فكانت مواقف الرسول الاقتصادية مبنية على معالجة الواقع الذي يجده بين يديه، فلا يدخر شيئاً من أموال المسلمين، للمسلمين، بل يوزع "الإيرادات التي ترده في الحال على المستحقين(2) وربما تغنى بها بعض من أصابته.
__________
(1) في الأدب الجاهلي، طه حسين، ص 76، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر، 1927م1.
(2) المصدر السابق ص 218.(1/247)
روى ابن الأثير(1) أن معاوية بن ثور قدم هو وولده بشر وافدين على النبي (ص) وكان قال لولده بشر: "إذا جئت رسول الله (ص) فقل ثلاث كلمات لا تنقص منهن ولا تزيد عليهن، قل: السلام عليك يا رسول الله، أتيتك يا رسول الله، لأسلم عليك، نسلّم إليك، وتدعو لي بالبركة". قال بشر: ففعلتهن، فمسح رسول الله (ص) على رأسي، ودعا لي بالبركة وأعطاني عنزاً عفراء (بيضاء)، فقال ابنه محمد بن بشر:
وأبي الذي مسح النبي برأسه ... ودعا له بالخير والبركات
أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا ... عفرا ثواجل لسن باللجبات(2)
يملأن رفد الحي كل عشية ... ويعود ذاك الملء بالعذرات(3)
وكان بعض الإبل والخيل والماشية يبقى لدى الرسول، فيجعلها في مراع خاصة لها(4) ".
ثم جاء أبو بكر فيما بعد، فصار ينفق موارد الدولة كلها أولاً بأول. فلما مات لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا ديناراً سقط من غرارة"(5) .
ثم جاء عمر بن الخطاب فأنشأ بيت المال على حكاية الماوردي(6) ، وفرض العطاء حين استدعى عقيل بن أبي طالب ومحزمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا نساب قريش، وقال لهم: اكتبوا للناس على منازلهم(7) . ثم توسعت العلاقات الاجتماعية، ونمت الطبقية بوسائل مشروعة وغير مشروعة، مما يدل أنها تجنبت التقيد بسمات الاقتصاد الإسلامي. وأمام هذه الحالة، كان لابد من المعالجة القرآنية السريعة المتمثلة بالمواقف القرآنية.
__________
(1) أسد الغابة: ج1/ ص 225، دار الشعب، القاهرة 1970م.
(2) لجبات : جمع لجبة: وهي التي قل لبنها.
(3) الرفد: القد الضخم.
(4) الأحكام السلطانية، للماوردي، ص 176.
(5) الآداب السلطانية، للفخري، ص 75.
(6) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 198.
(7) فتوح البلدان، البلاذري: ص 454. طبعة ليدن، 1866م.(1/248)
حافظ الإسلام على الملكية الفردية، إلا أنه حارب تكديس الثروة وجمعها في يد فئة قليلة عن طريق الزكاة، والتوريث، وتحريم كنز الأموال، وجعل العمل والميراث الطريقين المشروعين للحصول على المال. فالعمل ابتغاء من فضل الله كما في القرآن: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضله الله } (1) .
والميراث ساعد في توزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من الذرية كما في القرآن: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء، فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له أخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيما. ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة (2) أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله، والله عليم حليم(3) } .
وتحريم كنز الأموال واضح في قوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم(4) } .
__________
(1) سورة الجمعة، آية 6.
(2) الكلالة: من لا والد له ولا ولد.
(3) سورة النساء، آية 11-12.
(4) سورة التوبة، آية 34.(1/249)
وإذا حصلت الثروة من طريق الفيء في الحرب، فإن القرآن جاعل فيها حقوقاً للمستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك، فقال الله تعالى: "واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل(1) } .
والوصية عامل حيوي في التقليل من مساوئ تكديس المال كما في قوله تعالى: { فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين(2) } .
وقد علل الإسلام أسباب تشريعه السابق في توزيع المال بقوله تعالى: { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم(3) } . وبعد هذه المعالجة صار المال عند الناس على شاكلتين. نزر قليل لا يلبث أن يصرف في وجهه المشروع له،. وكثير متكدس لأمور مشروعة، وأخرى غير مشروعة. فالأمور المشروعة ما ورد من الفيء ومن الدولة وغير المشروعة ما حصلت بطرق ملتوية، فتضخم أمر الطبقة الغنية.
واجه بعض الشعراء الإيجابيين تلك الطبقة، ففضح طرقها غير المشروعة في الكسب وتساءل عن مصدر أموالها وطالب الخليفة بمحاسبتها وإعادة أموال الشعب المنهوبة إلى بيت مال المسلمين بوعي شامل وإحساس صادق. كما فعل عبد الله بن همام السلولي(4) .
ولكن هذه الأصوات الأدبية المناضلة ضد هذا الوضع، لم تكن قادرة على صد التسرب المالي الذي راح يشكل تجمعاً طبقياً.
كما لم تكن هناك حلول قريباً أو بعيداً، يعالج أوضاع ا لطبقة الفقيرة التي خلفها نهم الطبقة الأولى للمال. فيما بعد صار واضحاً تماماً وجود هاتين الطبقتين الاقتصاديتين.
__________
(1) سورة الأنفال: آية 41.
(2) سورة النساء: آية 12.
(3) سورة الحشر: آية 7.
(4) لاحظ المناحي الاجتماعية في العصر الإسلامي من هذا البحث.(1/250)
"الأولى تتألف من تلك الارستقراطية العربية من أصحاب الثروات الضخمة والإقطاعات الكبيرة، والضياع الواسعة، الذين تركزت في أيديهم ثروة الكوفة.. ومن أولئك الدهاقين الذين كانوا يمثلون الأرستقراطية الفارسية، والذين استطاعوا بإسلامهم في الوقت المناسب أن ينقذوا بقايا نفوذهم القديم.
وأما الأخرى فتتألف من تلك الكتلة الشعبية الضخمة من العرب الذين لم تتح لهم فرصة الثراء، ومن أولئك الموالي الذين كانوا في ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة، ومن أولئك الأجانب الذين لم يقتنعوا بالإسلام، وإنما قبلوا دفع الجزية في نظير احتفاظهم بديانتهم السابقة(1) ".
وفي البصرة أيضاً وجد قوم ملكوا الأرض واقتنوا القصور وجمعوا المال الكثير منذ أيام عمر بن الخطاب. وقد سأل عمر أنس بن جحية عن مسلمي البصرة، فقال له: "لقد انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة(2) ". ومن الواضح أن وجود هاتين الطبقتين لم يكن مفاجئاً. فقد تحدث القرآن عن المسرفين الذين لا يحبهم الله من أبناء الطبقة الثرية، ونهى عن الإسراف فقال: { ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين } (3) . كما دعا إلى إنقاذ الطبقة المعدمة اللاصقة بالتراب لشدة عوزها وحاجتها، فتحدث عن المسكين ذي المتربة.(4)
وهكذا وجد الشعراء أنفسهم أمام مفاهيم خطيرة تجتاح حياة الأمة الجديدة، فأدرك بعضهم واجبه تجاه الواقع الجديد، وقال في أغراض شعرية جديدة
__________
(1) خليف، يوسف، حياة الشعر في الكوفة، ص 471، القاهرة 1968م.
(2) محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري: ج4/ص151. طبعة مصر.
(3) سورة الأعراف: آية 31.
(4) لاحظ سورة البلد في القرآن الكريم.(1/251)
فسجل الأحداث الاقتصادية السلبية وفضحها، فكان سجلاً خالداً في هذا المضمار. وقد أثبت الشعر الاقتصادي الإيجابي أنه كانت تقوم بين الطرفين علاقات اجتماعية لا تخلو من القهر نتيجة للتضامن الكبير بينهما، كما أن هذا الفرق الكبير كان يثير في نفوس كثير من المعدمين المرارة والألم. فيعبرون عن هذا الإحساس بصورة أدبية إيجابية، وأحياناً يلجأ بعضهم إلى أسلوب سلبي قائم على الاستكانة والاستجداء والاستعطاف.
ولا نشك أن الأسلوب الإيجابي الذي يدعو إلى التغيير، ويعمق الإحساس بالفوارق، ويدعو إلى التثوير، هو أسلوب نقدي ثوري يشبه إلى حد كبير مذاهب النقاد والأدباء الثوريين في عصرنا(1) كما أن الأسلوب السلبي القائم على الاستعطاف، يشبه إلى حد كبير مواقف الأدباء والمفكرين الإصلاحيين في بداية هذا القرن(2) وقد تكون الشواهد الشعرية السبيل الأوضح إلى النفوس، ونحن نحاول إثبات هذا السجل الأدبي والتاريخي بين السلب والإيجاب.
كان أصحاب المفاهيم الاقتصادية السلبية من الشعراء يظهرون مواقفهم من خلال الحديث عن همومهم الفردية والشكوى من الفقر، فيستجدون ويستعطفون، ويجعلون من وصف حالهم وسيلة للحصول على المال فينحازون إلى مواقع السلطة، ومكامن الثروة يبحثون عن حلول لديهم تخلصهم من الفقر والعوز. وربما لجأ الواحد منهم إلى التهريج والسخرية فيضحك الناس منه، دون مبالاة مادامت النتيجة هي الحصول على المال، كما في قول الحكم بن عبدل الأسدي(3) ، وهو يمدح بعض أجواد الكوفة مستجدياً(4) :
يا أبا طلحة الجواد أغثني ... بسجال من سيبك المقسوم
__________
(1) لاحظ التزام الشاعر برسالة اجتماعية، محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، ص 397، القاهرة، الطبعة الرابعة 1970م.
(2) أمثل: لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد عبده.
(3) انظر ترجمته في الأغاني ج2/ ص404-426، طبعة، دار الكتب.
(4) الحيوان، للجاحظ، ج5/ 297-299.(1/252)
أحي نفسي ـ فدتك نفسي ـ فإني ... مفلس ـ قد علمت ذاك ـ عديم
أو تطوع لنا بسلف دقيق ... أجره ـ إن فعلت ذاك ـ عظيم
قد علمتم -فلا تقاعس عني ـ ... ما قضى الله في طعام اليتيم
ليس لي غير جرة وأصيص ... وكتاب منمنم كالوشوم
وكساء أبيعه برغيف ... قد رقعنا خروقه بأديم
وأكاف أعارنيه نشيط(1) ... ولحاف لكل ضيف كريم
رث حبلي فقد ذكرت أصيصي ... ولحافي حتى تغور النجوم
ولم يمض ا بن عبدل إلى نهاية الشوط في استجدائه، فراح يضع يده على أسباب هذا التفاوت الطبقي الكبير، فينتقل من السلبية إلى حالة من التحرك الإيجابي غير الفعال، فيتجه إلى الطبقة الأرستقراطية يصب سياطه اللاذعة عليها، ولا يوفر منها أحداً.
ولكنه لا يرى في هجائه لهم جهاداً أمام أبناء طبقته، ويفعل ذلك انتقاماً لشخصه بعد أن سألهم فلم يعطوه. وهكذا تنقل المشكلة من إطارها الجماعي العام إلى إطارها الفردي الخاص بوعي قاصر لم يبصر المشكلة في إطارها الحسي الاجتماعي، واكتفى بجعلها هموماً فردية، تفرغ التذمر من روح المجاهدين من أجل الحق والعدل.
هنا ويمضي شعراء آخرون يدعون إلى الثورة الشاملة التي تنهي مظاهر الظلم الاجتماعي، وينهجون في شعرهم منهج الواقعية الثورية. يلتزمون قضايا المجتمع في رؤيا الاشتراكية، ترى الحياة في حركتها التاريخية الثورية، وتدرك ارتباط الظواهر الاجتماعية بالبناء العام للمجتمع.
__________
(1) نشيط: اسم رجل.(1/253)
وقد مثل هذا التيار الشاعر الثائر عبيد الله بن الحر(1) الذي "كان شجاعاً فاتكاً لا يعطي الأمراء طاعة"(2) ، وكان يوجه جهده وجهد أصحابه إلى بيوت المال في الأقاليم الإسلامية المختلفة ينهبها ويستولي على مافيها، ثم يوزعها على أصحابه الصعاليك الذين كان يقول عنهم: إنهم "بطانتي وأصحابي وإخواني اتقي بهم أن نابني أمر، أو خفت ظلامة من أمير جائر"(3) .
أدرك ابن الحر عقم صيحات الاستجداء والاستعطاف، فانطلق ثائراً اقتصادياً ينظر إلى الواقع الاجتماعي الفاسد، ويدرك سوء توزيع الثروة الذي أوجد واقعاً اقتصادياً فاسداً كذلك، فكان لابد أن يثور بهؤلاء الفقراء على أصحاب الأموال الطائلة من الأمراء والولاة. وقد كان فهم بعض الباحثين(4) لهذا قاصراً حين رأى فيه نزعة أرستقراطية.
إن شعر عبد الله يصور إحساس الفقراء الذين ينتمون إلى الطبقة الدنيا، ويحفل بآلام الشقاء والفقر. وقد مثَّل هذا الإحساس باندفاعة ثورية قاد فيها جموع الفقراء، وتطلع إلى علاقات جديدة تنتفي فيها صور القهر، ولجأ إلى القوة في سبيل تغير الواقع الفاسد وإيجاد المجتمع الجديد، ولم يبالِ بالموت في سبيل الوصول إلى الأهداف، السامية دون وجل أو خوف، وكان يقول:
تخوفني بالقتل قومي، ولما ... أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدنى بأطرافها الغنى ... فنحيا كراماً نجتدي ونؤمل
ألم تر أن الفقر يزري بأهله ... وأن الغنى فيه العلي والتجمل
وأنك إن لا تركب الهول لا تنل ... من المال ما يرضي الصديق ويفضل(5)
__________
(1) انظر أخباره في : أنساب الأشراف، للبلاذري، ج5/ 290، (طبعة القدس 1936).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) خليف، يوسف: حياة الشعر في الكوفة، ص 483.
(5) البلاذري، أنساب الأشراف: ج5/ص296.(1/254)
وقد كان مؤمناً بآية السيف، وأنها الطريق الصحيح لإعادة الحق إلى أصحابه بعد أن فرغت آية القلم من مضمونها، ولكنه كان يشكو قصر الوعي الثوري في أصحابه، فكان يتمنى لو أن لديه أربعة رجال مثل صلابة رفيقه جرير لكان هاجم بيت المال وخلّصه من مصعب بن الزبير وأعاده إلى الناس:
لو أن لي مثل جرير أربعه
صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن معه(1)
ويفتخر بنزعته التي تقوم على العدالة والاشتراكية، فالمغنم قسمة حقه بين أصحابه(2) :
إذا ما غنمنا مغنماً كان قسمة ... ولم نتبع رأي الشحيح المتارك
هذان موقفان متناقضان من الطبقتين المتناقضتين. الأول سلبي مثله ابن عبدل. والثاني إيجابي مثله عبيد الله ابن الحر.
ولابد من الاعتراف بخيبة الأمل التي ظهرت فيما بعد عند الذين تأملوا نجاح التيار الإيجابي، حيث كان مؤلماً ألا ينجح هؤلاء في إيجاد المجتمع الذي كانوا يناضلون من أجله.
وربما كان لهذا الإخفاق كثير من الأسباب في طليعتها تبديد القوة المادية، وعدم عقد مؤتمرات مشتركة لأصحاب الحق الموزعين في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، لدعم القوة الفكرية. كذلك يلاحظ أن الظروف التي كانت البلاد الإسلامية تمر بها لم تكن مساعدة لقيام تلك الأفكار في مؤسسات شرعية، ولاسيما بعد أن أجهضت حركاتها أكثر من مرة في أكثر من إقليم إسلامي.
وهناك مواقف أخرى أكثر دقة اتخذها الشعراء من الواقع الاقتصادي والسياسي، أهمها:
ـ تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي.
ـ فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات.
ـ مقاومة سياسة الولاة الاقتصادية الفاسدة ورفضها.
- تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي:
__________
(1) المصدر السابق: ص 297.
(2) المصدر السابق: ص 292.(1/255)
أدى ذلك الكيان الطبقي المتناقض إلى إيجاد إفرازات ضارة بالفقراء أهمها تلك التي خلخلت كيان الأسرة. فأمام الغنى الفاحش، مثل الفقر بقامته الهزيلة فارتعدت فرائض النسوة الفقيرات وهن يشاهدن نساء القصور بوفر نعيم وعيش حلو عميم، فتعمق لديهن الإحساس بالبؤس والشقاء. وصار بعضهن يرغب بتغير زوجه ليتخلصن من الفقر، فتصدع كيان الأسر وتمزقت العواطف الإنسانية.
