الإنسانُ بين علوِّ الهمَّة وهبوطها
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الإنسان يعيش بين علو الهمة وهبوطها ، فعندما يقوى إيمانه يقبل على طاعة الله تعالى برغبة جامحة ، فيكثر من النوافل والقربات، وقد تمرُّ به فترات فتضعف همته وتخور عزيمته ، فيقصِّر في أداء الواجبات ، وقد يرتكب بعض المحذورات .
وفي القرآن والسنة علاج لضعف الهمة وفتورها ، ومن ذلك :
أن الله تعالى أمره بتقواه بقدر استطاعته فقط ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} [التغابن/15، 16]
ولم يكلفه فوق طاقته ، قال تعالى :{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } [البقرة/286](1/1)
ونهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في الطاعة والعبادة حتى لا نهلك أنفسنا ، وتضعف قوانا ، فعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ ، وَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا ، فَإِذَا نَحْنُ بَيْنَ أَيْدِينَا بِرَجُلٍ يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتَرَاهُ يُرَائِي ؟ " فَقُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَتَرَكَ يَدَهُ مِنْ يَدِي ، ثُمَّ جَمَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا ، وَيَقُولُ : " عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا ، عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا ، عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا ، فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ "المستدرك للحاكم ( 1176) ومسند أحمد ( 20317) وهو صحيح
وفي صحيح البخارى (5861) عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّى ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ » .
يحتجر : يتخذه كالحجرة لنفسه دون غيره(1/2)
ونهاهم الله عن تحريم الطيبات ، حيث قال تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) } [الأعراف/32]
وفي صحيح ابن حبان (317) عن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ ، قالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقَالَ : أَنْتُمُ الَّذِي قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي.( صحيح ) وهو في الصحيحين بنحوه(1/3)
وفي صحيح البخارى (1975) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما – قالَ : قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ » . فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَلاَ تَفْعَلْ ، صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ » . فَشَدَّدْتُ ، فَشُدِّدَ عَلَىَّ ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً . قَالَ « فَصُمْ صِيَامَ نَبِىِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ » . قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِىِّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ « نِصْفَ الدَّهْرِ » . فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . الزور : الزائر(1/4)
ومما يقوي الهمة الطمع بموعود الله تعالى يوم القيامة ، قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران/133-136]
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة/111-112](1/5)
وفي صحيح مسلم (5024 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِى سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لاَ أَدْرِى مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَكَلَّمَ فَقَالَ « إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا ». فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِى ظُهْرَانِهِمْ فِى عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ « لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا ». فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ ». فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ.(1/6)
ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.العين : الجاسوس
وفي المستدرك للحاكم (5405)عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : حَمَلَنِي خَالِي جَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَمَا أَقْدِرُ أَنْ أَرْمِيَ بِحَجَرٍ فِي السَّبْعِينَ ، رَاكِبًا مِنَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ ، فَقَالَ : يَا عَمُّ ، خُذْ لِي عَلَى أَخْوَالِكَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ سَلْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ ، فَقَالَ : أَمَّا الَّذِي أَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَمْوَالَكُمْ وَأَنْفُسَكُمْ ، قَالُوا : فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ " ( حديث صحيح)
وفي صحيح البخارى (3244 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(1/7)
وفي صحيح ابن حبان - (ج 3 / ص 139) (857) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ ، يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ، فَيَحُفُّونَ بِهِمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ ، فَيَقُولُ : مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : يُكَبِّرُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ عِبَادَةً وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا ، فَيَقُولُ : وَمَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالَ : فَيَقُولُونَ : يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ ، فَيَقُولُ : فَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا عَلَيْهَا أَشَدَّ حِرْصًا وَأَشَدَّ طَلَبًا ، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً ، فَيَقُولُ : وَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : مِنَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا مِنْهَا أَشَدَّ فِرَارًا ، وَأَشَدَّ هَرَبًا ، وَأَشَدَّ خَوْفًا ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. ،(1/8)
قَالَ : فَقَالَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ : إِنَّ فِيهِمْ فُلاَنًا لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ ، قَالَ : فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ.( وهو في البخاري (6408) )
وفي صحيح البخارى (2790 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ . قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ » .
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهُوَ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ فِي وَسَطِ الْجِنَّانِ ، فِي الْعَرْضِ ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ يُرِيدُ بِهِ : فِي الاِرْتِفَاعِ.(1/9)
وبين لهم أنهم لن يستطيعوا الدوام على حال واحدة ،ففي صحيح مسلم (7142) عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ قَالَ - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَمَا ذَاكَ ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
الضيعات : المعايش -عافس : لاعب الأزواج والأولاد وعالج معايشه واشتغل بهم(1/10)
وقد تنوعت العبادات والقربات إلى الله تعالى، فلنأخذ منها ما استطعنا، ففي صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 96)( 373) عن أبي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ ، قُلْتُ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ مَعَ الإِيمَانِ عَمَلاً ؟ قَالَ : يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ قُلْتُ : وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لاَ شَيْءَ لَهُ ؟ قَالَ : يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ ، قَالَ : قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ عَيِيًّا لاَ يُبْلِغُ عَنْهُ لِسَانُهُ ؟ قَالَ : فَيُعِينُ مَغْلُوبًا قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لاَ قُدْرَةَ لَهُ ؟ قَالَ : فَلْيَصْنَعْ لأَخْرَقَ قُلْتُ : وَإِنْ كَانَ أَخْرَقَ ؟ قَالَ : فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ ، فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ تَيْسِيرٍ ؟ فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا ، يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللهِ ، إِلاَّ أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.( صحيح)
ومما يقوي الهمة صلاة الجماعة وكثرة تلاوة القرآن وقراءة الحديث النبوي في الترغيب والترهيب ، وحضور مجالس العلم والذكر ، ومجالسة الأخيار ، والنظر في سير الأنبياء والصالحين ....
ومما يضعف الهمة كثرة المعاصي ، وترك قراءة القرآن والحديث النبوي ، وحضور مجالس الفسق والفجور ، والنظر للمحرمات ، ومجالسة العصاة .........(1/11)
وفي هذا الكتاب قد جمعت بحوثاً ومقالاتٍ وخطباً حول هذا الموضوع ، لتكون زاداً لنا يقوي همتنا ، ويعالج ضعفها
وقد قسمته لبابين :
الباب الأول-الحث على علو الهمة وفوائدها
الباب الثاني-فتور الهمة أسبابه وعلاجه
وكل واحدة منها مشفوعة بمصدرها، وغالبها من موقع الإسلام اليوم ، وصيد الفوائد ، والمختار الإسلامي ، وشبكة نور الإسلام ، وموقع المنبر .... وغيرها ، وتركتها كما هي ...
قال الشاعر محذرا من الدنيا ومبينا قيمتها :
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن *** إذاً لم يكن فيها معاشٌ لظالم
لقد جاع فيها الأنبياءُ كرامةً *** وقد شبعتْ فيها بطونُ البهائم
وقال آخر:
تمتَّعْ من الأيام إن كنتَ حازماً *** فإنك فيها بين ناهٍ وآمرِ
إذا أبقت الدنيا على المرء دينَه *** فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناحَ بعوضةٍ *** ولا وزنَ رقٍ من جناحٍ لطائر
فلم يرض بالدنيا ثواباً لمحسنٍ *** ولا رضي الدنيا عقاباً لكافر
أسال الله تعالى أن ينفع به جامعه ، وقارئه وناشره ، والدال عليه ، في الدارين .
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
في 22رمضان 1429 هـ الموافق ل 22/9/2008م
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
الحث على علو الهمة وفوائدها
ما هي الهمة ؟
الهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول..
قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال
الهمة محلها القلب
الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..
إن يَسْلُب القوم العِدا مُلْكِي وتُسْلِمني الجموعْ
فالقلب بين ضُلُوعِهِ لم تُسْلِمِ القلبَ الضلوعْ
ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :(1/12)
" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا "
همَّة المؤمن أبلغ من عمله
قال - صلى الله عليه وسلم - :" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه " رواه مسلم وغيره
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته " رواه الإمام أحمد وغيره
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه " رواه النسائي وأبو داود
وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في قوله:
" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ،
قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ،
فأخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره
خصائص كبير الهمة
يا عالي الهمَّة..
بقَدْر ما تَتَعنَّى ، تنالُ ما تتمنَّى
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، و اللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب :
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسر من التعب
****
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور *** بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا
****
أحزان قلبي لا تزول *** حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين *** وتُسَرَّ عيني بالرسول
****
عالي الهمة يُرى منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب ..
****(1/13)
ذريني أنل ما لا يُنال من العُلا *** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة *** ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ من إبر النحْلِ
****
من أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها
قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "
كبير الهمة لا ينقُضُ عَزْمه
قال تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله )
قال جعفر الخلدي البغدادي : " ما عقدت لله على نفسي عقدا ، فنكثته "
علام يندم كبير الهمة؟
يندم على ساعة مرت به في الدنيا لم يعمرها بذكر الله عز وجل ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها "
يا كبير الهمة : لا يضرك التفرد ، فإن طرق العلاء قليلة الإيناس
فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يحصل مع كل مرتبة
يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة ، و إلا انقطع به السبيل ..
عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها ، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة ، بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا * ولم أقتبس علما فما هو من عمري
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته ما يراه مستحيلا ، وينجز ما ينوء به العصبة أولو القوة ،
ويقتحم الصعاب والأهوال لا يلوي على شيء
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
ندرة كبيريّ الهمة في الناس
يصدق عليهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " تجدون الناس كإبل مائة ، لا يجد الرجل فيها راحلة "(1/14)
وهم في الناس ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين
وقد كانوا إذا عدوا قليلا فقد صاروا أعز من القليل
عالي الهمة لا يرضى بما دون الجنة
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء ، ولا يرضى بحياة مستعارة ، ولا بقُنيةٍ مستردة ، بل همه قنية مؤبدة ، وحياة مخلدة ، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي ، و لا ينتهي تحليقه دون عليين ، فهي غايته العظمى ، وهمه الأسمى..
عالي الهمة شريف النفس يعرف قدر نفسه
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه ، في غير كبر، و لا عجب ، ولا غرور ، وإذا عرف المرء قدر نفسه ، صانها عن الرذائل ، وحفظها من أن تهان ، ونزهها عن دنايا الأمور ، و سفاسفها في السر والعلن ، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها ، فتبقى نفسه في حصن حصين ، وعز منيع لا تعطى الدنية ، و لا ترضى بالنقص ، ولا تقنع بالدون ..
كبير الهمة عصامي لا عظامي
فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه ، لا اتكالا على حسبه ونسبه ، و لا يضيره ألا يكون ذا نسب ، فحسبه همته شرفا ونسبا ، فإن ضم كبر الهمة إلى نسب كان كعقد علق على جيد حسناء ..
الحث على علو الهمة في القرآن والسنة
تواردت نصوص القرآن والسنة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور ، والتسابق في الخيرات ، وتحذيرهم من سقوط الهمة ، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك ..
فمنها: ذم ساقطي الهمة وتصويرهم في أبشع صورة :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون )
ومنها: ثناؤه سبحانه على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون
وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ..
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل )(1/15)
ومنها : أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة ، والقوة في دين الله
( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين )
( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة )
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
ومنها : أنه سبحانه أمر المؤمنين بالهمة العالية ، والتنافس في الخيرات ..
( فاستبقوا الخيرات )
أما السنة الشريفة فمليئة بالكثير من الصور ..
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها )
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : ( إن الله تعالى يحب معالي الأمور ، ويكره سفاسفها )
وقال - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه: ( إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ..فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة )
***********
كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرا غير مجذوذ ، ويجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل ، فلا ترى واقفا إلا على أبواب الفضائل ، ولا باسطا يديك إلا لمهمات الأمور ..
إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال ، ويجتث منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة ..
مجالات علو الهمة :
* علو الهمة في طلب العلم
قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسد ..
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله *** ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلى *** يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
* علو الهمة في العبادة والاستقامة
قال الحسن : من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره(1/16)
قال وهيب بن الورد : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل ..
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت *** ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ساروا *** إلى المطلب الأعلى على مهل
* علو الهمة في البحث عن الحق
لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق
و بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس ، فصاروا مضرب الأمثال ، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثا عن الحق مخلصا لله تعالى ، فإن الله عز وجل يهديه إليه ، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام
ومن النماذج المشرقة في البحث عن الحق
سلمان الفارسي رضي الله عنه ..
أبوذر رضي الله عنه ...
* علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى ..
كبير الهمة يحمل هم الدعوة
من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه ، وبلوغ الجهد في النصح لهم ، كما يتضح ذلك جليا لمن تدبر سير المرسلين ، خاصة خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ..
إن المتأمل لقوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام ، واعتز بهم الإسلام ، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عباد صالحين ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم ، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ و لا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين ..
* علو الهمة في الجهاد في سبيل الله
قال عمران بن حصين: ( ما لقي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة إلا كان أول من يضرب )
وكذلك الشجعان في أمته والأبطال لا يحصون عدة ، و لا يحاط بهم كثرة ، سيما أصحابه المؤيدين الممدوحين في التنزيل بقوله تعالى :
( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )(1/17)
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف )
حال الأمة عند سقوط الهمة
إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان ، وقرين الذل والصغار ، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا ،
فأورثتها قحطا في الر جال ، وجفافا في القرائح ، وتقليدا أعمى ، وتواكلا وكسلا ، واستسلاما لما يسمى الأمر الواقع ..
كل ذل يصيب الإنسان من غيره ، ويناله من ظاهره : قريب شفاؤه ، ويسير إزالته ،
فإذا نبع الذل من النفس ، وانبثق من القلب ، فهو الداء الدوي ، والموت الخفي ..
أسباب انحطاط الهمم
حتى نكون أبعد عن انحطاط الهمم لابد أن نتعرف على أسباب ذلك ..
* الوهن .. كما فسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( حب الدنيا، وكراهية الموت )
* الفتور .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك )
* اهدار الوقت الثمين في فضول المباحات .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )
* العجز والكسل .. قال تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين )
* الغفلة .. وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها
قال ابن القيم رحمه الله: لابد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم
* التسويف والتمني .. وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلَّما همَّت نفسه بخير، إما يعيقها بسوف حتى يفجأه الموت، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم .(1/18)
* ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا.. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مَثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيك ، وإما أن تبتاع منه،وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة )
* العشق .. لأن صاحبه يحسر همته في حصول معشوقه فيلهيه عن حب الله ورسوله.
* الانحراف في فهم العقيدة .. لا سيما مسألة القضاء والقدر، عدم تحقيق التوكل على الله تعالى، بدعة الإرجاء.
* الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم ..
قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم )
* المناهج التربوية والتعليمية الهدامة .. التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشىء الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية.
* توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه.
أسباب الارتقاء بالهمة
* العلم والبصيرة .. العلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويُصفِّي النية.
* إرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحداً.. قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كانت همّه الآخرة، جمع الله له شملَه، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت همّه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له)
* كثرة ذكر الموت .. عن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون .(1/19)
* الدعاء.. لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أعجز الناس من عجز عن الدعاء )
* الاجتهاد في حصر الذهن، وتركيز الفكر في معالي الأمور.. قال الحسن: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
* التحول عن البيئة المثبطة.. إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تُنَظَّف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء
* صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم..قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر)
* نصيحة المخلصين .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )
* المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف..قال تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
أطفالنا وعلو الهمة
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر، وأُهْمِل إهمالَ البهائم شقي وهلك.. وصيانته بأن يؤدِّبَه، ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق ..
وقال ابن خلدون: التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.
كِبَارُ الهمَّةِ النَّابغُون .. مُخْتَصَرُ الطريق إلى المَجْد..
إن المرء لا يولد عالماً، وإنما تربيه جماعة، وتصنعه بيئة، و تتعهده بالرعاية والتعليم، حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه .
.........
إن الأمة التي تهتم بالنابغين، تصنع بهم مستقبلها المشرق، لأنهم يُصْلِحون أمرها، ويسهمون في ازدهارها، والأمة التي تهمل رعاية نابغيها سوف تشقى حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك،أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو سفلة أصحاب نفوس دنيئة وهِممٍ خسيسة يبيعونها لأعدائها بثمن بخس .
أثر عُلُوّ الهمَّة في إصلاح الفرد والأمَّة(1/20)
أصحاب الهمة العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، و يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة " الانتشال السريع " من وحل الوهن، و وهدة الإحباط.
...............
زاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء المجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده، كلما تأصَّلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولابد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة .
..........
هذا زمان لا توسُّط عنده *** يبغي المغامر عالياً وجليلا
كن سابقاً فيه أو ابق بمعزلٍ *** ليس التوسط للنبوغ سبيلا
..........
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة " عُمَرِيَّة " توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة " أيوبية " تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز .
المصدر : المفكرة الدعوية
ــــــــــــــــــ
حديث الروح : اترك وراءك آثاراً
يكتبها نورس
دوماً وأبداً ما ألقاه، ليوقد بروحي شُعلاً من الحماس المتوهج لدين الله.. هو نفسه قد غدا جذوة متوقدة من الانفعال الحي المُعدي للآخرين!
ذات حوار فاجأني بتساؤل يبدو أنه يعصف بذهنه منذ أيام: أريد أن أترك أثراً طيباً، مباركاً، كبيراً، ليس في قريتي الصغيرة هذه، بل على مستوى الأمة.. أريد ذلك.
تعجبت من همته العالية، لكنني خفت عليه من عدم واقعية هدفه، ومن مثاليته المتعملقة، لذا أجبته متفاجئاً: أثر! وعلى مستوى الأمة!
خفتُ على صديقي من الإحباط فأردفت قائلاً: عزيزي، تعلم أن عظمة العمل بما خالطها من إخلاص وتجرد لله، وليس بضخامته الحسية، فرُبَ عملٍ صغير حقير تضخمه النية الخالصة.(1/21)
افتر ثغره عن ابتسامة وقال: ليكن يا عزيزي عملاً ضخماً روحه النية الخالصة، ولِمَ لا !؟
وضعت يدي على كتَفه وقلت له: على بركة الله، أنت لها
...
مضى على حوارنا حينٌ من الدهر، وذات أصيل هاتفني يطلب رؤيتي، فرحبت به والتقينا، جاء كعادته متوقداً جدية وحماسة، وبأخبار طازجة عجيبة! ذكرني بمشروعه العملاق ذاك ( أريد أن أترك أثرا طيباً، مباركاً، كبيراً، ليس في قريتي الصغيرة هذه، بل على مستوى الأمة.. أريد ذلك ). فرددت عليه أذكر ذلك جيداً .. هل من جديد؟
فقال: استولت عليَّ الفكرة حقاً، فعزمت على إقناع أحد التجار بتبني مشروع إنشاء مركز إسلامي كبير في أحد الدول الأفريقية، ووجدت الشخص المناسب كان قريباً مني جداً، أحد أقاربي ، لكنني كنت محرجاً للغاية بتحديثه بالأمر وتمنيت أن تحين فرصة جيدة لأحدثه ، ويا سبحان الله! وجدت به ذات يوم يُقم المسجد بعد صلاة عصر أحد الأيام، ناداني وقال: يا بني أنظر لذلك الصندوق به مصاحف قديمة، أودُ منك التخلص منها بمعرفتك، أحرقها أو ادفنها .. أخاف أن يعبث بها الصبية الصغار لو بقيت هنا.
فرددت عليه ( والله يا عم ما يهون عليّ أن أحرق أو أدفن المصاحف، تخيل يا عم مثل هذه المصاحف في بعض الدول الأفريقية الفقيرة تُقَسم إلى أجزاء وتُتداول بين أهالي القرى ليتمكنوا من قراءة القرآن، لعدم توفر المصاحف هناك ) غلبني التأثر فبكيت، حدثته عن النشاط التنصيري هناك. سكت صاحبي ليلتقط أنفاسه وليقطف دموعه حبةً حبة! ثم أكمل قصته العجيبة قائلاً: لقد قال الرجل المُسن ( منذ زمن أود بناء مسجد ويا سبحان الله كنت قد جعلت مبلغاً قرابة نصف مليون ريال لبناء مسجد في إحدى القرى المجاورة، لكن يبدو أنني سأغير نيتي لأبنيه في إحدى تلك الدول الفقيرة التي حدثتني عنها الآن ).(1/22)
ولم يلبث الرجل المُسن أن كلفني بالإشراف على المشروع ( بناء المركز الإسلامي )، وها هو الملف بين يديك يحوي تقريراً عن المركز بالصور، بعد أن تبنته إحدى اللجان الخيرية ببلدنا الكريم.
طالعت الملف فوجدت مركزاً إسلامياً يحتوي على مدرستين واحدة للذكور والأخرى للإناث لتعليم الإسلام، ومسجد يتسع لقرابة ألفي مصل، ووقف تسعة دكاكين دخلُها يوفر رواتب المشرفين والمشرفات على المركز التعليمي . الذي سيزور مدينة ( كادونا ) ستبصر عيناه ( مركز المدينة الإسلامي )، شامخاً أبياً ذا مئذنة خضراء سامقة تناطح السحب الاستوائية رفعةً وسمواً وطهارة.
همسة روحية أخيرة: وكُن رجلاً إن أتوا بعده.. يقولون مرَّ وترك الأثر .
مجلة شباب العدد 55 جمادى الآخرة 1424هـ
تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ــــــــــــــــــ
يداً بيد لأحياء هذه الشعيرة العظيمة
الكاتبة الغادة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضيين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا وصلى الله عليه وعلى أله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله وصبروا على ذلك وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه وأعلى كلمته ولو كره المشركين وسلم تسليما كثيرا أما بعد
إن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام بعث الله الرسل وأنزل الكتب لعباده ليقطع عليهم الحجة والمعذرة(1/23)
قال الله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213
وقال جل في علاه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}النحل36
وقال الله جلّ وعلا { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108] .
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يكون الرجل من أتباع النبي حقًا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة"
فالدعوة إلى الله من حين أن بدأ الله الخلق
لقد قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى "الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب قدرته واستطاعته، لأننا نعيش زمانًا انتشر فيه الباطل وأهله، -والله- ما انتشر الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله"، فواجبٌ على كل مسلم ومسلمة أن يبلغ دين الله على قدر استطاعته بقدر ما عَلَّمَه الله تبارك وتعالى من العلم، ألم تحفظ آية من كتاب الله، ألم تحفظ حديثًا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
روى البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتوبأ مقعده من النار ) .(1/24)
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الله ( نضر الله امرءً )، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لك بنضارة الوجه يا من تبلغ عن الله وعن رسوله، ( نضر الله امرءً سمع منا حديثًا فبلغه كما سمعه، فرُب مبلغ أوعى من سامع ) .
قال تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104
قد بين الله في هذه الآية الكريمة بأن الداعون و الآمرون و الناهون (هم المفلحون) الفائزون
وقال سبحانه
{ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }القصص87
والأدلة كثيرة لايمكن حصرها
أما فضلها فقد قال الله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }فصلت33
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (من دل على خير فله أجر فاعله)
وقال عليه الصلاة والسلام ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لاينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئا ) أخرجه مسلم
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه ( فولله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) متفق عليه
فهنيئاً لك أيها الداعية هذا الخير العظيم
إخوتي في الله بعد أن بينا حكم الدعوة إلى الله وفضلها لابد لنا من وقفات نتحدث من خلالها عن الدعوة مالها وما علينا
فمن هنا كانت كتابة تلك السطور عل الله أن ينفعنا بها وإياكم ويوفقنا لما يحبه ويرضاه
مع الداعية المعلم العظيم(1/25)
بداية نقف مع أعظم داعية مع الذي أنار الله به عقول الإنسانية وهدى به الله البشرية كيف لا وهو الذي تركنا على المحجة البيضاء فماترك لنا من خير إلا ودلنا عليه وما من شر إلا وحذرنا منه بأبي هو وأمي
دعا إلى الله بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة وجاهد في سبيل الله حق جهاده نصح الأمة دلهم على الطريق السوي طريق الحق المستقيم
لقي من الأذى ما لقي جش رأسه وانكرست رباعيته يوم أحد سالت إصبعه يوم حنين وضعوا سل الجذور على ظهره طردوه من بلده أدميت قدماه عند عودته من الطائف قالوا عنه مجنون فثبت وقالوا شاعر وكاهن فثبت نشا يتيما يوم أن كان للدعاة أبوان وعاش في بيت طيني يوم أن سكن الدعاة القصور والبنيان
فيا دعاة الإسلام أيا ورثة الأنبياء ليكن قدوتكم وأسوتكم محمد - صلى الله عليه وسلم - تفوزوا فوزا عظيما
ماذا على الداعية قبل بدءه بالدعوة
1/ يجب عليه أن يخلص لله في كل أعماله وأقواله قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }البينة5
2/ يجب على الداعية أن يتسلح بالعلم النافع قال تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [البقرة
3/ يجب أن يطابق كلامه أفعاله لكي لا يكون ممن قال الله فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف 2/3
وقال الله جلّ وعلا { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44](1/26)
كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا"، أي كما يزل الماء عن الحجر الأملس، كم من مذكر بالله وهو ناسٍ له، وكم من مخوف من الله وهو جرئٌ على الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال.
هكذا فلتكن أيها الداعية
يجب على الداعية أن يتصف بهذه الصفات
1/ العلم لابد للداعية أن يعلم بأن هذا منكر لينكره وأن ذاك معروف ليأمر به
2/ الصبر جواد لا يكبو، وجند لا يهزم، وحصن لا يهدم .
فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }السجدة24
ولتعلم أخي أختي... بأن الطريق ليس مفروشا بالورود والزهور بل الطريق طويل ولا بد أن تواجهك عقبات ففي الحديث عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال }أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت : يا رسول الله ! ألا تدعوا لنا؟ ألا تستنصر لنا ؟ فقعد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمر وجهه وقال لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه .... ولكنكم تستعجلون { رواه البخاري
سبحان الله ..!! أي ثبات هذا .. أي صبر هذا
وإياك أن تستعجل قطف ثمار الدعوة وتكون كالكسعي الذي يصنع السهام ويرمى بها في الليل ويظن أنها لم تصب ما أراد فكسر القوس فلما أصبح رأى أنها قد أصابت فندم على كسرها ...بل اصبر فإنك لا تدري متى يحين قطف ثمار دعوتك(1/27)
3/ الصدق كن صادقا مع نفسك أولا في حمل هم الدين كما ينبغي من قول وعمل ومن ثم مع الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }التوبة119
فالصدق وسيلة لنجاح الداعية وهو الذي يجعل الناس يتقبلون ديننا
4/ التواضع اعرف قدر نفسك لا تضعها بغير موضعها فلا تنظر للعصاة بازدراء بل انظر إليهم بعطف وشفقة ولا تبخل عليهم بالنصح والإرشاد وكن عونا لهم ولا تكن عونا مع الشيطان عليهم فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) رواه مسلم
5/ الرفق واللين والحلم
أيها الأحبة اشد ما نحتاج إليه أثناء دعوتنا إلى الله الرفق واللين والحلم فيجب على الدعاة أن يبدأوا دعوتهم مع المكلفين، ومع المخلوقين، ومع الناس برحمة، برقة، شتان شتان بين أن تبدأ الحديث مع مكلف أو مدعو بكلمة طيبة وابتسامة مشرقة، وبين قولك كذا كذا، أو يجب عليك كذا، أو افعل كذا بغلظة وقسوة، محال أن تستحوذ على قلبه، لكن افتح قلبه بكلمة رقيقة، افتح قلبه بابتسامة مشرقة
قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] .
فبالرفق واللين نبني الجسور ونستطيع من خلالها أن نعبر القلوب
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسانا
ولننظر إلى خير البشر كيف كان حلمه - صلى الله عليه وسلم -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام إعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري(1/28)
الحكمة
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } [النحل:125] الحكمة: ليست كلمة يرددها داعية أو عالم، هكذا .
قال ابن القيم رحمه الله : الحكمة هي فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وأركانها العلم، والحلم، والأناة، وآفاتها ومعاول هدمها:
الجهل، والطيش، والعجلة.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل:125] ولاحظ أن الله وصف الموعظة بقوله الحسنة، ولم يذكر الحكمة بالحسنة؛ لأن الحكمة الحسن أصل فيها، ووصف ذاتي لها، لا يمكن أبداً أن توصف الحكمة بغير الحسن
وقال الله لنبيين كريمين هما موسى وهارون -على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }[ طه: 43-44] قال قتادة: سبحانك ربي ما أحلمك، تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً، إن كان هذا حلمك بفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى
العدل
أي أن يكون المنِكر عادلا فلا يجور على صاحب المنكر
فينسى فضائله ويضخم سيئاته وإنما يشهد له بحسناته وفضائله ويذكرها له
العاطفة الحية
نحن بحاجة إلى داعية يملك قلبا يحترق على واقع الإسلام والمسلمين وعلى أوضاع الأمة في مشارق الأرض ومغاربها
يعطف على إخوانه ويحقق قوله تعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }الفتح29
إن المؤمن ينبغي أن يكون شديدا على الكفار رحيماً بالمؤمنين ويحقق في نفسه قوله - صلى الله عليه وسلم -
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه البخاري(1/29)
ومن هذه العاطفة ينبغي أن يملك الإنسان قلبا يتأثر لأخطاء المسلمين وانحرافهم عن الدين فيحزن لانتشار الفسق والمعاصي بينهم حزنا لا يدفعه لاعتزالهم إنما يدفعه لأن يشعر أنه كالطبيب معهم يحاول إنقاذهم ويجب أن تدعوه هذه العاطفة الغيرة على نفسه وزوجه وولده فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويمنعهم من ارتكاب ما يسخط الله عز وجل
فأهٍ .... ما أحوجنا إلى قلوب تحترق !!
الطموح
ويعني هذا أن لا يعيش الانساء لنفسه ودنياه إنما يعيش لأمته كما كان - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن يكون المسلم والداعية طموحا ويسعى للارتقاء في هذه الدرجات وأن ينظر في الدين إلى من هو فوقه وفي الدنيا إلى من هو دونه عقبات تواجهك أيها الداعية فاحذرها
1/ إياكم وإتباع الهوى
فقد قال الله عز وجل { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }ص26
فإتباع الهوى خطير يصدك عن الحق ويجعلك ضالاً شقيا كأن تقول لك نفسك اقرأ القرآن فيقول لك هواك بل الأغنية اسمع ....تب إلى الله يقول له هواك لا تفعل .... وهكذا نعوذ بالله من الهوى
فالهوى إلها يعبد من دون الله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه }الجاثية23
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( ثلاث مهلكات إتباع الهوىواعجاب المرء بنفسه وشح مطاع )
2/وربما يواجهك كبر من قبل المدعو
خرج عليه الصلاة والسلام يعرض دعوته على أهل الطائف فما منعهم من قبول الدعوة إلا الكبر
قال أحدهم ما وجد الله إلا أنت يرسلك ؟!!
وقال الثاني أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان أرسلك
وقال الثالث إن كنت نبيا فأنت أعلى أن يكلم وان كنت كذابا فانا لا اكلم الكذابين
فما أجابوه!!!
هذا الكبر من المدعوين
نعوذ بالله منه(1/30)
وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان جالسا ورجل من الناس يأكل بشماله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل بيمينك قال : لا أستطيع قال كل بيمينك قال لا أستطيع قال : لا استطعت قالوا فما رفعها إلى فيه إلا يبست وما منعه من الاستجابة لأمر رسول الله إلا الكبر ولذلك بعض الناس حرمهم الكبر من دخول الجنة والسعادة والاستقامة في الدنيا والآخرة
3/أهل الحق قليل وأهل الباطل كثير
ليعلم الداعية بأن الصراع بين الخير والشر من حين أن بدأ الله الخلق إلى قيام الساعة فأهل الخير قليل وأن الله لا يخلى الأرض من أعدائه والله سبحانه وتعالى يقول {و َقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13وقال {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }يوسف103 والقلة دائماً معها الخير
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( أهل الإسلام قليل في أهل العالم وأهل السنة قليل في أهل الإسلام ) ولذلك قال سبحانه {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ }الأنعام116
نزل عمر رضي الله عنه وأرضاه السوق فسمع إعرابيا مسلما يقول اللهم اجعلني من عبادك القليل فأخذ عمر بمنكبه وقال ما هذا الدعاء قال يقول سبحانه {و َقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13
فدعوت الله أن يجعلني من هذا القليل قال عمر كل الناس أفقه منك يا عمر
لكن إخوتي في الله إياكم أن يثبط كم هذا الأمر( أي قلة أهل الخير ) عن الدعوة إلى الله لا فيجب عليك أن تدعوا وأجرك على الله فالله يقول { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }النور54
وهذا سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ولم يستجب له إلا القليل لكنه دعا ولم يبالي
4/ ومن عقبات الدعوة التي تحول بين الداعية وبين الناس جليس السوء
أرى ألف بان لا يقوم بادم *** فكيف ببان خلفه ألف هادم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا أنت تبنيه وغيرك يهدم(1/31)
قال ابن القيم وهل كان اشئم على أبي طالب في دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جليس السوء ولا تخفى هذه القصة على احد عندما طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمه قول لا إله إلا الله ليحاج له بها عند الله وكان عند راس أبي طالب أبا جهل وقيل عبد الله ابن أمية فقال له أبو جهل أترغب أن تموت على ملة غير ملة عبد المطلب
فانظروا إلى الجليس السيئ شؤم والله
فلتتنبه أيها الداعية إذا دعوت رجلا ولم يتأثر منك ودائماً في المعاصي فاعلم أن له قرين يؤزه وشيطان من شياطين الإنس معه يخلو به وهذا الذي يدمر عليك الدعوة تبني في الصباح ويهدمون في المساء
5/الفتور الذي يصيب الداعية
أيها الداعية الم تسمع قول الله تعالى
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }فصلت33
ماذا تنتظر؟ لما الفتور والكسل؟ فك القيود وسارع إلى ما أمرك الله به من النصح والإرشاد لكل محتاج وإياك أن تكتم ما علمك الله إياه
فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار القيامة )
وقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }البقرة159
فما فائدة علمك إن لم تنصح وتعظ الناس وتتحدث إليهم !!!
6/ انشغال الناس بدنياهم وترك أخراهم
للأسف الشديد ترى أكثر الناس إلا من رحم الله ينشغل بأمور هذه الدنيا من مأكل وملبس وبناء القصور وركوب أحدث أنواع السيارات ونسي أو تناسى بأن هذه الدنيا زائلة ومهما عشنا بها لابد لنا من الرحيل
باتوا على فلل الإجبار تحرسهم *** غلب الرجال فما أغنتهم الفلل
واستنزلوا بعد عز من قصورهم *** إلى قبورهم يا بئس ما نزلوا
فماذا قدمتم لأنفسكم إخوتي(1/32)
قال رسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا شربة ماء )
وقال أيضا ( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس ) صحيح ( وفي رواية وما غربت)
فحذا ري حذا ري أن توقعك هذه الدنيا بشباكها وتزين لك نفسها ومن ثم تتركك وما عندك شيء !!
نفتقر إلى أسلوب الإقناع ..
أحبتي ..
نفتقر إلى أمر مهم في دعوتنا إلى الله قد علمنا إياه قدوتنا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ..ألا وهو أسلوب الإقناع
اعلم بأني لن أوفي الموضوع حقه ولكن يكفينا حديثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إن فتى شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا مه مه فقال أدنه فدنا منه قريبا قال فجلس قال أتحبه لأمك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال أفتحبه لابنتك قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال أفتحبه لعمتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لعماتهم قال أفتحبه لخالتك قال لا والله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال فوضع يده عليه وقال اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء
ما أروعه من أسلوب(1/33)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي حصين كم تعبد إلها ؟ قال سبعة ستا في الأرض وواحدا في السماء قال عليه الصلاة والسلام فأيهما تعد لرغبتك ولرهبتك ؟قال الذي في السماء قال يا حصين أما إنك إن أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك فلما أسلم حصين رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله علمني كلمتين اللتين وعدتني قال : قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي
إذا لم تدعوا أنت فمن يدعوا إذاً ؟
إخوتي
يامن منّ الله عليه بالعلم النافع والعمل الصالح وآتاه من فضله العظيم يامن سخره الله ليكون عونا لأخيه ويشد على يديه كي ينجيه
ما بالك قصرت في دعوته .. وإن لم تدعوا أنت فمن ..؟!!
اعلم رحمك الله بأنك صمام الأمان لهذه الأمة وسبب نجاتها من الهلاك فإن فقدتك الأمة سيحل عليها عذاب الله أتعلم لماذا ؟؟
لأنك سكت عن إنكار الخبث وعطلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }المائدة78
عن زينب بنت جحش قالت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ يوما من نومه فزعا وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق بين إصبعيه السبابة والإبهام فقالت زينب : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ) رواه البخاري ومسلم
أبعد هذا ماذا ننتظر ؟!!(1/34)
وقال عليه الصلاة والسلام ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعا ) رواه البخاري
فخذ بيد أخيك واسحبه لشاطئ النجاة ينجوا وتنجوا معه
ولا تقل بأني لست أهلا لها ...إن ذنوبي كثيرة وما زلت أجاهد نفسي
فأقول لك أخي .. أختي
من منا لا يذنب ومن منا لا يخطأ لكن أنترك أنفسنا وإخواننا يغرقون في لجج المعاصي ونحن ننظر إليهم
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
مواقف بطولة وشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أخوتي في الله
إن تاريخ العلماء والدعاة من سلف هذه الأمة حافل بمواقف الاستبصار ومواطن الذكرى مملوء بالدروس النافعة الرائعة والمواقف البطولية الشجاعة
هؤلاء العلماء الذين تحلوا بصفة العلم والعمل والتقى والزهد والجرأة على الحق والصلابة في التمسك بالعدل والمحافظة على حدود الشرع وحمل الدعوة لإقامة شرع الله في الأرض
فلنسمع أخبارهم
عبد السلام النابلسي
ـــــــــــــــــ
ملك الفاطميون البلاد المصرية
سنة 853ه وزعموا أنهم من نسل فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زورا وبهتانا فأظهروا التشيع والرفض وعطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وتوجه المعز الفاطمي إلى الإسكندرية فذبح فيها من علماء السنة من ذبح وكان أن أحضر بين يدي المعز العالم الزاهد الورع العابد التقي أبو بكر النابلسي
فقال له المعز بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم
قال النابلسي ما قلت هذا فظن المعز أنه رجع عن قوله فقال كيف قلت ؟ قال قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر !!(1/35)
قال ولم ؟ قال لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما ليس لكم
فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن الكريم قال اليهودي فأخذتني رقة عليه فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله
كم من عالم سقط على الطريق من أجل أن تعيش كلمة الحق وكم من عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عزيزة عالية لا تنالها يد الظالمين !!!!
شيخ الإسلام ابن تيمية
أما الموقف الثاني فمع عملاق الإسلام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
دخل شيخ الإسلام يوما على ( قطلوبك الكبير ) وكان أميرا على بعض نواحي الشام -حين شكا إليه رجل من المسلمين من مظلمة له وكان قطلوبك فيه جبروت وتكلم معه في ذلك
قال قطلوبك أنا كنت أريد أن أجئ إليك لأنك عالم زاهد قال ذلك مستهزئا
فأجابه ابن تيمية لا تعمل علي در كوان ( كلمة فارسية ومعناه المكر والحيلة ) فقد كان موسى خيرا مني وفرعون كان شرا منك وكان موسى يجئ إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات ويعرض عليه الإيمان !!!!
العز بن عبد السلام
المعروف بسلطان العلماء وله عدة مواقف جليلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ذلك موقفه مع سلطان الديار المصرية فقد خرج ذلك السلطان في يوم العيد في موكب عظيم والشرطة مصطفون على جوانب الطريق وحاشيته يحيطون به والأمراء يقبلون الأرض بين يديه والعز رحمه الله يرى ذلك فنادى السلطان قائلا .... يا أيوب !
ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوأ لك ملك مصر تبيح الخمور ؟ فقال أو يحدث هذا ؟
فقال نعم في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر فقال السلطان يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من عهد أبي فهز العز بن عبد السلام وقال أنت من الذين يقولون ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ؟ !)(1/36)
فأصدر السلطان أمرا بإبطال الحانة ومنع بيع الخمور وانتشر الخبر بين الناس ورجع العز إلى مجلس درسه فجاءه أحد تلاميذه يقال له الباجي فسأله قائلا يا سيدي كيف الحال ؟ فقال يابني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه فقال يا سيدي أما خفته ؟
فقال والله يابني لقد استحضرت عظمة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقط !!!!
فرحم الله هؤلاء العلماء العاملين الآمرين بالمعروف والناهون عن المنكر غير خائفين في الله لومة لائم إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم فشمروا لحملها وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون
أفلا نكون مثلهم !!!
أسأل الله عزّ وجلّ أن يشرفنا وإياكم بالدعوة إليه، وألا يحرمنا وإياكم من كرامة البلاغ عنه، وألا يحرمنا وإياكم من دلالة الخلق عليه بحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
الكاتبة / أختكم الغادة
استعنت على كتابة هذا الموضوع بالمراجع الآتية
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
عقبات في طريق الدعوة / الشيخ عائض بن عبد الخالق القرني
حتى لا تغرق السفينة / الشيخ سلمان بن فهد العودة
من أخلاق الداعية / الشيخ سلمان بن فهد العودة
علماؤنا ودعاتنا / عبد الرحمن الجامع
ــــــــــــــــــ
الطاقات والمواهب في خدمة الدين
محمد صالح المنجد
الحمد لله، وبعد،،،
مستلزمات ومقتضيات الاستقامة على شرع الله:(1/37)
كثير من المسلمين اليوم لا يفقهون ماذا يعني، وماذا يقتضي، وماذا يستلزم وماذا تتطلب استقامتهم على شرع الله؟ إن الاستقامة على شرع الله عز وجل تستلزم أموراً كثيرة، وتتطلب من المسلم الغيور على دينه، وعلى عقيدته، الذي يريد أن يرفع لواء الإسلام عالياً تتطلب منه تكاليف كثيرة . ومن هذه التكليفات التي تقتضيها الاستقامة على شرع الله:
استغلال كل الطاقات والمواهب من أجل نصرة دين الله عز وجل: كثير من المسلمين لديهم طاقات عديدة مادية ومعنوية لكنهم لا يستغلونها لرفع دين الله، ونصرة شرعه سبحانه. ويظهر إخلاص الفرد المسلم وحماسه لهذا الدين بقدر ما يستغله من طاقات نفسه ومواهبه الذاتية من أجل نصرة دين الله، ولعل ذلك يعتبر مقياساً جيداً يستطيع أن يقيس به المسلم ما مدى صدقه؟ وما مدى إخلاصه؟ وما مدى تفانيه لنصرة هذا الدين؟
استغلال الطاقات والمواهب لإعلاء كلمة الله:
لقد آتانا الله قوى كثيرة، وأنعم علينا بمواهب جمة، لكن: هل استغلت هذه الطاقات والمواهب لإعلاء كلمة الله ؟. إن الله سبحانه سمى نفسه القوي، فقال في سورة هود:{...إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ }[سورة هود].
لقد أمر الله المؤمنين بإعداد القوة لملاقاة القوة للأعداء: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ... }[سورة الأنفال]. وهي نكرة في سياق الأمر تفيد العموم.. جميع أنواع القوة ..وانظر أخي:
نماذج لاستغلال المواهب والطاقات في خدمة لدين:
1- داود عليه السلام: لما أعطى الله داود عليه السلام إلانة الحديد، فيم استخدمها ذلك النبي الكريم؟ لقد استخدمها في صناعة الدروع، وملابس الحرب، والعتاد العسكري؛ ليجاهد في سبيل الله عز وجل .(1/38)
2- سيلمان عليه السلام: وقد أعطى الله سيلمان عليه السلام نعماً كثيرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... }[سورة النمل]. ولذلك فها هو يستخدم الهدهد في طاعة الله، وفي إرسال كتب الإنذار والإعذار إلى الكفار؛ لدعوتهم إلى دين الله، وتهديدهم إذا هم مالوا وحادوا عن شرع الله.. وهاهو يستخدم جنوده من الجن، والإنس، والطير في تهديد الكفار، وإرغامهم وحملهم على إتباع الدين،
وها هو يستخدم العفاريت في جلب ما إذا رآه الكفار أسلموا، واستخدم الجن في بناء الصرح الممرد من قوارير، الذي بهر عين ملكة الكفار؛ فأسلمت لما علمت أن ملكها لا يساوي شيئاً بجانب ملك سليمان المؤيد من عند الله عز وجل .
وإن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن . وقال سبحانه:{ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[سورة ص]. من الجن الذين عصوا سليمان.
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ... }[سورة سبأ]. أنعم الله عليه بها، ففي أي شيء استخدمها؟ في السفر عليها لطاعة الله، في سبيل الله سبحانه.
{...وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ... }[سورة سبأ]. النحاس المذاب يصنع فيها ما يشاء مما فيه فائدة للدين والبلاد والعباد .
{...وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ... }[سورة سبأ]. سخرهم الله لسليمان.. ماذا يعملون له ؟ المحاريب: المساجد، والأبنية. والجفان التي كالجواب، وهي: الأحواض العظيمة التي يجبى إليها الناس. والقدور الراسيات لعظمها ترسو من ثقلها لينتفع مما فيها المسلمون .(1/39)
3- ذو القرنين رضي الله عنه: وذو القرنين الذي كان من جنود الإسلام سلطه الله على الشرق والغرب حتى جاب الأرض لا يمر على أمة من الأمم إلا دعاهم إلى الإسلام، فإذا رفضوا؛ جعل بلادهم قاعاً صفصفاً، وسلط عليهم جنوده، فاستباح بلادهم لما عصوا ما أمر الله به أن يطاع..{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا }[سورة الكهف].
ولذلك لما ورد على قوم من الكفار ماذا قال؟ {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا }[سورة الكهف]. من رفض وقاوم شرع الله؛ فسنعذبه بالقتل وغيره {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا }[سورة الكهف].
ولما ورد على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس، ضعفاء، لا حول لهم ولا قوة اشتكوا إليه من ظلم يأجوج ومأجوج، وإغارتهم عليهم، وإفسادهم أموالهم وزروعهم ومواشيهم وأنفسهم، فماذا قالوا: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }[سورة الكهف]. اكفنا شرهم يا ذا القرنين ونحن نعطيك الأجر، ولكن المسلم الذي يندفع بروح الإسلام، وقوة الإيمان والإخلاص لله سبحانه لا يأخذ أجرة إنما ينتظر الأجر من الله سبحانه، { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ... }[سورة الكهف].
ما أعطاني الله من الإسلام والقوة خير مما ستعطونني ... كما قال سليمان لمن جاءه بهدية بلقيس:{ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ }[سورة النمل].(1/40)
قال لهم:{... فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ...}[سورة الكهف]. يعني وضع الأساس من الأسفل إلى الأعلى مما ملأ بين الجبلين طولاً وعرضاً، فصار سداً منيعاً . {...حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا }[سورة الكهف].
وقد يقول البعض: لقد كان باستطاعته أن يبني السد هو ومن معه فلماذا استعان بهم؟!
قد يكون محتاجاً إليهم لقوة الأمر وعظمه، ولكنه رجل ذكي قد آتاه الله البصيرة، فهو يريد أن يعلم هؤلاء الناس الذين لا يكادون يفقهون قولاً كيف يصنعون الحديد، كيف يصنعون الصنعة، علمهم حرفياً خطوة بخطوة:{...فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا }[سورة الكهف].
فالمسلم ينفع الناس، ويعلم المساكين ويأخذ بهم حتى يوصلهم إلى مرتبة يستطيعون فيها الاعتماد على أنفسهم، وهكذا توجيه الطاقات، وتوجيه الماديات في الإسلام .. إذن.. لقد كان أنبياء الله والمسلمون الأول يستغلون الطاقات لنصرة الدين، ونفع المسلمين، ونفع البلاد والعباد.
وكذلك كان عند الأفراد المسلمين طاقات فردية قدموها لنصرة الدين، وإعلاء كلمة الله:(1/41)
1- زيد بن ثابت رضي الله عنه: قال رضي الله عنه: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: [ يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي] قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ. رواه أحمد وابوداود والترمذي. وفي رواية لأحمد: ' قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : [تُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ إِنَّهَا تَأْتِينِي كُتُبٌ] قَالَ قُلْتُ: لَا قَالَفَتَعَلَّمْهَا] فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا الحديث.
فإذن كان لدى هذا الغلام من الذكاء والفهم الذريع ما تعلم به لغة قوم من الكفار غير لغته؛ ليخدم الدين، وليكون كاتباً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ كتب اليهود المرسلة إليه، ويجيب له عليها .(1/42)
2- عيسى العوام رحمه الله: وقد تستغربون المواهب التي قد يبدع فيها البعض، ويبرع فيها فيسخرها لخدمة الدين كيف تكون ! قال ابن شداد رحمه الله في إحدى الوقائع التي كانت بين صلاح الدين والنصارى: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلماً كان يجيد العوم، يقال له: عيسى العوام وكان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على ظهره ليلاً على غرة من العدو ـ البلد المسلمة كانت محاصرة بسفن العدو كانوا ينتظرون المدد ورسائل صلاح الدين التي يخبرهم فيها ماذا سيعملون ويمدهم بالنفقات لدعم الجهاد ـ فكان هذا الغواص المسلم يدخل من تحت سفن الأعداء ثم يخرج بعدها، ويدخل البلدة المسلمة وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر لمراكب العدو، وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه من أهلكه، ولكن الله قدر أن يموت هذا الرجل وهو جندي في وسط المعركة يخدم الدين، وأبطأ خبره عنا فاستشعر الناس هلاكهم ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام . ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين . فما رُؤِيَ من أدى الأمانة في حال حياته وقد أداها بعد وفاته إلا هذا الرجل.
فإذن: حتى الغواصين والغطاسين كانوا يستغلون هذه الموهبة لنصرة الدين.
3- ولما دخل رسول الله المدينة توزعت الطاقات، واستغلت المواهب: فهذا بلال يؤذن، وسعد وغيره لحراسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مبدأ الأمر . وزيد وغيره لكتابة الوحي والرسائل، وخالد وغيره للقيادة . خالد الذي كان مبدعاً في القيادة استغل طاقته في أي شيء؟ استلم مباشرة الجيوش يقودها في سبيل الله، وحسان، وكعب، وابن رواحة للقيام بالدور الإعلامي المطلوب لخدمة الإسلام .(1/43)
وابن مسعود صاحب النعلين والمطْهَرة؛ لأنه كان فقيها شديد التعلم كان يسأل رسول الله .. حتى في الأشياء الدقيقة ليتعلم.. وسلمان يدل على فكرة الخندق لما احتاج المسلمون.. ونعيم بن مسعود الثقفي يعرض خدماته لما أسلم..وأبو طلحة يأتي رسول الله بتبرع سخي بستان كبير، يقول: يا رسول الله ضعها حيث أراك الله .
ووضع التجار إمكاناتهم لنصرة الدين: فهذا عثمان رضي الله عنه يحفر بئراً على نفقته، ويجهز جيش العسرة على نفقته، ويفك أزمة المسلمين في وقت شدة بأن تبرع بالدواب التي حملت التجارة له بما عليها للمسلمين .. والملاحظ في السيرة النبوية أن هذا الاستغلال والتوزيع لم يظهر بشكل واضح إلا في المجتمع المدني بعد إرساء القاعدة الصلبة والهجرة إلى المدينة .
الحرص على توفير الكفاءات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم، وقبل ذلك توفير الكفاءات الشرعية التي يتربى الناس عليها: وإلا فما الفائدة من الأطباء والمهندسين إذا كانت قلوبهم خاوية على عروشها من الإيمان والعقيدة الصحيحة . وانظر إلى الغثاء المتدفق من أجيال البعثات على بلاد المسلمين ـ كثير منهم ممن جاءوا من الغرب، أو الشرق قد أصبحوا حرباً على الإسلام وأهله ـ فليست القضية مجرد كفاءات علمية، وليست القضية مهارة في الأمور الدنيوية.. قبل ذلك لا بد أن تعمر القلوب بالإيمان، وأن تتربى النفوس، وإلا فإن هذه الطاقات ستستخدم في حرب الإسلام ولو كان أصحابها عبد الله ومحمد وأحمد وعبد الرحمن .
استغلال الكفرة لمواهبهم أسوأ استغلال:
وانظر كيف استغل الكفار الأولون مهاراتهم ومواهبهم أسوأ استغلال:(1/44)
فهذا فرعون: لما أعطاه الله الملك والمال؛ سخر العباد، واستعلى عليهم، واعتدى على حق الألوهية، فادعى بأنه هو ربهم الأعلى، وبنوا له القصور والأنهار التي تجري من تحتها، وتأمل في هذه الأهرامات الموجودة الآن من الذي بناها؟ ولماذا بنوها؟ وكم أنفق فيها؟ إن الذين بنوها جماعة من الكفرة ممن سخر المساكين في ذلك الزمن، فأقاموها على دمائهم، وعلى أموال الشعوب الفقيرة في ذلك الوقت لماذا ؟! لتكون مقبرة لهم زعموا ! بناء كامل مقبرة لواحد ويدفن معه من الكنوز والأموال التي يحتاج إليها الناس .. كم قتل من الناس فيمن بنوا تلك الأهرامات؟ فالاستغلال السيئ للطاقات وللثروة هو الذي يبدد أموال الناس، ويفقرهم.
وتأمل في حال قارون: لما أعطاه الله المال وأعطاه {... مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ... }[سورة القصص]. استكبر وعلا، وزعم بأن الله يحبه ويرضى عنه وإلا لما أعطاه . فبماذا عاقبه الله بعد ذلك؟ سوء استغلال الأموال؛ يؤدي إلى الهلاك .
التبذير والإسراف يؤدي إلى الهلاك..إنفاق الأموال في مجالات الحرام يؤدي إلى الخراب والهلاك؛ ولذلك يقول نبي من الأنبياء لقومه موبخًا:{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }[سورة الشعراء].
هذه المنشآت التي فيها ضرر على المنشآت وأهله، وفيها تبذير للأموال عبث.
نصرة الدين لا تكون بالمواهب المحرمة:
فلا يحسبن كل إنسان أن هوايته التي يبدع فيها يمكن أن تستخدم لنصرة الدين؛ فإن هناك هوايات ومواهب نشأت في ظل الجاهلية بعيداً عن الإسلام، لا مجال لأصحابها في خدمة الدين، فمثلاً:
هواة لعب الورق والشطرنج هذه هواية ماذا تفيد الإسلام وأهله، ولو كانوا من أبطال العالم في ذلك.(1/45)
ولا يظنَنَّ بعض السذج أن بعض تلك الأشياء قد تصبح إسلامية بمجرد ذكر من الأذكار يكتب عليها كمن يظن أن ورق اللعب إذا طبع عليه ' لا إله إلا الله ' صار إسلامياً، وكمن يظن أن قطعة الشطرنج إذا استبدل الصليب على رأسها بالهلال صار إسلامياً .
ومن يظن أن الذي يلعب الطاولة إذا قال في بداية لعبه:'بسم الله' صارت اللعبة إسلامية، ومن الذي يظن أن النحاتين الذين ينحتون التماثيل والأصنام إذا نحتوا تمثالاً لعمر بن الخطاب، أو ابن تيمية صار عملهم إسلامياً.. فهذا هراء، وكلام فارغ، وإذا كانت القضية مضمونها جاهلي؛ فلا بد من نسفها تماماً.
وكثير من الأمور التي ينسبونها إلى الفن المعماري الإسلامي، الإسلام منها برئ؛ لأنها ما نشأت تحت راية القرآن والسنة، وإنما نشأت في فترات الترف؛ نتيجة للبذخ والإسراف وتضييع الأموال . فقد تكون الموهبة إذاً منقمة لا منقبة.. فعلى أصحاب الهوايات المحرمة أن يبحثوا عن مجالات أخرى يستفيد الإسلام من جهودهم فيها .
وانظر كيف أغوى الشيطان أناسًا من المسلمين أنعم الله عليهم بالصوت الجميل فاستخدموه للغناء والفسق ومزامير الشيطان بدلاً من استغلاله في قراءة القرآن، ودعوة الناس للصلاة بالأذان .
وأنعم الله على آخرين بذاكرة جيدة استغلوها بحفظ تفاصيل التوافه من الرياضات والأهداف، وأسماء اللاعبين وتواريخ ذلك، وكلمات الأغاني وأشعار المجون، بدلاً من استخدام ذاكراتهم في حفظ كتاب الله والعلم الشرعي .
دعوة لاستغلال الطاقات في طاعة الله:(1/46)
إن الله سيحاسب الناس على طاقاتهم، فعلى من أنعم الله عليه بطاقة أن يستغلها لطاعة الله . من أنعم الله عليه بشخصية جذابة وقدرة على التداخل مع البشر أن يستغلها في الدخول إلى قلوب الناس وتعميرها بالإسلام، وانظر إلى مصعب بن عمير كيف أنعم الله عليه بتلك الجاذبية مما أدخل فيه أناساً من أهل الشرك، فصاروا قادة للإسلام . ومن أنعم الله بجاه، أو نفوذ، أو سلطان، فعليه أن يستعمله للخير، وفي إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، وأن يقرب أهل الخير، ويجعلهم بطانته ومشورتهم كما فعل الراشدون وعمر بن عبد العزيز .
ومن آتاه الله قدرة في الشعر؛ فلينظمه في المنافحة عن الإسلام، وهتك أستار الباطل كما كان حسان يفعل رضي الله عنه . ومن آتاه الله بسطة في الجسم، فليجعلها في طاعة الله، حرباً على أعداء الله، يعين فيها الملهوف والمسكين والفقير من المسلمين . ولما أعطى الله طالوت بسطة في العلم والجسم؛ استعملها في قيادة بني إسرائيل بشرع الله حتى وصلوا إلى نصر الله . وتأمل كيف عوتب موسى - صلى الله عليه وسلم - واعتبر ذلك خطيئة في حقه لما استخدم قوته الجسدية في ضرب رجل، فوكزه فقضى عليه .
إذن.. إذا كنا نريد أن نكون صادقين في استقامتنا على شرع الله؛ فعلينا باستغلال طاقاتنا ومواهبنا المادية والمعنوية لإعلاء كلمة الله.
من' الطاقات والمواهب في خدمة الدين' كتبه الشيخ/ محمد صالح المنجد
المصدر : مفكرة الإسلام
ــــــــــــــــــ
كيف تكون إيجابيًا
عبيد الله بن أحمد القحطاني
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله،وبعد،،،(1/47)
المقصود بهذا العنوان:' كيف تكون إيجابيًا ' هو:كيف يكون الإنسان نافعًا.. كيف يكون الإنسان إيجابيًا في نفع المسلمين، وفي نفع إخوانه في القيام بما أوجب الله من الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كيف يكون إيمانيًا، فيتألم ويتحرق لما يراه من حال المسلمين، فيكون عنده من الهم ما يبعث لديه همه فيجعله ينطلق نحو عمل الخير بجميع وسائله وطرقه، لا يحول دون ذلك حائل. ، ونحن بحاجة ماسة لهذا، خصوصًا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، ونشط فيه أهل الباطل نشاطًا لم يسبق، ولهم من الإمكانيات ما لا يخفى حتى استطاعوا بهذه الإمكانيات أن يغزو المسلمين في بيوتهم. وهذا أمر لا شك أن ظاهره ونتائجه جلية واضحة، وهم والله يعملون على مدار الساعة والأهداف معروفة ومرسومة.
لكن ينبغي أن تنظر إلى هذا بأنه الزبد الذي يذهب جفاء لكن بشرط أن يوجد الحق، وأن يوضح الحق، والله سبحانه قضى أن الحق لابد له من رجال يحملونه مؤهلون لذلك. وانظروا لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد قام وحيدًا ينادي الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، أنقذوا أنفسكم من النار، ولم يكن معه أحد، فقام عليه الصلاة والسلام على تربية جيل ورجال يحملون معه هذه المسئولية التي حمله الله إياها، فأخذ يدعو الله، وجاء من حوله أصحابه وأتباعه، ولما اقبلوا إلى الإسلام راغبين نالهم من الأذى والمشقة، ومن التعدي والظلم، ومن الضرب والبطش الشيء الكثير حتى كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيطلبون منه أن يستنصر لهم، أن يطلب النصر:' أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا'رواه البخاري.(1/48)
فكان عليه الصلاة والسلام يثبتهم بذكر أمثال الأمم السابقة وهذا منهج في القرآن، فمن الوسائل التي ثبت بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أخبار السابقين، وأنه له فيها سلف، وهو كذلك كان يقص فكان يقول لهم: [ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الارْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الاَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ] رواه البخاري. وربما قص لهم خبرًا طويلًا كما في حديث صهيب عند مسلم في خبر الغلام المؤمن، فهذا كان من وسائل التثبيت لهم رضي الله عنه، ولما اشتد الأذى أمرهم بالهجرة إلى الحبشة كل هذا ولم يأت شيء من القوة التي يستطيع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدافع وأن يجاهد بها ذلك الباطل.
فكانت مرحلة تربية، حتى يكونوا جديرين بحمل هذا الحق، بحمل هذا القول الثقيل:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا[5]}[سورة المزمل]. وهكذا وجد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكانوا قد أهلوا ليحملوا هذا الحق، ويجابهوا به الباطل، فانطلقوا وفي فترة قياسية ما يقارب عشرين سنة عمَّ الإسلام الأرض تقريبًا في ذلك الوقت ودانت الدنيا بلا إله إلا الله.
فهذه إشارة إلى أن الحق لا بد له من رجاله يحملون، يجابهون به أهل الباطل، كما يقول سبحانه: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ[18]}[سورة الأنبياء].(1/49)
وليس هناك حق أجلى ولا أوضح من الحق الذي في أيدي المسلمين: كتاب الله، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأمة لن تضل ما تمسكت به.
فهذا الذي نراه من الباطل كله يذهب لو قام أهل الحق بما يجب عليهم، فبينوه، لكن المشكل في أن الباطل يمتد، وأهل الحق كثير منهم لا يقومون بما يجب عليهم.. هناك ضعف، أو شك في الامكانيات، أو خوف من إمكانيات أهل الباطل. كل هذه الأمور ينبغي أن تنمحي من الأذهان، ولا يمنعنا كل ذلك أن نقوم لله بما يجب؛ لأن الخطر في القعود والسكوت:{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38]}[سورة محمد]. لا بد أن نري ربنا من أنفسنا أننا جديرون بحمل هذه الرسالة وتبليغها للناس، والقيام بما يجب علينا.
من عجائب قصة النملة:
ولا يحتقر الإنسان نفسه، فلو تأملنا القرآن؛ نجد الله ضرب لنا مثلًا عجيبًا يلفت أنظار الناس ففي سورة النمل ذكر قصة النمل مع سليمان، يقول سبحانه:{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ[17]حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[18]} [سورة النمل]. لماذا هذه القصة؟
من فوائد هذه القصة: تأملوا فهذه نملة قومها كثر، حتى سمى الوادي بوادي النمل وهي واحدة:
فأولاً: هي شعرت بالخطر المحدق بقومها، فلم تهتم بنفسها فقط، وتذهب، بل حملت هم قومها.(1/50)
ثانيًا: لم تهتم فقط بمن حولها من مئات النمل، ولكنها تجاوزت ما هو أكثر من ذلك فإذا هي تنادي جميع النمل{ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} تنبههم للخطر القادم. ولا حظوا أنها ما احتقرت نفسها، ما قالت: ما قدري في هذا المجتمع، فالنمل كثير جدًاف لكنها رأت أن عليها واجبًا يجب أن تقوم به، فقامت به.
ثالثًا: الجيش كبير: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} فما ضعفت لما رأته، ولكنها قامت بما يجب عليها.
رابعًا: هذه النملة تعتذر عن سليمان وجنوده، فتقول:{ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}. فحذرت من الخطر مع أنها أمام أمة لا تريد بها شرًا، فنحن أولى بالتحذير فجيوش الباطل هذه تريد بنا شرًا واضحًا، فلا يريدون بقاء الإسلام، يحسدون هذه الأمة على ما هي فيه من استقامة وطهر وعفاف { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً...[89]}[سورة النساء]. و{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ...[109]}[سورة البقرة]. هكذا أخبر الله جل وعلا.
فهذه نملة عجيبة، لها همّة، عندها اهتمام ليس عند كثير منّا.
والهدهد أيضًا !
وفي السورة نفسها ذكر الله قصة هدهد سليمان، وكيف أن هذا الهدهد لما رأى أمة تعبد غير الله تأثر لذلك، والقصة طويلة ولكن نجد في آخرها قوله تعالى:{...قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[44]}[سورة النمل]، فما الذي جرى؟ أمة أسلمت لله، فمن كان السبب؟(1/51)
إنه الهدهد، هذا الطائر قام لما رأهم يسجدون للشمس من دون الله لم يعجبه هذا الأمر، فقام وأوصل الأمر إلى من يستطيع تغيير هذا المنكر؛ ليقوم بما يجب عليه لله حيال إنكار هذا الشيء الذي لا ينبغي أن يبقى.ونحن نحتاج إلى هذا الأمر خصوصًا في الزمن الذي ينشط فيه أهل الباطل، فماذا فعلنا نحن؟
إن المسئولية عظيمة فلا يكفي أن يجلس كثير منا يهز رأسه كلما سمع بفتنة حصلت، أو شر انتشر، أو داء تفشي .. سبحان الله.. نظل نسمع ونهز رؤوسنا، ونقول: الله المستعان، وينجح أهل الباطل، ماذا فعلنا لكي نصلح هذا الواقع؟!
الخير لا يزال موجودًا رآه، فما في قلوب بعض الناس من أن الزمان قد فسد، والناس خربت، وأننا لا نستطيع أن نغير في هذا الوقت.
لهذا كله لا يصح، فنستطيع إذا قمنا بما يجب، إذا صدقنا مع الله وأخلصنا لله، فالله سبحانه يفتح ويوفق ما لم يخطر في بال الإنسان، لكن الإنسان ينطلق وهو واثق بربه، فالذين نخشى شرهم وباطلهم هم عبيد لله، نواصيهم بيده، قلوبهم بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فالله سبحانه ينصر عباده ويعين.
وما صدق إنسان في دعوته وفي نشاطه الحق إلا وفقه الله. نسمع الآن عن شباب يذهبون يدعون في بعض جهات أناس أهل بدعة، وأهل ضلال، يرون أنفسهم على حق، فتعود قرى بأكملها إلى السنة وإلى الاستقامة وإلى التوحيد ربما على يد رجل واحد..فالإنسان متى كان عنده نية العمل وأصبح قلبه متحرقًا لما يرى من الفساد، ومن كثرته، ومن انتشاره؛ فإن الله إذا علم منه الصدق؛ سدده وفتح عليه أمورًا ما لم تكن في باله.(1/52)
لكن المشكلة أن يعمل أهل الباطل، ونحن نقف مكتوفي الأيدي، ويظن بعضنا أن العمل لدين الله محصور في خطبة، أو محاضرة..وما إلى ذلك، لا.. فأبواب العمل لدين الله واسعة ليست محصورة في كرسي أو منبر. ومن أراد أن يعمل فالميدان أمامه. ونحن بحاجة لكل عامل، وبحاجة لكل جهد ولو قليلاً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك لأحد حجة وهو يقول: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً] رواه البخاري.
وركام الباطل حجب بين الناس وبين الخير حتى أن بعض الأمور السهلة، و الأحكام الظاهرة أصبح بعض المسلمين لا يعرفونها اليوم.. لماذا؟ للتقصير في الدعوة، والتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ]رواه مسلم. فأين الاستجابة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
إن الكثير من المنكرات الموجودة في المجتمع تبدأ على استحياء شيئًا فشيئًا، فلو كان المنكر عندما يظهر نقوم بإنكاره، وبيان الحق، وبيان الحكم الشرعي؛ لوجدنا استجابة وربما انتهى أمره، فأين غضبنا لله سبحانه؟!(1/53)
فلابد من بذل الجهود، ومن مضاعفتها، وأن يدعو بعضنا بعضًا إلى الخير، ولا يكفي صلاح الإنسان في ذاته، فالله سبحانه ذكر في كتابه أن العذاب لم يسلط على أهل بلد وفيها من يدعو إلى الإصلاح، وهم المصلحون:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117]} [سورة هود]. أما وجود الصالح فليس ضمانًا لسلامة المجتمع من عذاب الله، فقد قالت زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ' يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ' قَالَ: [نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَث] رواه البخاري ومسلم. وهي المعاصي بأنواعها، فالصالح ينبغي أن يقوم بدوره في الوقوف في وجه الخبث، وذلك على حسب توجيه وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
من دوافع الإيجابية:
من الجوانب التي تدفعنا إلى هذا الخير علم الإنسان بما يترتب من أجر وثواب على هذا العمل العظيم، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : [ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ]رواه الترمذي. انظر كم المسافة سيد ولد آدم وبين أدناكم.. هكذا يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقارنة.(1/54)
و ليس المقصود مجرد العلم الذي لا ينفع صاحبه، فإن يقول: { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]} [سورة العصر] . فهذه أربع قضايا مهمة في هذه السورة مترابطة بعضها ببعض، لابد من القيام بها حتى تنجو من الخسارة { وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]} [سورة العصر] . فالمقصود أثر العالم على الأمة، أثره على الناس، ولن يكون له ذلك الأثر إن لم يكن عاملًا أولا بعلمه.
فالإنسان إذا علم بالأمور المترتبة على هذا العمل العظيم فإن ذلك يكون سببًا في أن يستهين بالصعاب التي ربما واجهها وهو يعمل هذا العمل، عندما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ]رواه الترمذي. فأي فضل هذا!
وهذا التعليم أحيانًا تقوم به بنفسك، وأحيانًا تكون سببًا في إيصال العلم والخير إلى الغير وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : [ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]رواه مسلم. فلماذا لا تكون دليل خير؟
فقد يدعو الإنسان إلى شيء من الخير إعذارا إلى الله، ولكن قد يضعف الإنسان فلا يقوم بهذا العمل، فيلتقفه إنسان يسمع منك، فيقوم بهذا العمل أو الشيء الذي دعوت إليه، فيكتب لك الأجر كما عمله هو. بل الأمر أعظم من ذلك، ربما تكلم إنسان فاهتدى بسبب هذه الدعوة رجل أو امرأة، ثم أصبح هذا الإنسان داعية، أو ربما أصبح مجاهدًا في سبيل الله، أو ربما قتل شهيدًا في سبيل الله، فما من خير يحصل عليه إلا كتب لك منه مثله؛ لأنك أنت الذي دللته إلى الخير.(1/55)
وهذا والله ما ينبغي أن نتنافس فيه، وأن تسعى في تحصيله، وأن يكون أحد الأهداف في حياه الإنسان، ولنا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، لقد كان من أهم المهمات في حياته عليه الصلاة والسلام إنقاذ الناس من الظلام، هداية الناس { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا[6]} [سورة الكهف].
عائشة رضي الله تعالى عنها وقع في نفسها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما مر به شدة كما مر به يوم أحد، فأخذت تسأل هل مر بك شيء أشد مما في يوم أحد، فذكر أن لا إلا ما حصل في الطائف، وليست القضية أنهم رموه بالحجارة، إنما أكثر ما أثر فيه عليه الصلاة والسلام هو عدم قبول دعوته، أثر فيه أنه لا يجد أرضا خصبة لـ لا إله إلا الله.
يقول بعض الصحابة:'رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لعشر سنين وهو في مكة يعرض نفسه على القبائل في المواسم'.
يمشي فيعرض عليهم دين الله لا يمل ولا يكل في كل مكان حتى في الأسواق.
وهو لنا أسوة، وهذا الدين أمانة في أعناق من بعده، وهكذا تسلسلت هذه المسئولية حتى وصلت إلينا، فإما أن نقوم بها كما ينبغي، وإلا فنحن نخشى على أنفسنا أن نخسر قبل غيرنا. وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
المصدر : مفكرة الإسلام
ــــــــــــــــــ
رب همة أحيت أمة بإذن الله
خباب بن مروان الحمد
لله درُّ المتنبي حين قال في ميميته الرائعة مادحاً الباحثين عن المتاعب بلا ملل ولا سأم:
عجبت لمن له حد وقد وينبو نَبْوة القضم الكهام
ومن يجد الطريق إلى المعالي فلا يذر المطي بلا سنام
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام(1/56)
يرتسم في هذه الأيام على وجوه الكثير من أبناء المسلمين حالةٌ مرعبة من الحزن والكآبة، ويسري في نفوسهم دخان الهزيمةَ والوهن؛ وذلك لما يرونه أو يسمعونه في وسائل الإعلام العالمية بشتى أنواعها، عن صور لمآسي المسلمين في أصقاع المعمورة؛ فمنهم المقتول قتلاً لا يحتمل المسلم أن يراه، ومنهم الذي سجن في صورة تأبى النفس البشرية أن تراها لحيوان فضلاً عن أن تراها لإنسان له شعوره وأحاسيسه، ومنهم تلك الثكلى التي فقدت زوجها وأبناءها تحت البيت الذي هدمته أسلحة الدمار التي لا ترحم، وتلك المنكوبة تبكي وتتأوه.....ولا نصير!!!
صور تتعدد، ومآسٍ تتكرر، اعتادت العين على رؤيتها، والأذن على سماعها.
في ظل تلك الأحداث المفجعة، والأزمات الموجعة، وفي أزمة الصراع العالمي بين الإسلام والكفر، وفي عصر الانقسامات والحزبيات، وفي زمن اليأس والقنوط الذي خيم بكلكله على قلوب كثير من المسلمين، وأطبق على أفئدتهم..في ذلك كله... ألا يجدر أن تتحدث الأقلام عن أهمية بروز القائد الذي يصنع الأجيال، ويربي الأبطال، ويبرز المواهب، ويصقل النفوس فيربيها على الإيمان والجهاد، ويعيد إكسير الحياة العزيزة إلى قلوب حطمتها أمم الكفر، وأذاقتها مر الويلات.
القائد الذي تنبع أفعاله وأقواله من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ويحكم الناس بلا إله إلا الله؛ فهي شريعة كاملة ومنهج حياة.
القائد الذي يمسك بزمام المبادرة لنصرة الإسلام، ويتحدث أمام العالم أجمع بأن المسلمين هم الأحق بالصدارة والريادة على جميع الأمم.
القائد الذي يزأر لصرخات المنكوبين، ويستعلي على علو الطغاة والكافرين، وتستروح النفوس لسماع كلماته، وجميل عباراته في إغاظة أعداء الدين.
ذلك القائد الذي يبدأ مفعوله من همة تحاكي القمة، وعزيمة تصنع الإباء، وجرأة بحكمة يسطرها التأريخ.
إنه أمل لأمة تحلم به منذ زمن بعيد، ويا له من أمل!
أمل إليه هفت قلوب الناس في الزمن البعيد.(1/57)
أمل له غور القديم كما له سحر الجديد.
وبعد هذه الطرق لأوصاف هذا القائد الذي ينتظر المسلمون قدومه من وقت مديد، فإني وبكل صراحة أقول:
أيها القارئ الفاضل - إنني أخاطبك بكل شفافية وهدوء.....
أخاطب فيك عقلك الكريم، ونفسيتك الجذابة، وهمتك الوثابة، فأقول: لِمَ عَوَّدْنا أنفسَنا منذ أن خُلقنا لحالات الترقب والانتظار في أي شيء سيحصل للمسلمين، وأبعدْنا النُّجعةَ عن العمل لهذا الدين، وصناعة الحدث، وصياغة القرار؟
عذراً؛ فهذه هي الحقيقة، ولا بأس أن تطرح لتعالج، وقد قيل: (المؤمنون نَصَحَة، والمنافقون غَشَشَة)؟
لماذا إذا قرأنا عن القائد الذي سيقود الأمة إلى بر السلام والأمان قلنا: ومتى يأتي؛ فلطالما انتظرناه، وهفت قلوبنا للقياه؟ وهو ابن من؟ وما أوصافه؟ وما هي مؤهلاته؟ ومن أي بلد هو؟ وأين يقطن؟.. إلى غيرها من الأسئلة والاستفسارات التي ترطن بها ألسنتنا، وتبوح بها أفئدتنا، ونبقى نكررها إلى أن يوافينا الأجل.
ألم تفكر ـ أيها الأخ الكريم ـ أن تكون هذا الرجل المنتظر، والقائد المظفر؟!!
نعم! لِمَ لا يكون هو أنت؟!! فيغير الله على يديك ميزان التاريخ لصالح المسلمين، ويصلح بك الرحمن هذا العالم، بعد همة ومثابرة وعزم وتصميم وعلم وعمل؟
لقد حان هذا الوقت لتضرب بيدك على صدرك، قائلاً بأعلى صوتك للقيادة القادمة: أنا لها.. وتردد منشداً:
ما دام عرقي نابضاً لن تعرف النفس ارتياح
إنها صناعة الحياة، وصياغة النجاح التي تجعلك كبيراً عند ربك، وكبيراً في تفكيرك، وكبيراً عند مجتمعك، بل كبيراً في كل شيء.
تخرج للناس لتعلمهم درساً لن ينسوه بأنه (رب همة أحيا الله بها أمة)، تخرج لهم وتقول:
بُغْضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وكأني بسؤال يدور في خيالك، ويسيح في بالك، فينطق به لسانك قائلاً:(1/58)
وهل أنا أصلح لهذه القيادة، ثم هل أستطيع بفردي أن أنفع أمة الإسلام، وأصلح على يدي فئاماً من البشر قد ركنوا إلى الدنيا وابتعدوا عن منهاج ربهم الذي رسمه لهم.....؟ فأقول لك بملء فمي: نعم!!
فلِمَ الاحتقار للذات، والانكفاء على النفس، والعزلة عن فعل الخير، والانكماش والانغلاق، وعدم محاولة الإصلاح والكفاح؟! ودعني أوضح لك حقيقة لا بد أن أبين عورها، وأكشف ضررها، وهي:
إن من مشكلات هذا الزمن الصعب (مشكلة التفكير الخاطئ)؛ وذلك بأن يرسم المرء لنفسه خطة يسير عليها في حياته، ومن ثم يطبقها على أرض الواقع، وهي من ألفها إلى يائها غلط في غلط... وخذ مثلاً: ها أنت ترى بعضاً ممن هم حولك يقولون في مجالسهم إننا في زمن انطبق فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»(1).
ثم يسوقون أحاديث العزلة التي ذكرها الخطابي، وابن أبي الدنيا ـ - رحمهما الله - ـ في كتابيهما (العزلة)، ومن ثم يقولون: نحن في زمن جدير بنا أن نعتزل أهل الفساد في شرهم؛ فلن نستطيع التغيير، ولن يجدي الإصلاح شيئاً.
مرددين قول الشاعر:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ
ثم يختمون أمسيتهم بقولهم: ما أجمل ما قاله سفيان الثوري ـ - رحمه الله - ـ:
ما العيش إلا القفل والمفتاحُ
وغرفة تصفقها الرياحُ
لا صخب فيها ولا صياحُ
وأنا لا أتكلم من واقع خيال؛ فإن هذا واقع بعض أهل الاستقامة والديانة، والذي ذكرته آنفاً تشخيص لمثل من مشكلات التفكير المخطئ لأي عمل يراد القيام به، سُقته لك لمناسبته للمقام.
ولا شك أن تلك العقلية ليست هي عقلية المجدد القيادي الذي يقيم الله به الدين، وينصر به الملة.(1/59)
غير أنه من الجيد أن يعرف الإنسان نفسه؛ فبعض الناس ـ وهم قلة ولله الحمد ـ لا يستطيعون الإصلاح، ويخشون على أنفسهم من الفتن، ويرون أن السلامة هي الابتعاد عنها، وعدم مخالطة أهلها، وهذا علاج نافع لهم، (ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه) لكن من الخطأ ظن بعضنا أن الذي يعتزل الناس ولم يصبر على أذاهم أفضل من ذلك الذي يخوض معامع المعارك، وصولات الحق على الباطل، ومراغمة الكفار وأهل البدع، ومناصحة المؤمنين، وتعليم الناس العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في جميع نواحي الحياة.
كلاَّ.. فلا مقارنة بين عابد معتزل، وقائد يقود الناس بالكتاب الهادي، والسيف الناصر مع الأذى والابتذال؛ فأين الشرق عن الغرب، وأين السماء عن الأرض؟! لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(2).
وعوداً إلى كلام بدأت به: فأنت تستطيع أن تعمل، وتكون قائداً ينفع الله بك؛ وكل الذي تحتاج إليه أن تنفث في واقعك همة من هممك، وتحاول أن تصلح وتغرس، فتحيي الموتى في حياتهم، وتستنهض همم الباقين.
فانهض؛ فقد طلع الصباح ولاح مُحْمَرُّ الأديم!
فإن الناس في سبات عميق، وبُعدٍ عن منهج الله ودينه سحيق، هذا مع تبلد الإحساس، وحب الدَّعة والراحة، والله المستعان.
تبلد في الناس حب الكفاحِ *** ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي *** سدور الأمين وعزم المريب
وقد مضى عصر الكسل والنوم والخمول، وأقبل عصر العمل والتعب؛ فلا خمول........ وكأني بك قد اقتنعت بما كتبت، ولكن بقي لديك إشكال وهو قولك:
كيف وأنا فرد أستطيع أن أهدي أمة من الأمم، وأصلح شعباً من الشعوب، أو أقود المسلمين بالإيمان والجهاد...
كيف يكون ذلك؟!(1/60)
فأجيبك جواباً يشفي غليلك، ويحل إشكالك؛ حيث سأذكر موقفين ذكرهما الله في كتابه العظيم تكمن فيهما الإيجابية الفعالة في المبادرة الذاتية للإصلاح والتغيير، وأعقبهما بموقف ثالث لأحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأذكر هذه المواقف الثلاثة حتى نعلم أن من يريد العمل والإنقاذ فإنه لا بد أن تظهر تلك السمة القيادية على أفعاله ولو كانت حشرة أو طائراً. ولا تستغرب ذكري لهما؛ فإنهما المثلان الأولان اللذان سأذكرهما؛ حيث أشاد الله بإرادتهما الإصلاحية، فلا بأس أن تقتفي أثرهما في همة الإصلاح، وإياك واحتقار ذاتك بقولك: (ومن أنا حتى أقود وأسود، وأصلح وأجدد؟) فإن هذا (ورع بارد) كفاك الله شره.
* الموقف الأول:
تأمل وأنعم النظر في موقف النملة الإصلاحي في هذه الآيات الكريمة من سورة النمل؛ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 17 - 19].
ومن هذه الآيات الكريمة نستنبط عدة فوائد منها:
1 ـ أن هذه النملة مفردة، وقد ذكرها الله في كتابه بصيغة التنكير؛ فهي نكرة في قومها كما هو ظاهر الآية؛ فليست ملكة أو وزيرة بل هي نملة من عوام النمل.(1/61)
2 ـ هذه النملة أتت إلى قومها صارخة فيهم منذرة، قائلة: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، فأخبرتهم بقرب وقوع خطر سيحيق بهم ويقضي عليهم وهم لا يعلمون.
3 ـ أن النملة لم تكتف بالإنذار بأن هناك خطراً سيداهم عشيرتها ثم تصمت كما هو حال بعض المسلمين اليوم يعي أن عدوه سيأتيه فلا يكون حاله إلا أن يصيح قائلاً: (احذروا الكفار؛ فإنهم قادمون)، ثم يرجع إلى فراشه ويغط في نوم عميق دون أي عمل يدفع به كيد الكفار.
إن هذه النملة لم تتقن فن الكلام فحسب، بل وضعت خطة لقومها، فقالت: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} ورأت أن المصلحة في كيفية درء المفسدة عن قومها بتبيين طريق النجاة لهم حتى لا يضلوا فيقعوا في شباك الصيد، وتحت وطأة أقدام الجيش القادم.
4 ـ والمعتبر بحال النملة يجد أن عندها نسيج الولاء لقومها، ومحبتهم كما تحب نفسها؛ فليست أنانية، بل تحب الخير لقومها، ولذا أنذرتهم جميعاً ولم تقل: (دعهم يهلكوا وهذا جزاؤهم؛ لأنهم لم يهتموا بحراسة أنفسهم) كلاَّ؛ بل أنذرتهم جميعاً، ولم تستثن أحداً.
5 ـ ومن الفوائد أن هذه النملة لم تنتظر أن يأتي أحد من قومها أو ممن يحرس وادي النمل ذاك، ويخبر النمل بأنه سيأتي جيش يحطمنا ويبيدنا، بل كانت عندها روح المبادرة الذاتية، في المسارعة إلى إنقاذ قومها وإقصائهم عن مواطن الهلاك.
6 ـ عند قوله ـ - تعالى - ـ: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وقفة قصيرة مع هذا الاعتذار العجيب من هذه النملة الذكية؛ حيث ذكرت أن جند سليمان - عليه السلام - القادم قد يهلك النمل، وهم لا يشعرون بأن تحت أقدامهم وادياً من أودية النمل؛ فهذا الجيش لا يتعمد قتلنا، ولا يريد تحطيمنا عن قصد.(1/62)
فتأمل هذا التحذير ثم الاعتذار؛ فالنملة تعلم أن سليمان ـ - عليه السلام - ـ نبي رحيم، لا يحب الشر للخلق أو يضمره لهم؛ فلنتأسَّ بها في اعتذارنا لمن أخطأ في حقنا وهو لا يقصد سواء بقول أو بفعل، أو لم يشعر بخطئه ذاك.
7 ـ وبالنسبة لتبسم سليمان ـ - عليه السلام - ـ فإما أنه تبسُّمٌ منه لهذه النملة العجيبة التي خافت على قومها وأنذرتهم بخطر قد يداهمهم، وإما لاعتذارها لجند سليمان بالثناء؛ فإن قولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وصف لهم بالتقوى والتحفظ عن مضرة الحيوان، وإما أنه تبسم لإدراكه ما قالت تلك النملة وهي نعمة من الله ـ - عز وجل - ـ أنعم بها على سليمان ـ - عليه السلام - ـ وهي معرفته للغة الحيوان وفهمه لكلامه، ولذلك أعقب سليمان ـ - عليه السلام - ـ ذلك التبسم بشكر نعمة الله عليه، ومعرفة لحقه. (وما ذكرته للمراد بهذا التبسم فهو مجموع لتفسير أهل العلم لحقيقة ذلك التبسم؛ والله أعلم).
فانظر ـ أيها الأخ ـ إلى هذا الموقف ودقق النظر فيه لعلنا أن نتأسى به ونعتبر، ونعلم أن على الفرد مسؤولية يجب القيام بها، وأنه يستطيع أن يقود أمة كاملة بحسن تصرف وجميل تعبير.
ولو خرج المتأمل لهذه القصة بفائدة صحبة معلمي الخير لقومهم والمصلحين لأمتهم والابتعاد عن رفقاء السوء، ومتربصي الشر والفتن لخرج بفائدة لا ينساها طوال حياته، وقد قيل:
لا تصحب الكسلان في حالاته كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
فإياك ومصاحبة البطالين، وأهل الزيغ والهوى والنفاق؛ فإنه سم ناقع، وعلقم مر.
الموقف الثاني:(1/63)
وهذا موقف آخر أنقلك به إلى موجة أخرى من موجات الإصلاح وعمليات التغيير لكي ترى أن من في قلبه شعلة إيمانية فلن تنطفئ عندما يرى الظلام المخيم على أكثر أهل الأرض من الكفر والنفاق. وزبدة ذلك أن سليمان ـ - عليه السلام - ـ حينما كان يتفقد الطير ولم يجد الهدهد قال بلهجة حادة: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 20 - 21]، فجعل سليمان - عليه السلام - هذا العقاب للهدهد إما بالعذاب الشديد أو الذبح المريع له، أو أن يأتي بخبر مبين، وبينما هو كذلك جاء الهدهد وكان متأخراً لمهمة أحاط بها علماً ولم يعلمها سليمان - عليه السلام - فقد جاء من سبأ بنبأ لا شك فيه.
ومن قوة ملاحظته لنبأ سبأ أنه وجد امرأة تملكهم ـ ولعل هذا من استغرابه ـ وأنها أوتيت من كل شيء من الرخاء والترف والحياة المخملية، وفوق ذلك كله عرش تجلس عليه.
والطامة الكبرى، والأصل الأصيل الذي أدى إلى تأخر الهدهد عن الحضور مبكراً أنه رأى تلك الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، وهو شيء تأباه العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ فكأن تلك العبادة استوقفت ذلك الهدهد عن الطيران والتبكير للمجيء في موعد تفقد سليمان - عليه السلام - لجنده.
ثم بين الهدهد عقيدته صادحاً بها أمام سليمان - عليه السلام - بقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25]. ويا له من درس عظيم ألقاه هذا الهدهد في التوحيد لا يعلمه كثير ممن ينتسب إلى الإسلام.(1/64)
ومع ذلك كله قال سليمان - عليه السلام - : {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] فابتلى الله الهدهد بعد تصديق سليمان - عليه السلام - له؛ وذلك يشي - والعلم عند الله - أن صاحب الدعوة إلى توحيد الله لا بد أن يبتلى في حياته، وأن دعوته تلك لن تمر دون تمحيص وابتلاء ليعلم الله الصادق من الكاذب.
وبعد عدة مراسلات من سليمان - عليه السلام - لتلك الملكة، أقرت بوجود الله وألوهيته على الخلق أجمعين، وأنه لا مستحق للعبادة قط إلا هو - سبحانه -؛ وذلك بقولها: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
فتدبر ـ أيها اللبيب ـ فعل ذلك الهدهد الغيور على التوحيد، وارجع البصر كرتين في تأمل موقف ذلك الطائر؛ فقد سرى بدمه حب (لا إله إلا الله) ودافعية الدعوة إليها، والصبر على الابتلاء فيها؛ فأين نحن وغيرتنا على دين الله من الهدهد؟
وتالله إنه لمشروع عظيم قام به هذا الطائر ليصلح الله به أمة كانت تعيش في مستنقعات الكفر، وبيداء الضلالة، فإياك إياك أن يحمل هذا الطائر همَّ دين الله في صدره أكثر منك أيها الموحد، وقد وصاك الإمام أبو معاذ الرازي ـ - رحمه الله - ـ بذلك فقال: (لا يكن الهدهد أغير منك على التوحيد).
ضربت لك هذين المثلين ليتضح لك أنه قد يصنع المواقفَ الجبارة حشرة أو طائر؛ فما بالك بإنسان أعطاه الله جميع الصفات والقوة العقلية والجسدية، إنه يستطيع بدون أدنى ريب أن يصنع الكثير، وأن يبدع الإبداع العظيم، ولو كان مشلولاً أو أعمى، فإن عنده العقل وهو آلة التفكير ومصنع العمل.
وما أنت بالمستسيغ القعود ولو قيدوك بهذي الحفر
وهاك مثلاً ثالثاً لرجل من الصحابة - رضي الله عنهم - أنقذ الله على يديه المسلمين من أزمة كادت أن تعصف بهم، وتوقعهم في أحلك الأمور وأصعب المواقف.
الموقف الثالث:(1/65)
وهو موقف الصحابي الجليل: نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقد أسلم في غزوة الأحزاب، التي صور الله حالة الصحابة فيها بالقرآن تصويراً واضحاً، وكيف أن الكفار أحاطوا بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبصحابته الكرام، وجنده الأبرار إحاطة السوار بالمعصم، فقال - تعالى - : {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11].
وقد بانت في هذه الغزوة صورة المنافقين الكالحة، وصفاتهم القبيحة؛ حيث قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وفي معترك الأحداث التي اشتبكت فيها الأمور، واختلط فيها الحابل بالنابل، صنع الله - تبارك اسمه - كما قال ابن القيم في زاد المعاد (3 / 273) أمراً من عنده، خذل به العدو، وهزم جموعهم، وَفَلَّ حَدَّهُمْ، فكان مما هيأ الله من ذلك: أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر ـ رضي الله عنه ـ جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله! إني قد أسلمت؛ فمرني بما شئت».
ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يقبل إسلام ذلك الصحابي الجليل، ثم قال له بعد أن طلب منه نعيم بن مسعود أن يأمره بما شاء: «إنما أنت رجل واحد؛ فخذِّلْ عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة».(1/66)
فألهم الله هذا الصحابي أن يفعل فعلة يسطرها له التأريخ في أنصع أوراقه، وأجمل افتخاراته، وخلاصتها: أنه ذهب إلى اليهود وإلى قريش والقبائل التي تمالأت على حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأفسد كل طائفة على صاحبتها، حتى جعلهم أعداءً، وفرَّق كلمتهم، وأضعف ثقة كل فئة بالأخرى، فتخاذلوا جميعاً عن الحرب، ثم أرسل الله عليهم جنداً من جنده من الريح العاصفة، والملائكة المرسلين فقوضت خيامهم، ولم تدع الريح قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته، وكفى الله المؤمنين القتال. فله الحمد والشكر(3).
وكان بداية غيث المسلمين بالنصر هي همة نعيم بن مسعود، رضي الله عنه؛ فقد أسلم، ثم فكر وقدر، فنِعْمَ ما قدر؛ فسلام الله عليه؛ فلم يكثر الكلام، بل جعل الجوارح تتكلم وتعمل، وصح فيه قول الشاعر:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مَذِقُ اللسان يقول ما لا يفعلُ
وإلى هنا أتوقف عن ذكر المواقف التي تثير همم الفطناء، وتاريخ المسلمين مليء بمثل هذه المواقف الفردية العظيمة.
وكأنهم جميعاً يوصون بما قاله الأول:
وكن رجلاً من أتوا بعده يقولون مَرَّ وهذا الأثر
وللعلم فإني لم أذكر مواقف الأنبياء العظماء - عليهم الصلاة والسلام - فمواقفهم كثيرة لا تحصر، ولكن خشية إن ضربت بهم مثلاً أن يقول أحد: ومن نحن عند هؤلاء الأنبياء العظام؟! عليهم الصلاة والسلام.(1/67)
لذا ضربت أقل ما نرى في هذا الوجود همة مثل النملة والهدهد، ثمَّ أحد المواقف البشرية التي قام بها أحد الصحابة ـ رضي الله عنه ـ لعلها تقدح في أنفسنا نسائم الإرادة، و ليعلم المسلم سبب وجوده في الحياة؛ فلم يُخلق عبثاً، بل خلق للعمل والعبادة والابتلاء والتمحيص... فلا بد من استشعار المسؤولية الفردية التي كلفه الله بها؛ فقد قال ـ - تعالى - ـ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]، وقال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] وقال - تعالى - : {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
ثم إنه - تعالى - أوصانا بالعمل جميعاً، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]؛ فالعمل لهذا الدين مسؤولية الجميع.
أيا صاحِ هذا الركب قد سار مسرعاً ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟
أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدهم صريعَ الأماني والغرام ينازع
فـ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42].