وعلى ما يبدو فإن هذه الظاهرة انتشرت بوقت مبكر، فقد اهتز كيان أسرة الصحابي سعيد بن زيد(1) زوج فاطمة بنت الخطاب وتعرض لهذا الأذى المنتشر حين صوره في قوله(2) :
تلك عرساي تنطقان على عَمْدٍ لـ ... ي اليومَ قولَ زُوْروَ(3) هتْرِ
سألتاني الطلاق أن رأتا ما ... لي قليلاً؛ فقد جئتماني بُنكْرِ
فلعلّي أن يكثر المال عندي ... ويُعَرَّى من المغارم ظهريَ
ويلتفت من التمني إلى واقع ماثل أمامه، فيرسم صورة لأمانيّه المستقبلية تعكس لنا الواقع البيتي للطبقة الغنية التي ترفل بأثواب النعيم حيث العبيد والنساء المناصيف، والخير العميم مما يسر وتطرب له النسوة فيرضين:
وتُرَى أعبدٌ لنا وأواقٍ ... ومناصيف من خوادم عَشْرِ(4)
ونجرُّ الأذيال في نعمة زَوْ ... لٍ تقولان ضع عصاك الدَّهْرِ
ويجنّب سرَّ النَّجيَّ ولكنَّ أخا الـ ... ـمال مُحْضَرٌ كلَّ سرِّ
وَيْ كَأنَّ من يكن له نْشَبٌ يحبّـ ... ـب ومن يفتقر يعش عيش ضُرِّ
__________
(1) وهو سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل صحابي قديم، كان زوج فاطمة، أخت عمر بن الخطاب، وفي بيته أسلم عمر. والأبيات تروي حيناً لسعيد وحيناً لولده وتروي كذلك لنُبَيه بن الحجاج كما في الخزانة وشرح أبيات الكتاب للشنتمري ج2/ص170.
(2) البيان والتبيين ، ج1/ ص235، الطبعة الأولى، القاهرة 1948م.
(3) الهتر: الكذب والخطأ.
(4) المناصيف جمع النَصَفَ بفتحتين، المرأة التي بين الحَدِثَةِ والمُسنَّة ورجل نَصَفَ أيضاً.(1/256)
وَالحق أن هذه الأبيات تدل على وعي الشاعر القاصر أيضاً، فقد رأى أمامه واقعاً طبقياً غير صحيح، فلم يتجه الوجهة الثورية المطلوبة، فيرفع صوته محتجاً، ويعلوبه في الأرضين من حوله يثير الناس، ويعمق إحساسهم كما فعل أبو ذر الغفاري (رض)، بل استسلم للواقع كما هو، وراح يتمنى أن يصل إلى المراتب المادية العليا وهو يعالج تمرد نسائه عليه. في حين كان عليه ـ وقد سألتاه الطلاق لقلة ماله ـ أن يفعل، فما قامت بيوت عمادها المال وحده.
ويبدو أن أثر الاحتكارات المالية والغنى في تمزق أواصر الأسر الإسلامية كان واضحاً. فعلى مدى حكم الخلفاء الراشدين والأمويين كانت تلك المواقف تتكرر.
كما يلاحظ أن الغزوات، وما خلفته من مغانم وفيء لم تمح تلك المفاهيم، وكانت سلبيات التناقض الطبقي تظهر دائماً بنفس الآليّة تقريباً، ولنستمع معاً إلى هذا الحوار بين أعشى همدان وزوجه(1) :
قالت تعاتبني عرسي وتسألني ... أين الدراهم عنَّا والدنانيرُ
فقلت: أنفقتها والله يخلفها ... والدّهر ذو مرّة عُسْرٌ ومَيْسُورُ
إِنْ يُرزقِ الله أعدائي فقد رُزِقَتْ ... من قبلهم في مراعيها الخنازيرُ
قالت فرزقك رزق غيرُ مُتّسع ... وما لديك من الخيرات قطميرُ
وقد رضيتَ بأن تحيا على رمقٍ ... يوماً فيوماً كما تحيا العصافير(2)
ولم يقف أثر المال في إفساد العلاقات الأسرية فحسب، فقد ظهر هذا الأثر السلبي في بروز ظاهرة النفاق للأغنياء.
بيّن بعض الشعراء كيف يحبّ الناسُ الأغنياء، وإن كانوا بخلاء لا خير فيهم يرتجى، قال سَلَمَة بنُ زيد بنِ وهب الفهري(3) :
__________
(1) عبد الرحمن بن عبد الله بن جشم الهمداني: شاعر اليمانيين، بالكوفة، من شعراء الدولة الأموية، ومن الغزاة، قتله الحجاج أيام ثورة عبد الرحمن بن الأشعث حين انحاز إليه، الأعلام ج4/ص84.
(2) الحيوان، للجاحظ: ج7/ ص62. طبعة الحلبي.
(3) لاحظ أخباره، في تاريخ الطبري: ج3/ص421.(1/257)
رأيتُ الناس مُذْ خُلقوا وكانوا ... يحبّون الغنيَّ من الرجالِ
وإن كان الغنيُّ قليلُ خيرٍ ... بخيلاً بالقليلِ من النَّوالِ
فما أدري علامَ وفيمَ هذا ... وماذا يرتجونَ من البِخالِ(1)
أللدّنيا؟ فليس هناك دنيا ... ولا يُرْجَى لحادثة الليالي(2)
وقد لا يصدق المرء أن كثيراً من الغازين كانوا يندفعون إلى القتال طمعاً في مال يصيبونه. لا جهاداً أو حباً في الجهاد. فبعض المقاتلين يفضح نواياه بذاته وهو يبكي على المهلب بن أبي صفرة حين مات ، والحقيقة أنه يبكي المغانم والمكاسب التي فقدها، بموت المهلب فيبكيه بكاء علاقةٍ متعدَّيةٍ يوضحها نهار بن توسعة التميمي(3) بقوله:
ألا ذهبَ الغزو المقرِّبِ للغنى ... ومات النَّدى والجود بعد المهلّب
أباحَ لنا سهلَ البلادِ وحزنَها ... بِخَيْلٍ كأرسالِ القطا المتسرِّبِ
ولاشك أن هذا الشعر وأمثاله وثيقة تكشف عن سلبيات أصحابه الذين اندفعوا إلى القتال تحت تأثير حب المال، وما يرونه من تناقض طبقي كان يحثهم على القتال مغيرين الوجهة الحقة التي يقاتل من أجلها المسلم عادة.
وليس هذا جديداً على المبصرين، كما أنه معروف قديماً لدى المسلمين المنصفين. ومن طريف هذا الأمر ما قاله رجل يسمى ابن ظبيان(4) . وقد مر بابنة مطرف(5) بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيكِ فقالت في سبيل الله أبي(6) ، فقال:
فلا في سبيل الله لاقى حمامه ... أبوك ولكن في سبيلِ الدَّرَاهِمِ
__________
(1) البخال: ج.بخيل: ج3/ص 421.
(2) تاريخ الطبري: ج3/ ص 421.
(3) لاحظ أخباره في تاريخ الطبري: ج6/355 ومابعدها.
(4) لاحظ أخباره في تاريخ الطبري: ج6/ ص160.
(5) مطرّف بن سيدان الباهلي، ولي لمصعب بن الزبير.
(6) تاريخ الطبري: ج6/ص 160.(1/258)
ونقف على كثير من النصوص الشعرية والنثرية التي تثبت أسباب الغزو الاقتصادية بعيداً عن الأسباب الدينية، ولطالما كتب الحجاج بن يوسف إلى المهلب أو ابنه يزيد يريد منهما غزو ناحية معينة لخيراتها. وقد كتب مرة إلى يزيد بن المهلب أن اغزو خوارزم، فكتب إليه: "أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب"(1) .
كما كان قتيبة بن مسلم الباهلي قد أباح نهب البلاد التي ذهب فيها غازياً، فدّون الشعر وثائق إيجابية تفضح سلبيات المطامع المادية التي أبعدت الغازين عن صلب معتقدهم، وأنستهم أنهم مبشرون وليسوا خازنين. وقد عبر كعب الأشقري عن واقع قادة الجند الذين ينطلقون تحت رايات المطامع المادية يزيدون أموالهم كل يوم، ويمزقون أواصر المجتمعات البشرية بدعوى الريادة الدينية!..(2) قال:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموالَ مالاً جديدَا
دوّخَ السُّغْدَ بِالكتائبِ حتى ... ترك السُّغْدَ بالعراءِ قعودَا
فَوَلِيْدٌ يَبكي لِفَقْدِ أبيهِ ... وأَبٌ مَوْجَعٌ يُبكّي الوليدَا
كلما حلَّ بلدةً أو أَتاها ... تَرَكَتْ خيلُهُ بها أخُدْودَا
وقد عالج هذه المسألة كثير من الباحثين، ونفى بعضهم(3) أن يكون المال وراء الفتوح، مدعياً أن النزعة الروحية أقوى فيهم من النزعة المادية.
ولعل تتبع الخيط الاقتصادي من أول نشوء الدولة الإسلامية يفنّد الرأي العاطفي الذي سلكه الباحث. وقد صار واضحاً أن السبيل الذي سلكناه في إظهار أثر المال في إيجاد انحرافات فكرية قد كشفها الدور الإيجابي الذي لعبه الشعر الاقتصادي بقصد من الشعراء، أو دون قصد. ولاشك أن اعتراف الباحث نفسه بالأثر المادي واضح في قوله: ولكن المادة على كل حال كان لها تأثير قليل أو كثير فيهم".(4)
__________
(1) المصدر السابق ، ص 391.
(2) المصدر السابق ص 480، وتنسب الأبيات لرجل من جعفي، أيضاً.
(3) لاحظ التطور والتجديد في الشعر الأموي، شوقي ضيف ص 118.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/259)
وقد لا يصدق المرء أحياناً المبالغ الخيالية التي جمعها بعض من أفاد من الحروب، كأن تصل ثروة أحدهم إلى "ألف ألف(1) ألفي ألف".
وهكذا عمّق الوجود الطبقي التناقضات الاجتماعية وجرف الناس بعيداً عن الروح الإسلامية الحقة تحت تأثير المال. فانتشر الظلم، وفقد العدل(2) ، وكان الذين أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج والعصبية العربية، مما دفع عمر ابن عبد العزيز أن يكتب إلى والي خراسان جملته الشهيرة: "إن الله بعث محمداً (ص) داعياً ولم يبعثه خازناً"(3)
فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات:
الخراج والصدقات نظام السياسة الاقتصادية في الإسلام لحفظ التوازن بين الطبقات، فعن طريق الإتاوة (الخراج) والصدقة(الزكاة) تكفل الدولة مبدأ التوازن الاجتماعي. فالدولة الإسلامية "تكون مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين، بقطع النظر من الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم"(4) .
وقد حمّل القرآن ولي الأمر مسؤولية الإعالة والإنفاق مبيناً المصارف، ومُصْدِرَاً "حكماً عاماً في الصدقة بجميع أقسامها، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز والمعوز لأنه ضرب في الصدقة".(5)
فقال تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم(6) } .
__________
(1) تاريخ الطبري: ج6/ص 379.
(2) تاريخ الطبري: ج6/559.
(3) المصدر السابق نفسه: والرواية الأخرى "خاتنا".
(4) اقتصادنا، محمد باقر الصدر. ص/618. دار الفكر ـ بيروت ـ بلا تاريخ.
(5) المصدر السابق ص /619.
(6) سورة التوبة: الآية/60.(1/260)
وقد حمَّل الوالي مسؤولية توزيع هذه الأموال، قال الإمام موسى بن جعفر بشأن تحديد مسؤولية الوالي في الأموال: "إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له، على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين، يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق، ولا تقية. فإن فضل من ذلك شيءٌ، رد إلى الوالي، وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، كان على الوالي أن يمونهم من عنده، بقدر سعتهم حتى يستغنوا"(1) .
وهذا الموضوع واسع بابه، ولكن المهم فيه أن نعرف دور الدولة في المحافظة على التوازن الاجتماعي، وأن نعرف أيضاً، مواقف الشعراء من الولاة الذين لا ينفذون إرادة الإسلام في المحافظة على هذا التوازن الاجتماعي وحين ينحرفون عن التعاليم السماوية.
وقد تخلَّى ولاة الخلفاء عن هذا النظام الاقتصادي، فدخله اضطراب كثير. فمن جهة كثرت الإقطاعات للولاة والعمال وزعماء العرب(2) .، ومن جهة فرض على الناس كثير من الضرائب الاستثنائية، وكان الولاة يتفننون في ذلك، فتارة تفرض باسم أجور عمال الخراج، وتارة تفرض باسم نفقات العقود وسك النقود وغير ذلك، من تذرع بقوة الجيش وحاجة صاحبه من المعونة(3) .
وقد استنفذ بعض الشعراء فرص التذكير بما جاء في الإسلام، وعلم أن فرائص القوم لم تعد ترتعد خوفاً من الله كما كان الأمر أيام الرسول (ص) وأيام أصحابه الأوائل وأن فرائصهم ترتعد خوفاً من التشهير، فلجأ بعضهم إلى الشعر، يرفع به صوت المقهورين، ويفضح سوء تصرف الولاة الظالمين.
__________
(1) اقتصادنا، محمد باقر الصدر. ص/627.
(2) لاحظ: فتوح البلدان، للبلاذري ص /361 وما بعدها. فضل طريف عن إقطاعات البصرة أعطى منها لزعماء العرب وولاة العراق.
(3) تاريخ الطبري ج6 ص /301.(1/261)
هذا عبد الله بن همّام السلولي(1) يفضح الولاة والقادة الذين يأكلون أموال الشعب، ويطاردهم في كل مكان متجهاً اتجاهاً واسعاً يأخذ على عاتقه كشف الظلم والزيف، يقف مع الشعب، ولا يهمه الحزب والحاكم سواء أكان زبيرياً أم أموياً، ولا يرى والياً ظالماً سارقاً إلا ويجب أن يقف بوجهه ويفضحه. وله في هذا المجال مواقف إيجابية مشرفة.
فقد فضح ولاة وعمال خراج المنطقة الشرقية من دولة ابن الزبير، كما أثار نقمة الشعب عليهم، وذكره بأن عماله لصوص يستولون على قوت الشعب ومقدراته، يحتكرونه ثم يبيعونه للتجار، ويقتسمون مال الخراج فيما بينهم، ويصرفون تلك الأموال المنهوبة على ملذاتهم وشهواتهم. ويظهرون الورع والتقوى ويغتصبون حق الشعب، ثم يقدم كشفاً اجتماعياً واقتصادياً بحالهم قبل توليهم وبعده مظهراً المفارقة الكبيرة متسائلاً عن مصدر غناهم، وبعد ذلك يفضح أسماءهم ومواقفهم، ويطالبه بمعاقبتهم، ليعترفوا بكل شيء نهبوه أو سلبوه، يقول(2) :
يابن الزّبير أمير المؤمنين ألم ... يبلغك ما فعل العمال بالعَمَلِ
باعوا التّجار طعام الأرض واقتسموا ... صلب الخراجِ شحاحاً قسمة النَّفَلِ
وفيك طالب حق ذو عوانيةٍ ... جلد القوى ليس بالواني ولا الوَكَلِ
اشدد يدك بزيد(3) إن ظفرت به ... واشف الأرامل من دحروجة الجُعَلِ(4)
إنَّا مُنينا بضبٍّ(5) من بني خلفٍ ... يرى الخيانة شرب الماءِ بالعَسَلِ
__________
(1) انظر أخباره في نهاية الأإرب ص /278، وجمهرة الأنساب ص / 262، والشعر والشعراء ص /248.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري ص 191 وما بعدها طبعة بيت المقدس.
(3) دحروجة الجعل: عامر بن مسعود والي الكوفة لابن الزبير، وزيد مولى وكان خازناً لدحروجة الجعل.
(4) زيد: مولى لعتاب بن ورقاء وكان خازن دحروجة الجعل.
(5) الضب : الذي قصده هنا هو دحروجة الجعل نفسه.(1/262)
يلاحظ المرء كيف بدأ الشاعر قصيدته بنداء ابن الزبير وبالاعتراف به أميراً للمؤمنين وما هذا إلا ليشعره بعظيم الجريرة التي يرتكبها عماله من جهة وليشعره بضرورة المحاسبة القاصمة التي بدأ يجرد لها كثيراً من العمال، ثم يحث الخليفة على إنزال العقاب بهم:
خُذِ، العُصَيْفِيْرِ فانتف ريش ناهضيهِ ... حتى ينوءَ بشَّرٍ بعد مُقْتَبَلِ(1)
وما أمانة عتّاب(2) بِسالمةٍ ... لا غمز فيها، ولكن جَمَّة السُّبُلِ
وقيس كندة(3) قد طالت إمارته ... بِسُرَّةِ الأرضِ بين السهلِ والجبلِ
وخُذْ حُجَيراً(4) فأتبعه محاسبةً ... ومن عَذَرْتَ فلا تعذر بني قَفَلِ
ما رابني منهم إلا ارتفاعُهُمْ ... إلى الخبيص عن الصحّناة والبَصَلِ(5)
ثم يكشف المفارقة بين من يغزو ويعرض نفسه للموت دون أن يصيبه شيء، ومن يلتصق بالأرض لا يبرحها، تأتيه الأموال وهو متكئ وذلك ليعمق إحساس الجماهير بالمظالم السائدة، فيقول:
وما غلامٌ على أرضٍ مسالمةٍ ... كَمَنْ غَزَا دستبنّى(6) غير مُجْتَعَلِ
يُجبى إليه خراجُ الأرضِ متّكِئَاً ... مُسْتَهْزِئَاً بِغناءِ القينة الفُضُلِ(7)
والوالبيّ الذي مهرانُ أمّره ... فزالَ مهران مذموماً ولم يزُلِ(8)
__________
(1) العصيفير: هو عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن لابن الزبير.
(2) عتّاب: هو عتاب بن ورقاء الرياحي، الجواد المشهور.
(3) هو قيس بن يزيد بن عمرو بن شراحبيل الكندي.
(4) هو حجير بن حجار بن الحر، كان عاملاً على الزوابي. وبنو قفل من تيم بن ثعلبة. وكانوا على صدقات بكر.
(5) الصّحناة: طعام يتخذ من صفار السمك.
(6) دستبنى: كورة كبيرة في فارس بين الري وهمذان.
(7) القينة الفضل: التي تلبس ثوباً واحداً كأنها مبتذلة.
(8) هو سعيد بن حرملة الكاهل الوالبي. ومهران: مولى لزياد وهو الذي جعل الوالبي في عداد العمال.(1/263)
ودونك ابن أبي عُشٍّ وصاحبَه ... قبل السبُّيعِ فقد أجرى على مَهَلِ(1)
لا تجعلن مالَ بيت المالِ مأكلةً ... لكل أزرقَ من هَمْدَانَ مُكْتَحَلِ
ومنقذُ بنُ طريفٍ من بني أَسَدٍ ... أُنْبِئْتُ عاملهم قد راح ذا ثَقَلِ(2)
وما أُخَيْنَسُ جُعْفِيُّ بمانعهِ ... من المتاعِ قيامُ الليلِ بالطَّوَلِ(3)
دعوة إلى إنقاذ بيت المال، وكشف لأولئك الذين يتظاهرون بالورع دون أن يمنعهم ورعهم من الخيانة، ومتابعة كاملة لكل اللصوص من العمال، ولنستمع إلى بقية العريضة الفاضحة، يقول:
وآخران من العُمَّالِ عندهما ... بعض المَنَالةِ إِنْ تُرْفِقْ بها تَنَلِ
محمد بن عُمير والذي كَذَبَتْ ... بكرٌ عليهِ غداةَ الرَّوْعِ والْوَهَلِ(4)
وما فراتٌ وإن قيل : امرؤٌ وَرِعٌ ... إن نالَ شيئاً بذاكَ الخَائِفِ الوَجِلِ(5)
والحارثيُّ سيرضى أن تقاسمه ... إِذا تجاوزتَ عن أعمالهِ الأُوَلِ(6)
وادعُ الأقارعَ فاقرعهم بداهيةٍ ... واحمل خيانةَ مسعودٍ على جَملِ(7)
كانوا أَتَوْنَا رِجالاً، لا ركابَ لهم ... فأصبحوا اليومَ أهلَ الخيلِ والأبلِ
لن يُعْتِبُوكَ ولما يَعْلُ هامَهُم ... ضَرْبُ السّياط وشدٌّ بعدُ في الحُجَلِ(8)
إن السّياط إذا عضت غواربَهم ... أَبْدَوْا ذخائرَ من مالٍ ومن حُلَلٍ
ولا يكتفي الشاعر بفضحهم بل يدعوا إلى إنزال العقاب الصارم بهم. فضرب السياط، وشد الحجول في السجون كفيلان بإخراج ما سرقوه من مال وحلال.
__________
(1) ابن أبي عش والٍ بالثغور، وصاحبه، عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمذاني.
(2) منقذ: هو نعيم بن دجاجة، وكان على أسفل الفرات.
(3) زفر بن قيس: وقيل هو محمد بن أبي سيرة وكان على جوخى.
(4) محمد بن عمير بن عطارد أحد أجواد العراق المشهورين وصاحب بكر بن زيد بن رويم.
(5) هو فرات بن زفر، قتله المختار يوم السُّبَيع.
(6) الحارثيُّ هو السرّى بن وقاص: والي نهاوند.
(7) مسعود أحد عمال بني أسد.
(8) الحجل: جمع حجل:وهو القيد.(1/264)
إن شخصية الشاعر هنا تمثل شخصية البطل الإيجابي الثوري، وصوته صوت إيجابي يقابل الأصوات السلبية الراضخة تحت مطامعها، وهي عارفة كل ما يجري، ولكنها فضلت السكوت مدة ثم تجاوزت سكونه إلى ضجيج القصور مادحة كاذبة.
ولاشك أنه قد تجسدت في هذه القضية وأمثالها مطامح الفقراء الذين كانوا يريدون القبض على سارقي قوت الشعب، ومحاكمتهم ولكنهم لا يجرؤون على الحديث، فيكون مثل هذا الشعر رئة لهم يتنفسون منها، ويعبرون عن أمانيهم فيها. وغني عن البيان أن هذا الشعر ثوري تقدمي بالنسبة لذاك العصر. وهو الذي يقدم نماذج الشخصيات الإيجابية الواثقة من إمكانية صنع مستقبل زاهر، بالرغم من المعاناة اليومية، وبالرغم من تشويه التعاليم السماوية كل يوم. كما أنها شخصية إيجابية، إلا أن صوت عبد الله كان في الطليعة.
كثير من الشعراء ظل يفضل السكوت طالما أن مصالحه ومصالح قبيلته لم تصب بسوء. فلا يرتفع لهم صوت إلا إذا امتد الحيف إلى تلك المصالح.
فقد تقدم الشاعر الراعي على لسان قومه بني نمير بشكواه إلى عبد الملك ابن مروان يشرح فيها سلبيات عمال الصدقات، وفي هذه العبارات الشعرية التي رفعها صوت إيجابي من شخصية سلبية، إلا أنها عبارات واقعية من اليوميات التعسفية التي كان المسلمون يعانون منها تحت ظل الخلافة الإسلامية التي لم تكن متمسكة إلا بما يخدمها من الدين.(1/265)
يمثل الراعي إذن نوعية جديدة من الشخصيات السلبية، تميزت بالموقف المتناقض. من ذلك مثلاً سكوته قبل الجور المحدق به، وهو يرى جوراً وضيقاً يحيط بغير قبيلتهِ من المسلمين، ولكنه ظل ساكتاً بالرغم من حاجة المسلمين الماسة إلى كل صوت ثوري. وباعتبار أن البحث يتناول الشعر لا الشعراء على الأغلب فإننا ندرج صوته بين الأصوات الثورية التي سلكت سبل فضح الظالمين، قال الراعي(1) وقد رفع صوته إلى عبد الملك بن مروان أميراً للمؤمنين، يفضح طريقة جباية أموال الزكاة:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... تشكو إليه مَضَلَّةً وعويلا
عَرَبٌ نرى لله في أموالنا ... حقَّ الزكاةِ منزّلاً تنزيلا
إنَّ السّعاة عصوكَ يوم أمرتهم ... وأتوا دواهي لو علمت وغولا
ثم يستعرض أعمالهم ووحشيتهم وهم يجبون الزكاة، فيقول:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحيّة قائماً مغلولا(2)
حتى إذا لم يتركوا لعظامِهِ ... لحماً ولا لفؤادهِ معقولا
جاؤوا بصكهم وأحدب أَسْأَرَتْ ... منه السياط يراعةً إِجفيلا(3)
أخذوا حمولته وأصبح قاعداً ... لا يستطيع عن الديارِ حويلا(4)
يدعو أمير المؤمنين ودونه ... خَرْقٌ تجرُّ بهِ الرياحُ ذُيولا(5)
__________
(1) جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي، ص/355، طبع المطبعة الرحمانية بمصر.
(2) العريف: شيخ القبيلة، الحيزوم: الوسط. الأصبحية: السياط.
(3) الصكّ: الصحيفة الخاصة بالصدقات. الأحدب العريض. أسأرت: أبقت. اليراعة والإجفيل: الجبان.
(4) الحمولة: ما يحمل عليه الدواب. حويلا: تحويلا.
(5) الخرق: الفلاة.(1/266)
ثم أمر برفع المظالم، وإلغاء الضريبة الاستثنائية، وأمر بحطّ الجزية عمن أسلم(1) ، وأرسل إلى الأطراف عمالاً جدداً ينفذون سياسته العادلة. ولكن هذا لم يمنع استمرار الظلم في المناطق البعيدة عند أولئك العمال الذين كانوا ينبذون كتاب أمير المؤمنين ويستحلون المحرمات. فقد قدم رجل إلى الخليفة فوجده على المنبر فقال(2) :
إنَّ الذين بعثت في أقطارهم ... نبذوا كتابكَ واستحلَّ الْمَحْرَمُ
طُلْسُ الثيابِ على منابرِ أرضنا ... كل يجور وكلّهم يتظلَّم
وإنما كنى بغبرة الثياب عن قذارة نفوسهم، وأنهم ليسوا أعفاء، ويبدو أن الخليفة الجديد لم يستطع أن يطهر دولته من الذئاب البشرية المغتصبة لحقوق الجماهير. فكانت الأصوات الإيجابية تستغل الروح الإيجابية التي تمتع بها، فترفع له أصوات المسحوقين، وتطالبه بإنزال أقصى العقاب بهؤلاء المارقين، ومن جماهير خراسان ينطلق صوت كعب الأشقري، فيخاطب الخليفة قائلاً(3) :
إن كنت تحفظ مايليك فإِنما ... عمال أرضك بالبلادِ ذِئاب
لن يستجيبوا للذي تدعو له ... حتى تجلد بالسيوف رقاب
ولاشك أن طبقة الموالي كانت من أكثر المتضررين جوعاً وفقراً وكان صوتهم يعبر عن مدى الظلم الذي لحق بهم، وقد عبر شاعرهم أبو حرة عما انتابهم من ألم وجوع، فقال:(4)
أبلغ أمية عني إن عرضت لها ... وابن الزبير وأبلغ ذلك العربا
إن الموالي أضحت وهي عاتبة ... على الخليفة تشكو الجوع والحربا
وكأنه قدصار من المعروف لدى الناس أن من يتولى أمراً للدولة لابد أن يغتني عن طريق الخيانة والسرقة، فكان صوت بعض الشعراء.
كهداهد كسر الرماة جناحه ... يدعو بقارعة الطريق هديلا
__________
(1) لاحظ تاريخ الطبري: ج:6/568-569-570.
(2) البيان والتبيين: ج3/359.
(3) المصدر السابق: ص/358.
(4) لاحظ تاريخ الطبري، أحداث 63هـ /130هـ. ج7/ 393-394. دار المعارف بمصر. القاهرة 1969.(1/267)
إن هذا المقطع يمثل صورة واقعية كانت تكرر دائماً في حياة شعب مسلم مسكين ظُلم باسم الإسلام.
ومن الملاحظ أن فضح قوى القهر السياسي والاجتماعي، وأساليبها القاسية هذه قد عالجها كثير من الأدباء الثوريين في العصور الحديثة. ويعتبر عبد الله النديم البطل الثوري المصري خير من صور طريقة تحصيل الضرائب، ونهب قوت الشعب وخيراته في مصر أيام القرن التاسع عشر، وقد كتب ذات مرة يصف تلك الطرق: ((كانت طرق تحصيل الضرائب تقشعر لها الأبدان، قوامها الإذلال والإهانة والإيلام، فإذا هبط المأمور للإشراف على تحصيل الضرائب، طلب سكانها واحداً بعد واحد، فمن دفع نجا من عذاب أليم ولا يناله إلا بعض السياط تشبع نَهم المأمور للضرب. ومن قصرت يده ألقاه الجلادون على الأرض وقطعوا هابه بالسياط فإذا نجا من الموت أودِعَ السجن(1) ....)). فالصورة التي وصفها الراعي قريبة من مقالة النديم.
فقد جاء السعاة إلى شيخ القبيلة، فقيدوه واقفاً وصاروا يلهبون وسطه بالسياط حتى أكلوا لحمه من كثرة الضرب. ثم جاؤوا بصحيفة الصدقات وهو يرتجف خوفاً، فأخذوا حمولته من الدواب وتركوه عاجزاً بين عويل وصراخ. ثم ادعى الشاعر أن الشيخ المسلوب صار يستنجد بالخليفة مما هو فيه. ويبدو أن حقيقة الحال غير ذلك، لكن الشاعر لا يملك إلا أن يقول ما قال.
ثم ينسج صورة واقعية أكبر من الأولى يصف فيها قوى القهر التي كانت تطارد قبيلته من مكان لآخر لتحتلبها، ويستنجد به ليخلص قومه مما هم فيه، ويطلب إليه أن يرفع الظلم عنهم، فيقول(2) :
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سوامهم عزين فلولا(3)
__________
(1) لاحظ البطل الثوري في الرواية العربية، أحمد محمد عطية ص/115، منشورات وزارة الثقافة، ـ دمشق /1977.
(2) جمهرة أشعار العرب، لأبي زيد القرشي. ص/355/.
(3) السوام: الإبل ترعى. عزين: متفرقة من هزالها.(1/268)
قوم على الإسلام لم يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا(1)
قطعوا اليمامَةَ يُطْرَدوَنَ كأنهم ... قوم أصابوا ظالمين قتيلا
يحدون حُدْبَاً مائلاً أشرافها ... في كل مُقْرَبَةٍ يَدَعْنَ رعيلا(2)
شَهْرِي ربيع ما تذوق لَبُونُهمْ ... إلا حُمُوْضاً وَخْمَةً وذَبيلا(3)
وأتاهم يحيى فشدَّ عليهم ... عقداً يراه المسلمون ثقيلا(4)
كُتُباً تركن غنيهم ذا عيلة ... بعد الغنى وفقيرهم مهزولا(5)
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا(6)
أنت الخليفة عدله ونواله ... وإذا أردت لظالم تنكيلا
فادفع مظالم عَيَّلَتْ أبناءنا ... عنا وأنقذ شلونا المأكولا(7)
فنرى عطيَّة ذاكَ إنْ أَعْطَيْتَهُ ... من ربنا فضلاً ومنك جزيلا
وإذا كان هذا يحدث في نجد وبين البدو، فماكان يحدث في ريف العراق من العسف والظلم في جمع الخراج كان أشد وأحد، وقد هاجر الموالي إزاء ذلك كله ففزع عمال الخراج إلى الحجاج، وكتبوا إليه: "إن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها. فخرج الناس وعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه! يا محمداه!.. وجعلوا لا يدرونَ أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخروجون إليهم مقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون".(8)
__________
(1) الماعون: المعونة والبر والخير. والتهليل: التكبير، أراد أنهم محافظون على الصلاة.
(2) الحدب: الإبل. الإشراف: الأسنمة. المقربة: الطريق في الجبل. الرعيل: القطيع.
(3) اللبون : الناقة ذات اللبن. الذبيل: اليابس.
(4) العقد: ما كتبه عليهم من الصدقات.
(5) العيلة: الفقر.
(6) الفتيل: مايكون في شق النواة، يريد: أنهم لم يفعلوا شيئاً.
(7) عيلت : من التعييل، وهو سوء التغذية. الشلو: العضو.
(8) تاريخ الطبري: ج6/ 381.(1/269)
وقد شعر عمر بن عبد العزيز بالظلم المحيط بأهل الأمصار من جراء جمع الخراج، فأمر أن يحرز في غير ظلم، فإن يك كفافاً فسبيل ذلك، وإلا فالدولة توفر للجند الأعطيات.(1)
فالشاعر الراعي يتحدث عما حلّ بقبيلته، لكن هذا حال أغلب البلاد حتى صار كثير من الشعراء يعلنون هذه الحقيقة وهم يرفعونها إلى من يتولى إمارة ما، قد ولي حارثة بن بدر كوره (سرّق) من أعمال الأهواز، فخرج إليها فشيّعه الناس، وكان فيهم أبو الأسود الدؤلي، فقال له(2) :
أحارِ بنَ بَدْرٍ قد وَلّيتَ إِمارَةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتَسْرِقُ
فلا تَحقرنَ يا حار شيئاً تصبه ... فحظُّكَ من ملك العراقيْنِ سرّقُ
فإِنَّ جميع الناسِ إما مُكَذِّبٌ ... يقولُ بما يهوى وإمّا مصدَّقُ
يقولون أقوالاً بظنٍ وشبهة ... فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
ولا تعجزن فالعجز أخبث مركب ... فما كلُّ مدفوعٍ إلى الرزقِ يُرْزَقُ
وبارز تميماً بالغنى إنما الغنى ... لسان به المرءُ الهيوبة ينطِقُ
ولاشك أن الشعر الاقتصادي قد صور نظم الدولة الاقتصادية، وما اعتور تطبيقها من خلال واضطراب. كما صور المشكلة الاقتصادية في إطارها الاجتماعي وكان كثير من الشعراء يفرغ في هذا الشعر روح التذمر الاجتماعية والسياسية والمضايقة التي حلت بالناس، وإلا فما هو المدخل إلى النَّيْلِ من كبار الولاةِ الذين جنحوا عن الصوابِ وابتعدوا عن الحقِ كمصعبِ بن الزبير الذي راح يعبث بأموال الدولة، ويأخذ أعطيات الجند ويتركهم جياعاً ليمهر سكينة بنت الحسين ألف ألف درهم، فينطلق صوت عبد الله بن همام
السلولي فاضحاً قوى القهر الجديدة مخاطباً أخاه عبد الله بن الزبير، وهو قابع في مكة(3) :
__________
(1) تاريخ الطبري: ج6/568.