وما أجمل ما خطته يد ابن الجوزي حين كتب: (أول قدم في الطريق: بذل الروح... هذه الجادة؛ فأين السالك؟!!)(4).(1/68)
وهناك ثمة تساؤلات يسألها المرء نفسه: (كيف العمل، وبماذا أبدأ، وكيف أخطط؟) فأقول: انظر إلى هديه - عليه الصلاة والسلام - ـ وسيرته في كيفية العمل لهذا الدين، وتجميع الناس تحت عقيدة الإسلام، ومحاربة المناوئين لهذه العقيدة؛ ولذا دخل الناس في هذا الدين راضين مقتنعين، وحج معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أكثر من مائة وعشرين ألف صحابي - رضي الله عنهم أجمعين ـ وكل ذلك بعد توفيق الله من إرادة جبارة، وهمة وثابة... {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
لا تقل كيف ولا أين الوصول واتَّبع خير الملا ذاك الرسول
واقرأ سير المصلحين والقادة، واستفد من تجارب الباقين، واسأل الله أن ينفع بك الإسلام، وتعلق بالله ولا تتعلق بأحد سواه.
ولا تلتفت هنا أو هناك ولا تتطلع لغير السماء
واسأله ـ - تعالى - ـ أن يجعلك مباركاً حيثما كنت؛ فقد كان هذا حال عيسى - عليه الصلاة والسلام - حين قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم: 31]. فكن كالغيث أينما حل نفع.
وإن أول البداية هي أن تبدأ بنفسك؛ وفي المثل: احرص على إصلاح الذات قبل إصلاح الذوات... ومن قاد نفسه قاد العالم.
(1/7)
وانشط لدين الله لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريك ما هو ساكن
فإن كان في نفسك كسل أو خمول، أو بدع وضلالات وشركيات، أو معاصٍ وانحرافات، فابتعد عنها وغيِّر ما بنفسك من تلك النواقص؛ فلعل الله أن يغيِّر بك حال المسلمين، وينفع بك في مواطن كثيرة تسعد بها إذا رأيتها مكتوبة في صحائف عملك يوم القيامة و (حَرِّكْ تَرَ).
لكن عليك بامتلاك الإرادة والهمة:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة *** فإن فساد الرأي أن تترددا
وأول الغيث قَطْرٌ؛ فكيف تطمح إلى العمل لهذا الدين ولم تتمكن الإرادة من سويداء قلبك، ولم تعزم على استسهال المصاعب، وتيسير العويص..... فإن كنت ذا همة فستقول قطعاً:
لأستسهلن الصعب أو أدركَ المنى فما انقادت الآمال إلا لصابرِ(1/69)
وحذار من التسويف؛ فإنه رأس الأماني، وداء العمل، وقاتل الهمم، وحجة المفلسين.
فلا تبق فعل الصالحات إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ
بل ردد بكل قوة وعزم:
أليس من الخسران أن ليالياً تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وصح في الآفاق:
سأنفق ريعان الشبيبة دائماً على طلب العلياء مع طلب الأجر
وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ومن يعرف المقصود يحقر ما بذل، ومن المقت إضاعة الوقت، ولكل جيل قيادته؛ فلنكن خير قادة لجيل الحاضر والمستقبل؛ وذلك كله بالتعاون والتكامل لا بالمطاحنة والتآكل، فالجاهلية المنظمة لا يقلبها إلا إسلام منظم، ولتكن وحدتنا واجتماعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وتحت لواء أهل السنة والجماعة، فوحدة صفنا تكون معهم لا مع غيرهم من أهل البدع المنحرفين، أو الفرق الضالة.
وختاماً:
ما أجمل كلام الإمام محمد الخضر حسين في كتابه الرائع (السنة والبدعة).. حين كتب: (وإنما يتحد المسلمون تحت راية من يحترمونه لعدله واجتهاده في الحق جهاداً يطمس على أثر الباطل، وإنما يقيم أحكام الشريعة على وجهها من يكون في لسانه حجة وفي يده قوة)(5).
----------------------------------------
(1) رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ باب: من الدين الفرار من الفتن.
(2) أخرجه الترمذي بسند جيد.
(3) اقرأ الخطة التي فعلها نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - مع أعداء المسلمين. في زاد المعاد (3 / 273 - 274).
(4) المدهش (ص 299).
(5) السنة والبدعة، ص 29.
ــــــــــــــــــ
عندما يتوقف القلب النابض عن النبض !!!
ولد السيح
الدعوة إلى الله من أهم المهمات ،
وأوجب الواجبات ، وأعظم القربات
بها يستقيم أمر الفرد وحال المجتمع ....
قال الله عز وجل مثنياً على من قام بهذا العمل :
( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ )(1/70)
كم نسعد كثيراً برؤية الشاب الداعية في بيته وفي مدرسته
وعمله وفي حيّه
ومدينته يعمل بلا ملل وبلا كلل ...
يحتسب الأجر والمثوبة من عند الله تعالى ...
فترى الجميع يحبه ويقدر له جهوده ومايقدمه
من نفع كبير لنفسه في المقام الأول
ولمن هم حوله ....
فهنيئاً لنا بمثل هذا الأنموذج الرائع من الشباب
الذي لاتكاد ترى نشاطاً
إلاّ وله سهم فيه ....
والأمر ذاته لايقتصر على الرجال فقط ....
بل حتى للمرأة نصيبها في ذلك
من الدعوة إلى الله في مجالات كثيرة ....
فمثل الواحد من هؤلاء كمثل
القلب النابض !!
( فمتى ماكان القلب ينبض بشكل سليم
فحياة ذلك المرء على مايرام ) ...
!!! لكن !!!
ماذا لو توقف ذلك القلب النابض بالخير عن النّبض !!؟؟؟
وأقصد بذلك أن ماذا لو توقف ذلك الشاب
أو توقفت تلك الفتاة عن الدعوة
إلى الله وعن نشر الخير وتفقيه الناس بأمور الدين ...
وتوجيه ونصح ونحوه ؟؟؟
ياترى ماذا سيكون حال الناس ؟؟
وماذا سيكون حال الداعي ؟؟
بلا شك أنه سيُفّوت على نفسه وعلى الجميع
الخير والنفع الكثيرين ...
وكم يُحزننا والله توقف ذلك القلب النابض عن النبض ،،،،
( وعندما يتوقف ذلك القلب فلا ترجوا حياةً بعد ذلك !!!! )
ألا فـ لندعوا إلى الله على بصيرة ولنستمر في ذلك
وكل على حسب حاله
ومقدرته وإبداعه في أي مجال من مجالات الحياة .....
وكل امرءٍ منّا يعرف قدراته وإمكاناته ....
فلا تبخل أخي على نفسك وأنتِ كذلك أخيه وقدّم مالديك
وثق تماماً
أن ذلك لن يضيع عند الله متى ماأُخلصت النية لله تعالى
وأُتُبع هدي الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه ...
وفقنا الله وإياكم للدعوة إليه ولتقديم ونشر
كل خير ......
ولنكن جميعاً قلوباً نابضة بالخير
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ــــــــــــــــــ
صواريخ لغزو أمريكا!!
د. ملهم زهير الحراكي
في حديثٍ له مع بعض الضيوف القادمين لعيادته في مرض موته، فاجأ الشيخ أحمد ضيوفه بقوله:
( سنغزو أمريكا !! ).(1/71)
ابتسم الضيوف ابتسامة لها معناها... أو لنقل: لها معانيها.
قد تكون ابتسامة مجاملة لرجلٍ طاعنٍ في السن، يهدد أكبر قوة في العالم وهو مريض جالساً على سريره.
وقد تكون ابتسامة استغراب ودهشة من رجل يحلم بغزو أمريكا التي قهرت العالم
واستبدت به وبحكوماته على اختلاف مستويات القوة فيها.
وقد تكون ابتسامة إعجاب برجل بلغ هذا العمر وما زالت لديه الهمة على التفكير
بمثل هذا الغزو لمثل هذا البلد القوي، رغم أنه لا يملك من سلاح الدنيا حتى الحطام.
من لا يعرف الشيخ يحق له أن يجهل أنه يملك السلاح اللازم والكافي لمثل هذا الغزو.
أما من يعرفه حق المعرفة، فلا يسعه إلا أن يهز رأسه موافقة له ويقول معه: نعم
يا سيدي ... سنغزو أمريكا، ونحن لها الندُّ القوي والمقارع القادر على كسب
الجولة الأخيرة، ولو تعثرت بنا بعض جولات البداية .
ولكن، كيف؟ وما السلاح الذي يملكه هذا الشيخ أحمد ليبدأ به مثل هذا الغزو الساحر؟ هل
لديه حاملات طائرات؟ هل لديه قنابل ذرية؟ غواصات بحرية؟ صواريخ نووية؟ أم
بماذا سيغزوها إن لم يكن لديه شيء من ذلك؟.
ويجيب الشيخ أحمد بثقة ويقين:
سنغزوها بالدعاة إلى الله!!
إن كان لدى أمريكا صواريخ نووية، فإن لدينا صواريخ نبوية !!
لكن الفرق بين صواريخنا وصواريخها، أنَّ صواريخها تحمل الموت والرعب والدمار،
وصواريخنا تحمل الحب والأمن والسلام.
أمريكا تدمر الأقوياء، وتحيل قوتهم ضعفاً، وانتصاراتهم هزائم، وتجعلهم يركعون
أمام جبروتها صاغرين.
ونحن بإيماننا وإسلامنا نحيي القلوب الميتة، ونجعل من الضعفاء أعزة أقوياء،
ومن المهزومين سادة منتصرين، ونعلي جباه الراكعين الساجدين، لتواجه هذه
الجباه الشمس في علاها، وتستمد الضوء من أنوارها وسناها.
لقد سمع الناس الشيخ أحمد مراراً وتكراراً يقول:
أعطوني مائة داع إلى الله أفتح بهم الدنيا إن شاء الله.(1/72)
أعطوني قناة فضائية .. أعطيكم جيلاً مؤمناً قادراً على نشر كنوز الإسلام في أرجاء المعمورة.
ولم يكن في كلام الشيخ أية مبالغة، فإن الذي استطاع غزو اليابان قادر على غزو أمريكا وغير أمريكا.
وسيسأل سائل :من الذي غزا اليابان؟
أبشرك يا أخي المسلم بنور أشرق في اليابان، وهو نفس النور الذي أشرق في مكة المكرمة،وذاك حين أسلمت طائفة الأموتو في اليابان وصلُّوا مع إخوانهم المسلمين، وصاموا رمضان معهم، وقصدوا بيت الله الحرام معتمرين. هؤلاء اليابانيون، هم طلائع الفتح الإسلامي في اليابان، وهم بذرة خير ستؤتي أكلها بإذن الله ثمراً طيباً مباركاً . هذه بشارات النصر القادم، ولينصرن الله من ينصره.
كيف غزا المسلمون ماليزيا وإندونيسيا؟ هل وصلت جيوشهم إلى هناك؟
لا، التاريخ يؤكد أن هذه البلاد فتحت قلبها للإسلام على يد التجار المسلمين،
الذين كانوا (بحسن تعاملهم ورفعة أخلاقهم وصدق فعالهم) خير سفراء للإسلام،
وكانت النتائج التي أسفرت عنها جهودهم في الدعوة إلى الله بالقدوة الحسنة
والسلوك الحسن والحكمة والموعظة الحسنة، أجدى من النتائج التي شاركت فيها
قعقعة السيوف ودماء الألوف.
وسيعيد التاريخ نفسه، وسيغزو الشيخ أحمد وكل الدعاة بلاد العالم بنفس الطريقة، وسينحني
العالم إجلالاً لهذه الروح الدؤوبة الباهرة، وسيتحقق ما جاء في حديثه - صلى الله عليه وسلم - :
(( زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ))
هل يملك المرء إلا أن يقول: صدق رسول الله؟!.
الصواريخ النبوية اليوم صواريخ تعبر القارات، وتركب موجة العولمة، وتقوم بالغزو المضاد،
الشيخ أحمد يراهن على تفوق الدعوة الإسلامية، وعلى تفوق الفكر الإسلامي،
وعلى تفوق الأخلاق الإسلامية، وعلى قدراتها على اكتساح الظلم والفوضى
والانهيار الأخلاقي العالمي الذي أصبح سمة هذا العصر الغاشم.(1/73)
وعندما يسمع المرء من الشيخ أحمد حديثاً كهذا، تقفز إلى ذهنه كلمات النبي
- صلى الله عليه وسلم - عندما كان يحفر الخندق مع أصحابه، إذ ضرب ضربة فبشر
أصحابه بفتح فارس ومدائن كسرى، وضرب ضربة أخرى فبشر أصحابه بفتح الشام وقصور
هرقل، وضرب الثالثة فبشر أصحابه بفتح صنعاء واليمن، في الوقت الذي لم يكن فيه
واحد من الصحابة الكرام يجرؤ أن يذهب للتبول وحيداً على بعد عشرة أمتار من
قومه، فكيف ستفتح لهم بلاد فارس وبلاد الروم، وهما أقوى إمبراطوريتين في
العالم آنذاك؟!.
ليسأل المرء نفسه: كيف سارت الأمور كما بشر بها الداعي الأول، محمد صلى الله
عليه وسلم؟
هل فتحت للعرب بلاد فارس ومدائن كسرى؟ أجل والله، فتحت لهم.
وهل فتحت لهم بلاد الشام وقصور هرقل وصنعاء اليمن؟ أجل والله، فتحت كذلك.
وستفتح لهم أمريكا، وغير أمريكا، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم يتساءل القارئ من هو الشيخ أحمد ؟!
هو كل مسلم يؤمن بالله العزيز القدير المقتدر، يتوكل عليه ويطلب بمرضاته عز وجل نصره وعزته !.
د. ملهم زهير الحراكي
دراسات طب نفسي
مقتبسة من مقالة للباحث الإسلامي
م.محمد أنور وردة.
ــــــــــــــــــ
نداء من أهل القرى: أين طلاب العلم؟
سلطان بن عبدالله العمري
نداء من أهل القرى
يا طلاب العلم
أين أنتم ؟؟
هل غرتكم الحياة الدنيا ؟
أين أنتم عنا ؟؟
إننا بحاجة إليكم
لقد تعلمتم الكثير فلماذا لا تبلغون العلم ؟؟
ألم يقل الرسول ( بلغوا عني ولو آية )
لماذا لا تعلموننا مما علمكم الله ؟
هل يصعب عليكم زيارة القرى والمحافظات البعيدة ؟؟
أين التضحية والهمة ؟
إن النصارى يعملون
وأنتم لا تعملون
لا تريدون إلا مكانا مكيفا وجميلا وقريبا
فمن لنا ؟
والله إن منا من يموت وهو لا يعرف يصلي
ومنا من يجهل أبسط مسائل الطهارة
ومنا من لم يسمع موعظة تنفعه وتذكره بربه
فأين أنتم؟؟
الواحد منكم إذا ( توظف عندنا وجاء تعيينه في القرى)(1/74)
بدأ يبحث عن ( الواسطة ) لعل هناك من يفك عنه كربته
ويخرجه من هذه القرية القديمة
عجبا لكم
أهكذا كان الصحابة ؟
الذين هجروا بلادهم لكي يبلغوا الدين
وأنتم يستلم الواحد منكم راتبا يقارب (5000) ولا يضحي من أجل دينه ؟؟
عجبا لكم
المنصرين يذهبون للغابات والصحاري
لكي ينصّروا المسلمين
وأنتم تنامون بين أحضان ( النعيم )
عجبا لكم
تدعون العلم ولا علم
تدعون الحب للدين
ولا حب
تزعمون أنكم تحملون هم الإسلام
ولاهم
كلامكم كثير
وعملكم قليل
أنتم كثير فماذا قدمتم لدين الله؟؟
من السهل أن تدعو في بيتك وعملك
لأن الهواء نقي
والمكان قريب
والزوجة بجانبك
وأطفالك حولك
أما أن ترحل أيام
وأسابيع
إلى قرية بعيدة
قد تنفق مئات الريالات من أجل الوصول لها
فهذا لا تستطيع
تسافر للسياحة
ولا تسافر لتبليغ دين الله
عجبا لكم
يا طلاب العلم
لم لا تنصرون دين الله
والله يقول (كونوا أنصار الله )
لقد رحل الرسول إلى الطائف على قدميه
ونحن نقول تعال إلينا بالسيارة
أو بالطائرة
عجبا لكم
هل تربيتم على الكسل والذل
أهكذا تعلمتم من أساتذتكم؟؟
كم عددكم ؟؟
ولكن
فيكم من هو غثاء كغثاء السيل
منكم من عشق الوسادة
وآخر طاب له العيش بين الأجواء الجميلة
فهو لا يستطيع البعد عن المساكن والدنيا
وآخر تزوج فتوقف عن الدعوة
وآخر فتح محل تجاري وهجر العلم
وآخر بدأ في السياحة والسفر
وآخر من النوع ( الناعم ) لا يصبر على شدة الحر
وآخر من النوع ( الحساس ) لا يقوى على الغبار
وآخر ترفض زوجته أن يذهب
فيطيعها
وآخر يزعم أنه بار بوالديه
فلا يذهب
ولكن
لو كان له انتداب
ويأخذ من وراءه (راتب) لذهب
أرجو أن لا تغضب من الصراحة
يا ترى
هل سبق وأن علمت جاهل
أو ألقيت كلمة
أو شاركت بتوزيع كتاب أو مطوية
يا ترى
هل جربت الذهاب للدعوة خارج بلدك
وبعيدا عن مدينتك
نحن أهل القرى نناديك
وسوف نكرمك
ونذبح لك
ونرحب بك
ولكن متى ستأتي لنا
نحن بانتظارك
لا تتأخر لا تتأخر لا تتأخر لا تتأخر(1/75)
ــــــــــــــــــ
سكان القمم
ناصر الأحمد
إذا نظرنا في هذه الأرض.. فسنرى فيها القمم الشامخة.. والفيافي الواسعة 00والوديان السحيقة ..ونرى أيضا النسور التي تحلق في السماء ..وتعانق الغيوم ..وتزاحم النجوم 00فى المقابل نرى من يزحف في بطون الأودية , أو يدفن رأسه في التراب كالنعام 00واذا نظرت في الحياة.. فسترى قيما عالية.. وأخلاقا رفيعة00 وفى المقابل.. ترى سفا سف دنيئة.. وقيما وضيعة ..والناس كالطيور.. منهم من يحلق هنا وهناك.. ومنهم من يلتصق بهذه أو تلك
قلبي يحدثني ألا يليق به *** رضا بجهد ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عز مطلبها *** أو طار طائر لب في مراقيه
كالنسر لاحا جب للشمس يحرقه *** ولا الصواعق والأرواح تفنيه
ليس الطموح إلى العلياء من سفه *** ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروى الغليل به *** قد يحمد المرء ماء ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عيشهم *** موت فان هدوء القلب يرديه
يا قلب يهنيك نبع كله حرق *** إلى الغرائب مما عز ساميه
قال الإمام ابن الجو زى رحمه الله : وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل.. ولا تقنع بالدون ..فقد قال الشاعر
ولم أر في عيوبا الناس شيئا *** كنقص القادرين على التمام
من هم سكان القمم ..؟..هل هم بشر كسائر البشر...؟.. أم هم أناس يعيشون على كوكب آخر.. ومن جنس غير جنس البشر ..؟
إن سكان القمم معاشر الأحبة.. أناس مثلنا ..قريبون منا ..يعيشون على هذه الأرض بأجسامهم.. لكن هممهم وعزائمهم تحلق في السماء..سكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه ..ومن كل أمر إلا أتمه و أجمله ..وقد قيل قديما :قدر الرجل على قدر همته..فمن كان عالي الهمة ..كان عالي القدر..فبادر يا أخي الحبيب ولا يقعد بك العجز عن المكرمات.. وتأمل سير السابقين.. فإنها للهدى منارات.. حاول أن تكون من سكان القمم.. وابذل في تحصيله كل غال ورخيص.. ولا تدخر في ذلك أي نفيس..(1/76)
لكل مجد مكافأة تليق بمقامه..فمن جد في العلم كوفىء باحتياج الناس إليه ..ومن جد في بذل المعروف كوفىء بثناء الناس عليه ..ومن كان همه ما يأكله كان قيمته ما يخرجه ..أين طلاب المعالي ؟..أين أصحاب الهمم العوالى ؟..أين من يحب الله صنيعهم ويبارك مسيرهم ؟ ..لا يسأل الكثير إلا من كان عقله يفكر بالكثير..ولا يطلب العظيم إلا من كانت نفسه تسمو لكل عظيم ..
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم(1/77)
إن حياتك مغامرة كبيرة ..وان لحظات عمرك مباراة خطيرة ..فإياك أن تخرج منها خاسرا.. قبل أن تبنى لك بيتا في الجنة ...روى الإمام مسلم في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه قال ..قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟ قال أبو بكر أنا ..فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة )..وعند مسلم أيضا من حديث أبى بكر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( من انفق زوجين في سبيل الله نودي يا عبد الله هذا خير ..فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة .. ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ..ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ..ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ..فقال الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله ما على احد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة.. فهل يدعى احد من تلك الأبواب كلها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم وأرجو أن تكون منهم ) ..قال الله تعالى ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21)
إن المكارم لا تحصل بالمنى *** لكن لها بالتضحيات سبيلا
فلكم سما للمجد من أجدادنا *** بطل أقام على السمو دليلا
فسل المعالي عن شجاعة خالد *** وسل المعارك هل رأته ذليلا
وسل الحضارة إن رأيت بهائها *** عمن أنار لهديها القنديلا
وسل المكارم والمعالي هل رأت *** من بعدهم في ذا الزمان مثيلا
هذى المكارم عندهم كبداية *** لسلوك درب ما يزال طويلا(1/78)
في الأرض مجدهم ولكن قلبهم *** لجنة الفردوس رام رحيلا
وخذ المكارم لا تخف أعبائها *** عبء المكارم لا يكون ثقيلا
عن أبى ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) ..رواه مسلم .. روى أن أعرابيا سال أناسا من أهل البصرة : من سيد القوم في بلدكم ؟ فقالوا الحسن أي البصري ..فقال بم سادهم ؟ قالو ا..احتاج الناس إلى علمه.. واستغنى هو عن دنياهم ..(1/79)
سكان القمم أبعد ما يكونون عن زخارف هذه الدنيا وبهرجها ..الهم الأكبر لسكان القمم هم الآخرة ..أما الدنيا فقد استصغروا متاعها ..واحتقروا نتائجها ..وترفعوا عن الاستباق فيها ..فتحرروا من قيودها وهمومها ..يقول الحسن رحمه الله : ( من نافسك في دينك فنافسه ..ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره )...روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كانت الآخرة همه ..جعل الله غناه في قلبه .. وجمع له شمله.. وأتته الدنيا وهى راغمة ..ومن كانت الدنيا همه.. جعل الله فقره بين عينيه ..وفرق عليه شمله.. ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) ..انه وعيد من الله جل جلاله لمن كانت الدنيا أكبر همه ..فهو مقبل عليها بكليته ..يجمع حطامها في نهم لا ينقضي .. منشغل بذلك عن الآخرة ..فمن كانت هذه حاله.. عوقب بشتات القلب ..فلا يزال لاهثا وراء المال والمناصب والشهوات ..يعب منها لكنه لا يشبع ولا يرتوي ولا يكتفي ..بل يظل في طلب المزيد ..غافلا عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق ..وان حاله هذا هو عين الفقر ..حيث لا تنتهي حاجته.. ولا يحصل له الرضا بما جمع من المال.. وهذا معنى ( جعل الله فقره بين عينيه ).. وفى المقابل حال الرجل الصالح الذي جعل الآخرة همه ..فهو في سعى دائم لتحصيل الحسنات ..والوصول إلى مرضاة رب الأرض والسماوات ..مع حسن توكله على الله ..فهذا يجمع الله له أمره.. ويرزقه القناعة.. والرضي ..وغنى النفس ..ويبارك له في ماله.. وصحته(1/80)
وأولاده..وهذا هو الغنى الحقيقي ..يقول الإمام ابن الجو زى رحمه الله ( يا هذا حب الدنيا أقتل السم ..وشرورها أكثر من النمل ) وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انه قال ( والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) رواه مسلم ..وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس حوله فمر بجدي أسك ميت فتناوله فاخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا ما نحب انه لنا بشيء ..وما نصنع به ..فقال أتحبون انه لكم ؟ قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه..لأنه أسك.. فكيف وهو ميت ..فقال : فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم ...وتلاحظ يا أخي الحبيب في هذه الأحاديث تحقير شأن الدنيا وتهوين شأنها بجانب شان الآخرة ..فنعيم الدنيا قليل زائل يشوبه الكدر ..إذا سر فيها المرء أمر ساءته أمور ..أما نعيم الآخرة فنعيم كله لا نكد فيه ولا أحزان ..وقد كان - صلى الله عليه وسلم - الأسوة و القدوة في نظرته إلى الدنيا.. فلم يركن إليها ولا تعلق بها ..بل كان شأنه فيها كشأن الراكب المسافر الذي استظل في طريقه تحت ظل شجرة ثم قام يواصل سيره ..فالدنيا أشبه بتلك الاستراحة العارضة ..وكما أن المسافر ليس له هم إلا الوصول إلى غايته.. وهى منتهى سفره ..فكذلك العاقل الموفق في الدنيا ..لا يتعلق بدنيا عارضة زائلة .. منشغلا عن النعيم الخالد في الآخرة
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن *** إذن لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة *** وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر: تمتع من الأيام إن كنت حازما *** فانك فيها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه *** فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة *** ولا وزن رق من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن *** ولا رضي الدنيا عقابا لكافر(1/81)
الأمة الإسلامية تواجه اليوم عدوا شرسا.. كشر عن أنيابه ..واظهر ما كان مستورا في فؤاده ..هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأناس ذوى همم ضعيفة ..ولا بأناس تعلقوا بدنياهم ..لا يكسر هذا العدو إلا سكان القمم ..لكم أضر بنا غياب الزهد عن حياتنا ..فالزهد في الدنيا ..من أهم مقومات الصراع بين المسلمين وأعدائهم.. ومواجهة المكائد والمؤامرات التي يتعرضون لها الآن ..وان من الغفلة القاتلة أن يظن المسلمون أن عدوهم غافل عنهم ..فضلا عن أن يتوهموا أنه صديق لهم.. إلا إذا تصوروا أن الذئاب والنمور تصادق فرائسها ..إن عدونا يرقب بحذر ويقظة وتنمر صحوة المسلمين ..مع أن أصحاب الصحوة لم يسلموا من بنى جلدتهم .. وان عدونا يمد عينيه بطمع وشره واحتيال.. إلى ما تبقى في أيدينا من ثروات ..فهو لا يرضى لنا عودة إلى ديننا تبعث فينا الحياة والقوة ..وتفتح أعيننا على مصالحنا .. ما انه لا يرضى للغافلين منا.. أن يهنئوا بما في أيديهم من ثروات ..فهل نفيق الآن ؟ ونزهد في الترف والدعة والراحة.. التي لا تثمر إلا الخنوع والضعف.. ونعمل لنرد عن الأمة غائلة العدو.. ونقطع أطماعه فينا ..أم نبقى في ترفنا وترهلنا حتى تأكلنا الذئاب ؟... من أشد ما تصاب به أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذووا همم ضعيفة.. وعزائم واهنة.. وتطلعات قاصرة ..يرى أحدهم نفسه قزما أمام المتغيرات الكبيرة ..والتحولات التاريخية.. فلا يفكر في التغيير ..ولا البدء في مشاريع مستقبلية..ومن هذا وضعه.. كيف يرجى له الشفاء.. إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى .. ذلك انه أسير تربية ذليلة ..لم يقم يوما بعمل مستقل.. أو بعمل تعاوني كبير .. لم يتدرب يوما على القيادة ..فإذا فاجأه أمر تقوقع وانزوى لأنه لا يملك الخبرة لإدارته ..إن ارض الله واسعة لمن يريد الانطلاق.. ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة..والطاقات متوافرة ولكنها بحاجة إلى عزمة أكيدة.. وثقة بوعد الله عز وجل ..ولقد بعث الله موسى عليه(1/82)
السلام.. ليخرج قومه من الذل والاستعباد.. إلى التمكين في الأرض.. والاسترواح بشرع الله ..ولكن نفوسهم كانت ضعيفة صغيرة ..لا تستطيع حمل هذا العمل العظيم.. وذلك لما ألفوه من العبودية لفرعون وملأه ..فتصاغرت نفوسهم.. وهانت عليهم ..حتى لم يعودوا يرون أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض ..لابد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضآلته .. وتشعره أنه جزء صغير من آلة ضخمة.. ومن عجلة تدور لا يستطيع الفكاك منها .. لابد أن يقتنع الفرد المسلم.. بأن عنده طاقات وقدرات.. يستطيع بها القيام بأعمال كبيرة ..إن معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية.. والعزائم القوية..فالجنة محفوفة بالمكاره ..قال ابن القيم رحمه الله ( علو الهمة لا تقف دون الله تعالى.. ولا تتعوض عنه بشيء سواه.. ولا ترضى بغيره بدلا منه ..وأعلى الناس همة وارفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقاءه ..) قال الله تعالى ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (يونس:58) ..كان الأعرابي يأتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله حفنة من شعير قائلا يا محمد أعطني من مال الله فانه ليس مالك ولا مال أبيك ..هذه همة.. بينما همة ربيعة بن كعب.. همة فوق الشمس ( عن ربيعة رضي اله عنه قال : كنت أبيت مع رسول الله.. فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل.. فقلت أسالك مرافقتك في الجنة.. قال أوغير ذلك .. قلت هو ذاك ..قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم
حدث عن القوم فالألفاظ ساجدة *** خلف المحاريب والأوزان تبتهل
أين كانت تحلق همة ربيعة ؟ ..كانت تحلق في سماء رفيعة ..وقمم شاهقة ..وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله ( فلله در الهمم .. ما أعجب شأنها.. وأشد تفاوتها.. فهمة متعلقة بالعرش.. وهمة هائمة حول الأنتان والحش )(1/83)
سكان القمم جد في السلوك , نشاط في العمل , لا يعرفون التراخي والكسل ..ومن سنن الحياة أن الدنيا لا تعطى حصادها.. إلا لمن يزرعها , ولا جناها إلا لمن يغرسها ..سكان القمم لا ينغمسون في الترف وكثرة المباح ..قال ابن القيم رحمه الله: ( قال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح : هذا ينافى المراتب العالية.. وان لم يكن تركه شرطا في النجاة , فالعارف يترك كثيرا من المباح برزخا بين الحلال والحرام )
سكان القمم سباقون إلى الخيرات.. مبادرون إلى القربات , لا يفرغ من خير إلا بدأ بخير بعده .. لا ينفض يده من عمل إلا وضعها في عمل آخر ..يفيد نفسه وينفع أمته ..قال أحد السلف: ( إذا هممت بخير .. فبادر هواك لا يغلبك ..وإذا هممت بشر ..فسوف هواك لعلك تظفر )
سكان القمم يتعبون لبلوغ المعالي , ويقاسون المشقة للصعود في درجات الكمال ..لكنه تعب يعقبه فرح.. ونعيم لا شقاء بعده .. يقول ابن القيم رحمه الله ( وقد أجمع عقلاء كل أمة.. على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ..وأن من آثر الراحة.. فاتته الراحة ..وأن بحسب ركوب الأهوال.. واحتمال المشاق.. تكون الفرحة واللذة ..فلا فرحة لمن لاهم له ..ولا لذة لمن لا صبر له .. ولا نعيم لمن لا شقاء له.. ولا راحة لمن لا تعب له ..بل إذا تعب العبد قليلا.. استراح طويلا ..إنما تخلق اللذة والراحة والنعيم.. في دار السلام ..وأما في هذه الدار فكلا )(1/84)
القمم يسكنها العباد والزهاد والمجاهدون والعلماء والدعاة وطلاب العلم ..شمر لسكنى القمم.. السابقون من أنبياء الله.. وأصحابهم.. ومن سار على نهجهم ..إن السكنى في القمم هي الحياة التي من حرمها..فهو في جملة الأموات ..والنور الساطع الذي يسترشد به الغرباء في بحار ظلمات الدنيا ..وهى الشفاء الذي من فقده.. فقد أصابته جميع الأسقام ..وبها تكون اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ..إذا هممت فبادر ..وان عزمت فثابر ..واعلم أن لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر ..يا طالبا للدعة أخطأت الطريق .. علة الراحة التعب ..إذا لم تكن أسدا في العزم ..ولا غزالا في السبق.. فلا تتثعلب .. من خاف ركوب الأهوال.. بقى عن إدراك الآمال .. من وجد الله فماذا فقد , ومن فقد الله فماذا وجد ( متى صح الود منك فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب )
إذا اطلع الخبير على الضمير.. فلم يجد في الضمير غير الخبير..جعل فيه سراجا منيرا ..
سكان القمم في كل وقت يقل عددهم.. لكن يجل قدرهم.. حتى إذا ماتوا فهم أحياء ..فكم من أناس موتى.. تحيا القلوب بذكرهم .. وأناس أحياء تموت.. القلوب برؤيتهم ..قال ابن القيم ( تفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم )(1/85)
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : لا تصغرن همتك.. فاني لم أر اقعد بالرجل.. من سقوط همته ..وقد قيل : المرء حيث يجعل نفسه ..إن رفعها ارتفعت..وان قصر بها اتضعت ..قال ابن الجو زى رحمه الله ( وقد عرفت بالدليل.. أن الهمة مولودة مع الآدمي.. وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات ..فإذا حثت ثارت .. ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم ..أو كسلا فالجأ إلى الموفق ..فلن تنال خيرا إلا بطاعته ..ولن يفوتك خير إلا بمعصيته ) ..وقال أيضا رحمه الله في صيد خاطره ( قال الكلب للأسد يوما : يا سيد السباع.. غير اسمي فانه قبيح ..فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم .. قال جربني , فأعطاه قطعة لحم وقال له احفظ هذه إلى الغد وأنا أغير اسمك..أخذ الكلب قطعة اللحم ..وبعد زمن جعل الكلب ينظر إلى اللحم ويصبر .. فلما غلبته نفسه قال : وأي شيء في اسمي.. وما كلب إلا اسم حسن.. وأكل اللحم ..يقول ابن الجو زى : وهكذا خسيس الهمة.. القنوع بأقل المنازل.. المختار لعاجل الهوى.. على آجل الفضائل ..فالله الله في حريق الهوى إذا ثار فانظر كيف تطفئه ) المشكلة هي قناعة الشخص بالمستوى الذي هو فيه ..فإذا اقتنع بذلك.. فاعلم أن هذه هي أول خطوة في الانحدار ..إليك يا أخي الحبيب نماذج ممن سكنوا القمم .. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.. يقول عنه شقيق بن عبد الله : مرض عبد الله بن مسعود.. فعدناه ..فجعل يبكى.. فعوتب فقال : انى لا أبكى لأجل المرض فاني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ..المرض كفارة.. وإنما أبكىأنه أصابني على حال فترة.. ولم يصبني في حال اجتهاد ..فانه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض.. ما كان يكتب له قبل أن يمرض.. فمنعه منه المرض ...والإمام الطبري جلس أربعين سنة..وهو يكتب كل يوم أربعين ورقة في التأليف ..وابن الأثير ألف كتبه الرائعة.. كجامع الأصول والنهاية في غريب الحديث ..بسبب أنه مقعد ..(1/86)
وابن القيم كتب زاد المعاد وهو مسافر
..والقرطبى شرح صحيح مسلم وهو على ظهر سفينة ..وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ..جل فتاويه كتبها وهو في السجن .. وابن الجو زى يتحدث عن نفسه ويقول ( نظرت إلى علو الهمة فرأيتها عجبا.. وذلك أنني أروم الليل كل العلوم.. وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه..وأروم نهاية العمل بالعلم.. مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ..وأروم الغنى عن الخلق.. والاشتغال بالعلم مانع من الكسب ..وها أنا ذا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة ) ..والإمام النووي رحمه الله وصف حياته لتلميذه ابن العطار.. فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا.. درسين في الوسيط , ودرسا في المهذب ,ودرسا في صحيح مسلم ,ودرسا في اللمع , ودرسا في إصلاح المنطق , ودرسا في التصريف ,ودرسا في أصول الفقه , ودرسا في أسماء الرجال , ودرسا في أصول الدين ,..قال وكنت اعلق على جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل.. ووضوح عبارة.. وضبط لغة..وبارك الله تعالى في وقتي ...وهذا عبد الله بن المبارك ..نور مرو وجمالها ..ونجمها وهلالها ,يقول عنه محمد بن أعيل.. وكان صاحبه في أسفاره ( كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم.. ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام.. فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك , قال فظن انى قد نمت فقام فاخذ في صلاته.. فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا ارمقه , فلما طلع الفجر أيقظني وظن أنى نائم فقال يا محمد, فقلت انى لم أنم قال.. فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني.. ولا ينبسط إلى في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذلك منى لما فطنت له العمل ..فلم أزل أعرفها فيه حتى مات.. ولم أر رجلا أسر بالخير منه ) ..عن القاسم بن محمد قال ( كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي.. بأي شيء فضل هذا الرجل علينا ..حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة ؟ ..(1/87)
إن كان يصلى إنا لنصلى ,وان كان يصوم إنا
لنصوم , وان كان يغزو فانا لنغزو ,وان كان يحج إنا لنحج ..قال فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ..فتعشى ليلة في بيت إذ طفىء السراج.. فقام بعضنا فاخذ السراج واخذ يستطلع.. فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج ..فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع.. فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا , ولعله حين فقد السراج وصار إلى ظلمة.. ذكر القيامة ) ..وكان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ويتصدق به ويقول إن صدقة السر تطفىء غضب الرب .. قال عمرو بن ثابت لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا ما هذا.. فقيل كان يحمل جراب الدقيق ليلا على ظهره.. فيعطيه فقراء أهل المدينة ..
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
وداود ابن أبى هند صام أربعين سنة.. لا يعلم به أهله ولا احد من الناس , وكان خبازا فيحمل معه طعامه من عند أهله فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيا فيفطر معهم , فيظن أهل السوق انه قد أكل في البيت ويظن أهله انه قد أكل في السوق(1/88)
سكان القمم من أكثر الناس تعرضا للفتن والبلاء , قال - صلى الله عليه وسلم - ( اشد الناس بلاء الأنبياء .. ثم الأمثل فالأمثل ) قال الإمام العلامة المناوى رحمه الله معلقا على هذا الحديث ( ومن ظن أن شدة البلاء.. هوان بالعبد فقد ذهب لبه.. وعمى قلبه , فقد ابتلى من الأكابر مالا يحصى .. ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحي بن زكريا ..وقتل الخلفاء الثلاثة ,والحسين وابن الزبير وابن جبير , وقد ضرب أبو حنيفة وحبس ومات بالسجن , وجرد مالك وضرب بالسياط وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه .. وضرب الإمام أحمد حتى أغمى عليه , وقطع من لحمه وهو حي.. وأمر بصلب سفيان فاختفى .. ومات البويطى مسجونا في قيوده , ونفى البخاري من بلده ) ويضاف على تعليق المناوى رحمه الله.. بان سجن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومات في سجنه..وفعل ما فعل بتلميذه ابن القيم ..( كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب )
إن الجنة غالية.. لكنها محفوفة بالمكاره .. ومن رام السعادة.. تصدى لعبور جسر المشقة بالجد والاجتهاد ...
ينقسم الناس في سكنى القمم إلى أقسام ..
1- فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه.. وليس له همة في الوصول إليها.. فهذا متمن مغرور ..
2- ومن الناس من لا يطلب إلا سفا سف الأمور وهم فريقان :
( ا ) فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا , فتجده السباق إلى أماكن اللهو.. ومغاني الغواني.. وهذا إن اهتدى إلى الحق.. فسيكون ذا همة عالية نفيسة ..كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) رواه البخاري ومسلم ..
( ب ) وفريق لاهم له .. فهو معدود من سقط المتاع .. وموته وحياته سواء .. لا يفتقد إذا غاب.. ولا يسأل إذا حضر ..
(1/12)(1/89)
3- ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله .. وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه ..وبين هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة ..قال ابن القيم رحمه الله ( لذة كل أحد على.. حسب قدره وهمته.. وشرف نفسه .. فأشرف الناس نفسا ..وأعلاهم همة.. وأرفعهم قدرا.. من لذته في معرفة الله ..ومحبته.. والشوق إلى لقاءه.. والتودد إليه ..بما يحبه ويرضاه ) .. ونرى اليوم من تفاوت الهمم أمرا عجبا .. فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس.. أمر العامة.. واستثناؤهم واجب.. لأنه قد ماتت هممهم.. وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور .. واطلع على أحوال الخاصة.. من الشباب والدعاة وطلاب العلم ..سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمة .. فمنهم من إذا قرأ ساعة في اليوم.. ظن انه أتى بما لم يأت به الأوائل .. ومنهم من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم .. ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم.. على سماع بعض الأشرطة.. وحضور بعض المحاضرات .. ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا.. والتمتع بمباحاتها .. تمتعا يفضى به إلى نسيان المعالي العلية .. وهكذا يندر أن تجد إنسانا استطاع أن يسكن القمم ..وان يعلو بهمته.. ويجمع شمله ويقصر من الاعتذارات والشكايات .. فتصبح حياته مثلا أعلى يحتذي به .. ولكن القليل هم الذين يستثمرون هممهم حق الاستثمار , ويحاولون أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء .. إن تحقيق كثير من الأمور.. مما يعده عامة الناس خيالا لا يتحقق , يستطيع سكان القمم بتوفيق الله لهم أولا.. وبهمتهم ثانيا , إنجاز الكثير من الأعمال التي يستعظم بعضها من قعدت به همته وظنها خيالا .. وأعظم مثال على هذا سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - , إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه .. لكنه عليه الصلاة والسلام استطاع بناء خير امة أخرجت للناس في اقل من ربع قرن من الزمان , واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء(1/90)
المعروفة آن ذاك , وجهاده عليه الصلاة والسلام وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمر معروف .. والصديق رضي الله عنه استطاع في اقل من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين , ولم يمت رضي الله عنه إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت , هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين وظنوا انه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم .. ولكن همته العالية أبت عليه ذلك.. واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالا لا ينجز ... سكان القمم يعتمد عليهم.. وتناط بهم الأمور الصعبة .. وتوكل إليهم.. وهذا أمر مشاهد معروف , سكان القمم أحدهم يكون بمثابة فريق من الدعاة , يرفع الله به الدعوة درجات .. وقد قيل : ذو الهمة وان حط نفسه تأبى إلا العلو , كالشعلة من النار يخبيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا .. سكان القمم قدوة في مجتمعهم , ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون .. فيقتدون بهمته.. ويرون ما كانوا يظنونه أمرا مسطورا في الكتب القديمة .. قد انتهى وعدم من دنيا الناس .. يجدونه واقعا متحققا في حياتهم , فيظل هذا الشخص رمزا للناس ومحل ضرب أمثالهم ...
أظنك يا أخي الحبيب تريد بعد هذا أن تكون من سكان القمم .. إن الارتقاء بالنفس أمر مطلوب , ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم .. و أظنك منهم .. وهذه جملة أمور تساعدهم على ذلك :
أولا : المجاهدة .. فبدونها لا يتحقق شيء .. قال الله تعالى ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) .. من لم يباشر حر الهجير في طلب المجد , لم يقل في ظل الشرف .. خلق الإنسان في نصب وكبد .. هناك من يكدح في سبيل نزوة وشهوة .. والعظيم يكدح في سبيل عقيدة ودعوة .. وليس للعابد مستراح إلا تحت ظل شجرة طوبى
قف بالديار فهذه آثارهم *** تبكى الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرا *** عن أهلها أو صادقا أو مشفقا(1/91)
فأجابني داعي الهوى في رسمها *** فارقت من تهوى فعز الملتقى
ثانيا : الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله جل وتعالى فهو المسئول سبحانه عن أن يقوى إرادتنا .. ويعلى همتنا.. ويرفع درجاتنا .. انه الدعاء شمر إليه السالكون , وأمه القاصدون , ولحظ إليه العاملون .. فنسألك اللهم أن تجعلنا منهم
ثالثا : اعتراف الشخص بقصور همته , وأنه لابد أن يطورها ويعلو بها.. وهذا أمر أولى ..ثم لابد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من سكان القمم(1/92)
رابعا : قراءة سير سلف هذه الأمة , أهل الاجتهاد ممن سكنوا القمم .. الذين صان الله بهم هذا الدين .. إنها خير وسيلة لإشعال العزائم , وإثارة الروح الوثابة , وقدح المواهب , وإذكاء العز مات , وتقويم الأخلاق , والتسامي إلى معالي الأمور والترفع عن سفا سفها ,.. إن قراءة سير النبغاء و الصلحاء , والتملي في اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين ..خير مهماز لرفع الهمم , وشد العزائم , وسمو المقاصد , وإنارة القلوب , وإخلاص النيات , وتفجير النبوغ والطاقات , والصبر على اجتياز العقبات .. إن أخبار العلماء العاملين , والنبهاء الصالحين , تغرس الفضائل في النفوس.. وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة , وتبعثها إلى التأسي بذوي التضحيات والعز مات , لتسمو إلى أعلى الدرجات واشرف المقامات .. وقد قيل قديما : الحكايات جند من جنود الله عز وجل يثبت الله بها قلوب أوليائه , قال الله تعالى ( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) (هود:120) .. قال الإمام ابن الجو زى رحمه الله تعالى ( لو قلت انى طالعت عشرين ألف مجلد , كان أكثر , وأنا بعد في الطلب .. فاستفدت بالنظر فيها.. من ملاحظة سير القوم ..وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم .. مالا يعرفه من لم يطالع .. فصرت أستذرى ما الناس فيه .. واحتقر همم الطلاب ولله الحمد ) انتهى كلامه رحمه الله(1/93)
خامسا : مصاحبة بعض من سكن القمم , إذ كل قرين بالمقارن يقتدي .. والنظر في أحواله , وما هو عليه , وكيف يختصر له الزمان اختصارا .. هذا من أعظم البواعث على علو الهمة .. لان البشر قد جبلوا على الغيرة والتنافس ومزاحمة بعضهم بعضا .. وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر .. فاتخذ من سكان القمم أعوانا , واخلط نفسك مع الأبرار , وطهرها من الفجار , واجتنب الصغار الأخطار.. فالمرء يعرف بقرينه .. فاصحب من يحملك في سيرك إلى الله.. لا من تحمله .. من يعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه......( ولا تتخذ بالسير رفقة قاعد *** ودعه فان الشوق يكفيك حاملا )
سادسا : مراجعة جدول أعمالك اليومي ومراعاة الأولويات , الأهم ثم المهم .. وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة , إذ كلما كان ذلك الجدول بعيدا عن الرتابة والملل .. كان أجدى في معالجة الهمة
سابعا : التنافس والتنازع بين الشخص وهمته , فعلى مريد تطوير همته أن يضيف أعباء وأعمالا يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق.. بحيث يحدث نوعا من التحدي في داخل نفسه بإنجاز ما تحمله من أعمال جديدة , ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس
ثامنا : العزم على الكمالات , فمن استوى عنده العلم والجهل , أو كان قانعا بحاله وما هو عليه , فكيف تكون له همة أصلا .. قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( إن لي نفسا تواقة .. وإنها لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه .. فلما أعطيت مالا أفضل منه في الدنيا , تاقت إلى ما هو أفضل منه يعنى الجنة )(1/94)
تاسعا : التحول عن البيئة المثبطة .. إن الماء يفسد بقربه من الجيف , وكذا الهواء .. فكيف بأنفاس العصاة ..! .. ألا تنظر إلى فعل المعصية بآبار ثمود بعد آلاف السنين لما مر عليها الصحابة وأرادوا أن يستسقوا منها منعهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وأمرهم أن يلقوا بعجينهم إلى النواضح
عاشرا : واقع المسلمين المر .. في تاريخ الأمم كبوات وعثرات وآلام , إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها.. وتتجاوز آلامها , بل تكون هذه الآلام باعثا لها على العمل والجد والكفاح حتى النصر .. وفى تاريخ الأمة صعود وهبوط .. ضعف الرجال في فترات تاريخية ثم أنجبت الأمة رجالا غيروا مسار التاريخ .. وإذا كان تاريخ الأمة التي فضلها الله تعالى على غيرها من الأمم قد اختل .. فان الحاضر الماثل أمامنا اليوم يدل على مولد الكثيرين الذين يستعدون لحمل راية الإسلام , وتغيير مسار التاريخ من جديد .. إن الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة , تبعث الهمة وتوقظ العزائم .. هذا تاريخ الإسلام يحكى أن حالات الضعف والتردي وتسلط الأعداء .. تحرك الأمة لكي تسترد التفكير السليم , والعمل الجاد الذي ترد به المعتدى , وتستعيد به عزها ومجدها .. في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالا مجاهدين ..وعلماء عاملين .. عن انس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) رواه الترمذي .. وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته ) رواه ابن ماجه .. ويقول عليه الصلاة والسلام ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها .. وان أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ) رواه مسلم(1/95)
الحادي عشر : الابتعاد عن كل ما من شانه الهبوط بالهمة وتضييعها .. إن كثير من الشباب له رغبة ملحة في أن يكون من سكان القمم , وبعضهم لا يدرى من أين يبدأ .. ولعل الانخراط في إحدى الجمعيات القائمة أو الهيئات المنتشرة أو اللجان المتاحة أو الجمعيات الاغاثية الواسعة .. أو جمعيات البر أو جمعيات تحفيظ القران الكريم .. أو بعض المؤسسات الخيرية أو غيرها .. لهو خير وسيلة لتفريغ طاقات أعداد من الشباب لا يدرون كيف يقضون أوقاتهم .. ولعل الأنسب أن يترك الشاب يختار لنفسه مجالا يبدع فيه ويبرز ويكون عطاؤه من خلاله .. فمن وجد من نفسه انصرافا للعلم وتحصيله فليقبل عليه .. ومن وجد منها ميلا للأعمال الخيرية والاغاثية فليشارك إخوانه .. ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) ( البقرة: من الآية 148)(1/96)
وأعلى مطلب تسمو له قلوب سكان القمم هو الجنة ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) (المطففين:26) ... مطلب يستحق المنافسة .. وافق يستحق السباق .. والذين يتنافسون في شيء من أشياء الأرض , مهما كبر وجل , وارتفع وعظم.. إنما يتنافسون في شيء حقير .. فان قريب .. والدنيا لاتزن عند الله جناح بعوضة هزيلة .. فهون من شانها .. وارفع نفسك عنها ,, إياك إياك أن تكون ممن قال فيهم يحي بن معاذ الرازي رحمه الله ( عمل لسراب .. قلب من التقوى خراب .. وذنوب بعدد الرمل والتراب .. ثم تطمع في الكواعب الأتراب .. هيهات أنت سكران بغير شراب .. ما أكملك لو بادرت املك .. ما أجلك لو بادرت أجلك .. ما أقواك لو خالفت هواك .. يا هذا لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة ) .. إنها الجنة وقد اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة ممن سكنوا القمم .. فهذا عمير ..الصحابي الجليل في يوم بدر يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض .. يقول عمير يا رسول الله .. جنة عرضها السماوات والأرض .. قال نعم .. فقال بخ بخ .. فقال النبي: ما يحملك على قول بخ بخ .. فقال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها .. فقال : فانك من أهلها .. فقال فاخرج ثمرات في قرنه , فجعل يأكل منهن ثم قال : لان أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة .. قال فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه .. هذا نموذج من سكان القمم .. وهذا سيد بنى سلمة عمرو بن الجموح رضي الله عنه , كان رجلا أعرج شديد العرج .. فلما كان يوم احد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. فقام وهو أعرج فقال : والله انى لأرجوا أن أطأ الجنة بعرجتى هذه .. فقاتل حتى قتل رضي الله عنه .. وهذا خيثمة بن الحارث رضي الله عنه , إستهم يوم بدر مع ابنه سعد .. فخرج سهم سعد ..(1/97)
فقال له أبوه:
يا بنى آثرني اليوم .. فقال له سعد : يا أبتى لو كان غير الجنة فعلت .. فخرج سعد إلى بدر فقتل فيها .. ومازال أبوه خيثمة يتطلع إلى الجنة حتى كان يوم أحد , فأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : يا رسول الله لقد أصبحت مشتاقا إلى مرافقة ابني سعد في الجنة , وقد كبرت سني , ورق عظمى , وأحببت لقاء ربى , فادعوا الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة .. فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام بذلك .. فقتل في احد شهيدا رضي الله عنه وأرضاه .. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في هذا المطلب العظيم لسكان القمم ( لما علم الموفقون ما خلقوا له .. وما أريد بإيجادهم .. رفعوا رؤؤسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم .. فشمروا إليه .. وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم .. فاستقاموا عليه .. ورأوا من أعظم الغبن بيع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. في أبد لا يزول ولا ينفد .. بصبابة عيش .. إنما هو كأضغاث أحلام .. أو كطيف زار في المنام .. مشوب بالنغص .. ممزوج بالغصص .. إن اضحك قليلا .. أبكى كثيرا .. وان سر يوما .. أحزن شهورا .. آلامه تزيد على لذاته .. وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته .. أوله مخاوف .. وآخره متالف .. فيا عجبا من سفيه في صورة حليم .. ومعتوه في متلاف عاقل .. آثر الحظ الفاني الخسيس .. على الحظ الباقي النفيس .. وباع جنة عرضها الأرض والسماوات .. بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات .. ومساكن طيبة في جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار .. بآطار ضيقة آخرها الخراب والبوار .. فوا عجبا لها .. كيف نام طالبها .. وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها .. وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها .. وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها .. وكيف قرت دونها أعين المشتاقين .. وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين .. وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين ..(1/98)
وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين ) انتهى كلامه رحمه الله
تعالى .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من خاف أدلج.. ومن أدلج بلغ المنزل .. ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة )
يا سلعة الله لست رخيصة *** بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها *** في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها *** إلا أولوا التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد *** بين الأراذل تفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشترى *** فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب *** فالمهر قبل الموت ذو امكان
يا سلعة الرحمن كيف يصبر *** الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها *** حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف *** وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة *** ليصد عنها المبطل المتوانى
وتنالها الهمم التي تسمو *** إلى العلا بمشيئة الرحمن
اتعب ليوم معادك الأدنى تجد *** راحاته يوم المعاد الثاني
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , ,
..........
أعدها للنشر : د.سيد سليمان
ــــــــــــــــــ
نسَماتُ الأمل .. (( أحداثٌ واقعية لا تُنسى )) !!
[ حتى إذا استيأس الرسلُ.. وظنوا أنهم قد كُذِبوا.. جاءهم نصرُنا... ]
كثيرًا ما نشعر باليأس يُحاصرنا.. ويورثنا وهنًا يكاد يقضي على ما بقي من همةٍ وحماس.. فيمكث أحدُنا يُناجي نفسَه :
* هل من جدوى لما نقوم به..؟! ..
* أتُرى هذه الجهود الذي تُبذل تأتي بنفع؟! ..
* هل ستثمر غراسنا وقد اجتاحنا الطوفان؟!..
أسئلة لا تكاد تنقضي.. ولا يزيدها الواقع المر إلا إلحاحًا وإصرارًا.. ولربما كان ورودها المتكرر سببًا من أسباب القعود والخمول والدعة.. أو - يا للضعف - سببًا من أسباب الانتكاس والارتكاس..!(1/99)
يأتي الشيطان ليقول لأحدنا [ ... لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..] كلمة حقٍ أُريد بها باطل.. لكن النفس قد تُخدع بها إذا قيلت والواقع يجعل الحليم حيرانًا..!
وتتكرر الأسئلة..
وتُدركنا رحمة الله.. فيأتي الجواب بظلال اليقين..
يأتي في حالة خشوعٍ وتأمل في آية من كتاب الله، أو حديثٍ من سنة رسول الله..
أو يأتي على شكل موقفٍ عابر.. أو قصةٍ واقعية.. أو حدثٍ مُشاهد..
وييسر الله - بمنته وكرمه - للقلوب الواجفة ما يُسكنها ويمدها بماء الأمل الذي لا ينضب ولا يغور..!
فتثوب النفس القلقة إلى مثابة اليقين والاطمئنان بموعود الله .. وتستحضر الحقيقة التي قد تتوارى خلف ركام اليأس : أن الدين منصورٌ لا محالة.. وأن علينا بذل الجهد وغرس البذور؛ أما قطف الثمرة اليانعة فهي بيد علام الغيوب..!
هكذا هو الإسلام بروعته وعظمته.. يتأبى على السُبات.. ويستعصي على البيات.. ويكمنُ في الفطر السوية؛ حتى إذا ما قيض الله له مَن يُزيح عنه الغبار؛ انتفض حيًا يتنفس..!
هو باقٍ إلى قيام الساعة.. لا خوف عليه من الفناء.. وإنما الخوف علينا من الركون إلى الدعة أو الإخلاد إلى الأرض..
وإنما الشرف - كل الشرف - لمن يستمسك بالدين ويحمل مشاعل الهداية..!
(( نسمات الأمل )) ..
سلسلةٌ من بعض المواقف والقصص الواقعية.. التي مررتُ بها في هذه الحياة.. أو وقفتُ عليها من ثقات.. وأنا أسوقها للإخوة والأخوات تثبيتًا لهم وتذكيرًا..
(( نسمات الأمل )) ..
هي للمستيقن.. حتى يزداد يقينًا..
ولليائس.. حتى يعلم أن اليأس لا يصنع شيئًا..
وللجميع.. حتى يعلموا أن مع العُسر يُسرًا..
--------------------------------------------------------------------------------
" وقد يفلق الصخرَ .. قطرُ الدعاء..! "
ما عادت تُطيق العيش معه..!(1/100)
سنة كاملة مرت عليها كأنها - لفرط نكدها - عُمرٌ من الشقاء والتعاسة.. لقد يأستْ من كل شئ.. ولم تعد تريد منه شيئًا أكثر من أن يؤدي الصلاة في المسجد القريب.. أو في المنزل حتى..!
آاااه.. المنزل..؟! .. بل هو القبر في ظلمته ووحشته.. هو جحيمٌ أحطابه البعد عن الله.. وتركُ الصلاة.. وقسوةُ القلب..
كانت تتمناهُ عش حب وهداية.. تُغرد فيه أطيار السعادة والهناء والنور.. لكن أحلامها تبخرت بأشعة الواقع..!
هي تُحبه.. لكن حبها لله أقوى وأبقى وأولى.. فلم يعد في قلبها له مكان؛ إلا كما تبقى الأطلال بعد العمار..!
نسمع بأمورٍ كثيرة ونحسبُ أننا نعلمها حقًا.. لكننا حين نذوقها على حقيقتها نُدرك أن الواقع يختلف كثيرًا عما نظنه ونتخيله.. كذلك كانتْ هي واليأس.. لما جربته فعرفتْ مرارتَه..!
ما بقي لها إلا الدعاء واللجوء إلى كنف الرحمن الرحيم.. عّله أن يلطف بها فيجعل الحياة زيادة لها في الخير.. أو يُعجل بالموت الذي يُريحها من الشر.. كل الشر..!
* * * * * * * *
قامتْ إلى صومعتها ( كما يحلو لزوجها أن يُسميها ) .. وانطرحت بين يدي مولاها وخالقها الرحمن الرحيم داعيةً متضرعة.. أن يحبب الله إليه الإيمان ويُزينه في قلبه.. ويُكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.. ويجعلَه من الراشدين..
** " أين أنتِ أيتها الراهبة.. ؟! .."
إنه هو ..!! عجلتْ ( س ) بأداء صلاتها.. ثم مضت إليه.. وهي تجر قدميها كأنهما مثقلتان بالأغلال..!
** " ألا تملين من كثرة الصلاة.. إن ربي غنيٌ عنكِ وعن صلاتك.. هيّا.. أريدُ بعض الماء فقد جف حلقي من (( الشيشة )) .. هيّا..! "
ذهبت لتُحضر كوب الماءَ.. وأذان الفجر ينساب في الأفق ليعطر الكون بروعته وجلاله..
ياااا الله..!
كم هو جميلٌ ذاك الأذان.. حين ينزل على القلب القانط كما تنزل قطرات المطر على الأرض اليباب فتهتز وتُزهر..
ولكنْ..!
لقد فقدتْ صوت مؤذن المسجد القريب..!!(1/101)
" الحمد لله " .. قالتها ( س ) وابتسامةٌ متفائلةٌ تتراقص على شفتيها..!
* * * * * * * * *
** " هل نضج الخروف..؟! .. إنه كوب ماء فقط " .. هكذا صرخ ( ت ) بزوجته.. فعادت إليه وهي تحمل الكأس بيدها.. وعقلُها مشغولٌ بالفكرة التي خطرتْ لها..
مدت إليه بكوب الماء والابتسامة لم تفارق شفتيها.. فرمقها ( ت ) بنظرة متهكمة وقال :
** ماهذا التبسم؟! .. مشوارٌ جديد.. أم نصيحةٌ معتادة..؟!
** ليس هذا ولا ذاك.. إنما هو طلبٌ يسيرٌ .. لو فعلتَه فلن أطلب منك شيئًا آخر مدة أسبوع..!!
** ( ؟!!! )
** صدقني ..!
** لا لا لا لا .. لا أكاد أصدق.. ( س ) الملحاحة لا تطلب مني شيئًا مدة أسبوع..؟! .. هاتي إذن..
قالت وهي تزدرد ريقها بتردد :
** ال .. ال .. المؤذن في مسجدنا لم يؤذن لصلاة الفجر.. ما رأ.. ما رأيك أن تؤذن بدلاً عنه..!
** (؟؟!!!!!!!)
** أرجوك يا ( ت ) .. أرجوك.. أحب أن أسمع صوتك وهي يملأ الكون بنداء الرحمة.. أرجوك يا حبيبي.. إنها أمنيةٌ طالما حلمت بها.. أرجوك ..!
** اممممممممم .. ولا تطلبين شيئًا آخر مدة أسبوع..؟!
** نعم .. نعم.. بل أسبوعان إن شئت..
** طيب طيب.. ولكني سأخرج بعد الأذان مباشرة.. لأن جماعة المسجد لن يستوعبوا منظر ( ت ) وهو يقيم لصلاة الفجر.. وهو الذي لم يدخل المسجد منذ جاورهم..!
فقالتْ.. واليأس ينسج خيوطَه حولها من جديد :
** افعل ما بدا لك.. ولكن أسرع قبل أن يسبقك أحد..!
* * * *
وارتفع صوت الحق من شفتي ( ت ) :
( الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ) .. ( أشهد ألا إله إلا الله .. أشهد ألا إله إلا الله ) .. ( أشهد أن محمدًا رسول الله .. أشهد أن محم............) وبدأ صوت ( ت ) يتقطع..!
لم يقوَ ( ت ) على إكمال الأذان إلا بصعوبة.. فالمشاعر التي انتابته كانت أقوى من احتماله..(1/102)
" يا إلهي.. أين كانت هذه السكينة والطمأنينة ؟! .. أي ضنك كان يُحيط بي ؟!.. أي شقوةٍ كنتُ أتردى فيها..؟! .. أي حرمان..؟! رحماك يا ربي.. رحماك..! "
وظلت تلك الخواطر تجلجل في عقله فلا يُظهرها إلا الدموع..!
* * * *
في مسجد ( .......) في شمال الرياض.. يصدح رجلٌ بالأذان خمس مراتٍ في اليوم والليلة.. رجلٌ يحفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب.. وشرع في حفظ الصحيحين.. ويُلازم الدروس في جامع ( .....).. ويُكنى بأبي معاذ..
إنه أخونا ( ت ) ...!!
--------------------------------------------------------------------------------
لو التزمَ جدارُ آل ( م ) لما التزمَ ( ر . م ) !!
في قاعة المحاضرات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.. كان الجمعُ يرقبُ بإعجابٍ وقائع مناقشة رسالة الماجستير في أصول الفقه.. الذي تقدم بها المُعيد بكلية الشريعة ( ر . م ) ..
ومن بين أولئك الحاضرين كانت هناك عينان تُغالبان غشاوةً من الدموع التي أغرقت حدقتاه.. وحُق لـ ( ع . ع ) ذلك.. فما يُشاهده الآن هو حلقةٌ من مسلسلٍ بدأت فصوله في عام 1410 تقريبًا.. هناك بين جنبات المركز الصيفي بالمعهد العلمي بحي الشفا في الرياض.. يومَ دخل شابٌ في بوابة المركز وكأنه يَدخل باب بيتهم..!!
بدأت مشاكل ( ر . م ) من أول لحظةٍ دخل فيها إلى المركز.. تشاجر مع حراس الباب.. وحُمل إلى غرفة مدير المركز بدلاً من الذهاب إلى غرفة التسجيل..!
وهناك كان أول لقاءٍ بينهما.. بين الشاب المتفتق فتوةً وعنفوانًا (ر . م ) وبين المربي المتألق حكمةً وبذلاً ( ع . ع ).. وكانت حادثة الشجار فرصةً لا تفوت على مربٍ كـ ( ع . ع ) .. لأنه لمح في عيني ( ر . م ) بريق التميز والنبوغ.. ولأن وراء كل مكروهٍ ظلالاً من الخير لا يُبصرها إلا المتفائلون.. !(1/103)
لم يكن فارق السنوات بينهما كبيرًا.. فانعقدتُ بينهما خيوط المودة على اختلاف الطباع.. فذاك قطبٌ 0 في ظاهره - سالب.. والآخر قطبٌ موجب.. ومع ذلك ينجذبُ أحدهما إلى الآخر .. كما ينجذبُ قُطبا المغناطيس..!
وتعاقبت الأيام.. ومشاكل ( ر . م ) في المركز تزداد ظهورًا.. وقناعة المربي وتفاؤله بمتستقبل واعدٍ له تزداد رسوخًا..!
وفي كل مرةٍ يتناقش فيها المشرفون في مشاكل ( ر . م ) ويفكرون في طرده.، وهم يرددون ( لو التزم جدارُ بيت أهله.. لما التزم هو..! ) .. في كل مرةٍ يحدث ذلك؛ . كان ( ع . ع ) يقف في صفه ويُقنع الإخوة بأنها أيامٌ قلائل.. وأن من حق الشباب أصحابِ المشاكل الصبرَ عليهم ومراعاةَ طيشهم.. مادام ذلك في الإمكان..!
وانقضتْ أيام المركز الصيفي..
وفي الحفل الختامي أهدى ( ع .ع ) لـ ( ر . م ) دعوةً للمشاركة في رحلة إلى أبها .. والأصل أنه لا يخرج فيها إلا المتميزون في النشاط والأخلاق.. لا في الشجار والإزعاج..!
ولم يكد يُصدق ( ر . م ) نفسَه.. وهو يمتطي مع الشباب الحافلة مُتجهين إلى أبها.. وهناك تفتقت مواهبُه عن إبداعٍ في المقالب.. وفي التهرب من الدروس.. وفي التملص من كل برنامجٍ.. إلا البرنامج الرياضي.. وبرنامج تسلق الجبال..
وانقضت الرحلة أيضًا.. وبقي في الصيف بعض وقت..
لم يكن ( ر . م ) يفكر يومًا من الأيام في أن ينضم إلى حلقة تحفيظ للقرآن الكريم.. كيف وهو الذي يتهكم بعيال الحارة حين يتركون مباريات الحواري ليجلسوا بين أربعة جدران ..!
لم بكن يُفكر في ذلك.. حتى جاءه صاحبُ القلب الكبير.. ودعاه إلى التفكير في التسجيل بإحدى الحلقات القريبة من بيتهم..
** " ... ولكني أستغل وقت العصر في المذاكرة وحل الواجبات .." ( !!! ) .. هكذا كانت إجابته الأولى..
فابتسم ( ع . ع ) وقال غامزًا :
** وهل هناك مُذاكرة وحل واجبات في الصيف ..؟!
** ........
** ثم إنه لا تعارض بينهما لمن كان حريصًا مثلك..(1/104)
** ولكن.. ولكن المسجد بعيدٌ عن بيتنا.. وأنا أخاف على نفسي من المشي في الشارع.. فالشوارع كما تعرف مكان الشباب ( الخربانين ) !! ..
** لا مشكلة .. سأمر بك بسيارتي كل يوم.. هاه.. ما رأيك..؟!
** " تستهبل ؟! .. أنا أسكن في حي ......... وأنا أسكن في حي ........ !!
** لا عليك.. سأمر بك يوم السبت الذي يعقب عودتنا من أبها.. اتفقنا..؟!
** " اتفقنا.." .. قالها وهو يمط شفتيه بامتعاض خفي.. :hh:
* * * * *
ومن ذاك السبت بدأت فصول روايةُ صبرٍ وفألٍ تتصاغر أمامه كل عوائق السآمة وكل علائق اليأس المُقعد..!
روايةٌ كل صفحة فيها ملأى بالتهرب والتملص والمتاعب.. وكم تأخر فيها ( ر . م ) على ( ع . ع ) فما تضجر.. وكم ضرب بمواعيده عرض الحائط فما تشكى.. وكم كذب عليه وهو يعلم فما عنّف.. وكم حاول إملالَه بكل سبيلٍ فلم يفلح..!
إن قلوب الناس - في الغالب - ملأى بالخير.. لكن الران الذي يكاد يعلوها.. وتسويلَ الشيطان.. والنفسَ الأمارة.. كل أولئك يحتاج إلى انتفاضةٍ تطردها.. كما يطرد أريج الفأل فلول القنوط..
والمتميزون بخاصة.. يحتاجون لفنٍ في التعامل معهم.. لأنهم - في الغالب أيضا - يجحدون ونفوسهم مستيقنة..!
وهذا ما كان من ( ر . م )..
فالمعروف لا يضيع سدى.. والفطرة الطيبة تثوب إلى نقائها ولو بعد حين.. ولذا؛ تكشفت الأيامُ عن شابٍ متميز في كل شئ.. فخيار الناس في الخير هم الذين كانوا خيارَهم في غيره.. إذا التزموا.. وإذا وجدوا صدرًا يحتملهم ويصبر عليهم.. ويملأ جوانحه الفألُ والاستشار..!
* * * * *
قطع ( ع . ع ) شريط ذكرياته.. على صوت لجنة المُناقشة وهي تُعلن قرارَها بمنح ( ر . م ) درجة الماجستير.. مع مرتبة الشرف الأولى..
وسكتت أنفاس الحاضرين وهو يرقبون ( ر . م ) يتجه صوب الصف الأول من الكراسي.. ليطبع قبلةً على جبين ( ع . ع ) ..
قُبلة شكرٍ..
وقُبلة وفاء..
قبلةً لخصت على قصرها دروسًا لا تُنسى :(1/105)
~~ أن الجميل سيُثمر.. ولو بعد حين..!
~~ وأن الفأل لا يأتي إلا بخير..
~~ وأن الوفاء من شيم النُبلاء.. الذين لا تُنسيهم الأيام جميلَ من كان وراءهم..
.
.
.
--------------------------------------------------------------------------------
فطرةٌ .. فهداية ..!
كان يحبها.. بل يهيم بها..!
خداها المتوردان..
عيناها الناعستان..
مبسمها الساحر..
بل هي الجمالُ.. لو جُسد الجمال بشرًا..!
كيف.. وقد زادتها البراءةُ حسنًا وجمالاً.. وألقت عليها فطرتُها الصافيةُ بظلال السماحة والبِشْر.. وأضفى عليها إيمانها العميقُ من النور نورًا..
ما كان ينظر إليها بشهوةٍ وسُعار.. فهي ما تزال طفلة ذات ثمان سنوات.. وإنما كان مشدوهًا ببراءتها وصدقها.. وشقاوتها أيضًا..
كان مقصرًا مذنبًا مسرفًا على نفسه.. ولربما كان حالُه هذا دافعًا له إلا الإعجاب بها أكثر وأكثر.. فالنفس قد تميل إلى الذي تجد لديه ما تفقده.. خاصة إن كانت تعلم في قرارتها أنها على خطأ.. وأن الخير كل الخير هناك.. في الحال التي عليها مَن يُحب..!
وكذلك كان ( ف . ف ) .. يجحد ظاهرُه.. لكن داخلَه مستيقنٌ بالحق والخير..!
* * * * *
في صغره كان قائدَ عيال الحارة في كل شئ.. هو كابتن الفريق.. وهو العمدة.. وهو الآمر الناهي.. وطوته الأيام ليُصبح شابًا كبرت معه صفات طفولته.. فكان متصدرًا لرفقائه.. الذين كانوا معه كالجنود مع ضابطٍ صلد..!
وكان قائدًا لهم في تتبع الشهوات والنزوات.. ولا يسمع بواحدٍ منهم يفكر مجرد تفكير بالالتزام إلا وقف أمامه بلسانه السليط وشخصيته القوية هازئًا متهكمًا.. حتى يُعيده إلى الحظيرة.. أو يجعله عبرةً للمعتبرين..!
وأيسَِ أهلُه من صلاحه.. وماعادتوا يرجون منه سوى أن يكف عنهم شرَّه..!
حتى أتى اليوم الموعود..(1/106)
كان أهلُه يريدون من الذهاب بهم إلى جنوب المملكة مع خالتهم ليصطافوا.. فوافق بشرطٍ : أن تكون ابنةُ خالته وحبيبةُ قلبه ( غ . ت ) معهم في السيارة..!
* * * * *
حُزمت الحقائب.. وشُدت الرحال.. واجتمعت العائلتان.. وابتهج ( ف . ف ) بالطفلة الأمورة التي سترافقه كل الطريق..!
كانت والدته على مقعد الراكب الأمامي.. و ( غ . ت ) بينهما.. وهي على عادتها.. تُمازح خالتها.. وتلعب هنا وهناك.. قد ملأت المكان بالشقاوة وعبث الأطفال..!
أخرج ( ف .ف ) من سيارته شريط مطربه المفضل.. فأدخله في المسجل.. وبدأ ت مزامير الشيطان تجلجل في جنبات السيارة وهي تشق الطريق شقًا..
وفجأة.. سكنتْ ( غ . ت ) في مكانها هادئة وادعة..!
حاول أن يستثيرها فلم يُفلح.. استفزها فما نفع.. توقف في عند محل التموين فاشترى بعض الحلوى.. فما أجدت الرشوة..!
وساد المكانَ جوٌ من الهدوء.. عدا تلك النغمات العابثة التي ينهق بها المطربُ المأفون..
قطع الصمت صوتُها وهي تهمهم وتتنهد.. وكأنها تحدث نفسها :
** " ... والله إنها مشكلة ..!! " ..
التفتَ إليها مستعجبًا.. وقال :
** مشكلة..؟! "
لم تُجبه.. بل يبدو أنها لم تسمعه.. فقد سرحت بخيالها بعيدًا.. وهي مطرقةٌ لا يكاد يُسمع لها نفَس..!
وساد المكانَ الصمتُ مرةً أخرى..
ثم بدأ صوت بكائها يتعالى.. بل كان نشيجًا يهز صدرها الصغير هزًا..!!
قال لها بسرعة :
** " .. ما بكِ يا بنت..؟! "
** ............... " ..!
** " .. تكلمي.. وإلا أنزلتكِ هُنا.. هيا تكلمي..!! "
** " .. لقد.. لقد كنتُ أفكر في أمرٍ مخيف.. فأمي تقول لي إن ربي لا يُحب الأغاني.. وأنا أخشى أن ينفجر إطار السيارة فتنقلب.. فأموتُ والأغاني تصدح حولي.. فماذا سأقول لربي حينها ..؟! "
* * * * *
على طريق الجنوب.. توقفت سيارةٌ بشكل مُفاجئ.. ونزل منها شابٌ يحمل معه كيسًا بلاستيكيًا ممتلئًا.. أخذ يهوي بما فيه على الأرض.. ويطؤه بقدميه بانفعال.. ثم توقف..(1/107)
ورفع رأسه إلى السماء.. وعيناه تُسبلان دمعًا سخينًا يغسل به أدران الماضي البئيس المقيت.. ثم هوى على الأرض ساجدًا..
وفي الخلف وقفتُ خلفه طفلةٌ صغيرةٌ كأنها فلقةُ قمر.. وهي تُناديه وتُصفق بيديها باستغراب :
" هل تُصلي التراويح في النهار..؟! .. هيا بنا.. فقد تأخرنا..!! "
--------------------------------------------------------------------------------
منارة صدق.. على شواطئ ( مارسيليا ) ..
شيخٌ فانٍ.. قدمٌ في الدنيا، والأخرى في القبر..!
هكذا بدا لي حين رأيتُه البارحة.. وهذا ما تنطق به الأخاديدُ التي شقتها سنواتُ عمره التسعون على صفحات وجهه، وهي الصورةُ التي يختصرُها بياض عارضيه..
لكن الزمان والمكان يفقدان أبعادهما في قاموس ( الهمة العالية ) .. وتزول كل حواجزهما أمام تدفق الحماس، النابع من ( عقيدة ) لا يوهنُها كبرٌ ، ولا يعوقها مكان..
وبعد العشاء.. دعا الشيخُ الكبيرُ ( عبدالرحمن الماص ) بعصاه وكرسيه.. فجلس، وأحاط به أحفادُه وبعضُ الحاضرين.. كما يحيطُ الغمام بقمةٍ شامخة.. هي للغمام ملاذ، وهو للقمةٍ جمال..!
ثم طفق النصحُ والتوجيه ينساب من بين شفتيه انسيابَ الماء من فم السِقاء..
تارةً يجعله على هيئة قصة، وتارةً يُلبسه ثوبَ دُعابة.. وهو في ذلك كله يحدثنا بحروفٍ يكاد الصدق والحب يُطل من بين أصواتها..!
حتى أتى الحديثُ على موضوع الصدق مع الله، وإخلاص القصد له - جل جلاله - .. فاستحالت تلك الحروفُ إلى نورٍ مُجللٍ بأطياف الهيبة والإخبات والخشوع..!
* * * * * *
قال الشيخ ( عبدالرحمن الماص ) بعد مقدمة من التأصيل والاستدلال :
كُنّا عشرة رجال.. ما فيهم عربيٌ إلا أنا.. سافرنا إلى فرنسا يومَ لم يكن في فرنسا مسجدٌ واحد.. فذُهلنا من انكفاء المسلمين على أنفسهم، وعجزهم - على كثرتهم - عن أداء الصلاة جماعةً، فضلا عن الدعوة إلى الإسلام..(1/108)
ولأن أغلب المسلمين هُناك من العرب، من المغرب العربي، ومن بلاد الشام.. فكان لزامًا عليّ أن أتولى البيان والكلام أمام المسلمين هُناك.. لكننا توقفنا أمام عقبةٍ كؤود : كيف نجمع أكبر عددٍ من المسلمين في مكانٍ واحد..؟!
وبدا الحل في ظاهره ميسورًا : إنها المساجد..
ولكن المساجد معدومةٌ تمامًا.. ووالله لقد طُفنا في أرجاء باريس، باحثين عن مسجدٍ مُقام لنقوم بواجب التذكير؛ فلم نجد..!
فاستعنّا بالله.. وقلتُ للإخوة بعد أن وصلنا إلى (مارسيليا) :
لا بد أن نبني هُنا مسجدًا..!
فما طال جدالُنا ولا نقاشنا..
بل اخترنا المكان، هناك على ربوةٍ جميلة، بالقربُ من مجمع المصانع المُحاذي للميناء.. لأن أغلب المسلمين هناك من عمال المصانع..
وبدأنا العمل، فاستخرجنا رخصة من البلدية.. وكنا نبني بأيدينا، وبأيدي الإخوة المسلمين، الذين كان بعضُهم يأتينا ليلاً بعد انتهاء دوامه في المصنع، فيواصل عملَ الليل بعمل النهار..!
كانت أيامًا معدودات.. هي في جمالها ولذتها كنسائم السحر في صحارى نجد..
فيها تكشفتْ الشدةُ عن النفوس المُحبة للخير وهي تتلألأ بعد نفض الغبار عنها.. وفيها الإيمان الكامن في الأعماق، يبقى كامنًا حتى تنزل عليه بضع قطراتٍ من التذكير، فيهتز، ويشق الركام كما تشقها الكمأةُ بعد المطر..!
* * * * * *
وذات صبحٍ..
أتاني أخٌ ( أذكر أنه من بلاد اليمن ) ، يشكو إلي أمرَه مع الصلاة.. وكيف أنه يعجز عن أداء صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب في أوقاتها.. لأن نظام المصنع يُجبره على البقاء أمام الآلة لئلا تتعطل أو تقف.. إلا في حال قضاء الحاجة، ولدقائق يسيرة.. ووقت الغداء قصيرٌ جدًا.. لا يكاد يكفي للطعام..!
وهو بهذا مُجبرٌ على جمع الصلوات كلها مع صلاة العشاء..!
فقلتُ له :(1/109)
** " .. يا أخي.. من صدق اللهَ؛ صدقه اللهُ - سبحانه - .. فإذا أتى الغد، فاحمل دواتك وفيها ماء الوضوء.. فإذا زالت الشمسُ، فقم وتوضأ، ثم أذن بالصلاة وارفع صوتك بالإقامة.. ثم صلِّ الظهر.. وافعل ذلك في باقي الصلوات.. ولا تخشَ شيئًا مادمتُ صادقًا مع من له الخلقُ والأمر.. "
فشرح الله صدرَ الأخ السائل لما قلتُ له، وقام من عندي وبريقُ العزم والإصرار يلوح على عينيه..
* * * * * *
وبعد أيام..
جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "
** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."
وبعد أيام..
جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "
** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."
قال، وعبرتُه تسبق كلماته :
** " .... أرأيتَ ما قلتَ لي تلك الليلة.. لقد استعنت بالله، وعقدتُ العزم على فعل ما اقترحتَ عليّ..
فذهبتُ باكرًا ومعي لوازم الوضوء وسجادةُ الصلاة.. فلما حان وقتُ الظهر.. توضأتُ، ثم أذنت بالصلاة، ويممت وجهي صوب القبلة، فكبرت.. وما كدتُ أفعل حتى كان مأمور تلك الوردية على رأسي ينتهرني ويُهددني..
فما شعرتُ والله له بهيبةٍ ولا برهبة.. بل مضيت في صلاتي أؤديها بخشوعٍ وراحةٍ ما أحسستُ بها من قبل أبدًا.. ولما قُضيت الصلاة؛ قلتُ له بلهجة الواثق : إن هذا أمرُ ربي الذي خلقني وخلقم وخلق صاحب المصنع، وجعل لصلاة المسلمين زمانًا موقوتًا.. وأنا أمتثل أمرَه.. فافعل ما بدا لك..!
فأخذ وهو يزبد ويرعد.. ويتوعدني بأن يرفع أمري إلى صاحب المصنع ليوقفني عند حدي.. فما رأيته قد أكثر من الهذر، قلتُ له :
(إن تتطردوني؛ فسيعوضني الله خيرًا مما عندكم في الدنيا.. وأما الآخرة ففيها الرجاءُ بالأجر والرفعة.. والآخرة خيرٌ وأبقى..!)(1/110)
وما ألقيتُ لتهديده ولا لوعيده بالاً.. بل فعلتُ في العصر والمغرب كفعلي في الظهر.. والعمال المسلمون ينظرون إليّ ما بين مستنكرٍ ومُشفق.. ومتعاطفٌ..!
فلما كان من الغد.. وحان وقتُ الظهر.. ذهبتُ لأتهيأ للصلاة..
فلما كبرتُ فوجئتُ وفوجئ العمالُ بصفير التوقف عن العمل يدوي في المكان.. ثم ما كدتُ أنتهي من الصلاة إلا والمأمور واقفٌ يخبرني بأن هذه أوامرُ صاحب المصنع حين أخبره بما جرى بالأمس.. وأنه قال له بالحرف الواحد :
(...
(1/14)
أبناء المسلمين هم أغلب عمال المصنع.. وهم مستمسكون بدينهم في الوقت الذي ضاع فيه أبناؤنا بين الحانات والمواخير.. فإذا ما طردناهم فمن الذي سيعمل لدينا..؟! ، فالحل في نظري أن تتركوهم وشأنهم، وإذا رأيتم ذاك [ يقصدني ] قام يُصلي، فأطلقوا صافرات التوقف، واجعلوها استراحة لعموم الموظفين..! )
وجاءت صلاة العصر، فصلى معي أربعةٌ من العمال المسلمين.. وفي المغرب عشرة..
وازداد العدد من غدٍ.. واليوم أتيتُك وما في العمال المسلمين واحدٌ إلا وهو يُصلي معنا.. في صفٍ واحدٍ كالبنيان المرصوص..! .... "
ثم أطرق الشيخ برأسه.. والعبراتُ تكاد تهز صدره العامر بالنور - نحسبه كذلك - هزًا..!
والحاضرون صامتون كأن على رؤوسهم الطير.. حتى رفع الشيخ رأسه.. وقال وهو يتبسم :
أتدرون.. أن في فرنسا اليوم خمسةَ آلاف مسجد..؟! .. "
* * * * * *
هذا حديثُ من جاوز التسعين..!
وتلك هي همتُه وهمُّه.. شاب فوداه ومازال قلبه شابًا بحب الخير للغير.. وبدلالة الناس إلى الهُدى.. ينطق بذلك حالُه، وتجهر بذلك أحاديثُه وحكاياتُه، ومزحُه ودعابتُه.. وهو يجتهد في أن تكون كل حركةٍ وسكنةٍ لله، عبادةً.. ونصحًا..!
وهي تجربة من رأى العمل والبذل خيرًا من الجدال والمراء..(1/111)
فالشيخ ممن يُنسبون إلى جماعة ( التبليغ ) التي سيمت بألوانٍ من التشنيع الهادم والنقد الجارح.. وكان أهلُها غرضًا لبعض سهام أولئك الذين اكتفوا بالقيل والقال.. فلا هم كفّوا ألسنتهم عن أعراض إخوانهم العاملين للدين، ولا هم عدّلوا ( بالعمل ) ما يرونه من اعوجاجٍ لا يسلم منه بشر، ولا هم سدوا الثغور التي كُفيت بأمثال الباذلين الصادقين..!
[ فأما الزبدُ فيذهب جُفاءً.. وأما ما ينفعُ الناس فيمكث في الأرض..]
--------------------------------------------------------------------------------
ذاتُ الحجاب.. حين يغلب الأريجُ العفن..!
في بنايةٍ شامخة تُطل على شارعٍ من شوارع العاصمة التي ذاع صيتها في الفساد والإفساد.. وفي مجتمعٍ شهيقُه الفُحش وزفيرُه الخنا.. هناك التقى بها..!
ما كان يخطر بباله أنه سيجد هناك ما تقر به العينُ وينشرح له الصدر.. فكل ما حوله ينطق بما يسوء الناظرين.. وهو على كثرة تجواله في بقاع الأرض لا يذكر أن هناك بلدًا تفوق هذه البلاد في انتشار مظاهر الفساد والعُهر..
لكن الله ساقه إلى ذلك الشارع المتفرع عن الطريق الرئيس ليرى بعينه ما لم يكن يحتسب.. وليوقن أن النور ينبتُ حيث يشتد الظلام.. وأن النفوس المؤمنة الصابرة هي التي تصمدُ حينَ تهتز القلوب المترددة.. وأن الثبات وقتَ الفتن أمارةُ القلوب اللاجئة إلى ركن ربها الشديد..!
هناك وقعت عيناه على لوحةٍ تتلألأ بين ركام الباطل الزهوق.. منقوشٌ عليها بحروف كأنما هي عرائس من نور : [ مدرسة....... لتعليم القرآن الكريم..]
أتراه يحلم..؟! ..
أخذ يفرك عينيه ليستيقن من أنها تبصر ما رأى.. وأعاد قراءة المسطور على اللوحة.. فارتد إليه البصرُ هانئًا وهو سعيد..!
لم تكن قدماه بحاجة لأمر ينتقل عبر السيالات العصبية إليها لتتجه صوب مدخل البناية.. بل انطلقت من فورها تسابق البصر.. لينتشي بأريج الخير يتسلل إليه وسط العفن الذي ملأ المكان هناك..(1/112)
وعند المدخل توقف قبالة لوحة إعلانات منصوبة يمين الداخل.. مكتوبٌ عليها نبذة عن المدرسة.. اسمُها.. وتاريخ إنشائها.. وعدد طلابها.. ومشاريعها القائمة.. فما زاده المكتوبُ إلا إسراعًا في الدخول..
* * * * * * *
على المكتب الصغير الأنيق جلس شابٌ من أهل تلك البلاد.. قام إليه فصافحه ورحب به.. ووجهه مستنير بأنوار الطاعة التي تنعكس عليه من وهج الإيمان، كما يعكس البدرُ ضوء الشمس..!
فدار بينهما حديثُ الروح للأرواح، يسري.. ثم سأله عن قصة هذه المدرسة.. فنهض الشاب وقال وهو يهمّ بالخروج :
** دعها تحدثك عنها..!
لم يكد يمض وقتٍ وجيز حتى عاد الشاب ومعه فتاةٌ تمشي على استحياء.. وكانت محتشمة متنقبة.. لا يُرى منها شئٌ أبدًا.. فجلست على أريكة بعيدة عنه.. والشاب يُشير إليها ويقول :
** هذه زوجتي أم عبدالعزيز.. هي صاحبة الفكرة.. وهي المشرفة على قسم الفتيات في المدرسة..! "
وانطلقت الفتاةُ تتحدث بحماسٍ عن المدرسة.. كيف بدأت الفكرة.. وما الدافع إليها.. ومتى أحست بجدواها..!
وأخذت تحكي قصة هدايتها التي أراد الله لها.. لتصبح مشرفةً على المدرسة بعد أن كانت مجرد ( رقم ) في عِداد الفتيات اللاهثات وراء مظهرٍ أجوف أو زينةٍ لا تكاد تنقضي..
إنها النفوس التي أراد الله بها خيرًا.. فكشف عنها حُجب الأهواء والتسويل.. فأضحت تبصر بعين البصيرة حقيقةَ الحياة :
عبادةٌ لله..
وصبرٌ على طاعته.. وعن معصيته..
وتواصٍ بالحق وبالصبر..
يعقبُ ذلك كلَّه سعادةُ الدنيا.. ونعيمُ الآخرة..!
كان تُحدثه بصوتٍ لا خضوع فيه ولا تكسر.. وهي تؤكد على أن الواجب على المصلحين يتعاظمُ بتعاظم الشر والفساد.. وأن الناس يستوون وقت الرخاء.. لكنهم يتمايزون عند الشدائد..(1/113)
يتمايزون بإيمانهم وثباتهم.. ويتمايزون بعملهم ونشاطهم.. ويتمايزون باستعلائهم على المُحيط الذي يغرق في حمأة الارتكاس اللاهث وراء سراب سعادةٍ.. تجري خلفه الأوهام؛ فإذا ما جاءته لم تجده شيئًا.. سوى الألم والشقاء..!
لم يكن صاحبُنا يدرك كم من الوقت مضى.. فقد حلّق خياله في التفكير والتساؤل :
ألم يكن من السهل عليها - إن لم تنجرف مع المنجرفين - أن تلزم بيتَها، وتُغلق الباب دونها ودون زوجها وولدها..؟!
أَوَ لم تعذرْ نفسَها بعنفوان الشباب ونشوة الصِبا.. وتتكئ على حجج الواهمين الداحضة؛ حين يبررون كل نزوةٍ بطيش المراهقة..؟!
رحماك ياربي..!
ما أسهل أن نعذر نفوسَنا..!
وما أيسر الأمر على الضعيف الواهن المهزوم؛ أن يكيل اللوم على من حوله.. أو ( ما ) حوله.. خاصةً إن ابتُلي الهارب بمحيطٍ ( قد ) يُبرر له التساهل أو الانجراف وراء ريح الأمر الواقع..!
وسيكون الشيطان حاضرًا ليمد النفس المتهوكة بالأعذار والمبررات.. فلا أحد أمهرٌ منه في في البحث عن مداخل يلجُ منها إلى القلوب الطيبة..
وإنما هي ( خطواتٌ ) تبدأ بالتبرير والتحجج.. ولربما انتهتْ بالانتكاس والارتكاس..!
ويوم يقوم الأشهاد.. يعلم العاذرُ نفسه بأعذار الأوهام أنه هو الخاسرُ الأول.. وأن الحصن إذا انهزم حراسُه وهُدمت أسواره؛ فإن العدو سيجتاز العقبة الأخيرة بيسرٍ.. فيتمكن من أغلى ما يملك الإنسان : دينه وإيمانه..!
* * * * * * *
نسخةٌ مع التحية والدعاء :
للقابضين على الجمر والقابضات.. ليثبتوا.. ويزداوا يقينًا بتأييد الله لمن استمسك بحبل الله..
ولليائسين من الواقع.. ليتفاءلوا.. وليعلموا أن اليأس لا يصنع شيئًا..!
وللأخوات المؤمنات.. ليعملن.. وليُدركن أن في أيديهن الكثير..!
همةٌ + فهم + تفاؤل + تخطيط + عمل 18 ألف بيتٍ.. يلهج بالدعاء..!
الآمال كالورود..
تُزهر بمياه الأمل.. وتذوي بجفاف اليأس والقنوط..!(1/114)
والنفوس المتفائلة وحدها هي التي تمضي نحو مرادها بثباتٍ ويقين.. وهدوء.. ، وهي التي يأنس من حولها بها، ويميلون إليها حين ادلهام الأفق بما لا يسر في ظاهره..
وبتلك القناعة المشرقة كانت نواةُ [ مستودع المدينة الخيري ].. كانت بخيمةٍ ذات عمود واحد.. وبهمة شخص واحد.. وبنشاط مقصورٍ على تفطير بعض الصائمين..!
* * * * *
البداية تبدو عادية مكرورة.. فما أكثر خيام التفطير وهي تنتشر في أماكن كثيرة من بلاد المسلمين.. لكن الفرق في الطموح المتفائل الذي كان يحمله الشيخ الدكتور يحيى اليحيى.. الطموح الذي يجعل الآمال تجاوز حيز الأحلام إلى العمل المتدرج الواقعي..!
وهو الفهم الواعي.. الذي جعل تلك الخيمة ذات العمود الواحد تتمدد بمساحتها لتصبح مستوعاتٍ ضخمة جدًا.. موزعة على 11 فرعًا وثمانية مندوبيات، تقدم خدماتها لأكثر من 18 ألف عائلة.. كل عائلة مكونة من عدد من الأفراد..!
إنه العمل الجاد المتدرج المدروس.. الذي يحوطه الأملُ من بداية التخطيط على الورق، ويُصاحبه التفاؤل أثناء الانتقال إلى العمل الجاد..
فخلال سنوات قلائل.. صارت تلك الخيمة الصغيرة مجرد قطعةٍ في إحدى مستودعات المشروع.. لكن المعاصرين لبدايات المشروع يعلمون أنها خيمةٌ مميزة.. خرج من رواقها المشروع كله..!
واليوم.. صار الشيخ الدكتور يحيى اليحيى يشرف على هذا المشروع.. ويلمس بنفسه حصادَ الجهد والجد اللذين بذلهما من أجله.. ويأنس بعاجل بشرى المؤمن.. الذي يُكرمه الله بجني ما رعى من زروع وخمائل حتى صارت أشجارا ذات ظلال ورافة.. يستظل بأفيائها آلاف المسلمين..!