(2) ديوان أبي الأسود الدؤلي ص/118. وقد تنسب الأبيات لأنس بن أبي إياس الدؤلي. وحارثة بن بدر بن حصين التميمي. تابعي، مات غرقاً في معركة مع الخوارج سنة (64هـ)، الإصابة ج1/370.
(3) الأغاني: ج4/ 363 طبعة الساسي.(1/270)
أبلغ أمير المؤمنين رسالةً ... من ناصحٍ لك لا يريد خِدَاعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل ... وتبيت سادات الجنود جياعا
لَوْلأَبِي حَفْصٍ أقول مقالتي ... وأبث ما أبثثتكم لارتاعا
وإذا بدا واضحاً لدينا أن الشعر الاقتصادي قد فضح قوى القهر السياسي التي كانت تسيطر على رقاب المسلمين، وصور الخلل والاضطراب الذي حل، نكون قد وقفنا على دور الشعر في بيان سبب واضح من أسباب انهيار الدولة الإسلامية بشكل مبكر.
(
المناحي التربوية
- التربية
التربية علم يرمي إلى مساعدة الطفل والمراهق البالغ على تكوين شخصيته وتنميتها(1) . وهي نظام اجتماعي ينبع من فلسفة كل أمة(2) كما أنها عملية نمو، بمعنى أن الغرض الأول والأهم والطريقة المثلى، والأخطر هي أن تكون التربية مجالاً لنمو المتربي جسداً وعاطفةً وعقلاً واجتماعاً ومعرفة ومهارةً، إنها عملية نمو للشخصية الإنسانية كاملة بوصفها كلاًّ لا يتجزأ، بوصفها جسداً ونفساً، عقلاً وعاطفة وعملاً، بوصفها مواقف وتصرفات، مشاعر ونوايا، مفاهيم وأعمال(3) .
وعلى هذا تكون التربية من الوجهة الأولى، علماً معيارياً، ومن الوجهة الثانية جهازاً اجتماعياً يعبر عن روح العقيدة السائدة في أمة من الأمم، ومن الوجهة الثالثة حوضاً خصباً تتكامل فيه كل متطلبات المتربي.
ومن التعريف الثاني أيضاً تكون: "التربية الإسلامية جهازاً اجتماعياً يعبر عن روح الفلسفة الإسلامية من جهة، ويحقق تلك الفلسفة من جهة أخرى(4) ".
__________
(1) لسان العرب، مادة ربا، ج3/ص 255.
(2) التربية في الإسلام: د.أحمد فؤاد الأهواني. ص7. دار المعارف، بمصر، القاهرة 1968م.
(3) معالم التربية، فاخر عاقل، ص 48-49، الطبعة الأولىا، بيروت 1964.
(4) التربية في الإسلام: أحمد فؤاد الأهواني. ص7. القاهرة 1968م.(1/271)
وقد لا يكون الشعر مزرعة للأعمدة التربوية التي تقوم عليها أمة من الأمم. ولكنه لا يخلو من القيم التربوية، والفضائل التربوية والبحث في شخصية الأولاد الخلقية والنفسية والجسدية.
فإذا تجاوزنا تعريف التربية إلى هدفها، فليس من شك أننا لا نستطيع حصر هذه الأهداف أو تحديدها، وإنما نكتفي بالحديث عن أهمها حسب ماجاء في الشعر الذي نثبته في هذا الفصل، ونشير إلى امتدادها المعاصر، وأثرها في التربية العربية اليوم.
ولا يشترط أن تكون أهداف التربية العربية كما أرادها الشعر الإسلامي موافقة لأهدافنا التربوية المعاصرة، مادامت أهداف ومثل وطرائق كل أمة تتغير بتغير الحياة، وبتطور أهدافها ومثلها. إن "أهداف التربية العربية المعاصرة وإن اتفقت مع الأهداف العامة لكل تربية، فإنها تختص بأهداف تشاركها فيها جميع الأمم الآخذة بأسباب التقدم والنهوض. وهذه الأهداف التربوية متصلة أوثق الصلة بأهداف العرب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تنفصل عنها ولا تستطيع إلا أن تخدمها(1) ".
وقد حدد بعض الباحثين(2) في مجال التربية، الأهداف التربوية العربية المعاصرة بما يلي:
1 ـ التحرر الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي.
2 ـ التقدم العلمي.
3 ـ تنشئة المواطن الصالح.
4 ـ خدمة قوميتنا العربية دون تعصب أو شطط.
5 ـ العدالة الاجتماعية، والديمقراطية الصحيحة.
6 ـ تعليم المرأة(3) .
والصورة الإيجابية لهذه الأهداف واضحة، غير أنها تزداد وضوحاً حين نعرف نوعية المواطن الصالح الذي نسعى إلى تنشئته في التربية العربية المعاصرة. وقد كان هذا المواطن الصالح هدفاً رئيسياً للتربية العربية القديمة في أيام الإسلام الأولى، وفي أيام الدولة العربية.
__________
(1) معالم التربية: فاخر عاقل، ص 43/ دار العلم للملايين، بيروت 1964.
(2) د.فاخر العاقل. مصدر سابق.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/272)
إن الأمم تختلف في تصوّر هذا المواطن، كما تختلف في تحديد سماته وخصائصه. ولكن ما يجب أن تسعى التربية العربية إلى بنائه في هذا المواطن غير مستحيل أيضاً. إنه ذو عقل فكري متحرر وإدراك كلي واعٍ متفتح، متفان في عمله الموكل إليه، غير شَرِهٍ ولا باغٍ ساعٍ إلى خدمة الخير، لا يقبل ظلماً ولا حيفاً، كما لا يسكت عن حق ضائع، ولا ينزل سيفاً عن ظالم قاهر، يتمتع بسمات المحبة والإلفة لعيال الله كلهم، عارف ماله وما عليه، ليس ملاكاً كي لا يكون مستحيلاً توّاب إن أخطأ.
وقد تجاوزت التربية الإسلامية القديمة تنشئة المواطن الصالح، ولم تحصر نفسها في تربيته وإعداده فقط، لأنها تسعى إلى هدف أعم وأشمل، إنها تريد إعداد الإنسان لتكون الإنسانية كلها على تربية واحدة صالحة، واحدتها الإنسان الحق بجوهره الحق من حيث هو الإنسان.
من هنا كانت التربية الإسلامية تعتمد في طريقتها معالجة الإنسان كله معالجة شاملة دون إغفال شيء من الجوانب الروحية والوجدانية والعقلية والجسدية.
وقد سعى الإسلام أن يضع من مزيج طاقات الإنسان كائناً بشرياً ذا فعالية إيجابية. كما أدرك استعدادات الإنسان المتباينة الموجبة والسالبة، فلم يتركها كما تشاء كي لا يختل التوازن في الإنسان الذي يريده الله قوة متكاملة.
وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف لجأ الإسلام في تربيته إلى استخدام وسائل كثيرة أهمها: التربية بالقدوة وبالموعظة، وبالأمثال وبالترغيب والترهيب، وبالقصص. وقد كان لبعض الشعر التربوي في الإسلام شرف استخدام بعض تلك الوسائل التربوية التي يلقنها الشعراء أبناءهم.
وربما قيل: إن التربية ليست تلقيناً، وإنها ليست كذلك، ولكن التلقين أحياناً من وسائلها. إنها فن وعلم مشدودان بطرفين رئيسيين هما المربّي والمتربي.(1/273)
والتربية أنواع، فهناك التربية الجسدية، والعقلية، والاجتماعية والأخلاقية، وتربية المثل العليا. وكون الحديث يدور حول الشعر التربوي، فإننا نتتبع أنواع التربية فيه، فنجد تربية عقلية، واجتماعية وأخلاقية وتربية على المثل العليا، وهو لا يخلو من تربية عسكرية كذلك.
ولما كان الغرض الأساسي من حديث التربية هنا هو الشعر العربي في الإسلام، لا التربية كما يريدها القرآن(1) ، فإنه لابد من الوقوف، على الشعر الذي قيل من عهد النبوة إلى عهد بني أمية، معلمين أننا لا نقصد بالتربية هنا المؤسسات التعليمية، أو الطرق الرئيسية بل المقصود بها العملية الصناعية الصعبة لأن "صناعة الإنسان ليست عملية عفوية سهلة، بل هي أشرف الصناعات وأصعبها، ودون أن تعرف أمم الأرض أو بمعرفتها، فإن صناعة الإنسان تؤثر على كل أنواع الصناعات تقدماً أو تخلفاً، خيراً أو شراً، ربحاً أو خسارة، أماناً، أو إجراماً(2) .
إن أهم ما يدور حوله هذا الشعر هو بناء الشخصية في الولد، وغرس الفضائل الرفيعة فيه كذلك.
بناء الشخصية كما جاء في الشعر التربوي الإسلامي:
التربية في الشعر التربوي خلقية أولاً، ولا غرابة فهي نابعة عن مصدر ديني، والدين أصل من أصول الأخلاق، وقد حوى هذا النوع من الشعر بياناً وأظهر كشفاً بالأصول الأخلاقية للسلوك الإنساني، كما يريدها هؤلاء الشعراء، وفيه بيان عن البواعث الخلقية، ونظر في الحكم الأخلاقي، وفي الغاية من الفعل الخلقي.
__________
(1) من أراد وسعة في هذا فلينظر:
1 ـ تاريخ التربية الإسلامية. د.أحمد شلبي. دار الكشاف، بيروت 1954م.
2 ـ تاريخ التربية، مصطفى أمين، طبعة دار المعارف، بمصر، ص1، 1825م.
3 ـ التربية الإسلامية. د.أحمد فؤاد الأهواني. دار المعارف بمصر 1968م.
(2) د.علي، أسعد: كتاب الأمهات: ص43، دمشق، دار السؤال.(1/274)
وحسب التعريف الأول للتربية والذي يقرّ بأنها علم معياري، تكون الأخلاق من العلوم المعيارية التي تبسط للناس مثلاً عليا ينبغي اتباعها وتختلف عما يكون عليه الإنسان في الواقع(1) .
ويعتبر المؤلفون الأدبيون سقراط هو أول من تكلم في علم الأخلاق كلاماً له قيمته، بل يعتبرونه واضع علم الأخلاق، حين أحس بتدهور الأخلاق، وحاول أن يكشف عن المبادئ العامة الخلقية المسلم بصحتها وانتهى إلى أن الفضيلة وليدة المعرفة أي أنها أمور يمكن تعليمها وتعلمها(2) .
هذا شيء عن الأخلاق في الشخصية "أما الشخصية فهي من الشخوص والظهور، ومرجع الصفات الخلقية في تكوينها يعود إلى المجتمع الذي جربه الشعراء ودروسوه، وجربوه، فصاروا يقدمون الآراء التربوية في المجال التجريبي لبناء الشخصية المحبوبة في المجتمع، المتكاملة في نموها الخلقي والجسدي، لتظهر إيجابية في تصرفاتها.
وقد كان غرض الشعراء التربوي ـ في أغلب قصائدهم ـ غرضاً منفصلاً عن غيره، قائماً بذاته تربوياً في أهدافه.
ومن خلال قصيدة للشاعر الإسلامي يزيد بن الحكم(3) الثقفي وهو يعظ ابنا له اسمه (بدر) نستطيع أن نقف على الأساليب التربوية التي يستخدمها الشعراء في تربية أبنائهم، كما نستخلص الأهداف التربوية التي يراد الوصول إليها في تربية الأولاد عشية ساد الإسلام في الربوع العربية وربما على أغلب العقول العربية!...
قال الشاعر يزيد بن الحكم:
يا بدر والأمثال نضربـ ... ـها لذي اللب الحكيم
دم للخير بوده ... ما خير ود لا يدوم
__________
(1) التربية في الإسلام، د.أحمد فؤاد الأهواني، ص 212، دار المعارف بمصر، القاهرة 1968.
(2) المدخل إلى الفلسفة، تأليف كوكبة، ترجمة أبي العلاء عفيفي، ص 91، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف 1942م.
(3) يزيد بن الحكم بن أبي العارض الثقفي، وجده أبو العاصي، صاحب رسول الله (ص)، ت نحو/105هـ 723م. انظر في خزانة الأدب للبغدادي ج1/ص54-56، والأغاني طبعة الساسي، ج11/ص96-101.(1/275)
واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم
واعلم بأن الضيف يو ... ما سوف يحمد أو يلوم
تضرب الأمثال دائماً لأصحاب العقول لتستبين لهم منارة الطريق الحق وضرب الأمثال وسيلة تربوية، بل إنها وسيلة مجردة من وسائل الإيضاح كما أنها نوع من أنواع التربية التجريبية استخدمها القرآن في كثير من المواقف كما في قوله تعالى: { ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتذكرون } (1) ،
{ كذلك يضرب الله الأمثال } (2) ، { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيءٍ عليم } (3) ، { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } (4) ، { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } (5) .
والشاعر كذلك يضرب لابنه الأمثال متأثراً بأسلوب القرآن الكريم، وهو يطلب منه أن يحفظ المودة، وأن يحفظ حرمة الجار، وأن يرعى الحق ويقف عنده، ثم يطلب منه أن يكرم الضيف، ويذكره بنتائج زيارته كلام مشاع على ألسنة الناس بين حمد وذم، الإحسان إليه مجلبة للمدح والمحبة، والتقصير بحقه مدعاة للذم واللوم، ويسجل كل ذلك بمقالته الشعرية، ويتبعها قوله:
والناس مبتنيان محمود البناية أو ذميم
واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم
إن الأمور دقيقها ... ممّا يهيج له العظيم
والتبل يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم(6)
الناس عند الشاعر المربي صنفان في أخلاقهم وأحوالهم، صنف محبوب لبنائه السليم وأخلاقه القويمة، وصنف مذموم لبنائه غير الصحيح ولسيرته السيئة.
والعلم ضرورة لابد منها لبناء الشخصية الإنسانية القوية، والمهم في هذا العلم استعماله في طريقه الصحيح، لأن من يعمل بما يعلم يصبح علمه وبالا عليه. وهذه قيمة تربوية كبيرة يقدمها الشاعر المربي في مجال التربية العلمية بعيداً عن التنظير الذي لا ينفع دون عمل.
__________
(1) سورة إبراهيم، الآية 14.
(2) سورة الرعد، الآية 13.
(3) سورة النور، الآية 24.
(4) سورة العنكبوت، الآية 29.
(5) سورة الحشر، الآية 59.
(6) التبل: الثأر.(1/276)
ثم يعلمه الحكمة، ويوقفه على سر اتساع الشر وسرعة انتشاره وهو يسلط الأضواء على صغائر الأمور، وتجري مسحاً للأحداث بأنواعها ويرى أن كبار الأمور كانت صغيرة دقيقة ثم كبرت وعظمت واستفحل خطرها.
وينصره حين يأخذ بيده، ويمنعه من اللجوء إلى الثأر حين القتل(1) !... لأنه سيجلب ثأراً آخر فيصرع أهله، ثم يبين له نهاية كل ظلم، وما نهاية الظلم إلا ظلم وخيم يرتد على أهله الذين سارعوا إليه أولاً.
ثم يعلمه شيئاً من التربية التجريبية، استقاه من الأيام، وأموراً أخرى، فيقول:
والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم
قد يقتر الحول النقي ويكثر الحمق الأثيم(2)
يملى لذاك ويبتلى ... هذا فأيهما المضيم
على المتربي ألاَّ يثق بعهود الأيام والليالي، وألا يركض خلف العصبية كثيراً، فربما كشفت له الأيام عن قطيعة للأخ القريب، وصلة من بعيد فيكون أخاً لك لم تلده أمك.
وهذا مفهوم تربوي رفيع المستوى، فيه الوجه الإيجابي المهم إذ يشده إلى الإنسان ليرفع من شأنه، ويحطم الحلقات الضيقة التي تحجز الناس عن بعضهم وهي تحاول حجرهم في حجر الدم و العصبية المقيتة دائماً.
ثم يعرج في تعليمه الأصول التربوية إلى الواقع الاقتصادي للمرء، وقيمته في حياة الإنسان، فينهاه عن ضياع المال والتبذير فيه، لأن الناس يكرمون المرء لماله ـ أو هكذا يرى الشاعر واقع الحال على الرغم أنه عاش في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي- وقيمة مثل هذا الشعر الإيجابي تظهر أيضاً في بيان أثر المال ودوره في مجتمع ما زالت تعاليم نبيهِ ساخنة يشع ريحها ويحلو طعمها في كل بيت، فتظهر أن المرء يكرم للغنى لا لشيء آخر، ويحتقر الفقير لفقره!...
__________
(1) هذا رأينا في قوله:
والتبل يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم
(2) الحول: كثير الحيل للوصول إلى الرزق، ونقس ضرب.(1/277)
هذه المعاني التي تناولتها القصيدة تجعلنا وجهاً لوجه أمام حقائق اجتماعية مريرة، وتجعلنا نتساءل عن الأثر الذي خلفه الدين في نفوس الناس كما أقره القرآن.
لماذا لم يظهر هذا الأثر قوياً في نفس الشاعر، ليقول لابنه بأن المرء يحترم لدينه، وعقله، وعمله، لا لماله أو سلطانه؟!...
هذا التساؤل يمثل الحقيقة المرّة، التي تقول بعدم قدرة التعاليم الدينية بالرغم من سموها ـ في ذلك الوقت على الأقل ـ على غرس مفاهيم جديدة يُحْتَرُم الإنسان بموجبها على نطاق جماهيري واسع، لا على نطاق حوادث فردية قام بها جلّة الصحابة ممن كانوا يأثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة من فقر وحاجة.
ويكشف الشاعر المربي عن أمر مهم كيما يفتر ولده برجاحة عقله ظناً منه أن العقل كفيل بتوفير المال فيعلمه أن الرزق غير موقوف على العقل والتدبير، وقد يفتقر المحتال الحذر الذي يكثر من العمل، ويستغني الأحمق السيء العقل.
ويحاول الشاعر المربي ألا يفرط بشيء من الصفات المحمودة التي تحبها العرب في الفتى، فيلجأ إلى بيان سلبيات البخل ونهاية الإنسان البخيل منه والكريم.
قد يقصر الإنسان متباخلاً في تأدية الحقوق المالية مكتّفياً برعاية المال والحلال وتنميتهما في المراعي، وهذا قصر نظر وقصور مذموم.عند الشاعر المربي الذي ضرب المثل بالإنسان البخيل كيف يبخل بما له وهو للحوادث كالهدف المنصوب للرمي.
ثم يعود إلى الأمثال، فيعلمه أن من مضى من الأمم باد وهلك كهلاك ورق الشجر المتفتت. وهذه حقيقة الحياة ونهاية لكل الكون. كل نعيم وبؤس إلى زوال وفناء.
وهذا النظر التربوي مأخوذ عن المجتمع، حيث لجأ المربي إلى واقع الحياة يقتطع منه لولده عينات معاصرة، ويذكره بحيوات خالية، محاولاً إخراجه من ربقة العبودية المادية، ليجعل المرء في يده، بدل أن يكون في قلبه، فيقول:
والمرء يبخل في الحقوق وللكلالةِ ما يسيم(1)
__________
(1) الإسامة: إخراج المال إلى المراعي.(1/278)
ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم
وتخرّب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولا نعيم
كل امرئ ستئيم منه العرس أو منها يئيم
ما علم ذي ولد أيشكله أم الولد اليتيم
ويتفق الشاعر المربي في حديثه التربوي الرائد عند التربية العسكرية ومتطلباتها الجسدية، والقتالية بما للقتال من أدوات لا يستغنى عنها، فيقول:
والحرب صاحِبها الصَّليبُ على تلاتلها العُزومُ(1)
من لا يملُّ ضراسَها ... ولدى الحقيقةِ لا يخيمُ(2)
والخيلُ أجودُها المُنا ... هِبُ عند كبَّتَها(3) الأزُومُ(4)
يدرك الشاعر بحكمته ضرورة التربية العسكرية لإتمام الشخصية في عالم التربية الفاضلة. فيتحدث عن مستلزمات الحرب من فارس قوي، شديد، يصبر على الشدائد المزعجة، وعزم متين وقوة إرادة. وخيول نجيبة كثيرة العدو وعند حملة الحرب، وعضوض على اللجام وذلك لشدة نشاطها.
إن مجمل مافي هذه القصيدة يفيد أن الخير واجب لذاته، يفعله المرء لأنه واجب، فالواجب الخلقي في التربية هو الغاية لا الكمال، أو فلنقل أنه الطيبة أو المنفعة أو الإيجابية التربوية التي عرفها المناطقة بالفضيلة.
ومن هنا كان لهذه الوثيقة احترام كبير في هذا المجال التربوي، نعتمدها لنستخلص منها أهداف التربية العربية للفرد في الإسلام كما جاءت في الشعر العربي، وغير تلك التي سعى إليها القرآن الكريم، أو الحديث النبوي، فعلى ضوء ما حللناه منها نستنتج الأهداف التالية:
1 ـ رعاية النمو النفسي والانفعالي وفهم الذات.
2 ـ الوقوف عند السلوك الاجتماعي ومعرفة القيم الإيجابية للأخذ بها والسلبية لتجنبها.
__________
(1) الصليب: القوي الشديد، وتلاتل الحرب: شدائدها المزعجة، والعزوم: الماضي على ماعقد عليه من العزم.
(2) السوم: الملول، كثير الضجر.
(3) المناهب: من ينتهب الأرض في عدوه، والكبة: الحملة في الحرب، الأزوم: العضوض.
(4) حماسة أبي تمام: ج2/ص66-99/القاهرة. 1955م.(1/279)
3 ـ الإيمان بقيمة الصديق الوفي والخليل المحب لتماسك الأفراد والجماعات.
4 ـ الحفاظ على العلاقات الاجتماعية الطيبة مع الجار والضيف.
5 ـ التواصل العلمي والقدرة على متابعة القراءة والكتابة والعلم.
6 ـ رفض الظلم، ومعرفة نهاية كل ظالم لتجنبه، وَأَخْدِ الْعبرة اللازمة.
7 ـ إناطة الرزق بالغيب، وربط ذلك بالسعي الحثيث بما في القسم الأول من سلبية غير مقبولة، ولّدت فكرة التواكل حتى أيامنا هذه.
8 ـ العيش من خلال منظار المعرفة القائل بزوال كل مافي الدنيا من نعيم أو بؤس.
9 ـ العمل على تربية النفوس تربية عسكرية لأن الحروب تحتاج إلى أنفس قوية، وعزائم جبارة، والحفاظ على وسائل الحرب المهمة من باب الاحتياط والإعداد.
ويبقى الحديث عن الأهداف التربوية العامة غير محصور في نطاق هذه القصيدة وحدها، فربما كان كثير من هذا الشعر قادراً على تحديد أغلب تلك الأهداف التربوية التي يريد العرب غرسها في أولاده.
هذا النوع من أنواع الاهتمام بالأطفال الذي نجده في الشعر العربي القديم، يعتبر من أهم ميزات التربية الحديثة(1) .
إن حديث بناء شخصية الأولاد الخلقية من خلال الشعر التربوي غير خاص بالذكور، فبالإضافة إلى أغلب تلك السمات التي للأولاد يريد الشعر للفتاة العربية أن تتحلى بسمات كثيرة لتكون ذات شأن.
وقد ظهر التركيز التربوي على الفتاة منذ الجاهلية، وقد أوضحت أمٌّ نابهةٌ أصول التربية المرادة للفتاة العربية في زوجها أيام الجاهلية وهي في واقع الحال ذخر وذكر من أم الماضي، لأم الحاضر والمستقبل(2) .
ثم جاء الإسلام فلم يعد هذا الدور التربوي للبنات مقتصراً على الأمهات، وأصبحت التربية عملية بنائية متكاملة يشارك فيها الآباء والأمهات.
__________
(1) Talks on psqchology, weiam James.p.14.
... وفيه قول منتسوري عن التربية الحديثة واحترامها لشخصية الطفل.
(2) د.علي، أسعد: كتاب الأمهات، ص 131 وما بعد.(1/280)
وصار الآباء يسعون في شعرهم التربوي إلى معالجة ما استجدَّ من حوادث أثرت على سلوكية الفتيات، فصاروا يريدون لهنّ منهجاً سليماً يسد النقص في حياتهن الزوجية كي لا يشقى بهن أزواجهن، وكي تصبح الواحدة منهن متأهبة لبناء أسرة سليمة.
فأبو الأسود الدؤلي يريد بناء شخصية ابنته على أمور حسية وأخرى معنوية. يريد أن يذهب عنها الغيرة، وأن تأخذ بالعفو، وأن تسبغ الوضوء للصلاة. كما يريدها أن تأخذ زينتها التي أخرجها الله للعباد، ويفصل لها أزين الزينة، وأطيب الطيب. ثم يحثها على أخذ العفو، وكف الأذى، فيقول(1) :
(وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وعليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل، وعليكِ بالطيبِ، وأطيب الطيبِ إسباغ الوضوء، وكوني كما قلت لأمك في بعض الأحايين:
خذي العفو منّي واستمدي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
فإني وجدتُ الحبَّ في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهب
فحديث أبي الأسود مع ابنتهِ حديث مرب دائم، وقد وضع خطوطاً واضحة في تربية الفرد الشخصية حين أراد الخروج إلى فارس وطلبت منه ابنته ألا يخرج قائلة: يا أبتِ إنكِ قد كبرتَ وهذا صميم الشتاء، فانتظر حتى ينصرم، واسلك الطريق آمناً فإني أخشى عليك، فأجابها شعراً ضمنه مجموعة من أركان الشخصية الناجحة(2) ، فقال:
إذا كنْتَ معنّياً بأمرٍ تريده ... فما للمضاءِ والتوكّلِ مِنْ مِثْلِ
توكَّل وحمِّلْ أَمْرَكَ الله إنما ... تراد به آتيك فاقنع بذي الفضْلِ
ولا تحسبنَّ السيرَ أَقْرَبَ للرّدى ... من الخفضِ في دار المقامةِ والثَّمْلِ(3)
ولا تحسبيني يا ابنتي عزَّ مذهبي ... بظنّكِ إنَّ الظنَّ يكذبِ ذا الغُفْلِ
وإِنّي ملاقٍ ما قضى الله فاصبري ... ولا تجعلي العلمَ المحقَّقَ كالجهلِ
__________
(1) ديوان أبي الأسود الدؤلي: ص 95-96/ مطبعة المعارف، بغداد 1384هـ ـ 1964م.
(2) المصدر السابق ص 120-121.
(3) ثمله ثملاً: أطعمه وسقاه.(1/281)
وإنكِ لا تدرينَ هل ما أخافه ... أبعدي يأتي في رحيلي أو قبلي
وكم قد رأيت حاذراً متحفّظاً ... أصيب وأَلْفَتْهُ المنيَّةُ في الأَهْلِ
إن الخصال الحميدة التي يمكن استنتاجها من شعر أبي الأسود دقيقة، لطيفة، فالتفريق حاصل هنا بين التوكل من العزم الذي يبعد التردد ودقة محمودة أن يعمل المرء وأن يستقصي الأسباب ثم يحمل أمره الله بعد ذلك. ثم إن العمل ضرورة كبيرة للإنسان يجب ألا يحول دون السير إليه خوف مما يخفيه القدر في هذا السير، أو جلوس وتواكل.
فالموت الذي تخشاه المرأة على أبيها أو زوجها أو معيلها لا يصده جلوس في البيت، كما لا يجلبه رحيل في سبيل العيش، فطالما أُدْرِكَ الإنسان وهو عند أهله وبين أصحابه.
وإذا تذكرنا أن العرب تهتم بالشعر كثيراً وتحفظه سريعاً، وتعمل بما جاء به، إن كان محبوباً، علمنا أن مجمل ما يراد غرسه في شخصية الأولاد من قيم تربوية عن طريق الشعر أفضل بكثير مما يراد غرسه عن طريق النثر. لأن تكرار الشعر وتداوله يولد نوعاً من الثبات والآلية في تصرفات المرء وأعماله. وحين تصل التصرفات إلى درجة الثبات والآلية تكون عنواناً للمرء، وتنسب إلى شخصيّته التي تشكل كلاًّ مجموعاً من عدة جزئيات. خلقية، كالتوكّل، والعزيمة، والعمل الجاد، والأمانة، والصدق، والسعي الحثيث في سبيل الرزق والمحبة. إلى آخر هذا الجزء التي جاءت في هذا النوع من النوع التعليمي بما فيه من قيم إيجابية تربوية. وقد بدا واضحاً أن الغرض من هذا الشعر تكوين الشخصية القوية الصالحة، وإعدادها للحياة الاجتماعية
كما بدا أن إحداث تغيير في السلوك هو الغاية الأخيرة المقصودة من هذا الشعر. وهذا هدف التربية، وهو من أهداف التعليم أيضاً.
الفضائل التي دعا إليها الشعر التربوي:
استخدم المربون غراس الفضائل في حقل التربية، لا على أن الفضيلة تسد نقصاً، بل لأنها سمات إيجابية يفترض أن يتحلى بها المتربي ليأخذ دوره المطلوب في المجتمع.(1/282)
إن تعليم الفضائل تربية بالمعنى المثالي وهذا يعني أن التربية القديمة، أدركت أهمية المثل العليا في تنمية الأفراد والجماعات، وتبدو أهمية هذه المثل في أنها "تنبع من تاريخ الأمة ومن حضارتها، ومن ثقافتها، ومن خبراتها الماضية، ومن دينها، ومن طرائق تعاملها وعلاقاتها بالأمم الأخرى وعلاقات الأفراد فيها.(1)
ثم إن التعليم المراد منه إحداث تغيير في السلوك يفترض أن يأتي من إنسان تراكمت لديه الخبرات ليكون قادراً على استخدام الأسلوب الملائم والمؤثر في نفس المتعلم المقصود من وراء الأسلوب الناجح إحداث التغيير الإيجابي في سلوكه.
وقد يكون للفضائل دور كبير في إحداث السلوك المطلوب، وهذا ما يبرر استخدامنا الشعر التربوي القائم على تقديم الفضائل لعامة المتعلمين بقصد تنمية المثل العليا في صدور هؤلاء المتعلمين. ومن المفيد لنا أن نتصدى لبعض هذا الشعر لنقف على الفضائل الخلقية الكبيرة التي يزخر بها، وهو يحاول صناعة الإنسان الحق باني الحضارة دائماً.
وما يجب معرفته هو أن لكل شاعر أسلوبه الخاص في غرس هذه المثل. فبعضهم يلجأ إلى بيان السلبي من القيم وفضحها، ليأخذ المتربي بما في الحياة من قيم إيجابية، وبعضهم يلجأ إلى المباشرة في التعليم المثلي الهادف.
هناك الدعوة إلى تجنب إنسان السوء اللئيم، الجبان، ثقيل الروح الذي لا يصبر على زلة تبدر منك مهما كانت ضئيلة، وأَنْتَ الإِنْسان، فيهجم عليك بلا رحمة، ويوقعك في خصومة أنت في غنى عنها، ثم يسعى جاهداً أن يغنم منك. كثير سؤال الناس، شحيح في عطائه جشع في حياته. وقد نهى أبو الأسود الدؤلي صحبة صاحب هذه القيم السلبية وَذَمَه، وهو يدعو إلى مجانبته قائلاً(2) :
__________
(1) معالم التربية: د.فاخر عاقل، ص 33، بيروت، دار العلم للملايين، 1964م.
(2) ديوان أبي الأسود الدؤلي: ص 37-38، مطبعة المعارف، بغداد 1964.(1/283)
لا تؤاخِ الدهر جِبساً راضعا ... ملهب الشد سريع المنزعه(1)
ما ينل منك فأحلى مغنم ... ويرى ظرفاً به أن تمنعه(2)
يسأل الناس ولا يعطيهم ... هبلته أمه ما أجشعه
ثم يلجأ إلى المباشرة في التعليم المثلي الهادف في القصيدة ذاتها، فيكشف عن فضيلة الصدق التي يجب أن يتحلى بها المرء مادام الكذب لابدَّ أن يكتشف، ويخزي صاحبه أمام الناس، كما يعلم الشاعر المربي حسن المعاملة التي من أصولها ألا يهن المرء من أكرمه، كما في قوله(3) :
حقق القول إذا ماقلته ... واحذرن مخزاته في المجمعه
لا تهني بعد إكرامكِ لي ... فشديد عادة متنزعه
ومن الأصول التربوية الإيجابية التي يريد الشعر غرسها في المتربي قضية بحثت فيها التربية المعاصرة كثيراً، تلك هي قضية الصدق في الوعد مع الأولاد، والوفاء بالعهد، وعدم الكذب عليهم أولهم ولنقل أنهم استخدموا أهم وسائل التعليم من تشرق وإثارة، وتعزيز إيجابي كفيل بإحداث النجاح من خلال تنفيذ الوعد أو الوعيد. والأهم من ذلك أن يكون العطاء للوفاء، لا بريقاً يقوي التعزيز السلبي.
وقد أدرك أبو الأسود الدؤلي من خلال التربية التجريبية التي خاضها في الحياة القيمة الفعلية لهذا الأسلوب الناجح في التربية، فقال(4) :
لا يكن برقك برقاً خلبا ... إن خير البرقِ ما الغيث معه
فمثل هذا المسعى في التربية يحدث جدية في تحقيق المواقف المطلوبة مادام القول يحقق فعلاً أمام التلميذ دائماً. فالبرق مؤثر لابد أن يحدث استجابة. فإن كان الغيث مرافقاً له، فهي الاستجابة الإيجابية المطلوبة، وإن كان البرق خلّباً لا غيث معه، فهي الاستجابة السلبية المذمومة.
__________
(1) الجبس: اللئيم الثقيل الروح، الراضع: اللئيم. وملهب الشد: سريع الحملة والتهجم. والمنزعة: الخصومة.