* * * * *
وبشعار ( الفقير.. نعرفه ولا يعرفنا.. ونأتيه ولا يأتينا..!) ما عاد نشاط المستودع الخيري محصورًا في مجرد المساعدة المادية فحسب.. وإنما تجاوز ذلك إلى التأثير الدعوي التربوي في الناس الذين ينعمون بخدماته.. وصار نشاطه موزعًا على أبواب كثيرة :(1/115)
• بلغت فروع المستودع في المحافظات 6 فروع قائمة و5 فروع تحت الإنشاء بالإضافة إلى 8 مندوبية.
• وعدد الموظفين العاملين في المستودع 18 موظف.
• وعدد العمال والفنيين 52 عاملاً.
• و518 باحثاً اجتماعياً.
• عدد المتعاونات في القسم النسوي: 11 متعاونة.
• و 17,900 أسرة مستفيدة من المستودع في المدينة المنورة والمحافظات والقرى من الأيتام ، والأرامل ، والمطلقات ، عوائل السجناء ، والمرضى والفقراء والمساكين .
• و 300 أسرة تم تأهيلها وقد تحسن مستواها المعيشي .
• و795 شاحنة أثاث تم صرفه للأسر المستفيدة:580 شاحنة منها للمدينة المنورة ، و215 شاحنة للمحافظات والقرى .
• و 3,411 أسرة مستفيدة من صالة الكسوة في المدينة .
• و 8.450 أسرة مستفيدة من الكسوة في المحافظات القرى والهجر .
• و 1.790.000 وجبة قدمت لضيوف الرحمن في عام 1421ه.
• و 6,551,679 وجبة قدمت لضيوف الرحمن حتى الآن.
• و 140.000 وجبة إفطار قدمت للصائمين في رمضان عام 1421ه.
• و 4,256,501 وجبة إفطار قدمت للصائمين في رمضان حتى الآن.
• و 2.487 أسرة مستفيدة من المواد الغذائية شهرياً داخل المدينة المنورة .
• و 15.425 أسرة مستفيدة من المواد الغذائية موسمياً في المحافظات والقرى .
• و 8,500 حقيبة مدرسية تم توزيعها حتى الآن .
• و 22,731 بطانية جديدة تم توزيعها على الأسر المستفيدة .
• و 600 جهاز جديد من الأفران والغسالات والمكيفات تم توزيعها حتى الآن .
• و 800 شاب من أبناء الأسر المستفيدة استفادوا من مركزين صيفيين حتى عام1422ه.
[ وكل هذه أرقام قديمة نوعًا ما.. ! ]
* * * * *
أرأيتم.. كيف يتحول الحلم إلى واقع جميل مشرق.. بإخلاصٍ يعمر القلب.. وبشئ من التفاؤل.. وبكثيرٍ من التخطيط ثم العمل..؟!
انظروا هنا : http://www.alkhairi.com/
ــــــــــــــــــ
حبٌ لا يموت..!
قال الراوي.. ودمع الذكريات يتلألأ في ناظريه :(1/116)
** سأحدثكم عن صاحبي الذي رحل.. وبقيت ذكراه كما يبقى الندى على كفوف الورد بعد فجرٍ ضحوك..!
عرفتُه.. فعرفت أن للحق رجالاً لا يهابون إلا الله..
وأن أمتنا كالغيث.. لا يُدرى خيره في أوله أم في آخره..
وأن للبطولة شبابًا.. هم كأزاهير الأمل بين حقول اليأس..!
وأيقنت أن الجهاد مدرسةٌ.. معلموها أبطال أشاوس.. وكراريسها ميدان وقتال.. وأقلامها سلاح ورصاص..!
* * * * *
في تلك القرية التي تنام على سفح جبل أشم.. كانت أول مرةٍ التقينا فيها.. وفي تلك الليلة التي نقشت ذكرياتها في القلب كانت بداية حكايتي مع صاحبي..
كان المجاهدون ينتظرون الإشارة بالتحرك في المسيرة التي ستستمر ساعاتٍ طويلة.. والوقت يزحف ببطء كما تزحف كل لحظات الارتقاب.. والكل لا يريد أن ينام.. علّ الفجر أن يُعجل بقدومه لتبدأ المسيرة نحو المكان الذي يُنسى كل شئ ولا يُنسى طيفه وذكراه..!
** " أأنت عربي..؟! " .. قالها ( س . أ ) وتلك الابتسامة الساحرة ترتسم على شفتيه..
** " نعم.. ومن بلاد الحرمين..؟!"
** " الله أكبر.. إذن أنت تعرف الشيخ سعد الغامدي..؟!" ..
** " سبحان الله.. وهل تعرف الشيخ ؟! ".. قلتها مستعجبًا أن يصل ذكر قرائنا إلى تلك الجبال التي لا يكاد يُسمع فيها إلا دوي القنابل وأزيز ( السوخوي ) وعزف الرصاص..!
فأخرج من جيبه شريط كاسيت.. وقال لي مبتسمًا :
** " هذا هو الشيخ سعد.. عفوًا : أقصد صوت الشيخ سعد الغامدي "..
ثم نهض من عندي.. وذهب ليسامر أحد الإخوة..!
كان كالنحلة.. يطير من مكانٍ إلى مكان.. يُمازح هذا.. ويُداعب ذاك.. ويتعرف إلى ثالث.. حتى غفت العيون وهجعت الأجساد.. ونام كل الإخوة..
ظللت في مهجعي أستجدي النوم أن يأتي.. فلا يستجيب.. حاولت الخروج من البيت الصغير الذي كنا فيه.. فتذكرت أمر الأمير بعدم الخروج إطلاقًا إلا لأمرٍ مهمٍ.. وباحتياطات مشددة.. لأن المنطقة غير آمنة.. والوشاة كثيرون..(1/117)
التفتُ إلى فِراش ( س . أ ) فلم ألمحه هناك.. أين ذهب يا تُرى..؟! .. لا أظنه سيعصي الأمير وهو ساعده الأيمن..!
** " ... اللهم إني أسألك الشهادة.. اللهم احشرني من حواصل الطير وأفئدة السباع.. اللهم ...."!! .. تناهت إلى سمعي هذه الكلمات الهامسة المتضرعة الصادقة.. فالتفتُ صوبها.. لأرى طيفَ أحد الإخوة واقفًا يُصلي والناس نيام..!
دفعني الفضول إلى الذهاب إليه بعد انقضائه من الصلاة.. سألته.. ( كتو تام ) .. أي : من هناك..؟!
فأجابني صوتٌ تكرر على سمعي تلك الليلة كثيرا :
** " .. أهو أنت؟! .. أصلحك الله..!! " ..
لقد كان صوته هو.. صوت أخي ( س . أ ) ..!
ثم قال لي معاتبًا :
" .. نم .. نم يا ( ...... ) فإن أمامك مسيرة طويلة.. وتعبًا ناصبًا.. واترك عنك الفضول.. أما أنا؛ فسأنام الآن.. لأني قضيت وقتًا طويلاً في الخلاء بعد وجبة العشاء التي طبخها ( ....... ) !! "
علمتُ حينها أن ( س . أ ) نسيج وحده.. لا يطرب لثناء.. ولا ينتشي لمديح.. ولا يفرح أن يُحمد بما يفعل.. فضلا عما لم يفعل..!
** " حسنًا .. سأذهب ولكن لا تزعجني بذهابك إلى الخلاء مرة أخرى ..!! "..
وعدتُ إلى الفراش.. وغلبت عيني سنةٌ من النوم..
* * * * *
" ...بوم .. بوم .. بوم .. بوم .. " !!
.يا إلهي .. ما هذا..؟! .. هببت من فراشي مذعورًا.. كان دوي القنابل يصم الآذان.. والنوافذ تهتز من قوة الصوت.. وما بقي أحدٌ من الإخوة إلا استيقظ..
** " ... لا تخافوا.. إنها تبعد عنا كيلومترات كثيرة !! " .. قالها ( س . أ ) بكل هدوء وثبات..
وغشا المكان غلالةٌ من الصمت.. لا يقطعه غير دوي قصفٍ يتكرر بين لحظاتٍ وأخرى.. والإخوة قد اجتمعوا حول النافذة يقلبون وجوههم في السماء ليروا الطائرات التي تقصف.. فلا يرون سوى سوادٍ وعتمةٍ تغطي الكون..!
همستُ في أذنه :
** " .. على أي مكانٍ بالضبط تنزل تلك القذائف.. ؟! " ..
فابتسم وقال :(1/118)
** " .. على أي مكان..؟! .. على الكتيبة التي سنسير إليها غدًا إن شاء الله ..! "
** " .......... "
** " لقد نفذت الكتيبةُ عملية فجر اليوم.. وكالعادة؛ جُن جنون الروس.. وبدأو في القصف العشوائي.. لكن لا عليك.. كلها قذيفةٌ أو قذيفتان.. وجريحٌ أو جريحان.. وشهيدٌ أو شهيدان..!"
** " كان الله في عونهم..؟! " ..
فغمزني باسمًا .. وقال :
** " .. بل قل كان الله في عوننا.. لأننا سنكون معهم غدًا إن شاء الله .. "
* * * * *
وتنفس الصبحُ عن يومٍ لا يُنسى..
وبدأت المسيرة..
وبدأت معها صفحةٌ خالدة من رواية الأمل الباسم
هي ليست مجرد ذكريات.. بل هي نسماتُ الأمل التي تستروح النفس في أفيائها حين الهجير..
وهي بعض ما يعيش عليه الخاطرُ المكدود لئلا يقضي عليه الأسى..!
وهي..
هي أمشاجٌ من القلبِ.. وكفى..!
* * * * *
وسكت الراوي.. بعد وعدٍ منه أن يُكمل الحديث عن صاحبه وعن تلك الأيام..
وعن الحب الذي لا يموت ..!
[ والعهدة على الرواي.. ]
* * * * *
قال الراوي :
. .. وانطلقنا من القرية إلى المسيرة..
وكان حظي أن أكون مع المجموعة التي فيها ( س . أ ).. وكانت السيارة التي تقلنا تنهب الأرض نحو سفح الجيل الذي سنرتقي قمتَه نحو الكتيبة..
جلس هو في مقعد الراكب الأمامي.. وأنا خلف السائق.. فالتفتَ إلي وقال :
** " ... اسمع.. إن بدأ إطلاق النار فاتبعني..؟! "
** " .. إطلاق نار.. أي إطلاق وأي نار يا أخي.. نحن لم نصل إلى الكتيبة بعد..؟! "
فابتسم.. وقال :
** .. الجواب ما ترى لا ما تسمع ..! "
وفعلاً.. رأيت الجواب بأم عيني..! كان الطريق قبل وصولِنا إلى سفج الجبل محفوفًا بدبابات العدو وآلياته.. وآلياتهم تتناثر يمنة ويسرة.. وأولئك الأوغاد يشربون أقداح ( الفودكا ) وهم يعتلونها.. فكان لزامًا علينا أن نتأهب للمواجهة في أي لحظة.. وإن كنتُ أكاد أوقن أن الله قد جعل حينها من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا.. فأغشاهم فهم لا يُبصرون..!(1/119)
* * * * *
ووصلنا إلى السفح..
وكانت مجموعتنا في المقدمة.. الدليل.. ثم أحد الإخوة .. ثم أنا.. ثم صاحبي ( س . أ ).. ثم بقية الإخوة.. وبين كل واحدٍ وأخيه عشرة أمتار تقريبًا..
التعليمات كانت واضحة صارمة : ألا نُصدر أي صوتٍ مهما كان.. إلا حين نتوقف للراحة ونقترب من بعضنا البعض.. فكان صاحبي يشاكسني بين حين وآخر.. فيرمي علي حجرًا أو غصن شجرة.. وهو يُلوح بعلامة النصر.. ويتبسم..!
لم نكد نقطع بعض الطريق حتى تناهي إلينا صوتُ خطواتٍ سريعةٍ حولنا.. فتوقفنا.. وأشار إلينا صاحبي أن نجلس على الأرض.. وذهب هو ليستقصي الأمر..
كنتُ قلقًا عليه.. فأشرت إليه لأذهب معه.. فأبى.. ومضى وحده صوب الصوت.. وهو ممتشقٌ سلاحه الذي لا يُفارقه..
مرت دقيقتان أو ثلاث كأنها دهرٌ ترقبًا وتوجسًا.. ثم أقبل صاحبي وثغره يفتر عن ابتسامة وضيئة.. ويداه تشيران : ألا تقلقوا.. إنما هي خنازيرُ وحشية.. وكانت تملأ الجبال هُناك..!
وعُدنا إلى المسير.. وفلول الليل تلوح لنا من بعيد.. ونحن نسابق خيط الشمس قبل أن يتوارى خلف تلك القمم المكللة بالثلوج..
* * * * *
أعترف بأني كنتُ متعبًا وخائفًا.. فتلك أول مرةٍ أقطع فيها مثل تلك الجبال وفي مثل تلك الظروف.. لكنك حين تلمحُ عزم الإخوة وثباتهم فإنك تعود إلى نفسك وتتصاغرها أمام العزائم التي لا تنحني ولا تخور..!
حتى وصلنا إلى الكتيبة.. فتعالى التكبيرُ من الإخوة المرابطين على حراسة الكتيبة.. فرد عليهم الإخوة في المسيرة بالتسبيح.. ولاحت لنا خيام الإخوة ونيرانهم على ضفاف الجدول أسفل التبة العالية.. وحينها بحثت عن عيني صاحبي ( س . أ ) لأرى فيها ما كنتُ أتوقع منها في مثل هذه المواقف.. فما خاب ظني.. فقد رأيتُ دموعه تترقرق وهو يُعانق الإخوة في الكتيبة.. ويغالب العبرة التي تهز صدره هزًا..!(1/120)
ألقينا عن كواهلنا الحقائب التي كانت مملوءة بأمتعتنا وببعض الرشاشات والذخائر وبشئٍ من الطعام والمعلبات التي تحتاجها الكتيبة.. والتعبُ قد بلغ من مبلغه..
ثم جمعنا الأميرُ.. ووزع الإخوة إلى سرايا.. فكان صاحبي في سرية وأنا في أخرى..!
* * * * *
صلينا المغرب والعشاء جمع تقديم.. وأثناء الصلاة كان حس نشيج خاشعٍ يتعالى وصاحبه يحاول كتمانه قدر جهده.. ووالله إن حسَّه كان يُسمع من وراء الصفوف..!
لم أكن بحاجةٍ لأن أُكثر التفكير في معرفة صاحب البكاء.. فقد التفتُ صوب الصوت بعد انقضاء الصلاة فرأيت ما كنت أتوقع.. رأيت صاحبي ( س . أ )..
يا إلهي.. أي خشية تملك تملأ قلبه - أحسبه كذلك - .. وأي رقةٍ يحملها فؤاده الذي ينقلب صلدًا قويًا حين يُلاقي أعداء الله.. بل أي روحٍ تلك التي تمر عليها - فيما يظهر - كل فصول النفسيات في يوم واحد : رقةٌ .. فقوةٌ .. فرحمةٌ..
فشدة..؟!
* * * * *
قام الأمير بعد الصلاة ليُخبرنا بأن توزيع الحراسة الليلية من اختصاص مسؤولي السرايا.. ثم تفرق جمع الإخوة كلٌ يمضي إلى مخدعه..
وما كدتُ أضع رأسي على فراشي.. حتى جاءني مسؤول سريتنا ليخبرني أن دوري في الحراسة يكون بعد ساعتين..!
ولا تسل حينها عن شعور متعبٍ مكدودٍ في ظلامٍ دامس وبردٍ شديد.. وهو يتمنى لو دفع كل ما يملك مقابل ألا يتولى الحراسة في تلك الليلة بالذات..!
أما صاحبي فكان يمر على بعض الشباب.. يُذكر بقيام الليل.. ويُوصي بقراءة الورد.. ويُمازح ويُشاكس.. حتى جاء إلي.. فقال بعد فاصلٍ من المزاح والتلطيف :
** " ... متى دورك في الحراسة ..؟! "
** " .. بعد ساعتين ..!! " ..
** " أعانك الله .." ..
* * * * *
قال الراوي :
" ... وحل الظلامُ سريعًا.. وأحاط الكونَ برداءٍ من الهيبة والسكون.. واستسلمتُ لنومٍ عميق.. حتى أتى من يوقظني للحراسة الليلية..
يااااااالله.. ما أعجب الإنسان..!(1/121)
كم هو سهلٌ على النفس أن تبني قصورا من الخيال والأحلام.. وتُمضي وقتًا في الأماني والتطلعات.. وتحلق في آفاق الآمال الوردية..!
وما أيسر أن يتخيل الإنسان نفسَه حيثُ يحب.. ثم يمضي في تخيلاته وهو يدعو الله أن يُعجل باليوم الذي يكون فيه الخيال حقيقةً مُعاشة..!
فإذا ما تحقق الخيالُ ونيلت الأماني ودنا المأمول.. تكشف الأمرُ عن حقيقةٍ راسخة : أن الواقع مختلف عن المثال.. وأن أعباء الطموح شاقةٌ..
كانت هذه الخواطر تمر علي وأنا أخطو بتثاقل نحو مكان الحراسة الليلية.. وفي ذهني تلك الآمال التي كنتٌ أرسمها لعالم الجهاد والرباط، وأدعو الله أن يذيقني لذتها.. فمالنفسي تهاب وتخاف وهي تعيش أولى ليالي الأماني..؟!
لكنه الجهاد والرباط..!
ليس نشيدًا نترنم به ونحن مستلقون على فرشنا.. ولا شريطًا مرئيًا نقلب النظر فيه ونحن متكئون على الأرائك.. ولا أمنيةً يحلو للنفس العيش في أجوائها وهي متنعمة بين الأهل والأحباب..!
بل الأمر عزيزٌ.. وشديد..!
بردٌ وظلام.. وخوفٌ وجوع.. ومشقة ونصب.. فمن كان يظن أنه سيجاهد بلا ضريبة من تلك الضرائب فليقعد في بيت أهله.. وليملأ وسادته تحت رأسه..!
هذا هو الجهاد.. وذاك هو الرباط.. كالشهد لا يناله طالبُه من منبعه إلا بوخزاتٍ من الإبر المؤلمة..!
أما الشهادة.. فهي الاصطفاء الرباني.. وهي المنحةُ التي لا ينالها إلا الموفقون الصادقون..!
* * * * *
(1/15)
لا أدري كم مضى من الوقت وأنا في الحراسة الليلية متكئ على سلاحي.. وأنا لا أكاد أرى شيئًا.. ولا أسمع إلا حفيف الأوراق التي تعبث بها الريحُ الباردة.. حتى خُيل إلي أن هناك من يخطو قريبًا مني..
اللهم اجعله طارق خير..!
فككت تأمين الرشاش - كما هي التعليمات - ووجهته صوب القادم.. وهو يقترب مني رويدًا رويدًا.. حتى إذا ما ألقيت عليه كلمة السر وأنا متأهب لإطلاق الرصاص جاءني صوت صاحبي هادئًا واثقًا.. ينطق كلمة السر بهدوء واطمئنان..!
قلتُ له هامسًا :(1/122)
** " .. عفا الله عنك.. كدتُ أن أفرغ في جسدك هذا المشط كله ...!! "
فحاول كبت ضحكته وهو يقول :
** " .. مرة واحدة..؟! .. أنت شجاع جدًا ..! "
** " .. بل خائف والله.. ما كنتُ أحسبُ أن الحراسة الليلية هكذا مهابة..! "
** " .. لا عليك.. ستعتادُ صدقني.. كلنا كنا هكذا.. ثم أصبحت الحراسة أهون علينا من تنظيف (البيكا )..!.. المهم أن تكون منتبهًا ومتيقظًا.. لئلا يؤتى المجاهدون من قبلك.. وإياك والنوم أو النعاس.. ثم عليك بقراءة القرآن الكريم في سرِّك فإنه خير أنيس....! "
ومضى صاحبي ( س . أ ) في نصائحه وهمساته وحديثه.. حتى مضى من ساعة الحراسة نصفها.. ثم نهض من عندي وهو يقول لي :
** " .. عليك بالصبر واليقين.. أراك على خير ..! "
* * * * *
وفعلاً.. رأيته بعد أقل من ربع ساعة على خيرٍ - كما أحسب - ..!
إذ لم يكد يغادر من عندي إلى سريته.. حتى حلقت فوق المخيم مروحية عسكرية استكشافية.. ثم عادت بعد أربع دقائق وهي تنخفض إلى مستوى أقل من المرة الأولى..
هممت أن أوقظ الأمير ليأمر بما يُناسب.. فقد يكون إنزالاً.. وقد يكون ترصدًا.. لكن القصف سبقني.. وبدأ ( الحفل ) كما يحلو لصاحبي أن يسميه..!
كان قصفًا شديدًا جدًا.. فهبّ المجاهدون من فرشهم.. وصوت الأمير يجلجل في المكان : ( انتشااااااااار..! ).. وتجمع أكثر الإخوة في الخنادق.. وتسمرتُ في مكاني حائرًا..!
لم أكن أعرف المكان جيدًا بعد.. ولا أكاد أبصر شيئًا حولي.. والإخوة مشغولون بأنفسهم.. فاستلقيت على الأرض في مكاني.. ووجهي مدفونٌ بين ذراعي لئلا تصيبني الشظايا..!
حتى أحسست بكف تُمسك بكتفي وتهزني بعنف.. فرفعت رأسي على صوت صاحبي ( س . أ ) وهو يهتف :
** " .. أخي.. هيا بنا.. هيّا.. "
فأمسك بيدي وهو يجري نحو الخندق حتى وصلنا إليه.. فدفعني إلى داخله ثم لحق بي..(1/123)
لا أدري حقيقة كم استمر القصف تلك الليلة .. لكني أدري أنه كان عنيفًا ومُرهبًا.. فذُهلت عن من حولي وأنا منكفئ على نفسي أدعو الله بما تبقى في ذاكرتي من أدعية وأوراد..!
أما صاحبي فقد كان مشغولاً بأمرٍ عجيب..!
كان ممسكًا بجهاز التسجيل الصغير.. وهو يُخرجه بيده من الخندق..!!
* * * * *
وبعد انتهاء ( الحفل ) وعودة الأمور إلى الهدوء والسكون.. تبعتُ صاحبي لأسأله عما كان يفعل.. فوجدته مشغولا بتفقد الإخوة والجرحى.. حتى انتهى فقلتُ له :
** " ... أخي.. هل لي أن أسألك عما كنتُ تفعل بجهاز التسجيل والقنابل تنزل علينا كالمطر..؟! "
قال وهو يُشير بيديه بغير المبالاة :
** " .. وهل يهمك الأمر ..؟! "
** " .. بالتأكيد.. ! "
** " .. كنتُ أسجل صوت القصف والقنابل.. حتى إذا ما جاء الشتاء أنستُ بتلك الأصوات والذكريات ..!! " ..
** " .......... "
* * * * *
ما كان صاحبي بحديث عهدٍ بجراح ولا بآلام..!
فذات شجاعة..
كان الأمير ينتقي من الكتيبة مجموعةً للترصد.. فاختار خمسةً منهم صاحبي ( س .أ ) .. فمضت المجموعة باكرًا تسابق خيوط الشمس.. وسرنا معهم نودعهم كما هي العادة في كل عملية.. بل في كل ليلة.. حين يسلم الإخوة بعضهم على بعض سلام مودع.. فقد تكون آخر العهد بالصحاب..!
وتوارت المجموعة خلف تلك التبة الصغيرة جهة الشمال..
وبعد قرابة الساعتين تناهي إلى سمعنا صوت زخاتٍ من الرصاص.. وكان منها صوت سلاح لا يملك الإخوة في مجموعة الترصد مثله..!
وبدا القلقُ على وجه الأمير من انقطاع المخابرة بيننا وبينهم.. ودوي الرصاص يتعالى ويستمر.. حتى استحال إلى طلقاتٍ متقطعة.. ثم خفت الصوت تمامًا..!
وبعد قرابة الدقيقتين اتصل قائد المجموعة يطلب إمدادًا من الكتيبة.. فذهب الأميرُ ومعه نخبةٌ من الكوادر المتمرسة..
وطال غيابهم..!(1/124)
ثم أبصرناهم يمشون إلينا.. وعيوننا تسابق خطاهم لنطمئن عليهم.. فإذ بالخمسة يأتون كلهم عدا واحد.. لكنه ليس كأي " واحد " .. إنه صاحبي ( س . أ ) ..!
انطلقتُ إلى الأمير أستفسر منه عن الخبر.. فأخبرني أن المجموعة وقعت في كمين.. وأن أخانا صاحبي ( س . أ ) قد أُصيب بعيارات نارية، أصاب واحدٌ منها صدره من الجهة اليسرى، وخرج من ظهره..!
قلتُ بانفعال :
** " .. وهل استشهد..؟! "
فقال الأمير وهو يلتقط أنفاسه :
** " .... حتى الآن.. لا ..!
** " ..........
** .. وإن حدث ذلك فهي أمنيته فلا تأسَ عليه.. فهو على الأقل قد صرع اثنين من الروس..
المهم لدينا الآن أن نغير مكان المخيم في أسرع وقت لئلا يُباغتنا الروس..! " ..
وبقيتُ أصارع حزني بغيابه.. ونحن نيمم وجوهنا شطر المكان الجديد.. ومع مسيرة جديدة..!
* * * * *
وبعد أقل من أسبوع..
كان أخي وصاحبي ( س . أ ) يتصل بالمخابرة ليستئذن الأمير في الإياب.. فهو - كما يقول - قد تماثل للشفاء..!
الله أكبر..!
ما أقوى عزمك يا صاحبي وما أشد بأسك.. غيرك يعذر نفسه بأوهام، وأنت تَعدُّ جرحًا غائرًا أعلى قلبك من الجراح اليسيرة..!
وما أروع الدرس ( العملي ) الذي علمته لنا، وأنت تستجدي الأمير أن يأذن لك وأنت جريح، في الوقت الذي نستسلم فيه للإخلاد إلى الأرض والركون إلى الدنيا ونحن أصحاء أقوياء..!
وما أجمل الأمل الذي نستلهمه منك ومن أمثالك.. حين تدهمنا فلول اليأس الموهن..!
* * * * *
ومرت الأيام.. وفارقتُ صاحبي إجبارًا لا اختيارًا.. لكن أرواحنا لم تفترق.. أسأل عنه ويسأل عني.. وأدعو له ويدعو لي.. فليست الإخوةُ مجرد علاقة فحسب.. بل هي علاقة روحية راقية.. تسمو بنا إلى درجاتٍ من الصفاء والحب لا يبلغها إلا من ذاق طعم الأخوة.. واستظل بأفيائها..
وفي رمضان من هذا العام 1424 ، بلغني خبرُ استشهاد صاحبي - أحسبه شهيدًا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا - ..(1/125)
كان صائمًا مرابطًا مجاهدًا.. حتى أتاه ما يتمنى.. في قرية صغيرة.. وبعد معركة ضارية مع قوات الأمون الروسية جندل فيها كافرًا وأصاب آخر.. حتى نالوا منه ما كان يهون عليه في ذات الله : روحه الطاهرة..!
فرحمة الله عليك أخي ( س . أ ).. فقد كنتَ زهرةَ من أزاهير الأمل.. تتعالى وسط حقول اليأس..!
وتقبلك الله في عداد الشهداء..
وألحقني - وألحق كل من يسمع بأمرك - بك وبالشهداء.. مقبلين غير مدبرين..!
--------------------------------------------------------------------------------
[ إلى ذكرى أخي أبي معاذ.. وفاءً لدمائك التي سالت، لتسقي جدب عزائمنا، وقحط أخوتنا ..!]
ثمة صورةٌ تخيلية - أحسبها - مكرورة عند كثير من شباب الصحوة الحيارى، وهم يُبصرون ( الفصام ) النكد الزائف بين التربية وأهلها، والجهادِ وأهله :
أتخيل أحدَنا يُمسك حيرانَ، بوردة مجتزةٍ من غصنها..
ويشرع في قطع خمائلها.. واحدةً.. واحدة.. واحدة :
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
آخر خميلة :
دعوة و تربية..
هكذا إذن ..!
فالدعوة و التربية أولى وأحرى..!!
ويُمسك حيرانُ آخر بوردة أخرى، فينتهي قطع الخمائل على خميلة : الإعداد والجهاد..
ليقول لنفسه : فالإعداد والجهاد أجدر وأولى..!
هاته هي الصورة المؤلمة المكرورة..
وهذا هو ( الفِصام ) الزائف، الذي يُخيل إلينا من نزغ الشيطان أنه حقيقة واقعة، وأن الجهاد والتربية سيفان لا يجتمعان في غمد، وقلبان لا يلتقيان في جوف..!
* * * * * * *
لو سألنا ( نظريًا ) أيًا ممن يتبنى أحد الرأيين، وقلنا له :
يا أخي.. أليس الجهاد والتربية وجهين لعملة واحدة..؟!
سيكون الجواب جزمًا :
بلى ..
لكن ( بلى ) هذه، تظل - غالبًا - مجرد ثلاثة أحرف تطير في الجو، أو تُسطر على الورق..
وتبقى - على قصرها - بعيدةً عن طرائق التربية العملية..
وغائبةً عن طرح شباب الجهاد الملموس..(1/126)
وعندما رحلتَ أخي أبا معاذ..
ما كنتُ تبصر تهوينًا من شأن الدعوة والتربية، ولا وصمًا لكل مُنشغلٍ بها بالقعود والتخذيل و ( الانبطاح )..!
وما كنتُ تسمع تمييعًا لمفهوم الجهاد، ولا صرفًا لنصوص الجهاد والقتال إلى جهاد النفس، وجهاد الكلمة، وجهاد الرأي..
بل أدركت الصحوة وهي بفطرتها ونقائها وصفائها، وقادتُها يربّون فينا الحقيقة التي عليها نشأتَ أنت وأمثالك.. الحقيقة التي شعارها :
~~ أن الجهاد من أعظم طرائق التربية، ومن أكبر وسائل الدعوة..؟!
~~ وأن التربيةَ هي المحضن الذي يُنبت لنا قادةَ الجهاد الواعين الأبطال، والدعوةَ هي المنجم الذي يُخرج للأمة خيار " معادن " المجاهدين..؟!
* * * * * * *
لقد كان ذاك هو الفهمَ البدهي البدائي السائد في أوساط الصحوة، وهو الذي خرَّجك يا أخي أبا معاذ..!
نعم..
كان هُناك اختلافٌ في وجهات النظر بين الفريقين، لكنه اختلافُ تنوع، لا اختلاف تضاد..
وكل فريقٍ يدعو لأخيه ويذكره بالخير، ويذب عن عرضه..!
وكان الذين ربّوك يقولون : لقد رحل ( المُجاهد ).. ولنعم الراحل هو..!
وكان الشباب في الثغور يقولون : هكذا تكون ( محاضن التربية، وحلقات تحفيظ القرآن، والمراكز الصيفية )، منابتَ ينمو فيها العلماء والمربون والمجاهدون..!
كان يا ما كان..!
كان يا ما كان..!
وكأنها أسطورةٌ من التراث، يرويها شيخٌ كبيرٌ لأحفاده ليتسلوا بها، ويُحلقوا معها في جو الخيال..!
* * * * * * *
أبا معاذ..
ليست هذه سيرةً أُسجل فيها تفاصيل حياتك، وقصة رحيلك، ويوم استشهادك..
لأن سيرتك الحقيقة هي التي تبقى في القلوب، وترفع الهمم، ويقتدي بها المُقتدون.. وإن لم تُكتب..!
ولا هي حروفًا.. أبكي فيها أطلالَ ذكرياتٍ، لم تندرس معالمُها بعدُ..
وهل ييكى الأطلالَ من كان يعيش في أرجائها..؟!
ولا هي سطورًا.. أرثي فيها أيام الصحوة الخوالي..
وهل يُرثى من كان حيًا يتنفس..؟!
ولا هي " لومًا " لهؤلاء، ولا " تقريعًا " لأولئك..(1/127)
فما هم إلا إخوانٌ لي وأحبةٌ لقلبي :
" وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ .......... جاءت محاسنه بألف شفيعٍ ! "
ولا هي - فيما أبصر وأرى - مُبالغةً ولا تهويلاً..
لأن الواقع ناطقٌ بما أقولُ، وإن أطلت بعض الاستثناءات هُنا وهناك..!
إنما هي ..
هي.....
لستُ أدري والله ما هي..!
قد تكون محاولة لنفض بعض الغبار عن ( الأخوة ) التي لن تنفصم عُراها، وإن شابها ما يشوب الإخوة الخُلطاء .. ورغبةٌ خجلى في لفت الأنظار إلى بصيص ( الأمل ) الذي يبزغ من خلف الركام..
لكن الشئ الذي أعرفه يقينًا.. أنها" خطراتٌ " ظلت حبيسةَ الذهن أمدًا..
حتى إذا ما أتى خبرُ استشهادك - أحسبُك كذلك - قبل البارحة؛ انسابتْ هاته الخطراتُ وتحدرت..
فقد التقى الهمُّ على أمرٍ قد قُدر..
أبا معاذ :
البارحة..
في بيت العزاء..
كانت كل زاويةٍ ناطقةً بذكراك..!
النخلةُ المائلة التي طالما استلقيت في ظلها، وأنت تترنم بآيات الله..
والملحقُ الخارجي الذي كان صومعةً تفر إليها من وعثاء الحياة اللاهثة..
والفناء الذي ذرعته في طفولتك ذهابًا وإيابًا..!
مكتبتُك..
دفاترُك..!
أكاد ألمح طيفك البسّامَ عند عتبة الباب، وأنت تنتظرني لنصطحب سويًا إلى حلقة تحفيظ القرآن الكريم..
حلقة تحفيظ القرآن.. أتذكرها.. ؟!!
إنها ما زالت تذكر أيامَك ونشاطك..
ومازالت تلك السارية التي تهواها تتوق إلى اتكاءة ظهرك النحيل..
ومصحفك الأخضر لم يبرح سيارتي من يوم رحيلك.. أناجي حروف اسمك المنقوشة على طرَّته..
وبواكير الصباح تُذكرني قدومك ماشيًا إلى المسجد، لنجلس معًا نتذاكر كتاب الله..!
* * * * * * *
البارحة.. في بيت العزاء..
تذكرتُ - والذكرى مؤرقةٌ - يومَ رحيلك..!
حينما هاتفتني تطلب مني اللقاء.. فأتيتُك وقلبي يُحدثني أنك فاعلٌ ما عزمتَ عليه لا محالة.. وأنك مُحققٌ مناك الذي كبرت وكبر معك : أن ترحل إلى أرض الجهاد في الشيشان..
يومها..
حاولتُ اصطناع التجلد والاصطبار..(1/128)
وحبستُ الدمع في المآقي؛ لئلا أخذلك وأنت قد شددت الرحال..
ففضحتني حمرةُ العين، ورعشةُ الشفاه، ووجيبُ القلب..!
لم أشأ أن أطفئ جذوة حماسك بتخذيلك أو ردك عن مقصدك.. ولا رأيتُ أن أسدي لك الكلمات التي يحسبها المربون ستصد المتعلق بالجهاد.. وهي - على الحقيقة - تزيد الجذوة ضرامًا..!
فقد تناقشنا قبلُ حول أمر ذهابك للجهاد كثيرًا..
وعلمتُ أن مثلَك سيرحل ولو حبوًا..
فما كان يليقُ بي - وأنا الذي أزعم أني أسهمتُ في تربيتك يومًا - أن أقف أمامك، أو أوهن عزمك..
وإنما حاولتُ إعطاءك ما أحسب أنه سيفيدك ويُفيد الإخوة هُناك، وشددتُ من أزرك، وحمَّلتُك أمانة إيصال زكاة علمك وتربيتك لأهل الثغور..
دينًا أدين الله به.. ورأيًا أراه هو الصواب..
وهل تحجب السيلَ الهادرَ سدودٌ من ورق..؟!
* * * * * * *
أبا معاذ..
أتراك تردد في غيابك هذا البيت :
" لأعرفنّك بعد الموت تندبني................. وفي حياتيَ ما زودتني زادي.."
أتُراك تتمثل هذا البيت، وأنت راحلٌ إلى مُرادك.. وقد بلغك ما تنضح به ساحات الصحوة من اضطرابٍ وانقلاب موازين..؟!
لا يهمني - صدقني - ما سمعتَ من " بعض " قادة صحوتنا وهم يُميعون قضية الجهاد والإعداد، ويصمون من تتوق نفسه إليه بالتهور والتعجل والافتيات على الأمة..!
لأنك قد تكون سمعتَ من " بعض " قادة الجهاد من يسوم أهل التربية والدعوة سوءَ الظن، ويرميهم بالقعود والتخذيل والركون إلى الدنيا..!
وقد نزغ الشيطان بين الفريقين، ولبَّس عليهم الأمور، فخُيل إليهم أن الورمَ هو المرض، وما علموا أنه مجرد " ظاهرة " للمرض الساري في الجسد منذ أمد، فجاءت الأحداث الأخيرة لتكون الشوكة التي نكأت الورم، فانبجس منه قيحُ الفتنة وصديدُ الفُرقة..!
لا يهمني أبا معاذ شيئًا من ذلك، لأني ألمح خلف ركام الشتات والاختلاف بصيصًا من أملٍ واعد، واجتماعٍ مُحبب..(1/129)
ولأن العواصف ستهدأ حتمًا، والزوابعَ ستسكن يومًا.. وسيذهب الزبد جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس..
لذا؛ لا يهمني ذلك كله، كما يُهمني ألا تتمثل هذا البيت وأنت تتصور حالي معك..!
إن مجرد تخيل رحيلك وأنت تحمل في قلبك عتابًا علي، يُحيل نبضات قلبي إلى سهامٍ ترمي الفؤاد، لا ترحمُ ولا تني..!
فعُذرًا - لو أجدى العذرُ - عُذرًا.. إن كنتُ قد قصرتُ في حقك وأنت بين يدي..
وعُذرًا - أيها الراحل - عن مخاصمتي إياك في أمرٍ لا يستحق الخصامَ ولا اللدد، لو تمعَّنتُ فيه لبكيتُ ألمًا، وشر البلية ما يُبكي..!
وعُذرًا- أيها الحبيبُ - .. إن كنتُ قد هجرتُك إثر موقفٍ تافهٍ، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما التفتُ إليه..!
لو..؟!
لو..؟!
وهل تفتح ( لو ) إلا عمل الشيطان..؟!
* * * * * * *
يا صاحبي الذي مضى..
هذه آفةٌ ( أخوية ) مستشرية :
نتجادل ونتخاصم ونتهاجرُ في أمورٍ هي من سفاسف الأمور..
حتى إذا ما رحل أخي، أو غاب، أو مات.. عُدتُ إلى نفسي؛ أبكي على ما سلفَ منّي وبدر..!
وأشعر نحو أخٍ لي بمشاعر الحب الصادق في الله، فتظل تلك المشاعرُ حبيسةَ الأضلاع، أحسبها " ميوعةٌ " لا تليق بالرجال..!
حتى إذا ما رُزئتُ بفقد أخي.. ظللتُ أردد : ليت أني أراه لحظةً واحدة، لأبوح له بحبي وودي وإخائي..!
فكيف بي والأخ الذي ضننت عليه بأخوتي هو أنت..؟!
وكيف بالأعذار وهي ترتد إلي كليلة حسيرة، وتقول لي : ليت أنك بكرّت قليلا، فقد رحل من تعتذر إليه..!
" ( ليتَ ).. وهل تنفع شيئًا ليتُ ..؟! "
* * * * * * *
سقى الله سفوح ( فيدنو ) التي طالما حرثت أرضها جهادًا وبطولةً وفداءً..
ورحمك الله أبا معاذ.. وتقبلك في الشهداء.. وأكثر من أمثالك الناثرين بذور الأمل في حقول اليأس
وألحقنا بك وبالشهداء مقبلين غير مُدبرين..
اللهم - يا رحمن يا رحيم - اجبر مصاب والديك وأحبابك.
واربط على قلبي الموعوك..!
ياااارب..
وكتبه الباتك
شبكة الفوائد الإسلامية(1/130)
ــــــــــــــــــ
يا له من دين لو كان له رجال
سلطان بن عبدالله العمري
دين عزيز
دين عظيم
يكفي أن الله اختاره لنا ( إن الدين عند الله الإسلام )
ورضيه لنا (ورضيت لكم الإسلام دينا )
كل الرسل جاؤا بالدعوة إليه
دين يربط المخلوق بالخالق
فيه يتصل العبد الفقير بالرب الغني
فيه سعادة الروح
وطمأنينة القلب
فأين الناس؟؟
يدعو إلى جميل الأخلاق
وأجمل الآداب
يتربى في ظلاله على التعلق بالله تعالى
من تمسك به فهو على نور من ربه
ومن أعرض عنه فهو في ضلال عظيم
وجد لذة التمسك به عباد صادقين
فهل تعرف بلال؟؟
وسلمان
وصهيب
والزبير
والبخاري
ومسلم
وسائر البشرية
الصحابة من أجله سالت دمائهم في كل مكان
يولد الواحد في المدينة
ويقتل على أسوار القسطنطينية
وأمام أسوار الصين
فيا له من دين لو كان له رجال
من أجله صبر العلماء والأولياء على أنواع من البلاء
فذاقوا آلآم ولكن من المحن يخرج الرجال
ومن التمحيص تكون الترقية في مدارج العبودية
يجلد ابن حنبل ويسجن ابن تيمية
فيا له من دين لو له رجال
الشهداء من أجله هجروا كل شيء
باعوا نفوسهم واشترى الله
تقطعت لأجله أبدان
ونزفت لأجله جروح
ودمعت له عيون
فيا له من دين لو كان له رجال
في فلسطين صيحات
وفي الشيشان حسرات
وفي أندونسيا جراحات
وفي البوسنة آهات
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطيرمقصوصا جناحاه
دموع المسلمين تسيل في كل بلد
والجراحات تنزف تحت كل سماء
وفوق كل أرض
فأين الرجال؟؟
عدد المنصرين في العالم (7000,000) سبعة ملايين
فكم هم الدعاة ؟؟
أين الرجال؟
بين الغابات تذهب فتيات من أوربا وفرنسا
لكي يمارسوا مهمة التنصير
وهن نساء
فأين الرجال؟؟
نساء يصبرن على الحرارة والأمراض
في أدغال أفريقيا
ونبحث عن الرجال
ولا رجال
إلا القليل
فياله من دين لو كان له رجال
ــــــــــــــــــ
الهمة والرغبة في النجاح !!(1/131)
هل سمعتم بقصة الشاب الصيني الذي ذهب لرجل كبير في السن سائلا إياه مفتاح النجاح فأحضر الرجل العجوز إناء به ماء فاستغرب الشاب وقال له العجوز أنظر إلى الإناء ماذا ترى؟ فنظر الشاب إلى الإناء وإذا بالعجوز يمسك برأس الشاب ويغمره في الماء فحاول الشاب المقاومة
فأقبض الرجل العجوز بقوه أكبر ولكن الشاب قاوم بشده واخرج رأسه من الماء فأستغرب الشاب من تصرف هذا العجوز فقال له العجوز هل رأيت مدى حاجتك للهواء فقال الشاب: نعم قال العجوز : هكذا النجاح لا بد أن تطلبه كطلبك للهواء.
إذا وصلت رغبتك في الحصول إلى الحكمة درجة رغبتك في الحصول على الحياة في لحظة الغرق ستحصل على الحكمة . (سقراط)
كيف تحكم أن هذا الشيء غير ممكن ؟ الجواب: جرب
" لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها ". (أثر )
لقد فشل أديسون مئات المرات قبل أن يكتشف ضوء المصباح الكهربائي
وهنري فورد أصيب بالإفلاس خمس مرات قبل أن ينجح في اختراع سيارته
ولقد تم رفض كولونيل ساندروس من قبل أكثر من ألف مطعم قبل أن يزدهر بوجبة كنتاكي الشهيرة
ولقد سطر لنا التاريخ بأحرف من ذهب نماذج مشرقه لصنّاع النجاح وروّاده:
فها هو عمر بن عبد العزيز يبنى دولة إسلامية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً،فأمن الناس على أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وأموالهم ، وعزوا فلم يجرؤ أحد على إذلالهم، وفاض المال حتى لم يجدوا من يأخذه وكل ذلك في سنتين لا غير!!
وقد فر عبدالرحمن الداخل ليشيد ملكا في قعر بلاد النصارى فكانت الدولة الاموية في الاندلس ، واقام حضارة إسلامية دامت قرونا طويلة، أخرج الله بها الغرب من ظلمات جهلهم إلى علم سادوا اليوم به الدنيا.
وها هو صلاح الدين الأيوب يدخل بيت المقدس، فيكسر الصليب، ويرفع راية التوحيد، ويحدث نجاحا عجز أكثر من ألف مليون مسلم أن يحدثوه اليوم!!
وليكن نشيدك في ذلك نشيد المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم(1/132)
فطعم الموت في أمر صغير *** كطعم الموت في أمر عظيم
ــــــــــــــــــ
رسالة إلى داعية تعب في دعوته ثم كسل فقعد عن أمته
أخي الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
قد أوجب الله علينا جميعاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا نجاة لنا من الخسر إلا بهذا، ومن هنا جاءت هذه الرسالة.
* إن مما يراه المرء في هذا الزمن - زمن الفتن من شبهةٍ، أو شهوةٍ، أو بدعة - يرى بعضاً من الدعاة إلى الله_ تعالى_ يصول ويجول في دعوته إلى الحق، ويحرص على هداية الناس ما يترك شاذةً ولا فاذةً إلا عملها أو شارك فيها؛ حرصاً على اكتساب الأجر واغتنام الفضل، ينعصر قلبه حرقة لهذا الدين القويم، ويتألم إذا أهين عباد الله المتقون، وتمضي به السنون وهو على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم.
* ثم.. ثم بعد هذا النشاط يدب الفتور والبرود إليه، ويتخلى عن دعوته، لا انتكاساً ولكن تقاعداً وانشغالاً بالولد والرزق وكثرة الارتباط_كما يزعم_ ظاناً أنه صاحب الفضل على هذه الدعوة وأهلها،وأنه سيفتح المجال لغيره، أما هو فقد بلغ في نظره من الكِبَر عتياً، مقتصراً على الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة التي عملها من قبل إن كان مخلصاً نقياً.
* وبعد هذا الانقطاع يرى أنه سينعكف على تربية أولاده وبناء نفسه التي في نظره أنه أهملها كثيراً من خلال ما تقدم من سنوات في دعوته.
* وبعد ذلك يبدأ نشيطاً في برنامجه الجديد مصمماً السير على منهجه الذي وضعه لنفسه، وبعد حين يتوسع في المباح وتتزعزع تلك المبادئ الشرعية التي لا يمكن أن يفتح المجال للكلام والخوض فيها في عز دعوته،حتى إن البعض منهم ما بينه وبين الانتكاس إلا ما هو أقل من خيط بيت العنكبوت.(1/133)
* إن المرء ليحزن قلبه ويضيق صدره حينما يرى ويشاهد أعداء هذا الدين وقد عكفوا على محاولة هدم هذا الدين وإفساد أخلاق أهله ليل نهار،ويعجب من صبرهم وجَلَدهم على باطلهم، بينما صاحب الحق والدعوة الناصعة والحجة البينة الواضحة قد تقاعس في دعوته وبخل على أمته في أشد ما تكون حاجتها إليه.
* إن على المرء المؤمن أن يسأل نفسه ماذا قدمت لهذا الدين،وخدمة عباد الله المؤمنين أمام هذا السيل الجارف من الفساد في العقائد والأخلاق.
* لقد كان أهل العلم قبل سنوات ليست بالكثيرة يحذّرون الأمة من التلفاز وخطره على الأولاد والأخلاق، ثم جاء الكفار بما هو أشد خطراً وأعظم أثراً وهو الفيديو، جاءت بعده الأطباق الفضائية،ثم أنتج هؤلاء الأعداء المعتدون الإنترنت بشره وخيره...،هكذا.. فهم ماضون في محاولة هدم هذا الدين وتغيير أخلاق أهله.. إنهم يفكرون ثم ينتجون ما يخدم أهدافهم، وينتجون ما هو أشد فتكاً وأسرع خطراً على هذا الدين وأهله.
* لقد بخل هذا الداعية على أمته بشيء من عمله اليسير وجُهده القليل بينما هي قدمت له الشيء والشيء الكثير.
* كيف يبخل ويقعد عن أمته ونصرتها بعد أن ذاق حلاوة الدعوة إلى الله، ولذة الحرص على هداية عباد الله ؟ كيف يقعد عن الدعوة مَنْ يرى أمته تهوي في مكانٍ سحيق وتقرب من عذاب الله الأليم ، وهو متبلد الإحساس، فاقد الضمير،لا يأمر ولا ينهى،ولا يدل ولا يرشد، همه جيبه ومصلحته، غايته هندامه ومركبه، قرة عينه ولده وزوجه ؟؟! أما أمته التي غُزيت من كل جانب فقد خذلها في أشد ما تكون حاجتها إليه.
* لقد نسي هذا القاعد عن دعوته أو تناسى أن دين الله وإن حدث له ما حدث فإنّ النهاية له، والنصر حليفه حقاً ويقيناً لا مرية فيه، فهذا الدين لا ينتظره لينصره فنصره ليس واقفاً عليه،ولكن لهذا المرء الشرف والعزة والرفعة أن يكون من المشاركين في نصرة هذا الدين.(1/134)
* إن مشاركة الإنسان لنصر الأمة ليس متوقفاً في حلقةٍ أو مكتبةٍ بل كل مجالٍ للخير فهو مشاركة للأمة في نصرتها مهما كان وأينما حل وصار، فالحرص على هداية الأهل والأقارب أو الجيران وأبنائهم أو الزملاء والأصدقاء أو العمال والجاليات أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها هي من طرق الدعوة وسبلها الكثيرة والكثيرة جداً.
* ليت الذي تكاثر عمله وجهده يقارنه بعلماء الأمة العاملين ليعلم ضآلة عمله وقلة جهده، فمنذ أن كان في بطن أمه أو ظهر أبيه كان هؤلاء يدعون إلى الله_تعالى_ولا زالوا حتى الآن إنهم لم يملوا ولم يكلوا، بل ليس هناك سبيل في المشاركة في أي عمل إلا أسهموا بسهمهم وأدلوا بدلوهم، إنهم يحملون همَّ الإصلاح ويستشعرون عِظَم المسؤولية مع كثرة أعمالهم،وزحمة أشغالهم،وكبر سنهم،وقلة صحتهم، ومع ذلك فهم يسألون الله الثبات حتى الممات على هذا الدرب القويم.
* ليت الذي قعد عن دعوته يدخل أحد المقاهي المنتشرة لينظر بأم عينه همة شباب المسلمين وقد عكفوا على فيلم فاضح وصوَّبوا النظر إلى وجهٍ داعر، وأعجبوا بمغنٍ فاسق.
* ليت الذي زهد في دعوته يدخل أحد أسواق المسلمين لينظر كيف أصبح الحجاب الشرعي غريباً وحل محله كل موضة وصرخة جديدة.
* ليت الذي تكاسل عن دعوته يقرب من شباب المسلمين لينظر فيم يفكرون أو يتكلمون.
قال شيخٌ كريمٌ وداعيةٌ مشهور:
لئن كنَّا نعطي الدعوة جزءاً من وقتنا ، فيجب أن نعطيها الآن أضعاف تلك الأوقات، وذلك لقلة العاملين وكثرة المتكاسلين والمرجفين بل والقاعدين.
أخي الداعية:(1/135)
امضِ في طريقك غير ملتفتٍ لصيحات المخذلين والراضين بالدون من العمل، واعلم أنك على ثغر من ثغور هذا الدين، فالله الله لا يُؤتينَّ الإسلام من قِبَلِك،فجدِّد الأسلوب وغيِّر الطريقة، ونوِّع الطرح،وحذِّر من الفتن، وركِّز على مراقبة الله في السر والعلن، والجدية في الالتزام، فنحن لسنا بحاجة إلى كثرة عدد وقلة عمل، وإياك ثم إياك أن تحتقر أحداً من المدعوين فربَّ إنسان احتقرته ثم أهملته ولو التزم لنفع الله به الأمة.
أخي الكريم:
إن الداعية إلى الله_تعالى_ينبغي ألا يفوّت على نفسه فرصة للدعوة إذا سنحت له إلا وقد استغلها، يلقي خلالها كلمة ولا يحتقرها،فربما وقعت في قلبٍ خاوٍ تائهٍ فغيّرت المسار وحُطَّ عنك بها الأوزار وأرضت العزيز الجبار.
أخي:
إننا معشر الدعاة إلى الله_تعالى _حمل رسالة في هذه الحياة وفي أعناقنا أمانة يجب أن نؤديها كما أمر الله، فضع يدك في أيدينا، وضم صوتك إلى أصواتنا، ننادي بالخير وندعوا إلى السعادة، نُرشد إلى الهداية، ونُحذر من الضلالة.
ثبتنا الله وإياك على دينه حتى يأتينا اليقين، وإلى لقاءٍ في عليين، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، وصلى الله وسلم وبارك على خير الداعين والعاملين لهذا الدين محمد بن عبد الله_عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم_.
المصدر : شبكة الفوائد الإسلامية
ــــــــــــــــــ
الإيجابية
الدكتور علي بن عمر بادحدح
إن الإيجابية بالنسبة للداعية هي الطاقة التي تشحذ الهمة، وتذكي الطموح،وبالتالي تدفع إلى البذل والعمل، وانتهاز الفرص، واستثمار الواقع، وهي الحقيقة التي تجعل الدعوة محوراً للحياة، يتعلق بها القلب، وتتشوق إليها النفس، ولأجلها تحشد الطاقات ، وفي سبيلها تسخر الإمكانيات.
إن الإيجابية عمل يمنع الكسل، وحيوية تقصي السلبية، وانتشار لا يقبل الانحسار، إنها عطاء ليس له حدود، وارتقاء فوق كل السدود، ومبادرة لا تكبلها القيود.(1/136)
وعجباً لأقوام ينامون ملء جفونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ويخلدون إلى الراحة، ويحبون السكون والدعة، ويبحثون عن المتعة والرفه، ثم يقولون : إنهم دعاة ! فهل يرتقب من مثل هؤلاء تعويض ما فات، وتحقيق المنجزات ؟ وهل يظن بأن مثلهم تعقد عليهم الآمال وتناط بهم المهمات ؟.
الإيجابية دافع نفسي واقتناع عقلي وجهد بدني لا يكتفي بتنفيذ التكليف بل يتجاوز إلى المبادرة في طلبه أو البحث عنه، ويزيد على مجرد الأداء الإتقان فيه، بل يضيف إلى العمل المتقن روحاً وحيوية تعطي للعمل تأثيره وفعاليته، دون أن يخالطه جفاف أو جفاء أو تبرم أو استثقال .
واللغة تسعفنا ، إذ تعطينا معاجمها دلالة الإلزام والتحمل في معنى الإيجاب " أوجبه إيجاباً أي لزم وألزمه" [ لسان العرب 1/793 ]،والإيجاب - كما في التعريفات ص 59- " إيقاع النسبة "، والمراد أن ما ينسب إلى أمر أو شيء بالإيجاب ؛ فإنه يقع، وهو - أي الإيجاب - " أقوى من الاقتضاء " لأن دلالته في اللزوم والحتم أقوى، والفقه يعضد المعنى" فالإيجاب أن يقول: بعتك أو ملكتك أو لفظ يدل عليهما، والقبول أن يقول اشتريت أو قبلت ونحوها" [المغني 3/501،502] فالإيجاب هنا الأمر الذي يترتب عليه عند القبول اللزوم والوجوب
ومن هنا فالإيجابية تتضمن الإلزام والالتزام ، ومآلها إلى الحتم والوجوب، وتأنيثها - فيما أرى- أنه لداعي الصفة، فالإيجابية صفة كالأريحية والاستقلالية والعصامية، ومعناها في المفهوم المعاصر يتسع ليكون دالاً على إيجاب المرء على نفسه ما ليس بواجب ابتداءً، لما عنده من همة عالية، ورغبة عارمة في البذل .
وللإيجابية - عند المسلم عموماً والداعية خصوصاً - ركائز تقوم عليها، ودعائم تستند إليها وهذه أهمها :
1-الرسالة والأمانة(1/137)
فالمسلم حامل رسالة ومبلغ أمانة، لم يخلق عبثاً، ولم يترك هملاً، ولا يتصور من حامل رسالة نوم ولا كسل إن أدرك رسالته وعرف مهمته، وتأمل الخطاب الرباني القرآني للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - في أوائل دعوته { يا أيها المدثر، قم فأنذر } أي " شمّر عن ساعد العزم وأنذر الناس " [تفسير ابن كثير 4/440]، " قم قيام عزم وتصميم " [الكشاف 4/156] " قم فاشتغل بالإنذار وإن آذاك الفجار"[ تفسير النسفي 4/307 ]، "إنه النداء العلوي الجليل للأمر العظيم الثقيل ... نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان "[الظلال 6/3754] .(1/138)
" قم فما يُعهد من صاحب رسالة نوم قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة "[الظلال 6/3744]، إن هذا النداء كان " إيذاناً بشحذ العزائم، وتوديعاً لأوقات النوم والراحة، والتلفف بأثواب الهجوع والتلبث " بل كان " إشعاراً بطلب الجد الجاد في الأمر، جداً يسبق الأحداث ولا ينتظرها، ويسابق الزمن ولا يني في حركته، متوثباً إلى غايته "[محمد رسول الله1/589،590]، هل يعي المسلم والداعية على وجه الخصوص معنى انتصابه للدعوة والتحاقه بركبها ؟، إن الدعوة تغيير كامل، وإصلاح شامل، إنها إبطال الباطل وإحقاق الحق إنها أمانة عظمى ورسالة كبرى، إن على الداعية " أن يقيم مكان كل باطل يمحوه حقاً يدعمه بالبرهان، ومكان كل ضلال يقتلع جذوره من العقول والقلوب والأرواح هدياً يشرق نوره فيضيء به العقول، وترشد به القلوب، ومكان كل شر اجتماعي يبيده بدعوته وهديه خيراً يزرعه بعمله، ومكان كل ظلم يرعبه عدلاً ينشره، ومكان كل رذيلة يمزق أديمها فضيلة يؤسسها، ومكان كل سيئة ينفر منها إحساناً يحببه إلى النفوس لتتشرب بمحبته، ومكان كل عبث وفوضى اجتماعية تتهاوى أمام دعوته نظاماً يقون الناس في(1/139)
ظله بالقسط والحق ، ومكان كل تقاطع وتدابر إخاء ومواساة، بل إيثاراً وحباً، ومكان كل تسلط بالبغي والكبرياء الآثمة تراحماً ومساواة، ومكان الفرقة بدعوى الجاهلية وحدة تقوم على دعائم الإخاء الإيماني في الإسلام " [ محمد رسول 1/ 582،583] فهل يا ترى هذه مهمة تؤدى مع الراحة التامة والدعة الكاملة ؟ كلا وألف كلا ، فما من مدرك لمعنى الرسالة إلا وينتفض انتفاضة يسقط بها كل دثار وشعار ، ويزيح بها كل المبررات والأعذار ، وينحي بها كل قاطع ومانع ، ما من داعية يعرف أنه على طريق النبوة { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } ويفهم أنه وارث نبوة ( العلماء ورثة الأنبياء ) ثم بعد ذلك ترضى نفسه أن تخلد إلى الأرض ، وتسفل مع متطلبات الشهوات بعيداً عن مرامي الغايات ، وميادين الصعاب والمشقات ، إنها الأمانة العظيمة { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } ولن يحملها ضعيف متخاذل ، ولا كسول متراخ ولا يصلح لها إلا الجد والقوة وذلك هو الوارد في القرآن { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } " أي بجد وحرص واجتهاد " [تفسير ابن كثير 3/113] ، { خذوا ما آتيناكم بقوة }(1/140)
الإيجابية قوة روح وعزم ، قوة جد وهم ، وقوة عمل وكدح ، الإيجابية صفة " للرجل المقبل على الدنيا بعزيمة وصبر ، لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت ، ولا تصرفه وفق هواها، إنه هو الذي يستفيد منها ، ويحتفظ بخصائصه أمامها كبذور الأزهار التي تطمر تحت أكوام السبخ،ثم هي تشق الطريق إلى أعلى مستقبلة ضوء الشمس برائحتها المنعشة ، لقد حولت الحمأ المسنون ، والماء الكدر إلى لون بهيج وعطر فواح .. إنه بقواه الكامنة وملكاته المدفونة فيه ، والفرص المحدودة والتافهة المتاحة له يستطيع أن يبني حياته من جديد "[ جدد حياتك ص 13]، فالإيجابية مقاومة تغيرية نحو الأفضل تستثمر القليل فتنميه ، وتحول المسار فتقود المسيرة ، ومن هنا فهي دعوة رفض للاستسلام للواقع وتبرير القعود ، وانتظار الأقدار ، ومن هنا نهتف بكل سلبي قائلين :{ قم فأنذر }.
من بواعث الإيجابية وركائزها بعد الرسالة والأمانة :
2- المسئولية والمحاسبة
يمكن أن نعرف المسئولية بأنها" تحمّل المسلم التكليف الشرعي بشروطه وحدوده ، وتحمّل تبعة تصرفه إزاء التكليف في الدنيا والآخرة"،والمسئولية يتسع مفهومها لتشمل التبعة والمحاسبة والجزاء ، فالإنسان يتحمل تبعة أفعاله وأقواله، ويحاسب عليها ثم يجازى عليها؛ فإن أحسن فله المثوبة ، وإن أساء فعليه العقوبة، وتقرير المسئولية باعث عظيم على أداء متطلباتها والقيام بأعبائها، وإن المحاسبة على المسئولية مزيد من القوة في القيام بالمهمة، وفيها شعور بمغبة التفريط، وتهيب من عاقبة التقصير .
إن الإنسان الذي لا يتحمل المسئولية ولا يستشعرها ، يكون إنساناً خاوياً لا يحقق إنجازاً ولا يبلغ غاية ، وإذا وجدت المسئولية ولم يكن معها متابعة ، ولا بعدها محاسبة ؛ فإن المرتقب ظهور دواعي الكسل والتراخي ، وعوامل التهاون والتقصير ، بل صور الفساد والإفساد، وكما قيل" من أمن العقوبة أساء الأدب ".(1/141)
والإسلام يجعل في أعناق أتباعه مسئولية عظيمة، ومنهجه يصورها تصويراً يغرس أهميتها في الفكر ، ويعمق عظمتها في النفس ، تأمل قول الحق جل وعلا:{ كل نفس بما كسبت رهينة} "والمعنى كل نفس رهن كسبها عند الله غير مفكوك"[ الكشاف4/161] فهي " محبوسة به عند الله تعالى " [تفسير القاسمي 16/74] " وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة "[التحرير والتنوير 29/324] فالمسلم مرهون أي موثق ومحبوس بمسئوليته التي يتعلق بها كسبه ؛ فإن شاء أن يعتق نفسه وبفك رهنه فلا بد من أداء الواجب والقيام بالمسئولية، وإلا فإنه سيؤاخذ بمقابل تفريطه، هذا المعنى يتطابق مع الحديث الوارد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [ رواه مسلم] .
إن الداعية الذي يعي هذه المسئولية لا يتصور منه التراخي، خاصة وأن هذه المسئولية شمولية{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} إنها لا تقتصر على شيء دون شيء ، اقرأ معي الحديث الذائع المشهور ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) [رواه الطبراني 20/60]، ويح امرئ يعلم أنه مسئول ومحاسب ثم لا يكترث ولا يعبأ، ويظل مطمئناً دون عمل .
كيف يمكن هذا ومسئوليته دقيقة يشملها قول الحق - جل وعلا -:{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ويجليها قوله :{ مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}.
كيف ومسئوليته لا تقتصر على نفسه فحسب ، بل تتعداها إلى كل من تولى أمره { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} وقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).(1/142)
بل إن المسئولية أشمل من ذلك ؛ لأن الإسلام لا يرضى السلبية ، ولا يقر الاتكالية ، ولا يقبل في منهجه الانعزال ولا الأنانية ليس فيه " أنا والطوفان من بعدي " ولا يقر بمبدأ " مالي وما للناس" بل مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابتة قائمة ليكون للفرد دوره تجاه المجتمع، وفي عنقه مسئوليته إزاء الإصلاح { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) [الطبراني الأوسط 2/224].
فإذا كانت هذه هي المسئولية فلا شك أنها عظيمة ، بل ويزيد عظمتها أن المحاسب عليها والمراقب لها هو الله - جل جلاله - { الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} الذي { لا تخفى عليه خافية} الذي { يعلم السر وأخفى } ثم هي مسئولية لا تغني فيها شفاعة ولا تخفف منها وساطة { فما تنفعهم شفاعة الشافعين} إنها المسئولية التي يواجهها المرء وحده{ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وهذا أيضاً حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل :( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة) [رواه البخاري 6/2729].
فهل بعد هذا يمكن الركون أو السكون ، أو ترك المهمات والتخلي عن المبادرات؟ كلا !إن استحضار المسئولية لا يترك فرصة لتوانٍ ولا مجالاً لتسيب أو تسويف، إنما هو العمل الجاد والبذل المتواصل والهمة العالية والعزيمة الماضية.
3- الأجر والأثر(1/143)
إن الداعية معلق القلب بالمثوبة، متطلع للأجر، يحب أن يبقى له أثر، وأن يمتد أجره بعد انقضاء عمره ، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات، وإنما ميدانه العمل{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، " إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا ما لم تتحول إلى حركة واقعية، وللنية الطيبة مكانها، ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء، إنما هي تحسب مع الأمل، فتحدد قيمة العمل"[الظلال 3/1709]، وهذا قول الحق جل وعلا {إن هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون} فهل تريد الجنة بلا عمل ؟ وهل تطمح في الفردوس دون كد وبذل وتضحية ؟ إن هذا " النعيم الذي لا يدركه فوت، ولا يخشى عليه من نفاد، ولا يعقبه موت، ولا يهدده عذاب، لمثل هذا فيعمل العاملون"[الظلال5/2988]، إنه العمل الحثيث، وأما الخسران المبين { والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... } ولله در الشنقيطي في أضواء بيانه [9/494] حين قال:" فهذه السورة فيها دفع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح، ودرجات الجنة رفيعة، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد، فإن أمامه مجال للكسب والربح نسأل الله التوفيق والفرح وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزيناً فإن كان مسيئاً فعلى إساءته وإن كان محسناً فعلى تقصيره"، ومن ترك العمل أو قصر فيه فإنه إلى الوراء يتراجع فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام ، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طئ إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر" [ مدارج السالكين 1/267 ] فاختر لنفسك أيها الداعية، واعلم أن دين الله ليس فيه محاباة، وميزان الحق ليس فيه مجاملات، ولقد صدع بها نبي الهدى عليه الصلاة والسلام يوم قال:( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)[رواه مسلم] .(1/144)
والإسلام يوم دعانا إلى العمل لم يدعنا دعوة رخوة ولا متوانية، بل دعانا دعوة ملؤها الحث والحض والتحفيز، أليس قد قال الحق جل وعلا:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} وقال أيضاً: { وسابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال أيضاً{ فاستبقوا الخيرات} ووصف الحق جل وعلا أنبياءه في معرض المدح فقال{ أولئك يسارعون في الخيرات} ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول :( بادروا بالأعمال سبعاً)[رواه الترمذي] ويقول :( اغتنم خمساً قبل خمس ) إنه ليس هناك مجال لوقت ضائع، ولا لجدل فارغ، ولا لعوارض مشغلة أو أعراض مثقلة، وما أعجب من يخاطب بتلك الآيات ثم لا يكون في غمرة العمل، وغاية البذل مشمراً عن ساعد الجد،صاعداً درج المعالي.
إن من أدركوا هذه الحقيقة قاموا فلم يقعدوا، وتيقظوا فلم يناموا، وكان لهم بين كل عمل وعمل عمل، ومع كل درجة يبلغونها أخرى يرتقونها، فهل جاءك- أخي الداعية- خبر أبي الوفاء بن عقيل وقوله:" إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعلت فكري في حال راحتي وأنا نستطرح فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرص على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين"[المنتظم 9/214].
وهل مر بك ذكر إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وقد مرّ في ترجمته أنه" كان لا ينام إلا مغلوباً " إنه طاقة متحركة بلا توقف حتى يبلغ الأمر مداه فيغلبه النوم فإذا أخذ منه حظاً يسيراً عاد إلى العمل مستأنفاً دون نظر إلى ليل أو نهار.
وهكذا ستعلم نبأ وقد كان له أكثر من اثني عشر درساً في اليوم والليلة، وإن أردت المزيد فهناك الكثير وحسبي وحسبك أن ندرك أن طلب الأجر مولد لطاقة جبارة تحقق الكثير مما قد يعده البعض بعبد المنال، أو مستحيل الوقوع.(1/145)
وأعيد لك الكرّة مرة أخرى في شأن الأثر الذي تريد أن تخلفه وراءك، ومرة أخرى أقول : ليس هناك من أثر إلا بالعمل .. (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، وأنّى لك ذلك، وأنت لم تعمل ليكون لك مال تتصدق به، وأنى يكون لك علم وأنت لم تطلبه، ولم تثن الركب في تحصيله، ولم تسهر الليالي في مراجعته، وكيف لك ولد صالح وأنت لم تعلمه ولم تبذل في تربيته .
والحق أنه" إذا علم الإنسان - وإن بالغ في الجد - بأن الموت يقطعه عن العمل عَمِلَ في حياته ما يدوم بعد موته، فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً وغرس غرساً وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده فيكون له الأجر،أو أن يصنف كتاباً" [صيد الخاطر ص20].
هذه ركائز ثلاثة أقتصر عليها وأكتفي بها، وإن كان للإيجابية روافد غيرها، فالله الله في العمل وإتقانه ، والله الله في استمراره ودوامه، والله الله في حبه والتعلق به .
ــــــــــــــــــ
الذاتية
لكون الذاتية مطلباً نفيساً وسمة غالية قل أن يتصف بها كثير من الناس كفيل بأن يجعل منها أمنية يتطلع لها كل أحد فهي كنز يحوي في معناه كل غال وثمين وكذلك هي نقطة قوة تنبثق منها كل خصال الخير وتنبعث منها كافة مكامن التأثير.....
تمهيد:
مهما تكن قدرة القائد والمربي على التوجيه والتأثير للتنفيذ قوية ومؤثرة فإنها لن تكون بنفس القوة والفاعلية لو كانت مستمدة من الذات بل إننا نستطيع أن نجزم أنه مهما كانت محبة المدعو لمن يدعُوه فإنها لن تثمر على المدى الطويل ما لم تكن الإستجابه منطلقة من محبة ورغبة ذاتية.(1/146)
ولنا في نبينا محمد علية أفضل الصلاة وأتم التسليم خير قدوة في الذاتية والعطاء ولعل الشواهد في ذالك كثيرة ومنها أنه قد أتعب نفسه في إيصال الخير لأهل الطائف ومع ذلك فقد قابلوه بالأذى والحجارة فأدموه فداه أبي و أمي ومع ذلك فقد كانت ذاتيته التي قادته لدعوة القوم هي التي منعت جبريل من أن يطبق عليهم الأخشبين بل ويزيد على ذلك أنه سوف يبذل ذاته مرة أخرى فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله فكان له ما أراد.
لذلك فقد حرص الرسول الأعظم علية أفضل صلاة وأتم تسليم أن يجعل صفة الذاتية مطلب في كل من يختاره لصحبته رضوان الله عليهم فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقدم كل ما يملك للرسول طيبة بها نفسه من غير ما مسألة من أحد والشواهد على ذلك كثيرة لكن من أشهرها وأغربها أن يقوم الصديق رضي الله عنه في رحلة الهجرة وهم في الغار والنبي - صلى الله عليه وسلم - نائم فيقوم أبو بكر الصديق بوضع فخذه موطئً لرأس الرسول الكريم وإحدى رجليه تسد أحد مسامات الغار خوف من أن يلدغ منها الرسول فحدث ما خشيه الصديق ولدغت رجلة ولم يحرك ساكنا فأفاق الرسول على دمعات أبي بكر الصديق وهي تنحدر من خديه من شدة الألم.
فما هي الذاتية ؟ وما الذي نعنيه بضعفها ؟ وما صور ذلك ؟ وما هي الأسباب والمؤثرات وكيف يمكننا العلاج ؟
كلها أسئلة سوف أستعين بالله ثم بدعواتكم الصادقة لتقديمه كأوراق عمل أو إن شئت فقل ومضات علها أن تدل على الطريق
--------------------------------------------------------------------------------
تعريف الذاتية:
@ الذاتية هي أن يندفع الداعية لنمط من الأعمال، يحقق فيه إما نموا لذاته فيقربها إلى الله أو لدعوته فيكسبها رصيدا من الأتباع ، أو أن يجلب لها مغنما فيه إبداع و انتقاء ، أو أن يدراء عنها شر هي منه في عناء، وكل ذالك بدون تكليف أو متابعة من أحد إلا بل مبتغاة رضى ربه جل وعلا.(1/147)
@ وذاتية المبادر تكون في انتهازه الفرصة في وقتها فلا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فالمبادر لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها"د.المهلهل".
أما ضعف الذاتية:
@ فهو تواكلٌ على الغير واعتماد على الآخر وتهرب من مسؤولية وعجز عن قبول أي تحدٍ .
فضعيف المبادرة قليل الجرأة لا يعمل إلا حين يكلف و إذا ما كلف لابد وأن يُتابع .
ومع ذلك فإن لضعف الذاتية صور ومظاهر علها أن تكون ورقتنا القادمة إن شاء الله والله من وراء القصد،،،
--------------------------------------------------------------------------------
* من صور ومظاهر ضعف الذاتية و المبادرة:
1- يرى الخير أو الشر فلا يتفاعل معه حتى يطلب منه
2- غيري مسؤول و أنا منفذ
3- ما لم يطلب مني فلست بمحاسب ولا مسؤول
3- حب الروتين والتقليد
4- التعلق بالدنيا والخوف من العواقب
5- التحجج بضعف الملكات وعدم القدرة الكاملة على إنجاز أعمال ذاتية
6- النقد وتعقب الهفوات
7- الرضى بالواقع وعدم التطلع للأفضل
8- التقوقع في حيز العمل المطلوب منه وإهمال كل ما سواه
@ أسباب ضعف الذاتية
ولعل تشخيص المشكلة وحصر مسبباتها هو الخطوة الأولى نحو العلاج ولذلك فإن هناك العديد من المؤثرات وبداخل كل مؤثر منها صور وأشكال عديدة ومن هذه المؤثرات مايلي:
O البيئة والمجتمع
- حب الدنيا والتعلق بها
- حب التفلت من الإلتزامات والمسؤوليات (الغير ربحية)
- محاربة أصحاب الأفكار والإبداعات
- حب الروتين
- المناهج الدراسية تركز على المادة المنهجية ولكنها عقيمة من التربية الأخلاقية والاجتماعية
O البيت والتنشئة (مؤثر) :
1- التربية على حب الذات وقلت الاهتمام بالغير
2- التعود على الإتكالية
3- الترف
4- الخوف غير مبرر حيال إعطاء أي فرصة لإثبات النفس
5- الخوف من الفشل
6- التذرع بالكمال المفرط
7- قلت القدوات أو عدم إبرازهم و تقديمهم
8- ضعف القدرة على إستغلال الطاقات وتوظيف القدرات(1/148)
O المتابعة الدعوية (مرحلة) :
1- ضعف الإنتقاء والإختيار
2- عدم وضوح الهدف
3- المركزية
4- عدم فهم وتطبيق مهارة التفويض
5- التربية على مهارة التنفيذ الآلي فقط وكأنها تعني مفهوم الطاعة
6- ضعف التربية على تربية ومتابعة الفرد لذاته
7- إهمال غرس المسؤولية والتعريف بما يترتب عليها
8- عدم تطبيق التربية النظرية
9- تضخيم داء الرياء وعدم القدرة على التعامل معه إن وجد
10- التطبيق الحرفي لفنون الإدارة وإهمال خصوصية الدعوة
11- قلت التشجيع والتكريم
O العطاء الدعوي (مرحلة) :
1- إهمال محاسبة النفس
2- سوء فهم الثقة والتكليف وأنها ليست تعني صك غفران
3- عدم القدرة على تحمل المزيد من الأعباء
4- الرضى عن النفس ومقارنتها بالأقل
5- التقليل من القدرات الذاتية
6- الحزبية الممقوتة والعمل منها و لها فقط
7- الركون لإنجازات المؤسسة و كأنها ليست من فرد أو أفراد
@ وسائل عملية لبناء الذاتية:
ومع أننا تستطيع القول بأن اهتمامنا بأسباب الداء الأنفة الذكر وحرصنا على تجنبها قد يكون كافيا كحلول وقائية تمنع حدوث الظاهرة قبل بروزها إلا أن هنالك العديد من الوسائل والمهارات التي ليس من مهمتها فقط حل الظاهرة إن وجدت بل هي قادرة بإذن الله على أن تزيد من فاعلية الذاتية في النفس المؤمنة وكذلك توجيهها إلى أفضل و أعلى الغايات ومنها ما يلي:
1- أن نربي شباب الدعوة اليوم على أن الذاتية تعني عمليه ذكية في كسب الأجر وتنمية الجذوة الإيجابية في النفس من خلال عمل عام فيه نفع لعامة الناس.
2- أن يستشعر العامل للإسلام وكأنه هو وحده الذي أنيط به التكليف.
3- أن يقسم العمل بين العاملين فهو أهم وسائل التفعيل والتدريب على المبادرة وتفجير الطاقات وعكسها المركزية.
4- تنمية المواهب والملكات وتوزيع المهمات والتكاليف حسب المهارات الذاتية ما أمكن.(1/149)
5- أن صاحب النشاط والإنتاج والإندماج مع أحداث الدعوة اليومية تشفع له هفواته إذا ما زل ، فلكل مجتهد زلة، فما من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من ينبغي آلا تكر عيوبه.
6- أن تغرس الفكرة في قلوب الشباب فحينما تملك عليه قلبه فإنها حينئذ سوف تحرك مكامن نفسه وتفجر طاقاتها.
7- التحفيز على المبادرة والتشجيع عليها وفتح المجال للإبداع والتجديد وفق ضوابط وأطر عامة.
8- التربية على المعنى الحقيقي للإيمان فالمؤمن الحق يصدق قلبه بالله ورسوله فيخشع ويخضع ويندفع ليحقق بسلوكة وعملة ما أستقر في قلبه فيكون لإيمانه أثر في دنياه.
9- إعتقاد وجوبيه الدعوة و أنها من أولى الواجبات وأن التقاعس عن أدائها وعدم المبادرة لتحمل تبعاته قد يكون في بعض الأوقات تفريط بأمانة يسائل عنها الفرد أمام الله كل حسبه.
10- إستشعار عظم أجر المبادرة فقد يكون أجر صاحبها مثل أجور كل من أتى بعده.
11- أن التوفيق للمبادرة نعمه ربانية وليست صنيعه إنسانية يوفق لها من يحبه الله ويرضى عنه فهل كل مسلم كأبي بكر لا والله.
12- تأكيد السنة والحقيقة الإلهية وهي أن الدين لا يقوم ولا ينتشر إلا بالجهد البشري وبالطاقات التي يبذلها أصحابه والمؤمنون به.
13- الحب فحب الدعوة يلهب العاطفة الفطرية وكما قيل "والحب يورث شدة الولاء ويبعث إلى العمل والإجتهاد قربى إلى المحبوب وابتغاء لمرضاته"
14- دوام التذكير بالغاية بين الأحباب فهي مما يساعد على بقاء الهمة.
15- الإحتكاك ومجالسة ذوي الإبداعات ففي مجالستهم تحفيز وأيما تحفيز.
16- جعل الدنيا في اليد وإبعادها عن القلب وتحقيق التوكل على الله في موضوع الرزق
17- توزيع الأدوار وتنقل المسؤولية
18- لا تنتظر المكافأة من أحد وتقبلها حين توجه إليك
--------------------------------------------------------------------------------
@ المراجع وطرق جمع المادة:
كتب :(1/150)
1. القيادة الأسباب الذاتية لتنمية القيادية
2. سلسلة الدليل الإداري تنظيم وتفعيل الذات
3. ذاتية المؤمن طريق النماء
4. طريق الدعوة الإسلامية أسرار عوائق
5. ثلاثية النجاح
6. مهارات في التربية النفسية
7. علم نفس النجاح
مناقشات :
1. مناقشات فردية
2. ورش عمل و عصف ذهني
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد
maged
ناصح للسعادة الأسرية
--------------------------------------------------------------------------------
نحو ذاتية دعوية فاعلة
ــــــــــــــــــ
في صحبة الهدهد
عادل باناعمة
الحمد لله والصلاة على رسوله
وبعد ،،،(1/151)
قال تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ(1/152)
خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
هذه الآيات تحكي لنا قصة هدهد سليمان عليه السلام ، وتروي لنا العجيب من خبره مع هذا النبي العظيم .(1/153)
وابتداء لا بد أن ندرك أن هذا الهدهد السليماني لم يكن هدهدا من عامة الهداهد وإنما هو هدهد معين خاص ، وقد دل على ذلك أن الله قال : { مالي لا أرى الهدهد } (( ولم يقل : مالي لا أرى هدهدا من عرض الهداهد ، فلم يوقع قوله على الهداهد جملة ، ولا على واحد منها غير مقصود إليه ،ولم يذهب إلى الجنس عامة ، ولكنه قال : { الهدهد } فأدخل في الاسم الألف واللام ، فجعله معرفة فدل بذلك القصد على أنه ذلك الهدهد بعينه ، وكذلك غراب نوح ، وحمار عزير ، وذئب أهبان بن أوس ، فقد كان لله فيه وفيها تدبير ، وليجعل ذلك آية لأنبيائه ، وبرهانا لرسله ))
والهدهد في العادة (( نوع من الطير ... في رائحته نتن ، وفوق رسه قزعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، ويرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن فيه ماء ، وقال الجاحظ : زعموا أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين )) ، وقد ذكروا في سبب نتن رائحته أن ذلك عائد إلى أنه يبني بيته من الزِّبل ، أو إلى تلك الجيفة المنتنة في رأسه ، إذ تزعم العرب أن أم الهدهد لما ماتت جعل قبرها على رأسه ، فجعل الله له تلك القنزعة على رأسه ثوابا له على ماكان من بره لأمه ! وقيل : بل هو منتن من نفسه من غير عرضٍ عرَضَ له ، شأنه في ذلك شأن التيوس والحيات وغيرها .
والعرب يضربون المثل بقوة إبصار الهدهد فيقولون : أبصر من هدهد ، كما يقولون : أبصر من غراب وأبصر من عقاب وأبصر من فرس .
بعد هذه المعلومات الخاطفة عن جنس الهدهد بشكل عام نرجع إلى هدهدنا السليماني في هذه القصة الفريدة العجيبة ، وسنقف وقفات في مدرسة هذا الهدهد ، وفي قصته مع سليمان في الجملة ، وسنفاجأ حقيقة بمدى ما كان لهذا الهدهد من إيمان وذكاء وأدب .
الوقفة الأولى / الهدهد الإيجابي(1/154)
لقد شاهد الهدهد إبان طيرانه قوما يعبدون الشمس ، شاهد هذا المنكر العظيم ، فماذا فعل ياترى ؟ إنه لم يقف موقفا سلبيا ، وإنما ذهب وتحرك وتقصى ، وألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام ، باذلا بذلك كل وسعه في تغيير المنكر ، وضاربا بذلك أروع المثل في الإيجابية العملية .
لقد فعل الهدهد ذلك كله دون تكليف مسبق ، أو تنفيذ لأمر صادر ، وجلب للقيادة المؤمنة خبرا أدى إلى دخول أمة كاملة في الإسلام .
إن هذا لا يعني التسيب والتصرف الفردي ، ولكنه يدل على الإيجابية الهادفة بضوابطها ، دون الخروج على أهداف المجموع .
إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي مانفتقده اليوم في كثير من شباب الصحوة اليوم ، فهم ـ إلا من رحم الله ـ لا يكادون يبادرون إلى عمل ، أو يسارعون إلى بذل ، ولا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف بعينه وشخصه ، ومع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ ، ويبطئ في الأداء !
وماهكذا كان السلف ، بل كانوا إيجابيين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، وإنك لتنظر إلى جيل الصحابة فترى لكل صحابي سمة معينة وإبداعا متميزا ، فمنهم من أشار واقترح ، ومنهم من أوضح وشرح ، ومنهم من أضاف واستدرك ... وحسبنا خبر ذلك الصحابي في معركة القادسية حين رأى خيل المسلمين تنفر من فيلة الفرس فصنع فيلا من طين ، وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل ، فحمل على الفيل المقدم حتى دحره .
إن لهذه الإيجابية ثمرات عديدة رائعة منها :
1ـ نمو الحضارة الإنسانية : فمعظم الاختراعات والابتكارات كانت فردية ، وبدأت بإيجابية عملية من عالم أو صانع .
2ـ الإعذار إلى الله : وقد امتدح الله قوما واصلوا الوعظ والإرشاد لقوم غلف القلوب لا لشيء إلا للإعذار إلى الله { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } .(1/155)
3ـ احترام النفس والثقة بها : فالإيجابي رجل يحترم نفسه ويعرف قدرها في غير غرور ولاكبر ، وانظر إلى ذلك الذي قال له رجل : إريدك في حويجة فقال له : ابحث لها عن رجيل !
إن التواضع الكاذب المصطنع ليس إلا فرارا من البذل ، ونكوصا عن العطاء ، والمؤمن الحق باذل إيجابي لا يعوقه معرفته بعيبه عن البذل والعطاء .
ومن أراد أن يزيد إيجابيته فعليه بتقوية الإيمان ، وتجنب الهوى ، وحفظ الهمة ، وتحصيل العلم ، والإبداع في التخصص .
الوقفة الثانية / الهدهد ومهارات الخطاب
لقد كان في خطاب الهدهد لسليمان العديد من المهارات والإبداعات التي يحسن بالشاب المسلم أن يتعلمها وهو يخاطب الآخرين .
1ـ فنلحظ أولا إيجازه للخطاب مع سليمان ، فقد جمع في أسطر معدودة قصته الطويلة مع هذه الملكة التي تعبد وقومها الشمس .
إن الهدهد يدرك أنه يخاطب ملكا ، والملوك أوقاتهم مليئة بالمشاغل وليس لديهم وقت لسماع التفاصيل والجزئيات ، ومن هنا ركز الهدهد على أصول المسائل فأوجز وأبلغ .
وعلى الشاب المسلم أن يدرك هذا ، فإذا تخاطب مع مسؤول كبير ، أو شيخ فاضل ، أو عالم جليل ، أو أخ نبيل ، إذا تخاطب مع أحد هؤلاء المليئة أوقاتهم بالعمل فعليه ألا يكون ثرثارا مهذارا ، يجعل من الحبة قبة ، ويحيل السؤال الصغير إلى قصة طويلة عريضة ، إن في هذا من إهدار وقت الفضلاء ما لا يطاق ولا يحتمل ، وإنك حين تفعل هذا أيها الأخ فستكون ثقيلا بغيضا ، لأن المقابل يشعر أنك تضيع وقته .
إذا أيها الأخ راع ظرف المخاطب ومنزلته ومكانته .
2ـ استفتح الهدهد خطابه لسليمان بشيء عجيب ، إذ قال له : { أحطت بما لم تحط به } !
إن الهدهد (( يعرف حزم الملك وشدته ، ولذلك بدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته ، وتضمن إصغاء الملك له ... وأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له : { أحطت بما لم تحط به } ؟!)) [في ظلال القرآن 5/2638](1/156)
وهكذا عليك أيها الأخ أن تكون في خطابك ذكيا ، وأن تفلح في جذب استماع المخاطب ، حتى تتمكن من إيصال رسالتك .
ولئن كان الهدهد بهذا الأسلوب يحاول أن ينجو من عقوبة ، فإنا نستخدمه ونطوره لنشر الخير والدعوة ، ذلك أن الكثيرين من العصاة حولنا لا يأنسون بكلامنا ، وينفرون من هذه المواعظ المعتادة التي تلقى ، وبمجرد أن تبدأهم بالحديث بها أو عنها فإنهم يعرضون ، ولذلك فأنت بحاجة إلى مدخل ذكي تشد به أسماعهم وتأسر ألبابهم حتى تتسلل كلمات الحق إلى قلوبهم .
أذكر أن أحد الخيرين رأى نفرا من الشباب الضائعين في مطعم ، فجاءهم وقال : هنيئا لكم أيها الشباب ! إن هذه الأرض تشهد لكم عند الله ! قالوا : كيف ؟ قال : ألستم تصلون ؟ قالوا : بلى ، قال : فالأرض تشهد لكل من صلى عليها ! لقد كان هذا مدخلا ذكيا جذب به أسماعهم وأزال الحواجز بينه وبينهم .
3ـ حين أخبر الهدهد سليمان عليه السلام بخبر بلقس وقومها وكفرهم بالله ، لم يقل لسليمان : اذهب فأمرهم بالتوحيد والسجود لله ، وإنما قال : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء ... } ، فالهدهد هنا ألمح بالحل ، ولم يأمر به ، اقترح ولم يفرض ، عرض ولم يصرح بالتكليف .
وبمثل هذا الأسلوب يمكن أن نكسب الناس .
إن طبيعة النفس الإنسانية أنها تنفر من الأوامر الصارمة المتعددة الجازمة ، ولذلك كان لزاما علينا ونحن نوجه الناس ونعظهم أن نجتنب صيغة الأمر المباشر ، ونحاول اللجوء لأسلوب العرض والاقتراح ... وكم بين أن تقول لشخص : ياهذا قم الليل ألا تعلم فضل قيامه ؟ إلى متى النوم والغفلة .. وبين أن تقول له : يا أخي ، لقد وفق الله المصطفين من عباده فصفوا أقدامهم بالأسحار مصلين ، فأصبحوا ووجوهم مشرقة منيرة ، ياليتنا نكون منهم .
فكن يا أخي قليل الأوامر ، ولاسيما إذا لم تكن مسؤولا .(1/157)
4ـ حين أخبر الهدهد انبغاء السجود لله قال : { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } ، فاختار وصف الله بالعظمة تذكيرا لسليمان بأن هناك من هو أعظم منه ، محاولا بهذا أن يخفف من غضب سليمان عليه السلام عليه .
5ـ قال ابن القيم في قوله تعالى : { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } : (( والنبأ هو الخبر الذي له شأن ، والنفوس متطلعة إلى معرفته ، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ ، استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر ، وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج ، ثم الكشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التوكيد ,,,)) [شفاء العليل 71 نقلا عن الإيجابية في حياة الداعية 24]
الوقفة الثالثة / الهدهد وإنكار المنكر
وهذا شيء بين ، فقد ساءه ما رأى من عبادة بلقيس وقومها للشمس ، فتمعر وجهه لذلك وحمي أنفه ، ومازال بهم وبسليمان حتى دخلوا جميعا في الإسلام وزال هذا المنكر .
فهل نجد في واقعنا صدى لهذه الخصلة ؟
إن إنكار المنكر ـ وللأسف ـ صار لا يشكل جزءا من همنا ولا من تربيتنا مع أننا جميعا نحفظ حديث السفينة وندرك خطر المنكرات حين تنتشر .
وحسبنا زاجرا ذلك الأثر الذي جاء فيه أن الله أمر جبريل أن يهلك أهل قرية لفسقهم ، فقال : يارب إن فيهم عبدك فلانا ما عصاك قط ! قال : فبه فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه من أجلي !
الوقفة الرابعة / الهدهد الدقيق
أنظر إلى قول الهدهد : { أحطت بما لم تحط به } ، قال الشوكاني : (( والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته )) ويقول الطاهر بن عاشور : (( والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط ، وهي هنا مستعارة لاستعياب العلم بالمعلومات ))
فالهدهد لم يقنع بأخذ طرف من الأخبار ، وإنما مازال ببلقيس وقومها حتى ( أحاط ) بأخبارهم ، وفي هذا من الدقة والضبط ما لا يخفى .(1/158)
والواجب علينا دائما ألا نبادر إلى الحكم على الشيء حتى نحيط به ، ونلم بجوانبه .
إن من مشاكل شباب الصحوة اليوم ضيق الأفق وقصر النظر ، والنظر إلى القضية أو المشكلة من زاوية واحدة دون إحاطة كإحاطة الهدهد مما يوقع في المشاكل ويؤدي إلى التعصب للرأي '
وأبرز آفات هذا الضيق في الأفق معاداة المخالف في الفروع ، ذلك أن هذا المعادي لم يحط بالمسألة من سائر جهاتها فيعرف أنها قابلة للأخذ والرد وإنما نظر من زاوية واحدة ظنها الصواب المحض ، وصدق فيه قول من قال : يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيحسب أن عنده العلم كله !!
ومن آفاته الخطيرة شيوع ظاهرة التأثيم والتفسيق والتبديع ، إذ المقترف لهذه الأمور لم يحط بما أخذه على خصمه ، ولم يعرف جلية الأمر ، ولا نظر الدوافع والأسباب ، ولا جمع كلام المتهم كله ليوازن بعضه ببعض ... وإنما هو في الغالب أخذ ذروا فحكم ، أو نظر إل جزء فجزم .
فما أحوجنا إذا إلى هذا السلوك الهدهدي ... الإحاطة أولا ثم الحكم والتصرف .
الوقفة الخامسة / الهدهد وسلطان العلم
قال ابن القيم : (( إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابا شديدا ، أو يذبحه إنما نجا منه بالعلم ، وأقدم عليه في خطابه له بقوله : { أحطت بما لم تحط به } خبرا ، وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم ، وإلا فالهدهد مع ضعفه لا يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته بمثل هذا الخطاب لولا سلطان العلم )) .
وهكذا ارتفع الهدهد بالعلم ، والعلم دائما يرفع صاحبه ، { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ، ولهذا قال الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له ! وقال وهب بن منبه : يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا ن والعز وإن كان مهينا ، والقرب وإن كان قصيا ، والغنى وإن كان فقيرا ، والمهابة وإن كان وضيعا ... ))
وعن الفضيل قال : عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السموات )) !(1/159)
ولعل مما يشهد لنا في هذا المقام خبر عرش بلقيس ، فقد أخبر الله أن عفريتا من الجن ( والعفريت هو الشديد الذي لا يصاب ولا ينال ) وعد سليمان أن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه ، وكان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس . بينما وعده الذي عنده علم من الكتاب أن يأتيه به قبل أن يرتد إليه طرفه !! قال الطاهر : (( وهذه المناظرة بين العفريت من الجن ولاذي عن\ه علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ))
فليس المقياس إذا قوة ولا نسب ولا مال ... وإنما هو علم يقود للتقوى .
وإذا كان الأمر على هذا النحو فأين نحن من العلم ؟
ما حصيلتنا منه ؟ ما مدى حرصنا عليه ؟ إلى أي حد نهتم به ؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب .
الوقفة السادسة / الهدهد واحترام القيادة
قال النسفي رحمه الله حول قوله تعالى : { فمكث غير بعيد } : (( ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ))
إذا ... فقد كان الهدهد يهاب سليمان ويحترمه ويقدره ، ومع أنه كان في مهمة دعوية عظيمة الشأن إلا أنه مع ذلك حاول إنجازها بأسرع وقت لأنه تذكر أنه خرج في الأصل بغير استئذان !
ويتجلى هذا الاحترام والتقدير أيضا في عرض الهدهد القضية لسليمان دون أن يدلي فيها برأي آمر ، وإنما عرض ولمح كما سبق بيانه .
الوقفة السابعة / سليمان عليه السلام وعوامل النجاح القيادي
لقد كان سليمان عليه السلام نبيا مسددا ، وملكا ملهما موفقا ، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيرا من عناصر التفوق القيادي ، والتي منها :(1/160)
1ـ تفقد الأتباع : فمع أن سليمان قد حشر له جنود الإنس والجن والطير ، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة ! مع هذا كله لم يفته غياب هذا الهدهد ، وتنبه له ... ولم يكن هذا التنبه عارضا ، وإنما بعد تفقد وسؤال مما يدل علىأنه كان يحرص علىرعيته ويسأل عنهم ، قال الطاهر : (( صيغة التفعُّل [ يعني في تفقَّد ] تدل على التكلف والتكلف الطلب )) ، فهو كان ـ عليه السلام ـ يتكلف البحث والسؤال .
ولا يمكن أن يكون القائد ناجحا إلا بمثل هذا التفقد ، وانظر مثلا إلى خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ثابت بن قيس بن شماس وكيف أنه افتقده بعد نزول سورة الحجرات فسأله عنه حتى عرف نبأه ثم بشره بالجنة ، وكثيرا ما تجد في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه افتقد فلانا ، أو سأل عن فلان .
و لا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال شدة ومعاتبة ، على حد قول الشاعر :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أن خطرت ببالكِ
ومشكلة قادتنا اليوم أنهم ـ في أحيان كثيرة ـ لا يدرون شيئا عمن تحتهم ، ولا يكاد الواحد منا يهتم بأفراد رهطه أو عشيرته أو حلقته في التحفيظ مثلا ، وبالتالي يفقد كثيرا من رصيد المحبة في قلوب أتباعه ، وبعد هذا عليه ألا يلوم إلا نفسه إذا لم يجد استجابة وطاعة .
2ـ الحزم والصرامة : ولابد منهما للقائد ، وانظر كيف أن سليمان عليه السلام لما تبين له غياب الهدهد دون إذن ، ولما شاع خبر غيابه أمام الجميع ، قال : { لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه } ، وقد اختلف المفسرون في شأن العذاب الشديد ، وملخص أقوالهم أنه إما بنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو بالتفريق بينه وبين إلفه ، أو بإلزامه خدمة أقرانه ، أو بالحبس مع أضداده
لقد هدد سليمان الهدهد بهذه العقوبات ( استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداما له لئلا يلقن بالفساد غيره )(1/161)
ولا ريب أن الحزم والصرامة في مواجهة الخطأ كفيلة بوأده في مهده ، أما حين يخطئ الإنسان ويشيع خطؤه في الناس ثم يتراخى القائد في الأخذ على يده فإن العاقبة حينئذ تكون سيئة ، إذ يتجرأ غيره على الخطأ ، وتنكسر حيئذ هيبة القيادة .
وينبغي علينا ألا نأخذ هذا الكلام بحرفيته في تعاملاتنا فنحن إخوة قبل أن نكون رؤساء ومرؤسين ، وليس بالضرورة أن أعاقب أخي المخالف بنتف ريشه أو ذبحه ! وإنما قد تكفي أخي الحر كلمة عتاب ، أو نظرة لوم .
المهم أن القائد هو الذي يقدر العقوبة التي يستحقها المخالف ، والمهم أن يظل العمل بمبدأ الثواب والعقاب .
ولعل من المفيد هنا أن نذكر مسألة حول تعذيب الحيوان ...
قال الطاهر : (( وأما عقوبة الحيوان فتكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله ، قال القرافي في تنقيح الفصول : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر المؤذي هل يجوز ؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل .اهـ. قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله ... )) . وقد حل لسليمان عليه السلام تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة .
3ـ التثبت والتبين
ونرى ذلك واضحا في قوله بعد سماعه خبر الهدهد : { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } .
كما تجلى ذلك في استثنائه عند التهديد بالعقوبة حيث قال : { أو ليأتيني بسلطان مبين }
إن العجلة في الحكم وتصديق كل ما يقال والجزم بالنتائج دون سماع الرأي الآخر إن هذه كله من تصرف الغوغاء ، ولا يمكن لقائد أن ينجح مالم يتخذ من التأني والتروي والتبين والتثبت شعارا .
4ـ معرفة مواطن الضعف عند الخصم(1/162)
فحين هدد سليمان عليه السلام بلقيس لم يهددها بالموت ولا بالهلاك ، بل هددهابالذلة (( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )) ، ذلك أنه شعر من قولها فيما حكاه الله عنها : (( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة )) شعر من ذلك أن أخوف ما تخاف منه أن تصير ذليلة بعد العز ، فمن ثمّ خوفها بما تخاف منه ، واستغل نقطة ضعفها كما يقول المعاصرون .
الوقفة الثامنة / متابعة صدى المواقف والأقوال
إن الكثيرين من الدعاة وناشري الخير يلقون الكلمات الطيبة ، ويقفون المواقف المؤثرة ، ثم ينصرفون !
إنهم يعملون بطريقة : قل كلمتك وامش .
ومثل هذه الطريقة لا تبني رجالا بحال ، وإنما هي تؤثر تأثيرا وقتيا لا يلبث أن يزول ويمحي بمرور الأيام .
وانظر إلى هذا الدرس السليماني : { اذهب بكتابي هذه فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } ... تأمل قوله : { فانظر ماذا يرجعون } ! نعم ليست القضية أن يلقي الكتاب ويوصل الرسالة فقط ... وإنما هناك متابعة لردة الفعل ، هل استجابوا ؟ هل لانوا ؟ هل عاندوا ؟ وبناء على ردة الفعل يكون التصرف ، وبهذا يكتمل الأمر ، ويوصل إلى التصرف السليم .
إن كثيرا من المحاولات التربوية تفشل لأن المربي يهتم بإلقاء كل ما لديه من معلومات وفوائد واحدة تلو الأخرى دون أن يتمهل لينظر أثر ما قال في تلميذه ، وهل وصلت الرسالة أم لا ؟ وهل تشرب المعنى المراد أم زل عن قلبه كما يزل الماء عن الصفاة ؟ لابد من هذا وإلا فعلى العملية التربوية العفاء .
(1/22)
وحين لا يلتفت المربي إلى هذا يفاجأ بمواقف مؤلمة من هذا التلميذ ، وذلك عندما تبدر منه تصرفات وأخلاقيات كان يظن أنه قد تجاوزها بمراحل .
الوقفة التاسعة / لا تغتر بما عندك(1/163)
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري [ رقم 74 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال موسى : لا ، فأوحى الله إلى موسى : بلى ، عبدنا خضر . فسأل موسى السبل إليه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه . وكان يتبع أثر الحوت في البحر . فقال لموسى فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانية إلا الشيطان أ أذكره . قال : ذلك ماكنا نبغي .فارتدا على آثارهما قصصا ، فوجدا خضِرا ، فكان من شأنهما الذي قصه الله في كتابه )) ... قال ابن حجر : (( وفي الحديث ... ولزوم التواضع في كل حال ، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه ، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع ))
فعلى الإنسان ألا يحتقر غيره ، فرب صغير حاز مالم يحزه الكبير ، وهذا الهدهد وهو طير صغير أحاط بما لم يحط به سليمان وهو نبي ملك ! وقد (( ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام ... ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ))
وهكذا ينبغي أن تدرك أنه قد يكون عند من هو أصغر منك سنا ، وأقل ذكرا ماليس عندك ، وعليه فاحرص على الاستفادة من الجميع ، والقط المعلومة والفائدة من حيث خرجت ، وعلى المسلم (( ألا يتكبر أن يسمع غيره ، فلاد يدري الكلمة التي ينتفع منها ، وما من خطيب ولا واعظ إلا وتستفيد منه فكرة أو خبرا أو تذكيرا بعلم قديم قد نسي ، أو ربطا بحادثة واقعية ، أو على الأقل لا يخلو الواعظ من عرض جديد لمعلومة معروفة ، أو نبرة تبلغ إلى أعماق القلب ... ))(1/164)
وفي المقابل على الفرد أن يدرك أنه قد يكون عنده ما ليس عند أساتذه ، وربما خطر بباله ما لم يخطر ببالهم ، أو أحسن ما لم يحسنوه ، فعليه حينئذ أن يبادر بالعمل فيما يحسن ، مع إخلاص نية وقصد ، ومع حفظ لحقوق السابقين من الأساتذة والمربين وعدم التطاول عليهم .
انتهى ..
منتدى الصحوة
--------------------------------------------------------------------------------
الهدهد الغيور على التوحيد
ــــــــــــــــــ
هم الدعوة المفقود
تجري أقلام الحياة .. لتكتب على جدران الزمن .. بعض المحطات التي يتألم لها القلب المؤمن الحي .. وتدمع لها عين التقي المرهفة .. وإني لأنظر إلى الأمة من علو فأصاب بنوبة من الحزن الشديد .. عندما أجد أحفاد الصحابة .. وبقايا أهل الحل والقيادة .. قد تخلو عن الشريعة .. وعن صيانة جنابها .. والدعوة إليها .. والحث بالسير على نهجها .. في زمن .. انطلق فيه الأعداء من دعاة الضلالة .. لينشروا دين الفساد .. وإضلال العباد .. ولو كلفهم ذلك الحياة والأموال ... وأخص بذلك النصارى الأنذال.. أهل الدين المحرف .. والعقيدة الفاسدة .. والتجارة التي هي مع الله كاسدة ... بذلوا المليارات .. وجاءوا بأنواع الإغراءات .. للتنصير والتبشير .. بل وأقاموا في ديار لا يقيم فيها إلا المجازف بحياته .. وفي أماكن لا تجد فيها حتى أقل الخدمات .. ويصعب عليك الحصول فيها على أقل الاحتياجات .. وهم أهل ترف غالباً ومن أغنياء العالم .. ولكن .. لأجل الدين تهون عليهم المتاعب .. وتذل لهم المصاعب ..
هنا .. وعند هذه المشاهد المؤلمة قف !!. أرجوك الآن دع عنك هموم الدنيا .. وتلبيس إبليس .. وتجرد من كلام أهل الأعذار المفاليس .. واسأل نفسك والله الآن الآن مطلع عليك .. ويعرف نواياك .. ومستقبلياتك .. ومن تفكر فيه ..
أنا الآن أضعك على كرسي الحقيقة .. وفي غرفة المحاسبة .. وانتبه فالمراقبة من فاطر السماوات والأرض موجودة ..(1/165)
إني لأسألك بالله أخي الفاضل العاقل .. وحين أن عرفت أن أهل الضلالة بذلوا الغالي والنفيس لأجل التنصير وعلى مستوى العالم كله.!! هم قدموا ؟؟ نعم ..
فما قدمته أنت لتواجه هذا التيار الشرس من أهل الضلالة ؟؟
سل نفسك أين هم الدين في قلبك ؟؟ أين هموم إنقاذ ذلك الإنسان الذي أعيت قلبه الانتكاسة .. وغلب على تفكيره الإرتكاسة ..
لا تذهب بعيداً .. أنت أنت هل دعوت نفسك إلى خالقك ومولاك ؟؟ هل هذبتها ؟؟ هل حاسبتها ؟؟ على الإفراط والتفريط ؟؟ إن كان لا فعجل .. ولا تتأخر .. والبدار البدار ... قبل أن يفوت الفوت.. ويبادرك ملك الموت !! وإن نعم .. فلا تحرم الناس الخير
يؤسفني أن أنظر إلى مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يقول لي بنفسه والله وباللهجة العامية .. (( يا شيخ بلا دعوة بلا هم ذحين في ذا الزمن ادع نفسك وخل غيرك )) ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
أخي الحبيب .. لنعد قليلاً إلى الوراء .. بالتحديد إلى عهد خير الأنبياء .. وحبيب رب الأرض والسماء .. كم لاقى بأبي هو وأمي !! حينما ذهب إلى الطائف .. ودعا كبراء قريش .. وجُوبه بالرد السيئ .. صفوا له سماطين - من سفهاء الطائف وصغارهم .. فما زالوا بالمصطفى يرشقون قدمه الشريف بالحجارة حتى أدموا عراقيبه - عليه الصلاة والسلام - فما كان يرفع قدم ولا ينزلها .. إلا بحجر !! حتى إنه في بعض الأحيان من شدة الألم لا يمتلك - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يجلس !! ولكن العبرة هنا : هل توقف عن حمل هم الدعوة ؟؟ هل تأثر وأحجم ؟؟ بل زاد إقداماً عليه أفضل الصلاة والسلام .. هو الداعية الناجح .. و معلم البشرية .. عالم الدنيا بأبي هو وأمي .. حمل هم الإسلام ..
فالمتاعب يتلذذ بها .. والمصاعب يذللها .. والكرب يبددها ..(1/166)
إن الدعوة إلى الله وحمل هم الإسلام .. هي السعادة .. وهي من أرقى درجات العبادة .. بل هي ألذ من السيادة .. والتمتع بمقاليد القيادة .. ألم يقل الله المستحق للعبادة ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله )) الآية ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حاثاً على التبليغ : (( بلغوا عني ولو آية )) .
إن الكلمة الطبية دعوة .. والابتسامة دعوة .. وحب الخير للغير دعوة .. المساعدة .. توزيع الكتب والأشرطة .. المواعظ .. الرسائل الدعوية .. وبالإنترنت ..
أفكار لا تعد ولا تحصى .. وما الأفكار السابقة إلا قطرات في بحر .. وكرملة في صحراء ..
وفقك الله لخيري الدنيا والآخرة .. وجعلك الله من الدعاة المخلصين .. المسددين .. إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
وآسف على الإطالة وأشكرك على إتمام المقالة ..
والله يحفظك ويرعاك ..
الداعية إلى الله
التفكير المنطقي
ــــــــــــــــــ
واجعلنا للمتقين إماما
سلمان بن فهد العودة
كل نعمة منحها الله للعباد فهي منحة وابتلاء في الوقت ذاته ،والمشكلة أن الناس يدركون ذلك جيداً في عالم الماديات ولكنهم لا يكادون يحسونه في عالم المواهب والمنن النفسية .
الأمة ـ بمجموع أفرادها ـ مطالبة شرعاً بتحقيق ذاتها وتحمل مسؤولياتها والقيام بواجبها , ولم يكلفها الله بهذه المهمات الجسمية إلا لعلمه سبحانه بأن في أفرادها ومجموعاتها وشعوبها ودولها من الإمكانيات والقدرات ما هو كفيل بتحقيق ذلك إذا أحسن توظيفه .
وقد ابتليت الأمة بداء التواكل والتلاوم , واتقن بعض رجالها فن إلقاء التبعة على الأخرين والتخلي عن المسؤولية على قاعدة أن المشكلات من صنع الجيل السابق, وسيقوم بحلها الجيل اللاحق !
والأمر يبدأ من ثقة الفرد بنفسه , واستكشاف مواهبة , والبحث عن ميدانها , وتخطي العقبات مهما كانت فالحياة هكذا ..
وكل امرئ مسؤول أمام الله تعالى بحسب ما آتاه الله من قدرة مادية أو معنوية .(1/167)
فالغني مثلاً يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبل الخير بما لا يطالب به الفقير ، والقوي قد يدري أن قوة جسمه حقٌ للضعيف والكل ، وقل مثل ذلك البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض، ولكن .. كم من الناس يشعرون بالمواهب الربانية في عقولهم التي منحوها فيستخدمونها لنصرة الحق والدفاع عنه ؟ .
وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان التي أوتيها للدعوة إلى الإسلام ، وفضح أعدائه ؟ وكم .. وكم .. أو يظن أحدٌ أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير ؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد ؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي ؟ أو حساب الحافظ كحساب النّسّاء [كثير النسيان] ؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟ أو حساب المسئول كحساب الفرد العادي؟
إذاً فليقرأ قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وفي الآية تسلسل عجيب :
فالحقيقة الأولى : جعلكم خلائف الأرض، فالبشر خلفاء استخلفهم الله في الأرض لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين .
والحقيقة الثانية : ورفع بعضكم فوق بعض درجات، هكذا: درجات، لتشمل جميع أنواع التمايز والاختلاف والتفاوت بين الناس ، في أموالهم أو أجسامهم أو عقولهم أو ملكاتهم أو مواقعهم ومسؤولياتهم .. وهذه سنة إلهية محكمة }نحن قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.(1/168)
والحقيقة الثالثة : ليبلوكم فيما آتاكم ، فهذه (( الدرجات )) هي (( ليبلوكم فيما آتاكم ))، فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة أو الخفية فإنما ليبلوكم به، هل تنجحون في تسخير مواهبكم للإسلام ؟ أم تضيعونها هدراً ؟ أم تجعلونها حراباً في صدور المؤمنين ؟
والحقيقة الرابعة : إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم . فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله ما يحدث منه من سهوٍ أو تقصير، لأنه غفور رحيم .
فيا بؤساً لأولئك الذين ضيعوا عقولهم الكبيرة هدراً في دراسات عقيمة ... لا تنفع في دين ولا في دنيا .. وما أكثرهم .
ويا خسارة أولئك الذين طاوعهم البيان فصاغوه قصائد غزل سخيف غير عفيف .
دون أن يوظفوا شيئاً منه لقضايا أمتهم وشعوبهم .
وكم يحز في النفس ويملأ القلب أساً وكمداً أن كثيراً من ذوي الكفاءات والمواهب البارزة من الصالحين قد عبث بهم الشيطان، وزين لهم القعود عما أوجب الله عليهم، تارة باسم الزهد في الدنيا، وتارة باسم إيثار الخمول والبعد عن الشهرة، وتارة باسم الخوف من الرياء، وتارة بحجة عدم الكفاءة وأنه يوجد من هو أفضل مني وأجدر .. ولو أتيت هذا القاعد المتثاقل وتسللت إليه بالحديث رويداً رويداً لحدثك عن فساد الأحوال وقلة الرجال ، وكثرة الأدعياء ، وخلو الساحة ، وتفاقم الخطب !
فيا سبحان الله ! لمن تركت الساحة إذاً يا عبد الله ؟ ألا ترى أنه صار فرض عين عليك وأنت تأنس في نفسك قدوة في مجال (( ما )) أن تبدأ الطريق ، وتدع عنك التعليلات الواهية ؟! أو لست تقرأ في صلاتك وتقول في دعواتك : {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً } ؟
فهل يجدر أن يدعو المرء بهذه الدعوة ثم يعمل على خلافها ؟(1/169)
لقد علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نبذل الأسباب التي نستطيعها في تحصيل ما نريد ثم ندعو الله تعالى ولذلك لما أراد الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فتح مكة وضع العساكر والحرس على أنقاب المدينة لئلا يتسرب الخبر إلى مكة وبذل جميع الأسباب المادية الممكنة ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يعمي الأخبار عن قريش .
ومما يذكر عن عمر رضي الله عنه أنه رأى إبلاً جرباء فسألهم : ماذا تصنعون لعلاج هذه الإبل؟ قالوا: عندنا عجوز صالحة نذهب إليها فتدعو لها ! فقال رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران !!
إن ساحة العلم الشرعي والدعوة تشهد نقصاً شديداً ينذر بالخطر، ولا غرابة حينئذ في تصدر غير المؤهلين ممن لايعنيهم كثيراً توفر الشروط!
وإنه لورع عجيب غريب .. أفليس من الورع أن يفعل الإنسان ما يشتبه بالواجب ؟ أو ما يشتبه بالمستحب؟ فيقوم بالتعليم والدعوة والخطابة خشية أن يكون شيء من ذلك واجباً متعيناً عليه؟ أم أننا صرنا في عصر القعود ، وأصبحنا نفسر( الورع) بالترك .. ترك ما يشتبه بالحرام أو يشتبه بالمكروه ؟؟
ــــــــــــــــــ
من يكتب التاريخ
أحمد المنسي
لكي نعرف من يكتب التاريخ لابد أن نعرف أولا ماذا يكتب التاريخ ؟ فالتاريخ يكتب أحداثا ويذكر فاعلين . أما الصمت فلا يكتبه التاريخ ولا يصوره الزمن ولا تعرفه الكتب . فيه صور بلون النور ومشاهد بلون الدم . فيه رجال كاليواقيت وأناس كالتوابيت .
الذي يغير ويبدل ويقرر هو مادة التاريخ ومداد القلم , أما الذين يكتفون بالمشاهدة ومصمصة الشفاه , كمن وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم . هم خارج حدود الدراما فلا يراهم التاريخ ولا تعرفهم الأحداث ولا تفهمهم الدنيا . وفي الحكاية لا دور لهم ولا تأثير ولا وجود ولا حياة.
من يكتب التاريخ ؟(1/170)
إن الكائن الوحيد الذي ترى فيه أفرادا لا مهمة لهم. تعطلت لديهم أجهزة الإرسال ولم يبق لهم إلا أن يستقبلوا فصاروا شيئا غريبا ليس لهم دور إلا في التشويش والإفساد والإحباط. يهرفون بما لا يعرفون . تحولوا إلى كبسولات منومة وحبوب مخدرة . الإنسان , هو الكائن الوحيد الذي يحتفظ بكم هائل من الأمراض النفسية والفكرية . هل رأيت حمارا منافقا ؟
العمليات الاستشهادية في فلسطين هي المشهد الأخير من مشاهد كرامة هذه الأمة . وتقوم السلطات بإدانتها كل يوم . في حين يبارك الصهاينة كل عمل إجرامي يقومون به . هل أعجبك المشهد ؟
وهل سيكون من دعائك في صلاتك ( اللهم إني أعوذ بك من عجز أصحاب الحق وجبنهم وأسألك شجاعة الفاجر..؟ )
من يكتب التاريخ ؟
إن الحقائق التي ينكرها اليوم ثلة من البشر .. لا يرى التاريخ فيها إلا كونها حقائق تتجلى كنور الشمس . أما أصحاب العاهات الفكرية المستديمة فهؤلاء لا يرجى شفاؤهم . لأن المرض استفحل ولا علاج غير البتر .
وقد بترهم الحق واستأصلهم القلم . فالذين يتخذون مواقف الصمت . رضوا بأن يكونوا مع الخوالف .
وتأبى القريحة السليمة إلا أن تشهد لأصحاب الهمم العالية والعزائم القوية . لأن سلامة القلوب أدركت أن التولي يوم الزحف حرام .
عندما غاب الهدهد عن سليمان كان غيابه تفكرا وزمنه تدبرا . مكتوب بين عينيه لا إله إلا الله . لا معبود بحق سواه . فلما رجع إلى سليمان قال : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ) لأن الهدهد لا يعرف التسكع في الطرقات ولا يعرف الفراغ فدخل في منظومة ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده )
ولأنه لا يتبع هواه فلا يعرف إلها إلا الله فجاء ينكر على ملكة سبأ سجودها للشمس من دون الله . ولما غاب فرعون شقي بفكره وذل بعقله فلما خرج على الناس قال : ( أنا ربكم الأعلى ) . فغرق بها . وجيء به مهينا حقيرا يقال له ( اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) .(1/171)
عز على فرعون أن يفهم فهم الهدهد فعجز أن يأتي بما أتى به الهدهد . كما عجز أحد ابني آدم أن يواري سوأة أخيه فعلمه الغراب . هل فهمت ؟؟؟
من يكتب التاريخ ؟؟؟
أرسل لي صديق رسالة من كلمتين قال ( من وجد الله فماذا فقد ؟ .. ومن فقد الله فماذا وجد ؟ ) .
إن للمظلوم سحرا وجلالا وبهاءا . تحير فيه الظالم .. لأن المظلوم على موعد مع النصر شريطة ألا يستكين ولا يخنع . أما الظالم فقد شقي برأسه , وتعس بعمله .
يوما ضاحكني صديق فقال إنني عاكف هذه الأيام على كتابة كتاب - وأنا أعرف أنه لا يكتب - فقلت له ما هذا الكتاب ؟ قال ( كيف تكون إمعة ؟) . قلت له انظر في وجوه الناس ستجد آلاف النسخ من هذا الكتاب .
اسمع ... يقول الأنصار لمعلم البشرية ( امض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا . إنا لصبر في الحق صدق في اللقاء . ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك .) وقال بنو إسرائيل لموسى ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) .
إن الذي لا يعاني لا يفهم المعاني , والرباني يأنف من الصف الثاني .. وكم من قلوب احترقت فملئت حكمة ونورا .. وكم من نفوس ضاقت فملئت عطرا وجلالا .. وكم من عبرات سالت فارتوت منها الهمم .
الحياء نتاج فهم , وظل إيمان وبئر خير . آه لو تدلل الرجال ... من يكتب التاريخ ؟؟؟!!!
الصمت ملعون إذا نطق الحجر .. بكت الحقيقة من موات القلب . من رجل يحارب أهله جيرانه . أيامه . ما تبقى من ضمير عنده .. عشق العته حتى الثمالة .
لو لم تحركك العجوز إذا بكت .. سبعون عاما تنحسر في دمعة .. سبعون عاما داسها المجرم يضرب في جبين الأم ألفا من خطوط الدهر يرسمها الألم . لو لم تحركك البراءة واغتيال الطهر .. والظلم .. الظلام . الجهل .(1/172)
لا تكذب .. اسكت .. واترك الأشياء تكتب .. واترك الأشياء تنطق .. واترك الأشياء ترسم في جبين الدهر عارك .
يكتب التاريخ منا .. يكتب التاريخ عنا .. ثم يأتي بعدنا قوم . لأنا .. لن نكون .. سوف نرحل .. والسلام .
أحمد المنسي
Almansi9@hotmail.com
ــــــــــــــــــ
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله
د. ناصر بن يحيى الحنيني
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:
عباد الله إن مما خص الله به نبي هذه الأمة محمداً - صلى الله عليه وسلم - وخص به رسالتَه والنورَ الذي جاء به أنها رسالةٌ ودعوةٌ عامة للثقلين الجن والإنس ، والعربِ والعجم ،والأسودِ والأبيض ، والذكرِ والأنثى ، والسادةِ والعبيد ،كما قال جل وعلا : (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، وقال سبحانه : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) ،(وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (بعثت إلى الناس كافة وكانت الأنبياء تبعث إلى أقوامهم خاصة ) .
أيها المسلمون: وبعد أن تقرر ما سبق فإن هذه الأمة مأمورة بما أمر بها نبيه فهي مأمورة بتبليغ الدين إلى الناس كافة ،كما قال سبحانه (، وقال سبحانه(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) آل عمران[104]،
هي المكلفة بنشر هذا الدين الذي فيه سعادة البشرية ولا نجاة ولا مخلص للناس إلا بالدخول في هذا الدين والانضواء تحت لواءه والاهتداء بتعاليمه وتشريعاته ، إننا لانشك لحظةً واحدة أن دين الإسلام هو الدين الذي به تحل كل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية ، وسوف نقف مع هذه العبادة العظيمة والمهمة الجسيمة ، والوظيفة الشريفة وقفات عدة:
الوقفة الأولى : الدعوة إلى الله وظيفةٌ من أشرف الوظائف ،ومهمةٌ من أعظم المهمات.(1/173)
كيف لا ؟وهي وظيفة الأنبياء والرسل ومهمة كل من أراد الله به خيراً ورفعةً وسعادةً في الدنيا والآخرة ، ولا أعظم وصفاً ولاأصدق قولاً من قول ربنا جل وعلا حيث يقول:( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)فصلت [33] قال الحسن البصري عند هذه الآية :" هو المؤمن أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته ، فهذا حبيب الله هذا ولي الله "أ.هـ، فمقام الدعوة من أشرف المقامات ، فياخسارة من قامت حياته ، وذهبت أيامه ولم يكن له نصيب من هذه العبادة العظيمة ، فيا عبدالله تدارك أيامك واضرب بسهم في هذا الميدان المبارك بعلمك أو بجهدك أو بمالك أو برأيك على قدر استطاعتك حتى تنال هذا الشرف العظيم .
الوقفة الثانية : العلم وأثره في الدعوة(1/174)
الله سبحانه أمر بالدعوة إلى الله وأوجبها على هذه الأمة على كل من قدر وعلى حسب مقدار العلم الذي مع الإنسان ،قال سبحانه (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )يوسف [106]، فالبصيرة : العلم ،و قال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )النحل [125] فالعلم يتضمن العلم بما تدعوا إليه والعلم بحال الداعي وكلما كان العلم أغزر كانت الدعوة أقوى وأنفذ ، ولكن لا يقعدن بك هذا الأمر وتقول أنا لست من أهل العلم ، فنقول لك : ادع على قدر العلم الذي معك كما قال - صلى الله عليه وسلم - (بلغوا عني ولو آية ) ، وكن دليلاً على الخير ، ومساهماً بمالك ، ورأيك وجهدك فأنت بإذن الله من الدعاة إليه، واعلم أن أجرك عظيم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)
وقال - صلى الله عليه وسلم - (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )قال ابن القيم " وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله بحيث إذا اهتدى رجل واحد بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم وهي خيارها وأشرفها عند أهلها فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس " أ.هـ وفقنا الله وإياكم لهذه النعمة العظيمة.(1/175)
الوقفة الثالثة : الحكمة في الدعوة إلى الله هي كما قال ابن القيم -رحمه الله - معلقاً على قول الله (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة):"جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق ، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة ، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن"أ.هـ
الوقفة الرابعة : لا تنس إخلاص النية فهي الأساس في الدعوة كما قال جل وعلا (ادع إلى سبيل ربك ) لا إلى سبيل أحد غيره ، وقال في الآية الأخرى(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله) لا إلى نفسي أو إلى مطمع من مطامع الدنيا، ومن خلصت نيته بارك الله له في جهده ووقته وظهر أثر ذلك عليه .
الوقفة الخامسة: شعارك في الدعوة إلى الله (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، وأيضاً (إن عليك إلا البلاغ ) ، وقوله(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، وقوله (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )
فيا من تدعوا إلى الله لا تذهب نفسك حسرات ولكن احذر من التقصير في الدعوة إلى الله والعلم والعمل ، فإن لم تجد الثمرة فلا تترك هذا الطريق فإن الهداية وإدخال الإيمان إلى القلوب ليس إليك وإنما إلى الله (إنك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، والنبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد .(1/176)
الوقفة السادسة : أن مهمة الدعوة إلى الله يستطيع كل إنسان أن يقوم بها كل على حسب جهده وقدرته كما سبق ولكن مهمتنا نحن أن نرسخها في قلوب الأجيال وفي نفوس الناشئة وفي عقول الناس وتكون من أولى إهتماماتهم فيا أيها المدرس الناصح وأيها المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات ويا أئمة المساجد يا طلاب العلم أيها الموظفون لا تتركوا هذه الوظيفة وهذه المهمة لحظة واحدة من لحظات حياتكم فبها سعادتكم وعزكم ونصر دينكم وظهوره على كل الأديان ، وهنا أقف وقفة عتاب ووقفة تعجب مع ذلكم الكاتب في جريدة الوطن هداه الله الذي كتب مقالاً جرح أفئدتنا وآلم نفوسنا لما عاب على إخواننا المدرسين نصحهم وإرشادهم في المدارس وقال إننا لسنا في مكان للدعوة إلى الله فنقول يا مسلم ياعبدالله نحن بغير الدعوة إلى الله وبغير الدين لا وزن لنا بين الناس ولا عز لنا إلا بهذا الدين فوجب أن نكون كلنا دعاة إليه ،ولا خير فينا إذا لم نكن كذلك فالله الله أيها الإعلاميون اعتزوا بدينكم وانشروه وساهموا في الدعوة إليه وحث الناس على القيام بهذه العبادة العظيمة وفقنا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ــــــــــــــــــ
فضل الدعوة .. والدعاة ..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم ..
أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... هذه بعض الوقفات في فضل الدعوة والدعاة .. ونسأل الله أن يكون ذلك حافزا لنا في الدعوة إلى الله تعالى ..
الدعوة إلى الله تعالى مذهب سيد البشر
الدعوة إلى الله تعالى مذهب سيد البشر وإمام المؤمنين .. الرسول الحبيب .. - صلى الله عليه وسلم - .. قال تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)(1/177)
فيا من تدَّعي حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. هذا هو حبيبك وإمامك (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)
الطاعة في أمر الله بالدعوة إليه
قال تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وقال سبحانه (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال (وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم) وقال تعالى (وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين) .. وقال (قل إني أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مآب) ..
فالأمر يستدعي الوجوب .. ومن قال بفرض الكفاية .. فأي كفاية والأمة الإسلامية غارقة في كثير من طبقاتها في الجهل وضعف الاتباع والإنحرافات والبدع .. وكثرة المحتاجين للدعوة والتعليم من المقبلين ..
هذا فضلا عن الأمم الكافرة والمعادية للإسلام ..
فلا يختلف إثنان على أن الدعوة والدعاة لا يكفون المطلوب في الأمة ..
خيريَّتهم .. ومدح الله لهم
أمة تحتضن الدعاة إلى الله هي خير الأمم .. بشهادة رب العالمين وخالق الأولين والآخرين ..
قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) .. فأي فضيلة بقيت لمن خلفهم .. وأي سبق حازه من تركهم .. إنها والله الفضائل كلها أن يمدح رب العالمين كوكبة تقوم بالعمل والدعوة إليه سبحانه ..
الداعية صاحب أحسن الأقوال
قال تعالى مادحا قول الداعية (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) .. فلا يوجد قول أحسن من قوله .. فهو دليل الناس إلى ربهم .. ومبشر العباد إلى فضل خالقهم ..
الداعية له أجره وأجر من علم بما علم
قال - صلى الله عليه وسلم - (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا)
الدعوة إلى الله وسيلة من وسائل دفع النفاق(1/178)
ولا شك أن الدعاة هم أبعد الناس عن النفاق (ولا أقول الرياء) .. فالمنافقون لا يستطيعون الصبر على تكاليف الدعوة ومشاقها .. وقد قال الله تعالى فيهم (والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف)
فمن كانت الدعوة خصلته حفظ بإذن الله من النفاق ..
وهذا لا يعني أن بعض المنافقين يتلبسون بلباس الدعوة حبا في دس المنكر بين ثنايا الدعوة .. فهذا يحذر منه كما يتمسك بالداعية الصادق ..
بصيرة الداعية بشهادة رب العالمين
في خضم الجهل المنتشر بين كثير من الناس ,, والعمى المستشري بينهم .. يبرز الداعية الذي يدعو بعلم ويقين كما قال تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)
الداعية يحفظ من عقوبات الدنيا
ولقد انقسم قوم أصحاب السبت إلى ثلاثة أقسام : العصاة ، والدعاة ، والتاركين للدعوة مع عدم العصيان .. فقال الله عز وجل (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) ..
حفظ الله لأهل القرى بسبب الدعاة إلى الله
قال تعالى (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) .. فالقرى وإن كان فيها ظلم لا تهلك إذا قام فيها المصلحون بما يجب عليهم من الدعوة والعمل لله .. فإذا غلب على القرية الإصلاح حفظها الله من العقوبات الدنيوية .. بفضله ومنه سبحانه .
وقال تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن اللذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)
الداعية مأجور حتى بألمه ونَصَبه
فالأجر عند الداعية غير مرتبط بما يقوله فقط .. ولكن كل أمور الدعوة والجهاد في سبيله مأجور عليها المؤمن حتى التعب والمعاناة .. (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) فهل يكون هؤلاء الكفرة من المنصرين أكثر تفاعلا في دعوتهم وهم الذين لا يرجون هذا الأجر العظيم والرزق الكبير .. حتى في الألم والضيق ..(1/179)
الوسطية .. والشهادة على الخلق ..
قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
الدعاة في النور وغيرهم في الظلمات
قال تعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) فهم أنفع الناس للناس وهم دلائل الخير للبشر ..
توبة الله على أهل الإصلاح ولو كانوا من أهل الذنوب العظام
قال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلناه من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) ومن أعظم ذنبا ممن لعنه الله ويلعنه اللاعنون .. فمن بين وأصلح فله التوبة من الله عز وجل ..
الدعوة غير محصورة بوقت ولا مكان ولا طريقة
فهذا نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ليلا ونهارا (قال رب إن دعوت قومي ليلا ونهارا)
ويطرح طرق مختلفة (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا)
وهذا يوسف عليه السلام يدعو في السجن (يا صحابي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)
فمن أعجزته طريقة وجد أخرى .. ومن أغلق عليه باب فتحت له أبواب .. وهي الوسيلة الميسرة للجميع .. فالدعوة وسيلة ميسرة الوصول للصغير والكبير .. للعالم ولقليل العلم .. للخطيب وللمجاهد وللضعفاء وللمساجين ..
عظم أجر الداعية
فأجره على الله .. ولا يأخذه من العباد .. ولذا كان عظم الأجر .. فالكريم لا يعطي لمن يحب إلا عظيما .. قال تعالى (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين)
فأي أجر أعظم من أن يكون معطي رب العالمين ومالك الأملاك وأكرم الأكرمين .
البشرى بالنصرة والتمكين
قال تعالى (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) والدعاة هم الذين يقومون بهذه المهمة المكللة بالنصر المبشر به..
وقال تعالى : (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)
الدعاة يرعبون الطواغيت وفراعنة الأرض(1/180)
فما هذه الحملات والمعتقلات والاغتيالات إلا فضائل الدعوة والدعاة .. الذين أرعبوا طواغيت الأرض كما رعب منهم فرعون وخاف (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) .. فما يكون لمثل هذا الذي ادعى الألوهية أن يقول مثل هذا الكلام لولا الرعب الذي يهز الأولين والآخرين من الدعاة إلى سبيل الله عز وجل ..
الدعاة هي أهل الإيمان
قال - صلى الله عليه وسلم - (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل)
الدعوة إلى الله حماية منه عز وجل
فهي الوقاية الوحيدة من الله والالتجاء الوحيد إليه . قال تعالى (إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته) فالبلاغ حصن المسلم.
الوعد بالتمكين في الأرض
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)ولا شك أن المؤمنين هم الذين يسعون للاستخلاف في الأرض بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الوسائل الشرعية .. ولا يمكن تصور ذلك في القابعين في بيوتهم ..
وقال تعالى (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) وخوف الوعيد هو العمل بالدعوة إلى الله للآيات السابقة ..
أبو أحمد
شبكة الفجر
ــــــــــــــــــ
أنا وصديقي الميت ....
نظرت إلى صديقي وقد مات ، وتوقف قلبه ، وجمدت أطرافه . يا الله ! إن للموت لرهبة .
قلت له اليوم يصلى عليك وتدفن ، ثم بعد أيام قليلة ينساك الأهل والأحباب ، وتطوى ذكراك في صفحة الأيام.(1/181)
تفكرت بنفسي وقلت سيحل بي نفس الشيء إن عاجلا أم آجلا. فهل أرضى أن ينقطع كل شيء بعد أن أموت ، وتطوى صحائف أعمالي.
و تذكرت حينها قول الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )
ثم بدأت أفكر ما هي مجالات الصدقة الجارية يا ترى ؟! سرحت بخيالي أعدد لأختار ما يناسبني ، فمر بمخيلتي:
1- المساهمة في تعليم القرآن ، ودعم جمعيات التحفيظ.
2- المساهمة في الدعوة وتعليم الناس أمور دينهم بجهدي أو بمالي.
3- توزيع الكتب والنشرات للمسلمين وغير المسلمين.
4- المشاركة في الإنترنت والصحف بكتابة موضوعات هادفة.
5- المساهمة في حفر الآبار .
6- المساهمة في بناء المساجد.
7- المساهمة في بناء المدارس والمراكز الإسلامية.
توقفت بعد أن أدركت أن المجالات كثيرة ـ ولله الحمد ـ وما بقي علي وعليك أنت أخي الفاضل إلا المسارعة لكي نقدم لأنفسنا أعمالا يستمر أجرها بعد أن نموت.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: ( إن مما يلحق الميت من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته ) رواه ابن ماجة.
وفقنا المولى لما فيه رضاه ...
زاحف
شبكة الفجر
نهر الحسنات الجاري أكثر من مائة فكرة للحسنات الجارية
سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته
ساهم في مشروع أسلمة قبيلة البورنا
أعمال جاري ثوابها بعد الممات
تذكر أخي هذه اللحظة وأعمل لها
ــــــــــــــــــ
ماذا قدمت لدين الله؟
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى. أما بعد!(1/182)
• أخي الحبيب! إن للباطل في هذا العصر صولة وجولة، وكلمة وموقفاً، وما انتفش الباطل وارتفعت كلمته إلا لتخاذل أهل الحق، ونكوصهم عن المواجهة، وإظهار محاسن الحق الذي يحملونه وينتسبون إليه.
• إن أهل الباطل يدافعون عن باطلهم، ويبذلون في سبيل نشره وإقناع الناس به كل غالٍ ونفيس. قال تعالى:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[صّ:4-7]
• إنها الدعوة إلى الشرك والكفر والضلال، والتواصي بالصبر على عبادة غير الله من الطواغيت والأحجار والأشجار والأفكار والمذاهب والمناهج.
وليس الأمر مقتصراً على الدعوة فقط، بل إنهم يبثون أتباعهم في صفوف الجماهير لتثبيتهم على الوفاء لهذا المبدأ الخبيث، والهدف القبيح، والغاية الخاسرة.
• أخي الحبيب! اقرأ معي هذه الإحصائيات والأرقام عن نشاط المنصرين لعام 1996م:
1. بلغ ما جمعته المنظمات التنصيرية مبلغاً قدره (193) مليار دولار أمريكي!!
2. بلغ عدد المنظمات التنصيرية (23300) منظمة عاملة.
3. بلغ عدد المنظمات التنصرية التي ترسل منصرين إلى الخارج (4500) منظمة.
4. بلغ عدد المنصرين الذين يعملون داخل أوطانهم (4,635,500) منصراً. أما الذين يعملون خارج أوطانهم فعددهم (398,000) منصراً.
5. بلغ عدد نسخ الإنجيل التي تم توزيعها خلال عام واحد فقط (178,317,000) كتاباً.
6. بلغ عدد المجلات والدوريات التنصيرية (30100) مجلة دورية.
7. بلغ عدد الإذاعات والمحطات التليفزيونية التنصيرية (3200) إذاعة ومحطة تلفزة مختصة بالتنصير.
8. بلغ عدد أجهزة الكمبيوتر في المؤسسات التنصيرية (20,696,100) جهازاً.
[من كتاب: ليس عليك وحشة].(1/183)
• وماذا بعد أخي الحبيب؟ ماذا قدمت أنت لدين الله؟ ماذا بذلت للإسلام من جهد؟ ماذا أنفقت له من مال؟ ماذا قدمت له من وقت؟ كم مرة حزنت على ما يتعرض له المسلمون من ذبح وإبادة في كثير من بلدان العالم؟ كم مرة مسحت دمعة يتيم. . . أو أعدت فيها البسمة إلى شفاة أرملة. . أو سترت فيها جسد مسلمة من التهتك والانحراف؟
• إن الإسلام ـ أخي الحبيب ـ هو شرفنا وعزتنا وكرامتنا ومصدر قوتنا وهيبتنا بين الأمم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
وإذا تخلينا عن الإسلام فقد مكنا عدونا من رقابنا، وأبحنا له حرماتنا، وخولناه في العبث بمقدساتنا.
وإذا انشغل كل واحداً منا بنفسه، وترك جراحات إخوانه، فسوف تأتي الدائرة عليه، وربما قتل أو مات قبل الذي هم في الميدان، يلاقون العدو بصدورهم العارية وإمكاناتهم البسيطة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم]
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخراً لم تكسره" [رواه البيهقي وحسنه الألباني]
• هكذا أنت أيها المؤمن.. تنفع نفسك وإخوانك في كل مكان.. تشارك إخوانك أفراحهم وأتراحهم.. وتعمل على إيصال الخير لهم إيما وجدوا..
قال الشاعر:
ليس لي أرض وطين *** موطني عز ودين
إنه نور مبين *** إنه بالله أكبر
وقال آخر:
فأينما ذكر اسم الله في بلد *** أعددت ذاك الحمى من بعض أوطاني
• هل تعلم أن هناك قرى كاملة في كثير من بلدان أفريقيا لا يجدون مسجداً للصلاة! مع أن تكلفة بناء المسجد هناك لا يتجاوز خمسة آلاف ريال؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون مدرسة يتعلمون فيها أمور دينهم ودنياهم؟!(1/184)
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون طعاماً يقيمون بهم ضرورتهم، وإن وجد فثمن باهظ جداً، وهو خروجهم من الإسلام ودخولهم في النصرانية؟!
• هل تعلم أن هناك أخوات لك في الإسلام تتمنى إحداهن أن تستر جسدها، ولكنها لا تستطيع لأنها لا تجد من يقدم لها الحجاب الشرعي؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون بئراً يشربون منه مع أن تكلفة حفر البئر عندهم يستطيعها كل وأحد منا؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يملكون دواءً لما يصيبهم من أمراض وأدواء، ولا يجدون سوى أطباء التنصير الذين يعلقون في رقابهم الصلبان قبل إعطائهم الدواء؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجد أحدهم مصحفاً يقرأ فيه، مع أن الإنجيل المحرف يوجد بكثرة في بلاده؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام يشهدون الشهادتين، ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن الحلال والحرم والأحكام والآداب الإسلامية، وأنهم ينتظرون من يعلمهم ويزيل عنهم غشاوة الجهل وظلمة التقليد؟!
• هل تعلم أن الإسلام هو أوسع الأديان انتشاراً في أوربا وأمريكا، وأن المسلمين الجدد هناك يحتاجون إلى جهود ضخمة لترسيخ أقدامهم في الإسلام، وإزالة بقايا ما يحملونه من عقائد ضالة وأخلاق سيئة؟!
• هل تعلم أن التنصير نجح في صد كثير من المسلمين عن دينهم وإخراجهم من الإسلام، وإدخالهم في النصرانية، حتى أن قرى بأكملها تحولت من الإسلام إلى النصرانية، وأصبحوا سلاحاً موجهاً ضد الإسلام والمسلمين؟ وصدق الله إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120](1/185)
وقال تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217]
يمكنك أن تفعل شيئاً
• أخي الحبيب: يمكنك أن تفعل شيئاً لخدمة دينك، مهما كانت إمكاناتك محدودة، فإن مجالات خدمة الإسلام كثيرة جداً، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "سبق درهم ألف درهم" فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير، أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها. ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به" [رواه النسائي وحسنه الألباني].
• واعلم ـ أخي الحبيب ـ أن القليل الذي تقدمه لدين الله خير من الكثير الذي يقدمه أعداء الإسلام في سبيل إضلال المسلمين وإخراجهم من دينهم، فقد قال الله تعالى: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض}[الرعد:17]
• وهذه الأموال والأوقات والجهود سوف تكون عليهم لا لهم يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36](1/186)
• واعلم ـ أخي الحبيب ـ أن المستقبل لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين، وأن المتولي عن نصرة الإسلام والمسلمين هو الخاسر النادم المتحسر، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً *يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27ـ29] وقال تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:38]
• ومن مجالات خدمة الإسلام في هذا العصر:
1. شراء الكتب الإسلامية النافعة وتوزيعها في الداخل والخارج مع الاهتمام بتوزيع الكتب المترجمة باللغات المختلفة.
2. شراء المطويات النافعة وتوزيعها.
3. شراء الأشرطة النافعة وتوزيعها.
4. شراء المصاحف وبخاصة المترجمة إلى اللغات الأخرى وتوزيعها.
5. المساهمة في بناء المساجد في الدول الفقيرة.
6. المساهمة في حفر الآبار وإنشاء المدارس وحلقات تحفيظ القرآن.
7. المساهمة في أيجاد فرص عمل للمسلمين في البلدان الفقيرة حتى يقوموا بكفالة أنفسهم ولا يحتاجوا إلى جهود المنصرين.
8. قيام الأطباء المسلمين بواجبهم في معالجة فقراء المسلمين في كل مكان.
9. قيام طلاب العلم بواجبهم في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذهاب إلى المسلمين في كل مكان لتعليمهم وإرشادهم.
10. التعاون مع المنظمات والهيئات الإغاثية الإسلامية في تقديم يد العون إلى إخوانهم في كل مكان.
11. المساهمة في إنشاء إذاعات ومحطات تلفزة إسلامية تعمل على نشر الفكر الإسلامي الصحيح.
12. المساهمة في إثراء المجلات والصحف والدوريات الإسلامية بكل مفيد.
13. دعم المسلمين الجدد مادياً ومعنوياً.
14. تكوين رأي عام إسلامي، وتعريف الناس بحقائق الإسلام ومحاسنه.(1/187)
15. استغلال موسم الحج في ترسيخ مبادئ العقيدة الصحيحة والأخوة الإسلامية لدى الحجاج الذين يأتون من كل بقاع الدنيا.
16. الاهتمام بدعوة غير المسلمين الذين يعملون في بلادنا وتعريفهم بالوجه المشرق للإسلام والمسلمين.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة دينه، وأن يجعلنا من الدعاة الصادقين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
إعداد دار الوطن
ــــــــــــــــــ
أيها الجيل لماذا هذا الجمود
فهد بن يحيى العماري
أيها الجيل :
إنه مع إشراقة الشمس المتكررة كل يوم وبزوغ الفجر مع كل صبح ينمو الطفل حتى يصير رجلاً والغرس حتى يصير شجراً والشجر حتى يكتسي ثمراً والهلال حتى يصير بدراً وهكذا سنة الله .
كثير من المخلوقات ينمو ويتحرك ، الكل في حركة وسباق ، الزمن يمر مر السحاب والصوت يسعى إلى منتهاه والضوء ينطلق إلى مداه.. لكن العجب كل العجب أن ترى ذلك المخلوق الموهوب عقلاً يفكر به ويتأمل وينظر .. وقلباً يحس به ويشعر ويتلمس .. ساكن .. مع أن دوام الحال من المحال .
تنقلب الحقائق وتتغير سنن الفطرة فيقف العقل عن التفكير والقلب عن الإحساس ، جمود ووقوف ، سكون ودعة دون تقدم وتحرك وتيقظ .
نعم تلتقي بإنسان في عهد الطفولة أو ريعان الشباب والفتوة ثم تغيب عنه حقبة من الزمن تكثر أو تقل فتلتقي به مرة أخرى وإذا به نما وشب وترعرع طال جسمه وعرضت مناكبه وتغيرت سيارته ومنزله وملبسه لكن العقل هو العقل والتفكير هو التفكير والحديث هو الحديث وربما الإيمان هو الإيمان .
لم يكتسب خلقاً ولم يزدد علماً وإيماناً ولم يترق في معارج الخير والفضيلة هو هو .. عبادة وعلماً ودعوة وثقافة فلماذا هذا الجمود ؟(1/188)
مع أن الوقوف يعني الهبوط كما قال ابن القيم رحمه الله : ( فالعبد سائر لا واقف : فإما إلى فوق وإما إلى أسفل ، إما إلى أمام وإما إلى وراء ...ليس هناك وقوفٌ البتة ما هي إلا مراحل تطوى إما إلى جنة وإما إلى نار ) وإذا بابن الجوزي رحمه الله يقول : ( كتبت بأصبعي ألفي مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألف ) تذكرة الحفاظ 2/712 .
فيا أيها الجيل المنتظر : لابد من التحرك والحيوية والنشاط في الطريق إلى الله فكلٌ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها فأيُّ الغاديين أنت؟ الحركة ولود والسكون عقيم ، الحركة بداية والسكون نهاية.
فيا من عرف طول الطريق وقلة الزاد وبعد السفر ونفاسة المطلوب وخساسة الدنيا ...حدد الأهداف وارسم الطريق والمبتغى رضا الله والجنة وهكذا حتى تلقى الله .
فالعبادة باسمها الجامع طريق إلى الجنة والدعوة إلى الله وطلب العلم والجهاد كلها طرق إلى الجنة وكلها طرق لصلاح النفوس وتهذيب القلوب فاسلك الطريق وعليك السؤال إن أردت الوصول واحدو نفسك إن شئت لسماع شريط ( كلانا على خير للدويش ) وقراءة كتاب ( التنازع والتوازن لموسى بن عقيل ) حتى لا تتيه وتتخبط يمنة ويسرة فتمل وتخفق وينقطع بك المسير كما هو حال الكثير ..
إذا أنت ضيعت الزمان بغفلة *** ندمت إذا شاهدت مافي الصحائف
فهبوا أيها الشباب إلى تلك المجالات ، كل واحد منا يعمل على قدر استطاعته وتخصصه هاهم العلماء يرحلون كنظام قُطع سلكه وقد قدموا الكثير والكثير وجاء دوركم أيها الجيل ..
الزمن القادم في انتظار . . فمن يمسك بالزمام !؟
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما فترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة *** لملّها الناس من عجم ومن عرب
غيِّر وسطك تنطلق(1/189)
البعض من الناس يعيش فترة من الزمن في وسط ما ، وإذا به يقلب أوراقه وصفحات عمره والسنين الطوال التي قضاها داخل المحضن فيجد أنه لم يزدد من الخير إلا قليلاً أو ما يزال في نقص مستمر وتقهقر دائم ، عاجز عن فعل الفضائل والتقدم نحو المكارم وربما أصاب شيئا من المحرمات والكبائر ، أصبح الرضا بالدون سبيله والوقوف عند الواجبات غايته ، رفع شعار العجز والاعتذار ، وحفر حفرة لدفن المواهب والأفكار ، نصب راية مكانك سر وعند البعض المهم النجاح دون النظر إلى التفوق والسمو .
وإذا به بعد تفكير دائم يريد أن يغير حياته ويتقدم لأن دوام الحال من المحال . لكن المحيط الذي يعيش فيه يكون عائقاًله عن ذلك : إما لعدم المعين وإما لأنه قد عُرف عنه الضعف وعدم الجد أو لمعرفة الآخرين بعض أخطائه وعيوبه . فإذا جدّ وبذل ونصح واقترح وجدَ من يهزأ به أو لايتقبل منه أو من يعيره ، حينها كان لزاماً عليه تغيير الوسط والمحيط وكما قيل ( غير وسطك تنطلق ) .
كلمة رائعة وقاعدة ثابتة وعلاج شرعي نافع وميدان مجرب ونصيحة المربين ودواء لمن اشتكى من داء السآمة والملل والضعف والرجوع إلى الوراء .(1/190)
فمن العوامل المساعدة على تجديد الحياة والانطلاقة من جديد نحو تربية جادة والارتقاء بالنفس نحو غايات نبيلة وأهداف سامية تغيير الوسط وقد أرشد القرآن والسنة إلى هذا العلاج قال تعالى في قصة بلقيس :{ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } وفي قصة القاتل مائة نفس أرشده العالم إلى التوبة وأن يغير بلده فإنها بلد سوء ونصه {اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة قرية كذا وكذا } (49) وكذلك كان من دواعي الهجرة إلى أرض الحبشة والمدينة تغيير البيئة والمحيط وإيجاد المعين والناصر بعد الله . لذا كان على المربين فيما بينهم إحداث تنقلات بين الأفراد الذين يمكثون سنين طويلة في محاضنهم ولا يُرى عليهم كثير تغير وصلاح أو عند أحدهم مشكلة داخل المحضن أو أن المحضن ابتداءً غير مناسب له من حيث الفروق الفردية والتربوية إما أقل منه أو أكبر (50) .
وأضع لتلك النقلة شروطاً اجتهادية :
أ- ألا يترتب على تلك النقلة تأثيرات سلبية على الفرد ذاته أو المحضن المنقول إليه .
ب- ألا يتسرب سبب نقله إلى أفراد أحد المحضنين إلا إذا وجدت المصلحة سواء كان الإخبار على مستوى الفرد أو المحضن كله .
ج- أن يوليه المربي الآخر بشيء من الاهتمام ولا يفضله تفضيلاً واضحاً أمام المتربين السابقين ويقدمه عليهم مباشرة .
د- ألا يُخبَر المربي الآخر بكل شيء فعله المنقول أو صفاته السلبية وأخطائه إلا في حدود ضيقة جداً وإذا لزم الأمر .
هـ- ألا يغادر المحضن الأول إلا بعد تهيئة المحضن الثاني المناسب له من حيث الفروق الفردية والتربوية كالعمر والمستوى الدراسي والقدرات .
و- مباشرة الانتقال للمحضن الآخر بعد الأول بحيث ألا يوجد بينهما وقت كبيرلئلا يفتر المنقول أو تتنازعه الأهواء والأفكار وشياطين الإنس .(1/191)
تنبيه : إذا رفض المتربي الانتقال أو إذا انتقل فإنه لن يذهب إلى المحضن الآخر ، حينئذ بقاؤه أولى إلا إذا كان فيه مفسدة متعدية .
ز- أن يكون النقل آخر العلاج .
ح- أن يكون النقل بالتدرج إذا احتيج إليه ( أي التدرج ) .
ط- تهيئة من يقوم بأعمال المنقول للقيام بعمله حتى لا يتوقف العمل.
وعلى المتربي إذا انتقل ألا يُخرج عيوب وأخطاء المحضن الأول أو المربي السابق على سبيل التشفي أو النقد أو غير ذلك متأولاً ومبرراً لنفسه بعض الأمور وأن النقل لا يعني قطع العلائق ونسيان الود والأخوة .
وربما المربي يرفض نقل المتربي والسماح له فيضطر المتربي حينئذ لافتعال المشكلات بينه وبين المتربي أو الأفراد ليترك المحضن فعلى الجميع حينئذ النظر إلى المصالح والمفاسد وإيجاد الحلول والبدائل .
وتارة يكون المربي هو الذي يحتاج إلى النقل لأي سبب من الأسباب سلباً أو إيجاباً :إما لخطأ صدر منه أفقده شخصيته أو لوجود مشكلة وغيرها فيحتاج النقل إلى حكمة ومعالجة دقيقة حتى لا يفتقد في أي مجال من مجالات الإصلاح ولا ننسى أن الأخطاء تارة تكون في حق الله وتارة في حق الأشخاص وتارة اجتهادية لاتصل إلى محرم وكلٌ له طريقة في العلاج والعقاب ولنزن الأمور بميزان العدل والتعقل ولا يأخذنا الحماس غير المنضبط والعجلة في الأحكام والانتصار لأنفسنا ولنتأمل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معالجة الأخطاء (51) .
برنامج مقترح لطالب العلم المبتدئ :
إن طلب العلم اختلفت طرائق العلماء ومناهجهم فيه وذلك لعدة أسباب :
1- المدينة التي يسكنها الإنسان وتوفر العلماء والدروس فيها .
2- الظروف التي تحيط بالإنسان من حيث الوقت والعمل والحالة الاجتماعية .
3- فهم الإنسان ومداركه وقدرته وجلده في التلقي والقراءة .(1/192)
وبالنظر إلى من يطلب العلم الشرعي تبين أن بعضهم طلاب علم أقوياء أذكياء فصحاء ، حديثهم درر من العلم لا تمل جلوسهم يذكرونك بالعلماء ومنهج العلماء والبعض الآخر يتخبطون على غير منهج يبدأون من وسط الطريق أو من آخره فضلَّ فهمهم ولم يحصلوا علماً ولم يتقنوا فناً ولم يسترشدوا ويسألوا بم يبدأون ؟ أو أنهم دائماً يسألون كيف نبدأ وبم نبدأ ؟ وكلما رأوا طالب علم أو داعية سألوه هذا السؤال حتى أصبحوا في حيرة من أمرهم أو قلَّ حماسهم وأصبح شغلهم الشاغل السؤال لا طلب العلم .
فبناء على ذلك فقد وُضع هذا المنهج قريباً من منهج الأولين اجتهاداً بعد استشارة وأخذٍ للآراء فيه من بعض الدعاة وطلاب العلم سائلاً المولى أن ينفع به وقد قسمته إلى قسمين :
كان السلف رحمهم الله أول ما يبدأون بحفظ كتاب الله مع تجويده فإن لم يتيسر فيكون مواكباً لطلب العلم وللأسف نجد أن بعض الشباب لا يهتم بحفظ كتاب الله ،يمكث سنوات في حياة الالتزام ولم يحفظ ولو جزء يسيراً أو يحدث نفسه بالحفظ ،فكيف يقوم الليل ، وكيف يأمر أبنائه وإخوانه بالالتحاق بحلق القرآن ، وكيف يؤم المصلين ويكون من الذاكرين ويعظ الناس بكتاب رب العالمين ، فالبدار البدار لحفظ القرآن ولاتكن من المحرومين .
هبوا إليه لحفظه وتأهبوا *** وارجوا رضا الرحمن صبحاً والمسا
الأول : ويندرج تحته عدة علوم .
1- أول ما يجب على الإنسان تعلمه هو: التوحيد لتصحيح إيمانه الذي سيلقى به ربه ويُنصح المبتدئ بكتاب الأصول الثلاثة وكتاب التوحيد ومسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - .
2- فقه الأحكام لتصحيح العمل : عمدة الفقه لابن قدامة رحمه الله .
3- الحديث : الأربعين النووية مع زيادة ابن رجب وشرحها جامع العلوم والحكم مع عمدة الأحكام حفظاً وشرحاً .
4- التفسير : تفسير ابن سعدي - رحمه الله - أو الجلالين مع التنبه لما فيه من الملاحظات .(1/193)
5- السيرة : الفصول في اختصار سيرة الرسول لابن كثير .
6- النحو والصرف : الأجرومية .
ثانياً : ويندرج تحته عدة علوم .
1- أصول الفقه : الورقات للجويني .
2- المصطلح : البيقونية .
3- الفرائض : الرحبية .
4- علوم القرآن : مقدمة التفسير لشيخ الإسلام .
5- مفردات اللغة : القاموس المحيط .
6- البلاغة : التلخيص للقزويني .
وصايا :
أ- أخلص عملك فإنما الأعمال بالنيات .
ب- احرص على القراءة على شيخ (52) متقن بعد حفظ متن العلم المراد .
ج- استغلال الوقت مع تنظيمه ما بين قراءة وحفظ ومراجعة وراحة دتدرج داخل العلم الواحد فابدأ بالسهل ثم المتوسط ثم العالي .
هـ- لابد لك من قدر من الذكاء فإن لم يكن فتعلم فروض الأعيان ثم اتجه إلى حقل تفيد الأمة فيه .
و- اجمع بين العلم والعمل ولا تكن فتنة للناس .
ز- لا تفتك فائدة حتى تكتبها فالعلم صيد والكتابة قيده .
ح- لا تطلب على مبتدئ أو مبتدع .
ط- تواضع لمن تأخذ عنه ومن تصاحبه .
ي- عليك بالدعاء إذا استشكل شيء عليك واصحب ذلك بالسؤال .
ك- اسأل من تقرأ عليه ما الكتاب الذي تنتقل إليه بعد ضبط ما أخذت عليه .
ل- إياك والفتيا بغير علم وعود لسانك على قول لا أدري إذا كنت لاتدري .
م- ليكن لك مرجعية في تحصيل العلم والزم يا طالب العلم مبدأ الشورى في شؤون حياتك واحدو نفسك لسماع شريط ( فقه الاستشارة للشيخ / ناصر العمر )
كتب للقراءة العامة :
أخي طالب العلم : إن العلم لا يكون بالتلقي فقط بل لا بد من القرآءة والعكوف عليها ولا يمكن لطالب العلم أن يكون طالب علم قوي التأصيل والاستدلال والحجة، فصيح اللسان ، متكلماً واعظاً حتى تصبح القراءة شغله الشاغل فلاتكاد تراه أو يعيش فراغ أو يشعر بملل وسأم بل أصبحت الكتب ضرائر لأهله ومحبيه لأنها أخذت قلبه وعقله عنهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
ماتطعمت لذة العيش حتى *** صرت للبيت والكتاب جليساً
ليس شيء عندي أعز من العلم *** فما أبتغي سواه أنيساً(1/194)
فعود نفسك على ورد يومي من القراءة والاطلاع ولو قلَّ وشيئاً فشيئاً حتى تصل ( والقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيما ً) .
وأضع بين يديك كتباً للقراءة العامة جعلتها على مرحلتين اجتهاداً :
الأولى :
1- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر .
2- الأخلاق والسير لابن حزم .
3- حلية طالب العلم لبكر أبو زيد .
4- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي .
5 - رسائل عبد الملك القاسم .
6- علو الهمة لمحمد المقدم .
الثانية :
1- غذاء الألباب للسفاريني .
2- تهذيب مدارج السالكين للعزي .
3- معجم المناهي اللفظية لبكر أبو زيد .
أخيراً :
يا أخوتي ليس لي منكم سوى طلب *** هل يخذل الأخ من في الله آخاه
فلا تخلُّ أخاكم من دعائكم *** بظهر غيب وستر الليل أرخاه
جعلنا الله وقراء هذه الكلمات ممن قصد وجه الله فرضي الله عنه وأرضاه وإلى لقاء آخر يسره الله بمنه وكرمه على طريق الدعوة والداعية والمدعو وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ..
فهد بن يحيى العماري
مكة المكرمة
ص.ب : 20268
ammare1395@maktoob.com
--------------------------------------------------------------------------------
احصل على نسخة من كتاب : فتح آفاق للعمل الجاد ..للشيخ فهد العماري
للقراءة : فتح آفاق للعمل الجاد
للقراءة : دعوة للمصارحة : أسباب ضعف العمل الدعوي
للقراءة : من فنون التعامل : التعامل مع ظاهرة التعلق بالأشخاص
للقراءة : أيها الجيل
--------------------------
الهوامش
(49) رواه البخاري .
(50) نجد أن بعض الشباب ذكي وجاد لا يقبل برامج المحضن لكونها أقل منه فتجده يثير إشكاليات مع المربي لا يوافقه عليها أو يكثر تخلفه ومصادماته مع المتربين في بعض الأمور أو لا يقبل بعض التصرفات فيمكن إيجاد برامج مقوية له ولا يفرط به وإذا لم يتوصل لحل مناسب فيمكن نقله إلى محضن مناسب له .
(51) أنصح بقراءة كتاب الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس للمنجد .
((1/195)
52) نجد بعض الشباب لا يجد لأحد المشائخ درساً في الكتاب الذي يريد أن يقرأه أو تجده لابد أن يطلب العلم على كبار المشائخ المشهورين وهذا مطلب لكن إن لم يتيسر فالتوقف أو الانتقال إلى فن أو كتاب أعلى ليس حلاً وليقرأ على غير المشهورين أو طلبة العلم المتقنين ولقد قال ابن المبارك رحمه الله " إنما ينقل الأصاغر العلم عن الأكابر" فإن لم يتيسر فيقرأ مع بعض زملائه أو لوحده في الشروح الميسرة أو الاستماع للأشرطة مع تقييد المشكل واختيار أحد المشائخ في تخصصه وسؤاله عن المشكل ولو هاتفياً أو الذهاب إليه إن تيسر .
ــــــــــــــــــ
سفينة المجتمع ...
أبو حذافة المدني
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فان تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعا، وان أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا" رواه البخاري.(1/196)
يبين لنا هذا الحديث العظيم ان على كل مسلم ان يراعي حدود الله ولا ينتهك شيئا منها بل وعليه ان ينكر على من يتعدى هذه الحدود التي حدها لنا الشرع المطهر، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتي هي من صفات المؤمن الصالح التقي النقي، لذلك شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائم على حدود الله تعالى وهو المنكر لها بالقائم على دفعها وإزالتها والمراد بالحدود هنا ما نهى الله عنه، وشبه الواقع فيها أي مرتكبها كمثل قوم استهموا على سفينة وهي سفينة المجتمع فاقترعوا في هذه السفينة حيث أصبح لكل شخص منهم نصيب وجزء منها فأصبحوا شركاء فيها. فصار بعضهم اعلاها، وبعضهم أسفلها. فمنهم من يعمل على خرق سفينة المجتمع هذه، ومنهم من ينكر عليهم ويأخذ على أيديهم حتى ينجوا وينجو المجتمع بأكمله. بفضل الله ثم بفضل أهل الغيرة على الدين أصحاب الهمة العالية والذين يصلحون ما يفسده الناس يصلح المجتمع والأفراد والجماعات وذوو الاتجاهات والأفكار المختلفة وان كل منكر يرتكبه الانسان في مجتمعه انما هو خرق خطير في سلامة وصلاح هذا المجتمع. ونلاحظ انه قد يتصرف بعض الناس بما يضر بالآخرين بدافع الاجتهاد لكنه خاطىء ونيته حسنة.
ان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يضرب لنا الأمثال الواقعية الحية المحسوسة حتى نعي دورنا الفعلي في مجتمعنا المسلم، ويعلمنا هذا الحديث الشريف ان الأخذ على يد الواقع في حدود الله والانكار عليه انما هو سبب بإذن الله في نجاة الجميع صاحب المنكر ومن أنكر عليه ونهاه عن ذلك الذنب وتلك المعصية، فعلى الأخ ان تكون لديه يقظة تجاه نفسه أولا وتجاه أخيه فيحب لأخيه ما يحب لنفسه فيرده عن الخطأ ان أخطأ.(1/197)
وقد قال الله تعالى "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" سورة فصلت، وقال تعالى أيضا "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" .
ان هذا هو الترابط الأخوي بين المسلمين، وأصل الدعوة الى الله تبارك وتعالى على بصيرة والنصيحة الحكيمة التي يجب ان تصدر من هذا المنبع الصافي ألا وهو الكتاب الكريم والسنة الشريفة.. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
ــــــــــــــــــ
رفع الهمم إلى القمم
د. عائض القرني
أنا إن عشت لست أعدم خبزا *** وإذا مت لست أعدم قبرا
همتّي همة الملوك ونفسي *** نفس حر ترى المذلة طفرا
السلام على أهل الهمة ..
فهم صفوة الأمم ...
وأهل المجد والكرم ..
طالت بهم أرواحهم إلى مراقي الصعود ... مطالع السعود ... ومراتب الخلود
ومن أراد المعالي هان عليه كل هم .. لأنه لولا المشقة ساد الناس كلهم ..
ونصوص الوحي تناديك ... سارع ولا تلبث بناديك
وسابق ولا تمكث بواديك ..
أمية بن خلف لما جلس مع الخلف أدركه التلف ...
ولما سمع بلال بن رباح حي على الفلاح .. أصبح من أهل الصلاح
أطلب الأعلى دائما وما عليك ...
فإن موسى لما اختصه الله بالكلام قال : *** رب أرني أنظر إليك ***
المجد لايأتي هبة ... لكنه يحصل بالمناهبة .
فلما حمل الهدهد الرسالة ، ذكر في سورة النمل بالبسالة .
نجحت النملة بالمثابرة ، وطول المصابرة ،
تريد المجد ولا تجدّ ...؟؟؟؟
تخطب المعالي وتناوم الليالي ...؟؟؟
ترجوا الجنة وتفرط في السنة ...؟؟؟
قام رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ...
وربط الحجر على بطنه من الجوع .. وهو العبد الأواه ..
وأدميت عقباه بالحجارة .. وخاض بنفسه كل غارة ..
يدعى أبو بكر من الأبواب الثمانية ، لأن قلبه معلق بربه كل ثانية ..(1/198)
صرف للدين أقواله ،، وأصلح بالهدى أفعاله ،، وأقام بالحق أحواله ،، وأنفق في سبيل الله أمواله ... وهاجر وترك عياله
لبس عمر المرقع ،، وتأوّه من ذكر الموت وتوجع ،، وأخذ الحيطة لدينه وتوقع ..
عدل وصدق وتهجد ،، وسأل الله أن يستشهد ،، فرزقه الله الشهادة في المسجد ..
عليك الجد إن الأمر جد *** وليس كما ظننت ولا وهمتا
وبادر فالليالي مسرعات *** وأنت بمقلة الحدثان نمت
اخرج من سرداب الأماني ،، يا أسير الأغاني ،،
وانفض غبار الكسل واهجر من عذل ،، فكل من سار على الدرب وصل ..
نسيت الآيات وأخّرت الصلوات ،، وأذهبت عمرك السهرات ،، وتريد الجنات ؟؟؟
ويلك !! والله ما شبع النمل حتى جد في الطلب ..
وما ساد الأسد حتى وثب ..
وما أصاب السهم حتى خرج من القوس ..
وما قطع السيف حتى صار أحد من الموس ..
الحمامة تبيني عشها ..
والحمرة تنقل عشها ..
والعنكبوت تهندس بيتها ..
والضب يحفر مغارة ...
والجرادة تبني عمارة ..
وأنت لك مدة ... ورأسك على المخدة .. في الحديث *** إحرص على ما ينفعك ***
لأن ما ينفعك يرفعك ...
*** المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ***
بالقوة يبنى القصر المنيف ,, وينال المجد الشريف ..
همة تنطح الثريا وعزم *** نبوي يزعزع الأجبال
صاحب الهمة مايهمه الحرّ ... ولايخيفه القرّ ... ولا يزعجه الضرّ .. ولايقلقله المرّ
لأنه تدرع بالصبر .
صاحب الهمة يسبق الأمة .. إلى القمة ..
*** والسابقون السابقون أولئك المقربون ***
لأنهم على الصالحات مدبون في البر مجرّبون .
عمي بعض المحدثين من كثرة الرواية ،، فما كلّ ولاملّ حتى بلغ النهاية ،،
مشى أحمد بن حنبل من بغداد إلى صنعاء ،، وأنت تفتر في حفظ دعاء .
سافر أحدهم إلى مصر وغدوه شهر ورواحه شهر ،، في طلب حديث واحد ،، ليدرك به المجد الخالد .
ولولا المحنة ، مادعي أحمد إمام االسنة ,, ووصل بالجلد إلى المجد .
ووضع ابن تيمية في الزنزانة ,, فبرز بالعلم زمانه .(1/199)
واعلم أن الماء الراكد فاسد ،، لأنه لم يسافر ولم يجاهد .
ولما جرى الماء ،، صار مطلب الأحياء .
بقيت على سطح البحر الجيفة ،، لأنها خفيفة ,,
وسافر الدرّ إلى قاع البحر ،، فوضع من التكريم على النحر .
فكن رجلا رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
ياكثير الرقاد ،، أما لنومك نفاد ؟؟
سوف تدفع الثمن يامن غلبه الوسن ..
تظن الحياة جلسة ,, وكبسة,, ولبسة,, وخلسة ؟؟
بل الحياة شريعة ودمعة ،، وركعة ،، ومحاربة بدعة .
الله أمرتا بالعمل ،،لينظر عملنا وقال ** والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا **
فالحياة عقيدة ،، وجهاد ،، وصبر ،، وجلاد ،، ونضال ،، وكفاح ،، وبر ،، وفلاح .
لامكان في الحياة لأكول كسول ..
ولامقعد في حافلة الدنيا للمخذول ..
ابدأ في طلب الأجر من الفجر ،، بقراءة وذكر ،، ودعاء وشكر ،، لأنها انطلاق الطير من وكورها ،،
ولا تنسى : ** بارك الله لأمتي في بكورها **
العلم في حركة ،، كأنه شركة ،، وقلبك خربة كأنه خشبة .
والطير يغرد ،، والقمري ينشد ،، والماء يتمتم ،، والهواء يهمهم ،، والأسود تصول ،، والبهائم تجول ،، وأنت جثة على الفراش ؟؟ لافي أمر عبادة ، ولا معاش ؟؟
نائم هائم ،، طروب لعوب كسول أكول .
ولاتقل الصبا فيه اتساع *** وفكر كم صبي قد دفنتا
تفرّ من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررتا
أنت تفتر والملائكة لايفترون ،، وتسأم العمل والمقربو لايسأمون ،،
بم تدخل الجنة ؟؟
هل طعنت في ذات الله بالألسنة ؟؟
هل أوذيت في نصر السنة ؟؟
فانفض عنك غبار الخمول ,, ياكسول .
فبلال العزيمة ،، أذن في أذنك فهل تسمع ؟؟
وداع الخير دعاك فلماذا لاتسرع ؟؟
*** ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله ورسوله إذا دعاكم لما يحييكم ***
ولابد للهمم الملتهبة أن تنال مطلوبها ،،
ولابد للعزائم المتوثبة أن تدرك مرغوبها ..
سنة لاتبدل ،، وقضية لاتحوّل ..
سوف تأتيك المعالي إن أتيت *** لاتقل سوف ، عسى ، أين ، وليت(1/200)
قل للمتخلفين اقعدوا مع الخالفين ،، لأن المنازل العالية والأماني الغالية ،، تحتاج إلى همم موارّة ،، وفتكات جبارة ,, لينال المجد بجدارة
وقل للكسول النائم .. والثقيل الهائم .. امسح النوم من عينيك ،، واطرد الكرى من جفنيك ,, فلن تنال من ماء العزة قطرة ،، ولن ترى من نور العلى خطرة ،، حتى تثب مع من وثب ،، وتفعل مايجب ،، وتأتي بالسبب .
ألا فليهنأ أرباب الهمم ،، بوصول القمم .
وليخسأ العاكغون على غفلاتهم في الحضيض ،، فلن يشفع لهم عند ملوك الفضل نومهم العريض .
وقل لهؤلاء الراقدين : *** إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ***
فهبوا إلى درجات الكمال ... نساء ورجالا ودرّبوا على الفضيلة أطفالا ..
*** انفروا خفافا وثقالا ***
الشيخ عائض القرني
نقله : غربة السنة
شبكة أنا المسلم
ــــــــــــــــــ
على قمم الجبال
د.محمد بن عبدالرحمن العريفي
أما بعد ..
فهذه رحلة مع أقوام من الصالحين ..
الذين تنفسوا في الطاعات .. وتسابقوا إلى الخيرات ..
نعم.. مع الذين سارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنات..
هذه أخبار أقوام .. لم يتهيبوا صعود الجبال.. بل نزعوا عن أعناقهم الأغلال .. واشتاقوا إلى الكريم المتعال ..
هم نساء ورجال .. علو إلى قمم الجبال..
ما حجبتهم عن ربهم لذة .. ولا اشتغلوا عن دينهم بشهوة ..
فأحبهم ربهم وأدناهم .. وأعلى مكانهم وأعطاهم ..
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) ..
نعم .. والله لا يستوون ..
لا يستوي من ليله قيام .. ونهاره صيام ..
مع من ليله عزف وأنغام .. ونهاره كالأنعام ..(1/201)
لا يستوون .. { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } ..
وإذا اردت أن تقف على حال المتقين ..
فانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى المدينة ..
وانظر إلى أولئك الفقراء .. انظر إلى أبي هريرة وسلمان .. وأبي ذر وبلال .. وقد أقبلوا إلى النبي عليه السلام .. يشتكون من الأغنياء ..
عجباً !! الفقراء يشتكون من الأغنياء !! نعم .. فلماذا يشتكون ..
هل لأن طعام الأغنياء ألذ من طعامهم .. أم لأن لباس الأغنياء ألين من لباسهم ..
أم لأن بيوت الأغنياء أرفع من بيوتهم .. كلا .. ما كانت هذه شكاتهم .. ولا كان في هذا تنافسهم ..
أقبلوا حتى وقفوا بين يدي النبي عليه السلام .. فقالوا يا رسول الله .. جئنا إليك نشتكي من الأغنياء ..
قال : وما ذاك ..
قالوا : يا رسول الله .. ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى .. يصلون كما نصلي .. ويصومون كما نصوم ..
ولكن لهم .. فضول أموال فيتصدقون .. ولا نجد ما نتصدق ..
فقال لهم النبي عليه السلام : ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟
قالوا : نعم ..
قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. وتحمدون ثلاثاً وثلاثين .. وتكبرون ثلاثاً وثلاثين .. إنكم إذا فعلتم ذلك .. سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ..
فرح الفقراء بذلك .. فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد ..(1/202)
التفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون .. سألوهم عن ذلك .. فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام .. فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء .. حتى تسابقوا إليها .. نعم .. إذا أبو بكر يسبح .. وإذا ابن عوف يسبح .. وإذا الزبير يسبح ..
فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام .. فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا .. ففعلوا مثلنا .. فعلمنا شيئاً آخر ..
فقال - صلى الله عليه وسلم - : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة ..
نعم .. ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ..
* * * * * * * *
بل كان التنافس على الخيرات هو الذي يشغل بال الصالحين .. ويرفع درجات المتقين ..
وانظر إلى الشيخين الجليلين .. والعلمين العابدين ..
انظر إلى أبي بكر وعمر ..
كان عمر رضي الله عنه .. يقول : كنت أتمنى أن أسبق أبا بكر .. إن سبقته يوماً ..
فأمر النبي عليه السلام الناسَ بالصدقة يوماً .. وكان عند عمر مال حاضر من ذهب وفضة .. فقال في نفسه : اليوم أسبق أبا بكر ..
فأقبل على ماله فقسمه نصفين .. وأبقى نصفٍاً لعياله .. وجاء بنصف إلى النبي عليه السلام ..
فلما وضعه بين يديه .. رفع - صلى الله عليه وسلم - بصره إليه ثم قال : ماذا تركت لأهلك ..
قال : يا رسول الله .. تركت لهم مثله ..
ثم جلس عمر ينتظر أبا بكر ..
فإذا أبو بكر قد جاء بصرة عظيمة .. فوضعها بين يدي النبي عليه السلام .. فقال له - صلى الله عليه وسلم - : ماذا تركت لأهلك ..
فقال أبو بكر : تركت لهم الله ورسوله ..
فنظر إليه عمر ثم قال : والله لا سابقت أبا بكر بعد اليوم أبداً ..
* * * * * * * *(1/203)
بل انظر إلى صورة أخرى من صور التنافس الحارّ .. يوم يقف النبي عليه السلام أمام جموع المسلمين في معركة أحد .. ثم يعرض سيفه صلتاً ويصيح بجموع الأبطال : من يأخذ هذا السيف بحقه ..
عندها تتسابق الأكف .. وتتطاير الأبصار .. وتشرئب النفوس .. عجباً على ماذا يتسابقون ؟!
إنه على الروح أن يبذلوها .. وعلى الدماء أن يسكبوها .. والأنفس ليقتلوها ..
فيقفز من بينهم أبو دجانة ويقول : وما حقه يا رسول الله ..
فيقول النبي عليه السلام : ألا تضرب به مسلماً .. ولا تفر به من بين يدي كافر ..
نعم .. لا تفر عن كافر مهما كان قوياً أو ضعيفاً .. شجاعاً أو جباناً ..
عندها يأخذه البطل .. ثم يخرج عصابة حمراء فيربطها على رأسه .. ويتبختر مستبشراً فرحاً .. ويضرب به هام الكفار حتى انثنى ..
* * * * * * * *
بل .. انظر إلى النبي عليه السلام .. وهو يحدث أصحابه عن يوم القيامة .. ويخبرهم ..
أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم .. ويقفز عكاشة بن محصن رضي الله عنه.. سريعاً .. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت ..
ويقول : "يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ) ..
ويفوز بها عكاشة .. ثم يغلق الباب .. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة ..
نعم سبق عكاشة فدخل الجنة بغير حساب ..
وفاز أبو دجانة بسيف النبي الأواب ..
وارتفع أبو بكر على جميع الأصحاب ..
وتنافس الأغنياء والفقراء .. والصالحون والأولياء ..
همهم واحد .. كما أن ربهم واحد ..
وقلوبهم ثابتة .. كما أن عزائمهم ماضية ..
وأنت أفلا نظرت إلى نفسك .. كيف همتك إذا رأيت من سبقك إلى الدعوة إلى الله .. أو النفقة في سبيل الله ..
أفلا تلوم نفسك إذا رأيت فلاناً سبقك بحفظ القرآن .. وأنت غافل ولهان ..
ورأيت الآخر سبقك إلى الجهاد .. وأنت على الأريكة والوساد ..(1/204)
والثالث يصعد في الدرجات .. وينكر المنكرات .. وأنت عاكف على أمور تافهات ..
ما حالك إذا علمت أن فلاناً صوام في النهار .. أو بكاء في الأسحار ..
فيا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى * يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا * لكل داهية تدني من العطب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت * ورسل ربك قد وافتك في الطلب
فاستفرش الخد ذياك التراب وقل * ما قاله صاحب الأشواق والحقب
منحتك الروح لا أبغى لها ثمنا * الا رضاك ووافقرى الا الثمن
* * * * * * * *
ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه .. غلام صغير من الأصحاب .. لكن همته كانت فوق السحاب ..
فكان يأتي إلى النبي عليه السلام .. وهو غلام .. فيقرب له وَضوءه وحاجته .. فأراد النبي عليه السلام أن يكافئه يوماً ..
فقال له : سلني يا ربيعة ..
فسكت ربيعة قليلاً .. ثم قال : أسألك مرافقتك في الجنة ..
فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو غير ذلك ؟
قال : هو ذاك .. فقال عليه السلام : فأعني على نفسك بكثرة السجود ..رواه مسلم ..
فكان ربيعة على صغر سنه لا يرى إلا مصلياً أو ساجداً ..
لم يفوت من عمره ساعة .. ولم يفقد في صلاة جماعة ..
* * * * * * * * *
نعم .. كانوا إذا عرفوا الفضائل تسابقوا إليها .. وثبتوا عليها ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله .. قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه للعمل الصالح ثم يقبضه عليه ..) ..(1/205)
فمن أحبه الله .. أستعمله في طاعته .. وجعله لا يعيش لنفسه فقط .. بل يعيش لدينه .. داعياً إليه .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. مهتماً بأمر المسلمين .. ناصحاً للمؤمنين .. ففي الشيشان أخته .. وفي أفغان أمه .. وفي الصين ابنته .. وفي كشمير أحبابه .. يألم لألمهم .. ويفرح لفرحهم .. لا تراه إلا واعظاً لخلانه .. ناصحاً لإخوانه .. مؤثراً في زمانه ومكانه ..
إذا رأى المنكرات .. امتلأ قلبه حسرات .. وفاضت عينه دمعات ..
يود لو أن جسده قُرّض بالمقاريض وأن الناس لم يعصوا الله تعالى ..
يستميت في سبيل نصح الخلق .. وهدايتهم إلى الحق .. تأمل في أحوال الأنبياء .. وأخبار الأولياء ..
انظر إلى إبراهيم وهود .. وسليمان وداود .. وتأمل في حال شعيب وموسى .. وأيوب وعيسى ..
كيف كانوا يخدمون الدين .. ويحققون اليقين ..
واستمع إلى نوح عليه السلام .. يشكو حاله فيقول :
( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) ..
فهل استسلم لما أعرضوا ؟ كلا :
( ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ..
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار .. العلن والإسرار ..
كل ذلك سخر للدعوة إلى الله ..
وقضى في ذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً .. تموت أجيال وتحيا أجيال .. وهو ثابت ثبات الجبال ..
* * * * * * * * * *
ووالله ما أقلت الغبراء .. ولا أظلت الخضراء .. أكرم خلقاً .. ولا أزكى نفساً .. ولا أحرص على هداية الناس من محمد - صلى الله عليه وسلم -
نعم ..
كان حريصاً على هداية الناس .. مسلمهم وكافرهم .. حرهم وعبدهم .. كبيرهم وصغيرهم ..(1/206)
بذل نفسه وروحه ووقته .. حتى قال له ربه : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ..
لقد دعا إلى الله في كل مكان .. وحال وزمان ..
في المسجد .. والسوق .. وفي الطريق .. بل وحتى على شفير القبر .. كان يستغل جميع المواقف ليعظ الناس ويذكرهم بربهم ..
لا يرى عاصياً إلا نصحه .. ولا مقصراً إلا وجّهه ..
ولم تكن نظرته في هداية الناس قاصرة .. بل كان عالي الهمة في ذلك .. يفكر في هداية الناس وهم في أصلاب آبائهم ..
في الصحيحين ..
أن عائشة رضي الله عنها تأملت يوماً .. في مصاب النبي عليه السلام يوم أحد .. يوم قتل بين يديه أصحابه .. وفر خلانه وأحبابه ..
وتمكن الكفار من الأبرار .. وارتفعت راية الفجار .. وعظم المصاب .. واشتد الكرب .. وأصيب النبي عليه السلام ..
قالت عائشة : يا رسول الله .. هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟
فقال - صلى الله عليه وسلم - وهو يستعيد ذكريات بلائه .. : لقد لقيت من قومك ما لقيت .. وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة .. إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل .. فلم يجبني إلى ما أردت ..
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ( وهو ميقات أهل نجد قرب الطائف ) ..
فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني .. فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني .. فقال :
إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم .. فناداني ملك الجبال فسلم علي .. ثم قال :
يا محمد فقال : ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين .. وهما جبلان عظيمان حول مكة ..
فقلت : لا .. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ..
* * * * * * * * * *(1/207)
وكان عليه السلام ينتهز جميع الفرص للوعظ والتذكير .. فهو بعد الصلاة يدعو الناس .. ويحببهم إلى ربهم ..
وفي السوق يرغبهم فيما عند خالقهم ..
وفي الطريق يذكرهم بمعبودهم ..
انظر إليه .. يردف وراءه يوماً عبد الله بن عباس .. فيلتفت إليه في وسط الطريق .. وينتهز الفرصة أن تفوت .. فيقول :
يا غلام .. إني أعلمك كلمات .. احفظ الله يحفظك .. احفظ الله تجده تجاهك .. إذا سألت فاسأل الله .. وإذا استعنت فاستعن بالله ..
وفي يوم آخر .. يردف معاذ بن جبل .. وراءه .. فيلتفت إليه وسط الطريق .. ويقول : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله .. حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
بل حتى عند القبر .. كان عليه السلام .. يستغل اجتماع الناس لهدايتهم ..
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال :
بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة .. فقال :
علام اجتمع عليه هؤلاء ؟
قيل : على قبر يحفرونه ..
ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً .. حتى انتهى إلى القبر .. فجثا عليه .. قال البراء : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع .. فبكى حتى بل الثرى من دموعه .. ثم أقبل علينا .. فقال :
أي إخواني لمثل اليوم فاعدوا ..
* * * * * * * * * *
بل .. لم يكن اهتمام النبي عليه السلام .. مقتصراً على كبار الأنام .. بل اعتنى بالصغار والكبار .. والعبيد والأحرار ..
عند البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - .. يسمع بغلام يهودي مريض .. فيقول لأنس هلم بنا نزوره ..
فيخرج إليه يزوره .. فلما دخل - صلى الله عليه وسلم - عليه .. فإذا الغلام طريح الفراش .. وأبوه قاعد عند رأسه ..
فقال له النبي عليه السلام : يا فلان .. قل : لا إله إلا الله ..
فنظر الغلام إلى أبيه .. فسكت أبوه ..(1/208)
فأعاد عليه النبي عليه السلام .. فنظر الغلام إلى أبيه .. فقال أبوه : أطع أبا القاسم ..
فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فتهلل وجه النبي عليه السلام .. ثم قام فخرج وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ..
لنتأمل قليلاً .. غلام خادم .. لا مال له ولا عشيرة ..
بل هو في سياق الموت .. ومع ذلك يفرح النبي عليه السلام بإسلامه .. لأنه نجى من النار ..
* * * * * * * * * *
بل انظر إليه عليه السلام .. لما خرج طريداً شريداً من مكة .. وقريش تجعل الجوائز لمن قتله ..
فيخرج متخفياً عن الكافرين .. ويختبأ في غار مليء بالعقارب والثعابين .. خوفاً من بطش المشركين ..
وما يكاد يخرج منه .. ويمضي إلى المدينة .. عليه وعثاء السفر .. وكربة الضر ..
حتى لقيه في الطريق بريدة بن الحصيب .. أعرابي في الصحراء .. فلما رآه النبي عليه السلام .. نسي تعبه ونصبه .. وأقبل عليه يدعوه إلى الإسلام .. ونبذ عبادة الصنام ..
ويستميت في سبيل ذلك .. فيسلم بريدة .. ويرجع إلى قومه فيدعوهم .. فيسلم منهم ثلاثون ..
فيأتي بهم في الظلام .. إلى النبي عليه السلام .. فيصلون معه العشاء .. كما عند ابن سعد في الطبقات ..
ما منعه خوفه ولا رعبه .. ولا جوعه ولا نصبه من هداية الناس إلى ربهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يتنازل عن حقوق نفسه .. وحاجات جسده في سبيل هداية الناس ..
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال :
أنهم غزو مع النبي عليه السلام .. غزاة قبل نجد .. فنزلوا أثناء الطريق ..
ونزل النبي عليه السلام تحت شجرة .. فعلق سيفه بغصن من أغصانها .. وفرش رداءه ونام تحتها ..
وتفرق الصحابة تحت الشجر .. يستظلون بظلها ..
فبنما هم كذلك .. إذ أقبل رجل إلى النبي عليه السلام .. يمشي رويداً رويداً .. حتى وقف على النبي عليه السلام ..(1/209)
وهو نائم .. فتناول السيف .. ثم استله من غمده .. ورفعه فوق رأس النبي عليه السلام .. ثم صاح بأعلى صوته وقال :
يا محمد !! من يمنعك مني ؟ ففتح النبي عليه السلام عينيه .. فإذا الرجل تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يلمع منه الموت ..
والرجل يصيح .. من يمنعك مني .. من يمنعك مني ..
فقال - صلى الله عليه وسلم - : الله ..
فانتفض الرجل .. وسقط السيف من يده .. وسقط الرجل على الأرض ..
فقام عليه السلام وأخذ السيف .. ثم رفعه وقال : من يمنعك مني ؟!!
فقال الرجل : لا أحد .. ( ماذا يقول !! اللات والعزى ) .. قال : لا أحد .. كن خير آخذ ..
فقال - صلى الله عليه وسلم - : تسلم .. قال : لا .. ولكن لك علي أن لا أقاتلك أبداً .. ولا أكون مع قوم يقاتلونك ..
فعفا عنه النبي عليه السلام .. ولم يعرض له بأذى ..
وكان الرجل ملك قومه .. فمضى إلى قومه .. وهو يقول : جئتكم من عند أحسن الناس .. وعاد بهم مسلمين ..
* * * * * * * * * *
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على سلوك هذا السبيل ..
فكان يصيح بهم قائلاً .. ( بلغوا عني ولو آية .. بلغوا عني ولو آية ) .. فما عذر أحداً في ترك الدعوة إلى الله ..
وفي الحديث الذي رواه مسلم .. قال - صلى الله عليه وسلم - لعلي ( فوالله .. لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) ..
وحث كل أحد على نشر العلم والنصيحة .. فقال عليه السلام فيما رواه الترمذي : ( إن الله .. وملائكته .. وأهل السماوات .. والأرضين .. حتى النملة في جحرها .. وحتى الحوت .. ليصلون على معلم الناس الخير ) ..
وعلى هذا الطريق المنير سار أصحابه .. فكان نشر الدين .. هو القضية الوحيدة التي لأجلها يحيون .. وعليها يموتون ..
فأبو بكر أسلم على يده أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
وكذلك عمر وعثمان .. وعلي وسلمان .. كم بذلوا وقدموا .. وجاهدوا وعملوا .. حتى انتشر الإسلام ..(1/210)
واهتدى أكثر الأنام .. ونسيت عبادة الأصنام .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
لله درهم .. كانوا أئمة عامة ..