(2) الظرف: الحذق والبراعة.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق نفسه.(1/284)
وهناك دعوة إلى التمسك بالحق، والابتعاد عن الباطل، وهذا أمر خطير في حياة الأفراد لبناء الأمة القوية فبالحق تشب النفوس على العزة والكرامة والمحافظة عليه في تربية الأفراد يحقق راحة كبيرة في النفوس التي إذا شعرت بالحق والارتياح أنتجت، فتقدمت لتقدم أفرادها، قال أبو الأسود(1) :
لا تنشدن بحق باطلاً ... إن في الحق لذي الحق سعه
والدعوة إلى الصمت إذا لم يسأل الإنسان فضيلة تربوية يريد الشعراء المربون غرسها في عقول المتعلمين. وهي من كمال قوام شخصية المرء الذي يجب عليه ـ ليكون حاوياً على الكثير من سمات الشخصية السليمة ـ أن يتجنب مالا ينفع من الكلام، وأن يتحلى بخير الخصال:
أطل الصمت إذا مالم تسل ... إن في الصمت لأقوام دعه
رب ماشٍ بحديث قاله ... لا يضر المرء أن لا يسمعه(2)
ومن الملاحظ خلال تتبع شعر أبي الأسود الدؤلي أن مجموع آرائه تشكل فصلاً خاصاً في التربية الفاضلة، وتربية المثل العليا. كما شاركه غيره من الشعراء هذا الغرض ممن وقفوا على التربية التي تفيد فأثبتوها شعراً لمكانة الشعر في النفوس. فقد دعا مسكين الدارمي(3) إلى حسن اختيار الصاحب وأكد على القيمة الفردية للخليلِ، من خلال التأكيد على حسن اختيار هذا الخليل فاشترط للصحبة الصفات الحسنة الكثيرة، وطالب بالصدق مع الناس وتجنب الكذب ذلك الداء الذي ينخر عظام الأمم المتخلفة فيقعدها عن النهوض، خاصة وأن الصدق في معناه الواسع باب تربية كبير وحده. وأكد الشاعر المربي على الجوهر لا المظهر، فقال(4) :
اصحب الأخيار وارغب فيهم ... رب من صحبته مثل الجرب
واصدق الناس إذا حدثتهم ... ودع الكذب لمن شاء كذب
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) أبو الأسود الدؤلي، المصدر السابق نفسه.
(3) هو ربيعة بن عامر بن أنيف من دارم تميمي من أهل العراق.
(4) خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي، ج3/71 القاهرة 1388 هـ ـ 1968م.(1/285)
رب مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسمِ مهزول الحسب
كذلك على المرء أن يتجنب صحبة الأحمق، لأسباب واقعية. فهو مصاب بانحراف كبير في صحته النفسية المتهلهلة ومادام الحال عنده غير صحيح نفسياً، فإنه من الخطأ مجالسته، لأنه سيفسد المجلس، ولن يستمع إلى قول الحق فيرعوي، بل يتمادى في غيِّه وحمقه. وقد لخص الشاعر المربي كل هذه المطالب في قوله(1) :
اتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلقْ
كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وَهْنَاً فانخرقْ
أو كصدعٍ في زجاجٍ فاحش ... هل ترى صدع زجاج يتفقْ!
وإذا جالسته في مجلس ... أفسد المجلس منه بالحزقْ
وإذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمقْ
ثم يلجأ الشاعر إلى تقسيم الناس إلى فصائل متوافقة أو متنافرة، فالمحصول الخلقي عند فاحشين التقيا واحد. ويرى أن الفحش يأتي بالعادة.
فإذا تكررت آليته عند المرء صار فاحشاً، وصار كغراب سوء أو حمار سوء، أو غلام سوء إن جاع سرق جاره أو شبع فسد وفسق، يقول(2) :
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ... فهناكم وافق الشن الطبقْ
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب السوءِ ما شاءَ نَعَقْ
أو حمار السوء إن أشبعته ... رَمَحَ النّاسَ وإنْ جاعَ نَهَقْ
أو غلام السوءِ إن جوّعته ... سرق الجار وإنْ يشبع فَسَقْ
ولما كان الشاعر يريد للمرء أن يتجنب الفحش، فقد صار يبين أنه يتكون بالعادة، ولجأ إلى كشف سلبياته عن طريق ضرب الأمثلة كوسيلة من وسائل التربية الناجحة في تجنب القيم السليبة.
نتائج التربية الفاشلة:
ليس اصعب على المرء من الفشل، ولاسيما إذا كان هذا الفشل تربوياً، فإنه يولد الإحباط وينمي المرارة والنقمة والألم.
__________
(1) المصدر السابق نفسه /ص69-70.
(2) المصدر السابق نفسه.(1/286)
فقد يمضي الأب وقتاً طويلاً من حياته في تربية أبنائه، ثم يفشل في تربية أحدهم، أو في تربيتهم كلهم، فيعيش الألم والحزن، ويعتصر قلبه أسى يجعله يستعرض تاريخ المتابعة التربوية التي صرف عليها شطراً من حياته في صورة من التربية التجريبية، كما في قول أميَّة بن أبي الصلت(1) وقد أدرك فشله في تربية أحد أولاده فعقه وخذله(2) :
غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أدني إليك وتنهل
إذا ليلة نابتك الشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ماكنت فيك أومل
ثم يستمر في حديثه بالحسنى، مذكراً إياه بأنه لما أدَّى حق التربية جازاه بالسوء والمجاهرة، كأنه صاحب النعمة والفضل ثم تمنى ـ حين لم يرعَ حق الأبوة ـ لو أنه عامله معاملة الجار لجاره بالرعاية ثم يعاتبه على تصرفه معه حين لم يجد له ما يكافئه سوى أن ينسبه إلى الغباوة!... ولو أدرك الأمور لعلم أن التفنيد في رأيه هولاً في رأي أبيه، وهكذا هيأ نفسه للخلاف والرد على أهل الصواب كأنه مجبول على ذلك مما ألم أباه وحزَّ في نفسه، فقال(3) :
جعلت جزائي منك جبهاً وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوّتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
وسميتني باسم المفندِ رأيه ... وفي رأيك الفنيد لو كنت تعقل
تراه معداً للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب موكل
__________
(1) عبد الله بن ربيعة، من الشعراء المخضرمين، وهو من ثقيف شاعر مجيد.
(2) حماسة أبي تمام ج1/ ص154، القاهرة 1955م.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/287)
وإذا فشل الأب في تربية أولاده، فإنه يصل إلى قمة الإحباط، فيحاول التعبير عن ألمه الكبير بهجائهم وذمهم، ويكشف لنا عن سوء معاملتهم له، في وقت تقسو فيه تلك المعاملة حتى يصبح أبرهم به أولاهم بسبه.(1)
وحين نتذكر أن التربية هي علاقة بين المربي والمتربي تعذر في عدم تجاوز هذه العلاقة السلبية.
وهكذا تكون التربية كما صورها الشعر التربوي قد تعهدت وحدة الشخصية في مسعاها إلى تربية الطبع والتعمق في صوغ العواطف.
وإن التواصل الاجتماعي لا يكون إلا بعاطفة جياشة ووجدان مرهف والتربية لا تكون مثمرة إلا إذا أنشأت الطفل على حب الحق والخير، والجمال. كما أنها لا تؤدي رسالتها إلا إذا ارتفعت بالإنسان إلى آفّاق المحبة والتضحية والنضال من أجل الحق والحرية والمثل العليا.
ومن هنا تأتي أهمية التربية القديمة في تكوين المجتمع العربي المعاصر وفي الوقت الذي صارت الانعزالية عن التربية العالمية أمراً مستحيلاً في هذا الوقت يجب ألا ننعزل عن التربية الإسلامية القديمة لأنها كما ذكرنا تعهدت وحدة الشخصية حين تجاوزت تربية الذكاء للوصول إلى تربية الطبع.
وكي تكون التربية الإسلامية التي نقصدها واضحة تماماً، أما م من يهمهم إعادة النظر في التراث، لابد من الاعتراف بأن الهدف الذي يرمي إليه شعر التربية الإسلامية أوسع بكثير مما رمى إليه فقهاء أهل السنة، والمختصون بالتربية منهم، لأن هذا الشعر دعوة إلى تعليم جوهر الدين، وعظيم الأخلاق ودعوة إلى بناء الشخصية المتكاملة التي تجعل المرء في وقتنا الحاضر، أكثر حضارة وتفتحاً وتشجعه على مد يده إلى أناس آخرين يشاركونه بناء المدنية التي يتمتع بها العالم المعاصر.
__________
(1) انظر أعرابياً يهجو بنيه في أمالي القالي: ج2/ص198 ، دار الكتب المصرية، 1926م، تصوير، دار الفكر، بيروت.(1/288)
كما تبعد عنه التحجير، وتوصله بالعقلاء أصحاب المثل العليا وصلاً مبنياً على اختيار واضح بعيد عن المتابعة الدينية، أو الاقتصادية أو العرقية، وإنه اختيار أرضه صُلْبة مادامت مبنيةً على القيم والمثل العليا التي تفجر المحبة في قلب الإنسان لأخيه الإنسان. وقد نعرف قيمة الشعر الإسلامي التربوي أكثر حين نقارن غرضه بالغرض الذي يريده أهل السنة وبعض علماء التربية الذين جعلوا الغرض من التعليم والتربية عندهم". هو معرفة الدين، علماً وعملاً".(1)
(((
ثمرة البحث
لدراسة الشعر العربي خطوط كثيرة من أهمها دراسة قائمة على أساس من استعراض تاريخ الأدب، وبيان أهم الأغراض الشعرية التقليدية الجديدة ودراسة قائمة على تناول شخصيات الشعراء تحت ما يعرف بالتراجم.
فكان من الطبيعي وأنا أبحث فيما يفيد أن أقف عند خط جديد في دراسة الشعر العربي، فاخترت الإيجابية والسلبية في هذا الشعر، ضمن مدة محصورة بين الجاهلية والإسلام.
ولست أدعي أني قد ركبت سنام البحث الأدبي في هذه الدراسة كل مافي الأمر أنه قد تأتّي لي أن أقف وقفة جديدة أمام الشعر العربي القديم، وبشكل خاص أمام المقطعات الشعرية التي لم تلق الالتفاتة المناسبة من الباحثين والدارسين.
وقفت لأشير إلى مواقف جديدة لأصحاب تلك المقطعات من مفاهيم عربية وإنسانية أحياناً.
__________
(1) التربية في الإسلام: د.أحمد فؤاد الأهواني، ص 99، دار المعارف بمصر، القاهرة
1968م.(1/289)
وهذا ما يفسر تجاوزنا للمتعة الفنية التي تمتلكها تلك المقطعات فقد أعطينا اهتمامنا إلى تلك النصوص على أنها مواقف من مفاهيم تعكس لنا أحوال المجتمع العربي، وعلى أنها سجلات حيَّة تستقرئ فيها دقائق الظروف الاجتماعية والفكرية، والاقتصادية والتربوية، من خلال ما يعرف بالدراسة التي تقوم على الفهم التاريخي والاجتماعي، وضمن المنهج التاريخي والاجتماعي في دراسة الأدب، مع الإسقاطات العصرية حسب تطور كل مفهوم من تلك المفاهيم من حالة الإيجاب إلى السلب، أو من السلب إلى الإيجاب بحسب العصر والموقف.
والجديد الذي يمكن رؤيته من خلال دراسة المقطعات الشعرية التاريخية والاجتماعية، هو بناء مفاهيم جديدة عن المجتمع العربي بين الجاهلية والإسلام وأخذ صورة جديدة أو جدية عن الشعر العربي في هذه المرحلة بعيداً عن الدراسات النقدية التي ترى الشعر أغراضاً متعددة.
ولأن تلك المقطعات الشعرية كانت تأتي في غالب الأحيان ردّ فعل سريع على حدث ما، أو مفهوم ما، فإنني وثقت بصدق مضامينها ودقة تصويرها للأحداث التاريخية والاجتماعية التي رسمتها تلك المقطعات للمجتمع العربي بين الجاهلية والإسلام في المناحي التي تناولناها في البحث.
كما أن هذه المقطعات الكثيرة جعلتنا نقف على شعراء كثيرين منهم المقل المجيد، ومنهم المكثر المجيد.وأغلب هؤلاء من المغمورين الذين يشكلون في مجموعهم تياراً آخر يقابل تيار شعراء القصور، يمكن لشعرهم أن يسدَّ كثيراً من الفجوات التي تطالعنا في أدبنا العربي.
فالدراسة تخطت المفهوم المدرسي في دراسة الأدب العربي من جهة الوقوف عند أغراض شعرية جديدة تلقي الضوء على قيمة أخرى للشعر العربي وتظهر أثره في الحياة العربية المعاصرة عامة.
إن التجارب الأدبية العربية المعاصرة دلَّت بوضوح على أن الدراسات التي بين أيدينا للأدب القديم ليست كافية، لأنها بين محقّرة ومجلّة لذلك الماضي.(1/290)
ولأننا نعتقد بضرورة نظرة ثالثة عملنا على إيجاد خط آخر في دراسة الأدب القديم يتناول أهم جوانب الحياة، فَبَيْنَ السَّالب والموجِب تكونُ الإِضَاءَة.
إن تحقير الماضي يعني تحقيراً للحاضر، كما أن إجلال الماضي لا يعطي الشرعية للحاضر، ويجب أن نعرف أن الماضي حيّ، فالماضي هو الحاضر ولا يوجد شيء يقذف في سلة مهملات التاريخ.
وإذا كنا نريد أن نحقق نجاحاً في أدبنا الحاضر، فإن علينا أن نبحث عن هذا النجاح في أدبنا الماضي، فإذا نجح أدبنا الحاضر على أساس من نجاح الماضي، أمكننا أن نتوجه إلى بناء مستقبل سليم على أساس من الماضي والحاضر.
ومهما يكن من قيمة بحثنا هذا في ذاته، فإنه فيما يعرضه هنا يبدأ النقاش الجاد لشعرنا العربي القديم الذي يغصّ بالأخطاء...
إن الأحوال المادية العربية بما أحدثه الغنى الاقتصادي العربي أدخله النفط العربي، وبما أحدثه قيام المشاريع الاقتصادية الكبرى في الوطن العربي. والأحوال الفكرية الجديدة التي أحدثتها تيارات فكرية حديثة، مادية وروحية، بعضها جديد وبعضها مستند على القديم، أكدت ضرورة التجديد الأدبي ليلائم التجديد الشعري التجديد الاجتماعي والفكري والاقتصادي والتربوي.
وحين عدنا لنلقي نظرة جديدة على أدبنا القديم بهدف إحياء التجارب الصالحة منه في بناء المستقبل، لم نوافق المجتمع العربي على جميع قيمه، ولم نتنازل عن حقنا في الحكم على كل مفهوم من خلال الموقف المواجه له ليأتي ما يكون في الشعر المعاصر والمستقبلي مستنيراً بضوء السالب والموجب فيما كان. كذلك فإن تجاوز الشوامخ من شعراء العصرين في أغلب الدراسة والوقوف عند شعراء آخرين يمكن أن يرسموا صوراً أخرى للشعر العربي، يقوي تيار الخط الجديد في دراسة الأدب، لاسيما بعد أن يتاح لنا الوقوف على مجموع واسع من نتاج هؤلاء المغمورين.(1/291)
وليحذر الشعراء اليوم أن يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون قبلهم حين جعلوا من أنفسهم مجرد أدوات لرأي القبيلة أو لرأي الحاكم، فيقرنون أنفسهم بهؤلاء في نظرة عصرية شاملة، فيملي عليهم انتماؤهم الحزبي أو القومي ما ينبغي أن يقولوه بعد أن تحدد لهم المضامين والقوالب معاً.
إن الشعراء يجب أن يعرفوا أنهم هبة الله للبشرية، ورسل محبته الدائمون. وتعميق التيار الإيجابي الخير من أهم مهمات رسل المحبة، وكشف التيار السلبي وتنفير الناس منه، لا يقل عن التيار الإيجابي مهمة عند هؤلاء الشعراء.
وهذا الخط الذي نعتقد جدته يجب أن يجعل من الشعراء أصحاب نفوس لوَّامة، تحاسب أصحابها على كل خطوة يخطونها فتشجع خط الخير وتعززه، وتثبط خط الشر، وتشجع الخير في إطار إنساني عام، لا في إطار إقليمي ضيق. وهذا شفيعي فيما يعتقد أنه تجريح أو انتقاص من شأن بعض المفاهيم العربية السلبية التي مرت دراستها ضمن ثنايا البحث وتضاعيفه.
ويبقى أن أشير في خاتمة هذا الموضوع إلى إمكانية استكمال هذا البحث في دراسة بقية العصور العربية حتى العصر الحديث ليتم استكمال هذا الخط في دراسة الشعر العربي، كما يمكن تبني هذا الخط الجديد في دراسة النثر العربي، لتكتمل لدينا صورة جديدة عن الأدب العربي كله. وعلى الله قصد السبيل.
((
الفهارس الفنية
ـ فهرس المصادر والمراجع.
ـ فهرس الأعلام.
ـ فهرس البلدان والمواضع.
ـ فهرس الفهارس.
(
ـ فهرس المصادر والمراجع.
الألف:
ـ الآمدي، المؤتلف والمختلف، مطبعة القدسي، القاهرة 1354هـ.
ـ ابن الأثير، جامع الأصول، مكتبة الحلواني والملاح والبيان، دمشق 1971م. أسد الغابة، كتاب الشعب، القاهرة 1970م.
... الكامل في التاريخ، بيروت، 1965م.
ـ ابن حجر، الإصابة، مطبعة السعادة، القاهرة، 1323هـ.
ـ ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة، 1329هـ.
ـ ابن رشيق، العمدة، القاهرة، 1968م. دار الجيل، بيروت 1972م.(1/292)
... فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ ابن سحنون، آداب المعلمين، طبع حسن حسني عبد الوهاب، تونس، 1348هـ.
ـ ابن سلام، طبقات الشعراء، دار المعارف بمصر، القاهرة 1952م.
ـ ابن عبد ربه، العقد الفريد، المطبعة الأزهرية، القاهرة 1949م.
ـ ابن مزاحم، وقعة صفين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1382هـ.
ـ ابن المعتز، طبقات الشعراء، دار المعارف بمصر، القاهرة 1959م.
ـ ابن قتيبة، عيون الأخبار، القاهرة، 1968م.
... الشعر والشعراء، الطبعة الثالثة، القاهرة 1323هـ.
ـ ابن هشام، السيرة النبوية، الشلبي والأبياري، وأبو الفضل، القاهرة 1337هـ.
ـ ابن يعقوب، تاريخ اليعقوبي، نشر هوتسا، ليدن 1883م.
ـ أبو الأسود الدؤلي، ديوان، مطبعة المعارف، بغداد 1964م.
ـ أبو تمام، الحماسة، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1955م.
ـ أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، مكتبة أطلس، دمشق 1964م.
ـ أبو زيد القرشي، جمهرة أشعار العرب، المطبعة الرحمانية، القاهرة بلا تاريخ، دار نهضة مصر، القاهرة 1967م.
ـ أبو سعيد التميمي السمعاني، الأنساب، مكتبة المثنى، بغداد، 1970م.
ـ أبو سعد، محمد بن أحمد، الإبانة عن سرقات المتنبي، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1974م.
ـ أبو علي القالي، الأمالي، دار الكتب المصرية، القاهرة 1955م. دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ.
ـ أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، دار الثقافة، بيروت، 1959م. ودار الكتب، القاهرة، طبعة السياسي، القاهرة.
ـ أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة بولاق، القاهرة 1920م. الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1970م.
ـ أبو الفضل إبراهيم، جاد المولى، البجاوي، أيام العرب في الجاهلية، القاهرة.
ـ أبو صالح محمد بدر الدين، المُدْخِل إلى العربية، مكتبة الشرق، حلب، 1963م.
ـ أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، بلا تاريخ.
ـ الأوائل، وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.(1/293)
ـ أحمد أمين، فجر الإسلام، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1959م.
ـ أحمد شلبي، السياسة والاقتصاد في التفكير الإسلامي، الطبعة الثالثة، القاهرة.
... تاريخ التربية الإسلامية، دار الكشاف، بيروت 1954م.
ـ أحمد فؤاد الأهواني، التربية في الإسلام، دار المعارف بمصر، القاهرة 1968م.
ـ أ حمد محمد عطية، البطل الثوري في الرواية العربية، وزارة الثقافة، دمشق 1977.
ـ أسعد علي، كتاب الأمهات، دار السؤال، دمشق، 1978م.
... مصابيح القراءة للتأليف العلمي، دار السؤال، دمشق، 1979م.
... تفسير القرآن المرتب، منهج لليسر التربوي، دار السؤال، دمشق، 1979م.
... فن الحياة، فن الكتابة، دار السؤال، دمشق، 1977م.
ـ الأصمعي، الأصمعيات، دار المعارف، بمصر، القاهرة 1964م.
ـ الأعشى، ديوان، الطبعة النموذجية، القاهرة 1950م. دار صادر، ودار بيروت، بيروت 1960م. لندن، 1927م.
(الباء):
ـ بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلامية، دار العلم للملايين، بيروت 1965م.
ـ البغدادي، خزانة الأدب، بولاق، القاهرة 1299هـ.
ـ البلاذري، فتوح البلدان، ليدن 1866م. القاهرة 1319هـ.
(التاء):
ـ التبريزي، شرح القصائد العشر، دار الأصمعي، حلب، 1973م.
(الثاء):
ـ ثريا ملحس، القيم الروحية في الشعر العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، بلا تاريخ.
(الجيم):
ـ الجاحظ، البيان والتبيين، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1968م.
... الحيوان، الحلبي، القاهرة 1948م. دار صعب، بيروت، بلا تاريخ.
ـ جروان السابق، الكنز، الطبعة الأولى، بيروت، بلا تاريخ.
ـ جمس فريزر، الغصن الذهبي، دراسة في السحر والدين، القاهرة 1971م.
ـ جميل صليبة، المنطق، الطبعة الثانية، بيروت، بلا تاريخ.
- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت 1970م.
ـ الجواليقي، المعرب، القاهرة 1969م.
(الحاء):
ـ حسان بن ثابت، ديوان، طبعة البرقوقي، القاهرة، بلا تاريخ.(1/294)
ـ حسن سعران، معجم (إنكليزي ـ عربي)، دار صادر، ودار بيروت، بيروت 1967م.
(الخاء):
ـ خير الدين الزركلي، الأعلام، الطبعة الثالثة، بيروت، بلا تاريخ.
(الدال):
ـ داميان غرانك، الواقعية، لندن 1970م.
(الذال):
ـ الذهبي، سير أعلام النبلاء، دار المعارف بمصر، القاهرة بلا تاريخ. دمشق، 1981م.
(الراء):
- رـ بلاشير، تاريخ الأدب العربي، وزارة الثقافة، دمشق، 1973م.
(الزاي)
ـ زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، دار مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1963م.
(الشين):
ـ الشهرستاني، الملل والنحل، القاهرة، 1968م.
ـ شوقي ضيف، العصر الإسلامي، دار المعارف بمصر، القاهرة، بلا تاريخ.
... التطور والتجديد في الشعر الأموي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1952م.
(الطاء):
ـ (الطبري)، تاريخ الأمم والملوك، ليدن 1893م. دار المعارف بمصر، القاهرة، 1967م.
ـ طه إبراهيم: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الحكمة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر، القاهرة 1927م.
ـ الطفيلي الغنوي، ديوان، لندن، 1927م.
(العين):
ـ عبد الفتاح طبارة، روح الدين الإسلامي، دار العلم للملايين، بيروت 1968م.
ـ عروة بن الورد، ديوان، دار الكتب المصرية، القاهرة 1935م.
ـ عز الدين اسماعيل، التفسير النفسي للأدب، دار الثقافة، بيروت.
ـ عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت 1969م.
... عبقرية العرب في العلم والفلسفة، دار اليقظة، دمشق، بلا تاريخ.
... عدة مؤلفين، الوعي التربوي، مكتبة رأس بيروت، بيروت 1972م.
(الفاء):
ـ فريدريك فون دير لايين، الحكاية الخرافية، القاهرة 1965م.
(القاف):
ـ قدامة بن جعفر، نقد الشعر، مكتبة الخانجي بمصر، والمثنى ببغداد، 1963م.
(الكاف):
ـ كعب بن زهير، ديوان، دار الكتب المصرية، القاهرة، بلا تاريخ,
ـ كمال يازجي، معالم الفكر العربي في العصر الوسيط، دار العلم للملايين، بيروت 1974م.
(اللام):(1/295)
ـ ليلى صباغ، المرأة في التاريخ، وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.
(الميم):
ـ المازندراني، مناقب آل طالب، المطبعة الحيدرية، النجف 1376م.
ـ الماوردي، الأحكام السلطانية، القاهرة 1909م.
ـ المبرد، الكامل، القاهرة، 1937م.
ـ محمد أسعد طلس، التربية والتعليم في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت 1975م.
ـ محمد النويهي، الشعر الجاهلي، دار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، بلا تاريخ.
ـ محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، الأنجلو المصرية، القاهرة 1970م.
ـ محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ.
ـ محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، مكتبة الفجالة، القاهرة، بلا تاريخ.
ـ محمد كرد علي، الإسلام والحضارة الدينية، لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة
1050م.
ـ المرتضى، الأمالي، دار السعادة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ المرزباني، الموشح، المكتبة السلفية، القاهرة، بلا تاريخ.
ـ المسعودي، مروج الذهب، مكتبة الشرق الإسلامية القاهرة، بلا تاريخ، بولاق، القاهرة 1283م.
ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة 1349م.
ـ المفضل الضبي، المفضليات، دار المعارف بمصر، القاهرة 1964م.
ـ المولى والبجاوى وأبو الفضل، أيام العرب في الجاهلية، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1942م.
(النون):
ـ النعمان القاضي، شعر الفتوح الإسلامية، في صدر الإسلام، الدار القومية، القاهرة،
1965م.
ـ النويري، زهر الآداب، القاهرة ، 1953م.
... نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة، نسخة مصورة، بلا تاريخ.
ـ نوري حمودي القيسي، الطبيعة في الشعر الجاهلي، دار الإرشاد، بيروت 1970م.
... الفروسية في الشعر الجاهلي، مكتبة النهضة، بغداد 1964م.
(الهاء):
ـ هـ.آ.ل. تاريخ أوربا (العصور الوسطى، القسم الأول)، دار المعارف، بمصر، 1957م.
(الياء):
ـ يوسف بيومي، النقد الأدبي، دار الجيل، القاهرة، 1974م.
ـ يوسف خليف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1966م.(1/296)
حياة الشعر في الكوفة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968م.
مجلات ودوريات وبحوث خاصة:
1 ـ العربي، العدد 216، 1976م.
2 ـ مجلة الجامعة الإسلامية، العدد الثاني 1390هـ/ 1970م.
3 ـ المجلة العربية، السنة الثالثة، العدد الثالث.
4 ـ المجلة العربية، السنة الرابعة، العدد الرابع.
5 ـ استراتيجية تطوير التربية العربية، بحث خاص وضع لجنة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1979م، جامعة الدول العربية.
6 ـ المجلة الآسيوية، مجلد 1905م.
7 ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب، المؤتمر العام الثاني عشر، دمشق 1979م.
8 ـ محاضرات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1954م.
((
فهرس الأعلام
(أ)
- آل حصن : .11
- آل طالب : 192
- آل غسان : 57 – 58 – 149
- آل فهر : 114
- الآمدي : 137
- ابن أبي إياس : 179
- ابن الأثير : 49 – 55 – 56 – 164 – 177 – 182 – 247 – 259
- ابن الأعرابي : 253
- ابن إسحاق : 114 – 126
- ابن جرموز : 194
- ابن جني : 28 – 279
- ابن حجر العسقلاني : 63 – 65 – 165
- ابن حزم : - 78 – 240
- ابن خلدون : 122
- ابن خلكان : 42
- ابن دريد : 88
- ابن رشيق : 11 – 14 – 31 – 106 – 162 – 172 – 178
- ابن الزبير : 244 – 272 – 277
- ابن زياد : 195
- ابن سحنون : 211
- ابن سعد : 14 – 244 – 238
- ابن السكيت : 222
- ابن سلام : 167 – 181 – 221
- ابن الشجري : 56
- ابن شهاب الزهري : 227
- ابن صفية : 194
- ابن ظبيان : 269
- ابن عساكر : 12
- ابن عمرو التميمي : 49
- ابن الغسيل : 212
- ابن غلاب : 231
- ابن كتيبة : 177 – 212 – 213
- ابن كهال : 72
- ابن مزاحم : 177 – 179 – 180 – 184 – 187 – 225
- ابن مسعود : 66
- ابن مقبل : 181
- ابن هبيرة : 249
- ابن هشام : 13 – 244
- ابن هلال : 14
- ابن همام السلولي : 235
- أبو الأسود الدؤلي : 203 – 279 – 291 – 293 – 294 – 295
- أبو بكر الصديق : 81 – 260(1/297)
- أبو البلاد الطهوي : 69 – 177 – 196 – 210 – 260
- أبو تمام : 84 – 85 – 88 – 89 – 131 – 136 – 147 – 207 – 208 – 209 – 289
- أبو جرول الجشمي : 164
- أبو جرة : 267
- أبو حمزة الضبي : 218
- أبو حيان التوحيدي : 242 – 247 – 253 – 255
- أبو ذر الغفاري : 171 – 267
- أبو زبيد الطائي : 252 – 253
- أبو زيد القرشي : 80 – 235 – 278
- أبو سعيد السمعاني : 37
- أبو سفيان : 146 – 210
- أبو الطروق : 205
- أبو عبيدة البكري : 64
- أبو العلاء عفيفي : 284
- أبو العلاء المعري : 126
- أبو عمر الشيباني : 116
- أبو عمرو ابن العلاء : 120 – 147 – 229
- أبو علي القالي : 105 – 222
- أبو الفرج : 59 – 69 – 249
- أبو الفضل إبراهيم : 51 – 162
- أبو قبيس : 114
- أبو كبير الهذلي : 147
- أبو موسى الأشعري : 114
- أبو هريرة : 252
- أبو هلال العسكري : 53 – 77 – 110 – 115 – 204
- أحمد أمين : 12 – 126
- أحمد فؤاد الأهواني : 96 – 281 – 283 – 284 – 298
- الأحوص : 228
- أحيحة بن الجلاح : 98
- أرنست رينان : 84 – 171 – 191
- أسعد علي : 25 – 28 – 45 – 71 – 229 – 284 – 290
- أسلم بن عبد البكري : 246
- الأشتر : 186
- الأشعث : 180 – 181
- الأصمعي : 44 – 88 – 97 – 109 – 123 – 168 – 177
- الأعشى : 73 – 91 – 92 – 104 – 106 – 107
- أعشى باهلة : 112
- أعشى همذان : 268
- أكثم بن صيفي : 124
- امرؤ القيس : 12 – 119 – 128 – 180
- أمية بن أبي السلط : 77 – 297
- أمية بن خلف : 90
- أمية : 83 – 188 – 211 – 246 – 277 – 283
- أنس بن أبي أناس : 236
- أنس بن جحية : 262
- أوارة : 49 – 50
- أوس بن حجر : 49 – 74 – 77
- أياس بن القائف : 131
- أيمن بن خزين : 244
( ب )
- باجورا : 80
- الباز العريني : 119
- بوجير : 169
- بحر الخزر : 80
- البخاري : 63 – 65 – 66
- البرج بن مسهر : 86
- بروكلمان : 48
- بشر بن أبي ربيعة : 126(1/298)
- بشر بن أبي خازم : 51 – 259
- بشر بن عمرو بن مراد : 137
- البغدادي : 112
- بلاشير : 13 – 14 – 48 – 124 – 128 – 160 – 196
- بكري شيخ أمين : 84
- بكر : 204 – 242
- بنو أسد : 52 – 119
- بنو تميم : 14 – 49 – 50 – 51 – 52 – 114 – 187 – 188 – 242
- بنو تغلب : 41 – 116
- بنو حنيفة : 49 – 51
- بنو خزيمة : 47
- بنو سعيد : 88
- بنو عامر : 51 – 52 – 53 – 54
- بنو عبس : 54 – 108
- بنو فقعس : 47
- بنو القين : 65
- بنو كلب : 87
- بنو كلاب : 52
- بنو مرة : 88
- بنو نمير : 52
- بهراء : 65
- البزنطيون : 129
( ت )
- التبريزي : 41 – 44 – 97 – 108 – 109 – 116 – 120 – 121 – 126 – 131 – 137 – 147
- الترمذي : 9 – 202 – 252
- تميم الداري : 78
- تهامة : 129
- تيم بن مرة : 115
( ث )
- ثابت بن جابر بن سنان : 69
( ج )
- جابر بن حني التغلبي : 111
- جابلص : 226
- جابلق : 226
- الجاحظ : 31 – 65 – 66 – 68 – 69 – 70 – 71 – 72 – 73 – 77 – 78 –96 – 100 – 103 – 211 – 218 – 246 – 268 – 269
- جاد المولى : 51
- جديس : 59 – 60
- جذام : 78