يتصدون لإرشاد الناس .. وحمايتهم من المنكرات ..
نعم .. { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ..
* * * * * * * * * *
نعم .. كان الصحابة رضي الله عنهم يضاعفون الجهود .. ليوحد الرب المعبود ..
لكن الكفار - أيضاً - كانوا في عصرهم يبذلون .. كما هم في عصرنا يبذلون .. ليصدوا عن سبيل الله ..
ينفقون الأموال .. ويقدمون الرجال .. ويستنفرون الأبطال .. لِيُكفَر بالكبير المتعال ..
انظر إلى قبائل العرب قبل تمكن الإسلام .. وقد جاءت وفودها للحج في مكة ..
فصح في مسند أحمد .. أنه عليه السلام .. كان يقبل على القبيلة منهم .. فيقول لهم : يا غطفان .. هل لكم في عز الدهر .. قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا .. هذه رسالة ربي .. فمن يؤويني لأبلغ رسالة ربي ..
فما يكاد ينتهي من كلامه .. حتى يقبل عليهم أبو جهل مسرعاً .. فيصيح بهم : لا تصدقوه .. هذا ساحر .. هذا كاهن .. هذا مجنون .. أنا عمه وأدرى الناس به ..
فيتركهم النبي عليه السلام .. ويمضي حزيناً مهموماً .. حتى يختفي عن أبي جهل .. ثم يقف عند آخرين فيقول .. يا بني سلمة .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .. فإذا بأبي جهل يقبل عليهم .. ويقول لهم هذا مجنون ..
انظر كيف يبذل أبو جهل ليصد عن سبيل الله ..
بل انظر كم بذل أبو سفيان قبل إسلامه .. وكيف قاد الجيوش لقتل المسلمين في أحد والخندق ..
وكم بذل أبو لهب .. وأمية بن خلف ..(1/211)
كانوا يبذلون كل شيء للصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
بل لما اشتد عذاب الكفار .. على الصحابة الأبرار .. أمرهم النبي عليه السلام بالخروج من الجزيرة العربية كلها .. والهجرة إلى الحبشة ..
فخرج المؤمنون الموحدون .. تركوا أموالهم وأشجارهم وثمارهم .. تعبث بها قريش كما تشاء .. وركبوا عباب البحر .. واستقروا في الحبشة .. في أرض الغرباء البعداء .. في أرض لم يعرفوها .. وبلاد لم يألفوها .. ولغة لم يفهموها ..
استقروا هناك ..
فهل تركهم الكفار ؟!! كلا .. ما هان على الكافرين .. أن يوحَّد رب العالمين ..
جمعت قريش أموالها .. وانتدبت عقلاءها .. ليذهبوا إلى ملك الحبشة .. فيغروا بالهدايا والأموال .. ليُرجع المؤمنين إلى مكة حيث العذاب والنكال ..
عجباً .. وماذا يضر قريش أن يعبد الله في أرض بعيدة .. إنه الصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
وإن تعجب .. فاعجب .. من رجل يصد عن سبيل الله وهو على فراش الموت ..
إنه أبو طالب .. عم النبي عليه السلام .. كان مصدقاً في داخله بالإسلام ..
أليس هو الذي كان يقول :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
لكنه يظل على دين قومه ..
حتى كبر سنه .. ورق عظمه .. واقتربت منيته ..
فمرض يوماً .. واشتدت عليه السكرات ..
فيسرع النبي عليه السلام إليه .. فإذا عمه على فراش الموت ..
قد علاه النزع والعرق .. واشتد به الخوف والفرق ..
وهو يودع الدنيا بأنفاس أخيرة .. وإذا عنده أبو جهل وكفار قريش ..
فيقبل النبي عليه السلام عليه .. وينطرح بين يديه .. ويقول وهو يدافع عبراته .. يا عم قل لا إله إلا الله ..
فينظر إليه أبو طالب .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب الناس إليه ..(1/212)
فلما كاد أبو طال أن يقول لا إله إلا الله .. صاح به أبو جهل وقال : يا أبا طالب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
عجباً .. وما دخلك أنت يا أبا جهل .. الرجل على فراش الموت يسلم أو لا يسلم .. وما يضرك أنت أو ينفعك ..
إنه الصد عن سبيل الله ..
ورسول الله عليه السلام .. يصيح بعمه .. ويتدارك أنفاسه .. ويكرر :
يا عم .. قل لا إله إلا الله .. كلمة أحاج لك بها عند الله ..
وأبو جهل يدافعه .. أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
حتى مات .. وهو على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
(1/34)
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
بل كان الكفار يتواصون بالثبات على الباطل .. قال تعالى عن كفار قريش :
( وانطلق الملأ منهم أن امشوا - أي استمروا على دينكم - واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ) ..
وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا ..
( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً ) ..
* * * * * * * * * *
نعم كان الكفار يبذلون في عهد النبي عليه السلام .. للصد عن الإسلام ..
ولكن بذل المؤمنين كان أكثر .. وجهدَهم كان أكبر ..
يستميت أحدهم للإصلاح ويناضل .. حتى ظهر الحق وزهق الباطل ..
واليوم .. خذ جولة سريعة .. وقارن بين الفريقين ..
انظر - إن شئت - إلى عمل اليهود وتكاتفهم .. لإقامة دولة إسرائيل ..
وانظر إلى تفاني الهندوس والبوذيين في خدمة دينهم .. حتى استغرق ذلك أوقاتهم واستنفذ جهودهم .. فأشغلهم عن اللذات والشهوات ..
وانظر إلى نشاط المنصرين .. وحرصهم على دعوتهم .. وبذلهم أموالهم .. وأوقاتهم .. وجهودهم ..(1/213)
وهم على باطل ..
يقول أحد الدعاة ..
كانت تقدم إليَّ الدعوات دائماً لزيارة اللاجئين المسلمين في أفريقيا .. فتوجهت إلى هناك بعد تردد طويل .. وقررت أن أمكث أسبوعين .. وفوجئت بخطورة الطريق .. والحر الشديد .. وكثرة الحشرات .. والبعوض الحامل للأمراض ..
فلما وصلت فرح بي هؤلاء الضعفاء .. وأسكنوني في أحسن الخيام .. وأحضروا لي أنظف الفرش .. فبقيت تلك الليلة معجباً بنفسي .. وتضحيتي .. ثم نمت في عناء شديد .. وأنا أحمل هم هذين الأسبوعين ..
وفي الصباح جاءني أحدهم وطلب مني أن أتجول في المخيم .. فطلبت منه تأجيل ذلك حتى تخف حرارة الشمس .. فأصرَّ عليَّ فخرجت معه .. وذهبنا إلى البئر الوحيد الذي يزدحم عليه الناس .. ولفت نظري من بين هؤلاء الأفارقة .. شابة شعرها أصفر .. لم يتجاوز عمرها الثلاثين .. فسألته بعجب : من هذه ؟
فقال : هذه منصرة نرويجية .. تقيم هنا منذ ستة أشهر .. تأكل من طعامنا .. وتشرب من شرابنا .. وتعلمت لغتنا .. وقد تنصر على يدها المئات ..
نعم .. { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } ..
ويقول آخر ..
كنت في ألمانيا .. فطُرق علي الباب .. وإذا صوت امرأة شابة ينادي من ورائه ..
فقلت لها : ما تريدين ..؟
قالت : افتح الباب .. قلت : أنا رجل مسلم .. وليس عندي أحد .. ولا يجوز أن تدخلي عليَّ ..
فأصرت عليَّ .. فأبيت أن أفتح الباب ..
فقالت : أنا من جماعة شهود يهوه الدينية .. افتح الباب .. وخذ هذه الكتب والنشرات .. قلت : لا أريد شيئاً ..
فأخذت تترجى .. فوليت الباب ظهري .. ومضيت إلى غرفتي ..
فما كان منها إلا أن وضعت فمها على ثقب في الباب ..
ثم أخذت تتكلم عن دينها .. وتشرح مبادئ عقيدتها لمدة عشر دقائق ..
فلما انتهت .. توجهت إلى الباب وسألتها : لم تتعبين نفسك هكذا ..(1/214)
فقالت : أنا أشعر الآن بالراحة .. لأني بذلت ما أستطيع في سبيل خدمة ديني ..
{ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ..
* * * * * * * * * *
وجهود أعداء الدين .. من الكفرة والمنصرين .. أشهر من أن تذكر ..
وتأمل فيما يبذلونه لتنصير المسلمين .. من خلال قنوات فضائية .. وأشرطة سمعية ..
وكتب مقروءة .. ونشرات موبوءة ..
تأمل ذلك كله ثم قارنه بما يبذله المسلمون ..
أو قارنه إن شئت بهذين الموقفين ..
يقف أحد الشباب عند محطة وقود .. ويطلب من العامل أن يعبأ له ببضع ريالات ..
وخلال ذلك يسأل العامل : مسلم أنت ..
فيقول العامل : لا .. لست مسلماً ..
فيسأله صاحبنا : لماذا لا تسلم .. فيقول العامل : لا أعرف ما الإسلام ..
فيقول صاحبنا : أنا أحضر لك كتباً عن الإسلام ..
عندها صاح به العامل وقال : أنت كذاب ..
قال : كذاب !! لماذا ..
فقال العامل : أنا أعمل في هذا المحطة منذ خمس سنوات .. وكل واحد يمر بي يقول :
سأحضر لك كتباً عن الإسلام .. وإلى الآن لم يحضر إليَّ أحد شيئاً ..
وحدثني أحد العاملين في مركز لدعوة غير المسلمين في أحد المطارات ..
أنه كان يوزع مظاريف تحتوي على بعض الكتب الدينية على الخادمات المغادرات إلى إندونيسيا ..
قال : فمرت بي امرأة مع خادمتها .. تودعها إلى بلدها .. فناديتها .. قلت : يا أختي .. تفضلي هذه هدية للخادمة ..وأعطيتها مظروفاً مغلقاً ..
فقالت : ما هذا ؟ قلت : هو للخادمة ..
ففتحت المرأة المظروف .. فلما رأت الكتب قالت بغير مبالاة .. كتب إسلامية .. لا نريد كتباً إسلامية .. ثم رمت الكتب على الطاولة .. ومضت بخادمتها ..
سبحان الله .. بعض المسلمين .. لا دفع ولا نفع .. كما قال :
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا * * حياتك لا نفع وموتك فاجع
تأمل في غفلة كثير منا عن دعوة من هم بين أظهرنا ..(1/215)
يسكن الكافر بين أظهرنا سنين .. ثم يرجع وهو على حاله : يعبد بوذا .. ويقدس البقرة .. ويقول الله ثالث ثلاثة ..
* * * * * * * * * *
بل دعك من الكافرين ..
كم نرى من المسلمين المقصرين في صلاة الجماعة .. والمتساهلين بالغناء وسماعه ..
وكم نرى من العاقين .. والمرابين .. والمتلاعبين بأعراض المسلمين ..
بل كم نرى من السُّكارى .. والشباب والفتيات الحيارى ..
فماذا بذلنا لهم ..
وبصراحة ..
بعض الناس إذا تكلمنا عن الدعوة إلى الله .. ظن أن الدعوة مقصورة .. على من أعفى لحيته وقصّر ثوبه ..
ثم جعل حلقه للحيته .. وإسباله لثوبه .. أو تدخينه .. أو سماعه للغناء ..
حائلاً بينه وبين خدمة الدين .. أو نصح المقصرين ..
بل قد يقعد الشيطان العاصي عن الدعوة .. ويقول له ..
أنت تنصح الناس !!! ألا تذكر خطاياك ؟ أمثلك يعمل للدين ؟
فيفوت الشيطان بذلك على الإسلام .. جندياً من جنود الرحمن ..
نعم .. لا أنكر أن الأصل في الداعية أن يكون مستقيماً على الطاعات ..
ولكن وجود السيئات .. لا يمنع من فعل حسنات ..
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
بل قد يجالس الداعية بعض الناس .. ولا يعلم أنهم يأكلون الربا والحرام .. أو يقعون في الفواحش والآثام ..
أو يتركون الصلوات .. ويعاقرون المسكرات ..
فلا يلام الداعية إذا سكت عنهم .. لأنهم يتظاهرون أمامه بالخير ..
ولكن هم يلامون .. فيجب على بعضهم أن ينصح بعضاً ..
وأنت وإن كنت عاصياً .. فلم تنقلب يهودياً ولا نصرانياً ..
فالعاصي المؤمن معدود من المؤمنين .. وقد قال الله ..
{(1/216)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ..
وكم من الناس اليوم ممن وقعوا في شهوات .. أو وقعت بينهم وبين بعض الصالحين خصومات ..
تسلط عليهم الشيطان .. فشعروا أنهم أعداء للدين وأهله ..
مع أن العبد قد يقع في المعصية .. لكنه يبقى من حزب الرحمن ..
وانظر إلى ذلك الرجل .. الذي أغواه الشيطان فشرب خمراً .. فعوقب .. ثم شرب فعوقب .. ثم شرب ..
فأتي به إلى النبي عليه السلام .. فلما عوقب .. قال بعض الصحابة :
لعنه الله .. ما أكثر ما يؤتى به !!
وقال : ( لا تلعنوه .. فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )..
فهو وإن شرب خمراً لم ينقلب عدواً للدين ..
وتلك المرأة الزانية التائبة ..
أقاموا عليها الحد .. فلما ماتت سبها بعض الأصحاب ..
فقال عليه السلام : ( لقد تابت لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم )..
ولما زنى ماعز رضي الله عنه فرجم .. قال النبي عليه السلام : ( لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم .. والله إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها ) ..
وأنا بكلامي هذا لا أسوّغ الوقوع في المعاصي .. أو أعتذر لأصحابها .. ولكن .. ذكّر إن نفعت الذكرى ..
ولا ينبغي أن تحول المعصية بين صاحبها وبين خدمة هذا الدين ..
* * * * * * * * * *
أبو محجن الثقفي رجل من المسلمين كان قد ابتلي في الجاهلية بشرب الخمر ..
وقد تعلقت بها نفسه .. وهام بها قلبه .. حتى كان يوصي ولده ويقول :(1/217)
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدي فإنني أسيرٌ لها من بعد ما قد أسوقها
فلما أسلم .. بقيت نفسه تغلبه عليها .. فيعاقب عليها ويعود .. ثم يعاقب ويعود ..
فلما تداعى المسلمون للخروج لقتال الفرس في معركة القادسية .. خرج معهم أبو محجن .. وحمل زاده ومتاعه ..
فلما وصلوا القادسية .. طلب رستم مقابلة سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين ..
وبدأت المراسلات بين الجيشين .. عندها وسوس الشيطان لأبي محجن رضي الله عنه فاختبأ في مكان بعيد وشرب خمراً ..
فلما علم به سعد رضي الله عنه غضب عليه .. وقيد يديه ورجليه .. وحبسه في خيمة ..
وبدء القتال .. وتنازل الأبطال .. وقعقعت السيوف .. وتتابعت الحُتوف ..
ورميت الرماح .. وارتفع الصياح ..
وغبرت خيل الرحمن .. وعلت أصوات الفرسان .. وفتحت أبواب الجنان ..
وطارت أرواح الشهداء .. واشتاق الأولياء ..
وأبو محجن يئن بقيد ** فلمَ القيدُ أيّهذا الأسير؟؟
أيها الفارس العنيد ترجّل** فخيولي حبيسة لا تغير!!
يا أبا محجن كفاك قعوداً ** أنت بالحرب والسلاح خبير
فاعصب الرأس عزة تتلظى ** هُتك العرضُ والجناح كسير
أَزِفت ساعة القصاص وإلا ** فاجرع الموتَ ثم بئس المصير
أخذ أبو محجن .. يتململ في قيوده .. وتتحرك أشواقه إلى الشهادة .. فيثب ليبذل الروح .. فإذا القيد في رجله :
فأخذ يتحسّر على حاله ويقول :
كفى حزناً أن تدحم الخيل بالقنى *** وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت *** مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثيرو إخوة *** وقد تركوني مفرداً لا أخاليا
فلله عهد لا أحيف بعهده *** لإن فُرّجت ألا أزور الحوانيا
ثم أخذ ينادي ويصيح بأعلى صوته ..
فأجابته امرأة سعد : ما تريد ؟(1/218)
فقال : فكي القيد من رجلي وأعطيني البلقاء فرس سعد .. فأقاتل فإن رزقني الله الشهادة فهو ما أريد .. وإن بقيت فلك عليّ عهد الله وميثاقه أن أرجع حتى تضعي القيد في قدمي ..
وأخذ يرجوها ويناشدها .. حتى فكت قيده وأعطته البلقاء .. فلبس درعه .. وغطى وجهه بالمغفر .. ثم قفز كالأسد على ظهر الفرس .. وألقى نفسه بين الكفار يدافع عن هذا الدين ويحامي ..
علق نفسه بالآخرة ولم يفلح إبليس في تثبيطه عن خدمة هذا الدين ..
حمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه .. وكان يقصف الناس قصفاً ..
وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ..
فقال بعضهم : لعله مدد من عمر ..
وقال بعضهم : لعله ملك من الملائكة ..
ومضى أبو محجن يضرب ويقاتل .. ويبذل روحه ويناضل ..
فأقدم فإما مُنْية أو مَنيَّة *** تريحك من عيش به لست راضيا
فما ثَمَّ إلا الوصلُ أو كلفٌ بهم *** وحسبك فوزاً ذاك إن كنت واعيا
مضى أبو محجن ..
أما سعد بن أبي وقاص فقد كانت به قروح في فخذيه فلم ينزل ساحة القتال .. لكنه كان يرقب القتال من بعيد ..
فلما رأى أبا محجن عجب من قوة قتاله .. وأخذ يتبعه بصره ويقول :
الضرب ضرب أبي محجن .. والكر .. كر البلقاء .. وأبو محجن في القيد .. والبلقاء في الحبس ..
فلما انتهى القتال عاد أبو محجن إلى سجنه .. ووضع رجله في القيد ..
ونزل سعد فوجد فرسه يعرق .. فعلم أنها شهدت القتال ..
فدخل على أبي محجن .. فإذا جراحه تسل دماً .. وعيناه تفيض دمعاً ..
وهو يقول .. يا سعد .. والله لا شربت الخمر أبداً ..
فلله درّ أبي محجن .. نعم وقع في معصية .. ولكنه يفعل طاعات تغوص معصيته في بحرها ..
ومن ذا الذي ترجى سجاياه كلها * كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
* * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
نحن اليوم في زمن تكاثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
وقل الأصدقاء .. وتلون الأعداء ..
فمنهم عدو كاشح في عدائه * * ومنهم عدو في ثياب الأصادق(1/219)
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه * * له فيكم فعل العدو المفارق
فأكثر المسلمين اليوم حائرون في الملذات .. غرقى في الشهوات ..
يبحثون عن حياض النجاة .. عن خشبة يتعلقون بها .. أو سفينة يأوون إليها ..
فمن كان عنده فضل مال فليجد به على من لا مال له ..
ومن كان عنده فضل طعام فليجد به على من لا طعام له ..
ومن كان عنده فضل علم فليجد به على من لا علم له ..
ومن كان عنده خوف ووجل .. من العظيم الأجلّ .. فليجد به على الغافلين .. المعرضين اللاهين ..
وأنت لا تدري .. ما هو الباب الذي تدخل منه إلى الجنة .. فابذل ولا يخذلك الشيطان ..
* * * * * * * * * *
وما أجمل أن ينتصر العبد على الشيطان ..
خرجت من المسجد يوماً فجاءني شاب عليه آثار المعصية وقد اسودّت شفتاه من كثرة التدخين .. فعجبت لما رأيته .. ماذا يريد .. فلما سلم عليَّ قال : يا شيخ أنتم تجمعون أموالاً لبناء مسجد أليس كذلك ؟
قلت : بلى .. فناولني ظرفاً مغلقاً .. وقال : هذا مال جمعتُه من أمي وأخواتي وبعض المعارف .. ثم ذهب ..
ففتحت الظرف فإذا فيه خمسة آلاف ريال .. وأنفقت تلك الخمسة آلاف في بناء ذلك المسجد ..
واليوم لا يذكر الله في ذلك المسجد ذاكر .. ولا يقرأ القرآن قارئ .. ولا يصلي مصلٍّ ..
إلا كان في ميزان ذلك الشاب مثل أجره ..
وعند مسلم قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) ..
* * * * * * * * *
وحدثني أحد الدعاة .. أنه طرق عليه باب بيته في منتصف الليل ..
قال : فخرجت أنظر من الطارق .. فإذا شاب عليه مظاهر المعصية ..
ففزعت في ظلمة الليل .. وسألته : ما تريد ؟
قال : أنت الشيخ فلان ؟
قلت : نعم .. قال : يا شيخ .. هنا رجلان قد أسلما على يدي .. ولا أدري ماذا أفعل بهما ..
فقلت في نفسي .. لعل هذا الشاب .. في ظلمة الليل قد شرب مسكراً .. أو تعاطى مخدراً ..فأذهب عقله ..(1/220)
فقلت له : وأين هذان الرجلان .. قال : هما معي في السيارة ..
فنزلت معه إلى سيارته .. فلما أقبلت عليها فإذا اثنان من العمال الهنود .. ينتظران في السيارة .. قلت لهما : أنتما مسلمان .. قالا .. نعم الحمد لله .. الله أكبر ..
فالتفت إلى الشاب .. وقلت متعجباً : أسلما على يدك !!! .. كيف ..؟؟
فقال : هما يعملان في ورشة .. ولا زلت أتابعهما بالكتب حتى أسلما ..
والآن .. ما يفعل الرجلان طاعة .. ولا يصليان صلاة إلا كان في ميزان هذا الشاب مثل أجورهما ..
ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ..
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً ..
* * * * * * * * * *
حدثني أحد الصالحين أنه رأى الشيخ ابن باز رحمه الله بعد موته .. في المنام ..
قال : فسألته .. قلت يا شيخ دلني على عمل فاضل نافع ..
قال فرفع الشيخ يده وهزها وهو يقول : عليك بالدعوة إلى الله .. عليك بالدعوة إلى الله ..
وما زال يكررها حتى غاب عني ..
والدعوة إلى الله ليست مهمة صعبة ..
فكم من شخص كانت هدايته بسبب شريط نافع .. أو نصيحة صادقة .. أو رسالة عابرة ..
وصلتني رسالة قبل أيام .. من شاب في بريطانيا .. ذكر فيها مرسلها في أربع صفحات قصة ضلاله ومعاصيه .. ثم قال ..
وفي ليلة مشهودة .. دخلت مصلى في مانشستر .. فوطأت قدمي على شريط ملقى .. فأخذته ووضعته في جيبي ..
فلما وصلت إلى شقتي .. وضعته في المسجل أسمع .. فإذا الأمر عظيم .. والخطب جسيم ..
وإذا المسألة جنة ونار .. وثواب وعقاب .. قال : فما أصبحت تلك الليلة .. إلا وأنا تائب إلى الله ..
بسبب شريط واحد ..
ووصلتني ورقة بعد إحدى المحاضرات يقول كاتبها :
أنا قبل أربعة عشر عاماً .. كنت واقفاً عند إشارة مرور .. وقد رفعت صوت الغناء .. فالتفت إليَّ شاب من السيارة المجاورة .. وابتسم في وجهي .. ثم مدَّ إليَّ شريطاً ..
وأضاءت الإشارة خضراء وانطلق كل منا إلى سبيله ..(1/221)
أما أنا فقد وضعت الشريط في المسجل .. فلما استمعت إليه .. فتح الله على قلبي .. وأصبحت لا أغيب عن المحاضرات والدروس إلى يومي هذا ..
وأنا لا أعرف هذا الشاب الذي اهتديت على يده لكنه يكفيه أن الله يعرفه .. والملائكةَ ترقبه .. وأني ما أعمل عملاً إلا كان في ميزانه مثل أجري ..
ومثل هذا الشاب كثير .. ولكن من يوصل إليهم الهدى ..
كم من شاب فجأه الموت وهو تارك للصلوات .. أو مقيم على كبائر الشهوات .. لأن الدعاة ما استطاعوا الوصول إليه .. وأصحابه ما نشطوا في نصيحته .. بحجة أنهم مقصرون مثله ..
وكم من فتاة ترى زميلاتها .. يتبادلن الصور والأشرطة المحرّمة .. بل وأرقام الهواتف المشبوهة .. ومع ذلك إذا طالبناها بنصيحتهن قالت : أنا احتاج إلى من ينصحني .. أنا مقصرة ..
عجباً .. ما أسعد الشيطان بسماع هذه الكلمات ..
لو تأملنا ..
كيف دخل الإسلام إلى أفريقيا والفلبين .. والهند والصين .. حتى صار فيها ملايين المسلمين ..
فمن دعا هؤلاء ..
والله ما دعاهم مشايخ ولا علماء .. وإنما اهتدوا بسبب أقوام من عامة الناس .. ليسوا طلبة علم .. ولا أئمة مساجد .. ولا تخرجوا من كليات الشريعة ..
أقوام ذهبوا إلى هناك للتجارة .. فدعوا الناس فأسلموا على أيديهم .. فخرج من هؤلاء المسلمين الهنود والصينيين علماءُ ودعاةٌ .. وأجر هدايتهم لأولئك التجار ..
إن توزيع الأشرطة .. ونشر الكتب .. وتوزيع بطاقات الأذكار .. أمور لا تحتاج إلى علم ..
من منا إذا سافر أخذ معه مجموعة من الأشرطة النافعة ثم إذا وقف في محطة وقود وضع في البقالة بعضها ..
وفي المسجد بعضها .. أو وزعها على السيارات الواقفة ..
أو أعطاها أولاده الصغار يوزعونها عليهم ..
الناس في الطريق لا بدّ أن يستمعوا إلى شيء فكن معيناً لهم على سماع الذكر والخير ..
من منا إذا رأى كتاباً نافعاً .. أو شريطاً مؤثراً .. اشترى منه كمية ثم وزّعها في مسجده ..(1/222)
أو أهداها لزملائه في العمل .. أو طلابه في المدرسة ..
كثير من مجتمعات الشباب والفتيات تحتاج إلى شجعان يخترقونها .. نعم يخترقون التجمعات .. التي على الشواطئ وفي الاستراحات .. بل وفي البيوت والطرقات ..
نعم .. يخترقها الناصحون .. يصلحون ويذكرون .. يعظون هذا .. وينبهون ذاك .. ويتلطفون مع الثالث .. ويحتوون الرابع ..
ولو رأيت تائهاً عن بيته فدللته عليه .. لكنت مأجوراً ..
فكيف بمن هو تائه عن ربه .. غارق في خطيئته وذنبه .. فما أعظم من يدله عليه ..
ولإن كان أهل الباطل .. قد يفلحون في إفساد الشباب والفتيات .. ونشر المنكرات .. فإن أهل الحق أولى وأحرى ..
* * * * * * * * * *
وكلما كثرت المنكرات .. وقلت الطاعات ..
غضب رب الأرض والسماء .. وقرب نزول البلاء ..
بل إن المنكر إذا كثر .. خربت البلاد .. وهلك العباد .. وصار الناس كالبهائم .. ما بين حائر وهائم ..
والمنكر إذا وقع .. لم يضر الفاعلين فقط .. بل عم الصالح والطالح ..
قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
وذكر ابن عبد البر في التمهيد أن الله تعالى أوحى إلى جبريل أن أهلك قرية كذا وكذا ..
فقال جبريل : يا رب فيهم عبدك فلان .. رجل صالح .. أي بكاء في الأسحار .. صوام في النهار .. له صدقات وأعمال صالحات .. كيف أهلكه معهم ..
فقال الله : به فابدأ .. فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط .. أي لم يكن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..(1/223)
وصح عند أحمد والترمذي .. أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف .. ولتنهون عن المنكر .. أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده .. ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ) ..
وصح في المسند وغيرها .. أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي .. هم أعز وأكثر ممن يعمله .. ثم لا يغيروه .. إلا عمهم الله تعالى منه بعقاب ) ..
وصح في المسند أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إن من أمتي قوماً يُعطّون مثل أجور أولهم .. ينكرون المنكر ) ..
وصح عند أبي يعلى .. أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله .. ثم صلة الرحم ..ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ..
نعم .. فلا يعذر أحد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كل بحسب استطاعته ..
فقد روى مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ..
وعلى العاقل أن يسلك جميع السبل في سبيل إنكار المنكرات .. ولا يكتفي بسبيل واحد ثم يرضى بالقعود ..
* * * * * * * * * *
ذكر ابن كثير في تاريخه أن رجلاً من ضعفاء الناس كان له على بعض الكبراء مال كثير ..
فماطله ومنعه حقه .. وكلما طالبه الفقير به آذاه .. وأمر غلمانه بضربه ..
فاشتكاه إلى قائد الجند .. فما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً ..
قال هذا الضعيف المسكين :
فلما رأيت ذلك يئست من المال الذي عليه ودخلني غمّ من جهته .. فبينما أنا حائر إلى من أشتكي ..
إذ قال لي رجل : ألا تأتي فلاناً الخياط إمام المسجد ..
فقلت : ما عسى أن يصنع خياط من هذا الظالم ؟ وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه !
فقال : الخياط هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيتَ إليه .. فاذهب لعلك أن تجد عنده فرجاً ..
قال : فقصدته غير محتفل في أمره .. فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم ..(1/224)
فقام وأقفل دكانه .. ومضى يمشي بجانبي حتى وصل إلى بيت الرجل .. وطرقنا الباب .. ففتح الرجل الباب مغضباً .. فلما رأى الخياط .. فزع .. وأكرمه واحترمه ..
فقال له الخياط : أعط هذا الضعيف حقه ..
فأنكر الرجل وقال : ليس له عندي شيء ..
(1/35)
فصاح به الخياط وقال : ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنتُ ..
فتغير لون الرجل ودفع إليّ حقي كاملاً ..
ثم انصرفنا ..
وأنا في أشد العجب من هذا الخياط .. مع رثاثة حاله .. وضعف بنيته .. كيف انطاع وانقاد ذلك الكبير له ..
ثم إني عرضت عليه شيئاً من المال فلم يقبل ..
وقال : لو أردتُ هذا لكان لي من المال مالا يحصى ..
فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه .. فلم يلتفت إليَّ .. فألححت عليه ..
وقلت : لماذا هددته بأن تؤذن ؟! ..
قال : قد أخذت مالك فاذهب .. قلت : لا بدَّ والله أن تخبرني ..
فقال : إن سبب ذلك أنه كان عندنا قبل سنين في جوارنا أميرٌ تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن جميل .. فمرت به ذات ليلة امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة ..
فقام إليها وهو سكران .. فتعلق بها .. يريدها على نفسها .. ليدخلها منزله ..
وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها .. وتستغيث بالناس .. وتدافعه بيديها ..
فلما رأيت ذلك ..قمت إليه .. فأنكرت عليه .. وأردت تخليص المرأة من بين يديه ..
فضربني بسكين في يده فشج رأسي وأسال دمي .. وغلب المرأة على نفسها فأدخلها منزله قهراً ..
فرجعت وغسلتُ الدم عني وعصبت رأسي .. وصحت بالناس وقلت :
إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه ..
فقام الناس معي فهجمنا عليه في داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والسكاكين يضربون الناس .. وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني .. وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة والذل ..(1/225)
فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء ..
فنمت على فراشي فلم يأخذني النوم .. وتحيرتُ ماذا أصنع .. والمرأة مع هذا الفاجر ..
فأُلهمتُ أن أصعد المنارة .. فأؤذنَ للفجر في أثناء الليل .. لكي يظن الخبيث أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله ..
فتذهب إلى منزل زوجها ..
فصعدت المنارة وبدأت أؤذن وأرفع صوتي ..
وجعلت أنظر إلى باب داره فلم يخرج منه أحد .. ثم أكملت الأذان فلم تخرج المرأة ولم يفتح الباب ..
فعزمت على أنه إن لم تخرج المرأة .. أقمتُ الصلاة بصوت مسموع .. حتى يتحقق الخبيث أن الصبح قد بان ..
فبينما أنا أنظر إلى الباب .. إذ امتلأت الطريق فرساناً وحرساً من السلطان ..
وهم يتصايحون : أين الذي أذن هذه الساعة ؟ ويرفعون رؤوسهم إلى منارة المسجد ..
فصحت بهم : أنا الذي أذنت .. وأنا أريد أن يعينوني عليه ..
فقالوا : انزل ! فنزلتُ ..
فقالوا : أجِب الخليفة .. ففزعت .. وسألتهم بالله أن يسمعوا القصة فأبوا .. وساقوني أمامهم .. وأنا لا أملك من نفسي شيئاً حتى أدخلوني على الخليفة ..
فلما رأيته جالساً في مقام الخلاقة ارتعدتُ من الخوف وفزعتُ فزعاً شديداً ..
فقال : ادنُ فدنوتُ ..
فقال لي : ليسكُن روعك وليهدأ قلبك .. وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي ..
فقال لي : أنت الذي أذنت هذه الساعة ؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ..
فقال : ما حملك على أن أذنت هذه الساعة .. وقد بقى من الليل أكثر مما مضى منه ؟
فتغرَّ بذلك الصائم والمسافر والمصلي وتفسد على النساء صلاتهن ..
فقلت : يؤمّنني أميرُ المؤمنين حتى أقصَّ عليه خبري ؟
فقال : أنت آمن .. فذكرتُ له القصة .. فغضب غضباً شديداً ..
وأمر بإحضار ذلك الرجل والمرأة فوراً .. فأُحضرا سريعاً فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات .. ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له :(1/226)
كم لك من الرزق ؟ وكم عندك من المال ؟ وكم عندك من الجواري والزوجات ؟ فذكر له شيئاً كثيراً ..
فقال له : ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله .. وتعديت على حدوده .. وتجرأت على السلطان ؟!
وما كفاك ذلك ..
حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر .. فضربته وأهنته وأدميته ؟!
فلم يكن له جواب .. فغضب السلطان ..
فأمر به فجُعل في رجله قيد وفي عنقه غلّ ثم أمر به فأدخل في كيس ..
وهذا الرجل يصيح ويستغيث .. ويعلن التوبة والإنابة .. والخليفة لا يلتفت إليه ..
ثم أمر الخليفة به فضرب بالسكاكين ضرباً شديداً حتى خمد ..
ثم أمر به فأُلقيَ في نهر دجلة فكان ذلك آخر العهد ..
ثم قال لي الخليفة :
كلما رأيتَ منكراً .. صغيراً كان أو كبيراً ولو على هذا - وأشار إلى صاحب الشرطة - فأعلِمْني ..
فإن اتفق اجتماعُك بي وإلا فعلامة ما بيني وبينك الأذان .. فأذّن في أي وقت كان .. أو في مثل وقتك هذا .. يأتك جندي فتأمرهم بما تشاء ..
فقلت : جزاك الله خيراً .. ثم خرجت ..
فلهذا : لا آمر أحداً من هؤلاء بشيء إلا امتثلوه .. ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من الخليفة ..
وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن .. والحمد لله .
فأين أولئك .. الذين يرون المنكرات .. ولا تنشط نفوسهم لإنكارها .. بل ربما أنكروا مرة أو مرتين فلما لم يقبل منهم ..
يئسوا من الإصلاح .. وألقوا السلاح ..
* * * * * * * * * *
أيها الأحبة الفضلاء ..
إن الصراع بين الحق والباطل .. قائم إلى يوم القيامة ..
ولئن انتصر الباطل ساعة .. فالحق منصور إلى قيام الساعة ..
فأين الذين يعيشون للإسلام .. يسكبون من أجله دماءهم .. ويسحقون جمامهم .. لأجل عزة دينهم ..
أين الذين يخافون أن تظهر المنكرات .. وتتفشى الشهوات .. فيغضب رب الأرض والسماوات ..
فإنه سبحانه .. إذا غضب لعن .. ثم عذب وفتن .. وما يعلم جنود ربك إلا هو ..(1/227)
فعود نفسك وعوديها .. على عدم السكوت عن المنكرات ..
المسألة تحتاج إلى جرأة في البداية .. ولكن لها فرحة في النهاية ..
ولئن كان الفجار يتجرؤون على نشر منكراتهم .. والدعوة إليها .. والحث عليها ..
من خلال كتابة في جريدة .. أو برنامج في قناة داعرة بليدة .. أو في كتاب مقروء .. أو فكر موبوء ..
تروح بنا مصائبنا وتغدو ** فما يرعى لنا في الناس عهد
ويخطب باقلٌ في كل ناد ** فيا سحبان قولك لا يعد
تعيرهم الصحافة مقلتيها ** فهم في عرفها الركن الأشد
لهم عبر الإذاعة ألفُ صوت ** وفي التلفاز أذرعة تمد
لهم شهوات إفساد ومكر ** وتحت غطائها قبضوا ومدوا
فلا تعجب إذا اضطربت خطانا ** وساومنا على الأمجاد وغد
عروس جلِّلت بثياب حزن ** وطاف بها على الشارين عبد
نعم ..
لئن كان أصحاب المفسدون .. وعبادُ الشهوات .. قد طغوا وتجرؤوا ..
ولئن كان المغنون والمغنيات .. يجرؤون على إقامة الحفلات .. وتهييج الشهوات ..
بل .. ولئن كان أصحاب المخدِّرات .. يفلحون في جر الشباب والفتيات ..
فإن أهل الحق رجالاً ونساءً .. أولى وأحرى .. بالعمل لنشر الفضيلة .. وحرب الرذيلة ..
وحماية المجتمع من الفساد .. وتعبيد الناس لرب العباد ..
من خلال مناصحة لأصحاب المنكرات .. بكتابة الرسائل إليهم .. وإظهار الشفقة عليهم ..
وإهداء الهدايا لهم .. مع إحسان الظن بهم .. والدعاء لهم .. والتلطف معهم ..
( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ..
* * * * * * * * * *
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكتب إلى كل الدنيا .. يدعوهم إلأى فعل الطاعات .. وترك المنكرات ..
وكان يتلطف في عبارته .. ويلين في إشارته ..
فكتب إلى هرقل النصراني ..
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم .. أسلم تسلم .. يؤتك الله أجرك مرتين ..
وكتب إلى ملك فارس .. وملك اليمن ..
وهكذا كان الصالحون من بعده .. بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن صاحباً له .. أغواه الشيطان فشرب خمراً ..(1/228)
فدعا عمر بصحيفة ثم كتب فيها ..
بسم الله الرحمن الرحيم .. من عمر بن الخطاب إلى فلان .. السلام عليك .. أما بعد ..
( حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .. والسلام .. ثم طوى الصحيفة وبعث بها إليه ..
فلما قرأها الرجل بكى .. وتاب مما فعل ..
* * * * * * * * * *
وبلغ عبد الله ابن المبارك أن بعض أصحابه قد ترك تعليم العلم وانصرف للدنيا ..
فقال ابن المبارك : يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا ..
ثم كتب إليه .. نصيحة ضمنها أبياتا يقول فيها :
يا جاعل العلم له بازيا ** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما ** كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيما مضى ** عن ابن عون وابن سيرين
لا تبع الدين بالدنيا كما ** يفعل ضلال الرهابين
* * * * * * * * * *
ولا تسئ الظن بأحد .. فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .. وبعض الناس ليس بينه وبين ترك منكره .. إلا أن يسمع موعظة صادقة ..
كان زاذان الكندي مغنياً .. صاحبَ لهو وطرب .. فجلس مرة في طريق يغني .. ويضرب بالعود ..
وله أصحاب يطربون له ويصفقون ..
فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. فأنكر عليهم فتفرقوا ..
فأمسك بيد زاذان وهزه وقال :
ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى ..
ثم مضى .. فصاح زاذان بأصحابه .. فرجعوا إليه .. فقال لهم : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بن مسعود ..
قال : صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!!
قالوا : نعم .. فبكى زاذان ..
ثم قام .. وضرب بالعود على الأرض فكسره ..
ثم أسرع فأدرك ابن مسعود .. وجعل يبكي بين يديه ..
فاعتنقه عبد الله بن مسعود .. وبكى وقال :
كيف لا أحب من قد أحبه الله ..(1/229)
ثم لازم زاذان ابن مسعود حتى تعلم القرآن .. وصار إماماً في العلم ..
* * * * * * * * * *
فما الذي يمنعك إذا رأيت منكراً .. أن تناصح صاحبه بلسانك ..
أو تكتب له رسالة بمشاعر صادقة .. وعزيمة واثقة ..
ثم ترفع كفيك في ظلمة الليل .. فتبتهلُ إلى من بيده مفاتيح القلوب ..
أن يحرك في قلبه الإيمان .. ويعيذَه من وسوسة الشيطان ..كفاك قعوداً وخنوعاً .. دع الراحة وراء ظهرك ..
فليس السعادة في السكون ولا الخمول ولا القعود
في العيش بين الأهل تأكل كالبهائم والعبيد
وأن تعيش مع القطيع وأن تقاد ولا تقود
إن السعادة أن تبلغ دين ذي العرش المجيد
إن السعادة في التلذذ بالمتاعب لا التلذذ بالرقود
نعم ..
ولا تيأس إذا لم لم تقبل نصيحتك من أول مرة .. بل :
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته .. ومدمن الطرق للأبواب أن يلجا ..
وانظر إلى ذلك الجبل .. انظر إلى الشيخ ابن باز رحمه لله ..
دخل عليه بعض المصلحين .. يستعينونه لإزالة منكر وقع من أحد الأشخاص ..
فقال الشيخ : اكتبوا له رسالة .. انصحوه .. فقال : أحدهم : كتبت له يا شيخ .. ولم ينتهِ ..
قال : اكتبوا له أخرى ..
فقال الثاني : أنا كتبت له يا شيخ أيضاً ..
فقال : اكتبوا له ثالثة ..
فقال أحدهم : إلى متى يا شيخ .. هذا معرض لا يتعظ ..
فقال الشيخ : والله إني .. في إحدى المرات .. كتبت إلى صاحب منكر مائة مرة .. حتى أزاله ..
نعم .. همة عاليه .. وعزيمة ماضية ..
فماذا ننتظر إذا كثرت المنكرات .. إلا أن تحل البليات .. ويسخط رب الأرض والسماوات ..
قال الله : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ..
وفي الصحيحين عن بعض أزواج النبي عليه السلام .. قالت :(1/230)
دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزعاً .. يقول :
لا إله إلا الله .. ويل للعرب .. من شر قد اقترب .. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ..
مثل هذا وحلق بإصبعه وبالتي تليها ..
فقلت : يا رسول الله !! أنهلك وفينا الصالحون ؟!!
قال : نعم .. إذا كثر الخبث ..
نعم ..
إن الدين لا يتمكن بأيدي الضعفاء .. ولا يرتفع بهمة الجبناء ..
وإنما ترفعه همة الرجال الأشداء .. الذي تعلقوا بالسماء ..
ربوا أنفسهم على الطاعات .. وإنكار المنكرات ..
* * * * * * * * * *
قال سفيان الثوري : والله إني لأرى المنكر .. فلا أستطيع إنكاره .. فأبول الدم .. من شدة الهم والغم ..
وقال العُمري : من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نزع الله هيبته من فقلوب العباد .. حتى لو أمر ابنه أو نهاه لاستخفَّ به ..
* * * * * * * * * *
وكلما كان المنكر ظاهراً .. كان خطره أشد .. لأنه يجرئ الناس على فعله ..
ومن أظهر المنكرات .. التي يحاسب كل من رآها ولم ينكرها ..
ما يقع في بعض بلاد المسلمين من الشرك بالله ..
كمن يستغيث بغير الله في كشف الكربات .. أو يقف عند القبور سائلاً أهلها الحاجات ..
وكذلك تعليق التمائم الشركية .. على الأولاد .. أو السيارات والبيوت .. لدفع العين أو غيرها ..
وقد قال عليه السلام فيما رواه أحمد : ( من علَّق تميمة فقد أشرك ) ..
وكذلك الحلف بغير الله .. كالحلف بالكعبة ..أو الشرف .. أو النبي ..
وقد روى أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "من حلف بغير الله فقد أشرك" ..
ومن أكبر المنكرات .. استعمال السحر والكهانة والعرافة ..
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في المسند : "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد" - صلى الله عليه وسلم - ..
وقال فيما رواه مسلم : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ..
ومن أكبر المنكرات بل من الكفر .. ترك الصلاة ..(1/231)
قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم : "بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة " ..
ومن أكبرها وأطمها .. الزنا .. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك والقتل .. قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ..
وفي عصرنا فتحت كثير من أبواب الفاحشة .. ففشا التبرج والاختلاط ومجلات الخنا .. وأفلام الفحش ..
ومن سبل الزنا .. ما يقع في بعض الأماكن من اختلاط الرجال بالنساء ..
سواء في مستشفيات أو مدارس .. أو غير ذلك ..
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إياكم والدخول على النساء ).. يعني الخلوة بهن ..
بل أمر الله المرأة بالتستر حتى لا يراها الرجال .. فقال { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين }..
بل قد نهى الله الصحابة جميعاً عن الاختلاط بالنساء.. فقال :
{ وإذا سألتموهن متاعاً } يعني إذا سألتم أزواج النبي وهن أطهر النساء..
{ فاسألوهن من وراء حجاب }.. لماذا..؟؟
{ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن }..
وحسبك بالصحابة طاعة وخوفاً وتعبداً..
فكيف الحال اليوم مع شبابنا.. وفتياتنا.. وقد فسد الزمان ؟..
فكيف يخلو اليوم شاب بفتاة .. ويقولان صداقةٌ بريئةٌ ..!!
عجباً..
قال سفيان الثوري لرجل صالح من أصحابه : ( لا تخلون بامرأة ولو لتعلمها القرآن )..نعم أيها الأخوة والأخوات ..
هذا ديننا.. ليس فيه تساهل مع الأعراض ..
ويجب على كل من رأى من يتساهل بذلك أن يحذره من عذاب الله ..
ومن المنكرات .. أكل الربا .. والربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ..
ودِرْهَمُ ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ..
ومن المنكرات .. شرب المسكرات ..(1/232)
قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند مسلم : ( إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار "..
ومن المنكرات .. سماع الغناء .. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري :" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... "..
ومما زاد البلاء في عصرنا دخولُ الموسيقى .. في أشياء كثيرة كالساعات .. والأجراس .. وألعاب الأطفال .. والكمبيوتر .. وأجهزة الهاتف .. والله المستعان .
وغير ذلك من المعاصي .. ويجب نصيحة أهلها .. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ..
إلى غيرِ ذلك من المنكرات .. كعقوق الوالدين .. والغيبة .. ومجالس اللهو وغير ذلك ..
* * * * * * * * * *
وختاماً .. فهذه قمم .. من قمم الجبال ..
وليبشر كلُّ من وصل إلى شرفاتها .. وسكن في روضاتها ..
بجنات ونهر .. في مقعد صدق عند عزيز مقتدر ..
فأكرم بجنات النعيم وأهلها ** إخوان صدق أيما إخوان
جيران رب العالمين وحزبه ** أكرم بهم في صفوة الجيران
هم يسمعون كلامه ويرونه ** والمقلتان إليه ناظرتان
وعليهم فيها ملابس سندس ** وعلى المفارق أحسن التيجان
تيجانهم من لؤلؤ وزبرجد ** أو فضة من خالص العقيان
وخواتم من عسجد وأساور ** من فضة كسيت بها الزندان
وطعامهم من لحم طير ناعم ** كالبخت يطعم سائر الألوان
وصحافهم ذهب ودر فائق ** سبعون الفا فوق ألف خوان
إن كنت مشتاقا لها كلفا بها ** شوق الغريب لرؤية الأوطان
كن محسنا فيما استطعت فربما ** تجزى عن الإحسان بالإحسان
واعمل لجنات النعيم وطيبها ** فنعيمها يبقى وليس بفان
أدم الصيام مع القيام تعبدا ** فكلاهما عملان مقبولان
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم ** إلا كنومة حائر ولهان(1/233)
فلربما تأتي المنية بغتة ** فتساق من فرش إلى الأكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى ** من خشية الرحمن باكيتان
واغضض جفونك عن ملاحظة النسا ** ومحاسن الأحداث والصبيان
اعرض عن النسوان جهدك وانتدب ** لعناق خيرات هناك حسان
في جنة طابت وطاب نعيمها ** من كل فاكهة بها زوجان
لا تحقرن من الذنوب صغارها ** والقطر منه تدفق الخلجان
وإذا عصيت فتب لربك مسرعا ** حذر الممات ولا تقل لم يان
لا تتبع شهوات نفسك مسرفا ** فالله يبغض عابدا شهواني
ومن استذل لفرجه ولبطنه ** فهما له مع ذا الهوى بطنان
أظمئ نهارك ترو في دار العلا ** يوما يطول تلهف العطشان
لا خير في صور المعازف كلها ** والرقص والإيقاع في القضبان
إن التقي لربه متنزه ** عن صوت أوتار وسمع أغان
وتلاوة القرآن من أهل التقى ** سيما بحسن شجا وحسن بيان
أشهى وأوفى للنفوس حلاوة ** من صوت مزمار ونقر مثان
وحنينه في الليل أطيب مسمعاً ** من نغمة النايات والعيدان
يومُ القيامة لو علمت بهوله ** لفررت من أهل ومن أوطان
يومٌ تشققت السماء لهوله ** وتشيب فيه مفارق الولدان
يومٌ عبوس قمطرير شره ** في الخلق منتشر عظيم الشان
يوم يجيء المتقون لربهم ** وفدا على نجب من العقيان
ويجيء فيه المجرمون إلى لظى ** يتلمظون تلمظ العطشان
والجنة العليا ونار جهنم ** داران للخصمين دائمتان
* * * * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات وترك المنكرات ..
وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ..
هذا والله تعالى أعلم ..
ــــــــــــــــــ
ماذا قدمنا للإسلام ؟؟
مشبب القحطاني
أما بعد أيها المسلمون :(1/234)
في كل صباح يخرج الناس إلى أعمالهم ومدارسهم ، ويبقون فيها إلى ما بعد الظهر ثم يعودون إلى بيوتهم ، وهم أكثرهم الأكل والنوم ، ثم يستيقظون من غفلتهم بعد العصر أو بعد المغرب وينتشرون في الأسواق والمطاعم والمنتزهات ونحوها .. ثم يعودون بعد يوم حافل بالشهوات وتضييع الأوقات إلى النوم والاسترخاء .. لقد بذلوا أموالهم وأوقاتهم وجهودهم من أجل الدنيا وشهواتها .
ولو سألت أحدهم ماذا قدمت للإسلام في هذا اليوم الحافل ..لكان الجواب .. لاشيء..نعم لاشيء.. لقد قدم لملء بطنه وقضاء شهوته الشيء الكثير ..بل ربما هدم الإسلام وحارب تعاليمه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وقدم خدمات جليلة للشيطان وأعوانه..
أيها الأخوة : ..هذه مقدمو للدخول في موضوع خطبتنا لهذا اليوم والتي هي بعنوان ( ماذا قدمت للإسلام ؟؟)
أيها الاخوة في الله :
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى .. فهو سبحانه قد خلقنا من عدم ... وكبرنا من صغر ... وعلمنا من جهالة ... وهدانا من ضلالة .. وكسنا من بعد عري .. وأغنانا من بعد فقر .. وجعلنا نسير على هذه الأرض مطمئنين .. نأكل من خيراته .. ونتمتع بنعمه و كراماته .. لم يجعلنا طيرا في الهواء .. ولا سمكا في الماء .. ولم يجعلنا حيوانا لا يعرف الألف من الباء ..
رزقنا السمع والبصر والفؤاد ..وفضلنا على كثير من خلق تفضيل .. يقو لتعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ .. وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} الإسراء
ويقول سبحانه { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ }(1/235)
ويقول سبحانه ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وآتاكم مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ..وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا .. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }
أيها الأحباب :
وبعد هذه النعم العظيمة ماذا قدم كل منا للإسلام ؟؟ .. خصوصا في هذا الأيام التي أعلن فيها الحرب صراحة على الإسلام باسم الإرهاب ؟؟
ماذا قدمنا لديننا ؟ كل منا يسال نفسه ثم يجيب عليها ..فهو الخصم والحكم . كل منا ينظر إلى الموقع الذي يمارس حياته من خلاله ، ثم يرى ماذا قدم لدينه وأمته؟؟
فالرجل في بيته على سبيل المثال :
ما هي الوسائل التي اتبعها في نشر دين الله بين افراد أسرته وعائلته ؟
هل عرض عليهم دين الله تعالى كما ينبغي؟؟
هل قام بنفسه أو مع غيره بتعليمهم ما يحتاجونه من أمور الدين ؟؟
هل الزمهم بتعاليم الدين في جميع شؤون حياتهم ؟؟ أم أنه تشبه بالكفار وقام بدورهم ، فاحضر لأسرته ما يصدهم ويبعدهم عن دينهم ؟ من تلفاز وقنوات فضائية ، وآلا تصدع بالموسيقى ، ونحو ذلك من وسائل الفساد ..واصبح من الذي قال الله تعالى فيهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(1/236)
والرجل في وظيفته ماذا قدم لدينه ؟؟ فان كان رئيسا ما هو الخير الذي نشره بين موظفيه ومرءوسيه ومراجعي دائرته ؟؟ ما هي السنن التي أحياها من خلال تسلمه لكرسي الرئاسة الذي سيزول قريبا ؟ هل نشر الدين الحب والتعاون بين أفراد مؤسسته ودائرته ؟؟ هل انضبط في أدائه ، وظهر بمظهر إسلامي متميز ؟؟ هل قرب المبدعين والمخلصين وشجعهم ودربهم وأشاد بهم ، وحاول إبرازهم ؟؟ أم انه أصابه الغرور وظن انه سيملك الكرسي ، فاصبح يتصرف فيه كما يتصرف الطفل بلعبته ؟ لا يهمه إلا مصلحته الشخصية فقط ، ولا يفكر في المصلحة العامة.. فأصبح يمارس الظلم الإداري والنفسي على مرؤوسيه .. فحرمهم من ابسط حقوقهم ، بل تسلق على أكتافهم ، وسرق إنجازاتهم ونسبها لنفسه .. مما قتل الإبداع في نفوسهم ، فانظموا إلى آلاف المحبطين في العالم الإسلامي ..
أما الموظف فنسأله ماذا فعل لمؤسسته ودائرته ؟؟ هل عامل زملائه معاملة إسلامية ، وحاول أن يدلهم على الخير ، ويحثهم على التعاون والانضباط في العمل ، والظهور بمظهر المسلم الحق ؟؟ هل حاول أن ينشر الدعوة إلى الله بين زملائه ومراجعيه ومرؤسيه ، بالدعاء والكلام الطيب ، والأخلاق العالية ، والمعا ملة الصادقة.. أو بتوزيع الشريط والكتاب والمجلة النافعة؟؟
أم انه تحول من عضوا مهم فاعل في المؤسسة الخاصة أو العامة ، إلى مثبط ومفرق لصفوف العاملين من حول ، واصبح يتزلف إلى رئيسه على حساب إخوانه ، بل قد يقوم بدور الكفار بتبنيه لنشر الفاحشة والفساد بين إخوانه ومراجعيه.(1/237)
س: والرجل في حيه ماذا قدم لجيرانه ؟ هل زراهم في الله ، هل تفقد أحوالهم واحتياجاتهم ؟؟ هل نصحهم عن الأخطاء التي يمارسونها ؟؟ هل دلهم على الخير حثهم عليه ؟؟ فجعل من نفسه أبا لصغيرهم وولدا لكبيرهم ، وأخا لمن هو في سنه. أم انه تقوقع وعاش حالت كمون دائم في قعر بيته ، لا يهمه أحد من الجيران مات أو مرض أو أصيب ؟؟ بل ربما قام بأذيتهم بإزعاجهم بالأصوات المختلفة ، أو بترك أولاده أمام الأبواب وفي الشوارع يؤذون خلق الله ، يدخنون ويجاهرون بترك الصلاة الفساد شباب الحي ، إضافة إلى تخلفه عن صلاة الجماعة أو بعض فروضها.
والتاجر في تجارته ماذا قدم للإسلام ؟؟ هل حرص على ان تكون أمواله خاليه من الشبهة والمحرم ؟؟ أم ان الدنيا وحب المال أعماه عن التدقيق في معاملاته؟؟ هل حرص على التعامل مع التجار المسلمين ؟؟ أم انه حرص على التعامل مع التجار اليهود والنصارى وغيرهم وفضلهم على غيرهم من المسلمين ؟؟ هل حرص على عرض البضائع النافعة الخالية من الغش والمحرمات ؟؟ أم أنه حرص على تقديم البضائع المغشوشة والمقلدة والمحرمة؟ هل ساهم في المشاريع الخيرية هنا وهناك ؟؟ أم انه قبض يده عن فعل الخير ، و بسطها فيما حرم الله ..؟؟ وننتقل إلى المتقاعد الذي أكرمه الله وأوصله إلى مرحلة يحسده عليها ملايين البشر ؟؟
ما ذا قدمت للدين أيها المتقاعد ؟؟ هل شكرت الله و أخلصت له العبادة ، وداومت على صلاة الجماعة في المسجد ، وحرصت على قراءة القرآن وحفظه ، وحرصت على قيام الليل والدعاء للمسلمين بالنصر والتأييد والدعاء على الكفار بالهزيمة والخذلان ؟؟(1/238)
أم أنك وجدتها فرصة للتفلت من الالتزامات ، فأخذت تنتقل يمينا وشمالا ، معرضا عن ذكر الله وإقام الصلاة ؟؟ هل أمضيت بقية عمرك في خدمت الإسلام ، فألقيت الكلمات والمحاضرات والنصائح حسب علمك ، ؟؟ أم انك بحثت عن أمثالك من المتقاعدين فاجتمعتم في المجالس والديوانيات وقطعتم لحوم البشر بالقيل والقال ؟؟ هل شاركت في الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإسلامية ؟؟ أم أنك أمضيت ساعات وقتك في المكاتب العقارية ، أو متابعة شاشات الأسهم والبورصات العالمية؟؟ أيها المتقاعد إنها فرصة من عمرك ستسأل عنها يوم القيامة ؟ فالله الله أن تندم في الجواب عليها ؟؟
وبعد المتقاعد ننتقل بسرعة إلى المرأة ماذا قدمت لأبنائها ولزوجها ولجيرانها ولصديقاتها من خير وعلم ودعوة وتوجيه ؟؟
كيف استغلت مكانتها التي وهبها الله إياها في خدمت دينها.. لقد سخر الله لها الأب والابن و الزوج ..و أمرهم جميعا بالإحسان إليها ..ورعايتها والسعي على خدمتها ..
فهل استغلت هذه الفرصة .. وربت أبناءها على الإيمان وحثت زوجها على الالتزام بالدين ، وهل حرصت على نشر الخير ببين جيرانها وصديقاتها؟؟ أم أنها استغلت تلك المكانة في معصية الله تعالى ، فأمرت الرجال بإحضار المنكرات في البيت بحجج واهية ، وضيعت أبناءها وسهلت لهم فعل المنكرات ، و أكثرت من الخروج إلى الأسواق والمجمعات ومدن الملاهي وضياع الوقت والدين؟؟
أخواني في الله : أسئلة كثيرة جدا يصدمنا الجواب عليها ، إلا من رحم الله ..فاكثر الناس قد خسر في هذا الجانب ..فكان أبعد الناس عن الله وعن خدمة دينه نسأل الله السلامة والعافية من ذلك ..
اخوة الإيمان : فلنجلس مع أنفسنا ونحاسبها ، ولنحدد مدى خدمتنا لدين ربنا ، فان وجدنا خيرا فلنحمد الله ولنحرص على الزيادة ، وان وجدنا تقصيرا فلنحرص على تلافيه فيما بقي من أعمارنا..(1/239)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { قُلْ يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ ءَايَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ..
الخطبة الثانية
الحمد الله فالقَ الإصباح ، وجاعلَ الليل سكنا .. خلق الخلق لعبادته ، وجعلها سبب لنجاتهم يوم القيامة..فقال في الحديث القدسي ( يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )
واشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ..
أما بعد أيها المسلمون ..(1/240)
ان الناظر إلى واقع البشرية ليجد العجب العجاب .. يجد أن أهل الإسلام والمنتسبين إليه ، مقصرين في خدمته والدعوة إليه ..بل وجد في زمنا الحاضر من يحارب الإسلام من أبناء المسلمين والمنتسبين إليه..
وفي المقابل نجد أن أهل الباطل يعملون ليل نهار على نشر باطلهم والدعوة إليه ، حتى لو أدى ذلك إلى بذل أموالهم وأوقاتهم بل وصل بهم الأمر إلى بذل أرواحهم كما تسمعون وتشاهدون ..وما لحروب التي تقوم أمريكا ومن حالفها إلا دليلا على ذلك ..
قد يظن البعض أن أمريكا صادقة في حربها على الإرهاب ، ولكن القرآن الكريم يبين حقيقة هذا الحرب ، وحقيقة تلك الهجمة على مدار التاريخ ..كما يبين حجم الدعم ألاَّ محدود للصد عن سبيل الله .. يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ويقول تعالى { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }
ويقول جل من قائل { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وختاما إخوة الإيمان .. وتأكيدا للبذل اللآ محدود لنشر الباطل .. أذكر لكم هذه إحصائيات حول النصير ذكرتها مجلة البيان في عدد شهر جماد الأول 1421.. نقلا عن المجلة الدولية للبحوث والآثار الأمريكية.. فكان مما ذكرت .
((1/241)
أنه قد بلغ عدد المنظمات التنصيرية عام 1990 م 21,000 إحدى وعشرين ألف منظمة ..
وفي عام 996 م ارتفع عددها إلى 45000 خمس وأربعين منظمة عاملة بالتنصير..
أما عدد المنصرين داخل بلادهم فقد بلغ 000, 923, 3 ثلاثة ملاين وتسعمائة وعشرين ألف منصرا عام 1990 م وقد ارتفع عام 1996 إلى 4,635,500 أربعة ملايين وستمائة ألف وخمسة آلاف منصر ..
أما المنصرين خارج بلادهم فقد بلغ عدد عام 1990 م 250, 285 أكثر من مائتين وخمسة وثمانين ألف منصر.. أما عام 1996 فقد ارتفع العدد إلى 398000 ثلاث مائة وثمانية وتسعين ألف منصر ..
أما المجلات فقد بلغت عام 90م // 23.800 مجلة ودورية تنصيرية .. وارتفع العدد إلى 30100 ثلاثين ألف مجلة دورية ..
أما المحطات فقد بلغت عام 90 م 2160 ألفين ومائة وستين محطة للإذاعة والتلفزيون أما عام 96 فقد ارتفع العدد إلى 3200 ثلاثة آلاف ومأتي محطة ..
وأخيرا فقد رصد لخدمة التنصير 193 بليون دولار التبرع للكنيسة و 206 مليون جهاز كمبيوتر تعمل في خدمة التنصير.. وهناك إحصائيات أخرى رجع لها من أراد الاستزادة..
أخوة الإيمان نعود ونسأل أنفسنا : ماذا قدمنا للإسلام ؟؟ ماذا قدم لديننا ؟؟ ماذا قدمنا لأمتنا؟؟
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18)وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ }
أسال الله تعالى ان يوقظنا من غفلتنا.. وان يغفر زلتنا .. وان يعيننا على أنفسنا والشيطان ..
ــــــــــــــــــ
أين موقعك من الإعراب؟(1/242)
ليس المقصود هنا موقعك من الإعراب في جملة خبرية أو إنشائية، ولكن موقعك في حقل الدعوة الإسلامية . هل ما زالت في مرحلة البناء أم تجاوزت ذلك إلى حالة الإعراب ؟
إن الفرد المسلم عندما يلتزم بدين الله أول الأمر يمر بمراحل يتلقى فيها العلم و الإيمان ويترعرع في أجواء التخلية من رواسب الجاهلية ثم ينتقل إلى مرحلة التحلية حيث يتغذى فيها بالعلم النافع والفكر السليم ، وهكذا حتى يدخل النور قلبه وإذا خرج الزور دخل النور ولا يتم ذلك إلا بهداية من الله وتوفيق وصدق الحق إذ يقول واصفا ذلك ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) وبعد مرحلة البناء تلك ينتظر من هذا الشخص بذلا وعطاء في شتى ميادين الدعوة والكل متشرف ليروي تلك النبتة التي زرعت وتعاهد على رعايتها الكثير من الدعاة والمربين الذين أعطوه خلاصة تجربتهم لينمو ويكبر ويصبح حلقة الوصل بين السابقين واللاحقين وإنه لمن المحزن والمؤسف أن يرضى البعض بحالة البناء تلك أبد الدهر ولا يحاول أن يعطي ويبذل فيصبح عالة على الدعوة يثقل كاهلها بتخاذله ويعرقل مسيرتها بتباطئه. نريد منك أيها الداعية أن تتحول من مرحلة البناء إلى حالة الإعراب فالكلمة المعربة لها في موقع الفاعل الرفع وفي موقع المفعول به النصب و أحيانا تجر إذا سبقت بحرف صغير من حروف الجر ، نريد منك المبادرة (الفاعل) لترفع سهم الدعوة في مجتمعاتنا بإبداعاتك و إنجازاتك ، فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام : أينما وقع نفع . وكل همه أن يسود شرع الله في مجتمعه وأينما يشارك هو في صناعة الحياة .أما المبني فقد تجاهله النحاة من قبل ولم يعيروه اهتماما مثل المعرب إلا أنه ثابت لا يتغير في جميع الحالات ولا يتفاعل مع ما حوله من كلمات وجمل ، وهنا نفهم الفاروق رضي الله عنه عندما تمنى رجالا كأمثال أبي عبيدة رضي الله عنه ليفتح بهم الأمصار ويقود بهم الجموع الموحدة من نصر إلى أخر .نسائم الأمل -المنتدى المسكي(1/243)
ــــــــــــــــــ
يا شباب الإسلام هل من مشمر ؟!
عبدالملك القاسم
لهف وترقب في ذلك الجمع الكبير من المدرسين ..
أين تم تعينك ؟! وفي أي قرية ؟! وأين تقع ؟! وكم تبعد؟!
اجتمع زملاء الدراسة وحديثو التخرج أمام لوحة الإعلانات.. والسؤال على كل لسان .. أين تم تعينك؟! في أقصى الشمال!! في قرية نائية .. لا يوجد خدمات .. ولا هاتف .. كيف أذهب؟!
قال الآخر:
تم تعيني في أقصى الشمال .. كيف أترك أهلي .. بل كيف أفارق مدينتي؟!
من يطبخ لي .. ومن يكنس لي؟! بل من يغسل ثيابي؟!
ضحكة سبقت أحدهم وهو يقول: تم تعيني في أعالي الجبال, وقيل لي: إنها مناطق نائية , ذات طرق متعرجة , وارتفاعات شاهقة..
أتبع ذلك بتعليق ساخر .. سأشتري دابة لتنقلني من المنزل إلى المدرسة ..
* بعد كل سؤال .. ترفع الأصوات, وتتداخل الضحكات ..
* لله در أبي عبد الله .. حمل هم الدعوة ..
تاه فكره وأطرق في سكوت ..
وقال بحرقة: لقد تم تعيني في الرياض!
أتته الأصوات مستبشرة ..
مرحى لك .. حظك طيب!!
ولكن من حمل هم الأمة بين جنبيه .. ونفض غبار العجز والكسل والراحة ..
توجه من الغد بخطاب يطلب فيه تعيينه في قرية (.....) على بعد أكثر من مائة وعشرين ميلاً ..
وقال وهو يحدث زوجته .. ويوضح لها الأمر ..
هناك أرض خصبة للدعوة ..
وهناك الفطرة السليمة النقية .. ولكن يا زوجتي الجهل ضارب بأطنابه ..
وبدأ يعدد لها المزايا ..
أوقات الفراق نستفيد منها في حفظ القران ومراجعته .. وقراءة أمهات الكتب ..
وهناك لن نضيع ساعة أو اثنتين كل يوم عند إشارات المرور ..
وافقت الزوجة المؤمنة .. بل وتحمست للأمر .. ولكن العقبة الأولى ظهرت منذ وصولهم إلى تلك القرية ..
لم يجد مدرسة لزوجته في القرية لتُدرس فيها ..
قال صاحب الهمة والعزيمة .. من وهبه الله صبراً واحتساباً في سبيل الدعوة .
أذهب بك للقرية المجاورة على بعد ثلاثين ميلاً ..
كلٌ منا يكون داعياً إلى الله في قريته ..(1/244)
لله در أبى عبد الله ولله در أم عبد الله ..
لا تراخي ولا كسل ولا عجز ولا ضعف .. بل همة عالية .. ومثابرة ومجاهدة ..
تربية إسلامية في المدرسة .. ونشاط في المنزل والمسجد .. حلقات لتحفيظ القران .. توزيع للأشرطة والكتب .. مسابقات وجوائز ..
بل إن أم عبد الله جعلت درساً لكبيرات السن تعلمهن ما يلزم من الدين معرفته بالضرورة .. بل رددت على مسامعهن قصار السور عشرات المرات حتى حفظنها .. لم يمنعها الحمل والإرهاق من زيارة الجيران وقراءة الفتاوى النسائية عليهن ..
أما أبو عبد الله فجعل للكبار درساً لحفظ القران بعد صلاتي العصر والفجر .. ودرساً للناشئة بعد صلاة العصر .. أما بعد المغرب فدرس عام .. لم ينس رحلات الحج والعمرة .. وإمامة المسجد ..
حيوية ونشاط ومسارعة للخير في كل مكان .. بل امتد نشاطه من المحاضرات وزيارات ..إلى قرى مجاورة
* مضت ثلاث سنوات ..
وأبو عبد الله يسخر منا حينما نستحثه للقدوم إلى المدينة .. قال : كم نضيع من أعمارنا عند إشارات المرور .. وأخفى عن الجميع نتائج دعوته وثمار صبره ..
أضاء بنشاطه سماء الغفلة .. وأنار علمه قلوب أهل القرية تخرج على يديه الكثير .. وتربى على يديه الكثير ..
أما أم عبد الله فقد أخرجت جيلاً يحمل هم الإسلام .. وأمهات يحفظن نصيباً من القرآن ..
* ثلاث سنوات زال الجهل وانقشعت الغشاوة ..
* وكل سنة عند لوحة الإعلانات ..
تسمع الصوت الضعيف .. وترى من همه راحته ونومه وأكله وشربه ..
ترى أصحاب الضعف والخور ..
وتسمع أصواتهم كل يوم ..
أين تم تعيينك ؟!
يا شباب الإسلام
هل من مشمر ؟!
المصدر كتاب هل من مشمر
ــــــــــــــــــ
ماذا قدمت لدين الله؟
الشيخ محمد حسان(1/245)
- إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره، و نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله تعالى فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله و صفيه من خلقه و خليله ، أدى الأمانة و بلغ الرسالة و نصح للأمة فكشف الله به الغمة و جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته و رسولاً عن دعوته و رسالته و صلي اللهم و سلم وزد و بارك عليه و على آله و أصحابه و أحبابه و أتباعه و على كل من اهتدى بهديه و استن بسنته و اقتفى أثره إلى يوم الدين.
- أما بعد فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء و أيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزاء و طبتم جميعاً و طاب ممشاكم و تبوأتم من الجنة منزلا و أسأل الله العظيم الكريم جل و علا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته و دار مقامته إنه ولي ذلك و القادر عليه ...
أحبتي في الله ... ماذا قدمت لدين الله؟!!
هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك و كعادتنا حتى لا ينسحب الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان" المخجل" في العناصر التالية:-
أولاً: واقع مرير يستنفر جميع الهمم ... . ثانياً : و لكن ما هو دوري؟! ... ثالثاً : تبعة ثقيلة و أمانة عظيمة أطوق بها الأعناق ... . و أخيراً : فجر الإسلام قادم.
فأعيروني القلوب و الأسماع ، و الله أسأل أن يقر أعيننا و إياكم بنصرة هذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه أحبتي في الله(1/246)
اولأً : واقع مرير يستنفر جميع الهمم ... . والله إن العين لتدمع و إن القلب ليحزن و إنا لما حل بأمة التوحيد لمحزونون لمحزونون ... . أهذه هي الأمة التي زكاها الله بقوله " كنتم خير أمة أخرجت للناس "؟ ... أهذه هي الأمة التي زكاها الله بالوسطية و الاعتدال في قوله سبحانه " و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا؟.. أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالألفة والوحدة فقال سبحانه " إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون؟.. إنك لو نظرت إلى الأمة في القرآن و نظرت عليها في أرض الواقع لانفلق كبدك من الحزن و البكاء على واقع أمة قد انحرفت كثيراً كثيراً عن منهج الله جل و علا.. و عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلقد غيرت الأمة شرع الله و انحرفت الأمة عن طريق رسول الله، و الله جل و علا يقول" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم " فأذل الله الأمة لأحقر و أذل أمم الأرض ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة و الخنازير من أبناء يهود حتى من عباد البقر ساموا الأمة سوء العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله ... . لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر أمم الأرض و لأذل أمم الأرض و حق على الأمة قول الصادق كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود من حديث ثوبان : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : كلا : و لكنكم يومئذ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل و ليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم و ليقذفن في قلوبكم الوهن قيل و ما الوهن يا رسول الله ؟ قال: حب الدنيا و كراهية الموت ... لقد أصبحت الأمة الآن أيها الأخيار غثاءاً من النفايات البشرية يعيش على بساط مجرى الحياة الإنسانية تعيش الأمة الآن كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة و نعرات قومية جاهلية و ترفرف(1/247)
على سمائها رايات القومية و الوطنية و تحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية و تدور بالأمة الدوارات السياسية فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه!!!! ... . ذلت الأمة بعد عزة و جهلت الأمة بعد علم و ضعفت الأمة بعد قوة و أصبحت في ذيل القافلة الإنسانية بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة و اقتدار و أصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني و العلمي بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى و التائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل و أرهقهم طول المشي في التيه والضلال بل و أصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها و لا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسلكه و أن تسير فيه بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة و الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير بها إلا الأدلاء المجربون.. ما الذي جرى؟؟
قال الله سبحانه ليبين لنا أن ما وقع للأمة إنما وقع وفق سنن ربانية لله في كونه لا تتبدل هذه السنن ولا تتغير مهما ادعى أحد لنفسه من مقومات المحاباه.. قال الله جل و علا" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " لن أطيل في تشخيص الواقع المرير فكلنا يعرفه و لكنني أقول إن هذا الواقع الأليم يستنفر جميع الهمم الغيورة و يستوجب أن يسأل كل واحد منا نفسه هذا السؤال... قل لنفسك الآن.. و أنا أقول لنفسي الآن : ماذا قدمت لدين الله جل و علا ؟؟؟!! سؤال مخجل ... سؤال مهيب ماذا قدمت لدين الله جل و علا ؟؟(1/248)
سؤال يجب ألا نمل طرحه و ألا نسئم تكراره لنحيي في القلوب قضية العمل لهذا الدين في وقت تحرك فيه أهل الكفر و أهل الباطل بكل رجولة و قوة لباطلهم و كفرهم الذين هم عليه!.. انتعش أهل الباطل و تحركوا في الوقت الذي تقاعس فيه أهل الحق و تكاسلوا!!! و والله يا أخوة!! ما انتفش الباطل و أهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله ماذا قدمت لدين الله ... سؤال يجب إلا نمل تكراره لتجييش الطاقات الهائلة في الأمة لتعمل لدين الله جل و علا للقضاء على هذه السلبية القاتلة المدمرة التي تخيم الآن على سماء الأمة لتحريك دماء الإسلام التي تنبض بالولاء و البراء و الغيرة لدين الله في هذا الجسد الضخم الذي يتكون مما يزيد على مليار من المسلمين و المسلمات ماذا قدمت لدين الله جل و علا أيها المسلم و أيتها المسلمة؟؟ ... .واقع يجب أن يستنفر جميع الهمم الغيورة و هم قد يسأل كثيراً من المسلمين بصفة عامة و كثير من شبابنا بصفة خاصة يقول :أنا أريد أن أقدم شيئاً لدين الله و أن أبذل شيئاً لدين الله و لكن ما هو دوري!!..(1/249)
- و هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: و لكن ما هو دوري ؟؟.. سؤال و إن كان يمثل في الحقيقة ظاهرة صحية إلا أنه ينم عن خلل في فهم حقيقة الانتماء لهذا لدين إلى الحد الذي أصبح فيه المسلم لا يعرف ما الذي يجب عليه أن يقدمه لدين الله جل و علا!!!!! ... لماذا؟! ... لأن قضية العمل للدين ما تحركت في قلبه إلا في لحظة حماس عابرة أججها في قلبه عالم مخلص أو داعية صادق فقام بعد هذه اللحظة الحماسية المتأججة ليسأل عن دوره الذي يجب عليه أن يبذله و يقدمه لدين الله جل و علا.. أما لو كانت قضية العمل لدين الله تشغل فكره و تملأ قلبه و تحرف وجدانه و يفكر فيها في الليل و النهار في النوم واليقظة في السر والعلانية لو كانت قضية العمل لدين الله كذلك في قلب كل مسلم ما سأل أبداً هذا السؤال لأنه سيحدد أمره بحسب الزمان الذي يعيشه و بحسب المكان الذي يعيشه لأن قضية العمل لدين الله تملأ عليه همه و تملأ عليه وجدانه و تملأ عليه قلبه بل و تحرف قلبه في الليل و النهار.. و لكن بكل أسف بكل مرارة أصبحت قضية العمل لدين الله قضية هامشية ثانوية في حس كثير من المسلمين!.. بل و أصبح لا وجود لها في حس قطاع عريض آخر ممن يأكلون ملئ بطونهم و ينامون ملئ عيونهم و يضحكون ملئ أفواههم بل و ينظرون إلى واقع الأمة فيهز الواحد كتفيه و يمضي و كأن الأمر لا يعنيه! ... و كأنه ما خلق إلا ليأكل و يشرب و إلا ليحصل الشهادة أو ليحصل الزوجة الحسناء هذا كل همه في هذه الحياة!! ... أنا لا أمنع أيها الحبيب أن تحمل في قلبك هموماً كثيرة ... أن تحمل هم الوظيفة و هم الزوجة و هم الأولاد و هم السيارة و هم العمارة و هم الدولار و هم الدينار و هم الدنيا لكن ... ما هو الهم الأول في هذه الخريطة؟؟؟؟ ... في خريطة الهموم ما هو الهم الأول في خريطة همومك التي تحملها في هذه الدنيا هل هو هم الدين؟ أم هو هم الدنيا؟ لا بد من مصارحة للنفس نقب عن الهم الأول في(1/250)
خريطة همومك التي تحملها في هذه الحياة الدنيا ... أنت ما خلقت إلا للعمل لدين الله و إلا لعبادة الله و إلا لطاعة الله قال جل في علاه " و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون " هذه هي الغاية و تلك هي الوظيفة التي تحولت في حياتنا إلى فرع بل إلى شيء في حس كثير ممن ينتسبون إلى هذا الدين و ظن قطاع عريض من المسلمين أن الدعوة إلى الله و أن بذل الجهد لدين الله إنما هو أمر مقصور على فئة معينة من العلماء الصادقين و الدعاة المخلصين فهذا ورب الكعبة وهم كبير فإنا جميعاً أيها الأخيار ركاب سفينة واحدة إن نجت هذه السفينة نجونا و إن هلكت هلكنا كما في صحيح البخاري في حديث النعمان بن بشير أن البشير النذير - صلى الله عليه وسلم - قال : مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و أصاب بعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا ،يقول المصطفى : لو تركوهم و ما أرادوا لهلكوا جميعا و لو أخذوا على أيديهم لنجوا و نجوا جميعا فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة إن هلكت السفينة هلك الصالحون مع الطالحين هلك المتقون مع المفسدين ويبعث بعد ذلك كل واحد على نيته ... يبعث كل واحد على ما مات عليه فالعمل للدين ليس مسؤولية العلماء و الدعاة فحسب بل هو مسؤولية كل مسلم و مسلمة ينبض قلبه بحب هذا الدين و بالولاء والبراء و بحب عقيدة لا إله إلا الله ... بكل أسف فرق قطاع عريض من الأمة بين حقيقة الانتماء لهذا الدين و بين العمل له ... ما معنى إطلاقاً بأن تكون منتمياً للإسلام دون أن تبذل للإسلام أي شيء؟؟ ...(1/251)
لا معنى لانتمائك ألبتة لماذا أنت مسلم؟ ما معنى انتمائك للإسلام و هذا الدين؟ لا تفرق بين انتمائك و عملك لا تفرق بين انتمائك و جهدك لا تفرق بين انتمائك و حركتك لدين الله في الليل و النهار على حسب قدرتك و إمكانياتك
و استطاعتك ... تعلموا أيها الأخيار من أصحاب النبي المختار الذين فهموا أن الانتماء لدين الله جل و علا يستوجب أن يبذل الواحد منهم أقصى ما في طوقه من جهد لهذا الدين ... .هذا هو صديق هذه الأمة الأكبرـ و أسألكم بالله ... . بالله!! ... . أن تتدبروا هذه النماذج، فأنا لا أسوقها لمجرد الثقافة الذهنية الباردة!.. ولا من أجل التسلية و تضييع الوقت بل أسوق هذه الأمثلة ليقف كل واحد منا مع نفسه الآن ليسأل نفسه بعد هذه الخطبة.." ماذا قدمت أنا لدين الله جل و علا ؟ "ــ هذا صديق الأمة الأكبر شرح الله صدره للإسلام فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله و على الفور في التو و اللحظة يستشعر مسئوليته تجاه هذا الدين.... أنا أسألكم بالله ما الذي تعلمه أبو بكر في هذه الدقائق من رسول الله سوى الشهادتين مع سماعه لكلمات يسيرة جداً من المصطفى؟؟.. و مع ذلك يستشعر مسؤولية ضخمة تجاه هذا الدين بمجرد أن ردد لسانه الشهادتين فيترك الصديق رسول الله و ينطلق ليدعو!!! ... ... .. يدعوا؟ ... يدعوا بماذا ؟؟ ... .. والله ما عكف على طلب العلم سنوات لينطلق بعد ذلك للدعوة!! ... و لكن بالقدر الذي أعطاه الله من النور خرج و هو يستشعر مسئوليته الضخمة لهذا الدين بكلمات قليلة ... ليست العبرة بالمحاضرات الطويلة الرنانة المؤثرة.. والله يا أخي لو علم الله منك الصدق و الإخلاص و تكلمت كلمة واحدة لحركت كلمتك القلوب ... فكم من محاضرات لا تحرك ساكنا ... اللهم ارزقنا الإخلاص في القول و العمل ، فالإخلاص و الصدق يا شباب هما اللذان يحركان القلوب..(1/252)
الكلمة إن كانت صادقة و إن كانت مخلصة ـ و لو كانت يسيرة قليلة ـ تحيي القلوب الموات بين الجوانح في الأعماق سكناها، فكيف تنسى و من في الناس ينساها.. الأذن سامعة و العين دامعة و الروح خاشعة و القلب يهواها.. و السر هو الصدق و الإخلاص.. تحرك الصديق بكلمات يسيرة جداً هل تصدق أيها المسلم أن الصديق بهذه(1/253)
الكلمات المخلصة الصادقة قد عاد إلى النبي في اليوم التالي مباشرة لإسلامه بالخمسة من العشرة المبشرين بالجنة؟!!! ... ... ... إنها بركة الدعوة و بركة الحركة و بركة الجهد لدين الله ما قال : لا ... تحرك بالقدر الذي من الله به عليه من علم في الدين من علم في الدنيا من علم في أي جانب ... استغل مركزك و منصبك لدين الله سبحانه.. المهم أن ترى في قلبك هماً لدين الله.. المهم أن تفكر كيف تعمل شيئاً لدين الله سبحانه ... و هذا هو الطفيل بن عمرو مثال أخر يأتي إلى مكة و روح الصراع دائرة بين المشركين و بين رسول الله و يلتقط جهاز الإعلام الخبيث في مكة الطفيل بن عمرو يستحوذ هذا الجهاز الإعلامي الذي لا يخلو منه زمان و لا مكان على الطفيل بن عمرو و قال السادة من الزعماء و الكبراء ممن يتحكمون في أجهزة الإعلام التي تشوش و تلبس على الناس عقيدتهم و دينهم ... تحرك هذا الجهاز الإعلامي الخبيث على الطفيل ... . يا طفيل ! ... إنك قد نزلت بلادنا و قد ظهر فينا هذا الرجل الذي قد شتت شملنا و فرق جمعنا و فرق بين الأخ و أخيه و الابن و أبيه و نحن نخشى أن يحل بك و بزعامتك في قومك ما قد حل بنا في قومنا فإياك أن تسمع منه كلمة واحدة أو أن تكلمه كلمة فإن له كلاماً كالسحر يفرق بين الأخ و أخيه و الابن و أبيه ... " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " و ظلوا يحذرون و يخوفون الطفيل حتى عزم الرجل ألا يقترب من رسول ال،ه فلما غدا إلى بيت الله الحرام ملأ أذنيه بالقطن حتى لا يسمع كلمة من رسول الله! ، يقول الطفيل : فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض ما يقول محمد بن عبد الله!!! ... اقترب منه، يقول : فرأيت محمداً في الكعبة يصلى صلاة غير صلاتنا ورأيتني قريباً منه و سمعت آيات القرآن التي يتلوها محمد ــ و لك أن تتصور القرأن الذي لو أنزله الله على جبل لتصدع و تفتت ، لك أن تتصور كيف يكون حال هذا القرأن إن خرج بصوت(1/254)
الحبيب المصطفى الذي أنزل الله عليه القرآن ــ تحرك قلب الطفيل ثم قال لنفسه : ثكلتك أمك يا طفيل!! .. إنك رجل لبيب عاقل شاعر لا تعجز أن تفرق بين الحسن والقبيح، اسمع للرجل، لا تحكم على الرجل قبل أن تسمع منه، قبل أن تجلس بين يديه، قبل أن تراه.. و انطلق الطفيل!، و تبع النبي حتى خرج من الكعبة إلى بيته و أخبره بما كان من أمر قريش و قال: يا محمد.. اعرض علي أمرك، فعرض النبي عليه الإسلام في كلمات يسيرة قليلة جدا، فقال الطفيل: والله ما رأيت أحسن من أمرك و لا رأيت أعدل من قولك ابسط إلي يدك لأبايعك يا رسول الله، و نطق الطفيل شهادة ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ــ تصور معي أخي الحبيب، و إذ بالطفيل في موقفه، في مجلسه يقول للمصطفى ــ يا رسول الله، أرسلني داعية إلى قومي دوس!! فإنهم كفروا بالله و فشا فيهم الزنا ... . داعية؟!!! ما عندك يا طفيل ... ما الذي تعلمت يا طفيل؟؟!!! .. إنها المسؤولية التي حملها في قلبه مع أول كلمة ينطق بها لسانه لدين الله.. و مع أول لحظة حب ووفاء لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلم .. ينطق الشهادة فيعلم أن هذه الشهادة قد أوجبت عليه أن يتحرك لدين الله ... . لماذا أنت مسلم؟.. منذ متى و أنت تصلى؟؟.. منذ متى و أنت تحضر مجالس العلم؟؟.. هل أتيت برجل آخر؟.. هل دعوت آخر لدين الله؟.. هل نظرت إلى جارك المعرض عن دين الله جل و علا فتحسر قلبك ووجهت إليه دعوة لله سبحانه ؟ من يحمل هذا الهم؟؟؟ ... . لأن قضية العمل لدين الله أصبحت ثانوية، هامشية في حس كثير من المسلمين ـ إلا من رحم ربك جل و علا !ـ الطفيل يشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله و على الفور يستشعر مسؤولية تجاه هذا الدين فيقول أرسلني داعية إلى قومي يا رسول الله، فأرسله المصطفى فقال الطفيل : ادعوا الله أن يرزقني آية يا رسول الله.. فدعا رسول الله أن يرزق الطفيل آية فما أن وصل إلى مشارف قومه إلا و قد(1/255)
ظهرت الآية التي تتمثل في نور في وجه الطفيل كالقنديل .. فقال الطفيل: لا يارب ! حتى لا يقولوا مثلة، حتى لا يقولوا إن الأصنام هي التي فعلت بي ذلك، و لكن اجعل هذا النور على طرف صوتي ... فاستجاب الله فانتقل هذا النور الذي كالقنديل إلى طرف صوت الطفيل بن عمرو!! و ذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله ثم عاد بعد ذلك إلى رسول الله فقال : يا رسول الله هلكت دوس ادع الله عليهم، فرفع صاحب القلب الكبير يديه إلى السماء و قال : اللهم اهد دوساً و ائت بهم فاستجاب الله دعاء المصطفى، فعاد إليهم الطفيل بعد ذلك ثم عاد بدوس كلها تشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله!! و على رأس دوس راوية الإسلام العظيم أبو هريرة رضي الله عنه الذي سياتي مع قبيلة دوس في ميزان الطفيل بن عمرو يوم القيامة كما ستأتي الأمة كلها يوم القيامة في ميزان المصطفى ... .. و هذا هو نعيم بن مسعود رضي الله عن نعيم، ذلكم الفدائي البطل الذي جاء للمصطفى في وقت عصيب رهيب كادت القلوب أن تخرج من الصدور في غزوة الأحزاب، أحاط المشركون بالمدينة من كل ناحية من حول الخندق و في لحظات حرجة قاسية نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله وشكلوا تهديداً داخلياً خطيراً على النساء و الأطفال و تعاهدوا مع المشركين أن يحاربوا محمداً معهم و هذا هو فعل اليهود و هذه هي صفة اليهود ... اليهود لا يجيدون إلا غدر و نقض العهود ... نقضوا العهد مع رسول الله في وقت حرج، و لك أن تتصور الحالة النفسية التي مر بها المصطفى مع أصحابة و قد وصفها الله في القرآن وصفاً دقيقاً بليغا .. تدبر معي قول الله في هذه الحالة " و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالاً شديدا و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" تصور هذه الحالة من الصف مع رسول الله من يقول ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا!! ...(1/256)
المشركون يحيطون بنا و اليهود نقضوا العهد و سيدمروننا من الداخل و يقتلون نسائنا و أطفالنا .. حالة قاسية حتى قام المصطفى ليتضرع إلى الله ... اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم و زلزلهم ... تصور معي هذه الحالة و في هذا الوقت الحرج جاء نعيم بن مسعود رضي الله عنه! ... لماذا ؟ أقبل على النبي و النبي يصلي بين المغرب و العشاء فالتفت إليه المصطفى و قال ما جاء بك يا نعيم ؟!
(1/40)(1/257)
قال: جئت أشهد ألا إله إلا الله و انك رسول الله و أن ما جئت به هو الحق!!! ... . ابسط إلي يدك لأبايعك يا رسول الله فبايعه المصطفى و شهد نعيم شهادة التوحيد و على الفور في التو و اللحظة قال نعيم : يا رسول الله مرني بما شئت!! فوالله لا تأمرني بشيء إلا قضيته فإنه لا يعلم أحد من القوم بإسلامي ، فقال له النبي يا نعيم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة ... . فانطلق نعيم ، لم يضع النبي له تفاصيل خطة!.. لا ... بل أمره أمراً عاما: خذل عنا ما استطعت، و انطلق نعيم الذي استشعر مسئوليته تجاه هذا الدين ، الرجل في مأزق! ، في فتنة الإسلام يتعرض لخطر، فلماذا لا أبذل؟!.. لماذا لا أقدم؟! ... فكر هذا الفدائي الذي لم تمض عليه إلا دقائق في دين الله، و لكنه يستشعر مسئوليته في دين الله ... الأحزاب يحيطون بالمدينة و رسول الله في فتنة خطيرة.. فليبذل دمه.. فليبذل روحه.. ــ و ها أنتم ترون الآن الإسلام و المسلمين في محنة و لكن منا والله من لا يفكر في أن يبذل شيئاً لدين الله لا في ليل أو نهار!!.. حتى لو دعونا الناس لمجرد الإنفاق ترى التقاعس ! هذا مسجد مثلأً لله جل و علا ترون فيه الطابق الثاني منذ متى و نحن نشيده؟ منذ متى و نحن ندعو لتشييده و بنائه و الناس يقفون الآن في الشمس! و مع ذلك سيسمع كثير منا هذا اللقاء و في جيبه الأموال من فضل الله و سيمضي و لن يساهم ولو بالقليل و كأن الأمر لا يعنيه! .. لماذا ؟.. لأن قضية العمل لهذا الدين أصبحت تتمثل في حسه في الخطبة و المحاضرة و الندوة هذا هو العمل لدين الله ... لا أبداً لا ينتهي العمل لدين الله عند خطبة الجمعة أو عند محاضرة لشيخ أو عند ندوة لعالم بل إن الدين يحتاج إلى كل جهد و لو كان هذا الجهد قليلا ــ ... . نعيم بن مسعود انطلق يفكر كيف يعمل لدين الله؟ ... فتدبروا معي يا شباب حتى لا يأتي شاب يقول ماذا أفعل! ... ما دوري ؟ ... لا مانع من أن(1/258)
تستأنس و أن تسأل إن استشكلت عليك مسالة لكن فكر لدين الله كيف تعمل.. كيف تبذل ، انطلق نعيم إلى يهود بني قريظة فقال : لقد جئتكم أبذل لكم النصيحة، فاكتموا عني!، فقالوا قل يا نعيم ، قال : تعلمون ما بيني و بينكم ، قالوا : لست عندنا بمتهم و أنت عندنا على ما نحب من الصدق و البر فقال نعيم : إن أمر هذا الرجل بلاء ـ يقصد النبي عليه الصلاة و السلام فقد استحل نعيم من رسول الله أن يقول ما شاء ،فقال له المصطفى قل! فأنت في حل ـ فقال : أنتم ترون يا يهود بني قريظة ما فعل بيهود بني قينقاع و بني النضير و لستم كقريش و كغطفان فإن قريشاً و غطفان قد جاءوا من بلادهم و نزلوا حول المدينة فإن رأوا فرصة إنتهشوها و إن كانت الأخرى عادوا إلى بلادهم و ديارهم و أموالهم و انفرد بكم محمد ليفعل بكم ما فعل بيهود بني قينقاع و بني النضير، فأنا جئت لكم اليوم أبذل لكم النصيحة، قالوا : ما هي يا نعيم ، قال : لا تقاتلوا مع قريش و غطفان حتى تأخذوا سبعين رجلاً من أشرافهم! تستوثقون به منهم أنهم لن يبرحوا المدينة حتى يقتلوا محمدا و حتى يريحوكم من شره ... قالوا: نعم الرأي يا نعيم، قال : اكتموا عني هذا فإني ناصح لكم، قالوا: نفعل ... فتركهم نعيم الفدائي البطل و ذهب إلى قائد جيوش الشرك أبي سفيان، وقال: يا أبا سفيان تعلم الود الذي بيني و بينك، قال: نعم يا نعيم، قال: لقد جئتك الآن بنصيحة، قال ابذلها ، قال : ألا تعلم يا أبا سفيان أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقدهم للعهد مع محمد بن عبد الله و ذهبوا إليه و قالوا أننا لا نقاتل مع قريش ضدك و لنثبت لك صدقنا سوف نرسل لك سبعين رجلاً من أشراف قريش و غطفان لتقتلهم لتعلم أننا ندمنا على نقضنا للعهد معك ؟ ... ففزع أبو سفيان ، فقال نعيم : إياك أن تسلم اليهود رجلاً واحداً من أشرافكم قال : أفعل يا نعيم ... و شكر له هذه النصيحة الغالية و تركهم و ذهب إلى غطفان و قال لهم مثلما قال لأبي سفيان(1/259)
و في الوقت ذاته أرسل اليهود إلى قريش و غطفان ليقولوا لهم: ادفعوا لنا سبعين رجلاً من أشرافكم لنستوثق بهم أنكم لن تبرحوا المدينة حتى تقاتلوا معنا محمدا و لن تدعونا لينفرد محمد بقتالنا!.. فقالت قريش و غطفان صدق والله نعيم، كذب اليهود عليهم لعائن الله ... و لما رفض القرشيون أن يسلموا اليهود الأشراف و عاد الرسل لليهود قالوا صدق والله نعيم! إنهم يريدون أن ينصرفوا لينفرد محمد بقتالنا ... فخذل الله عز و جل بين قريش و غطفان و بين اليهود على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه.. و يئس هؤلاء من نصر هؤلاء و يئس هؤلاء من نصر هؤلاء و استراح قلب النبي داخل المدينة لأن اليهود قد نقضت العهد مرة أخرى مع قريش و غطفان و قد انشغل قلبه و قلوب أصحابه على ذويهم و نسائهم و أطفالهم داخل المدينة وهم قد خرجوا ليحاصروا المدينة من الخارج في مواجهة الصف المشرك الذي خندق حولها ... على يد رجل ثبت الله جيشاً ما وضع النبي له بنود هذه الخطة بل فكر و على قدر الإخلاص و على قدر الصدق يكون التوفيق من الله جل و علا ... أيها الشباب ... أيها الشباب ... قد يرد علي الآن رجل من آبائنا أو شاب من أحبابنا أو أخت من أخواتنا و هذا سؤال مثار و يقول يا أخي ولكني والله استحي أن أتحرك لدين الله و أنا مقصر، أنا مذنب، أنا عاصي أنا أعلم حقيقة نفسي أقول : لو تخاذلت عن العمل لدين الله فقد أضفت إلى قائمة تقصيرك تقصيراً!!، و إلى ذنوبك ذنبا، و إلى بعدك بعدا، فلا يمنعك ذنبك من ترك العمل لدين الله ولا يمنعك تقصيرك، و لا يمنحك إجازة مفتوحة من العمل للإسلام.. لا!.. خذ هذه الرسالة الرقيقة من أبي محجن الثقفي رضي الله عنه ... رجل مدمن لشرب الخمر ! ... سبحان الله، مع أنه فارس مغوار إذا نزل الميدان أظهر البطولة و الرجولة و لكنه ابتلي بإدمانه لشرب الخمر و مع ذلك تراه جندياً في صفوف القادسية ... خرج للقتال؟.. نعم !.. و هو الذي كثيراً ما يؤتى به ليقام(1/260)
عليه الحد؟.. نعم و في ميدان البطولة و الشرف أتي به لقائد الجيش سعد بن أبي وقاص لأنه قد شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه مرة أخرى في ساحة المعركة؟!!! ... نعم ! ... فأمر سعد بن أبي وقاص خال رسول الله أن يمنع أبو محجن من المشاركة في المعركة و أن يقيد حتى تنتهى المعركة لأنه لا تقام الحدود في أرض العدو و قيد أبو محجن و بدأت المعركة و ارتفعت أصوات الأبطال و قعقعة السيوف و الرماح و تعالت أصوات الخيول و انفتحت أبواب الجنة لتطير إليها أرواح الشهداء.. و هنا احترق قلب أبي محجن!.. الذي جيء به على معصية؟.. نعم! ... لا لم يفهم أبو محجن أن الوقوع في المعصية يمنحه أجازة مفتوحة من العمل لدين الله من المشاركة لنصرة لا إله إلا الله إنما احترف قلبه و بكى و نادى على زوج سعد بن أبي وقاص سلمى و قال لها أسألك بالله يا سلمى أن تفكي قيدي و أن تدفعي لي سلاح و فرس سعد ـ لأن سعداً قد أقعده المرض عن المشاركة في القادسية إلا بالتخطيط ـ فرقت سلمى لحال أبي محجن ففكت قيده و دفعت له السلاح و الفرس و قال لها : لكي علي إن قتلت فالحمد لله! ... وإن أحياني الله جل و علا أن أعود إلى قيدي لأضعه في رجلي بيدي مرة أخرى!.. و انطلق أبو محجن و تغير سير المعركة على يد بطل ... على يد فارس ... حتى قال سعد الذي جلس في عريش فوق مكان مرتقع ليراقب المعركة قال سعد: والله لولا أني أعلم أن أبى محجن في القيد لقلت بأن هذا الفارس أبو محجن و لو لا أني أعلم أن البلقاء في مكانها لظننت أنها البلقاء فردت عليه زوجه و قالت نعم!.. إنها البلقاء و إنه أبو محجن و حكت له ما قد كان و لما انتهت المعركة دخل سعد بن أبي وقاص على أبي محجن في موقعه في سجنه فوجد ابو محجن قد وضع القيد بيديه في رجليه كما كان مرة أخرى!! فبكى سعد بن أبي وقاص و رق لحاله و قال له : قم يا أبا محجن و فك القيد عن قدميه بيديه و قال له سعد : والله لا أجلدك في الخمر بعدها أبدا ، فنظر(1/261)
إليه أبو محجن و قال : ربما أكون كنت أذل فيها لأنني أعلم أنني أطهر بعدها بالجلد ، أما الآن لا تجلدني فأنا والله لا أشرب الخمر بعدها أبدا!! ... و صدق مع الله جل و علا ... .فهذه رسالة رقيقة يرسل بها أبو محجن الثقفي لأصحاب العصاة من أمثالي ... لأهل الذنوب من أمثالي ... ألا تمنحهم ذنوبهم إجازة مفتوحة من أن يتحركوا لدين الله و من أن تتحرك قلوبهم بالعمل لدين الله جل و علا ... حتى الهدهد!! ... ذلكم الطائر الأعجم لم يفهم أنه في مملكة ضخمة على رأسها نبي سخر فيها الإنس و الجن و الأرض و الريح لهذا الملك النبي لم يفهم أنه بهذا قد أخذ إجازة من ألا يعمل لدين الله ... الهدهد؟ ... أي والله تحرك ليعمل للدين؟ ... أي والله!، بل جاء لهذا الملك النبي ليكلمه بكل ثقة: أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين .. إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ... و يعلن الهدهد براءته من عقيدة الشرك و الكفر و يقول : ألا يسجدوا لله ؟! ... الذي يخرج الخبأ في السماوات و الأرض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون؟ ... الله ... لا إله إلا هو رب العرش العظيم ... .هدهد لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً في مملكة موحدة لا في بلد نحت شريعة الله بل في مملكة موحدة على رأسها ملك نبي لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً ليعمل لدين الله فهل تعجز أيها المسلم و أيها الشاب أن تجد لنفسك دوراً الآن حتى تعطي نفسك أجازه مفتوحة ألا تتحرك و ألا تعمل شيئاً لدين الله جل و علا ؟ ... أقول يجب أن نزيل من قلوبنا وهماً كبيراً يتمثل في أن العمل للدين هو الخطبة و الندوة و المحاضرة ... لا.. لا!! ... بل إن العمل للدين مسئولية كل مسلم و مسلمة على وجه هذه الأرض و هذا هو عنصرنا الثالث ... ..(1/262)
ثالثاً : تبعة ثقيلة و أمانة عظيمة أطوق بها الأعناق أيها المسلمون في كل مكان يا من تستمعون إلي الآن في هذا البيت المبارك أو عبر شريط الكاسيت بعد ذلك ... أعلموا أن كل مسلم و مسلمة على وجه الأرض نبض قلبه بحب الله و حب رسول الله واجب عليه أن يتحرك لدين الله على حسب قدرته و استطاعته و إمكانياته المتاحة ليس بالضرورة أن ترتقي المنبر هنا! ، ليس بالضرورة أن تجلس على الكرسي لتحاضر، لكنه لابد أن تتحرك لدين الله في موقعك ، أنت طبيب هل حولت الإسلام في حياتك إلى عمل؟ ... أنت مدرس ، هل حولت الإسلام في فصلك إلى منهج حياة ؟ ... أنت موظف هل اتقيت الله في عملك و راقبت الله في السر و العلن و قال الجمهور ممن يتعاملون معك هذا موظف مسلم يخشى الله جل و علا؟؟ ... أم انك لا تقدم شيئا إلا إذا أخذت الرشوة بأسلوب صريح أو غير صريح؟! ، أين الإسلام ... أين الإسلام في واقع حياتنا ؟ ... هل شهدنا للإسلام شهادة عملية سلوكية أخلاقية؟.. بعد ما شهد الكل شهادة قوليه باللسان مع أننا نعلم يقينا أن القول إن خالف العمل بذر بذور النفاق في القلوب " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " و نحن نقول ما لا نفعل إلا من رحم ربك جل و علا ... أسأل الله أن يجعلنا و إياكم ممن رحم ... العمل للدين مسئولية كل مسلم و ها أنا ذا سأضع لك خطوات عملية فاحفظها حتى لا نسأل بعد ما هو دوري .. ما ذا أفعل ؟! ...
الخطوة الأولى : أن تكون لقضية الدين مساحة في خريطة اهتماماتك و برامجك.. أن يحرك الدين عواطفك و أن يحرق هم الدين وجدانك.. هذه أول خطوة!، فمحال أن يتحرك الإنسان لشيء لا يعتقده!! ، لا يحمله في قلبه.. أحمل هم الدين في قلبك لتتحرك له..(1/263)
الخطوة الثانية: فرغ شيئاً من وقتك لابد حتماً حتى ولو ساعة في اليوم لدين الله لتتعلم الدين.. لتفهم الدين فهما صحيحاً على أيدي العلماء العاملين و الدعاة الصادقين.. لا بد أن تفرغ وقتاً من وقتك لتتعلم ..محال أن تنصر شيئاً تجهله!!.. فرض عين عليك يا مسلم و فرض عين عليك أيتها المسلمة.. فرض عين على كل مسلم أن تعلم فروضا الأعيان ليعبد الله عبادة صحيحة.. تتعلم الصلاة/أركان الصلاة/ أحكام الصلاة/ نواقض الصلاة/ مبطلات الصلاة.. تتعلم قبل الصلاة التوحيد و حقيقة التوحيد و مكانة التوحيد و كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربى الأمة ابتداءاً على التوحيد.. و تتعلم كيفية الصيام و أحكامه و آدابه و سننه.. و تتعلم الزكاة و مقادير الزكاة و كيف تخرج الزكاة.. و تتعلم البيوع إذا كنت تاجراً يتاجر بالدرهم و الدينار..و تتعلم مناسك الحج ... . فرض عين عليك أن تتعلم فروض الأعيان لتعبد الله جل و علا عبادة صحيحة فهل تعلمتها؟!!.. هل فرغت شيئاً من وقتك لتجلس بين يدي العلماء و الدعاة لتتعلم دين الله؟ ... هذه هي الخطوة العملية الثانية ..
الخطوة الثالثة: حملت هم الدين و تعلمت؟ و فهمت؟ يجب عليك بعد ذلك أن تحول هذا الدين الذي تحمل همه و الذي تعلمته و فهمته في حياتك إلى واقع عملي و إلى منهج حياة ...(1/264)
الخطوة الرابعة: إن فعلت ذلك اخطوا على الطريق خطوات عملية لازمة تتمثل في أن تدعو غيرك لهذا الدين الذي تحمل همه و لهذه القضية التي تعتنقها و التي تعلمتها و فهمتها و عملتها.. تحرك بعد ذلك على الفور لدين الله جل و علا لتبلغ غيرك و لتنقل هذا النور فلا تكن زهرة صناعية!! أي من صنع البشر لا تحمل من عالم الزهور إلا اسمها و كن زهرة كالزهرات التي خلقها الله لا تحبس عن الناس أريجها و عطرها فإن من الله عليك بالنور فانقل هذا النور إلى غيرك من المسلمين ... و لتتحرك الأخت المسلمة لتنقل هذا النور إلى غيرها من الأخوات المسلمات، تكثيرك لأخواتك المسلمين الآن في خطبة الجمعة أو في محاضرة من المحاضرات لإغاظة المنافقين لتبين لهم أننا لازلنا نعشق هذا الدين و تحترق قلوبنا له هذا عمل للدين.. جلوسك في مجلس علم لتتعلم عقيدة التوحيد لتعمل بها ولتعلمها غيرك عمل للدين.. جلوسك في حلقة قرآن بعد العصر لتحفظ القرآن و لتحفظه غيرك بعد ذلك عمل للدين.. تربيتك لزوجتك و أولادك تربية طيبة على القرآن و السنة عمل للدين.. اهتمامك بدروسك أيها الطالب المسلم و تفوقك في جامعتك و دراستك و حصولك على المراكز الأولى عمل للدين.. اهتمامك بزوجك أيتها المرأة المسلمة و حفظك لعرضه و حفظك لشرفه ووقوفك إلى جواره في تربية الأولاد تربية طيبة و عدم إلهابك لظهره بالطلبات والنفقات التي لا يقدر عليها عمل للدين.. التزامك أيها الموظف و المسئول المسلم بعملك في مواعيدك المنضبطة و بإخلاصك و تفانيك في خدمة جماهير المسلمين عمل للدين.. صدقك في كلامك و إخلاصك في وفائك في الوعود و العهود عمل للدين.. نشرك لشريط استمعته و استفدت منه عمل للدين.. لصقك لإعلان لخطبة جمعة أو لمحاضرة علم عمل للدين.. غيرتك في قلبك على حرمات الله التي تنتهك عمل للدين.. أمرك بالمعروف و نهيك عن المنكر عمل للدين.. إخلاصك في أي عمل.. عمل للدين.. دعوتك لغيرك بالحكمة و الرحمة عمل(1/265)
للدين.. رفقك في نصيحة إخوانك عمل للدين.. إنفاقك لجنيه على فقير أو يتيم أو مسكين عمل للدين.. تخصيصك لجزء من راتبك لدعوة الله أو للإنفاق على طالب علم أو لداعية من الدعاة عمل للدين.. مساهمتك لبناء مسجد كهذا عمل للدين.. ماذا تريدون بعد ذلك؟؟!! ... . والله لا يترك هذا المجال الفسيح إلا مخذول محروم ابذل أي شيء ... . أهل الباطل يتحركون بكل قوة ... نيتنياهو يعلمنا كيف يكون البذل للعقيدة و هو على الكفر.. و أهل الحق و أهل التوحيد في تقاعس مرير.. بالله عليكم ماذا لو تحرك هذا الجمع الذي يتكون من الآلاف بين يدي!!.. ماذا لو تحرك كل هذا الجمع ليتحولوا إلى دعاة صادقين في مواقع الأعمال و مواطن الإنتاج و على كراسي الوظائف؟؟ ... ماذا يكون لو تحولوا إلى دعاة صادقين لدين الله جل و علا؟؟ ... أيها الأخيار الكرام الرسول يحملنا هذه الأمانة " بلغوا عني ولو آية " و الحديث في الصحيحين و يقول - صلى الله عليه وسلم - " ما من نبي بعثه الله قبلي إلا و كان له من أمته حواريون و أصحاب يأخذون بسنته و يقتدون بأمره ثم إنهم تخلف من بعدهم خلوف ... اسأل الله ألا يجعلنا منهم.. فلن تكون من حواريي و أنصار رسول الله إلا إذا حملت هم دعوة النبي في قلبك و إلا إذا تحركت لها و فكرت لها في النوم و اليقظة و السر و العلانية.. يقول ابن القيم في تعليقه على قوله تعالى " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعن " يقول ابن القيم رحمة الله عليه " لن يكون الرجل من أتباع النبي حتى يدعوا إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة "(1/266)
هل دعوت إلى الله ؟.. هل تحركت لدين الله أيها الحبيب ؟.. هل تحركت لدين الله يا أختاه ؟.. تحركوا أيها المسلمون من الآن! .. الدعوة إلي الله فرض عين على كل مسلم و مسلمة كل بحسب قدرته ، هذا ما قرره علماؤنا في هذا الزمان لأن الكفر انتشر و لأن الإلحاد ظهر و لأن الزندقة كثرت و لأن العلمانيين يهدمون صرح الإسلام في الليل و النهار فيجب عليك أن تتحرك في حدود قدراتك و إمكانياتك و اعمل و لست مسئولاً عن النتيجة ، الله جل و علا يقول " و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون " ، لا أريد أن أشق أكثر من ذلك على أحبابي و أخواني الذين أراهم يقفون في الشمس قبل أن أرتقي هذا المنبر.. و لذا فأنا ألزم الجميع الآن ترجمة عملية الآن لدين الله سبحانه ألا يفارق هذا المكان أحد صلى معنا إلا و قد ساهم بأي شيء لننهي الدور الأعلى في هذا البيت الكريم المبارك، حتى لا نشق بعد ذلك على إخواننا في صلوات الجمعة فيجدون مكاناً يسمعون فيه قول الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... و ابحث أنت بنفسك عن إخوانك الذين يجمعون فإن كل تبرعات اليوم لتشييد الدور الثاني في هذا البيت الكريم المبارك الذي يمثل منارة للتوحيد و الهدى في محافظة الدقهلية بأكملها ... أسأل الله جل و علا أن ينفع به و أن ينفعنا و إياكم بما نسمع و ما نقول و أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم.(1/267)
الحمد لله رب العالمين .. و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له و اشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله .. اللهم صلي و سلم و زد و بارك عليه و على آله و أصحابه وأحبابه و أتباعه و على كل من اهتدى بهديه و استن بسنته و اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد ... فيا أيها الأحبة الكرام لا أريد أن أفارق الأحبة إلا وقد سكبت الأمل في القلوب سكباً بأن المستقبل لهذا الدين فإن عنصرنا الأخير هو رابعاً : فجر الإسلام قادم ... حتى نعلم يقيناً أن الله سينصر دينه بنا أو بغيرنا "و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً و سيجزي الله الشاكرين" إن انصرفت عن مجالس العلم فلن تضر الله شيئا .. إن تقاعست عن الإنفاق لدين الله فإن الله هو الغني.. إن انصرفت عن العمل لدين الله فإن الله لا يريد منك عملا!!.. أنت الخسران.. الله جل و علا لا تنفعه طاعة و لا تضره معصية و هو القادر على كل شيء،و لكنه يأمرك لأنه يريد بك و لك الخير "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" فالله سبحانه ناصر دينه بنا أو بغيرنا.. و إن المستقبل للإسلام رغم كيد الفجار و المنافقين و العلمانيين.. إن المستقبل لدين الله جل و علا بموعود الله و بموعود رسول الله فلا أقول هذا الكلام رجماً بالغيم و لا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام و تضميد الجراح لا!.. بل هذا هو قرآن ربنا يتلى و هذه هي أحاديث نبينا تسمع إن المستقبل لهذا الدين و إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر و ضوء الإسلام قادم بإذن الله جل و علا.. إن الذي يسطل في الأمر في نهاية المطاف أيها الشباب ليس هو ضخامة الباطل و لكن الذي يسطل في الأمر هو قوة الحق ولا شك أبداً أن معنى الحق الذي من أجله خلق الله السماوات و الأرض و الجنة و النار و من أجله(1/268)
أنزل الله الكتب و أرسل الرسل،معنا رصيد فطرة الكون..معنا رصيد فطرة الإنسان التي فطرت على التوحيد و قبل كل ذلك و بعد كل ذلك.. معنا الله .. و يالها والله من معية كريمة لو علم الموحدون قدرها ولو عرف المسلمون عظمتها و جلالها " ما قدروا الله حق قدره " فالمستقبل للدين و نصرة الله لدين الله جل وعلا وعد منه سبحانه ووعد من نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى قال تعالى " إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد " ، قال تعالى " و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون " قال تعالى " وعد الله الذين آمنوا ـ آمنوا ـ منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " قال تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون " ، " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون " قال تعالى " و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون " قال تعالى " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون " و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون " ... و أختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر و الشجر فيقول الحجر و الشجر يا مسلم يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود " .. فالله ناصر دينه بنا أو بغيرنا.. فهل ستتقاعس و تتخلى عن هذا الشرف؟!.. هيا سابق الزمن!، قبل أن يأتيك ملك الموت فتندم يوم لا ينفع الندم ...(1/269)
أمانة أطوق بها أعناق كل مسلم و مسلمة على وجه الأرض يستمع إلى هذه الكلمات معي الآن أو عبر شريط الكاسيت بعد ذلك اللهم إني قد بلغت .. اللهم فاشهد يا رب العالمين.
ــــــــــــــــــ
طُوبى للناصحين !
عبدالرحمن بن ناصر السعدي
ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الدين النصيحة". (ثلاثاً).
قالوا: لمن يا رسول الله ؟
قال: "لله،ولكتابه ورسوله،وأئمة المسلمين وعامتهم".
أخبر - صلى الله عليه وسلم - خبراً متضمناً للحث على النصيحة والترغيب فيها: أن الدين كله منحصر في النصيحة.
يعني: ومن قام بالنصيحة،فقد قام بالدين ، وفسره تفسيراً يزيل الإشكال ، ويعم جميع الأحوال ؛ وأن موضوع النصيحة خمسة أمور ، باستكمالها يكمل العبد.
أما النصيحة لله:
فهي القيام بحقه وعبوديته التامة.
وعبوديتُه تعم ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان كلها،وأعمال القلوب والجوارح،وأقوال اللسان من الفروض والنوافل،وفعل المقدور منها،ونية القيام بما يعجز عنه.
قال تعالى في حق المعذورين: { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }.[النور:61].
وذلك: { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }.[9: 91].
فاشترك في نفي الحرج عن هؤلاء أن يكونوا ناصحين لله ورسوله،وذلك بالنيات الصادقة،والقيام بالمقدور لهم.
ومن أعظم النصيحة لله: الذب عن الدين ، وتفنيد شبه المطلين ، وشرح محاسن الدين الظاهرة والباطنة ؛ فإنَّ شرح محاسن الدين،وخصوصاً في هذه الأوقات التي طغت فيها الماديَّات ، وجرفت بزخارفها وبهرجتها أكثر البشر ، وظنوا بعقولهم الفاسدة أنها هي الغاية ، ومنتهى الحسن والكمال ، واستكبروا عن آيات الله وبيناته ودينه.(1/270)
ولم يخطر بقلوب أكثرهم أن محاسن الدين الإسلامي فاقت بكمالها وجمالها كل شيء ، وأن محاسن غيرها ، إن فرض فيه محاسن ، فإنه يتلاشى ويضمحل ، إذا قيس بنور الدين وعظمته وبهائه ، وأنه الطريق الوحيد إلى صلاح البشر وسعادتهم،ومُحالٌ أن تحصل السعادة بدونه.
أما سعادة الدين فواضحة لكل أحد منصف. وأما سعادة الدنيا فإن الأمور المادية المحضة ، إذا خلت من روح الدين ، فإنها شقاء على أهلها ودمار. والمشاهدة أكبر شاهد على هذا ، فإن أمور المادة قد ارتقت في هذه الأوقات ارتقاء هائلاً ، يعجز الفصيح عن التعبير عنه ، ومع ذلك فهل عاش هؤلاء مع أنفسهم ومع غيرهم ومع بقية الأمم عيشة سعيدة هنيئة طيبة ؟ أم الأمر بالعكس ؟
وما يخرجون من طامة ، إلا تلقتهم طامة أخرى أكبر منها! ولا خلصوا من كوارث وعذاب ، إلا دخلوا في عذاب أفظع منه!
ولا -والله- ينجيهم من هذا غير الدِّين الصحيح ، وسيعلمون ويعلم غيرهم عواقبهم الوخيمة.
وأما النصيحة لكتاب الله:
فهي الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبُّره ، وتعلم معانيه وتعليمها ، والتخلق بأخلاقه وآدابه،والعمل بأحكامه،واجتناب نواهيه،والدعوة إلى ذلك.
وأما النصيحة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - :
فهي الإيمان الكامل به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وتقديم محبته واتباعه على الخلق كلهم. وتحقيق ذلك وتصديقه باتباعه ظاهرا وباطنا في العقائد والأخلاق والأعمال،قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}. [آل عمران:31].
والحرص على تعلم سنته وتعليمها ، واستخراج معانيها وفوائدها الجليلة ، وهي شقيقة الكتاب . قال الله تعالى: { شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. [النساء: 113].
وجملة ما تقدم أن النصيحة لله ورسوله ، هي الإيمان بالله ورسوله ، وطاعة الله ورسوله. وهذا يعم كل ما تقدم.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين:(1/271)
وهم ولاتهم- من السلطان الأعظم إلى الأمير ، إلى القاضي ، إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة-.
فهؤلاء لما كانت مهماته وواجباتهم أعظم من غيرهم ، وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم ، والاعتراف بولايتهم ، ووجوب طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم،وحث الرعية على طاعتهم،ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسوله ، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم ، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب حاله ، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق ، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم ، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإنَّ في ذلك شرًّا وضرراً وفساداً كبيراً.
فمن نصيحتهم: الحذر والتحذير من ذلك ، وعلى من رأى منهم ما لا يحل ، أن ينبههم سراً ، لا علناً ، بلطف،وعبارة تليق بالمقام ، ويحصل بها المقصود ، فإنَّ هذا مطلوب في حقِّ كلِّ أحد ، وبالأخص وُلاة الأمور ، فإنَّ تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير ، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر-أيها الناصح لهم ، على هذا الوجه المحمود- أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس ، فتقول لهم: إني نصحتهم وقلتُ و قلتُ: فإنَّ هذا من الرياء ، وعلامة ضعف الإخلاص ، وفيه أضرار أخر معروفة.
وأما النصيحة لعامة المسلمين:
فقد وضحها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وذلك بمحبة الخير لهم ، والسعي في إيصاله إليهم ، بحسب الإمكان ، وكراهة الشر والمكروه لهم ، والسعي في دفع ذلك ودفع أسبابه ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم ، وكل ما تحب أن يفعلوه معك من الإحسان فافعله معهم ، ومعاونتهم على البر والتقوى ، ومساعدتهم على كل ما يحتاجون.
فمن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته.
والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه المسلم.(1/272)
وهذه الأمور كلها بحسب القدرة ، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. [التغابن:16].
فعلمت مما تقدم أن الأمر كما ذكره - صلى الله عليه وسلم - : أنَّ النصيحة تشمل الدين كله: أصوله وفروعه ، حقوق الله وحقوق رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وحقوق الخلق كلهم ، أهل الحقوق العامة والخاصة.
فمن قام بالنصيحة على هذا الوجه ، فقد قام بالدين . ومن أخلَّ بشيء مما تقدم فقد ضيع من دينه بقدر ما ترك.
فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق ربه فضيعها ، وعلى محارمه فتجرأ عليها؟
وأين النصيحة ممن قدم قول غير الرسول على قوله ، وآثر طاعة المخلوق على طاعة الله ورسوله؟
وأين النصيحة من أهل الخيانات والغش في المعاملات؟
وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وممن يتبعون عورات المسلمين وعثراتهم ؟
وأين النصيحة ممن يسعى في تفريق المسلمين ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم؟
وأين النصيحة ممن يتعلقون عند اللقاء بالمدح والثناء ، ويقولون خلاف ذلك في الغيبة عند الأعداء وعند الأصدقاء؟
وأين النصيحة ممن لا يحترم أعراض المسلمين ، ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة؟
وأين النصيحة من المتكبرين على الحق ، والمتكبرين على الخلق ، المعجبين بأنفسهم ، المحتقرين لغيرهم؟
فهؤلاء كلهم عن النصيحة بمعزل ، ومنزلهم فيها أبعد منزل . وكل هؤلاء قد اختل إيمانهم،واستقوا العقوبات المتنوعة ، وحُرِموا من الخير الذي رتب على النصح ، حرموا من الأخلاق الفاضلة ، وابتلوا بالأخلاق السافلة.
أولئك هم الخاسرون.
طُوبى للناصحين !
حقيقة ما أعظم توفيقهم ، وما أهدى طريقهم !.
لا تجد الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه ، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه و نواهيه ، وفي دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي التخلق بالأخلاق الجميلة والآداب المستحسنة !.(1/273)
إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره ، وإن اطلع منه على عيب كتمه وستره ! إن عاملته وجدته ناصحاً صدوقاً ، وإن صاحبته رأيته قائماً بحقوق الصحبة على التمام ، مأموناً في السر والعلانية ، مباركاً على الجليس كحامل المسك: إما أن يحذيك،أو تجد منه رائحة طيبة.
إذا وجدت الناصح فاغتنم صحبته ، وإذا تشابهت عليك المسالك فاستعن بمشاورته. جاهد نفسك على التخلق بخلق النصح ، تجد حلاوة الإيمان ، وتكن من أولياء الرحمن ، أهل البر والإحسان . لو اطلعت على ضمير الناصح ، لوجدته ممتلئاً نوراً وأمنا ، ورحمة وشفقة. ولو شاهدتَ أفكاره ، لرأيتها تدور حول مصالح المسلمين ، مجملة ومفصلة. ولو تأملتَ أعمالَه وأقوالَه ، لرأتَها كلها صريحة متفقة.
أولئك السادة الأخيار ، وأولئك الصفوة الأبرار.
لقد نالوا الخير الكثير ، بالنيات الصالحة والعمل اليسير ! .
كتبها العلامة الشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تعالى-
المصدر: الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في الحدائق والفنون المتنوعة الفاخرة. للعلامة السعدي. [الفصل الثامن].
نقلها الأخ نَاصر الكاتِب
شبكة الفوائد
ــــــــــــــــــ
العمل للإسلام
عبدالعزيز السدحان
إن الانتماء إلى الإسلام من أعظم أنواع التميز في هذه البشرية ؛ ذلك لأنه الدين الذي ارتضاه الله للناس وجعله أعظم نعمة وأتمها عليهم : [ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ]
ويزداد شرف الانتماء إلى هذا الدين كلما كان المسلم أكثر احتراماً وتمثلاً لأحكامه وتعاليمه وآدابه .
فتعاليم الإسلام وآدابه تكسب حاملها سعادة ومهابة ووقاراً، وكيف لا يكون كذلك وتلك التعاليم الأحكام تهذب العقول والجوارح والأفئدة؟
بل تتسع دائرة النفع حتى يكون نفعاً متعدياً، فتسود المحبة والوئام بين أفراد المجتمع المسلم وتتآلف قلوبهم . فيصدق عليهم بذاك الوصف النبوي " المؤمنون كالجسد الواحد" .(1/274)
إن المتأمل في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وتكاتفهم فيما بينهم، واستشعار كل فرد منهم بمسئوليته تجاه مجتمعه وأمته ، يرى في أولئك البررة خير مثال يحتذي في علو همتهم وصادق عزيمتهم ، كانوا من خير المجتمعات وأزكاها، تمثلوا أخلاق الإسلام وتعاليمه وآدابه في جميع شئونهم.
كان العمل للإسلام يخالط شغاف قلوبهم ، يترجم ذلك أقوالهم وأفعالهم مع خاصة أهليهم وأفراد مجتمعهم، يؤثر الواحد منهم أخاه ولا يستأثر لنفسه، يطوي لأحدهم جائعاً حتى يشبع أخوه، يشتركون في الآمال والآلام، وكان من نتيجة ذلك أن تهيأ لهم من التكاتف والترابط ما يندر وجودة في سائر المجتمعات، فنعموا بالحياة الطيبة، وقويت هيبتهم في نفوس أعدائهم .
وكان من أعظم الأسباب في ذلك - بعد فضل الله تعالى - أنهم استشعروا مسؤليتهم تجاه مجتمعهم وأمتهم، فبذلوا الغالي والنفيس وآثروا ولم يستأثروا ، فأعلى الله شأنهم ورفع مكانتهم وقدرهم .
إن من أسباب الضعف التي تنخر في أساس المجتمع: تهرب كثير من الناس من مسئولياتهم تجاه الإسلام والمسلمين، والاستظلال بظل التوكل والتسويف؛ حتى تعطل من جرّاء ذلك خير كثير، والعجب أن هذا الخلل يقل أو ينعدم عند غير المسلمين، فبنظرة إلى تكاتف أهل الديانات الباطلة والمذاهب المنحرفة يرى المرء عجباً من قوة تكاتفهم وشدة ترابطهم في سبيل نشر مبادئهم مع اختلافهم المتباين في المكان والزمان والحال ، إلا أن العمل لمصلحة مبادئهم هو المحور والمرتكز الذي يؤمه الجميع .
شاهد المقال: أنهم مع فساد عقائدهم ومذاهبهم إلا أن قوة دعوتهم لها قولاً وعملاً ودعماً مكن لهم وزاد من شوكتهم .
إن استشعار الفرد المسلم مسئوليته تجاه أفراد مجتمعه من أعظم خطوات البناء في تقوية أساس المجتمع .
وعلى هذا فليجعل كل مسلم على نفسه مسئولية العمل للإسلام بكل ما يستطيع من الوسائل والسبل فإن الجهود إذا تظافرت وتكاتفت؛ أينعت ثمارها وآتت أكلها .(1/275)
وعلى هذا فليجعل كل واحد منا نفسه على ثغر من ثغور الإسلام : فالمعلم يمثل القدوة الحسنة في أخلاقه وسمته ووقاره، والموظف بإنجازه لمعاملات الناس بأحسن أداء وأسرعه والتاجر بصدقه وأمانته في بيعه وشرائه ودعمه لمشاريع الخير، وهكذا كلٌ يتمثل خلق الإسلام في شخصه ومنطقه.
وليس العمل للإسلام مقصوراٌ على موقع الشخص الوظيفي، أو في مكان معين أو في زمان معين، بل يجعل المسلم عمله للإسلام منهجاٌ له في جميع حياته فيقدم ما يستطيع من نفع للمسلمين، كأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وشفاعة لمحتاج، وغير ذلك من أعمال الخير والبر.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( على كل مسلم صدقة ) قالوا: فإن لم يجد؟ قال ( فيعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق). قالوا: فإن لم يستطع أولم يفعل؟ قال (فيعين ذا الحاجة الملهوف) قالوا: فإن لم يفعل؟ قال ( فليأمر بالخير_ أو قال :بالمعروف_ ) قالوا: فإن لم يفعل، قال ( فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) أخرجه البخاري ، وفي لفظ عن أحمد والنسائي ( تهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ) .
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة ) أخرجه الترمذي. فأبواب الخير كثيرة ومتنوعة .
وإن من أسباب التقاعس احتقار الجهد إن كان يسيرا. وهذا من تلبيس إبليس [ فلا تحقرن من المعروف شيئا ]. فالجهود اليسيرة إذا تكاثرت كانت عظيمة النفع والأثر.(1/276)
ومن أسباب التقاعس أيضا : ذكر مصاب الأمة والتثريب على أفرادها وهذا مما يزيد المجتمع وهنا إلى وهن .
شاهد المقال : أن على المسلم أن يحذر من دخول اليأس، والتقاعس عن القيام بما يستطيعه من تقديم الخير للمسلمين، ويتأكد هذا في حق الدعاة والمصلحين، فعليهم أن يحذروا من دخول اليأس إلى قلوبهم في حال عدم قبول دعوتهم .
فوظيفة الداعية أن يبلغ رسالته، وليس من شروط ذلك أن يرى ثمارها.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس عليه أن تتم المقاصد
وخير من قول الشاعر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" عرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجلان ، والنبي وليس معه أحد " أخرجه الشيخان.
فإذا كانت دعوة النبي قد لا يستجيب لها أحد ، فأين مقام النبي من مقام الداعية ؟!
ثم يقال أيضاً : إن الإصلاح لابد أن يكون منطلقاً من النصوص الشرعية الصحيحة . وفي المقابل الحذر من ابتداع واستحسان طرق دعوية ما أنزل الله بها من سلطان ، فخير الهدي هدي محمد r ، ولو كان ما يبتدع خيراً لسبقونا إليه .
بكل حال فعلى الداعية أن يكون على علم صحيح ومنهج سليم ، والذي يضمن ذلك له - بعد توفيق الله تعالى - طلب العلم ، وقراءة سيرة السلف ، ومجالسة العلماء وسؤالهم عما يشكل .
فبذا وذاك يصح أمره وأمر دعوته .
نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير ومغاليق للشر. اللهم أصلح أحوال المسلمين وارزقهم البصيرة فيما يصلح شئونهم . اللهم اجعلنا ممن يعمل للإسلام وينفع الله به المسلمين .
المصدر مجلة الملتقى
ــــــــــــــــــ
فضل الدعوة والداعية عند الله
عبدالله ناصح علوان
أتعرفون - يا شباب - فضل الدعوة والداعية عند الله ؟
أتعرفون المنزلة الكبرى التي خص الله سبحانه بها دعاة الإسلام ؟
أتعرفون ماذا أعد الله للدعاة من مثوبة وأجر وكرامة ؟(1/277)
* يكفي الدعاة - يا شباب - منزلة ورفعة .. أنهم خير هذه الأمة على الإطلاق ، قال تعالى في سورة آل عمران : (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..)) .
* يكفي الدعاة سمواً وفلاحاً أنهم المفلحون والسعداء في الدنيا والآخرة ، قال سبحانه في سورة آل عمران : (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) .
* ويكفي الدعاة شرفاً وكرامة أن قولهم في مضمار أحسن الأقوال ، وأن كلامهم في التبليغ أفضل الكلام .. قال جل جلاله في سورة فصلت : (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) .
* ويكفي الدعاة منَّا وفضلاً أن الله سبحانه يشملهم برحمته الغامرة ، ويخصهم بنعمته الفائقة ..
قال عز من قائل في سورة التوبة : (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) .
* ويكفي الدعاة أجراً ومثوبة .. أن أجرهم مستمر ومثوبتهم دائمة .. روى مسلم وأصحاب السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً .. )) .
* ويكفي الدعاة فخراً وخيرية .. أن تسببهم في الهداية خير مما طلعت عليه الشمس وغربت .
روى البخاري عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( .. فوالله لأن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم )) وفي رواية : (( خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )) .(1/278)
هل رأيتم - يا شباب - منزلة تضاهي منزلة الدعوة ؟
وهل سمعتم في تاريخ الإنسانية كرامة تعادل كرامة الداعية ؟
فإذا كان الأمر كذلك فانطلقوا - يا شباب - في مضمار الدعوة إلى الله مخلصين صادقين .. لتحظوا بالأجر والمثوبة ، والرفعة والكرامة .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً !! .
من كتاب دور الشباب في حمل رسالة الإسلام
لعبدالله ناصح علوان
ــــــــــــــــــ
رسالة من القلب إلى القلب
عبدالوهاب الناصر الطريري
الحمد لله والصلاة والسلام على النبي وآله وبعد :
فهذا حديث إلى أخ لي حبيب . . .
قد أراه في كل صف من الصفوف . . .
قد أراه بين كل اثنين . . .
أراه في كل مسلم رضي بالله ربا، وبمحمد، - صلى الله عليه وسلم - نبيا ، وبالإسلام دينا . . .
أخ لي .. . .
لم يسلم من أخطاء سلوكية، وكلنا خطاء إ إ. .
لم ينج من تقصير في العبادة وكلنا مقصر! ! . .
ربما رأيته حليق اللحية، طويل الثوب ، مدمنا للتدخين ! ! . .
بل ربما أسر ذنوبا أخرى ونحن المذنبون أبناء المذنبين ! ! .
نعم ! أريد أن أتحدث إليك أنت أخي حديثا أخصك به ، فهل تفتح لي أبواب قلبك الطيب ونوافذ ذهنك النير؟! ! .
فوالله الذي لا إلة إلا هو إني لأحبك . . أحبك حبا يجعلني .. . . أشعر بالزهو كلما رأيتك تمشي خطوة إلى الأمام ! ! . .
وأشعر والله بالحسرة إذا رأيتك تراوح مكانك أو تتقهر ورائك !!.
أحدثك حديثا اسكب روحي في كلماته . . . وأمزق قلبي في عباراته . . .
إنه أخي حديث القلب إلى القلب .
حديث الروح للأرواح يسري *** وتدركه القلوب بلا عناء
أخي وحبيبي ...
هل تظن أن أخطاءنا أمر تفردنا به لم نسبق إليه ؟! .
كلا ... فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ولكن نحن بشر معرضون للخطيئة، يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .(1/279)
وكل من ترى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا. قال ابن مسعود- رضي الله عنه - لأصحابه وقد تبعوه : "لو علمتم بذنوبي لرجمتموني بالحجارة"، وقال حبيبك محمد، - صلى الله عليه وسلم - : "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) والله يا أُخَيَّ لقد أحرقتنا الذنوب ، وآلمتنا المعاصي ولكن أيها الحبيب المحب أرعني سمعك يا رعاك الله ! ! .
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم ، ولكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك ويرابي في خطيئتك .
أتدري كيف ذلك ؟ ! ! . .
يلقي في روعك أن هذه الذنوب خندق يحاصرك فيه لا تستطيع الخروج منه . .
يلقي في روعك أن هذه الذنوب تسلبك أهلية العمل للدين أو الاهتمام به .
ولا يزال يوحي إليك : دع أمر الدين والدعوة لأصحاب اللحى الطويلة! والثياب القصيرة! دع أمر الدين لهم فما أنت منهم ! ! .
وهكذا يضخم هذا الوهم في نفسك حتى يشعرك أنك فئة والمتدينون فئة أخرى. وهذه يا أخي حيلة إبليسية ينبغي أن يكون عقلك أكبر وأوعى من أن تمرر عليه .
فأنت يا أخي متدين من المتدينين . . أنت تتعبد لله بأعظم عبادة تعبد بها بشر لله .
أن تتعبد لله بالتوحيد.
أنت الذي حملك إيمانك فطهرت أطرافك بالوضؤ، وعظمت ربك بالركوع ، وخضعت له بالسجود.
أنت صاحب الفم المعطر بذكر الله ودعائه ، والقلب المنور بتعظيم الله وأجلاله . فهنيئا لك توحيدك وهنيئا لك إيمانك .
إنك يا أخي صاحب قضية . .
أنت أكبر من أن تكون قضيتك فريق كروي يكسب أو يخسر. .
أنت أكبر من أن تدور همومك حول شريط غنائي أو سفرة للخارج . .
أنت أكبر من أن تدور همومك حول المتعة والاكل .
فذلك كله ليس شأنك ، إن ذلك شأن غيرك ممن قال الله فيهم . (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) 0 [ محمد : الآية 12 ](1/280)
أي أُخَيَّ أنت من يعيش لقضية أخطر وأكبر هي : هذا الدين الذي تتعبد الله به. . . هذا الدين الذي هو سبب وجودك في هذه الدنيا وقدومك إلى هذا الكون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) 0 [ الذاريات . الآية :56 ]
وأْذَنْ لي أن أذكرك مرة أخرى أن تقصيري و إياك في طاعة ربنا أو خطئي وإياك في سلوكنا لا يحللنا أبدا من هذه المسئولية الكبرى ولا يعفينا من هذه القضية الخطيرة انظر يا رعاك الله إلى هذين الموقفين :
وأرجو أن تنظر إليهما نظرة فاحصة . وأن تجعلهما تحت مجهر بصيرتك :
الموقف الأول :
خبر كعب بن مالك -رضي الله عنه -حيث وقع هذا الصحابي في خطأ كبير، وهو التخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين نفر إلى الجهاد في غزوة تبوك ولمعرفة خطر هذا الذنب تامل قول الله - عز وجل -: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا) . [ التوبة . الآية : 39 ]
ويعود النبي ، - صلى الله عليه وسلم - ، ، من غزوته تلك ، ويساءل كعبا قال"ما خلفك يا كعب ؟" فيجيب بالصدق : "والله مكان لي من عذر" .
ويأتي حكم الله في كعب أن يجتنبه الناس فلا يكلموه ، فإذا به يطوف في الأسواق لا يشرق له وجه ببسمة، ولا تنبس له شفة بكلمة، وطالت عليه جفوة الناس حتى صار حاله كما وصف الله : (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ) . [ التوبة . الآية : 118 ] . وكما وصف كعب نفسه : "تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي با لأرض التي كنت أعرف " .
هنا بالذات في وسط هذه المعاناة النفسية الشديدة وبين ألم القطيعة، وجفوة الناس إذا به يتلقى رسالة ملكية من ملك غسان يقول فيها: "إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار مهانة ، فالحق بنا نواسك " .(1/281)
إنها رسالة من ملك ! يعرض عليه أن يلحق به ليكون من رجال البلاط ، وحاشية الملك وليتمتع بعد ذلك بكل مافي القصور من ترف ، وكل مايعمرها من لذة .
إنه عرض يُسيل لعاب أفواه كثيرة بعيدا عن هذه الضغوط والمعاناة، فكيف بمن يتلقى هذا العرض وهو يعاني ألم القطيعة ومرارة الهجران ؟ ! .
فكيف تلقى كعب هذا العرض ؟! ! .
إنه لم يفكر في الأمر كثيرا أو قليلأ، لم يقل لحامل الرسالة دعني أتدبر أمرى وأرجع إليك الجواب غداً، كلا إن قضية الولاء للإسلام كانت محسومة عنده ليست محل بحث أو مراجعة، ولذا فما إن قرأ هذه الرسالة حتى قال : "وهذه أيضا من البلاء، ثم تيمم بالرسالة الملكية التنور فسجرها فيه " .
إنه الولاء للإسلام - أيها الأخ المبارك لم يضعفه وقوع في خطا! ولا قسوة عقوبة! فهل نتعلم من كعب - رضي الله عنه -أن أخطاءنا لن تكون في يوم سبباً يوهن ولاءنا للدين وحميتنا له وغيرتنا عليه .
الموقف الثاني :
ثم إلى موقف صحابي آخر هو أبو محجن الثقفي - رضي الله عنه- لقد كان هذا الصحابي مبتلى بشرب الخمر فكان يجاء به فيجلد، ثم يجاء به فيجلد، ولكنه لم يفهم أن هذا يعفيه من العمل لدينه أو القعود عن نصرته ، فإذا به يخرج مع المسلمين إلى القادسية جنديا يبحث عن الموت مظانه ، وفي القادسية يجاء به إلى سعد بن أبي وقاص وقد شرب الخمر، فيعاقبه سعد وتكون العقوبة حبسه فلا يدخل المعركة ، ولا يشارك في القتال .
وكانت عقوبة قاسية آلمت أبا محجن أشد الألم حتى إذا سمع ضرب السيوف ووقع الرماح وصهيل الخيل و علم أن سوق الجهاد قد قامت ، وأبواب الجنة قد فتحت جاشت نفسه وهاجت أشواقه إلى الجهاد فعبر عن حسرته بقيام سوق الجهاد وهو حبيس القيد والسجن بقوله :
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا *** وأترك مشدودا إلى وثاقيا
إذا قمت عنا في الحديد وغلقت *** مصارع دوني قد تصم المناديا
فلله عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت ألا أزور الخواليا(1/282)
ثم نادى امرأة سعد ابن أبي وقاص قائلا : خليني فلله علي، إن سَلِمْتُ أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد، وإن قُتِلتُ استرحتم مني . فرحمت أشواقه ، واحترمت عاطفته وخلت سبيله ، فوثب على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ الرمح وانطلق لا يحمل على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه ، وسعد يشرف على المعركة ويعجب ويقول : الكر كر البلقاء، والضرب ضرب أبي محجن إ!
حتى إذا انهزم العدو عاد أبو محجن فجعل رجله في القيد فما كان من امرأة سعد إلا أن أخبرته بهذا النبأ العجاب وما كان من أمر أبي محجن ، فأكبر سعد - رضي الله عنه - هذه النفس ، وهذه الغيرة على الدين ، وهذه الأشواق للجهاد وقام بنفسه إلى هذا الشارب الخمر يحل قيوده بيديه الطيبتين ويقول : "قم فوالله لا أجلدك في الخمر أبدا، وأبو محجن يقول : وأنا والله لا أشربها أبداً "
فانظر أيها الأخ المبارك إلى هذين الرجلين كيف لم تعفهما الخطيئة، ولم تقعدهما المعصيه عن الولاء للدين والعمل له !! .
أخي الحبيب ...
إن الخطايا ليست عذرا للتحلل من الولاء للدين ، ولا من العمل له ، ولا من نصرته ، ولا من الغيرة عليه . ولولا ذلك لما انتصر للدين منتصر، ولا قام به قائم .
نعم أيها الحبيب المحب إن الولاء للدين والغيرة عليه مسئولية المسلم من حيث هو مسلم مهما كان فيه من تقصير ومهما قارف من إثم . مادام له بهذا الدين سبب واصل ، فما من مسلم يقف في صف المسلمين إلا ويتحمل مسئولية في تاييد الدين ونصره : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). [ الأعراف.الآية:157] . هل تذكرت أخي أنك جزء من هذه الأمة التي يجب أن تكون في المقدمة في وقت تتسابق فيه الأمم في صنع المستقبل ؟ ! ! .
إننا في عصر ينبغي أن نقتحمه متحدين . فهل فكرت في إسهام حقيقي منك في ذلك ؟!! .(1/283)
هل تذكرت أخي أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدف بعداء مرير وكيد طويل ؟ ! .
واقرأ إن شئت "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله " و لتقف على طرف من هذا العداء فهل فكرت وإياك في المواجهة؟! ! . .
هل آلمتك مجازر المسلمين ورخص دمائهم فإذا هي أرخص من ماء البحر واستهانة العالم بمدن المسلمين تُباد ودولهم تبتلع ؟! !
في الوقت الذي تصاب فيه الدنيا بالأرق لرهينتين غربيتين ! ! .
فهل تحرَّكَتْ فينا أُخيَّ روح الجسد الواحد؟! !.
أيها الحبيب المحب ...
هل فتشتُ في نفسي وفتشتَ في نفسك وتساءلنا كم تبلغ مساحة الإسلام من خارطة اهتمامنا؟! ! .
كم نبذل للدين ؟! ! كم نجهد للدين ؟! ! كم نهتم للدين ؟! !
هل هو قضية حياتنا تتراء لنا وتؤرقنا؟! ! أم قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات ؟ ! ! إننا يا أخي إذا لم ننفر لهذا الدين بكليتنا فإنا - ورب البيت - نخشى أن ينالنا ذلك الوعيد الشديد الذي تكاد السمؤات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، اسمعه في قول ربك - جل جلاله -: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ التوبة، الاية: 39 ] .
لنعد السؤال على أنفسنا مرة أخرى :
كم يعيش الدين في حياتنا؟! !
كم يشغل من مساحة اهتمامنا؟! !
ثم أذن لي يا حبيبي بكلام أكثر تفصيلاً:
أخي ... هل أخذت يوما كتاب الله فقرأته مستشعرا أن الله - جل جلاله - بكبريائه وعظمته يخاطبك ويكلمك أنت العبد الصغير الذليل ؟إ إ.
أي تكريم لك ذلك التكريم العلوي ! ! . أي رفعة لك يرفعها هذا التنزيل ! ! .
أي مقام يتفضل به عليك الرب الكريم إ! . يوم جعلك أهلا لتلقي خطابه .(1/284)
أخي ... هل جلست يوما تربي نفسك بقراءة سيرة نبيك وحبيبك محمد، ، - صلى الله عليه وسلم - الذي تؤمن به وتعبد الله بشرعه ، الذي تحبه والذي أحبك ، واشتاق إلى لقائك . نعم ! نبيك اشتاق إلى لقائك فقال و ددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أو لسنا اخوانك يارسول الله ؟! قال : أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -.
فهل اشتقت إليه كما اشتاق إليك ؟ !.
أخي .. . هل نظرتُ وإياك إلى إخواننا الصالحين السابقين في الخلوات ، الذين هم أكثر منا جدا في الطاعة، ونشاطا في الدعوة، وتوقيرا للسنة ؟ ! .
هل نظرت إليهم ؟! !
فكيف كانت نظرتك ؟! .
أما إني لا أتوقع منك أن تزدريهم ولا أن تخذلهم ولكن أحبهم تكن منهم " فالمرء مع من أحب " ومحبتهم تستلزم نصرتهم والدفاع عن أعراضهم والتعاون معهم .
أخي ... هل بذلت جهدا في الدعوة ولو كان قليلا ؟؟.
هل أهديت لقريب أو زميل شريطا بعد أن سمعته أو كتيبا بعد أن قرأته ؟؟.
أخي ... هذه المنكرات التي في مجتمعنا وقد غصّ بها لم تنتشر في يوم وليله، ولكن انتشرت لأن واحدا فعل وواحد سكت وهما شريكان في انتشار ذلك المنكر.
فهل استشعر ت وجوب مشاركتك في إزالة المنكر؟ ! ! وعلمت أنة لابد أن تكون مساهما في الإنكار! ! .
أخي . .. إن في مجالسنا ومجتمعنا من يشوش على الناس مفاهيمهم ويلبس عليهم دينهم وينتقص أهل الصلاح منهم ! ! .
فهل وقفت منافحا ومدافعا بالتي هي أحسن ؟! .
لأنك تعلم أن السكوت حينئذ خيانة للمبدأ، وجبنٌ في الدفاع عن الحق الذي تعتقده .
أخي ... لا تكتف بالتعاطف مع الأخيار الأبرار وترى ذلك فضلأ منك ولكنك تعلم أنه يجب عليك أن تكون متعاطفا ومتعاونا لأنك تعلم أن ذلك من مسؤليتك .
أخي وحبيبي ...(1/285)
تذكر رعاك الله أنك بإيمانك ذو نسب عريق ضارب في عمق الزمن ، وأنك واحد من ذلك الموكب المبارك الذي يقوده ذلك الركب الطيب من أنبياء الله ورسله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله عليهم وسلم : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) 0 [الأنبياء، الاية:92 ] إنا نظن بك أخي أن تكون معتزا بإيمانك ، واثقا من نفسك ، باذلا لدينك مايمكنك بذله ، داعيا لمبدئك وقضيتك ، متميزا عن غيرك ممن لا يهتم بهذا كله ، متميزا عن السلبيين الذين نقول لهم كفّوا أذاكم عن الناس فهو صدقة منكم على أنفسكم .
قد اختارنا الله في دعوته *** وإنّا سنمضي على سنته
فمنا الذي قضوا نحبهم *** ومنا الحفيظ على ذمته
أخي ستبيد جيوش الظلام *** ويشرق في الكون فجر جديد
فاطلق لروحك اشراقها *** ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخي .. لا أريد أن أُهوّن الذنوب فإنها إذا اجتمعت أهلكت .
لا أريد ان أهون الخطايا فربّ خطيئة كان عقابها طمس بصيرة ، ولكن أقول ينبغي أن لا تكون الذنوب خندقا يحاصرنا عن العمل لهذا الدين وأنت من هذا على ذكر .
أخي الحبيب ...
هذا شجن من شجون أهاتف به قلبك الطيب بنُصح المحب ومحبة الناصح وإن في إيمانك ونقاء أعماقك ما يطمع فيك كل من يريد الخير لك .
والله أسأل ان يكلأك برعايته ويحوطك بعنايته ويهديك ويسددك واستغفر الله لي ولك .
من أخيك
عبدالوهاب الناصر الطريري
ــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله خير وسيلة لإنقاذ البشر
عبد الله بن حسن القعود
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً ، إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأحمده -تعالى- وأشكره وأكبره تكبيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى كل من سار على نهجه ودعا بدعوته وسلم تسليماً كثيراً(1/286)
أما بعد - أيها الناس - إن المجتمع البشري اليوم - وللأسف يتجاذبه موجات إلحاد وعواصف تبشير ، ويفتح أمامه دعاة الشر والفساد سبلاً جائرة حائدة عن الحق ومجانبة للصواب، فلئن كان محتاجاً إلى الدعوة إلى الله وإلى سبيله العادلة، وصراطه المستقيم في كل وقت كاحتياجه إلى الماء والهواء - فإنه اليوم أحوج ما يكون إلى ذلك . فمن حائر به يحتاج إلى بيان، ومن غافل يحتاج إلى تنبيه، ومن معاند يحتاج المجادلة بالتي هي أحسن - وإنّ افضل وسيلة لإنقاذه ، وأجلَّ صفة ، وأحسن وسيلة تلحق المؤمن بركب الأنبياء ، وتحله مكانة عالية في عالم السعداء، هي دعوة الناس إلى الخير على هدى وبصيرة، دعوتهم إلى سبيل الله الذي هو دينه الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، دعوة يزينها عمل صالح وقول صادق، ونيةحسنة، وإعلان للعقيدة والحق ، مهما كانت الأحوال أو قست الظروف . يقول تعالى : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} .
فيا ورثة الأنبياء ، وخلفاء الله في أرضه، وأمناءه على تبليغ رسالة نبيه إلى الإنسانية، إنَّ داعي الخير قد دعاكم إلى إنقاذ البشرية بدعوتها إلى الفضيلة، إلى البر والتقى ، إلى الخير والهدى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة بالحكمة والمعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} .{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ن وألئك هم المفلحون} .
وإن هذه الدعوة، دعوة الناس إلى سبيل الله الذي هو دين الإسلام التي أمرنا الله بها ، هي دعوة الله تعالى : {والله يدعو إلى دار السلام ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} . ودعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، ودعوة أتباع الرسل رضوان الله عليهم : { قل هذه سبيلي ، أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعي } .(1/287)
فاتقوا الله - أيها المسلمون - أيها العلماء - واستجيبوا لما دعاكم الله له من دعوة الناس إلى الخير كل بحسبه، فما قُبل الدين سلفاً وظَهَر إلا بالدعوة إليه، وإظهاره للأمة في أبهى صورة، وأروع منظر، وما خلد لأي شخص في الدنيا ائتمام أو ذِكر مثل ما خلد للدعاة الإسلاميين من ذكر حسن، وثناء عطر.
فاتقوا الله أيها المسلمون - اتقوا الله يا ذوي العلم والبصيرة- بدعوة الناس إلى التمسك بتعاليم الدين، والتخلق بأخلاق سيد المرسلين ، دعوة ملؤها الإخلاص وحب هدايه الآخرين. قال عليه الصلاة والسلام : (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، دعوة متمشية مع قول الله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} شعارها قول صادق ، وعمل مخلص ، وبصيرة نيرة، وأساليبها تتمشى مع أساليب الدعوة الأولى، حسب حال الداعي والمدعو، كمخاطبة الجاحد والمعاند على ضوء : {وإنا أو إياكم لعلى هدىً ، أو في ضلال مبين} ، {قل فاتوا بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين} .
وليحذر الداعية - أو الآمر بالمعروف ، أو الناهي عن المنكر أن يخالف فعله قوله، فذلكم رد لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}.
ويقول الشاعر الحكيم :
لا تنه عن خلق وتأتي مثلَه *** عار عليك إذا فعلت عظيم(1/288)
ثم ليعلم أن الدعوة إلى الله ليست مقصورة على كلمة تُقال في اجتماع أو من منبر فحسب، ولكنها تربية وتعليم ، وتخطيط لتقوية الدين وتنظيم، وأمر ونهي، وبيان وتنبيه، ومجادلة بالتي هي أحسن، وطَرْقٌ لكل باب، وتسخير لكل وسيلة : بلاغ وأداء من إذاعة وصحافة ومنبر ومدرسة وبيت، وبداية بالأهم فالأهم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمين : (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم).
فإلى هذه الفضيلة -أيها المسلمون-، فضيلة الدعوة إلى الله وإلى كتابه وسنة رسوله، إلى وظيفة الأنبياء ، إلى خير وسيلة تلحقكم بركب السعداء . قرأ الحسن البصري - رحمه الله - قول الله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} فقال : هذا حبيب الله ، ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله .
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأن يهب لنا من أزواجنا، وذرياتنا قرة أعين ، ويجعلنا للمتقين إماماً ، تعالى خير مسؤول غفور رحيم .
ــــــــــــــــــ
المسافة بين القول والعمل
سلمان بن فهد العودة
بل إن شئت فقل : هي المسافة بين الدعوى والعمل ، فإن القول الصادق ، القول الجاد ، هو جزء من العمل ، هو عمل اللسان ، وهو أول عمل شرعي حسي يقوم به المكلف حين ينطق بالشهادتين ، معلناً الدخول في الإسلام .
وهذا العنوان مقتبس من قصيدة الطغرائي الشهيرة (( لامية العجم )) حيث يقول :
غاض الوفاء ، وفاض الغدر ، واتسعت مسافة الخلف بين القول والعمل(1/289)
لكن الشيء الذي أعنيه تحديداً ، الآن ، هو أهمية العمل كقيمة أساسية في الإسلام ، لحفظ الدين ، وعمارة الدنيا ، وأن وجوب العمل قاعدة ضخمة مستقرة ، تحتشد حولها مئات النصوص القرآنية والنبوية .
العمل أساس نجاح الفرد ، أو فشله ، وأساس قوة المجموع أو ضعفه ، وأساس السعادة الدنيوية ، وأساس النجاة الأخروية .
وبالتعبير الشرعي ، فـ (( العمل الصالح )) هو القيمة المعتبرة ، والتي تترتب عليها آثارها المحمودة في العاجل والآجل .
وهذا العمل الموسوم بالصلاح ، هو الذي تتحقق فيه الشروط الضرورية ، والتي جملتها :
أ - صلاح النية ، وحسن المقصد ، وهو ما يعبر عنه بـ (الإخلاص ).
ب - موافقة السنة ، والتزام الشرع ، وهو ما يعبر عنه أحياناً بـ(المتابعة) أو بـ الصواب .
وهما مجتمعان في قوله تعالى : (( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً )) .
فحسن العمل يدور على هذين القطبين ، أي : أكثر إخلاصاً لله ، وأكثر إصابة للشريعة ، والتزاماً بالمنهج ، ولهذا لم يأت في النص القرآني التعبير بـ : أيكم أكثر عملاً .
وكلمة الفضيل بن عياض في هذا الباب معروفة ، قال في تفسير آية الملك: أحسن عملاً : أخلصه وأصوبه ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً 0 ( وانظر : العبودية لابن تيميه ) .
ولقد حاولت أن أحصي المواضع التي وردت فيها كلمة (( العمل الصالح )) في القرآن الكريم ، بتصريفاتها ، مع المحافظة على اللفظين ، فوجدتها نحواً من تسعين موضعاً .
أما كلمة (( العمل )) مع وصف آخر غير الصلاح ، أياً كان ، أو مطلقة غير موصوفة ، فهي أكثر من ذلك بكثير ، إنها حسب إحصاء سريع ... نحو من ثلاثمائة وستين موضعاً ، ولا يخلو سرد تصريفاتها من فائدة :(1/290)
عمل ، يعمل ، يعملون ، اعمل ، اعملوا ، عامل ، عاملون ، عاملة ، عمل ، أعمال ... الخ ( انظر : معجم ألفاظ القرآن ، إخراج مجمع اللغة العربية 2 / 249 - 252 ) .
إنها إشادة صريحة بأهمية العمل وقيمته وضرورته للحياة ، بل وللموت أيضاً ، حتى الموت هو عمل يتدخل فيه جانب الإرادة ، ولهذا قال سبحانه : (فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون )) .
ولقد قامت في مدارس الفلسفة الغربية - والأمريكية منها على وجه الخصوص - سوق رائجة حديثاً للاتجاهات التي تهتم بالعمل والإنجاز والأداء ، وتعتبر هذه فلسفة الحياة الحقيقية ، دعك من الفلسفة التي يسمونها (( براجماتية )) وهي النفعية الواقعية التي تعتبر أن مقياس الحقيقة في المعرفة هو وجود نتائج عملية ملموسة لهذه المعرفة ، أي : أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المفيدة للممارسة ، وليست المعرفة النظرية المجردة ، المقطوعة الصلة بالواقع ( انظر : قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، سامي ذبيان وآخرون ، ص 85 ) .
إن تلك الإشادة الربانية بقيمة العمل تحمل تسفيهاً مباشراً ، لاتجاهين جائرين عن المحجة :
( أولهما ) الاتجاه العامل على غير هدى ولا بصيرة ، والذي لا معرفة له بالأسباب الشرعية والطبعية ، أولئك الذين يوصف عملهم بأنه سيء ، أو شر ، أو حابط ، أو خبيث ، أو خاسر ..
فإن كان هذا العمل دينياً لم يقبل ، ولم يرفع ، ولم تحصل به نجاة في الدار الآخرة .
وإن كان دنيوياً لم يؤت ثمرته المطلوبة ، ولم يحقق نتيجته المرقوبة ، لأنه لم يكن مبنياً على نظر صحيح ، أو تجربة صادقة .
ولهذا قال تعالى : (( وجوه يومئذٍ خاشعة ، عاملة ناصبة ، تصلى ناراً حاميه ، تسقى من عين آنية ))
وقال : (( قل هل ننبئكم بلأخسرين أعمالاً ... )) الآيات .(1/291)
ويندرج في هذا التيار كل نحلة أو مذهب أو طريق يضل عن صراط الله ، فيعبد الله على جهل وضلال ، كالمتعبدين والعاملين الناصبين من أهل البدع ، خوارج كانوا ، أو صوفية ، أو غير ذلك .
كما يندرج أصحاب المدارس المنهجية التغييرية التي لم تحسن قراءة النواميس والسنن الإلهية ، فبنت أسلوبها في العمل والحياة على تلك القراءة الفاسدة ، فكان أمرها كما قال الله تعالى : (( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ،وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون )) .
وأجلى صورة معاصرة لذلك الشيوعية بقاعدتها الفلسفية ، وبنائها السياسي والحضاري ، الذي تهاوى بطريقة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين ، وعادت إنجازاته عبئاً عليه ... كيف يتخلص منها ، كيف يوقف تراجعها السريع ، كيف يحافظ على الحد الأدنى منها ؟... الخ .
أما ( الاتجاه الآخر ) فهو الاتجاه الراكن إلى القعود ، وترك العمل ، والإخلاد إلى الدعة ، الاتجاه الغافل عن سنن الله ، فهو يريد أن تأتيه أمانيه طوعاً بلا كدٍ ولا تعب .
وهذا ، وإن كان صعب التحقق لما في طبع الإنسان من الحركة والفاعلية ، إلا أنه متحقق من وجوه أخر ، تبدو في أولئك المسترسلين وراء كل شهوة أو رغبة ، المتقنعين تحت اسم أو شعار ظنوا أنه يكفيهم ..
فاليهود كانوا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة .
ثم جاء النصارى فقالوا مثل قولهم ، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه .
ثم خلف من بعدهم خلف من المسلمين ورثوا الكتاب - يأخذون عرض هذا الأدنى ... ويقولون : سيغفر لنا ! ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه .
نعم . كانت الآية لليهود والنصارى ، لكنها للمسلمين واجبة أيضاً ؛ إذ السنة واحدة ، وكما قال حذيفة رضي الله عنه : نعم الاخوة لكم بنو اسرائيل ، إن كان لكم الحلو ، ولهم المر ... ! .(1/292)
كما أنه متحقق في أولئك الذين لا هدف لهم ، ولا غاية يسعون إليها ، فهم أسرى للصروف ، والظروف ، والأعمال التفصيلية ، والمجريات اليومية ، والأحداث الآنية ، لا ينتظم سلوكهم منهج ، ولا يربط بين أعمالهم رابط ، غارقون في أعمال ليس لها معنى ، فأحدهم يعمل في الوظيفة ليسدد أقساط البيت ، ويسكن في البيت لينام ويأكل ويشرب ، ويشرب ويأكل وينام ليستقوي على أداء العمل ,... ! .
دوامة آلية ليس لها روح ، ولكن الغارق فيها قد يلهو حتى عن إدراك الخلل ... بل الخواء الذي يكتنفه
وأبعد من ذلك مهوىً ، أصحاب المدارس الفلسفية الخاوية ، كالسوفسطائية من المتقدمين ، والعدميين من المتأخرين ، الذين يرون ألا قيمة للعقل ، ولا قدرة له على المعرفة ، وما يعده الإنسان وجوداً هو في الحقيقة لا شيء ، ويرفضون القيم الأخلاقية ، ويسعون للهدم دون أن يمتلكوا البديل الصالح ، ولقد كانت العدمية هي الأيديولوجية السياسية لحزب روسي نشأ عام 1870م ، وكان هدفه تحطيم النظام الاجتماعي القائم ، دون أن يكون في نيته إحلال أي نظام آخر محله ... وقد اشتهرت فلسفة العدمية بربطها بهذا الحزب .
وكثيرون يتبرمون من واقع معين ، ويسعون في تدميره ، ولا يعنيهم أن يكون البديل عنه هو الفوضى ... وعلى حد قول القائل : علي وعلى أعدائي أو قول الشاعر العربي :
رب يومٍ بكيت فيه فلما صرت في غيره بكيت عليه
كثيرون يعتبرون مجرد انتحالهم لاسم الإسلام كافياً لتحقيق أمانيهم ، ولا شيء وراء ذلك .
إنك تعجب حقاً ، هذا الدين الذي حملت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل ، وربطت كل أسباب التوفيق والسعادة به ، ونزعت عن تاركيه كل صفات الخيرية ..
ثم يطول الأمل ، وتقسو القلوب ، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يذكره ويؤكد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعنى شيئاً ، ولا يغنى شيئاً .(1/293)
هل مجرد إدعاء الإنسان أنه عاقل - مثلاً - أو غني ، أو قوي ، أو صحيح البنية ، أو عالم ، أو سعيد ، أو .. أو .. ، يجعله كذلك ؟ أو يغير من واقعه شيئاً ؟
إن مجرد الأماني العابرة ، والأحلام الطائرة ، لا تنفع ولا تدفع ، إذا لم تكن زاداً ووقوداً لفعل الأسباب الشرعية والطبعية ، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام .
فدعوى ( الإسلام ) ، أو ( السنة ) ، أو( الحديث ) ، أو ( السلفية ) ، أو ( الاتباع ) .... معيارها صدق التمثل والعمل ، والالتزام الحقيقي ظاهراً وباطناً .
وهنا لابدّ من التفطن لثلاثة أمور :
أولها: أن هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم ، ورفع الشعار ، ثم ينامون قريري العيون .
ثانيها : أن هناك من يطبق فهماً منقوصاً سبق إلى ذهنه ، وظنه هو الحق ، فهناك من يرى الإسلام عبادةً فحسب ، أو زهداً فحسب ، أو قتالاً فحسب ، أو ما شاء له تصوره ... ويتمسك بهذا ، معرضاً عما سواه ، وقد يرى الإسلام مظهراً وشكلاً مجرداً دون مضمون حقيقي .
ثالثها : أن هناك من يفهم الأمر على حقيقته ، لكنه لا يعمل به ، وهاهنا ؛ لا مشكلة في الفهم والإدراك ، لكن المشكلة في التنفيذ .
إن هناك أسماء صحيحة ، وعناوين مقبولة ، لكن مجرد التسمي بها لا يفيد حتى يضاف إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى ، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق .
وكثيراً ما يستمسك الناس بالاسم ، بل ويتعصبون له ، ويغضبون ممن ينفيه عنهم ، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة .
وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمة في هذا المقام .
((1/294)
ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ،ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً) النص واضح وصريح ، الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي ، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها ، حتى يقترن بها العمل ، الميزان مرتبط بـ ( من يعمل ...... ) ، أو ( من يعمل ..... ) ولهذا كان بعض السلف يقولون : إن هذه أخوف آية في كتاب الله تعالى .
يقول الحافظ ابن كثير : والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ، ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقته الأعمال , وليس كل من ادعى شيئاً ، حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان . ( 1 / 557 ) .
وكلمة الحسن البصري - رحمه الله - مشهورة ، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق ثم ؛ هذه الأسماء التي يدعيها المدعون ، ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزين
الصنف الأول : أسماء وانتسابات مشروعة مطلقاً ، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع ، والاعتراف به ، وإعلانه ، وذلك مثل قول المسلم : أنا المسلم ، والحمد لله .
فهذا انتساب محمود بكل حال ، وانتماء شريف عظيم ، وواجب على قائله تأييد قوله بفعله .
الصنف الثاني : أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقاً ، ولا ادعاء تحصيلها ، مما يوهم كمال الإنسان ، واستيلاءه على الذروة العليا ، ومنها لفظ الإيمان ، فلا يحسن بالمرء أن يقول : أنا مؤمن ، على سبيل التزكية ، والثناء على النفس ، ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله - : اذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ، لأن الإيمان قول وعمل ، فقد جئنا بالقول ، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان ، نقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى .(1/295)
وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة ( الإيمان 9. ) وأبو عبيد ( الإيمان 17 ) أنه قال : من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة .
وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال : أنا مؤمن إن شاء الله ، ومؤمن أرجو ، لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال ، على ما افترض عليه أم لا . وانظر بقية الروايات عن أحمد في المسائل والرسائل بتنسيق وتحقيق : عبدالإله الأحمدي ( 1 / 117 - 125 ).
وذلك أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله ، وترك ما نهى الله عنه كله ، فإذا قال : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، فهو من أولياء الله ، وهو من أهل الجنة ، كما قال ابن مسعود ( وانظر : فتاوى ابن تيميه 7 / 446 ) . إذاً فترجيح الاستثناء ، كأن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أو أرجو أنني مؤمن ، هو من باب نفي التزكية عن النفس ، وعدم دعوى الإيمان المطلق ، ولهذا لا يحسن بأحدٍ أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، أو قطعاً ، أو البتة ، أو عند الله .. لما يشعر ذلك به من دعوى الكمال ، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال , هذا مع أن لفظ الإيمان لفظ شرعي ، وقد جاء في القرآن الكريم : ( قولوا : آمنا ..) (ربنا آمنا ...) ( إني آمنت بربكم ) الخ ، فما بالك بالألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في نص كتاب أو سنة ، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة ، كلفظة ( أنا سلفي) - على سبيل التمثيل- أليست أولى بالتقييد والضبط ؟ أليست السلفية قولاً وفعلاً ؟ أليست منهجاً وسلوكاً ؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السلف من المعاني والأعمال والأقوال والأحوال ؟ أم أضمن إذ فهمتها أنني تمثلتها في واقع حياتي حتى حق لي أن انتحل النسبة الشريفة هذه ؟(1/296)
أما حين تكون المسألة بيان حال ، أو تقرير واقع في جانب معين ، فالأمر يختلف ، كأن يقول : أنا على طريقة السلف في الإيمان ، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات ، أو على طريقتهم في الاعتقاد .. فهذا لا بأس به عندي ، والله أعلم .
والخلاصة أن المؤمنين يجب أن يراعوا أهمية العمل والتحقيق ، وليس مجرد الانتساب والدعوى .
فمتى يعي المسلمون هذا ؟ ومتى يعي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخر بالنسبة لا يجدي شيئاً ، حتى يقترن بالعمل ، وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود ، يصدق أو لا يصدق ، بل بالتحلي بنقاء السريرة ، وصفاء السيرة ، وصلاح العمل ، وتدارك العيب ، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة ، وكمال الصدق مع الله ..
قال الله (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، رضي الله عنهم ، ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)
سلمان بن فهد العودة
17/6/1421هـ
ــــــــــــــــــ
لا بد للحق من رجال
سلمان بن فهد العودة
على مدار التاريخ كله لم يحدث قط أن أنزل الله تعالى على الناس كتابا مسطورا يقرؤونه دون أن يكون ثمة رسول من البشر يحمله ويبلغه . بل كانت سنته تعالى أن يختار ويصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، ويأمر هؤلاء الملائكة بتبليغ الوحي إلى المصطفى من البشر .
وكان الرسول البشري مكلفا بتبليغ الوحي إلى الناس ، وأن يكون هو أول الممتثلين إلى لأوامره و زواجره ، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " .(1/297)
وقد ختم المرسلين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان مسك الختام وواسطة عقد النظام وكان موته - صلى الله عليه وسلم - يعني نهاية تنزل الوحي على بشر ، لقد انقطع بموته خبر السماء . وفي صحيح البخاري أن أبا بكر قال لعمر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها " فلما جاءا إليها بكت فقالا لها :
ما يبكيك : أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!
قالت : أما إني لا أبكي إني أعلم أن ما عند الله خير لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء !
فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها .
إنها امرأة فقيهة حقا ... إن فقد رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن سهلا عليها كيف وهي حاضنته ومن أقرب الناس إليه وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويتلطف معها ، وكان ابنها أسامة وزوجها زيد من أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - بالذي يهون فقده . لكنها نظرت إلى الجانب الآخر ... الجانب الذي نظر إليه حسان بن ثابت وهو يقول في رثاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ---- يروح به ويغدو جبرائيل
ولكن فضل الله أدرك هذه الأمة الممتدة في أحقاب الزمن إلى يوم القيامة بأن جعل منها (( ورثة )) يخلفون الأنبياء في العلم والتربية ويهدون الناس إلى الحق والعدل { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } إنهم إذا (( أمة )) وليسوا آحادا معدودين .(1/298)
وهذا معنى ما بشر به - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتواتر الذي جاء عن واحد وعشرين صحابيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خافهم ، إلا ما يصيبهم من اللأواء ، حتى يأتي أمر الله ، وهم ظاهرون على الناس " ، إنها منارات لا تغيب مهما أدلهم الظلام ، وأحلو لك الليل .
وهذا إيذان بامتناع هيمنة (( الجاهلية )) المطلقة على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يستثنى من ذلك إلا الفترة اليسيرة التي تسبق قيام الساعة حين يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك ، كما ورد في سنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم وغيرهما عن حذيفة بسند صحيح .
فهو - من جهة - خبر عن أمر قدري آت لا محالة مهما أرجف المرجفون ، وتشكك المرتابون ولا يشك في هذا أحد لأنه خبر قطعي لا ريب فيه . ولكنه - من جهة ثانية - تكليف شرعي للأمة أن (( تكون )) منها هذه الطائفة المجاهدة فهي من هذا الجانب كقوله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فالأمة (( مطالبة )) شرعا بتكوين هذه الطائفة وتمكينها من القيام بعملها ومباشرة مهمتها الربانية . وما هي مهمتها الربانية ؟
أهي البقاء على الحق والالتزام بالسنة - قولا وفعلا واعتقادا فحسب ؟ أم هي أمر وراء ذلك وفوقه ؟ كلا ... إن مهمتها أعظم من ذلك .
فإن الفرقة التي تقنع بصلاح نفسها دون أن تنازل الباطل وتقارعه إنما تسمى (( ناجية )) فحسب ، لأنها تجنبت طريق الهالكين من أهل الضلالة . أما هذه الطائفة فلم يصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمجرد النجاة والسلامة ، بل أطلق عليها وصفا ذا دلالة عميقة ، إنه (( الطائفة المنصورة الظاهرة )) .
فهي أولا : (( طائفة )) تلتف حول الحق وتدور معه حيث دار .(1/299)
وهي ثانيا : (( ظاهرة )) ليست خفية مستترة ، ولا ضعيفة مهزومة ، تخجل من الحق الذي معها فتسكت عنه أو تبدله .
وهي ثالثا : (( منصورة )) وهذا يقتضي بداهة أنها (( مجاهدة )) لأن النصر لا يعطى إلا للمجاهدين في ميدان الكلمة وفي ميدان الدعوة وفي ميدان السيف .
فهي الواجهة التي تقارع أرباب المذاهب المنحرفة وا
ــــــــــــــــــ
من يحمل الأمانة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:-
فلقد كرم الله سبحانه بني آدم فخلق آدم بيده عز وجل وأسجد له ملائكته وعلَّمه الأسماء كلها، واختص سبحانه وتعالى بني آدم دون سائر المخلوقات بتكريم ومنزلة ومزايا خاصة لهم دون غيرهم، لكن أعظم تكريم وتشريف هو أنْ حمَّلهم سبحانه وتعالى هذا الدين، وأنْ جعلهم سبحانه وتعالى عباداً له فشرفهم بالانتساب إليه والتعبد له عز وجل، فصار شرف الإنسان وعزه عندما يذل بين يديه مولاه، وكماله هو في فقره لله عز وجل واستغنائه عمن سواه، بل هذا هو ما خُلِقَ بنو آدم من أجله [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] .
ومن تمام هذه العبودية وكمالها تشريف آخر، وذلك بأن جعله تعالى حاملاً لمشعل الهداية ودعوة الخير للناس جميعاً، فهو الذي يبلغ كلام الله عز وجل ودينه سبحانه للناس كافة، وحين يعرض هذا الإنسان ويتنكب الطريق فالبديل هو غيره ممن يقوم بهذه الأمانة، فالقضية إنما تدور حول الإنسان [ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ] [ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]. [ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ].(1/300)
أي تشريف وتعظيم ورفع منزلة للإنسان أعظم من أن يكون داعياً للناس لعبودية الله وتوحيده؟ وأن يوظف وقته وجهده لتحقيق هذه الغاية وأداء هذه الرسالة، بل يحمل روحه في سبيل الله قد هانت عليه نفسه امتثالاً لقوله تعالى :[ وقاتلوهم في سبيل الله ] ،[ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله].
ومما يزيد الأمر وضوحاً ويزيد القضية برهاناً أن الله اختص بهذه المهمة وهذه الوظيفة خيرة خلقه، وهم أنبياؤه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، فكلهم قد أُرسلوا بكلمة واحدة [اعبدوا الله ما لكم من إله غيره] ،[اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت]، فمن يختر هذا الطريق ويَسِرْ فيه فهو يختار أن يسير على خطى الأنبياء ويقتفي آثارهم، ويختار لنفسه المهمة التي اختارها الله لصفوة خلقه عليهم الصلاة والسلام.
إن كل مسلم يعتقد أنه مخاطب بالقرآن الكريم، فهم مخاطب بهذه النصوص التي تأمر الناس أن ينصروا الله عز وجل ، أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أن يدعوا إلى الخير [ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر] ،[ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم]،[و إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]، [فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم].
وهو مخاطب بالنصوص المتضافرة في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".(1/301)
بل إن الله سبحانه يصف هذه الأمة وصفاً عاماً بقوله : [ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله] ،ومَنْ مِنْ المسلمين يرضى بأن يوصف بخروجه عن أمة الإسلام، أو يرضى أن يشكك أحد في انتمائه لهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟ ما وظيفة هذه الأمة ؟ ما مهمة هذه الأمة؟ إنها القيام بهذا الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن الذي يحمل هذا الدين؟ من الذي يحمل هذه الأمانة ؟ أهي طائفة خاصة من هذه الأمة، أهو خطاب للنخبة ؟ أم هو خطاب للأمة أجمع ؟ لكل لمن يعقل كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم شيخاً، أيًّا كان موقعه الاجتماعي بين الناس ، وأيًّا كان علمه ودرجته فهو ما دام يرى أنه من هذه الأمة فهو مخاطب بهذه الصفة، فالأمة أجمع إنما اكتسبت هذه الخيرية لأنها تقوم بدين الله وتأمر بالمعروف، والمعروف اسم جامع يشمل كل ما أمر الله به من اعتقاد أو عمل أو سلوك أو خلق، ولئن كان هذا المعروف لا يعجب فئة من الناس أو لا يتفق مع أهوائهم فهذا لا يخرجه عن كونه معروفاً.
والمنكر كلمة جامعة لكل ما يخالف شرع الله في الاعتقاد والتعبد والعمل والسلوك، فالأمة مخاطبة أن تسعى لتغير هذا المنكر أياً كان، سخط من سخط ورضي من رضي، ما دام منكراً بعرف الشرع وخطاب الشرع، إن المناط في تحديد المعروف والمنكر يؤخذ من كلام مَنْ أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبحانه وتعالى.(1/302)
وأخبر الله سبحانه أن هذه الأمة أمةٌ وسطٌ وشهيدة على الناس [ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ] ، أليس هذا للأمة أجمع؟ أليست الأمة أجمع موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟ إذا فلماذا نتأخر ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة، ونقول إنها تعني النخبة وتعني فئة خاصة من الناس ؟ أمَّا نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً ، دورنا أن نسير وراء القطيع، أمَّا مهمة إبلاغ هذا الدين وحماية مجتمعات المسلمين والقيام بأمر الله عز وجل فهي مهمة النخبة.
كيف يصل بهذه الأمة هذا الفهم وتلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز والتكريم والتشريف؟
إذاً فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة ، ما داموا ضمن إطار هذه الأمة ما داموا منها فهم جميعاً يجب أن يكونوا شركاء في الأمانة.
ثانياً: شواهد من قصص الأنبياء:
حين نقف عند قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جلياً. يقول سبحانه مخاطباً أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - داعياً إياهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم [ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين] ، لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لا بد أن يقوموا معه ويقاتلوا معه ويتحملوا الشدائد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.(1/303)
وسمع رجل من آحاد الناس أن هناك مؤامرة تحاك في الظلام ضد أحد أولياء الله، وهو نبي الله موسى، سمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فشعر أن من واجبه أن يقوم بإبلاغ هذه الكلمة إلى موسى لعل الله أن ينجيه بسبب ذلك [وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين].
ورجل آخر يسمع بأنبياء الله وقد واجههم ما واجههم من قومهم فيحتمل التعب واللأواء لأجل نصرتهم [ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ] ، ثم جاء هذا الرجل من مكان بعيد [وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ، أأتخذ من دونه آلة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عنهم شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون .إني إذاً لفي ضلال مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون ] ، لقد أدرك هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يُكذَّبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم فليست مهمة قاصرة على أن يسترجع ويحوقل ويندب ويبكي على هذا الدين، بل عليه أن يقوم بمهمته فيأتي من أقصى المدينة يسعى ويمشي، يأتي ليقول كلمة واحدة: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوهم، فقتل ودخل الجنة ولايزال هم قومه يختلج في صدره قال [ ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين] ، إن هذه المشاعر المستقرة في قلب هذا الرجل لم يكن يقتلعها الطغيان أو الإيذاء أو القتل، حتى بعد أن أراقوا دمه لا زال يختلج في صدره هذا الأمر، ولا زال يبكي على حال قومه ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.(1/304)
ونعود مرة أخرى إلى موسى فحين جاء موسى وواجه قومه بدعوته قام رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قام مناصراً لموسى منافحاً عنه فقال [ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد كانت لكم بينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم] ، ثم يعيش في جبل مع قومه وهو لايزال يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أمراً لم يجد فيه مجالاً للمداراة مع هؤلاء أعلنها صريحة لهم وقال [ يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد . يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار].
وحين تجرأ المشركون على رسول الله صلى اله عليه وسلم قام أبو بكر -رضي الله عنه- وقال لهم :"أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"؟ أخرج البزار من رواية محمد بن علي عن أبيه أنه خطب فقال: " من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت، قال : أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه , ولكنه أبو بكر , لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له أنت تجعل الآلهة إلها واحدا , فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ , ثم بكى علي ثم قال : أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر ؟ فسكت القوم , فقال علي : والله لساعة من أبي بكر خير منه , ذاك رجل يكتم إيمانه , وهذا يعلن بإيمانه ".
ومع موسى مرة أخرى وقد وعد الله قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، فيُذَكِّر موسى قومَه بوعد الله ويعدهم بأن يتحقق لهم النصر، فيمتنع القوم ويستكبرون عن الدخول، حينها لم تُجْد هذه المحاولات مع أولئك المعاندين، فيقوم رجلان مؤيدان ومناصران لموسى[ قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين] .
ثالثاً: ثمرة الانتماء للدين:(1/305)
إن المسلمين جميعاً يشعرون أنهم ينتمون لهذا الدين، ويتشرفون بالانتساب إليه، ولو سألت أحدهم في مقام الإنكار عليه والجدل والخصومة قائلا له: ألست بمسلم؟ لتضايق من هذا السؤال، ولكن مَن مِن المسلمين يسأل نفسه هذا السؤال بجد وصدق: ماذا يعني انتمائي لهذا الدين؟ ماذا يعني انتمائي لهذه الأمة؟ ألم يفرض علي الولاء لهذا الدين؟ ألم يفرض علي القيام بنصرة هذا الدين والذب عن حياضه والدعوة إليه؟
أرأيتم أصحاب الطوائف الضالة المنحرفة ألا يشعرون أن لانتمائهم لهذه الطائفة أو تلك ثمناً لا بد أن يدفعوه؛ فيتعصب لطائفته ويدعو إلى معتقدهم، ويسعى إلى نشره بكل غال ورخيص.
ومثلهم أولئك الذين سيطرت عليهم اللغة الوطنية فصار لا يشعر إلا بالانتماء إلى التراب والوطن، إنه يشعر أن ذلك يفرض عليه أن يعمق ولاءه وانتماءه لوطنه، وأن يذب عنه ويتعصب له بالحق والباطل، فما بالنا وقد كرمنا الله بأعظم انتماء لهذا الدين، ما بالنا لا ندرك ماذا يفرض علينا انتماؤنا وماذا يعني كوننا مسلمين مؤمنين؟
رابعاً : عموم العقوبة للساكتين:
لقد بين الله أن الناس حين يُعرِضون عن شرع الله ويرتكبون ما يخالف أمره يعمهم بالعقوبة [ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة] ،[ فلما آسفونا انتقمنا منهم] ،[ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد] . [أو لم يهد للذين يرثون الأرض بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم] ، فمن سنة الله أن يعاقب الناس ويهلكهم وتعمهم العقوبة حين يتنكبون شرع الله، هذه العقوبة ليست لفئة خاصة من الناس، بل هي عقوبة للمجتمع كله، تبيد خضراءه فتهلك الأخضر واليابس.
فهل نعي أن مجتمعات المسلمين حين تعرض عن شرع الله عز وجل ويظهر فيها الخبث ويعلو فيها الفساد فهي مهددة بعقاب من الله سبحانه وتعالى ووعيد بعذابه؟
وما دامت العقوبة تعم الجميع فالمسؤولية والأمانة يجب أن يحملها الجميع سعياً في دفع عقوبة الله وغضبه.(1/306)
خامساً: المجتمع كركاب السفينة:
يضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلاً بليغاً فيقول :"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
إننا جميعاً ركاب في هذه السفينة، ومطلوب منا أن نأخذ على أيدي الذين يريدون الفساد وإثارة الفتنة، والفتنة كل الفتنة هي الصد عن سبيل الله، فلا يسوغ لأحد منا وهو يشعر أنه يركب هذه السفينة وأن الخطر يعم الجميع أن يتخلى عن حمل الأمانة.
سادساً: وفي قصص السابقين عبرة:
يعرض الله علينا في كتابه الكريم صوراً من أولئك الذين يتخلون عن حمل الأمانة، وكيف أن العقاب حل بهم، ومنهم أولئك الذين قال الله سبحانه عنهم :[ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون] : ويخبر الله سبحانه وتعالى أن بني إسرائيل قد حققت عليهم اللعنة لأنهم تخلوا عن حمل الأمانة [ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ... .] .(1/307)
إذاً هاهي نماذج تورد في مساق القدوة السيئة التي يراد بهذه الأمة أن تتجنبها وألا تسير على طريقها، فما بالنا نقول بلسان حالنا [ لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً] ولماذا نفترض أن القضية تعني فلان وغيره، وإن لم يكن اسمه موسى وهارون، فالمنطق هو المنطق، والسبيل هو السبيل، إنه سبيل أولئك الجبناء الذين كتب الله لهم الأرض المقدسة فاختاروا التيه والضلال فتاهوا أربعين سنة عقوبة لهم على تخليهم عن هذه الأمانة .
سابعاً: ماذا ستقول عنا الأجيال؟
إننا جميعاً نتفق على انتقاد ذاك الجيل الذي كان على يده إضاعة بلاد الأندلس، ولا يزال الصغار والكبار يقرؤون في التاريخ بأن أولئك خانوا المسلمين وخانوا الأمة أجمع فتحولت تلك البلاد إلى بلاد نصرانية، والمساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان، فماذا نقول عن أولئك؟
وماذا نقول عن أولئك الذين ضاعت على أيديهم تلك البلاد التي فتحها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . يقول ابن عمر: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان، فقد جاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل البقاع، ماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا ذلك المجد؟
وماذا نقول عن أولئك الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في حياكة ونسج أكفان الخلافة الإسلامية حتى تفرقت الأمة الإسلامية شذر مذر وتفرقت إلى أحزاب يلعن بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً؟
ماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا أولى القبلتين وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها؟
ما دمنا نعيب أولئك، ومادمنا نرى أنهم تخلوا عن تحمل تلك المسؤولية، فماذا سيقول الجيل الذي سيلينا عنا؟ ألا يحق لهم أن يتحدثوا عنا باللغة نفسها؟ ألا يحق لهم أن يصفونا بما نصف به أولئك وما الذي يميزنا عن غيرنا؟(1/308)
ثامناً : إننا نرى أن ثمة مجالات عدة في حياة المسلمين يمكن أن تسهم في خدمة الأمة ونصر هذا الدين والذب عنه، فالأمة تحتاج إلى كل التخصصات والأدوار، وما من أحد يجيد فنًّا من فنون هذه الدنيا أو علماً من علومها، أو ينبغ في ميدان من ميادينها، إلا ويرى أنه سيجد مكاناً في ساحة الأمة الواسعة الفسيحة، يمكن أن يؤدي من خلاله دوراً، ويمكن أن يسهم من خلاله في أداء الأمانة وحملها، فما دام الأمر كذلك فلماذا يخص الأمر نخبة خاصة من الناس؟ فالأمة تحتاج إلى كل الطاقات وكل التخصصات.
والأمراض التي حلت بهذه الأمة أوسع وأشمل من أن يحيط بها فئة محدودة من الناس أو نوع من الناس من أصحاب القدرات الخاصة، ما دام ذلك كذلك إذاً فالأمانة ينبغي أن يحملها الجميع.
إن هذه المقدمات الثمان توصلنا إلى النتيجة التي نريد الوصول إليها التي توصلنا للإجابة على هذا السؤال الذي طرحناه أول الحديث من يحمل الأمانة؟
ننتقل بعد ذلك للإشارة إلى صورة من صور الأمانة التي يجب على الأمة أن تحملها وأن تتواصى بالقيام بها وأدائها وهي صور على سبيل المثال لا الحصر.
من صور حمل الأمانة:
إن الوقت لا يتسع للإفاضة، والمقام يدعوننا إلى الإشارة والحر تكفيه الإشارة، ومن صور حمل الأمانة:
أولا: المحافظة على المجتمع:(1/309)
من الأمانات المهمة التي ينبغي أن يتحملها المجتمع أجمع المحافظة على المجتمع وحمايته من الفساد، فلم يعد أحد من المسلمين اليوم يشك في أن مجتمعات المسلمين مستهدفة، وأنه يراد لهذه المجتمعات أن تغوص في أوحال الرذيلة والفساد، وأن تتخلى عن دينها، كيف لا نشك في ذلك ونحن نقرأ قول الله تعالى :[ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ]. وقوله :[ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا] ،وقوله عز وجل: [ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون] .