- جرهم : 126
- جروان السابق : 23
- جرير : 38 – 196 – 238 – 265
- جزء بن معاوية : 230
- جعدة : 220
- جعفر بن قريع 224
- جلال الدين السيوطي : 22 – 38 – 141
- جميل صليبة : 29
- جميل بن معمر : 41 – 42
- جواد علي : 37 – 40 – 43 – 45 – 63 – 66 – 73 – 75 – 116
- جمس فريزر : 172
( ح )
- حاتم الطائي : 89 – 135 – 139
- حاجب بن زرارة : 52
- الحادرة : 77
- الحارث بن أبي شمر الغساني : 49 – 50 – 56 – 57 – 113
- الحارث بن مضاض : 80
- الحارث بن وعلة : 46
- حارثة بن بدر التميمي : 236 – 279
- الحارث بن عوف : 119 – 224
- الحارث بن ورقاء الأسدي : 110
- حافظ الجمالي : 29
- حباشة : 129
- الحبطات : 114
- حجر بن عدي : 189
- الحجاج بن يوسف : 211 – 236 – 246 – 247 – 269
- حرثان بن الأسكر : 221(1/299)
- حريث بن جابر : 225
- حسن حسني عبد الوهاب : 214
- حسن سعران : 23
- حسان بن ثابت : 90 – 91 – 161 – 164 – 167 – 168 – 176 – 182 – 184 – 224
- حسان بن مخدوج : 181 – 224 – 225
- حسان سركيس : 90
- الحسين بن علي : 192 – 195 – 196 – 248
- حصين بن المنذر : 187
- حطان بن المعلى : 96
- الحطيئة : 99 – 168 – 203 – 222 – 224
- الحفار : 51
- الحكيم بن عبدل : 263 – 264
- حمزة : 245 – 249
- حميد الأرقط : 89
- الحنفاء : 128
( خ )
- خالد بن سنان : 124
- خالد القسري : 236
- خالد بن الوليد : 191
- الخانجي : 9
- خثعم : 115
- خزز بن لوذان : 67
- الخطيل : 177
- خنيس : 222 – 223
( د )
- دحروجة الجعل : 273
- دريد بن الصمة : 44
- دميال خزنك : 28 – 29
( ذ )
- ذبيان : 108
- الذهبي : 176
- ذو الإصبع العدواني : 54 – 70
( ر )
-الراعي : 234 – 235 – 275 – 276
- رافع بن عميرة : 191
- ربيعة : 55 – 133 – 186 – 187 – 188 – 225
- الربيع بن زياد : 53
- الرشيد : 88
( ز )
- زبان بن يسار : 64
- الزبرقان : 177
- الزبير بن بكار : 164
- زبيد : 114
- زرارة : 49 – 50
- الزركلي : 184
- زفر بن قيس : 224
- زكرية إبراهيم : 193
- زكي الأرسوزي : 116 – 252
- زياد الأعجم : 227
- زياد بن أبيه : 184 – 195
- زيد بن عمرو بن نفيل : 127
- زهير بن أبي سلمى : 107 – 108 – 110 – 119 – 120 – 123
( س )
- ساعدة : 184
- سبيع بن الخطيم : 137
- السجستاني : 222
- سعد بن أبي وقاص : 196 – 199 – 221
- سرق : 236
- سعيد بن زيد : 266
- سعية بن الغريض : 45
- السفاح بن الرقراق : 81
- السكري : 222
- السكون : 174
- سلمان الفارسي : 241 – 242
- سلمى : 86 – 268
- سلامة بن جندل : 95
- السليل بن عمرو : 179
- سمرة بن جندب : 230
- السموءل : 45
- سهم بن حنظلة : 131 – 171
- سهل بن عمرو : 146
- سويد بن الصامت الأنصاري : 251 – 257
- سواد بن قارب : 214(1/300)
- سويد بن أبي كاهل : 251
( ش )
- شأس بن نهار : 112 – 113 – 114
- شجاع بن وهب : 113
- الشحر : 129
- الشعبي : 11 – 12
- شمر بن ذي جوشن : 195
- الشهرستاني : 78
- الشنفرى : 57 – 99 – 135 – 148 – 149 – 255
- الشنقيطي : 126
- شوقي ضيف : 67 – 73 – 201 – 202 – 203 – 225 – 270
- شيبان : 165 – 221
( ص )
-صفون بن أمية : 98
- صفون بن المعطل : 177
( ض)
- ضبة : 133
- الضحاك بن قيس : 244
(ط )
- الطبري : 71 – 177 – 184 – 196 – 210 – 212 – 244 – 262 – 268 – 269 – 270 – 272 – 276 – 277
- طرفة بن العبد : 11 – 37 – 43 – 97 – 98 –119 – 120 – 133
- الطرماح بن حكيم : 205
- الطفيل الدوسي : 12
- الطفيل الغنوي : 92
- طه إبراهيم : 58 – 167
- طه حسين : 83 – 87 – 89 – 103 – 259
- طه عبد الحسين : 183
- طه : 171
( ظ )
( ع )
- عائشة : 176
- عاصم بن القرية : 72
- عامر بن الحرث : 112
- عامر بن الطفيل : 148
- عامر بن وائلة : 186 – 188
- عبد الرحمن البرقوقي : 184
- عبد الرحمن بن حسان : 184
- عبد الرحمن بن حنبل : 232
- عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي : 233 – 234 – 235
- عبد الله بن جدعان : 114
- عبد الله بن الحارث : 254
- عبد الله بن الحر : 264 – 265 – 266
- عبد الله بن دارم التميمي : 49
- عبد الله بن رواحة : 161
- عبد الله بن الزبير : 11
- عبد الله بن غطفان : 250
- عبد الله بن كثير السهمي : 248
- عبد الله النديم : 111 – 189 – 204 – 233 – 278
- عبد الله بن همام السلولي : 261 – 272 – 280
- عبد المطلب بن هاشم : 80 – 165
- عبد الملك بن مروان : 11 – 234 – 246 – 275 – 276
- عبدة بن الطيب : 143 – 152 – 213
- عبد قيس بن خفاف : 40 – 90 – 112 – 141 – 152
- عبد مناف : 81
- عبيد بن الأبرص : 91 – 119 – 126 – 134
- عبيد الله بن زياد : 196
- عبيدة بن أيوب : 68 – 69
- عثمان بن عفان : 176 – 178 – 183 – 232
- عدي بن رعلاء : 56(1/301)
- عدي بن زيد : 148
- عدي الطائي : 224
- عروة بن الورد : 73 – 136 – 170
- عصام بن عبيد الزماني : 39
- العلاء بن ميمون : 80
- علقمة بن عبدة : 113 – 147
- علي بن أبي طالب : 166 – 178 – 179 – 181 – 183 – 184 – 185 – 187 – 188 – 194 – 195 – 204 – 213 – 224 – 225 – 226 – 248
- عمر بن الخطاب : 14 – 81 – 110 – 165 – 177 – 197 – 198 – 199 – 200 –202 – 221 – 222 – 228 – 229 – 231 – 247 – 248 – 260 – 265 – 266
- عمر بن عبد العزيز : 295 – 236 – 237 – 238 – 270 – 279
- عمرو بن الحارث : 80
- عمرو بن حنظلة : 141
- عمرو بن العاص : 231
- عمرو بن كلثوم : 50 – 51 – 116
- عمرو بن معد يكرب : 199 – 200
- عمرو بن المنذر : 49 – 50 – 111
- عمرو بن هند : 11 – 110 – 116
- عمير بن الأهلب : 212 – 213
- عوف بن عطية : 63
( غ )
- غاير : 104
- غسان بن وهلة : 88
- غني بن أعصر : 131
( ف )
- فاخر عاقل : 281 – 282 – 293
- فاطمة بنت الخطاب : 266
- فخر الدين قباوة : 108 – 116 – 120 – 121
- الفخري : 260
- الفرزدق : 11 – 222 – 223 – 227
- الفضل بن عباس : 211
( ق )
-القابسي : 96
- القالي : 66 – 146
- قتيبة بن مسلم الباهلي : 269 – 270
- قتيلة بنت النضر : 164
- قدامة بن جعفر : 9
- قريط بن أنيف : 207
- قس بن ساعدة : 127 – 128
- القطامي : 209
- قطبة بن أوس : 148
- قيصر الروم : 57 – 127
( ك )
- كارل بروكلمان : 108
- كثير عزة : 256
- كسرى : 53 – 57 – 107
- كعب الأشقري : 236 – 238 – 277
- كعب بن زهير : 164
- كعب بن سور الأزدي : 219
- كعب بن مالك : 161 – 162
- كمال يازجي : 240
- الكميت : 246
( ل )
- لبيد بن ربيعة : 41 – 53 – 126
- لقمان بن عاد : 65
( م )
- مازن : 43
- المازندراني : 192
- مارجليوث : 121
- مالك بن هبيرة : 180 – 181
- الماوردي : 109 – 170 – 260
- مايكوفسكي : 15
- المثنى : 9
- مجاشع بن مسعود : 230(1/302)
- محرز بن المكعبر : 133
- محمد أحمد عطية : 111
- محمد بدر الدين : 30
- محمد بن بشر : 259
- محمد عبد المنعم خفاجي : 85
- محمد غنيمي هلال : 15
- محمد بن مسلمة : 232
- محمد مصطفى زيادة : 119
- محمد النويهي : 39
- محمود شكري الآلوسي : 72
- المخبل السعدي : 221 – 222
- المرزوباني : 52 – 56 – 111 – 112 – 124 – 168 – 248
- المرزوقي : 52 – 124
- المرقش الأصغر : 133 – 134
- المرقش الأكبر : 133
- مروان بن الحكم : 244 – 245
- المزرد بن ضرار : 87
- مصعب بن الزبير : 265 – 269
- معاد بن مذعور : 65
- معاوية : 178 – 179 – 180 – 183 – 211 – 225 – 233
- معمر بن المثنى : 229
- منتسوري : 290
- المنتشر بن وهب : 112
- المنذر بن ماء السماء : 13 – 49 – 56 – 105 – 113
- المهلب بن أبي سفرة : 236 – 268
( ن )
- النابغة الجعدي : 124
- النابغة الذبياني : 13 – 49 – 63
- نافع بن الحارث : 230
- نبيلة إبراهيم : 71
- نبيه بن الحجاج : 115
- النجاشي : 225
- نجيب البهبيتي : 167
- النعمان بن عدي : 197
- النعمان بن المنذر : 13 – 40 – 53 – 90 – 119
- النعمان بن عون : 230
- نفيل : 112 – 113
- النمر بن تولب : 88
- نهار بن توسعة : 269
- النوار : 11
- نوري حمود القيسي : 138
- النووي : 45
- النويري : 70 – 76 – 219
- نيكلسون : 117
(هـ )
- هاشم : 77 – 83 – 184
- هاشم بن حرملة : 212
- هاليفي : 28
- هانئ بن عروة : 224
- الهذلي : 191
- هرم بن سنان : 119
- هند بن أسماء : 112
- هند بنت عقبة : 146
- هند : 76 – 129
- هوميروس : 116
( و )
- واثلة بن الأسقع : 182
- واصل بن عطاء : 205
- ورقة بن نوفل : 127
- الوليد بن عقبة : 178 – 179 – 183
- وكيع : 219
( ي )
- ياسين : 66
- يحيى الجبوري : 19 – 160
- يرفأ : 228
- يزيد بن الحكم : 284
- يزيد بن عبد الملك : 227 – 228
- يزيد بن عمرو : 143
- يزيد بن ضبة : 121 – 126
- يزيد بن معاوية : 212(1/303)
- يزيد بن المهلب : 269
- يزيد بن قيس بن الصعق : 229 – 230 – 231
- اليعقوبي : 130 – 210 – 236
- يوسف بيومي : 9
- يوسف خليف : 136 – 184 – 204 – 262
- يوسف عز الدين : 30
((
فهرس البلدان والمواضع
(آ)
ـ آمد:81.
ـ أجا: 86- 98.
ـ الأهواز: 236.
ـ أوروبا: 119- 236.
( ب )
ـ البحرين: 11- 119- 204- .
- بصرى: 56.
ـ البصرة:184- 198- 222- 223- 230- 262- 279.
ـ بغداد: 9- 160.
- جولاق: 186.
ـ بيروت: 11- 29- 31- 48- 49- 50- 52- 53- 56- 58- 63- 65- 66- 90- 95- 97- 99- 106- 107- 108- 113- 125- 164- 167- 170- 210.
- بيت القدس: 272.
ـ بيسان: 75.
(ت)
ـ تونس: 211.
(ج)
ـ جابلص: 226.
ـ جابلق: 226
(ح)
ـ الحجاز: 48.
ـ حضر موت: 129- 187- 188.
ـ حلب: 30- 41- 44- 95- 97- 108- 116- 121- 126.
ـ حوران : 56.
ـ الحيرة: 91- 110
(خ)
ـ خراسان: 220.
(د)
ـ دبي: 129.
ـ دمشق: 11- 29- 56- 57- 66- 111- 113- 118- 128- 160- 184- 228- 229- 242.
ـ دومة الجندل:
(ذ)
ـ ذي المجاز:
(س)
ـ سوق عكاظ: 77
(ش)
ـ الشام: 127- 179- 181- 225
(ص)
ـ صفين: 179- 180- 181- 184- 186- 188- 189.
ـ صنعاء: 129.
(ط)
ـ طسم: 59- 60.
- طي: 50- 89.
(ع)
-عاد: 109.
ـ العراق: 56- 57- 108- 109- 111- 181- 184- 191- 196- 226- 234- 236- 248.
ـ عكاظ: 90- 106- 127- 129.
ـ عمان:
(غ)
(ف)
ـ فارس: 220.
ـ الفرات: 274
(ق)
ـ القاهرة: 11- 12- 45- 48- 51- 55- 110- 122- 125- 134- 136- 141- 162- 164- 172- 183- 184- 192- 194- 197- 198- 200- 203- 204- 212- 220- 229- 284.
(ك)
ـ الكوفة: 184- 189- 204- 233- 250- 262- 263.
(ل)
ـ لبنان: 125.
ـ ليدن: 244- 260.
(م)
ـ مصر: 9- 64- 73- 80- 83- 99- 103- 111- 112- 119- 133- 134- 135- 139- 141- 165- 201.
ـ المدينة:48.
ـ مكة: 12- 48- 49- 76- 79- 106- 114- 127.
- منفوحة: 91.
- كتى: 77.
ـ ميسان: 1987- 198.
(ن)
ـ نجد:119.(1/304)
ـ نجران: 127.
ـ النجف: 192.
ـ نهوند: 274.
(هـ)
- هجر: 129.
- همذان: 184.
ـ الهند: 106.
- هوزان: 55- 187- 188.
(و)
(ي)
ـ اليمن: 91- 181- 187- 224.
ـ اليونان:
(((
فهرس الفهارس
فهرس الموضوعات ... 3
مقدمة البحث ... 3
الإيجابية والسلبية لغة ودلالة ... 3
أولاً: الإيجابيّة لغةٌ ودلالةٌ: ... 3
ثانياً: السلبية لغة ودلالة: ... 3
الباب الأول :
العصر الجاهلي ... 3
الفصل الأول : المفاهيم السلبية: ... 3
المنَاحي الاجتماعيَّة ... 3
- التفاخر بالأنساب. ... 3
- العصبية القبلية: ... 3
شعر التحريض: ... 3
المناحي الفكريّة ... 3
في المناحي الفكرية: ... 3
الطيرة والأوهام والخرافات: ... 3
الغيلان والسعلاة، ومزاعم أخرى: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
المناحي التربوية ... 3
توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ: ... 3
الفصل الثاني: المفاهيم الإيجابيّة ... 3
المناحي الاجتماعيّة ... 3
حل المشاكل الاجتماعية: ... 3
تسجيل خيانة القبائل وذمها: ... 3
المناحي الفكريّة ... 3
المظاهر العقلية في العصر الجاهلي ... 3
حركة التوحيد في الجاهلية: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
موقف الشعراء من تضخم الثروة: ... 3
أثر المال في العلاقات الاجتماعية: ... 3
دور المرأة في سياسة المال: ... 3
المناحي التربوية ... 3
في المناحي التربوية: ... 3
الخصال الحميدة التي يربى بها الفتى: ... 3
الخصال الحميدة التي تربى فيها الفتاة: ... 3
مظاهر أخرى في التربية الجاهلية: ... 3
استنتاج: ... 3
الباب الثاني:
العصر الإسلامي ... 3
الفصل الأول ... 3
الشعر ونفوذه في الإسلام: ... 3
التغيرات البنيوية في المجتمع العربي بعد الإسلام: ... 3
الفصل الثاني : المفاهيم السلبيّة ... 3
المناحي الاجتماعية ... 3
شعر الفتن والتحريض: ... 3
شعر التحريض: ... 3
العصبية القبلية: ... 3
المناحي الفكرية ... 3
الاستخفاف بالدين!.. ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
المناحي التربوية ... 3
-توجيه السلوك الاجتماعي والأخلاقي بشكل خاطئ. ... 3
- تصعيد النزوات السليبة: ... 3
-التقليل من قيمة المعلم: ... 3
-ذكر الضحايا والموت والدمار: ... 3
-ذكر الجن والعفاريت والأشباح: ... 3(1/305)
الفصل الثالث: المفاهيم الإيجابيّة ... 3
المناحي الاجتماعية ... 3
حل المشاكل الاجتماعية: ... 3
التنديد بالفساد وفضح المرتشين: ... 3
المناحي الفكرية ... 3
المحاكمة العقلية: ... 3
إظهار كلمة الحق، وفضح الباطل: ... 3
الأخلاق الفاضلة: ... 3
المناحي الاقتصادية ... 3
ـ بدايات الاقتصاد العربي في الدولة الإسلامية: ... 3
- تصوير الواقع السلبي الذي خلفه التناقض الطبقي: ... 3
فضح أصحاب الخراج وأصحاب الصدقات: ... 3
المناحي التربوية ... 3
- التربية ... 3
بناء الشخصية كما جاء في الشعر التربوي الإسلامي: ... 3
الفضائل التي دعا إليها الشعر التربوي: ... 3
نتائج التربية الفاشلة: ... 3
ثمرة البحث ... 3
الفهارس الفنية ... 3
ـ فهرس المصادر والمراجع. ... 3
فهرس الأعلام ... 3
فهرس البلدان والمواضع ... 3
فهرس الفهارس ... 3
((1/306)