فما دام هناك يهود ونصارى فلن يرضوا عن هذه الأمة حتى تتبع ملتهم، وارتماء الأمة في أوحال الفساد والرذيلة، وتخليها عن دينها واختيارها للشعارات الأرضية الباطلة، لن يكون كافيا لديهم، فلا بد أن يسوقوا الأمة إلى أن تتنصر أو تتهود، وها نحن نرى صور الفساد وتيارات الهدم والفتن تتوارث على مجتمعات المسلمين، ولستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم بذكر الأمثلة والصور والتناقضات، ويكفي أحدنا دلالة على ذلك أن يخرج إلى شارع من شوارع المسلمين، أو سوق من أسواقهم، ليرى نتائج هذا الغزو ونتاج هذا التدمير الذي يراد لهذه الأمة، فما دامت هذه المجتمعات مستهدفة يراد لها أن تتنكب الطريق، فمن المسؤول عن الحفاظ على المجتمع؟ ومن المسؤول عن الدفاع عنه؟ ومن الذي ينبغي عليه أن يقف في خندق الدفاع عن هذا المجتمع: عن عقيدته ودينه وخلقه وسلوكه؟ أليس أبناء المجتمع أجمع ؟ أليس المسلمون أجمع كلهم ينبغي أن يقفوا صفاً واحداً في الميدان ؟
فالواجب علينا جميعاً أن نقف في خندق الحماية والدفاع عن حرمات هذا المجتمع ودينه وعقائده، أن نقف في وجه هذه الحملة.
ولو أن المسلمين أدركوا الأمانة والمسؤولية لما استطاع الأعداء أن يصنعوا شيئاً، ولارتدت سهام أولئك في نحورهم.(1/310)
ثانياً : نشر العلم والدعوة للدين:
لئن كانت مسؤولية نشر العلم والدعوة للدين تعني أهل العلم بصفة أخص، فهذا لا يعني أننا نُعفى من المسؤولية، فبعضنا لا يملك علماً لكنه يملك المال الذي يستطيع من خلاله أن يُوظَّف من يعمل على نشر هذا الدين، ويملك الخدمات التي يمكن أن يقدمها لأولئك الذين ينشرون العلم ويقدمونه للناس جميعاً.
إننا بحاجة إلى أن نعلم الناس عقائدهم وأحكام دينهم، أن نعلم الناس أن يعتقدوا أن الله واحد لا شريك له، أن يعتقدوا أن الله متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلا ، وأن يعتقدوا أن أنبياء الله ورسله هم أفضل الناس وأبر الناس وأصدق الناس ، أن يعتقدوا أن أبر الناس بعد رسله هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى أن نعلم الناس أحكام العبادة والطهارة، وإلى أن نعلم الناس ما يحل وما يحرم عليهم في معاملاتهم وفي بيعهم وشرائهم ، وفي حديثهم ومنطقهم وفي سلوكهم.
وهي مهمة يمكن أن يقوم بها الجميع من خلال عقد حلق العلم، من خلال المساهمة بالمادة وبالرأي، والمساهمة بالتشجيع والتأييد.
ثالثاً: بيان الحق والدين:(1/311)
إن من حق الأمة أن تسمع كلمة الحق واضحة، وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا العلم بأن يبينوه للناس [ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ] ، لقد عاب الله عز وجل على أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله فقال:[ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا]، فلا تقبل توبتهم إلا إذا بينوا، والذين يسكتون عن بيان الحق مقابل نصيب عاجل من الدنيا لن يكون لهم نصيب يوم التغابن [ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق له في الآخرة] ، إذاً مع هذا الوعيد الشديد على كتمان ما أنزل، مع هذا الذم لأولئك الذين أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا للناس دين الله، لا يبقى لأحد من هذه الأمة عذراً أن يعلم أمراً مما أنزله الله فيكتمه.
لماذا أنزل الله عز وجل هذا الدين؟ لماذا أنزل هذه النصوص التي تأمر الناس بالخضوع لله دون سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا ما أنزل الله عليهم؟ أن يعلموا لماذا أنزل الله هذه النصوص التي تأمر بالاحتكام إلى شرع الله سبحانه ونبذ التحاكم إلى ما سواه؟ أليس من حق الناس أن يعلموا أن المؤمن يجب عليه أن يبرأ من كل كافر؟ أليس مما أنزل الله على الناس النهي عن أن يأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة؟ أليس من واجب من أتاه الله علماً أن يبلغ الناس؟ أليس مما أنزل الله أن تحتشم المرأة وتتحجب وأن تبتعد عن مجالس الرجال؟ أليس من واجب من أتاه الله علماً أن يبلغ ما آتاه الله؟(1/312)
إذاً فكل ما جاء عن الله في كتابه وسنة رسوله فهو بحق يجب أن يعلمه الناس ، ولولا ذلك لما أنزل الله آيات تتلى إلى يوم القيامة، وحين يُكتم عن الناس هذا الأمر فإننا نستوجب على أنفسنا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، أيحق بعد ذلك لأحد من هذه الأمة أن يكتم شيئاً مما أنزل الله؟
رابعاً: دعوة سائر الناس إلى الإسلام:
ومن صور الأمانة التي تتحملها الأمة أجمع نقل هذا الدين إلى سائر المجتمعات، كم يموت كل يوم على الشرك والكفر؟ كم يموت ممن لا يعلم شيئاً عن دين الله؟ كم يموت من أولئك الذين يعتقدون أن نبيهم هو الميرزا غلام أحمد؟ أو الذين يمرغون جباههم عند قبر الحسين؟ وكم يموت من أولئك الذين يطوفون حول قبور من يزعمون أنهم من أولياء الله؟ كم يموت على النصرانية والبوذية وعلى الإلحاد في العالم بأسره ممن لم يسمع كلمة الحق واضحة؟
وواقع هؤلاء مسؤولية من؟ واجب من؟ فهل دعوة هؤلاء واجب فئة أو طائفة خاصة؟ أم هو واجب أمة أجمع؟
في هذا العصر الذي يمتاز بأنه عصر الانفجار الهائل في وسائل الاتصال ونقل المعلومات والذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كما يقال، مع ذلك يتخلى المسلمون لتبقى قنوات الفضاء ووسائل الاتصال والأجهزة الحديثة وقفاً على دعاة الفاحشة والرذيلة؟ أو على دعاة الضلال؟ أما أهل المنهج الحق الذين حملهم الله تبليغ هذا الدين للأمة أجمع كما أخبر قائلهم وقد وقف بفرسه على المحيط: يا رب والله أعلم خلف هذا البحر قوماً لخضته لأدعوهم لدين الله.
مسؤولية من وأمانة من دعوة هذا العالم بأسره إلى عبادة الله؟ أليست مسؤولية المسلمين ؟ أليست أمانة المسلمين أجمع صغيرهم وكبيرهم؟
أسأل الله أن يعلي كلمته، وينصر دينه؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،
ــــــــــــــــــ
ما الهم الذي تحمله ؟
ناصر بن سليمان العُمر(1/313)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. واشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما كثيرا. ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ). أما بعد فأيها الأخوة المؤمنون، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. أيها الأحبة، هذا الموضوع موضوع يهم الجميع رجالا ونساء شبابا وكهولا وشيبا. هذا الموضوع أيها الأحبة الذي يحمل هذا السؤال: ما الهم الذي تحمله ؟
ما سبب هذا الموضوع أيها الأخوة ؟
سبب هذا الموضوع ، هناك سببان رئيسان :
السبب الأول ما رأيته من هذه الصحوة المباركة: التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين، فعندما تذهب إلى مسجد من المساجد تجده مليئا بالمصلين وبالمتعلمين، بالراكعين وبالساجدين، عندما نلتقي في مناسبة كُثر، في المحاضرات ودروس العلم نجد أولئك الذين يقبلون على هذه المحاضرات وعلى هذه الدروس وهم بعشرات الآلاف، عندما نذهب لبلد من البلدان سواء داخل هذه البلاد أو خارجها ماذا نجد؟ نجد كما قلت مئات الألوف، لا أعني أننا لا بد أن نلقاهم ولكننا نسمع عنهم رجالا ونساء. عندما رأيت هذا العدد لهائل ورأيت هذه الملايين كما قلت، ورأيت هذه اليقظة المباركة، ونظرت إلى الأعمال التي تؤدى، ونظرت إلى النتائج التي نرجو، فإذا هي لا تتناسب أبدا مع هذا العدد الهائل الذي أشرت إليه. هذه الملايين التي تمثل هذه الصحوة المباركة من الرجال والنساء، نتائج أعمالها لا تمثل هذا الواقع التي تعيشه الصحوة فتساءلت ما السر في ذلك ؟ لماذا لا نرى أعمالا تتناسب مع هذه الطاقات ومع هذه المواهب ومع هذه الأعداد.
فجلست أتأمل وأفكر في هذه القضية.(1/314)
السبب الثاني ما رأيته من أعداء الله: من حرص ومن دأب ومن نشاط ومن عمل ضد الإسلام، هذا العمل الدؤوب الذي نسمع آثاره وأخباره في كل يوم. أسألكم أيها الأحبة، هل استمعتم في يوم من الأيام ومنذ عدة سنين إلى نشرة من نشرات الأخبار ولم تسمعوا في هذه النشرة خبرا أو أكثر من خبر من آثار أعداء الله ومن مؤامرتهم على الأمة الإسلامية ؟ لا أظننا منذ سنوات نستمع إلى نشرة من نشرات الأخبار من أي إذاعة كانت إلا ونجد خبرا رئيسا أو أكثر من خبر يدل ويمثل ما عليه أعداء الله جل وعلا وما يقوم به أعداء الله.
أقول أيها الأخوة، الذي يرى ويستمع إلى جهود أعداء الله يتعجب، وهم على الباطل، وهم على الكفر يرى والله عجبا، يرى جهودا متواصلة، ويرى أيضا ثمارا لهذه الجهود، ولا أذهب بكم بعيدا، إننا نرى جهود أعداء الله جل وعلا في بلادنا بلاد التوحيد.
خروج النساء إلى الأسواق كاسيات عاريات أثر من جهود عظيمة عملها أعداء الله.
ما يسمى بالبث المباشر هذه البلية التي بلينا بها أخيرا أو ما سمى بالدُش، أتعلمون منذ كم بدء؟ منذ عام ألف وأربعمائة هجرية أي منذ قرابة خمسة عشر عاما وأعداء الله على قدم وساق نشاطهم من أجل الوصول إلى النتيجة التي وصلوا إليها بعد سنوات. وأذكر أن أحد وزراء الإعلام وهو زير الإعلام السابق ذكر في محاضرة ألقاها في كلية الشرعية في حدود عام 1400/1401هـ أنه بعد سبع أو ثمان سنوات سيأتي ما يسمى بالبث المباشر، وإذا نحن فعلا نراه بعد عشر سنوات.
بنوك الربا وانتشارها ثمرة عملية - أيها الأحبة- لنشاط أعداء الله ولدأبهم ولحرصهم. هذان السببان جعلني أتسأل هذا السؤال وهو موجه إلى كل واحد منكم، موجه إلى الرجال وإلى النساء، موجه إلى الكهول وإلى الشباب وإلى الصغار: ما الهم الذي تحمله ؟؟ لماذا ؟ لأن الذي يهتم لشيء لا بد أن يُرى أثر هذا الهم.(1/315)
ولأني أريد أن أشرح لكم الموضوع وأن ابسطه تبسيطا، لنأخذ مثلا عمليا. جلست أتأمل وأقول يا تُرى لو قمت بتوزيع استمارة على الأخوة الموجودين أمامي الآن وقلت لكل واحد منهم خذ القلم والورقة وأجب على هذا السؤال: ما الهم الذي تحمله ؟؟
وأنا أقصد بهذا السؤال أن تضع جميع همومك مرتبة حسب الأولويات لأنه لا يمكن لأي واحد منا إلا أنه يحمل عدة هموم، وأنا هنا لا أعني الهم الذي يصطلح عليه العامة عندما يقولون: فلانا مهموم أي مريض أو نحو ذلك. لا، بل أقصد الهم الذي يهمك ويشغل بالك وتجري وتسرع وتتحرك في نطاق هذا الهم.
تُرى لو أن كل واحد منكم كتب ما يهمه، كتبها مرتبة، وأريد من كتابته أن يكون صادقا مع الله جل وعلا، فمن السهل جدا أن تأتي ورقة كل واحد منكم وفيها: أنني أحمل هم الإسلام.
لكنني لا أريد هذا الجواب بهذه الطريقة.
أريد أن تتأمل، ولا مانع أن تأخذ الورقة معك إلى بيتك ولتنفرد بنفسك في غرفة ليس عندك أحد، وتتقي الله جل وعلا وتنظر فعلا: ما الذي يهمك ؟ ما الهم الذي يشغلُك ؟
ثم تكتب لي اهتماماتك، فهل أجد أن الذي يهمك، وأن الهم رقم واحد هو: همُ الإسلام ! همُ هذه الأمة! همُ هذا الدين ! هم هذه العقيدة ؟؟
أو أنني سأفاجئ بأن الهموم تشعبت واختلفت. وكما قلت لكم أريد الإجابة بصراحة وبصدق، لا يهمني أسم من كتبها وإنما يهمني أن اصل إلى نتيجة عملية. إنني أتوقع أنني سأجد عددا كبيرا يكتب لي أن همه هم الإسلام، وأسأل الله أن تكونوا منهم.
سيكتب لي أن همه هم هذه الدعوة، لا أشك في ذلك.
ولكنني على قناعة أنني سأجد عددا كبيرا أيضا منهم من يكتب لي: أن همي هو هم الوظيفة.
وآخر يكتب أن همي الحقيقي هو هم السعي في طلب الرزق.
وثالث يقول لي إن همي الذي يسيطر على كياني هو هم الزواج.
ورابع يقول لي إن همي الذي يسيطر علي هو هم الأولاد وتأمين مستقبلهم ومعيشتهم. وخامس يقول لي إن همي أن أبني بيتا.(1/316)
وهكذا نجد الهموم قد تفرعت. لا أشك أن هم الإسلام سيأتي، ولكن قد يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. هكذا إذا كنا صادقين في الإجابة .
- أيها الأخوة - ما الهم الذي يشغلُك ؟ هذا سؤال - أيها الأحبة - هو القضية التي نناقشها هذه الليلة، ولذلك أذكر لكم في بداية حديثي قول المصطفى في الحديث الذي رواه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم يقول : ( من جعل الهموم هما واحدا، هم أخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالي الله في أي أوديتها هلك ) صححه الألباني .
هذه حقيقة أيها الأخوة، وهذه قضية يجب أن نقف معها وأن نكون صرحاء.
هذا هو السؤال هذا اليوم : ما الهم الذي تحمله ؟
قف مع نفسك وقفة مصارحة لأنني فعلا لن أطلب منك إجابة، ولن أقدم لك ورقة، ولكني أوجه لك سؤال ستسأل عنه يوم القيامة يوم تلقى الله جل وعلا.
ما الهم الذي يشغلُك أيها الأخ الكريم ؟
هل هو هم هذه الأمة المستباحة ؟
هل هو هم هذه الأمة المضطهدة ؟
هل هو هم هذا الدين الذي توجه له أعداء الله عن قوس واحدة ؟
هل هو هم هذه العقيدة التي تهاجم الآن في بلاد التوحيد ؟
الرافضة أصبح لهم مكانة في بلاد التوحيد، الصوفية أصبح لهم مكانة في بلاد التوحيد، اليهود والنصارى وأعداء الله، غيرهم وغيرهم يسعون بجد واجتهاد لهدم عقيدة التوحيد في بلاد التوحيد. (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون).
هذه هي الحقيقة يا أخي الكريم.
فتعال معي نتساءل سؤال حقيقيا إيمانيا قبل فوات الأوان ما الهم الذي تحمله ؟
هل أنت تحمل هم الوظيفة كما يفعل كثير من الناس ؟
هل أنت تحمل هم طلب الرزق في الحياة، وتجعل هم الإسلام درجة ثانية وثالثة ؟
هل أنت تحمل هم أولادك ، وتقول من لأولادي من بعدي؟(1/317)
لا من أجل الدين ولكن من أجل الدنيا، هناك من يسعى جادا وحريصا يواصل ليله ونهاره من أجل أولاده، من أجل دنياهم لا من أجل دينهم.
هنا تأتي القضية التي تحتاج إلى سؤال ومصارحة ما الهم الذي تحمله ؟
يا أخي الكريم، انظر في النتيجة التي تصل إليها.
فإن توصلت إلى أنك تحمل هم الإسلام، وتحمل هم هذه الدعوة، وتحمل هم هذه الأمة فهنيئا لك.
أقول لك والله هنيئا لك وهنيئا لك.
لأنه كما استمعنا في الحديث: ( من جعل الهموم هما واحدا، هم أخرته، كفاه الله هم دنياه). إذا كنت تحمل هم الدعوة، وتحمل هم الإسلام، وتحمل هم هذا الدين فهنيئا لك لأن الله سيكفيك بقية الهموم.
وإن كنت توصلت إلى أن الهم الذي يسيطر عليك، وأن الأمر الذي تسعى إليه في حياتك هو هم وظيفة أم هم طلب رزق أم أي هم من هموم الدنيا.
فأقول لك البدار البدارَ قبل أن يصدق عليك حديث المصطفى : (ومن تشعبت به الهموم في أحوال) من وظيفة وزواج وطلب رزق وبناء بيت. (ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالي الله في أي أوديتها هلك ).
أخي الكريم تسألني وتقول لي : كيف أعرف أني أحمل هم الإسلام ؟
وأنا أسألك مرة أخرى عن أي شيء تفكر ؟
أسألك بالله عندما تضع رأسك على الوسادة ما هو الذي يسيطر على تفكيرك ؟
عندما تستيقظ من النوم ما الذي يشغل بالك ؟
عندما تسير في السيارة والأفكار تدور في خاطرك، ما هي هذه الأفكار ؟
بل أقول وأنت تصلي ما الذي يشغلك ؟ هل هي الصلاة وما فيها من آيات؟
أسألك هذا اليوم وقد استمعت إلى هذه الآيات العظيمة من سورة المائدة ، هل أنت معها متأملا متفكرا ؟
أم أنك لا تدرك إلا ركوعها وسجودها ولم تعقل منها شيء ؟ لماذا ؟ لأن الدنيا قد شغلت بالك، لأن هموما أخرى من هموم الدنيا قد أرقتك.
يا أخي الكريم إذا كنت عندما تضع رأسك على الوسادة تفكر في حال هذه الأمة.
إذا كنت يا أخي الكريم عندما تستيقظ تفكر في واقع هذه الأمة.(1/318)
يا أخي الكريم عندما تسير في الطريق لا تفكر إلا في أحوال المسلمين .
عندما تجلس مع إخوانك حديثكم عن الإسلام وعن أحوال المسلمين.
عندما تتحدث مع أولادك تتحدث عن تربيتهم وإعدادهم لأجيال قادمة ليقفوا أمام أعداء الله جل وعلا.
إذا كنت كذلك فأنت فعلا تحمل هم الإسلام.
قالت زينب (رضي الله عنه) للرسول : ( يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثُر الخبث).
ولا أزكيكم على الله - لا أشك في طيبة كل واحد منكم، ولكن الطيبة وحدها لا تكفي. الصلاح وحده لا يكفي، انظر ما الذي يحدثك الآن؟ ما الذي يشغل بالك الآن ؟
الناس يختلفون في هذه القضية: هناك الكثيرون يسيطر على كيانهم أمور الدنيا كما ذكرت من طلب رزق، ومن وظيفة أو أولاد أو منصب أو دراسة أو طلب شهادة أو طلب جاه أو طلب سمعة.
الناس شتى (كل يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها).
فيا أخي الكريم هذا هو السؤال.
ويكفينا لو أنهيت المحاضرة على حد هذا السؤال لكفانا لقاء هذا اليوم لأهمية هذا الموضوع.
وهنا قلت لك أخي الكريم أنت أحد رجلين وأسأل الله أن تكون الأول، أن تكون ممن يحمل هم هذا الدين حقيقة وصدقا وواقعا. أو - وأعيذك بالله من ذلك- أن الهم الذي تحمله هو هم أي هدف من أهداف الدنيا أو غاية من غايات الدنيا.
بعد ذلك يأتي سؤال لا بد منه وهو:
هل يعنى هذا أن لا نحمل هم وظيفة ؟ ولا نحمل هم طلب الرزق ؟ ولا نحمل هم الزواج ؟ أخشى أن يتعجل متعجل من الحماس ومن الخير وقد يكون الآن يعد العدة للزواج بعد رمضان فيقول مادام هذا يصادم الهم الأول إذا أنا لن أتزوج. ويأتي أخر فيقول أنا اليوم أدرس والحمد لله وأريد الشهادة، إذا هذا يتصادم مع حمل هم الإسلام، إذا لا أريد الشهادة وينسحب من جامعته ومن دراسته. وثالث أخشى أن يقدم استقالته من وظيفته. فالسؤال الذي لا بد منه هل يعني هذا أنه لا يجوز لنا أن نحمل هم هذه الهموم ؟
وأقول لا، ليست هذه هي القضية.(1/319)
قلت لكم ما الهم الذي تحمله ؟ أي ما الهم رقم واحد ؟ ومعنى ذلك أن هناك عدة هموم. ليست المشكلة - أخي الكريم - أن تحمل هم الزواج، أو أن تحمل هم بناء البيت أو أن تحمل هم طلب الرزق، أو أن تحمل هم طلب الوظيفة.
كل هذا يكون مشروعا في حالة واحدة فقط، إذا كان همك الأول هو هم هذا الدين، وهم هذه الأمة، وهم هذه العقيدة فكل الهموم التي تأتي بعد ذلك لا حرج عليك ولا تأثيم عليك
- أخي الكريم - لماذا ؟ لأنه ثبت علميا - انتبهوا لهذه القضية- ثبت علميا وثبت من حيث الواقع ومن حيث التجارب أن الهم رقم واحد يسيطر على بقية الهموم.
فإن كنت تحمل الهم رقم واحد هو هم هذا الدين فإنه سيسيطر ويوجه هم الوظيفة وهم الزواج وهم طلب الرزق وهم بناء البيت إلى غير ذلك.
أما إن كان الهم رقم واحد من هموم الدنيا فإنه سيؤثر على هم الدين حتى لو كنت تحمل هم هذا الدين ولكن جاء بالمرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة.
والأمثلة توضح هذه الحقيقة:
لنأخذ المثال عن رجلين، رجل يحمل هم هذا الدين ومع ذلك يحمل هم الوظيفة، يحمل هم طلب الرزق، يحمل هم الزواج، يحمل هم بناء البيت فكيف تكون النتيجة ؟ إذا كان يحمل هم هذا الدين فهو قطعا سيبحث عن الوظيفة التي تخدم دينه، ولو عرض عليه مثلا وظيفة مدرس وخّير بين مدرستان: إحداهما قريبة من البيت ومريحة وسيعطى من الحصص قليلا ولكن ليس فيها مجال للدعوة إلى الله جل وعلا. والأخرى بعيدة وتحتاج منه مشقة وقد يكون نصابه أكثر، ولكنه يجد أنها مجالا خصبا لتربية الأولاد، لتربية الأبناء، أو لتربية البنات إن كانت مدرّسة، وتحتاج منه إلى جهد وجهاد.
إن الذي يحمل هم هذا الدين سيختار المدرسة الثانية.(1/320)
عند قضية الزواج مثلا، فالذي يحمل هم هذا الدين سيبحث عن الفتاة الملتزمة، الفتاة الصالحة، ولو جاءته أمه وقالت يا بني إني وجدت لك فتاة جميلة ومن عائلة كريمة ووضعها المادي مناسب ولكنها لم تلتزم بعد، سيقول: لا يا أمي لأن المصطفى يقول : (فأضفر بذات الدين تربت يداك). وتعرض عليه الثانية والثالثة والرابعة ولا يقبل إلا بذات الدين، حتى لو قالت له أمه في يوم من الأيام يا بني إني وجدت لك فتاة ملتزمة صالحة، ولكن قد لا تكون ذات نصيب كبير من الجمال، سيقول: ليس الجمال مشكلة يا أمي فالذي يهمني هو هذا الدين فسيتزوجها.
أما الأخر الذي لا يحمل هم الدين فيريد في المرأة إما جمالا أو مالا أو حسبا أو نسبا، كما قال المصطفى : (تنكح المرأة لأربع، لمالها ولجمالها، ولحسبها ، ولدينها فأضفر بذات الدين تربت يداك ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
انظروا للذين تشعبت بهم الهموم حول هذا المثال.(1/321)
نحن عرفنا أن الذي يحمل هم هذا الدين لن يتزوج إلا امرأة صالحة حتى ولو نقصت الأمور الأخرى، حتى ولو كانت قليلة المال، حتى ولو كان جمالها ليس بذاك الجمال لكن يهمه منه أمر الدين. أما الأخر فلننظر: هناك من الشباب من يبحث عن الجمال فقط، فتأتيه أمه أو يأتيه أبوه أو إخوانه فيقولون وجدنا لك فتاة ثرية وذات دين وحسب ولكن جمالها قليل، أي ليست قبيحة ولكنها ليست جميلة جدا، فيقول لا أريدها. ثم يعرض عليه ويعرض عليه حتى يأتي يوم من الأيام فيقال له: وجدنا لك فتاة جميلة جدا، ولكنها فتاة مغرورة، ولكنها فتاة قليلة الدين غير ملتزمة فيقول هذه التي أريد وتلتزم إن شاء الله فيما بعد. هذا أن كان يعنيه أمر الالتزام. ارأيتم الفرق بين الاثنين؟ وثالث يبحث عن امرأة موظفة فيعرض عليه من النساء من فيها من الجمال وفيها من الحسب وفيها من الدين لكنها ليست موظفة فيقول لا أريدها. حتى إذا وجدوا له امرأة موظفة كما يريد حتى لو كانت قليلة الالتزام بالدين فيقبل بها. لماذا لأن هدفه الأول ، ولأن همه الأول من هموم الدنيا ولم يكن هم هذا الدين.
حتى في قضية شراء البيت فالذي لا يهمه أمر دينه فتجده يركز على الأرض وعلى موقعها وعلى مساحتها وهل هي على شارعين أو على ثالثة أو على واحد ثم يشتريها. أما الذي يهمه أمر هذا الدين فيسأل عن الجار، ويسأل عن الحارة، ويسأل عن الموقع، فإذا وجدها مناسبة اشتراها. إذا أيها الأخوة، وصلنا إلى حقيقة معينة أنه ليست القضية وليست المشكلة أن تحمل هم الوظيفة ولا أن تحمل هم الزواج، بل يجب أن تحمل هم الزواج لأن الرسول يقول : (يا معشر الشباب من استطاع منكم البائة فليتزوج).
ولكن القضية ما هو الهم الذي يسيرك ؟ ما هو الهم الذي يسيطر على كيانك ؟ ما هو الهم الذي يؤرقك ليلا ونهار ؟ هذا هو السؤال وهذا هو الجواب.
ففتش عن نفسك، وتأمل في حالك وبادر قبل فوات الأوان.(1/322)
هنا يأتي سؤال آخر. تأتي هموم أخرى طارئة تسيطر على همنا كمن يصاب بمصيبة مثلا، أو يصاب بمرض، أو يكون عليه من الديون ما يثقله فيقول لي يا أخي الكريم: الذي يؤرقني الآن هو هم هذا الدين، فهل أنا على طريق خاطئ ؟ أقول له يا أخي الكريم إن الهموم الطارئة لا تتعارض مع الهم الأول، فمن الطبيعي جدا إذا أصيب الإنسان بمصيبة أن يبقى زمنا يسيرا تشغله هذه المصيبة. فالذي عليه دين اثقل كاهله لا شك أن الدين سيؤرقه حتى يقضي هذا الدين، ولكنه مرة أخرى يعود خيرا مما كان.
هذه قضايا أيها الأحباب تبين لنا بصفاء وبجلاء هذه الحقيقة : ما الهم الذي تحمله ؟ وهنا مرة أخرى أعود إلى قضية أشرت إليها، ولكن قبل ذلك أذكر حديثا للمصطفى يقول فيه: (من أراد أن يعلم ما له عند الله، فلينظر ما لله عنده).
تريد أن تعرف موقعك عند الله، وأن تعرف مكانك في الآخرة، أنظر ما لله عندك. أنظر ما لهذا الدين في قلبك، اجر الحسابات.
هل الذي في قلبك هو حب هذا الدين والعمل لهذا الدين والغيرة على هذا الدين ؟
أو أنك فعلا تحب هذا الدين ولكن الذي في قلبك للدنيا أكثر بهمومها وشعابها.
(من أراد أن يعلم ما له عند الله، فلينظر ما لله عنده).
هذه قضية لا بد أن نقف معها أيها الأحبة، هنا السؤال الجوهري في هذه المحاضرة:
ماذا يعني أن يكون همي الأول هذا الدين ؟ وكيف يكون ذلك؟
أقول لك أن هذا يعني:
أولا أن تفكر دائما وأبدا في دينك وفي أمتك وفي الواقع الذي تعيشه الأمة الآن.(1/323)
ثانيا العمل الدؤوب الجاد، انظر يا أخي الكريم كم مضى من عمرك ،ماذا قدمت للإسلام. انظر كم عمرك الآن ثلاثين سنة ، أو خمس وعشرين سنة، أو أربعين سنة، أو خمسين سنة ، أو ستين سنة ؟ اجلس مع نفسك جلسة مصارحة واسأل ماذا قدمت للإسلام ؟ ماذا قدمت لدينك؟ أنظر إلى هذه النعم التي أعطاك الله جل وعلا وهذه المواهب كيف استخدمتها ؟ هل استخدمتها لأمور الدنيا، أو استخدمها لأمور دينك ؟ إذا العمل الجاد الدؤوب ، ومحاسبة النفس .هل أنت تحاسب نفسك ؟
تريدون أن أوجه لكم سؤال آخر فأقول: كم مرة جلست مع نفسك لمدة ساعتين أو ثلاث وليس لك هم ولا غرض ولا مأرب ولا حاجة إلا أن تحاسب نفسك على ماذا قدمت لدينك ؟ سؤال صريح أيها الأخوة، لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولله أن الوقت أن نحاسب أنفسنا الآن خير لنا من أن نحاسبها أو تُحاسب يوم القيامة.
يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر على الله جل وعلا).
هل جلست لمدة ساعة واحدة في المسجد، أو في بيتك وغفلت عن أولادك ؟
هل جلسَت هذه الأخت جلست صدق مع نفسها وصارحت نفسها، وصارحت نفسك: ماذا قدمت للإسلام في ما مضى من عمرك ؟ الذي أخشاه، بل الذي أتوقعه أن الكثير منا لم يجلس مع نفسه، ويمر عليه الشهران والثلاثة والسنة ولم يجلس جلست صدق ومصارحة .
أيها الأخوة، الخلوة الشرعية مع النفس ومحاسبة النفس لا بد منها، فهل نحن نفعل ذلك؟ إذا كنت تفعل ذلك فأقول لك نعم إنك تحمل هم الإسلام. أما إذا كانت أمور الدنيا تتوالى عليك ولم تجلس يوما واحدا مع نفسك جلست صدق ومصارحة ومحاسبة فتدارك نفسك.
أن تحمل هم الإسلام يعني الإبداع، أين الإبداع ؟
لماذا نرى أن الإبداع وكأنه حكر على الكافرين ؟، وكأنه حكر على أعداء الله ؟ أين ما أبدع المسلمون؟ أسألك أنت ماذا أبدعت ؟ ماذا أبدعت من مشاريع ؟ ماذا أبدعت من عمل؟(1/324)
لا أريد أن أكثر الأمثلة ولكن أضرب لكم مثلا واحدا: طفل عمره في حدود عشر سنوات: وقف عند ماكينة البيع الذاتي للمرطبات وهي كما تعلمون منتشرة في الأسواق. نظر إليها وقال إنني أتمنى ؟؟؟؟؟ ماذا يتمنى هذا الطفل ؟ أيتمنى أن هذه الماكينة له ليكسب من وراءها الأموال . أيتمنى أن هذه الماكينة وفيها مما لذ وطاب من المرطبات له ليشرب على راحته وكما ينبغي لا، قال إنني أتمنى أن توجد ماكينة مثلها نضع فيها الأشرطة: فندخل فيها عدة ريالات فيخرج لي شريط للشيخ عبد العزيز ابن باز (رحمه الله). ثم اضغط زرا آخر فيخرج لي شريط للشيخ محمد ابن عثيمين (رحمه الله). واضغط زرا رابعا فيخرج لي شريط للشيخ سفر الحوالي، وزرا خامسا للشيخ سلمان العودة، وسادسا وسابعا. هذا طفل، ارأيتم التفكير، هذا يحمل هم الإسلام لأن عنده الإبداع، لأن عنده تفكير، لأن عند إنتاج حتى ولو كان مثلا يسيرا.
أنت ماذا أبدعت ؟ أنت ماذا فكرت؟ أنت ماذا قدمت ؟ ماذا يعني أن يكون همك رقم واحد هو هم الإسلام؟ هي الانطلاقة المؤصلة على هدي المصطفى الملتزمة بالكتاب والسنة، لماذا ؟ لأن الذين يسيرون إلى الله كُثر، ولكن كثيرا منهم على الخطئ وبعضهم على الانحراف.
يقول المصطفى عندما نزل قوله تعالى : (هل أتاك حديث الغاشية). قال نعم أتاني حديث الغاشية، نعم أيها الأخوة. (عاملة ناصبة، تصلى نارا حامية).
فيا أخي الكريم الانطلاقة المؤصلة أن تنظر في عملك ؟ وهل وقفت مرة واحدة أيها الداعية، ويا طالب العلم مع نفسك وتأملت في طريقتك ومسيرتك إلى الله هل هي على هدي المصطفى ؟
هل هي على منهج أهل السنة والجماعة ؟ هل لك منطلق وأصل في سلف هذه الأمة أو لا؟ وأخيرا مما أشير إليه هنا أيها الأحباب، أين المشاريع التي نقدمها ؟ لا ننكر ولا نغفل حق العاملين، وأنه يوجد في بلادنا مشاريع خيرة.
(1/53)(1/325)
ولكن صدقوني المشاريع التي توجد في بلادنا في بلاد التوحيد، في بلاد الحرمين من مشاريع إسلامية لا تتناسب أبدا مع مكانة هذه البلاد، ومع أهل هذه البلاد. تريدون مثلا ، خذوا مثلا واحدا فقط: كم يوجد في هذه البلاد من جريدة إسلامية ؟ لا شيء . كم يوجد في هذه البلاد من مجلة إسلامية ؟ واحدة، ولكن كم توزع ؟ من أضعف المجلات توزيعا. أيتناسب مع بلاد الحرمين أن لا يوجد فيها جريدة يومية إسلامية، وفيها عدد من الصحف والجرائد، التي لا تمثل الإسلام بل إنها تنشر ما يهدم الإسلام. أيليق ببلاد الحرمين ، وبأهل الحرمين ، وبالمنتسبين لبلاد التوحيد أن لا يوجدوا مجلة إسلامية توزع مئات الآلاف . كم يتألم قلبي وأنا أرى هذه المجلات الوافدة توزع أسبوعيا بين سبعين إلى ثمانين إلى تسعين إلى مائة ألف نسخة. ومجلة إسلامية أسبوعية في بلادنا قد لا توزع إلا بضعة آلاف. أين المشاريع الإسلامية ؟ أليس عيبا أن يحدث هذا ؟ أليس عيبا أن يحدث هذا ؟ أليس عيبا والله أن يقع هذا في بلادنا ؟ أليس من الخلل والخطئ والخطل أن لا يوجد في بلادنا من هذه المشاريع التي أشرت إليها ؟ نعم توجد بعض المشاريع ، ولكن لا تتناسب أبدا والله .(1/326)
وما رأيكم لو أن تاجرا يملك مئات الملايين ، ثم جاء الناس يتحدثون أن هذا الرجل بخيل لا ينفق في سبيل الله ولا يتبنى المشاريع الإسلامية. ثم جاء رجل وقال لقد جنيتم على هذا الرجل ، ولقد كذبتم في حقه، ولقد ظلمتموه، والله لقد رأيته مرة تبرع بعشرة ريالات. وقام آخر وقال لقد رأيته يوما تبرع بمائة ريال. سبحان الله يملك مئات الملايين ويتبرع بعشرة ريالات وبمائة ريال. هذا دليل والله على بخله. جزاك الله خيرا فقد أفدتنا. كذلك في بلاد الحرمين، في بلاد التوحيد لا نجد مثل هذه المشاريع العملاقة التي تخدم الإسلام في الجوانب الإعلامية. بينما ننظر في الجانب الآخر كم يدخل في بلادنا من الصحف والمجلات ؟ أقول لكم إنه يدخل شهريا ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة من المجلات والصحف أكثرها لا تمثل الإسلام، بل إنها والله حرب على الإسلام والمسلمين. هذه حقائق، فأين الهم الذي نحمله ؟
إذا كان همك الإسلام يا أخي الكريم، إذا كان همك هذا الدين فأتقي الله، أين الاستمرار ؟
لماذا بدأ الفتور يدب في أوصالنا ؟ منذ ثلاث سنوات، ومنذ سنتين كن نجد الكثير من الدروس فيها العشرات بل المئات بل الآلاف، ولكن بدأنا نسمع التكاسل والتواكل والتراخي والفتور . هل رأيتم تاجرا يفتر ؟
ذُكر لي عن بعض التجار الذين يقادون الآن بالعربات، أعمارهم فوق الثمانين ومع ذلك يعملون أكثر من عشر ساعات يوميا من أجل دنياهم. أبدا، قل أن نجد تاجرا يقول أنا بلغت الستين سأتوقف عن طلب الدنيا، ما رأينا هذا إلا نادرا والنادر لا حكم له.
ولكن في سبيل الله ، في الدعوة إلى الله ، في العمل ، سنة وسنتين وثلاث ثم يبدأ الفتور . هل هذا فعلا يحمل هم الإسلام ؟ كيف يكون الذي يحمل هم الدنيا أفضل منا وأقوى منا ؟(1/327)
وهنا أختم هذه النقطة وأنتقل للنقطة قبل الأخيرة، وهي نقطة مهمة جدا : مثل حي: لماذا لأن ضرب المثل أكثر الله منه في القرآن لقوة تأثيره، فسأضرب لكم مثلا واحدا ممن يحمل هم الإسلام.
لن أضرب لكم مثلا بمن سلف وكلنا يعلم أن المصطفى منذ بعثه الله إلى أن لقي الله يحمل هم هذا الدين. هذه قضية بديهية في أذهاننا جميعا، لن أتكلم عن الصحابة ، وعن عمر رضي الله عنه الذي يحمل هم هذا الدين حتى أنه وهو في صلاته يجهز الجيوش، حتى أنه وهو يخطب الخطبة قلبه وتفكيره مع الجيش الذي ذهب يغزو حتى قال: (يا سارية الجبل، يا سارية الجبل). وهو يخطب على المنبر في مسجد المصطفى فسمعه المجاهدون كرامة من الله وهم في جهادهم، وقد كانوا في مأزق شديد، وكانوا في ضنك ، وأحاط بهم الأعداء، ولا يعلمون أين يذهبون، فإذا هم يسمعون صوت عمر يا سارية الجبل يا سارية الجبل. سبحان الله- الله أكبر، مع أنه في منبر المصطفى كرامة من الله جل وعلا، لماذا ؟ لأنه يحمل هم هذا الدين .
لن أحدثكم عن هؤلاء فأنتم تعرفونهم أولا. وأخشى من الشيطان وهو متحفز دائما أن يقول لكم هؤلاء ذهبوا، ظروفهم تختلف عن ظروفنا، أزمانهم تختلف عن أزماننا.
سأحدثكم عن رجل واحد (كان) يعيش بيننا أضرب به مثلا من أجل شحذ الهمم والعزائم، وأريد أن أقول عندما أحدثكم عن هذا العلم وعن هذا القدوة، فسأتحدث عن جانب واحد فقط وهو جانب حمله لهم الإسلام حتى يكون لنا عبرة وقدوة، ألا وهو:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله).
أيها الأخوة، لو تحدثت وتحدثت لما وفيته حقه، ولكني سأقتصر على الجزء الذي أشرت إليه والذي يتعلق بحمله لهم الإسلام، وسأذكر لكم حقائق ووقائع تؤكد هذه الحقيقة وتبينها لعله يكون دافعا لنا، خذوا هذه الحقائق، خذوا هذه الدرر:(1/328)
منذ عرفت الشيخ منذ أكثر من عشرين سنة لا أعرف أنه أخذ إجازة: لا شهر في السنة ولا يوم أبدا، وكنت أتحدث في هذا الكلام في عدة مجالس أنني منذ عرفته في بداية التسعينات، أي التقيت معه لا أعرف أنه أخذ إجازة يوما واحد.
واذكر لكم حقيقة تبين هذا الأمر حيث ذهبت في عام 1391هـ إلى المدينة من أجل لقاء مع سماحته وكان معي أحد المشايخ. ذهبنا بتوصية من أحد مشايخنا في الرياض بارك الله في الجميع وفيكم، فجئنا إلى الشيخ بعد أن وصلنا المدينة ليلة الجمعة كهذه الليلة. ثم بعد صلاة الفجر في المسجد النبوي خرجنا ننتظر خروج الشيخ، فلما خرج قلنا يا سماحة الشيخ نحن جئنا من الرياض ومعنا لك رسالة ونريد أن نلتقي معك. فقال لنا يا أبنائي هذا اليوم يوم الجمعة وهو مخصص للأولاد ، فلعلكم تأتون غدا إلى الجامعة الإسلامية (عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية). فقال له صاحبي يا فضيلة الشيخ نحن مسافرون وورائنا أعمال ودراسة، (وقد كنا طلاب في كلية الشريعة وقته) ، فلعلك تستقبلنا هذا اليوم. فقال إذا ائتوني ضحى في بيتي وسأحاول أن أقضي حاجتكم.(1/329)
فقلت لأخي الشيخ الذي معي لا يليق أن نذهب إلى الشيخ هذا اليوم وقد خصصه لأولاده ، فهو اليوم جالس مع أولاده ومع زوجاته وهو يوم جمعة. فلو انتظرنا إلى الغد ونحن على خير، نصلي في المسجد النبوي والحمد لله والصلاة فيه بألف صلاة لعلنا ننتظر إلى الغد. قال لا نذهب استثمارا للوقت. ذهبنا وكنت أقدم رجلا وأخر أخرى وأتصور أن الشيخ سيكون بين أولاده وننتزعه من بينهم، فلما وصلنا إلى بيته، طرقنا الباب وكان مفتوحا. وكنت أنا الطارق حيث كان صاحبي ورفيقي كفيف البصر لا كفيف البصيرة، بل أنار الله بصيرته بكتاب الله جل وعلا. كنت أطرق الباب فجاءنا رجل أعرابي من أهل المدينة وقال تطرقون بيت من ؟ فخشيت أنني أخطأت، فقلت أليس هذا بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز، فقال وهل بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز يطرق ؟ أدخلوا ودخل أمامنا. فدخلنا فإذا الشيخ في مجلسه وإذا المجلس مكتظ بالناس. سبحان الله، سبحان الله. قدمنا للشيخ الكتاب فقال إذا تتغذون معنا، فقلنا خيرا إن شاء الله. فلما صلينا قال لي صاحبي مرة أخرى لنذهب إلى الشيخ. فقلت له يا أخي الكريم أخذنا عليه الضحى ولا نريد أن نأخذ عليه وقت الغذاء وعلى الأقل يتغداء مع أولاده. قال سنذهب واختلفنا والخلاف شر. ولذلك تأخرنا على الشيخ وذهبنا في النهاية، فدخلنا المجلس ولم يشعر الشيخ بنا، وجلسنا وإذا المجلس مليء بالناس. فإذا الشيخ يقول هل حظر فلان وفلان (يسمينا بأسمائنا)؟ قالوا نعم، قال أعطونا الغذاء.
إذا يا أحبتي الكرام هذا اليوم الذي قال لنا سماحة الشيخ أنه مخصص لأولاده، هكذا قضاه.
قبل رمضان كنت جالسا مع أحد الملازمين للشيخ فتحدثنا في هذه القضايا فإذا هو يقول لي إنني سمعت بأذني سماحة الشيخ يقول منذ أيام لأحد المشايخ: منذ ثمان وخمسين سنة لم أخذ إجازة يوم واحد.
هذا يحمل هم ماذا ؟ هم الدنيا ؟!!(1/330)
والله أنني منذ عرفت الشيخ وجلست معه ما سمعته يوما يتكلم بأمر من أمور الدنيا: التي تتعلق بالبيع والشراء والتجارة أبدا، أبدا إلا إذا كانت في صالح المسلمين، أما أن يتكلم عن أسعار الأراضي، أو السيارات، أو البيوت، أو الوظائف لا يعرف فيها شيء.
أقول لكم منذ عشرين سنة لم أسمعه يوما واحدا يتكلم إلا في ما يخص أمور المسلمين، ويرضي ربه جل وعلا من ذكر وتسبيحا وقراءة قرآن وكلمات طيبة وحل مشاكل المسلمين.
هذا يحمل هم ماذا أيها الأخوة ؟ سماحة الشيخ عبد العزيز (رحمه الله) وعمره فوق الثمانين سنة: وكان لا ينام إلا بحدود أربع إلى خمس ساعات فقط.، والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته وقضاء حوائج المسلمين، قال لنا أكثر من مرة أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عاما بكامل الراتب ، ولكن والله ما بقيت إلا من أجل أن أخدم المسلمين.(1/331)
نعم أيها الأخوة هذه حقائق. حقائق أيها المسلمون. قلت لكم هذا الرجل (كان) يعيش بيننا هذا همه ومع ذلك هل هو يفتر في عبادته؟ الذي أعرفه عن سماحة الشيخ أنه (لم يكن) يترك ورده من القرآن يوميا أبدا وخذوا هذه القصص: يقول أحد كتّاب الشيخ، ذهبت أنا وإياه إلى مكة وجلست أقرأ عليه المعاملات بعد العشاء إلى حدود الساعة الحادية عشر ليلا. فقال سماحة الشيخ بأدبه وتواضعه يبدو أننا تعبنا، الشيخ ما تعب ولكن الذي تعب هو الموظف، فالشيخ بأدبه ما أراد أن يقول للموظف هل تعبت، فقال يبدو أننا تعبنا. يقول الموظف فقلت له نعم يا شيخ. قال إذا ننام، يقول فوضعت المعاملات وقام الشيخ يصلي. يقول قمت فصليت ما كتب الله لي ثم نمت. فاستيقظت بعد الثانية عشرة فإذا الشيخ يصلي، ثم استيقظت قبل الفجر فإذا الشيخ يصلي. ويقول أحد إخوانه الذين جاءوا معه من الطائف إلى الرياض عن طريق البر، ولم صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية ليلا تقريبا قال الشيخ لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا وسهرنا، قفوا لننام في الطريق. يقول فوقفنا فما لمست أقدامنا الأرض إلا ونمنا والجيد منا من استطاع أن يصلي ركعة أو ثلاث ركعات، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا الشيخ يصلي. يحدثني أحد الملازمين للشيخ قبل أسبوعين فيقول ما ترك الشيخ كلمة بعد صلاة العصر إذا صلى في أي مسجد إلا وألقى كلمة حتى يوم الجمعة، ما تركها أبدا. ندوة الجامع الكبير، إذا كان الشيخ في الرياض لا يترك حضور ندوة الجامع الكبير أبدا إلا لعارض صحي. إذا يا أخوان، هذه حقائق ممن يحمل هم الإسلام .(1/332)
وأختم الحديث عن حياته بقصة حدثني فيها أحد الموظفين بدار الإفتاء منذ عدة سنوات فيقول: جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ: فإذا فيه امرأة تقول أن زوجي مسلم أخذوه النصارى فألقوه في بئر، فأصبح أطفالي يتامى، وأصبحت أرملة وليس لي أحد بعد الله جل وعلا. وسألت من يمكن أن اكتب له في الأرض ؟ قالوا لا يوجد إلا الشيخ عبد العزيز أبن باز، فآمل أن تساعدني. كتب عليها الشيخ للجهات المسؤولة في دار الإفتاء لمساعدتها، فجاءته إجابة أن يا سماحة الشيخ لا يوجد بند من البنود عندنا لمساعدة امرأة وضع زوجها في البئر، فالبنود المالية محددة، فيقول الشيخ لكاتبه، أكتب مع التحية لأمين الصندوق أن أخصم من راتبي عشرة لآلاف ريال وأرسله إلى هذه المرأة. معذرة فالحديث عنه لا يمل، بقول لي أحد الزملاء في الجامعة: وقد ذهب في دورة إلى دولة أفريقية، يقول جاءتنا عجوزا في وسط أفريقيا ثم سألتنا عبر المترجم من أين أنتم؟ قالوا لها إنهم من السعودية، فقالت بلغوا سلامي الشيخ عبد العزيز ابن باز. عجوز في وسط أفريقيا، كيف عرفت الشيخ عبد العزيز أبن باز ؟ لأنه يحمل همها.
هذه حقائق يا أحبابي الكرام، هذه نماذج واقعية، هذا قضايا. كيف أحدثكم أيها الأحباب، ماذا أقول لكم: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... ... إذا جمعتنا يا جليس المجامع.
أتني بهؤلاء، هذه النماذج الحية.
وبعد ذلك أقول أيها الأخوة الكرام عودوا إلى السؤال: مالهم الذي تحمله ؟
حاسب نفسك يا أخي الكريم. حاسبي نفسك يا أختي الكريمة.
واحملوا هم هذا الدين، وبادروا قبل فوات الأوان، وقبل أن تتمنوا أن الذي كان ما كان.
أيها الأخوة الكرام، أيها الأخوات الكريمات: القافلة تسير، دين الله منتصر لا نشك في ذلك أبدا(1/333)
أيها الأخوة. أعداء الله رمونا عن قوس واحدة ، اجتمع الكفر، اجتمع اليهود والنصارى والوثنيون والملحدون على شيء واحد الآن هو حرب الإسلام. إذا كانوا كذلك أيها الأخوة: أيليق بنا والحقيقة تلك أن نحمل هما غير هم الإسلام؟ كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الإسلام وبلاد المسلمين كما ترى ؟ كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الدين والقدس تحت الاحتلال اليهودي؟ وإخواننا هناك يسامون سوء العذاب. كيف تحمل يا أخي الكريم هما غير هم الإسلام وإخواننا الدعاة وشباب الإسلام سجناء في السجون يعذبون ويبتلون ويؤذون بما تعلمون وتسمعون.
أيليق بنا يا أحبتي الكرام أن تهتم بأمور الدنيا، أن نهتم في أمور الوظيفة وأمور المعاش وأمور الرزق ودين الله جل وعلا تنتهك حرماته ؟
أيليق بنا يا أحبتي الكرام وأعداء الله جل وعلا لا أقول من اليهود والنصارى فقط بل من أذنابهم ممن يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا يخدمون الأعداء ليل نهار، ويحاربون دين الله جل وعلا.
لقد اطلعت هذا اليوم على جزء مما يعمله هؤلاء في بلاد التوحيد، على جزء مما يتآمر به العلمانيون، ما يتآمر به المنافقون على عقيدتنا وعلى بلادنا. في بلاد التوحيد الرافضة ، العلمانيون، المنافقون، الصوفية كلهم الآن يعملون ليل نهار لشيء واحد ضد هذا الدين .
أيليق بنا أن يسيطر علينا هم غير هم هذا الدين ؟
أتق الله يا أخي الكريم.
أختي الكريمة كيف تهتمين بالتوافه ، كيف تهتمين بما يجب أن تترفعي عنه ، وأخواتك المسلمات تنتهك أعراضهن ، ويبتلين في دينهن، أيليق هذا يا أخواتي الكريمات ؟
عباد الله أخوتي الكرام الله اللهَ، عودة صادقة إلى الله جل وعلا، حاسبوا أنفسكم فلا يزال معنا فسحة، ولا ندري متى نلقى الله، علينا أن نجدد إيماننا علينا أن ننظر مرة أخرى إلى واقعنا حتى لا يحل بنا غضب الله جل وعلا.(1/334)
وجهت هذا السؤال لبعض طلبتي فجاءتني الإجابة من بعضهم اقرأ عليكم جزء من رسالة وصلتني من أحد الأخوة جزاه الله خيرا يقول فيها إجابة على السؤال:
وبعد أن طرحت هذا السؤال فإن اهتماماتي تنحصر في ما يلي:
أحمل هم العالم الذي حجب علمه عن الأمة حتى لا يضيء لها طريق النجاة.
أحمل هم العالم الذي جعل علمه وسيلة لغير نصر هذا الدين.
أحمل هم الداعية المودع في السجن ،أو المفصول عن وظيفته لا ذنب اقترفَه إلا أنه يدع إلى دين الله جل وعلا.
أحمل هم رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يتعرضون للأذى من كثير من الناس، ويتعرضون للأقاويل والوشايات.
أحمل هم بنت الإسلام التي يريد العلمانيون إخراجها من خدرها والزج بها في معترك العمل مع الرجال خلافا لما تقتضيه فطرتها الإسلامية.
أحمل هم أخي المسلم في فلسطين الذي يعيش في خيمة بالية لا تظله من شمس ولا تحميه من مطر من عدة سنوات.
أحمل هم خمسمائة مليون دولار معظمها من أموال المسلمين ترصد كميزانية سنوية لمشروع تنصير أبناء المسلمين.
أحمل هم معاناة كل مسلم في كشمير وبورما والفلبين وأسيا الوسطى وكل بلد إسلامي.
أحمل هم كل مسلمة انتهك الصليبيون عرضها في البوسنة وفي أريتيريا وفي كل بلاد.
وأخيرا وليس آخرا أحمل هم مليار ومائة وخمسين مليون مسلم يمثلون خمس العالم ولكنهم غثاء كغثاء السيل لا وزن لهم ولا قيمة لهم في معادلات الإستراتيجية الدولية.
يا أخي الكريم هذه هي همومي باختصار كما شئت أن تعرف، فجزاك الله خير.
وأقول له جزاك الله خير.
إذا أيها الأخوة لتكون اهتماماتنا عالية ولنحذر أن يصدق علينا قول الباري جل وعل كما في هذه الآية: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية).(1/335)
نعوذ بالله أن تهمنا أنفسنا عن دين الله جل وعلا، ولذلك أحدثكم واكرر مرة أخرى ما بدأت به من أحاديث المصطفى : عن عبدالله أبن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم يقول: (من جعل الهموم هما واحدا هم آخرته كفاه الله هموم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبالي الله في أي أوديتها هلك).
ويقول : (من أصبح منكم معافى في جسده، آمنا في سربه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا). وقال : (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة).
فيا أحبتي الكرام بادروا بالأعمال سبعا، البدار البدارَ لإصلاح أوضاعنا.
وليكن همكم لا أقول من هذه الليلة ، إنني واثق أن همكم قبل هذه الليلة هو هم هذا الدين هو هم هذا الإسلام، هو هم هذه العقيدة، هو هم هذه الأمة.
ليكن همك يا أخي الكريم تربية الأجيال. ليكن همك يا أخي الكريم إعداد الأمة إعدادا لملاقاة أعداء الله . قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... ... . فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وإذا كانت النفوس كبارا ... .تعبت في مرادها الأجسام
وأحذر أن تكون: من يهن يسهل الهوان عليه ... .ما لجرح بميتٍ إيلام
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــ
العمل للدين واجب الجميع
عبدالوهاب الطريري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله طيبة مباركة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله عند كل نعمة.
والحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
وأشهد أن نبينا محمد عبد ورسوله، أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبع سنته واهتدى بهداه.(1/336)
أيها الأحباب: لا بد أن أشكر بين يدي هذه الكلمة شيخي وأخي وحبيب قلبي، شيخنا جميعا أبو عبد الله عائض بن عبد الله حفظه الله وتولاه.
والذي أكرم بدعوته، ونزل بساحته، وأعار اليوم ظهر منبره.
وسعى لهذا اللقاء المبارك على ساحة الحب في الله.
فإن المتحابين في الله تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
ثم إن أخي الشيخ عائض رجل بليغ، وبين البلاغة والمبالغة سبب وثيق وحبل واصل.
ولذا فإني لن أكافئه ثناء بثناء، فالبيان ميدانه الذي لا يبارى فيه، ومضماره الذي لا يجارى فيه.
ولكني أكافئك أبا عبد الله ثناء بدعاء:
فأدعو الله جل جلاله أن يجزيك ويثيبك وأن يقر عينك بعز الإسلام و ظهور المسلمين، وقيام كلمة الحق ظاهرة تقر بها أعيننا جميعا.
وأن يكتب لك ما احتسبت وأن يجزيك عنا خير ما جزى عباده الصالحين.
أما هذه الكلمة فهي بعنوان (العمل للدين مسؤولية الجميع)
إنها القضية التي ينبغي أن لا نمل طرحها ولا نسأم تكرارها حتى تتجذر في القلوب وتتشبع بها النفوس، وتصبح حية في مدارك الناس حاضرة في واقعهم.
إنها قضية العمل للدين وأنها قضية كل مسلم حتى يصبح العمل للدين قضية ساخنة في حياة المسلمين، تواجهك في كل لفتة وفي كل فلته.
إنها قضية استنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها يوم نفرت كل أمة إلى رسالتها وعقيدتها.
إنها قضية إحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة.
إنها قضية تحريك الدماء في هذا الجسد الضخم من الملايين المملينة من المسلمين الجغرافيين الذين خبا لهيب الإيمان في حياتهم، فإذا هم كما وصفهم نبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) غثاء كغثاء السيل.
إنها قضية جرد الحسابات لجهود شباب الصحوة الذين أشرقت بهم سماء الأمة بعد أن تكدرت سمائها بالقترة، فإذا بهم يتدفقون دفعات زاخة إلى مجالس الدعاة وحلَق العلم.(1/337)
ثم نبحث عن جهودهم فإذا جهودهم لا يتناسب مع عددهم.
وعطائهم لا يتناسب مع هذا الجموع وقوة زخمها.
إنها قضية رفع مستوى العامة للإحساس بأن الأمة في أزمة وهي أزمة ضعف الإيمان.
نقف أيها الأحباب مع قضية العمل للدين وأتناولها في محاور خمس:
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة، وليس مسؤولية طائفة، بل هو مسؤولية ملقاة على كاهل كل مسلم.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
ثم أعود إلى هذه المحاور بشيء من التمثيل والتدليل.
أولا/ العمل للدين قرين الانتماء إليه.
هذه قضية كانت واضحة محسومة في عقيدة الجيل الأول، في عقيدة أصحاب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يوم تلقوا هذا الدين غضا طريا من في محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
يوم كان أحدهم يبسط يده إلى اليد المباركة ليبايع محمدا ( - صلى الله عليه وسلم - ) على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يبيعه على غيرها، ثم يستشعر أن هذه البيعة قد ألبسته لباس الجندية ليعمل لهذا الدين.
وخذ هذا من خلال نماذج أعرضها عرضا سريعا:
قصة الطفيل بن عمر الدوسي رضي الله عنه حين جاء إلى مكة في أوليات الدين.
يوم كانت قريش تضرب حول هذه الدعوة سياجا شائكا من الحرب الإعلامية، والحرب الإعلامية تكتيك يمارس ضد الدعوة إلى دين الله ورسالات الله من القديم وإلى اليوم.
ونحن اليوم نرى نماذج للحرب الإعلامية القذرة الدنسة في الصحافة ضد الدعوة التي تدعو إلى تحكيم شريعة الله، فهي ترجم بالأصولية.
ترجم بالدعوة إلى قلب نظام الحكم في بلاد قلب فيها نظام الحكم فيها مرارا.
ترجم بالانتهازية، ترجم بأوصاف قذرة دنسة وأنواع من التهم المعلبة المستوردة.(1/338)
هذا النوع من المواجهة كانت تسلكه قريشا قبلا، فليس غريبا على الداعين إلى الله.
كانت قريش تتلقى كل وافد إلى مكة، فتقول له:
( إنا نحذرك غلاما بني عبد المطلب، إنه يقول كلاما يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، أحذر ومن أنذر فقد أعذر).
تلقت هذه الدعاية الطفيل بن عمر فما زال به الجهاز الإعلامي القرشي الكافر حتى عمد القطن فوضعه في أذنيه، ودخل الحرم.
ويشاء الله أن ينفذ كلمات رسوله على رغم أنف قريش وعلى رغم القطن الموضوع في أذني الطفيل. فيسمعُ قراءةَ الرسولِ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهو يترسلُ بكلام الله الذي فلق سبع سماواتٍ حتى تعطرت به أنحاءُ مكة، فسمع كلاما لم يسمع مثله قبل.
فأقبل على نفسه يراجعها ويقول عجبا إنني رجل عاقل لبيب فكيف أعير عقلي غيري؟
آلا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه فإن كان خيرا كنت أحق به، وإلا فإني أعرف كلام العرب شعرها ونثرها وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وقال:
إني قد سمعتُ قولَ قومَك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَ ما عندَك، فعرض عليه الرسولُ ( - صلى الله عليه وسلم - ) الإسلام وعلَمهُ القرآن، فأمن مكانه.
بإمكانِك أيها الأخُ المبارك أن تتسأل كم شُرع من شرائع الإسلام حين إذٍ، إنه التوحيدُ وشرائعُِ قليلةَ.
أسلم الطفيلُ مكانه ثم شعر بهذه المسؤولية للتو، فقال:
يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنى فأرسلني إليهم.
سبحان الله إن الرجلَ لم يتلقى الإسلام إلا الآن، ولكنَه شعرَ للتو أن هذه البيعةَ على الدخولِ في الدين تستوجبُ العمل له، فإذا به يتحولُ في مكانه داعيةٍ ونذيرٍ إلى قومه.
أرسلني إليهم إنهم قد كفروا بالله وفشا فيهم الزنى.(1/339)
فأرسلَه الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب إليهم خرجت الآية وإذا هي نور في وجهه، فإذا وجهه يضيء كأن في وجهه سراج، فقال يا رب يراها قومي فيقولون مُثلة، اللهم أجعلها في سوطي، فانتقلت إلى سوطه فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل.
وعرض الطفيل الإسلام على قومه فأسلم بعض قرابته واستعصت عليه عشيرته.
فماذا فعل ؟
هل شعر بأن هذا أمر طبيعي لا يستثير وجدانه ولا يحرك وجدانه؟
كلا، فقد ثارت في نفسه الغيرة على الدين فعاد إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يشكو إليه الحال ويقول له بحرقة:
يا رسول الله إن دوسا قد كفرت بالله فأدعو الله عليهم.
فرفع النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يديه الطاهرتين المباركتين التي ما دعت بإثم ولا قطيعة رحم وقال:
اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً، اللهم اهدي دوساً.
والشاهدُ آيها المبارك من هذه القصةُ استشعارُ الطفيلِ رضي اللهُ عنه بمجردِ أن دخلَ في الدين مسئولية الدعوة إليه.
فمنذ كم دخلنا في هذا الدين وما مدى استشعارنا لهذا الأمر؟
سؤال ندع الإجابة عليه إلى أعمالنا وهواجس قلوبنا.
أبو ذر رضي الله عنه جندب إبن جناده أعرابي جاء من قبلة غفار ينشد الهدى مظنته، أبو ذر الذي إذا أخرج بطاقته الشخصية ليعرف بنفسه يقول: أبو ذر جندب إبن جناده ربع الإسلام.
كيف يكون أبو ذر ربع الإسلام؟
يعني أنه كان في يوم من الأيام ربع العالم الإسلام.
ليس على ظهر الأرض في علمه مسلم إلا أربعة نفر هو رابعهم.
هذا الذي أسلم رابع أربعة أتى إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في هذه البداية المبكرة للدعوة فأخذ عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الإسلام، فأمره النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أن يغادر مكة لأن وجوده بين ظهراني المسلمبن في مكة وهو غفاري ليس بقرشي يشكل عبأ على الدعوة، والدعوة لا زالت في بدايتها، فليلحق بقومه.(1/340)
فماذا فعل؟ قال والله لا أخرج من مكة حتى أصرخ بها بين أظهرهم.
لقد كانت قريش تبني حاجزا ضخما من الصمت يحيط بدعوة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ).
فإذا بأبي ذر الذي لم يحمل من الدين إلا التوحيد يستشعر أنه يتحمل مسؤولية تقديم عمل ما للدين، وليكن هذا العمل تحطيم حاجز الصمت الذي تبنيه قريش سياجا على دعوة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ).
فيصرخ بالتوحيد بين ظهراني قريش، وفعلا كان ذلك:
فإذا به يغدو إلى الحرم وقريش في نواديها فيه فيصرخ وهو الرجل الأيد الشديد الجهوري الصوت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ويدوي ندائه في مكة فتثور إليه قريش من أنديتها، تقع عليه، وقع عليه هذا الجمع كله.
فيثور إليهم العباس رضي الله عنه وهو رجل موصول العاطفة بالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه:
فخاطب في قريش حسها التجاري، فقريش قوم تجار فقال:
كيف تقعون برجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة ؟
والله لأن مسستموه بسوء ليقطعون عليكم الطريق إلى الشام. هنا توقفوا.
فقام أبو ذر بعد أن راء الهلكة بأم عينيه.
هل قام وهو يقول الحمد الله الذي أنجاني، أين راحلتي إلى أرض قومي؟ كلا.
قال لا أذهب حتى أصرخ بها غدا.
وفعلا يعود من الغد ويصرخ بها، ويثورون إليه كما ثاروا بالأمس.
ويثور العباس فيخلصه - وكان إذ ذات مشركا - وبالأسلوب ذاته " إنه رجل من غفار وقوافلكم تمر بأرضهم ذاهبة وآيبة فدعو الرجل يلحق بقومه.
ويخلّص أبو ذر، فهل قال لقد نجوت هذه المرة يوم خلصني العباس، وسألحق بقومي وقد أديت ما علي، والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين؟ نعم حمد الله ولكن بالتزام أن يعود ثالثة.
يقول البناءون وجه واحد من البوية لا يكفي.
عاد أبو ذر ثالثا وليس على يقين أن العباس سيخلصه المرة الأخرى.
ولكنه على يقين أنه بعمله ذلك يقدم عملا إيجابيا للدعوة.
ولتنشق أذان قريش بالدعوة التي تحاصرها بالصمت.(1/341)
وليعرف الناس سماع الشهادة، ونداء التوحيد، والخبر برسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ).
فإذا به ينادي ثالثا فيثورون إليه ويقعون به فيخلصه العباس.
فيمم شطر قومه غفار، فماذا فعل عندهم؟
لقد بدأ بأسرته وقرابته فدعا أمه ودعا أخاه ثم هب إلى قبيلته يدعوها فاسلم نصفها.
أما النصف الأخر فقالوا:
أليس صاحبك (يعني رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - )) قد أمرك أن تذهب فإذا سمعت بأنه قد ظهر أن تلحق به؟
النبي الآن ثالث ثالثة ويقول لأبي ذر فإذا علمت أني قد ظهرت فالحق بي، اليقين.
قالوا أليس وعدك أنه إذا ظهر تلحق به؟ قال نعم.
قالوا نحن إذا ظهر آمنا لحقنا به، أما الآن فننتظر.
فلما ظهر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) آمنت غفار كلها فقالت بنو عمها قبيلة أسلم:
ليس بنا عما رغب به بنو عمنا غنى فأسلموا أيضا.
فقال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ): غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله.
هذا الإنجاز تحقق على يد رجل اعتقد أنه ربع الإسلام.
ربع العالم الإسلامي في وقته لم يحمل من النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلا التوحيد، ولكن حمل مع التوحيد الاستشعار للمسؤولية اتجاه هذه الرسالة، واتجاه هذه العقيدة وأن دخوله لهذا الدين يستوجب العمل له.
ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محددا بزمان ولا مكان وإنما هو وظيفة العمر كلها.
فإذا كان الانتماء للدين يستلزم العمل له، فالعمل للدين وظيفة العمر.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله ورسوله والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:
( إني دعوة قومي ليلا ونهارا) ثم يقول:
(ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا).
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، كل ذلك سخر للرسالة آلف سنة إلا خمسين عاما. الحياة كلها دعوة، ليل ونهار، علن وإسرار.(1/342)
ثم أرحل مع نبي من أنبياء الله ورسله يوسف عليه السلام:
يوسف الذي القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن.
أدخل السجن يوسف في قيوده.
يعاني في السجن لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، ومضاضة ظُلم ذوي القربى.
يعاني كل هذه الآلام ويكابدها في ظلمات السجن وثقل القيد، ولكن مع هذا كله، مع هذه المعانات كلها لا ينسى أبدا دعوته وقضيته ورسالته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة.
يتبين لنا فيها براعة الداعية وحسن تأتيه فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:
( رأيتني أعصر خمرا ).
( رأيتني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه).
( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ). فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
أولاً يكرس حسن ظنهما به فيقول:
( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه وهي رسالة الله وعقيدة التوحيد فيقول:
( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
أسماء سميتموها ليس لها حقائق، حتى إذا كرس عقيدته وبين أنه بريء هو وأبوه وجده مما هم عليه وأنه أتبع الرسالة الخالصة الموحدة لله.
ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:
( أما أحدكما فيسقي ربه خمرا،وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
قضي بعد ماذا ؟
بعد أن ألقى عليهم محاضرة مملوءة بالأدلة والبراهين والتثبيت في التوحيد.
سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، ألم السجن، ألم الغربة، قهر الظلم، لوعة البعاد ومع ذلك تبقى قضية نبوته ورسالته وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.(1/343)
بل إن أنبياء الله ورسله وكذا السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات وأشد الكربات كربا، وآلمها ألما، وأمضّها وأوحشها.
إنها أشد ساعة تمر بالإنسان منذ ولادته إلى مغادرته إنها ساعة الموت.
وهل ساعة أشد منها؟ وهل ساعة أعظم هولا ؟ وأكرب كربا ؟ وآلم ألما من هذه الساعة؟
ستفضي بك الساعةُ في بعض مرها ... ... ..إلى ساعة لا ساعة لك بعدها
هذه الساعة الموحشة المؤلمة الشديدة لا تنسي أنبياء الله ورسله دعوتهم وقضيتهم ورسالتهم لأن الدعوة وظيفة العمر كله، حتى في آخر لحظات العمر.
تبقى الدعوة والرسالة والعمل للدين حية لا تموت وهم يموتون.
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته.
حاله وهو يموت كيف مات من كان عنده؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا:
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) وبنوه حولَه فماذا فعل؟ وماذا قال ؟
( إذ قال لبنيه ) ماذا قال لهم؟
الأموالُ كيف تجمعونها ؟
القصورُ كيف تبنونها ؟
الثروات كيف تكدسونها أم التركة كيف توزعونها ؟
أم الزروع كيف تزرعونها ؟
كلا ليس شيء من ذلك ولكن هم الدين وقضية التوحيد:
( ما تعبدون من بعدي ).
هذا الهم الذي بقي يقضا في قلبه وهو يودع الدنيا، ( ما تعبدون من بعدي ).
وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومةِ أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم.
ولكن الهمُ اضخم في القلب ( ما تعبدون من بعدي ) ؟.
ويجيء الجواب الذي يقر عينه:
( نعبدُ إلهك والاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
ثم انظر إلى حالِ نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا ( - صلى الله عليه وسلم - ) :
الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
بعد هذه المسيرةِ الحافلةِ في بلاغ رسالات الله، وبعد أن اعذر إلى الأمة بأنه قد بلغها دينها وأدا إليها الأمانة التي أتمن عليها، تهي للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.(1/344)
فإذا به في أخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية وهو متغطي بها ( - صلى الله عليه وسلم - )، ويقول ابن مسعود :
( يا رسول الله إنك لتوعك كما يوعك رجلان منا، قال نعم ذلك أن لي أجر أثنين).
وحتى كان الماء يحمل إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالقرب يصب على بدنه ليطفئ استعار الحمى في بدنه.
بدنُ استعرت فيه الحمى وأنهكَه المرض، وانهزمت فيه العافية.
ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة وهم الرسالةِ والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.
ولا يخبو في البدن الذي أنهكه المرض، فإذا به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يذكرُ هم أمته ورسالتِه في أخرِ يومٍ يعيشُه على الدنيا.
إذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرجَ إلى الأمةِ يومَ الاثنين، اليومَ الذي مات في ضحوته.
إن شئت فقل في أخرِ ساعاتِ حياته، يخرج يتفقدُ أمتَهُ!
أين تفقدها في الأسواق؟ كلا
تفقدها وهي تصلي لله في أخرِ فرضٍ تصليه أمةُ محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ونبيُها حيُ على الأرض.
يتحاملُ ( - صلى الله عليه وسلم - ) على الجسدِ الواهن الذي انهزمت فيها العافية وأنهكه المرض.
يتحامل عليه لينظر أمته وهي تصلي نظرةَ وداعٍ يتفقد فيها دينها وصلاتها واعظم أركان الدين بعد التوحيد.
خرج ( - صلى الله عليه وسلم - ) على المسلمين وهم يصلون خلف ذلك الرجلِ الطيبِ المبارك الخاشع أبي بكرٍ الصديق وهو يقف في موقف الرسولِ ( - صلى الله عليه وسلم - ) يقطع القرآن ببكائه.
والصحابةُ يخيمُ عليهم جو من الحزنُ والوجوم لغيابِ رسولِ ( - صلى الله عليه وسلم - ) خمسة أيام عن محرابه الذي طالما وقف فيه يقطع آيات القرآن.(1/345)
فما فجعَهم وهم وقوف إلا وسترُ حجرةِ رسولِ الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يرفع و إذا بالواقف محمدُ ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، الذي غاب عنهم خمسةَ أيام تحت وطئة المرض، إذا به واقفُ يتحاملُ عل جسدِ منهك بالمرض.
ينظر إليهم فماذا رأى، رأى أصحابه وقوفاً كما علمهَم، خشوعاً كما أدبَهم، مطرقين خشوعا لأدب القرآن، وموقف الصلاة، فرأى ( - صلى الله عليه وسلم - )، المنظر الذي ابتهج به قلبُه وقرت عينُه، واطمأنَ إلى أن رسالَته في أيدٍ أمينةٍِ و أن أمتَه واقفةُ على الصراطِ الذي رسَمهُ لها.
فإذا بالوجه الشاحبِ من المرض يطفحُ عليه البشر والسرور، فيتهللُ بإشراقةِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ما رأى الصحابةُ منظراً كان أعجبَ إليهم منها، حتى قال أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه:
(ما رأينا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجهِ رسولِ الله ( - صلى الله عليه وسلم - )، حينَ نظر إلينا يضحك كأن وجهَهُ ورقةُ مُصحف).
( - صلى الله عليه وسلم - ) إنه الهمُ للدين والتفاعلُ مع الدين يطفحُ فرحاً وسروراً على وجهٍ أنهكه المرضُ وشاحب بالألم.
وكاد الصحابة أن يفتتنوا بهذا المنظر، فإذا بالصفوف تنشق لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ليتقدم إلى محرابه الذي طالما وقف فيه، فإذا به يشير إليهم أن أتموا صلاتكم.
ويرخي ستر حجرته فكانت أخرَُ رأية رأها الصحابةُ لرسولِ الله ( - صلى الله عليه وسلم - ).
بل إنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) إذ كنا نقول أنه حملَ الأمةِ في أخرِ ساعاتِ حياته.
فإننا نقولُ الآن إنه حملُ هم الأمة في أخرِ لحظاتِ حياته.
إذا به ( - صلى الله عليه وسلم - ) ينفقُ أخرَ الأنفاسِ وأخرَ اللحظاتِ وأخر الثواني نصحا للأمة ونداء للأمة لا ينسى هم أمته وقضيته ورسالته.
نزل به الموت فاشتد به الكرب حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
( ما تمنيت يسر الموت لأحد بعد ما رأيت من حال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - )) لشدة وقع الموت عليه.(1/346)
كان يدخل يده في الإناء الذي فيه الموت ثم يمسح وجهه ويقول:
( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على هذه السكرات ).
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عن دعوته ولا عن عقيدته ولا رسالته ولا أمته فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ وترويه الدنيا في أخر لحظاتِ عمره، ينادينا نداءً شق حُجبَ الزمن حتى أسمعنا:
( الله اللهَ الصلاة الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم ) حتى حشرجَ بها صدرُه وغرر بها حلقُه واحتبسَت بها نفسه. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات وآخر أنفاس الحياة.
هذا شأن أنبياء الله ورسله وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر، فقهه وثقفه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوما منها مهدرا ليس فيها عمل للدين.
وخذ مثالا واحد على ذلك جعفر أبن أبي طالب أبن عم رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ):
قضي نحوا من إحدى عشرة سنةً في المنفى في دار البغضاء البعداء في الحبشة.
لم يأخذ أثنائها إجازة عرضية ولا مرضية ولا اضطرارية ، بقيَ إحدى عشرة سنةً متواصلةً يعاني ألم الغربة ولوعة البعاد كلُ ذلك في ذات الله حتى إذا حانت الفرصةُ عاد في السنةِ السابعةِ للهجرة.
عاد في السنة التي فتح فيها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) خيبر، وما يدريك ما فتح خيبر ؟
فتح حيبر كان بداية غنى للمسلمين، ما عرفوا الشبع إلا عندما فتحت خيبر.
فتحوا خيبر فكانت عزا للإسلام وفتحا للمسلمين، ولكن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يصف فرحة لقائه بجعفر فيقول:
( لا أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ).
فرح النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بقدوم جعفر فرحا شديدا حتى إن فرحه به يساوي فتح خيبر.
ولكن بما كافأ النبيُ ( - صلى الله عليه وسلم - ) هذا القادَمَ المولعَ بالغربة والبعاد، الذي أعطى للدين عشر سنواتً من الغربة لوعة وأسا، بما كافأه؟(1/347)
هل أصدر مرسوما كريما بتعيينه أميرا على البلدة الفلانية؟
أم أصدر أمره السامي بتعيين المخصصات التالية: أولا قصر، ثانيا مخصصات شهرية منتظمة. ثالثا كل متع البلاط ثمنا للغربة والبعاد.من اللوعةِ والغياب والغربة.
هل اصدر أوامره بأن يمنح جعفر إجازة لبقية العمر فقد قدم ما عليه، وأدا للدين ما يكفي تقديمه وأداءه ؟
كلا، كلا! كافأه مكافأة من نوع آخر. ما هي؟
كافأه بأن أتاح له الفرصةً مرة أخرى ليعمل للدين ويقدم للدين.
هذه المكافأة التي يحسنها ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويبتهج بها أصحابه.
فإذا به يعين في منصب النائب الأول للقائد الأعلى للقوات المسلحة المتوجهة إلى مؤته.
ويذهب حفيا بهذا المنصب، فرحا بفرصة المشاركة للعمل للدين، فحياته كلها أوقفت لله.
ليس فيها يوم يسمى إجازة من العمل للإسلام.
ويحدث له هناك العجب!
يقتل القائد الأعلى زيد ابن حارثة.
(1/55)
فتتحول المسؤولية إليه، فينزل عن فرسه فيعقرها فكان أول عقر في الإسلام.
ثم يتقدم والراية في يمناه، ينشد نشيد الداخل في الجنة:
يا حبذا الجنة واقترابها ... ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنى عذابها ... ... علي إن لاقيتها ضرابها
فتقطع يده اليمنى، فيتلقف الراية باليد اليسرى، فتقطع فيحتضنها بيديه، تنوشه الرماح، تقطعه السيوف، تضربه السهام، وكل ذلك وهو صابر لتبقى الراية مرفوعة.
حتى يتقدم منه جندي رومي فيقده بالسيف نصفين.
ثم يصف لنا عبد الله أبن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري مشهد تلك الجثة المعطرة وذلك الإهاب الممزق فيقول:
( وقفت على جعفر يوم مؤتة وإن في جسده لبضعا تسعين ضربةً ليسَ بها واحدةُ في قفاه)
بضعا وتسعين ضربة كلها يتلقاها مقبلا غير مدبر، لم يعرف العدو له قفا ولا رأى له ظهرا.
إنها حياة عاملة للدين لا تعرف هدنة في المواجهة مع كل عدو للدين.
ثالثا/ العمل للدين ليس وقفا على فئة معينة:(1/348)
من شبه الشيطان التي يرجف بها على كثير من المسلمين أنه يلقي في روعهم أنهم ليس من الفئة التي تعمل للدين، العمل للدين مسؤولية أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة.
العمل للدين مسؤولة الهيئات ورئاسات الإفتاء ومجموعة من الدعاة ذوي العمل الدعوي الجماهيري.
أما أنت فمصدر للتلقي يكفيك أن تصلي الصلوات الخمس، وتصوم رمضان وتحج البيت في العمر مرة.
هكذا يرجف الشيطان على البعض موسوسا:
ثم إنك تذكر يوم كذا وكذا ماذا فعلت ؟
ألا تذكر غدرتك ؟
ألا تذكر خطيئتك ؟
ألا تذكر ذنبك، أمثلك مؤهل لأن يعمل للدين بكل هذه الأقذار بكل هذه الخطايا، بكل هذه الذنوب؟
فما يزال الشيطان يلقي عليه قصيدة في هجائه، حتى يستشعر أنه ليس من الفئة التي تعمل للدين، إذ ليس هو أهلا لذلك.
أيها الأخ المبارك:
إن العمل للدين ليس مصنفا إلى شرائح وفئات.
فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين، مهما كان عليه، ومهما كان فيه من خطئ ومهما اعتراه من تقصير فينبغي أن لا تضيفَ إلى أخطائِك خطاءً أخرَ وهو القعود عن العمل للدين.
وينبغي أن لا تضيف إلى ذنوبك إن كنت استوحشت من ذنوبك ذنبا آخر وهو خذلان العاملين للدين.
فأعمل معهم، فلعلَ عملك لدين أن يطفئ حرارة الذنوب وتكاثر السيئات.
وخذ لذلك مثالين أثنين أعرضهما عرضا سريعا:
أولا كعب ابن مالك:
ذلك الصحابي ارتكب خطاء بأنه لم ينفر مع رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) والله يأمرهم أن ينفروا معه يقول:
( مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله، اثاقلتم إلى الأرض ).
وقفل النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) راجعا من المعركة فجعل كعب يزوق في خاطره كلاما، ويجمع في نفسه أعذارا ليعرضها على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند المسائلة التي كان موقنا أنه سيُسائلها.
وإذا به يجد نفسه بين يدي رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يستقبل هذا السؤال: يا كعب ما خلّفك؟(1/349)
وإذا بكل هذه الأعذار تتبخر، وإذا بكل هذا الكلام يتلاشى، وإذ به لا يجد إلا الصدق.
فيقول يا رسول الله لم يكن لي من عذر.
فيجئ به حكم الله أن يخلف، فيقاطع لا يكلم فكانت حاله كما وصفها الله:
( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم).
كان يتقلب في الأسواق لا تفرج له شفة ببسمة، ولا تنبس له شفة بكلمة، حتى قال تغيرت علي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، وتغير علي الناس فما هم بالناس الذين أعرف.
وهذا موقف - أيها الأخ الحبيب- لم نجربه، لكن لو جربناه لوجدناه موقفا قاسيا بالغ المرارة أن يتقلب المرء بين الناس فلا يجد من يرد عليه سلاما أو يفضي إليه كلاما.
وحمل كعب مرارته كلها إلى أحب الناس إليه، ابن عمه أبا قتادة رضي الله عنهما.
فتسور عليه الحائط ودخل عليه في بستانه، ولم يكن هناك رصد من المباحث يسترقون السمع أبدا.
ولم تكن هناك أجهزة للاستخبارات تطلع على الموقف.
كان هناك اثنان فقط أبو قتادة وكعب رضي الله عنهما كل منهما يصف الأخر بأنه أحب الناس إليه، أقبل إليه كعب تلقاء وجهه يقول السلام عليك ورحمة الله وبركاته ي أبن عم.
قال كعب: فو الله ما رد علي السلام.
فإذا بالمرارة تتكسر في صدره حتى أصبح مع نفسه في صراع مرير، فإذا به يواجه أبا قتادة ويقول:
يا أبا قتادة أنشدك بالله أتعلم أني أحب الله ورسوله؟
فيجيبه أبو قتادة جوابا مجردا حافا جافا ليس فيه أي كلمة من فضول:
يقول ( الله ورسوله أعلم ). قال كعب: فاستعبرت عيناي وحق له أن يبكي.
هل تصورنا الآن هذا الظرف النفسي الذي يعيش فيه كعب.
وفي وسط هذه المحنة والمرارة يأتي إليه رسالة ملكية ممن ؟ من ملك غسان.
وقد كان شعراء المدينة وفي مقدمتهم حسان رضي الله عنه يذهبون إلى ملك غسان يمدحونه بالقصائد الطوال ليحضوا منه بلفتة أو صلة.
إذا به يرسل رسالة إلى كعب يأتي بها مندوب خاص يسلمها إليه فيقرأها كعب فإذا نص الرسالة كالتالي:
((1/350)
إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار مهانة، فالحق بنا نواسك ).
الحق بنا لتعين ضمن الحاشية في البلاط، تتمتع بكل ما في بلاط الملوك من لذة، بكل ما في بلاط الملوك من شهوة، بكل ما في بلاط الملوك من ترف، تتمتع بكل مميزات البلاط، وتكون خدينا للملك.
الحق بنا لتنال المخصصات والجوائز والصلاة، الحق بنا نواسك ونعوضك عن كل هذه المقاطعة التي تعيشها، فماذا قال كعب لحامل الرسالة:
هل قال انتظر إلى الغد حتى أفكر في أمري؟
أم قال انتظر حتى أصلي صلاة الاستخارة ؟
أم قال انتظر حتى أستشير ذوي الرأي من أهلي ؟
أم قال انتظر حتى أنظر ما ينجلي عليه الأمر، فإما أن نبي الله أنهى المقاطعة وبقيت في قومي، وإلا نظرت في أمري؟
لم يجب بأي جواب من هذه الأجوبة، ولكن استرجع وقال:
إنا لله و إنا إليه راجعون لقد طمع بي رجل كافر.
الولاء للإسلام، الولاء للإسلام الذي لا يهن حبله ولا تخبو ناره مهما قست الظروف وكلحت الأيام واشتدت المصائب يبقى الولاء للإسلام أعظم من هذا كله.
أعظم من كل محنة وأقوى من كل إغراء وأشد من كل مواجهة.
لقد طمع بي رجل كافر، فما هو حق الرسالة ؟
تحفظ في الأرشيف ؟ كلا ، تحفظ في التنور وهو مشتعل، يقول كعب:
فسجرت بها التنور ولأتحمل لوعة المقاطعة وأسى الهجران وألم النظر إلى وجوه لا تتكلم، وشفاه لا تتبسم. أتحمل كل ذلك ما دمت موصولا بالله، أحتفظ بشرف الانتماء إلى هذا الدين.
أليس هذا درسا لكل صاحب خطيئة ولكل مقارف ذنب أن انتمائه للإسلام أقوى وأعظم وأشرف وأزكى عند الله من كل سبب في الأرض ونسب فيها ؟؟ بلا.
ثانيا قصة أبي محجن الثقفي:
قصة عجب من العجب، هذا الرجل يوجه رسالة إلى كل رجل من المسلمين، إلى كل الذين يظنون أن مقارفة بعض الصغائر أو الوقوع في بعض الكبائر يعطيهم إجازة من العمل للدين مفتوحة إلى يوم الدين، كلا.(1/351)
أبو محجن رجل ابتلي بإدمان الخمر، فكان لا يقلع منه ويؤتى به فيجلد ثم يعود ثم يجلد ثم يعود، ولكنه لم يفهم أن إدمانه للخمر يعطيه عذرا ليتخلى عن العمل للدين.
فإذا به يحمل سلاحه ويسير مع الموكب المتيمن صوب القادسية ليقاتل هناك الفرس وليرفع لا إله إلا الله، وليقدم دمه بسخاء للا إله إلا الله.
وهناك يقع بالمطب مرة ثانية، يشرب الخمر وهو مع الجيش.
ويؤتى به إلى سعد رضي الله عنه ثملا.
إن لله وإن إليه راجعون، جندي على مشارف القتال يؤتى به سكران، ما هي عقوبته؟
عقوبته يحرم من المشاركة في المعركة، هو ما جاء من أعماق الجزيرة إلا ليقدم دمه ثمنا للا إله إلا الله، ومع ذلك يسكر، إذا عقوبته جزاءا له وردعا لأمثاله لا يشارك في المعركة.
وكانت هذه عقوبة أليمة، ليست عقوبة تعطيه عذر وسلامة من آلام القتال وأخطار الموت.
وتصطف الجيوش للمواجهة وقد كان موقع القائد، كان مسرح لعمليات في وسط المعركة، لم تكن غرفة العمليات ولا مسرح العمليات في أماكن نائية بعيدة عن كل خطر محتمل.
فقد كان المسلمون يحرص قادتهم على الشهادة أكثر من حرس الجنود، ولم تكن الشهادة من نصيب الجندي أبو شريط وأبو شريطين، بل من نصيب القائد الأعلى أولا.
فإذا بسعد ينتظر أن يشارك في قلب المعركة، ولكنها يبتلى رضي الله عنه بالقروح في جسده فلا يستطيع أن يثبت على الخيل، فتوضع له مقصورة يدير منها العمليات عن بعد.
ومع ذلك لم يسلم من عتب بعض المسلمين عليه، حتى قال أحدهم يصف انتهاء المعركة:
وعدنا وقد آمت نساء كثيرة ... ... ونسوة سعد ليس فيهن أيّمُ
عدنا ونسوة كثير قد ترملت من أزواجهن، أما نسوة سعد فابشروا فسعد بخير وعافية، مع أن الذي أقعده عن المشاركة المرض، لم يقعده شيء آخر.(1/352)
وبدء القتال، فقعقعت السيوف، وضربت الرماح، ووقعت السهام وهزمت الخيل، وثار غبار المعركة وعلت أصوات الفرسان، وفتحت أبواب الجنة، وطارت أرواح الشهداء، وأبو محجن يرى ذلك كله فتحركت أشواقه للموت وللشهادة وللقتال فوثب ليشارك فقال له القيد في رجله:
مكانك، محكوم عليك بعدم المشاركة لأنك شربت الخمر، فعاد وقد تكسرت أشواقه في صدره، وعانى في داخل صدره ألما ممضا أن تبدأ المعركة وليس له نصيب فيها، فيعبر عن هذه الآلام بأبيات يقول فيها:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنى ... ... وأترك مشدودا إلى وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلّقت ... ... .مصارع دوني قد تصم المناديا
وترى امرأة سعد هذا المشهد، فيقول لها:
يا سلمى فكي قيدي وأعطيني فرس سعد وسلاحه، فإما أنا رجل قتلت فاسترحتم مني، وإلا والله إن أحياني الله لاعودن حتى أضع رجلي في القيد.
وفعلا تفك قيده وتعطيه فرس سعد وسلاح سعد، فإذا بميدان المعركة يشهد فارسا يكر فيها يضرب ضرب المتحرف للقتال الذي جرب ألم الفطام منه. فيعجب سعد ويقول ما أرى:
الضرب ضرب أبي محجن والكرُ كر البلقاء (فرس سعد)، ولكن أبا محجن في القيد والبلقاء في الاسطبل.
وتنتهي المعركة ويأتي قواد المعركة يقدمون التقارير لسعد، فإذا به يسأل من الفارس الذي رايته كأبي محجن ضربا على فرس كالبلقاء؟
ويأتيه الجواب من سلمى ذلك أبو محجن وتلك البلقاء، أما كان في القيد؟ بلا ولكن كان من شنه كذا وكذا.
فيكبر سعد رضي الله عنه هذا الموقف، ويقوم خال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى أبي محجن يفك بيديه الطيبتين القيود من رجل أبي محجن ويقول: قم فو الله لا أجلدك في الخمر أبدا. فقال أبو محجن، سبحان الله لا أجلد في الخمر؟
كنت اشربها يوم كنت أطّهر بالجلد، أما الآن فو الله لا أشربها أبدا.
وكيف يجرئ أن يشربها وقد جرب عقوبتها التي كانت الحرمان من المشاركة في العمل للدين.(1/353)
فهل نفقه نحن بكل أخطائنا وعيوبنا ونقائصنا أن كل ذلك لا يؤهل لأن ندع العمل للدين، بل ينبغي أن يخز قلوبنا بأن علينا أن لا نضيف ذنبا آخر وتقصيرا آخر وهو ترك العمل للدين.
رابعا/ العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دورا.
يفاجئك كثير من المسلمين حينما تطرح عليه هذه القضية أن يتساءل أنا ما دوري ؟
فلستُ بالعالم فأفتي الناس.
ولا بالخطيب فأخطب بالناس.
ولا بالداعيةِ فأدعُو الناس. ما دوري ؟
والجواب أنه ينبغي أن نزيلَ من أذهانِنا وهماً كبيراً وهو أن العملَ للدين هو العملُ الجماهيري فقط، العمل للدين في الخطبِ والمحاضرات والنوات ومجالس الإفتاء وبرنامج نور على الدرب. كلا.
العملُ لدين أدوارٌ كثيرةُ، ومسارب الدعوة بعددِ أنفاسنا.
أيها الأخ الكريم ألا رأيت إلى ذلك الطائرُ الأعجم الهدهد.
الذي كان يعيشُ في كنفِ سليمانَ عليه السلام، ذلك الرسول وذلك الملك الذي سخر اللهُ له الريحَ، وسخر له الجن، وأتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العلمين.
لم يقل الهدهد ما دوري أنا بجانبِ هذا الرسول ؟
ما دوري أنا بجانبِ هذه الإمكانات ؟
ماذا أفعل يكفي أن أبقى طائراً في حاشيةِ الملك، كلا.
لقد جاء هذا الطائرُ إلى نبيِ اللهِ سليمانَ يخاطبه بكل ثقةٍ يقول:
( أحطتُ بما لم تحط به )، ثم يصف إنجازه فيقول:
( وجئتك من سبا بنباءٍ يقين، إني وجدتُ امرأةً تملِكُهم و أتيت من كلِ شيء، ولها عرشُ عظيم )
ما هي المشكلة:
( وجدتُها وقومَها يسجدون لشمسِ من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ).
ثم يلقي خطاباً استنكارياً قائلاً : ( ألاْ يسجدوا لله الذي يخرج الخبو في السماوات والأرض ).
فإذا كان هذا الهدهد قد وجد له دورا، افتعجَزُ أنت بما آتاك الله من ملكات وقدرات أن تجدَ لك دوراً في خدمة هذا الدين والعمل له؟(1/354)
ثم أنظر إلى ذلك الرجل الذي أخبرنا الله خبره، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وفي المدينة ثلاثة رسل، أرسل الله إلى تلك المدينة ثلاثة رسل، ليس واحدا ولا أثنين بل ثلاثة.
ومع ذلك لم يقل هذا الرجل ما دوري بجوار ثلاثة من رسل الله. فجاء كما أخبر الله:
( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، قال يا قوم أتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون)، فلم يفهم هذا الرجل أن وجود ثلاثة من رسل الله في ميدان واحد يعذره من الدعوة إلى الله، بل دعا مع دعوة ثلاثة رسل.
فوجود الدعاة في الساحة، ووجود العاملين في الساحة، لا يعذرك في القعود، بل يوجب عليك مسؤولية التعاون معهم ونشر دعوتهم وحمل رسالة الله ورسالة أنبياء الله التي يبلغونها.
خامسا/ أمثلة من الواقع ونماذج من العمل.
التي يمكن أن يقوم بها كل أحد وأن يقاس غيرها عليها، أذكرها سردا سريعا:
- الاهتمام والتوتر العاطفي:
هل بحثت داخل همومك وعواطفك عن هم الإسلام بينها ؟
كم تساوي مساحته في خارطة عواطفك واهتمامتك ؟
هل نلقاك في يوم من الأيام مشرق الوجه منطلق الأسارير يطفح البشر على محياك، ويفيض السرور على وجهك، فنسألك:
ما الذي سر خاطرك وأبهجك ؟
أنجحت في دراسة ؟ فتقول لا.
فنقول بارك الله عليك تزوجت ؟ فتقول لا.
فنقول لعلك كسبت في صفقة تجارية ؟ فتقول لا.
أبدا ليس شيء من ذلك ولكني فرحت بعز للإسلام سمعت به فهو الذي أفرحني.
هل نلقاك يوما مبتئسا كاسف البال حزينا مهموما، فنسألك:
أخسرت في تجارة ؟ أو رسبت في مادة ؟ أو مات لك قريب؟ فتجيب :
أبدا ليس شيء من ذلك ولكن آلمني وأغضبني وأحزنني أن حرمة من حرمات الله انتهكت.
أفلا يحزنني ذلك ؟ بلا والله يحزن وتنفت له القلوب كمدا إذا كان فيها حياة.
يقول سفيان الثوري رحمه الله:
( إن كنت لأرى المنكر لا أستطيع تغييره فأبول دماً )، تنفت كبده حرقة.(1/355)
ليس الإنكار في القلب أمرا سلبيا مجردا، ولكن أن تذوب حشاشات النفس كمدا على حرمات الله أن تنتهك.
- هل يوجد هم الدين وقضيته في دعائك ؟
عندما تضع جبينك في الأرض تهاتف الله بدعائك ومسألتك وحاجاتك، لا يسمع أحد من خلق الله بنجواك وشكواك ودعائك إلا الله، لا يسمع بها إلا ربك، فإذا تذكر قضيتك وهمك والرسالة التي تعيش لها فتذكر دينك، فترفع إلى الله في سجودك الدعاء:
بأن يعز الإسلام وينصر المجاهدين.
ويؤيد الدعاة الصادقين ويخذل ويكبت كل من ناوأ الدعوة وكل من حاصر الكلمة وكل من وقف في وجه رسالة أنبياء الله.
هل رفعت إلى الله هذا الدعاء في سجودك؟هل رفعته إلى الله وأنت باسط يديك في أدبار الصلوات ؟
أيها الأخ المبارك، إن الله يقول: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء ).
فهل بعد هذه الضرورة التي تعيشها أمتنا ضرورة؟
وهل بعد هذا السوء الذي تعايشه الأمة سوء ؟
ومن الذي يكشفه غلا الله، ومن الذي يجيب ضرر هذه الأمة فيرفعه إلا الله.
النصارى أمسكوا بمقاليد أمتنا اليوم.
فإذا هم أولياء أمورنا، مصالحنا بأيديهم، قضايانا أوراقها في أيديهم.
اليهود الذين لم تقم لهم دولة
منذ آلاف السنين تجمعوا اليوم وأقاموا لهم دولة في أحضان أمتنا.
الرافضة مجوس هذه الأمة.
الذين عاشوا ألم القهر والخسف سنينا عددا وعقولا طوالا، إذا بهم اليوم يرفعون رايتهم ويستعلنون بدعوتهم ويمدون قضيتهم وعقيدتهم الكاسدة الفاسدة في أماكن من عقر دار الإسلام وعقر التوحيد حتى استعلنوا على صعيد عرفات بلعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أبعد هذه ضرورة ؟
أبعد هذا السوء سوء؟.
فهل صدعنا السماء بالدعاء ؟ إن هذه الأمة لا تخلوا من عبد صالح لو أقسم على الله لأبره.
ولكن هل ضججنا بالدعاء ؟ هل حظر هم الدين وقضيته في دعاءنا؟؟
- توزيع الأشرطة والكتيبات.(1/356)
هل عمدت أيها الأخ المبارك إلى راتبك فإن كان راتبك بالمئات أخرجت منه بالريالات، وإن كان راتبك بالألوف أخرجت منه بالعشرات، ولكن يكون موردا منتظما، تذهب إلى مكتبة التسجيلات لتشتري شريطا تنتفع به، فتذكر أنك صاحب دعوة وصاحب قضية فتقول:
هذا الشريط لي، ولكي داعية فأشتري شريطا آخر للدعوة من المصروف الثابت الذي عينته لذلك، كم شريطا سيوزع وكم كتبا سيوزع في مجتمعنا؟
إن اضخم شركة نشر ستعجز عن تضاهي هذا المجهود لو وجد في حياتنا.
- حلق تحفيظ القرآن الكريم.
هل تنادى لها شباب الصحوة ؟ الذين يتساءلون دائما، ما دورنا؟ هل انتدب لها فئام منهم فقالوا بلسان حالهم ومقالهم، سنكفي الأمة هذه الثغرة وعلى بقية الشباب أن يكفونا ثغرات أخرى.
فأقمنا حلق القرآن التي يوجد فيها الشباب الصالح الناصح الذي يعلم فتيان المسلمين القرآن.
القرآن وتعظيم من انزل القرآن.
القرآن وحب من جاء بالقرآن.
القرآن والولاء لأهل القرآن.
القرآن والبراءة من أعداء القرآن.
وإذا بنا نمارس خطة بعيدة المدى، بطيء لكنه فعال، فنجد أنفسنا بعد سنوات ندفع إلى الساحة بمئات الحفظة وعشرات من العلماء والفقهاء.
إننا قد تخلينا مع الأسف معاشر الشباب عن هذا الواجب، وعهدنا به إلى أخوة لنا يقوم حاجز اللغة بينهم وبين هذه الرسالة، أتينا بالعجمان من أنحاء شتى ليعلموا أبناءنا القرآن.
فعلموهم القرآن حروفا ولم يعلموهم القرآن قضايا. وهذه مسؤولية نتحنملها.
- مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
هل استشعرنا هذا الأمر، وأنه قضيتنا جميعا، وليس مسؤولية الرئاسة أبدا.
إنه مسئوليتنا جميعا بتكليف من الله جل جلاله، فإذا بالأمر بالمعروف يصبح واقعا حيا ملموسا في الحياة لا يحتاج إلى إن ولا إلى استئذان سلاحنا فيه الكلمة الطيبة، والكلمة الناصحة التي هي أحسن، وهي بضاعتنا وهي سلاحنا.(1/357)
حين إذ سنجد أصحاب المنكرات يستخفون بمنكراتهم ولا يعلنونها، لأن الكلمة الناصحة والدعوة الخالصة تحاصرهم وتضيق على منكرهم.
- توزيع النصائح الكتابية.
النصائح الكتابية إلى أصحاب المنكرات خصوصا أصحاب المنكرات العلنية:
أصحاب مكتبات الفيديو.
أصحاب البقالات التي تبيع الدخان، والمجلات الخليعة
أصحاب المكتبات التي فيها الكتب المنحرفة، والمجلات المدمرة.
هل تواصلنا معهم بالرسائل الناصحة، وأنتدب الشباب إلى استكتاب العلماء النصائح التي تفيض بالأخوة والمحبة والولاء ثم قاموا بتوزيعها إليهم.
فإذا بصاحب المنكر يتلقى خطابا بإسمه الشخصي يخاطب فيه إيمانه ومحبته لله ولرسوله ويناشده أن يكفي الأمة هذا الدمار الذي بتاجر فيه.
إن هذا لو وجد لكان نوعا من الدعوة يحاصر المنكر ليقضي عليه.
- دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
كم منا الذين يجيدون اللغات الأجنبية، ويتلمظون بكلماتها وبين كل ثلاث كلمات كلمة أجنبية، ثم يسال بعد ذلك ما دوري أنا فلست متخصصا حتى أخدم الإسلام؟
هل دعوة يوما من الأيام واحدا من غير المسلمين الذين تمتلئ بهم الشركات والمؤسسات والإدارات الحكومية؟
إنها أيها الأخوة فاحشة نقارفها عندما يأتي فئام من غير المسلمين، ويبقوا عندنا سنينا عددا، ثم يعود أحدهم ولم يسمع يوما واحدا شخصا واحد يدعوه إلى الإسلام.
ولذلك ( ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا )، عندما لم ندعوهم دعونا.
فرأينا النشرات التنصيرية والصلبان توزع على أبناء المسلمين في اللغة العربية وفي هجر نائية من قبل القوات المشتركة المشاركة في حرب الخليج.
أما نحن فدورنا في الدعوة مع الأسف لا زال دورا كسيحا، إنك تفاجئ عندما تسمع عن إسلام مجموعة من نصارى شرق أسيا، وتسأل كثيرا منهم هل دعاك أحد للإسلام؟
هل عرض عليك أحد الإسلام؟
فيقول لا ولكن فكرت فاهتديت أو رأيت منظرا فأعجبني.(1/358)
ولقد عجبت عندما أخبرني أحد الأحباب المهتمين بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام عن قصة إسلام شخص من الفلبين، قال له من دعاك إلى الإسلام؟ قال لا أحد.
قال ما رغبك في الإسلام؟
قال مررت بمسجد كانت دورة المياه خارجه، فرأيت شخصا يتوضأ فيغسل رجليه، فقلت هذا دين نظيف الذي يغسل أصحابه حتى أرجلهم. فاهتممت بالإسلام.
هذا المنظر الساذج البسيط كان سببا بهداية شخص، فما بالكم لو نفر فئام منا إلى هؤلاء فكاثروا عليهم النشرات ووزعوا عليهم المطويات، حتى من لم يسلم منهم على الأقل ثارت الشبه في فهمه، أة على الأقل قانت عليه الحجة.
- زيارة الشباب في أماكن تجمعهم.
هناك أماكن يتجمع فيها الشباب مثل الشواطئ والأرصفة والمنتزهات (والاستراحات) يتجمع فيها جموع من الشباب أسنانهم متقاربة، هوايتهم متقاربة من إخواننا الذين نحبهم ونرثي لحالهم ونشفق عليهم إذا رأينا طول غفلتهم.
هذه الفئات من المجتمع تحتاج منا إلى اختراق، أن نخترقهم وأقول عن تجربة أننا وجدنا كثيرا منهم ذوي معادن ثمينة ولكن علاها الصدى، فما أن تحك الصدى عنها حتى يتكشف لك معدن ثمين.
فهل قمنا بواجب اختراقهم وزرناهم في أماكن تجمعهم،ى سلام وطيب كلام وإهداء كتيب أو شريط.
إن هذا العمل سيكون عبارة عن اختراق تجمعات لا زالت تنظر إلى الشباب الصالح على أنه فئة مُغلقة على نفسها.
- الاستفادة من العلاقات الاجتماعية.
فالعلاقات الاجتماعية ( في مجتمعات المسلمين ) متميزة فلكل منا أعمام وأخوال وأرحام وأصهار وأزواج بنات وأزواج أخوات، كل هؤلاء تشبكه بهم علاقات متشابكة.
هل استغللنا هذه العلاقات وهذا الوضع الاجتماعي المتميز فقمنا بمسؤولية النفرة، وكل منا يقول أنا أكفي الأمة الإسلامية أسرتي ومجتمعي، فأنتدب للضالين منهم فأنصحهم، والمنحرفين منهم فأقومهم.
وأنشر الهداية في بيوتاتهم.
- مراعاة أحوال الناس الدنيوية.(1/359)
في (مجتمعات المسلمين) الذي توجد فيه قصور مترفة، وأموال تضيق بها البنوك، توجد فيه حالات ترفع إلى السماء حاجتها وعوزها.
يوجدون أين ؟ في الحارات الشعبية في المدن الكبيرة، في الشوارع الخلفية في بيوت تعبس جدرانها في وجوههم بالشقوق التي تنذرهم بقرب انهيار المسكن، ومع ذلك لا يخرجون منه رغم إنذار الجدران لهم بضرورة الخروج لأنهم لا يجدون مسكنا غيره.
يوجدون في البراري، أعراب يعيشون مع أبلهم وغنمهم يطعمونها كما يطعمون أبناءهم من جيبوهم.
يوجدون على الساحل الغربي في تهامة. من حدود اليمن إلى شمال المملكة.
(1/56)
حالات من الفقر والعوز لا ندري كيف توجد مثل هذه الصور في مجتمعات مترفة تنفق فيها الملايين في الترف المدمر وليس الترف المباح.
من ينتدب لهم؟ ينتدب لهم أصحاب الإيمان، أصحاب القلوب الرحيمة الذين ينشرون كتاب الله فيقرؤون:
(وتواصوا بالمرحمة ) يقرؤون فيه: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).
هل نفرت فئام من الشباب لمداواة هذه الجروح ولأمها؟ فكانوا رسل من أصحاب الموال الطيبة المباركة إلى أصحاب الحاجات يأسونها ويداوونها ويسدون هذه الخلة.
والله إنا لنخاف أن تحل بنا قارعة أو قريبا من دارنا إذا ارتفعت إلى السماء شكوى هؤلاء الفقراء في الوقت الذي ينغمس فيه أهل الترف في ترفهم وأهل اللهو في لهوهم وأهل اللذة في لذتهم وهم بيننا ويضاعف من محنتهم انهم فقراء في مجتمعات غنية.
- دور المرأة.
المرأة ينبغي أن تكون عونا لزوجها على طاعة الله، ينبغي أن تتحول البيوت إلى قلاع يكون للمرأة فيها دورها المؤثر، ولذلك قصص مشرقة في حياة الصحابة وحياة السلف يوم كان الرجل يخرج من بيته فتصحبه المرأة إلى الباب تودعه ببسمة وكلمة طيبة.
وليس الحال الآن-الله المستعان- يودع بقائمة من الطلبات ويستقبل بمجموعة من كتب الحسابات.
لا تودعه وهي توصيه بتقوى الله وتقول :(1/360)
يا عبد الله اتقي الله فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام فلا تطعمنا إلا حلالا.
المرأة التي تكون عونا للزوج على طاعة الله كما كانت أم سليم لأبي طلحة يوم مرض أبنها أبي عمير وهو فتى لطيف يحبه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويداعبه بقوله: يا أبا عمير ما فعل النغير؟
فيبكي أبو عمير ويقول : مات يا رسول الله.
هذا الصبي مرض فانشغل به أبوه يسال عنه إن دخل قال ماذا فعل أبو عمير؟
وإن عاد من عمل قال ما فعل أبو عمير؟
فإذا بأبي عمير يموت وعنده أمة، إذا بهذه الأم المفجوعة تسجي أبنها ثم تعد الطعام لزوجها.
لا لم تعد الطعام فقط بل أعدت نفسها وتهيأت لزوجها.
جاء الزوج وسأل أول سؤال ما فعل أبو عمير؟
قالت هو اسكن ما كان، ولا حركة، فطمأن وقدمت له طعامه فأكل، فلما أكل وشبع أراد شيئا أخر فأصابه.
فلما انتهاء من هذا كله، تأتت له أحسن التأتي وقالت:
يا أبا طلحة ما تقول في أناس استعاروا عارية من جيرانهم، ثم جاءوا يطلبونها فأبوا ؟
قال سبحان الله لا يردون العارية.
قالت نعم لم يرضوا أن يردوا العارية.
قال لا يصير هذا ولا يمكن.
قالت إذا فأحتسب ابنك فهو عارية عندك وإن الله الذي وهبها قد استردها.
أُم تعاني الفجيعة، والثكل ومع ذلك تكابد هذا كله، وتتأتى مع زوجها لتكون عونا له للصبر والاحتساب.
أيها الأخت المسلمة:
هل تفقدتي زوجك في عمله لله ؟
هل كنتيِ عونا له على طاعة الله؟
هل سائلتيه قبل أن تسأليه عن طلبات المنزل وحاجات البيت عن عمله لله وماذا عمل؟
فكنتي عونا له على ذلك.
أيها الأحباب هذه نماذج وغيرها كثير، وكما قلت فهي بعدد أنفاسنا.
ومن العمل للدين أن تجلس تفكر ماذا أعمل للدين ؟
وتذهب وتسأل كيف أعمل للدين ؟
وتستشير ماذا تعمل للدين ؟ فهذا من العمل للدين.
أيها الأحباب:(1/361)
إذا لم تستنفرنا هذه النماذج المشرقة من سير النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه وهم خير من قدم وأعطى، فخير من قدم وأعطى لمبدئه شباب محمد ( - صلى الله عليه وسلم - )، وأصحابه وأتباعه.
فينبغي أن يستثيرنا نفرت أهل الباطل إلى باطلهم، وحماس أهل الباطل لباطلهم.
اقرأ قصة لينين ودوره في إنشاء الجمهورية الشيوعية والكيان السوفيتي، عجب من العجب.
تعجب كيف عمل أهل الباطل لباطلهم.
انظر إلى عمل اليهود وتعصبهم وتكاتفهم، كل عملهم يصب في مصب واحد لإقامة دولة إسرائيل.
انظر إلى طلائع حزب البعث العربي الاشتراكي وكيف تربي طلائعها، حتى اللذة المحرمة التي هي جائزة عندهم لا يستطيعون الوصول إليها لأن الإنسان منهم مستغرق الوقت ومستنفذ الجهد للعمل للحزب وهو مبدأ أرضي لا ينتظر عليه جزاء يوم يلقى الله.
ألا يستنفرنا هذا لأن نعمل ونحن نجد اللذة في عملنا وننتظر الجزاء الأوفى يوم نلقى الله.
ألا يستنفرنا عمل أهل الدنيا لدنياهم، عمل أهل الملك لملكهم، أهل المال لمالهم، أهل الجاه لجاههم.
هذا العمل الذي جسده أبو الطيب يوم قال:
أُطاعن خيلا من فوارسها الدهر ... ... ... ..وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يومٍ سلامتي ... ... ..وما ثبتت إلا وفي نفسها أمرُ
تمرست بالآفات حتى تركتها ... ... ... .تقول أمات الموت أم ذعر الذعرُ
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي ... ... ... ... ..سوى مهجتي أو كان لي عندها وترُ
فتى لا يضم القلب همّات قلبه.. ... .ولو ضمه قلب لما ضمه صدر
همات، لماذا ؟ لملك أو جاه أو مأرب دنيوي.
هذا العمل ينبغي أيها الأحباب أن يستثيرنا، ويستثيرنا معه أيضا استشعارنا حاجة الأمة للعمل للدين.(1/362)
إن الدعاة والعلماء اليوم أصبحوا في وضع من المتأكد إن لم يكن من المتعين عليهم أن ينفروا إلى أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) يبثون فيها ميراثه، ولا يسع أحدا عالما أو داعية أو أي مسلما كائنا من كان أن يتذرع بعذر أو يتحجج بحجة، ليتحلل من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم، والمسلمين أن يبينونه للناس ولا يكتمونه.
ولا يملك أحدا ولا يسعه أن يحول بين عالم أو داعية وبين بلاغات رسالات الله.
بل لا يسع داعية أن يقدم قول أحد أو أمره على أمر محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ). يوم قال:
(بلغوا غني ولو آية ).
إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ ولكنه صدرت بمرسوم رباني كريم برقم 125 من سورة النحل. (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن ).
إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهرا في حياتنا تراه:
في شاب يوزع شريطا أو كتابا.
تراه في شاب يبلغ كلمة.
تراه في موقف يعلن إنكار منكر.
تراه هنا وهنا وهناك.
إن العمل للدين أمر لا نستخفي به ولا نتستر عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتنا ساحة فوارة بالعمل الضخم للدين تراه في كل فلته وفي كل لفتة.
تراه في برنامج كل شاب.
تراه في برنامج كل مسلم.
أقول قولي هذا وأسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه هل طاعته حتى لا يكون حد أعزا منهم.
ويذل فيه أهل معصيته حتى لا يكون أحد أذل منهم.
وترفع فيه كلمة الحق حتى لا تكون كلمة أعلى منها، وتقهر فيه كلمة الباطل حتى يخزى بها أهلها وتبقى حبيسة في صدور أصحابه، وحتى تقال كلمة الحق في كل مجمع وفي كل محفل وعى كل منبر وفي كل منتدى لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
ــــــــــــــــــ
حياة أوقفت لله
عبدالوهاب الطريري(1/363)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسنا لباس التقوى خير لباس.
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
و أشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى..
أيها المؤمنون بالله ولقائه وبالرسول ورسالاته، أيها الأخوة المتحابون بجلال الله.
إن رسالاتِ اللهِ إلى أهلِ الأرض، والدينَ الذي اختاره اللهُ لهم هو أثمنُ هبةٍ للبشرِ واعظمُ منةٍ عليهم، خيرةُ اللهِ للإنسانِ منهاجَ حياته، وطريقَه الموصلَ إلى جنته، هو النعمةُ التامةُ والفضلُ المبين.
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً )(المائدة)
أي نعمةٍ أعظمُ و أتمُ من أن تتنزلَ ملائكةُ الله بكلمات الله على رسول الله لتقول للإنسان هذا طريقُك إلى الله.
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام)
إن هذا العطاءَ الإلهيَ والهبةَ الربانيةَ منةٌ تستشعرُ نفوسُ المؤمنين كِبرَ نعمةِ الله بها عليهم، فتتضاءلُ النفسُ أن تكونَ ثمناً لهذه النعمة.
قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ):(ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -فذكر منهن- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
ولذا حفلت مسيرة المؤمنين في التاريخ بصور من عطاء الحياة بسخاوة نفس ثمنا لهذا الدين.
ثمنا لعطاء الله من الهداية.
ثمنا لنعمة الله بالنور المبين.(1/364)
أعطيت الحياة بسخاوة نفس يوم كان ثمنها هذه العقيدة وهذه الرسالة وهذه المنة الإلهية، يوم كان ثمنها خيرة الله للإنسان طريق حياته ومنهاجه وثمنها الجنة ورضاء الله.
أستمع إلى سحرة فرعون يتقبلون وعيده وهو يقول:
( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)(طه:71)
فماذا كان الجواب على هذا التهديد ؟
بل كيف استقبل هذا الوعيد وقد وصل فيه فرعون إلى كل ما يستطيعه من تنكيل ؟
أستمع إلى ثبات المؤمن المستشعر عظم المنة بالهداية المنتظر من الله فضلا تحتقر له الحياة كلها.
أستمع إلى جواب السحرة وهم يقدمون للدين أرواحهم بسخاوة نفس:
(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72)
نعم ما أصغر الحياة وما أهون الحياة الدنيا حين تكون ثمنا للإيمان بالله عز وجل، وإن عذابها مهما اشتد ونكالها مهما كاد وبطش أيسر من أن يخشاه قلب موصول بالله عز وجل ينتظر ثوابه وينتظر مغفرته وينتظر رضاه وجنته:
(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:73)
أيها الأحباب إنه الإيمان، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب، استحكَم الولاءُ له، وكان العطاءُ للدينِ سخياً، كان العطاءُ للدينِ سخيا غايةَ السخاء، لأنه معاملةٌ مع كريمٍ، وتلقٍِ لمننٍ من إله عظيم..
آيها المؤمنون بالله رب وبمحمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) نبيا، وبرسالته الإسلام دينا.
إذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً للدين فهيَ كذلك تسخرُ لخدمةِ الدين، تسخرُ للعطاءِ للدين، إذا كلُ ما فيها لله، وإذا هيَ حياةُ أوقفت كلٌها لله.(1/365)
يقول نوح وهو يخاطب ربه:(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح:5)
إنه الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يمَلُ، ولا يفترُ ولا ييئسُ أمامَ الأعراضِ، ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاما.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً)
ثم يقولُ: ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح:9)
الله أكبر.
ماذا بقيَ من حياةِ نبيَ اللهِ نوح لم يسخَر لدعوته ولم يبذَل لرسالتِه ؟
الليلُ والنهار، الجهر والإسرار كلُها لله، حياةُ أوقِفَت كلُها لله.
ثم سرح طرفك في مسيرة أنبياء الله ورسله :
لتقف أمام نبي الله يوسف السجين الغريب الطريد الشريد الذي يعاني ألم الغربة وقهر السجن وشجى الفراق وعذاب الظلم، في هذا كله وبين هذا كله في زنزانة السجن يسأله صاحبا السجن عن تعبير الرؤيا .
فلا يدع نبي الله يوسف الفرصة تفلت منه.
لا تنسيه مرارة المعاناة القاسية واجب العمل لله والعطاء لدينه فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للدعوة.
ويرى أن كونه سجينا لا يعفيه أبدا من تصحيح الأوضاع الفاسدة والعقائد الفاسدة فإذا به ينادي في السجن:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39)
عذاب السجن وألم الغربة وقهر الظلم كل ذلك لم يذهل ولم يدهشه ولم ينسه واجب الدعوة.
لأن العمل للدين رسالة في الحياة لا يمكن التحلل منها بحال.
وهكذا تسير ركاب المؤمنين برسالات الله، لا تدع فرصة للعمل للدين تفلت ولا فرصة للعطاء للدين تضيع.
كل عطاء يقدم مهما كان قليل.
وكل جهد يبذل مهما كان يسيرا.
وكل فرصة تلوح للعمل للدين لا يمكن أن تفلت من يدي مؤمن بالعمل لهذا الدين.
هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهما لما جهزت رسولَ الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) و أبا بكرٍ جهازهما للهجرة.(1/366)
جمعت سفرةَ رسولِ الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) التي فيها طعامُه، والسقاءَ الذي فيه شرابُه، ثم جاءت لتحملَهما فلم تجد ما تربطُ به السفرةَ والسقاء، فعمدَت إلى نطاقِها فشقته نصفين فربطت بأحدهما السفرةَ وبالأخرِ السقاء.
امرأةُ تأبى إلا أن تقدم للدين، وتعطيَ للدين ولو كانت لا تملكُ إلا نطاقها فليكن عطاؤُها هذا النطاق، وإذا لم يكن النطاقُ كافيا فليشقَ النطاقُ نصفين.
وترحلَت الأيامُ تُعطرُ سني التاريخِ بخبرِ أسماء، وتحملُ صفحاتُ التاريخ هذاِ الخبرَ، ومعهُ تشريفُ أسماء وتلقيبُها بذاتِ النطاقين، إن هذا اللقبَ يعبرُ عن العطاء للدين الذي لا يدعُ فرصةً تفلتَ دون أن يقدَم لدين مهما كان هذا العطاءُ قليلاً فهو الجهدُ وهو الطاقة.
ثم سر قليلا لترى الرجل الكفيف الأعمى عبد الله أبن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذي عذره الله في قرأنه: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ )(النور 61).
لم يرى أنه يسعه أن يدع فيها فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه، ولتكن هناك في مواقع القتال وقعقعة السيوف وطعن الرماح وإراقة الدماء، ليكن له موقع ثم..
فيصحب كتائب المسلمين ويطلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به:
(إني رجل أعمى لا أفر، فادفعوا إلى الراية أمسك بها).
يأبى إلا أن يشارك بنفسه على أي صورة كانت هذه المشاركة ممكنة.
حتى إذا كان يوم القادسية كان هو حامل الراية للمسلمين، الممسك بها أعمى ضرير يرى أن في عماه مؤهل لحمل الراية:
(إني رجل أعمى لا أفر).
وتحمل كتب التاريخ أنباء عبد الله أبن أم مكتوم وأنه كان أحد شهداء القاسية يوم غشيته الرماح فلم تصادف فرارا ولا موليا ولا معطي دبره في قتال.
إن معنى العطاء لهذا الدين كان أمرا تشرب به نفوس الصحابة مذ أن تبسط أيديهم إلى كف رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) مبايعة على الإسلام.
هذا ضمام أبن ثعلبة رضي الله عنه(1/367)
يأتي إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يقف يسأله عن شهادة لا إله إلا الله.
وأن محمدا رسول الله.
وأقام الصلاة.
وإيتاء الزكاة.
وصوم رمضان.
وحج بيت الله الحرام.
حتى إذا عرفها أمن بها ثم رفع أصابعه الخمس قائلا:
( يا رسول الله والله لا أزيد على هذه ولا أنقص).
لكنه لا يرى ولا يُرى أن العمل للدين داخل في ما تحلل منه.
ولكنه رآه داخل في وجب عليه فإذا به ينقلب إلى قومه داعيا إلى الله يقول لهم:
(يا قوم بئست اللات، بئست العزى).
فيضل بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيت من بيوتهم إلا دخله الإسلام، فيقول عمر رضي الله عنه:
(ما رأينا قادما على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان أيمن من ضمام أبن ثعلبه).
إن وضوح هذا المعنى للصحابة هو الذي دفع كتائبهم فانداحت بها الأرض فإذا مائة سنة تشهد أعظم إنجاز يتحقق على الأرض يوم طوي بساط المشرق إلى الصين، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي تفتحه كتائب الصحابة والتابعين.
ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي الرجال الذين يعلنون في كل موقعة قائلين:
(أن الله إبتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
لم يكن هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجا أوقفت حياتهم كلها لله.
أمة الإسلام، أتباع محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ):
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياةُ كلُها، بليلِها ونهارِها، وإذا النفسُ بمشاعِرها ووجدانها وبكلِ طاقاتِها سخرةُ لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفتَ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين، بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته.
إنا نقلب الطرفَ فتقرُ العينُ وتبتهجُ النفسُ، برُؤيةِ الوجوه العريضة الملحية للشباب الواعد من شباب الصحوة.
إذ هيَ جموعُ تضيقُ بها المحافل.
وتكتظُ بها المساجد، وتتزين بها وتتزي ردهات الجامعات.(1/368)
جموع أصبحت تواري التائهين، وتحجب الرؤيا عن الشاردين، فإذا هم الواجهة كثرة ووجودا وحضورا.
لكن هل يتناسبُ هذا العدد مع العطاء المنتظر؟
إن عدد شباب الصحوة الدافق المائج لا يتناسب مع ما ينتظر من عطاء.
لو أن كل نفس أشربت هذا المعنى وسخرت للدين هذا التسخير.
إن هذا المعنى أمر ينبغي أن يذكى في القلوب ويوقد في النفوس وتشحذ له العزائم وتسخر له الطاقات.
يبدأ من توتر القلب لهذا الدين.
توتر القلب وانفعاله وتوهج العاطفة وتلظيها ابتهاجا لكل خطوة إلى الأمام يتقدمها أهل الخير.
ويعتصر ألما وحرقة يوم يرى أي صورة من صور حجب الدين أو المضايقة لأهله أو المزاحمة لدعاته أو التضييق على الكلمة الهادفة أو حجب الكلمة الناصحة.
يتلظى القلب وتشتعل النفس ويلتهب الوجدان تفاعلا مع مصاب الأمة في الكلمة الهادئة يوم يراد لها الحجاب والإطفاء.
فما مدى التفاعل مع الكلمة والدعوة والدعاة والغيرة لهم؟
نحن والله نعيش منة الله علينا بالهداية بدعوة دعاة مخلصين سخروا ليلهم ونهارهم وزاحموا ساعات حياتهم عطاء للدين، فما مدى امتناننا لله بهذه النعمة ؟
ثم شكرنا لمن أهدانا الهداية وبذل الكلمة والوقت والنفس دعوة وجهادا ومجاهدة.
ما حال القلوب، ما حال النفوس تعاطفا مع الكلمة عندما يراد لها أن تطفأ أو تخبو ؟
إن الغيرة على رسالة الله وعلى أنبياء الله منسحبة إلى ورثة أنبياء الله الذين يرثون عن الأنبياء علمهم ودورهم في الأمة، فهل أوقد في القلوب الحماس والتعاطف والتواصل والتوهج مع الدعوة والدعاة ؟
والتوتر المنفعل مع قضايا الدعوة وآلام الدعاة؟
إن القلوب ينبغي أن لا تشح بمشاعرها.
والعيون لا تبخل بدموعها وأن تقدّر أن مصابها في الدعاة وكلمتهم مصاب لقداسة الأمة في الصميم.
أيها الأحباب:
أين العطاءُ للدين في حياتنِا ؟(1/369)
أين العطاء للدين، هل يعيشُ كلُ منا همَ العطاءِ للدين فإذا به يحاول جهده أن يكون مؤثرا على قطاعا يقل أو يكثر يصغر أو يكبر في المجتمع ؟
هل يسألُ كلُ منا نفسَهُ إذا غربَت شمسُ كلِ يوم، هل غرَبت وقد قدم لدينه شيئاً في ذلك اليوم ؟
هل العطاءُ للدين همُ جاثمُ في القلوب يحركُها إلا أن تعطي، يبعثُها إلا أن تُقدم ؟
لنتساءل بالتفصيل:
هل اشتريت كتابا فأبى عليك حس الدعوة إلا أن تشتري بدل النسخة نسخا لنفسك منها واحدة وللدعوة أخر؟
هل استمعت إلى شريط فلما أعجبك حملك حب الهداية إلى أن تهديه إلى غيرك ؟
هل وجدت نفسك تحف وترف لجمع التبرعات لمساعدة الأنشطة الإسلامية والجهد الهادف والدعوة الخيرة ؟
هل تفكرت في نفسك فرأيت أن من الواجب عليك أن تكفي الأمة مجتمعك، فإن عجزت فحيك، فإن قصرت فبيتك ؟
هل وجدت أنه ينبغي أن يكون لك حضور لا يفقد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فاتضحت لك المشاركة والوجود.
أيها الأحباب:
إن الطاقة موجودة تحتاج إلى توظيف.
إن الطاقات كامنة تحتاج إلى تشغيل.
وصدق النية أيضا موجود، ولكن نحتاج إلى عزيمة وهمل يخرج للوجود.
إن أعظم مؤسسة نشر قد تنشر من كتيب أو كتاب مائة ألغ نسخة وإن شئت فقل مائتا ألف..
لكن لو قام كل متدين يعلم أنه يتحمل مسؤولية بلاغ رسالات الله بنشر الكتاب الموجه والشريط الهادف فأي طاقة نملكها في النشر ؟ وأي جهد يقدم للدعوة من خلال ذلك ؟
إننا سنجد أنفسنا أمام عملية نشر واسعة لا نظير لها توقظ الأمة من رقاد تفيقها من غفلة.
بل تبعثها من ممات وتحركها من همود..
أيها الأحباب:
إن واجبنا ن نتفقد أنفسنا ما مدى العزيمة على العطاء في نفوسنا ؟
ما مقدار الهم للعمل للدين في قلوبنا ؟
ثم نحول ذلك إلى برنامج عملي في حياتنا.
برنامج يومي يعيشه كل منا في يومه وهو أن يكون ذا عطاء لهذا الدين.(1/370)
لقد مرِضَ المسلمون اليومَ بالتدينِ السلبيِ الجامدِ الهامد الذي لا يقدمُ ولا ينفعُ ولا يحرك،
إننا اليوم أمام خير لا خيار لنا غيره؛
وهو أن نقدم لديننا وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئا لهذا الدين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.......................................
الحمد لله على إحسان والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله لا الله تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسول الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).
اللهم صلي وسلم وبارك أطيب وأزكي صلاة وبركة على نبينا وأمامنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أرضى عن أصحاب نبيك وأرضهم، اللهم أسلك بنا طريقتهم و احشرنا في زمرتهم.
الله العن من لعنهم وعادي من عادهم وخص بذلك الرافضة أعداء أصحاب نبيك.
اللهم عليك بالرافضة فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير.
اللهم عليك باليهود، اللهم أقر أعين المسلمين بفتح بيت المقدس وإقامة دولة إسلامية لا اشتراكية ولا علمانية.
اللهم عليك بإخوان القردة والخنازير فإنهم لا يعجزونك.
اللهم عليك بهم، الهم عليك بهم، اللهم عليك بهم.
اللهم أبر لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.(1/371)
وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
ربنا آتتا في الدنيا حسن وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى
• قال تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين).
• قال ابن القيم : مقام الدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد.
• ويقول أيضا : فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم .
• وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من أوليائه يذب عنها وينطق بعلاماتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن.
• قال القرطبي : فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. فرقا بين المؤمنين والمنافقين ، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. ورأسها الدعاء إلى الإسلام.
• قال أبو قاسم الغرناطي في ذكر قصة نوح : ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار ثم ذكر أنه دعاهم جهارا ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة.
• صورة نوح في دعوته وهو لا يمل ولا يفتر ولا ييأس أمام الإعراض والإصرار هي صورة لإصرار الداعية على الدعوة.
• قال البراء بن عازب : أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، وكانوا يقرئون الناس... سبحان الله! ما منع العمى ابن أم مكتوم عن الدعوة إلى الله فرحمه الله ورضي الله عنه.
• يقول زياد الزبيدي الذي كان في جند عمرو بن العاص : فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية.. من حرصهم على دعوة الناس.(1/372)
• يقول توماس أرنولد عن تحمس المسلمين لنشر الإسلام على الساحل الغربي من أفريقية : وإذا ما اجتمع في مدينة ستةرجال منهم وأقل من ذلك أو أكثر وعزموا على أن يقيموا فيها فترة من الزمن سارعوا إلى بناء المسجد وأخذوا ينشرون الدعوة .
• يقول عمر بن الخطاب: إنما بعثت عمالا ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقيموا بينكم دينكم.
• ما كان يشغل الدعاة إلى الله عن الدعوة التي امتزجت بدمائهم شاغل مهما عظم ولله صبرهم في نشر دعوتهم وإسلامهم .. وحياتهم من أجل نشره.
• وانظروا إلى حرض النساء.. فهذه أم سليم على تلقن ابنها أنس شهادة الإسلام رغم معارضة زوجها ودعت أبا طلحة إلى الإسلام حينما تقدم إليها ولم ترتض منه مهرا سوى الإسلام.
• أخي : كان الدعاة إلى الله يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ويبادئون الناس بالكلام ولا ينتظرون مجيء الناس إليهم وهكذا كان شأن الدعاة دوما.
• يقول أحدهم : هم قيام في مقام الدعوة ، يدعون الخلق إلى معرفة الحق عز وجل .
• لا نجاح للدعوة ولا وصول للغاية .. إن أعطيناها فضول الأوقات ولم ننس أنفسنا وطعامنا .
• ويرحم الله الشيخ حسن البنا ، ما كان يدخل بيته إلا ليهييء متاعه لسفر جديد من أجل الدعوة .. رجته زوجته الانتظار وقد خشيت موت ابنه بعد شدة المرض به فقال لها : إن جده يعرف طريق المقابر جيدا.
• قال الشافعي : من وعظ أخاه بفعله كان هاديا.
• الدعوة إلى الله وسيلة لإقامة العبودية في النفس ونشرها بين الناس وهي في نفسها عبادة.
ــــــــــــــــــ
علو الهمة أمر حث عليه الكتاب والسنة
الدكتور /محمد أحمد إسماعيل المقدم(1/373)
تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك: فمنا ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة: ?كما قص الله علينا من قول موسى- عليه السلام- لقومه:( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) ، وقال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) . ?وقال تعالى واصفاً حال اليهود الذين علموا فلم يعملوا:( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)، وقال في وصف أشباههم :( وعلمتم ما لم تعلموا) يعني علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، في حين امتدح يعقوب عليه السلام بقوله تعالى: (وإنه لذو علم لما علمناه) أي: يعمل بما علم. ?وذم المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال في شأنهم : (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد، فقال:( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) الآيات. ?وشنع- عز وجل- على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، وغاية علمهن باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة، وبين أن هذا الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) . ?(1/374)
وقال تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا) كالمجاهد يريد الغنيمة فليطلبهما ، أو الأشرف منهما، كما قال تعالى: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) . ?وعاب حرص اليهود على حياةٍ أي حياة ولو كانت ذليلة مهينة، فقال عز وجل: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة )، وحمل القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون آلهة مع الله باعتبار هذا الشرك من أجلى مظاهر دناءة الهمة وخبث النفس: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)، وقال في عابدي المسيح: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) فكيف يُعبدان من دون الله؟ ?ومنها: أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - : (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) الآية، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه عز وجل في قصص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ?كما قص مواقف الهمة العالية عن المؤمنين من أتباع الأنبياء كما في قصة موسى عليه السلام: ( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) الآية، وكما في قصة مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، وكما في قصة حبيب النجار في سورة يس، وكما في قصة داود وجالوت: (قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) إلى قوله تعالى: (فهزموهم بإذن الله) الآيات. ?(1/375)
ومنها: أنه عبر عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف "الرجال" في مواطن البأس ،فقال عز من قائل : (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)، وقال سبحانه: ( يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) الآيات، وقال عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً). ?ومنها: أنه أمر المؤمنين بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات، فقال عز وجل: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)، وقال سبحانه: (فاستبقوا الخيرات)، وقال: (ففروا إلى الله)، وقال سبحانه: (لمثل هذا فليعمل العاملون)، وقال: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، وامتدح أولياؤه بأنهم (يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). وقال تعالى: ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى. وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)، مع أن المعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، إلا أنه سبحانه نبه بنفي الاستواء ليذكر المؤمنين بما بينهما من التفاوت العظيم، ليأنف القاعد، ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليُهاب به إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم- أفاده الزمخشري- .(1/376)
أما السنة الشريفة: فحدث ما شئت عن علو همة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسابقهم إلى المعالي، كيف لا وقد أوصاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها"، وروي عنه أنه كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : "وأسألك العزيمة على الرشد"، وكان يتعوذ بالله من "العجز والكسل"،وقال لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها"، وطمأن أهل الهمة العالية بأن الله- عز وجل- يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤونة" الحديث، وبين أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، واتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له". وامتدح - صلى الله عليه وسلم - قوماً بعلو همتهم فقال: "لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس". وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن وتوجهه إلى إقامة الطاعات وتجنب المعاصي والمخالفات وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فمن ذلك مثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً".(1/377)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها" ، وحذر من تعمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وغن دخلها". وعلمنا - صلى الله عليه وسلم - علو الهمة في الدعاء، فأمرنا أن نسأله تعالى من فضله، ولا نستعظم شيئاً في قدرة الله وجوده: فعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا سأل أحدكم فليُكثر، فإنما يسأل ربه-عز وجل-". وعن(1/378)
العرباض رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه سرُّ الجنة". أي: أفضل موضع فيها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ (سكن، وسكت من الضعف) فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟" قال: "نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سبحان الله لا تطيقه، أو: لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؟". قال: فدعا الله له، فشفاه". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟"، فقلت: "أسألك أن تعلمني مما علمك الله" ، قال: فنزعت نمرة على ظهري، فبسطتها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: "اجمعها، فصرها إليك"، فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني". ويروى أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فسأله عن شيء، فقال له زيد: (عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى، ونذكره، إذ خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال:" عودوا للذي كنتم فيه" ،قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال:" اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علماً لا ينسى"، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "آمين"، فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله تعالى علماً لا ينسى"، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي").(1/379)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً فقال: " عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل،والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، فرأيت سواد كثيراً سد الأفق، فرجوت أن يكون أمتي، فقيل: " هذا موسى في قومه" ، ثم قيل لي: "انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً قُدامهم يدخلون الجنة بغير حساب، هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" ، فقام عُكاشة بن محصن، فقال: "ادع الله أن يجعلني منهم" قال: "اللهم اجعله منهم"، ثم قام رجل آخر، فقال: "ادع الله أن يجعلني منهم" ،قال:"سبقك بها عُكاشة". فهكذا كانوا-رضي الله عنه- لا تلوح منقبة أخروية، ولا فضيلة دينية إلا صعدوا إليها، واستشرفوا لها، وتنافسوا فيها. ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسولهن ليس بفرار، يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون (أي : يخوضون، ويموجون فيمن يدفعها إليه، يقال: "وقع الناس في دوكة ودوكة": أي في خوض واختلاط.) أيهم يُعطاهن حتى قال عمر: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، فلما أصبح أعطاها علياً، ففتح الله على يديه".(1/380)
وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال : (كنت اخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي"، حتى أملن أو تغلبني عيني فأنام، فقال يوماً: "يا ربيعة سلني فأعطيك؟" ،فقلت ك "أنظرني حتى أنظر"، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: "يا رسول الله أسألك أن تدعو لي أن ينجيني الله من النار، ويدخلني الجنة" فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال: "من أمرك بهذا؟" قلتك "ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي" قال : "إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود"(1/381)
ولفظ مسلم: "كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيته بوضوئه وحاجتهن فقال لي: "سلني" فقلت: "أسألك مرافقتك في الجنة" قال: "أو غير ذلك" قلت: "هو ذاك"، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود" . وعن عطاء بن رباح قال: "قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلتك بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي" قال: "عن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله عز وجل أن يعافيك" قالت: "أصبر" قالت: "فإني أتكشف،فادع الله أن لا أتكشف"، فدعا لها) . ومن تسابقهم في الطاعات الذي يعكس علو هممهم- رضي الله عنهم- : ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن رجلاً قال: طيا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تُعط". ومن ذلك أيضاً" ). ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا: قد ذهب أهل الثور (الثور جمع دثرٍ، وهو المال الكثير) بالدرجات العلى، والنعيم المقيم" فقال: "وما ذاك ؟" قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفلا أعلمكم شيئاً تُدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ن فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ك "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".(1/382)
ويروى عن سليمان بن بلال رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بدر، أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعاً الخروج معه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر أن يخرج أحدهما، فاستهما؛ فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد رضي الله عنهما: "إنه لابد لحدنا أن يقيم، فأقم مع نساءك"، فقال سعد: "لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا" فاستهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فقتله عمرو بن عبد ود). وبعد: فإن من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، فكبر الهمة يجلب لك- بإذن الله- خيراً غير مجذوذ، ويُجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا ترى واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديك إلا لمهمات الأمور، "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها". إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة. فارسم لنفسك كبر الهمة ولا تنفلت منها، وقد أومأ الشرع إليها، في فقهيات تلابس حياتك لتكون دائماً على يقظة من اغتنامها ومنها: -إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنال من الهمة منالاً). -ومنها: أن الرجل لا يلزمه الحج ببذل مال غيره له، ولا يصير مستطيعاً بذلك، سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً لما في ذلك من المنة التي تلزمه. فهذه إشارات وعليك التقصي. قال الشنفري: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ***** وفيها لمن خاف القلى متحول أُديم مطال الجوع حتى أُميته***** وأصرف عنه الذكر صفحاً فأذهل وأستف تُرب الأرض كي لا يرى له***** علي من الطول امرؤ متطول نقلا من كتاب علو الهمة تأليف محمد أحمد إسماعيل المقدم
ــــــــــــــــــ
ضياع الأمة بين الهامشية والسلبية(1/383)
أطفال اليوم هم شباب الغد وشباب اليوم هم رجال الغد , وبعكس هذا التسلسل فإن رجال اليوم هم شباب الأمس وهكذا وهذه هي سنة الحياة .
على مر العصور وفي كل الأمم لا تتبدل هذه الدورة لنمو الأمم , وعند تركيز النظر حول هذه الدورة نجد أن من بين هؤلاء الرجال فئة متميزة متفوقة تتسم بصفات تختلف عن غيرها وقد سخرت هذه الفئة تلك المميزات لتحتل مكانة مرموقة بين أقرانها سواء كانت هذه المكانة في الخير كقيادة الجيوش وتسلم مهام قيادة البلاد أو في الشر كقيادة مجموعة من لصوص تستولي على حقوق الآخرين .
مانريد أن نركز عليه في هذا الموضوع هو
ان لكل إنسان قدرات ومؤهلات قد لا يعرفها عن نفسه وبالتالي تظل حياته في الظل فيحرم مجتمعه وبلاده ودينه وأمته من هذه المميزات التي فيه فيكون دوره هامشيا سلبيا وتكون همته متدنية كما هو حال كثير من شباب الأمتين العربية والاسلامية .
والسؤال
كيف يجعل الانسان من نفسه ذا مسئولية وتأثير فعال في زمانه وعلى أوسع المحيطات ؟
وماهو المطلوب من شاب اليوم ليكون رجل الغد ؟
جواباً على السؤالين الأول والثاني أقول : عبر العلم والعمل والتقوى. عبر هذا الإسلام العظيم. بدون علم أو إيمان سيكون مستقبله - خاصة في الآخرة - مستقبلاً سيئاً. " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " .
حفظ الله الأمة وشبابها من الضياع والهامشية المذمومين شرعا.
الحمد لله اكتشاف الشخص لقصوره من أوائل خطوات تربية النفس .
ومن عرف من نفسه قصوراً فقد سار في سبيل تربية النفس ، وهذه المعرفة مما يدعونا إلى تربية أنفسنا وإلى السير في تلكم السبيل سيراًً حثيثاً فليست هذه المعرفة صارفة عن تربية المرء لنفسه ، وإن من توفيق الله للعبد سعيَه للتغير والتطوير كما قال تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فمن غيّر لله غيّر الله له .(1/384)
والإنسان مسؤول عن نفسه مسوؤلية فردية ذاتية وسيحاسب ويُسأل فرداً كما قال تعالى : ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95) سورة مريم ، والإنسان لا يمكن أن يستفيد مما يقدَّم له من خير ما لم يكن منه مبادرة ذاتية ، ألا ترى إلى امرأة نوح وامرأة لوط كانتا في بيت نبيين أحدهما من أولى العزم ، وتصور - أخي - ذلك الجهد الذي سيبذله نبي مع زوجته فهي قد تلقت قدرأً كبيراً من التربية لكن لما لم يكن منهما مبادرة ذاتية قيل لهما (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين) التحريم/10 بينما امرأة فرعون ـ مع أنها في بيت أحد أكابر المجرمين ـ ضربها الله مثلاً للذين آمنوا لما كان منها من تربية ذاتية .
ومن وسائل تربية المسلم نفسه :
1- التعبد لله والصلة به والاستسلام له . وذلك من خلال العناية بالفرائض وتطهير القلب من التعلق بغير الله .
2- كثرة قراءة القرآن وتدبره والتفكر في أسراره .
3- قراءة الكتب الوعظية النافعة التي تصف دواء القلوب وعلاجها مثل مختصر منهاج القاصدين وتهذيب مدارج السالكين ونحو ذلك ، ومطالعة سير السلف وأخلاقهم وينظر في ذلك صفة الصفوة لابن الجوزي وكتاب (أين نحن من أخلاق السلف ) لبهاء الدين عقيل وناصر الجليل .
4- التفاعل مع البرامج التربوية : كالدروس والمحاضرات .
5- الحفاظ على الوقت وشغله بما ينفع العبد في دنياه وآخرته .
6- عدم الإكثار من المباحات وإيلائها العناية الكبيرة .
7- الصحبة الصالحة والبحث عن الجلساء الصالحين ،الذين يعينون على الخير ،أما من يعيش في عزله فإنه يفقد كثيراً من المعاني الأخوية كالإيثار والصبر .
8- العمل والتطبيق وترجمة المعلوم عملياً .
9- المحاسبة الدقيقة للنفس .
10- الثقة بالنفس ـ مع الاعتماد على الله تعالى ـ: لأن فاقد الثقة لا يعمل .(1/385)
11- مقت النفس في ذات الله وهذا لا ينافي ما قبله فعلى الإنسان أن يعمل مع ظنه أن في نفسه الخلل .
12- العزلة الشرعية : أي لا يكون مخالطاً للناس في جميع أوقاته بل يجعل لنفسه أوقاتا يخصها بالعبادات والخلوات الشرعية.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا ويجعلها منقادة لما يحبه الله ويرضاه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
---------------------
كل من عليهافان
حتى لا تعيش أبد الدهر بين الحفر !
تحقيق أسماء بنت صالح
لكل منا همسة تسكن قلبه.. وتيسر دربه.. ويخطط على منوالها مستقبله، والهمم تتفاوت بين البشر، فشتان بين همة في الثرى وأخرى في الثريا، وعلو الهمة مبتغى كل إنسان ناجح يتطلع إلى حياة أفضل، بيد أن شروطها هنا يراد بها وجه الله تعالى، وأن تكون عونا على البذل والعطاء لهذا الدين إذن نحن لا نقصد علو الهمة لذاته.. فذلك يتساوى فيه الكافر والمسلم لا فرق بينهما.. بل نحن نبحث عن التميز الذي ميزنا به ديننا لذا أين نصرف همتنا وكيف؟!! وحتى لا نطيل فلندخل إلى الموضوع مباشرة:
لماذا نريد أن تعلو الهمم؟
أول سؤال نسأله في هذا الموضوع هو لماذا نريد أن تعلو الهمم ؟! وهذا هو السؤال الذي بادرتنا به الأخت الداعية الدكتورة رقية المحارب مديرة عام الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات والوكالة المساعدة لشؤون الطالبات، حيث أردفت قائلة: هل هو مجرد انسياق وراء رغبة الوالدين أو المجتمع أو المدرسة ؟ أم هو مطلب النفس والشخصية المتميزة؟ إن الإجابة على هذا السؤال هو مفتاح النجاح وطريق الإبداع .(1/386)
وإذا علمت أختي الكريمة أن دنو همتها فيه ضياع لكنوز كثيرة داخلها، وطاقات عظيمة تتمتع بها، فإنها سوف تبدأ في التأمل والمحاسبة لكيفية قضاء وقتها، وإن الذين يفكرون في كيف سيكون مستوى تفكيرهم بعد عشرين سنة، وكيف ستكون ثقافتهم، وكيف علاقاتهم ونجاحاتهم سوف يعملون على التخطيط للنجاح منذ اليوم الأول وإذا كان هذا التفكر ولد حرصاً عند كثيرين وكثيرات وهو لا يتعدى هموم ونجاحات فترة زمنية مؤقتة وهي هذه الحياة الدنيا القصيرة، فكيف بمن يفكر في حياته الخالدة في الآخرة؟!
إن فترة الشباب هي زمن الأحلام ووقت تشكل العقلية المبدعة المعطاءة فتلك التي لا تتعدى اهتماماتها ملابس تتأنق فيها، أو أخبار التافهين تتابعها، أو أمور ترفيه صرفت وقتها الثمين فيه، كيف يمكن أن تضيف لحضارة أمتها؟!
أسباب علو الهمة
وقد ذكرت الأخت الدكتورة الفاضلة الأسباب التي تؤدي إلى دنو الهمة حيث قالت:
(وأكثر الأشياء التي تؤدي إلى دنو الهمم في نظري هو الجهل الجهل بالنفس وبدورها في هذه الدنيا، وكذلك الجهل بهذا الدين وعظمته، والجهل بالأحكام الشرعية، والبعد عن الأجواء العلمية التي تعطرها آيات الكتاب المبين وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إن التي تجهل أن هذه الدنيا مزرعة للآخرة حيث الخيرات الحسان، والنعيم المقيم، وحيث الراحة والسعادة الأبدية سوف تخسر كثيرا، وهذه الخسارة فادحة؛ لأن مجرد كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ولأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولأن السيئة بمثلها، ولذلك يا لخيبة من غلبت سيئاته حسناته رغم هذا الفضل والإكرام !!(1/387)
وثاني : الأسباب العجز والكسل ولذلك أكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - التعوذ منهما الكسل في أمور الدراسة شيء سيئ، والكسل في الدعوة وعدم ابتكار طرق ووسائل جديدة أمر مزعج، والكسل في تكوين علاقات طيبة تكون بداية لأخوة في الله تكسب حلاوة في هذه الدنيا والكسل في طلب العلم ينتج شخصية معتمدة على الآخرين في كل شيء، والكسل في القيام بحقوق الناس من خوارم المروءة كل هذا يصم صاحبه بدنو الهمة .
وثالث: هذ الأسباب سماع الباطل من الغناء وقراءة الروايات الهابطة سواء كانت لنجيب محفوظ أم لغيره
وكذلك مشاهدة المسلسلات والبرامج التي تقضي على الحياء وتشجع الرذيلة وتهون من شأن القيم والمبادئ الإسلامية، وتحرض على التمرد على الآداب.. وهذا كله باسم الحرية الشخصية. فهذا السماع يقضي على الخير في الشخصية السوية، ويجعل منها شخصية تجري وراء ملذاتها من غير اعتبار لأي فضيلة فأي خسارة في الدنيا والآخرة يكتسبها صاحب هذا المسلك؟!
ورابع: الأسباب ترك صحبة الأخيار، وصحبة من لا ترعى واجبات ربها.. فالأخلاق تنتقل بالمجالسة والمزاملة!!(1/388)
وحين نقرأ آيات الله تعالى نرى من النصوص ما يرغب في معالي الأمور ويحفز عليها ومنها أنه تعالى أثنى على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والرسل وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى :{فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف 35] وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} [الحديد: 21] وقال تعالى:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقال تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون}[الصافات61] وقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتافسون} [المطففين: 26] وختمت الدكتورة الفاضلة حديثها بنصيحة أخوية جاء فيها: "فلتحرص أختي على أن تكون في أسرتها ومدرستها وجامعتها منبراً للخير، مدافعة عن قيمه ولتكن قدوتها أمهات المؤمنين والصالحات. آسية، ومريم، والصالحات من سلفنا.. وأتمنى لكل من تقرأ هذه العبارات أن تتأملها وتفكر فيها وتجعل لنفسها مشروعاً ينفعها الله به وينفع بها أمتها".
سفاسف الأمور ودنو الهمة
عما شاركتنا الأخت الداعية الأستاذة نادية الكليبي، حيث ذكرت أن هناك أسباباً كثيرة لظاهرة دنو الهمة وفي الوقت ذاته تعد مانعاً لعلو الهمة ولا بد للفتاة المسلمة من معرفة تلك الموانع التي تقف في طريق سيرها إلى الهمة العالية والمطالب السامية وقد حصرت تلك الأسباب بإيجاز وهي كما يلي:(1/389)
أولاً: الانشغال بسفاسف الأمور وغيبة الاهتمامات الجادة وهذا السبب في الواقع يعد نتيجة وأثرا لغياب علو الهمة، وهو في الوقت نفسه يعد مانعاً يمنع المسلمة عن معالي الأمور، فالمرأة المسلمة المعاصرة لديها قائمة طويلة من الاهتمامات الجادة، ولنضرب لذلك مثالاً: الاهتمام بالجمال والزينة واللباس، وهذه ظاهرة أصبحت متفشية نوعاً ما بين طبقات مختلفة ولا يستعجل القارئ الكريم فيفهم من حديثنا أننا ضد الجمال المباح والزينة المعتدلة ! فلا يمكن هذا والله تعالى يقول {قل من حرم زينة الله التي أخرج بعباده والطيبات من الرزق.. } [الأعراف: 32] فالمطلوب هو الاعتدال وألا يكون هماً في ذاته.. فليس الخطأ في الممارسة ذاتها ولا يعيب المرأة المسلمة أن تهتم بجمالها وزينتها وأن تختار ما يتناسب مع شكلها وإنما الخطأ أن يكون ذلك الجمال هدفاً أسمى، وهماً كبيراً. يصرف من أجله المال والوقت والجهد وكذلك الفكر!!
ثانياً: ومن الأسباب أيضاً هشاشة البنية التربوية التي قامت عليها المرأة المسلمة، ولا شك أن التربية منذ الصغر على معالي الأمور من أهم الأشياء التي تعين المرء على اكتساب المطالب العالية مهما صعبت.
ثالثاً: ومن الأسباب الحربة الموجهة للمرأة المسلمة المتمثلة في الغزو الفكري الذي شمل جوانب المرأة، ولا شك أن للمرأة دوراً كبيراً في بناء المجتمعات وصناعة الأجيال ولذا كان للمرأة المسلمة حظ وافر من ذلك الغزو الذي يراد به ذوبان شخصية المرأة المسلمة وفقدان هويتها الإسلامية.. ولا يمكن للهمة العالية أن تنشأ في من انسلخ عن أصالته وتتبع كل ناعق يدعو للمحاكاة والتقليد والسير وراء ما هو غربي بدعوى التحضر والعصرية والتطور!!(1/390)
والحديث عن الموانع يطول ولعل ما ذكر فيه الكفاية ومما ينبغي على المسلمة أن تكون إيجابية في مواجهة الموانع التي تمنع المرأة المسلمة من علو الهمة.. ونجد ولله الحمد الكثير من بنات الإسلام من تجاوزت تلك العقبات بالعزيمة الصادقة والتوكل على الله .
ومن أجمل ما كتب حول هذا الموضوع ما سطرته يراع الأستاذ الفاضل محمد أحمد إسماعيل المقدم في كتابه الموسوم بـ "علو الهمة" يقول في موضع من الكتاب "الهمم العالية لا تعطي الدنية، ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور:
إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئاً في الدنيا فسوف يكون زائداً عليها، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة، بل لا بد أن يكون في صلبها ومتنها عضواً مؤثرا:
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته- بحول الله وقوته- ما يراه غير مستحيل، وينجز- بتوفيق الله- ما ينوء به العصبة أولو القوة ويقتحم- بتوكله على الله- الصعاب والأهوال، لا يلوي على شيء
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر فمن ثم قيل: "ليس في علو الهمة إفراط في الحقيقة، لأن الهمم العالية طموحة وثابة، دائمة الترقي والصعود، لا تعرف الدعة والسكون.. ".
النفوس الضعيفة
وقبيل الانتقال من أسباب دنو الهمة أتحفتنا الأستاذة حصة الفواز مديرة مدارس حنين بقولها "لدنو الهمة أسباب عدة، وهي تختلف من إنسان إلى إنسان آخر ولعلها تنحصر في أسباب ثلات وهي
1- دونية الاهتمامات الشخصية لكل فرد، فأي إنسان لا بد أن يكون لديه مبتغى في هذه الحياة وطبيعي أن النفوس الضعيفة اهتماماتها بسيطة جداً لا ترتقي إلى المستوى العالي.(1/391)
2- مخالطة أصحاب الأهواء والشهوات والذين وصلوا إلى درجة من دونية الأهداف عظيمة فحسبهم لهو يقضون به وقت فراغهم، أو مطلب دنيوي زائل !! فهؤلاء إنما يعيشون عيشة هامشية .
3- الخواء الروحي الذي يعيش في داخلهم.. فحينما أفسحوا لتلك السخافات أن تحتل مساحة كبيرة من اهتماماتهم غابت الأهداف العالية، والآمال السامية".
الاحساس بالفشل
كما تشاركنا الأخت. وفاء إحدى طالبات كلية التربية/الأقسام العلمية بقولها "من أسباب دنو الهمة عند بعض الأشخاص. إحساس الفرد بالفشل في محاولة قام بها، ونتيجة لذلك يبتعد عن المحاولة نهائياً، وهذا خطأ لأن النتيجة الإيجابية لا تأتي إلا بالمحاولة والصبر. ومنها ضعف الوازع الديني في البيئة المحيطة به كوجود المغريات والملهيات التي تحيط به وربما يكون لها دور كبير في دنو همته تدريجياً.. كذلك عدم وجود المعين له. كأن يكون بين أبوين لا يهتمان به ولا يوفران له الجو المناسب. فينصدم في حياته ويعيش معقداً لا همة عالية لديه!!.. وأخيرا من الأسباب عدم الصبر على ظروف الحياة المختلفة فأول ما يخوض غمار ظرف من الظروف نجد أوراقه تتمزق، وينفك شمله.
وعودا مرة أخرى إلى الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات حيث التقينا بالدكتورة الجوهرة المبارك مديرة عام الإدارة العامة لنشاط الطالبات والتي أدلت برأيها حول هذا الموضوع قائلة(إذا جلست في مجالس العامة استمعت للعديد من الآراء والاهتمامات والمعاناة.. تسمعين العجب.. آراء مختلفة، واهتمامات شتى، وهمم متفاوتة.. منهن من همتها تعلو لإصلاح من حولها وإصلاح بيتها ومجتمعها لا تكل ولا تمل ولا تفتر ولا تيأس.. ومنهن من همتها لا تتجاوز شهواتها وملذاتها. لم تستطع أن تصلح نفسها فكيف بأبنائها ومجتمعها!
ومنهن من تتمنى ولكنها كلها أماني تذهب أدراج الرياح ليس لديها من الهمة وقوة الإرادة ما تسلك به طرق الإصلاح لنفسها ولمن ترعاهم !(1/392)
إن الهمم متفاوتة كالثرى عن الثريا، وسينال المرء أجره على قدر همته، وقد تحدث في هذا الموضوع الأستاذ محمد المقدم في كتابه، وأنقل لكن بعض ما قال حيث يقول: "إن من الناس من ينشط للسهر في سماع سمر ،ولا يسهل عليه السهر في قراءة القرآن الكريم، ومنهم من يحفظ بعض القرآن ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيها فهذا مغتر بالأماني الكاذبة:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاب
وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاب
ويقول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبار تعبت في مرادها الأجسام وقد قيل للإمام أحمد- رحمه الله- متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال عند أول قدم في الجنة !!
عوامل وظاهر دنو الهمة
"إن دراسة عوامل ومظاهر دنو الهمة مما يضع أمام الدعاة والمصلحين الضوابط والقواعد التي تنشل الأمة من مستنقع الدونية والاستسلامية" كان هذا ما بدأت به حديثها لنا الدكتورة الفاضلة. أفراح الحميضي أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر في كلية التربية ولنرع سمعنا لحديثها حيث واصلت قائلة "وفي اعتقادي أن من عوامل دنو الهمة الغفلة عن حقيقة الاستخلاف، والتعلق بالمكتسبات الأرضية، وعدم الثقة بوعود النصرة الإلهية {إن تنصروا الله ينصركم..} [محمد: 7] والاستسلام للهزائم النفسية الفردية والجماعية، وعدم استشعار حقيقة التميز، وقد تتمحور هذه العوامل في نفسية الفرد أو الأفراد فينتج عن ذلك أن تنجذب نفسه نحو الدونية، وتضعف عن السمو والعلو وتظهر دنو همته في المظاهر التالية على سبيل المثال لا الحصر:(1/393)
الانحراف العقدي والتعصب الأعمى للجماعات والمذاهب، وضعف الإيمان، وتبلد الحس تجاه المعاصي، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألفة المعاصي السمعية والبصرية، التبعية للغرب أو الشرق والانجراف في مظاهر التقليد دون اعتبار لاستقلالية الشخصية الإسلامية، اتباع الأماني والهوى والتسويف والعجز والكسل وحب الراحة، الترفل بالنعيم والاستغراق بالترف، الهزيمة النفسية والشعور بالإحباط على المستوى الفردي والجماعي الشعور بغلبة العدو وفوقيته، التعلق بقشور الدنيا مثل المال، والأكل، والملبس، والغفلة عن الطاعات ".
لقد خارت العزائم
أما الأستاذة لطيفة العتل- معلمة فقد حصرت مظاهر دنو الهمة في أمور، ولكن قبل الحديث عنها قدمت لها بمقدمة جاء فيها "نحن وعلو الهمة على قسمين منهم سابق بالخيرات ومنهم مسرف وظالم لنفسه، وثالث بينهما لا إلى هذا ولا إلى ذاك مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ولما كانت الهمة العالية تتطلب جهد، مضاعفاً وتعباً ومشقة كان سالكوها قلة قليلة قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]
والآن فقد خارت العزيمة وفترت الهمم أنا لا أقول هلك الناس وإلا كنت أهلكهم ولكن أين أصحاب الهمم العالية؟!! إنهم والله في ندرة وإن وجدوا فهم على تفاوت في الهمم لا يصل بعضهم أعلى الدرجات .
إن دينا فيه قول الله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } [آل عمران: 133] وقوله: {فإذا فرغت فانصب} [الشرح: 7] وقوله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] لا يقبل من أتباعه الخمول والكسل وضعف الهمة، بل يريدهم كمثل المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين سباقين للخيرات في جميع الأحوال والأوقات وكانت همتهم العظمى هي الدار الآخرة ودخول جنة عرضها السموات والأرض، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة. هي المستحقة للهمة الثالية وما دونها فهو الدون.(1/394)
ثم ذكرت الأستاذة لطيفة تلك المظاهر على سبيل المثال حين قالت "ولعل من مظاهر دنو الهمة: التكالب على الدنيا والاهتمام بسفاسفها، ويرجع سبب ذلك إلى ضعف الإيمان بالله عز وجل إذ يتبع ضعف الإيمان ضعف الهمة. وهذا هو حال الكثير منا!! تجده في أمور الدنيا يجهد نفسه ويهلكها للوصول إلى ما يريد وأما أمور الآخرة فعندها يتوقف يراجع نفسه: لن أطيق.. قد لا أطيق عجباً له والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "إذا سألتم الله فأسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".
ومن مظاهر دنو الهمة أيضا أن يقصر الإنسان الصلاح على نفسه فقط ولا تتعالى همته لإصلاح غيره هو ليس وحده، بل الجميع في سفينة واحدة إذا ثقبها أحدهم غرقوا جميعا نحن لا نثبط العزائم هو فعل خيرا إذا أصلح نفسه وكبح جماحها لكن المطلوب المزيد"
عدم الثقة بالنفس
كما حصرت لنا الأخت فتاة الإسلام من كلية التربية تلك المظاهر بقولها أولا إحساس الشخص بالفشل في جميع الحالات فتراه دائما هيابا يخشى اقتحام أي عمل ما خوفا من الفشل فلا يلبث أن يزدري نفسه. وثانيا: إحساسه بأن كل ما يواجهه صعب ومستحيل، ولا يتسنى لأمثاله اقتحام هذه الأعمال، فتراه دائما يحجم عن العمل قبل الدخول فيه. ويمكن أن نعبر عن هاتين النقطتين بقولنا "عدم الثقة بالنفس ".
ثالثا: عدم المبادرة، فهو دائما ينتظر التكليف والإسناد حتى في الواجبات التي لا ينبغي التأخر فيها فمثلا في واجب الدعوة إلى الله تراه ينتظر من يسند إليه مهمة توزيع نشرة ما أو شريط.. رغم أن تكليف قد أسند إليه أكثر من ألف وأربعمائة سنة حين قال تعالى في محكم التنزيل {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17] وقوله:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئكم هم المفلحون } [آل عمران: 104].(1/395)
رابعا: كثرة الانتقاد وتعليق الأخطاء على الآخرين فهو يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه!! مع أنه في أعماق قلبه يدرك أنه مقصر ولكنه يعمد إلى هذا الأسلوب كنوع من التهرب من المسؤولية الذي أصبح فنا من الفنون.
سادساً: الاهتمام بسفاسف الأمور فلا ترى له إسهاماً جاداً ولا فكراً، وإن كانت فتاة اهتمت بالموضة وآخر صيحاتها والفنانين وآخر أخبارهم، وإن كان فتى اهتم بالمركبات الفارهة والمظاهر الفارغة، والله المستعان.
أين نحن من دروس الماضي؟
وقبيل لملمة أوراقنا هنا سؤال يطرح نفسه وهو كيف السبيل إلى همة عالية؟
هذا السؤال توجهنا به إلى الدكتورة نائلة الديحان وكيلة كلية التربية/ الأقسام العلمية حيث أجابتنا بقولها "إن دروس الماضي وعبره وذكراه المجيدة خير دافع للنفوس المرتفعة والهمم الأبئة والمثل العليا في ميادين العلم والدين، كما أن للموجه والمعلم الموهوب دوراً أساسياً في إلهاب المشاعر والعمل كفريق متكامل يعمل أعمالاً قيمة.. وإن للقائد أو المعلم دوراً مهماً في شعور الإنسان أو الطالب بأهميته مما يعلي همته ثم إن تشجيع الطلاب وتدريبهم وسؤالهم رأيهم وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة في اتخاذ القرار وتشجيعهم على تحمل المخاطر والإعلان عن الإيمان بقدرات الطلبة والثقة والاحترام كلها من العوامل التي تساعد على رفع الهمم، لذا فإن رفع الهمم في رأيي يكمن في ثلاثة اتجاهات:
(1/61)
1- تشجيع العمل كفريق ولا بد أن يشارك الطلاب في جهود جماعية، ففي هذا لا يمكن السماح لهم بالشعور بالتدني إذا لم يحققوا جميع الإجابات كما أنه في عالم الواقع العمل الناجح هو عمل جماعي
2- الاعتراف دائما بأهمية الفرد واحترامه.
3- التشجيع على القيام بمهام أعلى والاعتراف بذلك والمكافأة عليه، فكلما عاملت الناس على أنهم أذكياء سوف يتصرفون على هذا الأساس.(1/396)
إن توسيع المناهج التدريبية لتشمل بعض مهارات العلاقات الإنسانية أمر مهم للحث على الإبداع والإنجاز واكتشاف المواهب داخل كل شخص، ومهما كانت الخصائص فإن المثابرة والإصرار والعقل الراجح والخيال الواسع والمواقف الإيجابية والشعور القوي بالقيمة لا بد أن يزهر ويتحول إلى نجاح.
الهمة المعطلة
كما أدلت الأستاذة. شذا المصطفى وكلية المدارس برأيها قائلة "إن تطلع الإنسان إلى معالي الأمور، والتفكير المتواصل في كيفية الحصول عليها كفيل بإيجإد همة عالية تسكن قلب ذلك الشخص.. أما أن يعيش الإنسان حياة هامشية دون أن يحاول تطوير نفسه، أو نفع مجتمعه فها هنا تكون الهمة معطلة،- ومكانك سر- وصدق الشاعر حين قال:
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبدا الدهر بين الحفر
أما الطالبة بثينة عبد العزيز فقد حصرت أسباب الارتقاء بالهمة بالآتي: العلم والبصيرة، حيث قالت: "فالعلم يرفع طالبه عن حضيض التقليد ويصفي نيته. إلى جانب الدعاء لأنه سنة الأنبياء، كذلك لا بد من حصر الذهن وتركيز الفكر في معالي الأمور والتحول عن البيئة المثبطة إلى صحبة الأخيار وأولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم.. فكل قرين بالمقارن يقتدي.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {ألا إن أؤلياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس :62] قال هم الذين يذكر الله لرؤيتهم ".
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتنل ذكراً جميلاً
إضافة إلى المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200]
نماذج نيرة من أصحاب الهمم العالية(1/397)
ما أجمل الحديث عن سيرة سلفنا الصالح، وما أجمل ذكراهم والنهم في قراءة سيرتهم، وتتبع منهجهم.. ذلك لأنهم منابر عصرنا، ونور دربنا، نهتدي بهم ونحن نمضي في طريقنا.. ولعلنا في ختام استطلاعنا نقف على بعض أخبار أولئك الأفاضل علنا نصل إلى ما وصلوا إليه، وإلا فالتشبه بالكرام.. فلنر كيف كان حال السلف مع طلب العلم، وكيف كان الواحد منهم يسهر ليله، ويضني جسده، ويبقى وحده مستأنساً بكتبه، مستعيضاً بها عن الأهل والأصحاب.. فلله درهم.
قيل لبعض السلف "بم أدركت العلم؟ قال بالمصباح والجلوس إلى الصباح " وقيل لآخر فقال ((بالسفر والسهر والبكور في السحر)).. وحكى شيخ الإسلام النووي عن شيخه الإمام الجليل أبي إسحاق المرادي قال "سمعت الشيخ عبد العظيم- رحمه الله- يقول: "كتبت بيدي تسعين مجلدة وكتبت سبعمائة جزءا" قال النووي "قال شيخنا" "ولم أر ولم أسمع أحداً أكثر اجتهاداً منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار".
ولم يكن العلم في ذلك الوقت ميسراً وسهلاً، بل لا بد من السفر وشد الرحال.. وهذا بطبيعة الحال يتبعه ترك الأهل والأولاد وتحفل التعب والمشاق روي عن الرازي ما يدهش اللث من علو همته في الرحلة لتحصيل العلم إذا قال:
"أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة".
سأضرب في طول البلاد وعرضها لأطلب علماً أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا
والحقيقة أن انتشار العلم كان بفضل الله تعالى ثم بجهد وتعب هؤلاء الرجال الأفذاذ ولعل ذكر الجزء يغني عن ذكر الكل ولو ذكرناه لطال بنا المقام.(1/398)
ويمتد الخير إلى زمننا، ولا نعدم فيه أصحاب الهمم العالية، رجالاً كانوا أو نساء.. ولنأخذ على ذلك مثالاً من زمننا حيث امتدت زيارتنا إلى إحدى دور القرآن "دار الصالحات " وفيها التقينا بأم الوليد (40 سنة) التي تبقى لها على ختم القرآن بأكمله جزء واحد فقط،.. وكان لنا معها هذا الحوار:
ما هي الأسباب التي أعانتك على حفظ القرآن وفقك الله ونحن نعلم أن لديك عدداً من الأولاد الصغار المتقاربين في السن كما أنك ربة منزل، ولاتوجد لديك خادمة؟
أولاً لا بد من وجود الرغبة الصادقة مع الاستعانة بالله تعالى وطلب توفيقه، ثم إن المواظبة على الحضور عامل مهم ومساعد في الحفظ مع تنظيم الوقت والمدارسة وأسأل المولى أن يعيننا على العمل به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تتفاوت الهمم يا أم الوليد بين البشر فما هي نصيحتك لمن همته لا تتعدى مصلحة نفسه فقط؟
- النصيحة له هي أن هذه الدنيا زائلة لا محالة ، وأنها لا تساوي شيئاً فلماذا التكالب عليها والغرق في ملذاتها ؟ ولو فكر الإنسان بعقله سوف يعلم أن هناك أمورا يجب عليه أن يستغلها ويحفل بها ما دام يعيش فسحة العمر والذي يرى في نفسه ذلك لا بد أن يحسن مستواه وذلك ليس عيباً ، بل العيب أن نبقى كما نحن .
الجواب الذي للأسف يجهله أغلب أبناء أمتنا هذه الأزمان ، وهو ماجعلنا على هامش الحياة في عصر تسابقت فيه الحضارات بسلاح مجدنا الماضي للحصول على أعلى قمة في الهرم القيادي هو أننا همشنا أنفسنا وصار الأصل في حياتنا هو الهزل والتبعية والاعتماد على الغير ، ومنه إلقاء اللوم على الآخرين ، وأنهم هم من سيتولى مهمة قيادة المركب !(1/399)
وإذا أردت أن تعرف إلى أي حد وصل بنا الحال الهزلي إن صحت التسمية فانظر إلى تصور دهماء الأمة عن أي طفل - مثلاً - برز منذ أن كان عمره 8 سنوات ، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ! وحفظ ألف حديث عن المطظفى - صلى الله عليه وسلم - ! فقط لأنه وجد المربي الذي حاول تفجير الألغام المخزنة في إمكاناته البشرية العادية ، وتدريب عقله الباطن على استمرار الجد ومتابعة الاستيعاب المفيد بشتى أصنافه ،
العجب أننا في أمة حبلى بالأئمة والعباقرة والقادة !!!
ثم تخلينا - إن لم أقل تبرأنا - للأسف من كل هذا ، أنا ألقي التبعية الأولى وفي كل العالم الإسلامي بدون استثناء على الآباء والأمهات ،
نعم ، فنحن دائماً نعمل إما بواكي أو محدثي فتن وفرقة وشقاق علمنا أو لم نعلم !
قدح في الحكام ، وأنهم هم سبب كل الرزايا والمحن !!!
نعم لايختلف عاقلان في أن الحكام يتحملون الوزر الأكبر والعبء الثقيل في المساءلة أمام الله يوم الجمع العام يوم القيامة ، ولكن هل سيكون الحكام هداهم الله أرحم منا بأولادنا ؟ سل نفسك أيها الوالد وأيتها الأم ! أثبتت الدراسات التربوية والنفسية أن كل مولود فيه من الإمكانات العقلية والنفسية والذهنية إذا ماأحسن استغلالها وتنميتها من الطاقات مايفوق طاقة الآف الأطفال من أبنائنا اليوم وللأسف !
ولو أحيينا حب الفائدة والبحث عن المفيد النافع في أبنائنا وبناتنا منذ عرفوا الدنيا لما وجدت السلب بشتى أنواعه ! خذ مثلاً بعض المصائب التي لم تتولد عن حب في ارتكابها والتلذذبها ، ولكن جر إليها الفراغ النفسي وحب الدعة والهزل وعد الإحساس بالمسؤلية ! :
الاختطاف ! الاغتصاب ! السرقة ! المخدرات ! اللواط والزنا ، السكر ! القتل !! ترك الصلاة واستثقال العبادات بشتى أنواعها !
كل هذا صار التخلي عن الآدمية والعيش على هامش الجدول البهيمي لأبناء أمة كانت ستحكم العالم بأمرها وبصناعاتها وإنتاجها !(1/400)
ويجب أن يعلم بل أن يذكر كل ولي أمر أنه إذا أردا أن يشق طريق التربية السليم ذا البناء الفعال ، وأن يسجل اسم ولده مشعاً في سماء تاريخ مجتمعه أن يعلم أن ذلك ليس سهلاً ميسوراً وممهداً بالورود والنرجس والترحاب والتقبيل !!!
ستعاني أيها الوالد وأيتها الوالدة من الآتي :
1/ الشيطان والنفس ،
2/ مكابرة الإبن الذي بدأ يميز ،
3/ التثاقل والانشغال !!
ولكن اعلم أن هذا الولد سيسألك أمام الله عن سوء تربيته وإهماله ، فاتقِ الله فيه ، وارحم أمة هو وأنت منها ، ولأمتي أجمل تحية أعطر دعوة تخلصها من تسلط أبناء صهيون وزمرة النصارى والرافضة الملاعين ، تحية من أخ وأب مشفق غيور ، والله من وراء القصد ، ولاأملك لمشرف الساحة إلا الدعاء وجزيل الشكر ...
----------------------
موضوع مهم جداً وحساس ،، نعم السواد الأعظم من شباب الأمة الإسلامية والعربية مهمش وذلك ليس راجع لقصور في مواهبهم وقدراتهم - وأسأل عنهم وكالة الفضاء الأمريكية - بل راجع لخلل بالقيادات المسيرة لشباب الأمة ..(1/401)
إن المشكلة الرئيسية تكمن ياسادة ياكرام تكمن في قيادات الدول العربية والإسلامية فإذا صلح حالها صلحت الأمة وإذا إنكفئت إنكفت معها الأمة .. معظم الدول العربية والإسلامية - وأستطيع القول جميعها - لا تسعى لبناء الإنسان بقدر ماتسعى لبناء البنيان .. لا تبحث عن تطوير المواهب والقدرات في الشباب إلا في أشياء بسيطة جداً وغير مهمة للأمة .. السبيل إلى ذلك يبدأ من منظومة التعليم والتربية التي تحتاج لغربلة وإعادة برمجة أو كما تسمى بلغة الكمبيوتر( restart ) .. عندما تعى الحكومات العربية والإسلامية دور مواطنيها الفعال للرقي بهذه الدولة وجعلها في مصاف الدول المتقدمة ستجد أن الشباب تغير حالهم ولن نجد أن موضوع كهذا يستحق أن يطرح ككقضية للنقاش في هذا .. ماهو دور وزارات التربية في الدول العربية والإسلامية في هذا الجانب ؟؟ لا شيئ .. ماهو دور الجهات القيادية الشبابية في هذا الجانب ؟؟ لا شيئ .. ماهو دور الحاكم في هذا الجانب ؟؟ لا شيئ .. الكل مشغول بالحفاظ على منصبه مهما كلف الآخرين ذلك دون النظر إلى المصلحة الامة وإذا ظهر أحد بهذا العالم الغريب (العربي والإسلامي ) يريد أن يعمل شيئاً في هذا الإطار حورب وتكالب عليه النفعيون والوصوليون لإطفائه ومن ثم هجرته إلى العالم الآخر وأنتم تعلمون ذلك جيداً ..
تخيلوا معي لو أننا نفعل ما يقوم به العالم المتقدم بالإهتمام بالمواهب وتطوير قدراتهم بكل قوة .. ماذا سيحدث لو أننا إسترجعنا كل علمائنا العرب والمسلمين المهاجرين وقدمنا لهم الميزات ووفرنا لهم المعامل ومراكز البحوث كما يحدث في العالم المتقدم ..
هل تعلمون أن الكيان الصهيوني يخصص أعلى ميزانية للبحث العلمي والتي تعادل حوالي عشرة أضعاف ماينفق على البحث العلمي في الدول العربية مجتمعة !!(1/402)
نريد من قياداتنا أن تعي هذا الدور جيداً ولا ألوم الشباب أبداً فيما هم فيه من تيه وضياع ،، فهذه القيادات هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن وصول شبابنا لهذه الحالة فهم ( الشباب ) الآن لا يخرجون عن حالتين إما العمل بوظيفة روتينية لا تقدم أو تؤخر يستلم راتبه نهاية الشهر أو الهجرة للخارج لتفجير الطاقات والمواهب الموجودة لدية وبالطبع ليستفيد منها أعدائنا ويزيد بدوره من رقيهم وتطورهم على حسابنا ..
--------------------
إن الإرهاصات العالمية لأحداث مايسمى الحادي عشرمن سبتمبر، تجعلنا نشعر أن الغرب سيهجم علينا، حتى وإن سلمنا لهم كل شيء، لذلك يجب على كل مسلم أن يعرف الحقيقة القرآنية التي ذكرها الله تعالى(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم...الآية) . فأصبحت الهجمة الشرسة على المسلمين وشيكة الوقوع بكافة أنواع الهجوم، ونحن نتفرج على مباريات كأس العالم، وننسى مايحدث في فلسطين، لذا أدعو كل عاقل لتربية نفسه على المواجهة وتربية أولاده على ذلك، ومحاولة رفض كل تمييع لقضايا المسلمين في العالم، ودعم كل جهد في الدعوة بالمال والنفس والجاه، حتى يبرئ المسلم ذمته عند الله، وتبصير الناشئة من المسلمين بهذا الخطر القادم الذي بشر به الغرب نفسه وفرضه علينا، وهي مقولة صمويل هنجتون: صراع الحضارات!! ويقصد الإسلام والغرب، فيجب أن نجعل هذه الحققة ماثلة أمام الشباب والأطفال. وأن أول وظيفة يقوم بها الشباب هي المحافطة على الطاعات فهي التي ستحمي المسلمين بإذن الله .
ــــــــــــــــــ
علو الهمة
ما هي الهمة ؟
الهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول..
قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها،
صلح له ما وراء ذلك من الأعمال
الهمة محلها القلب
الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه،(1/403)
كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..
إن يَسْلُب القوم العِدا مُلْكِي وتُسْلِمني الجموعْ
فالقلب بين ضُلُوعِهِ لم تُسْلِمِ القلبَ الضلوعْ
ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :
" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا "
همَّة المؤمن أبلغ من عمله
قال - صلى الله عليه وسلم - :" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء،
وإن مات على فراشه " رواه مسلم وغيره
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته "
رواه الإمام أحمد وغيره
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم،
إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه " رواه النسائي وأبو داود
وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في قوله:
" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ،
قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ،
فأخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره
خصائص كبير الهمة
يا عالي الهمَّة..
بقَدْر ما تَتَعنَّى ، تنالُ ما تتمنَّى
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته،
لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، و اللذات و الكمالات كلها
لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب :
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها تُنال إلا على جسر من التعب
****
فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا
****
أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول(1/404)
وأرى كتابي باليمين وتُسَرَّ عيني بالرسول
****
عالي الهمة يُرى منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم،
فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب ..
****
ذريني أنل ما لا يُنال من العُلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ من إبر النحْلِ
****
من أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها
قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية،
ألا إن سلعة الله الجنة "
كبير الهمة لا ينقُضُ عَزْمه
قال تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله )
قال جعفر الخلدي البغدادي : " ما عقدت لله على نفسي عقدا ، فنكثته "
علام يندم كبير الهمة؟
يندم على ساعة مرت به في الدنيا لم يعمرها بذكر الله عز وجل ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها "
يا كبير الهمة : لا يضرك التفرد ، فإن طرق العلاء قليلة الإيناس
فعالي الهمة ترقى في مدارج الكمال بحيث صار لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يحصل مع كل مرتبة
يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة ، و إلا انقطع به السبيل ..
عالي الهمة لا يرضى بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور
إن عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئا في الدنيا فسوف يكون زائدا عليها ، ومن ثم فهو لا يرضى بأن يحتل هامش الحياة ، بل لابد أن يكون في صلبها ومتنها عضوا مؤثرا
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا * ولم أقتبس علما فما هو من عمري
إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته ما يراه مستحيلا ، وينجز ما ينوء به العصبة أولو القوة ،
ويقتحم الصعاب والأهوال لا يلوي على شيء(1/405)
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجل من الدهر
ندرة كبيريّ الهمة في الناس
يصدق عليهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " تجدون الناس كإبل مائة ، لا يجد الرجل فيها راحلة "
وهم في الناس ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين
وقد كانوا إذا عدوا قليلا فقد صاروا أعز من القليل .
عالي الهمة لا يرضى بما دون الجنة
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء ، ولا يرضى بحياة مستعارة ، ولا بقُنيةٍ مستردة ، بل همه قنية مؤبدة ، وحياة مخلدة ، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي ، و لا ينتهي تحليقه دون عليين ، فهي غايته العظمى ، وهمه الأسمى..
عالي الهمة شريف النفس يعرف قدر نفسه
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه ، في غير كبر، و لا عجب ، ولا غرور ، وإذا عرف المرء قدر نفسه ، صانها عن الرذائل ، وحفظها من أن تهان ، ونزهها عن دنايا الأمور ، و سفاسفها في السر والعلن ، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها ، فتبقى نفسه في حصن حصين ، وعز منيع لا تعطى الدنية ، و لا ترضى بالنقص ، ولا تقنع بالدون ..
كبير الهمة عصامي لا عظامي
فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه ، لا اتكالا على حسبه ونسبه ، و لا يضيره ألا يكون ذا نسب ، فحسبه همته شرفا ونسبا ، فإن ضم كبر الهمة إلى نسب كان كعقد علق على جيد حسناء ..
الحث على علو الهمة في القرآن والسنة
تواردت نصوص القرآن والسنة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور ، والتسابق في الخيرات ، وتحذيرهم من سقوط الهمة ، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك ..
فمنها: ذم ساقطي الهمة وتصويرهم في أبشع صورة :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون )(1/406)
ومنها: ثناؤه سبحانه على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون
وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ..
( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل )
ومنها : أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة ، والقوة في دين الله
( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين )
( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة )
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )
ومنها : أنه سبحانه أمر المؤمنين بالهمة العالية ، والتنافس في الخيرات ..
( فاستبقوا الخيرات )
أما السنة الشريفة فمليئة بالكثير من الصور ..
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها )
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : ( إن الله تعالى يحب معالي الأمور ، ويكره سفاسفها )
وقال - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه: ( إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ..
فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة )
***********
كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرا غير مجذوذ ، ويجري في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل ، فلا ترى واقفا إلا على أبواب الفضائل ، ولا باسطا يديك إلا لمهمات الأمور ..
إن التحلي بكبر الهمة يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال ، ويجتث منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة ..
مجالات علو الهمة :
* علو الهمة في طلب العلم
قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسد ..
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل(1/407)
ومن لم يذل النفس في طلب العلى يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
* علو الهمة في العبادة والاستقامة
قال الحسن : من نافسك في دينك فنافسه ، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره
قال وهيب بن الورد : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل ..
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
* علو الهمة في البحث عن الحق
لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق
و بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس ، فصاروا مضرب الأمثال ، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثا عن الحق مخلصا لله تعالى ، فإن الله عز وجل يهديه إليه ، ويمن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام
ومن النماذج المشرقة في البحث عن الحق
سلمان الفارسي رضي الله عنه ..
أبوذر رضي الله عنه ...
* علو الهمة في الدعوة إلى الله تعالى ..
كبير الهمة يحمل هم الدعوة
من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه ، وبلوغ الجهد في النصح لهم ، كما يتضح ذلك جليا لمن تدبر سير المرسلين ، خاصة خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ..
إن المتأمل لقوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك
بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام ، واعتز بهم الإسلام ، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة
سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عباد صالحين
ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء
ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم ، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ
و لا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين ..
* علو الهمة في الجهاد في سبيل الله
قال عمران بن حصين: ( ما لقي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة إلا كان أول من يضرب )(1/408)
وكذلك الشجعان في أمته والأبطال لا يحصون عدة ، و لا يحاط بهم كثرة ، سيما أصحابه المؤيدين الممدوحين في التنزيل بقوله تعالى :
( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )
قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف )
حال الأمة عند سقوط الهمة
إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان ، وقرين الذل والصغار ، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا ،
فأورثتها قحطا في الر جال ، وجفافا في القرائح ، وتقليدا أعمى ، وتواكلا وكسلا ، واستسلاما لما يسمى الأمر الواقع ..
كل ذل يصيب الإنسان من غيره ، ويناله من ظاهره : قريب شفاؤه ، ويسير إزالته ،
فإذا نبع الذل من النفس ، وانبثق من القلب ، فهو الداء الدوي ، والموت الخفي ..
أسباب انحطاط الهمم
حتى نكون أبعد عن انحطاط الهمم لابد أن نتعرف على أسباب ذلك ..
* الوهن .. كما فسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( حب الدنيا، وكراهية الموت )
* الفتور .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن لكل عمل شِرَّةً، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي
فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك )
* اهدار الوقت الثمين في فضول المباحات .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس
الصحة والفراغ )
* العجز والكسل .. قال تعالى: ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم
وقيل اقعدوا مع القاعدين )
* الغفلة .. وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها
قال ابن القيم رحمه الله: لابد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم ..
* التسويف والتمني .. وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلَّما همَّت نفسه بخير،
إما يعيقها بسوف حتى يفجأه الموت، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له،
يدمن ركوبه مفاليس العالم .(1/409)
* ملاحظة سافل الهمة من طلاب الدنيا.. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مَثل الجليس الصالح
والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيك ، وإما أن تبتاع منه،وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة )
* العشق .. لأن صاحبه يحسر همته في حصول معشوقه فيلهيه عن حب الله ورسوله.
* الانحراف في فهم العقيدة .. لا سيما مسألة القضاء والقدر، عدم تحقيق التوكل على الله تعالى، بدعة الإرجاء.
* الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم ..
قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم )
* المناهج التربوية والتعليمية الهدامة .. التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول،
وتنشىء الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية.
* توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون
حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه.
أسباب الارتقاء بالهمة
* العلم والبصيرة .. العلم يصعد بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويُصفِّي النية.
* إرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحداً.. قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن
فأولئك كان سعيهم مشكورا )
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كانت همّه الآخرة، جمع الله له شملَه، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة،
ومن كانت همّه الدنيا، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له)
* كثرة ذكر الموت .. عن عطاء قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء،
فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون .(1/410)
* الدعاء.. لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أعجز الناس من عجز عن الدعاء )
* الاجتهاد في حصر الذهن، وتركيز الفكر في معالي الأمور.. قال الحسن: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
* التحول عن البيئة المثبطة.. إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تُنَظَّف
إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء .
* صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم..قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر)
* نصيحة المخلصين .. قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )
* المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف..قال تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
أطفالنا وعلو الهمة
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه، وسَعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر، وأُهْمِل إهمالَ البهائم شقي وهلك.. وصيانته بأن يؤدِّبَه،
ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق ..
وقال ابن خلدون: التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده.
كِبَارُ الهمَّةِ النَّابغُون .. مُخْتَصَرُ الطريق إلى المَجْد..
إن المرء لا يولد عالماً، وإنما تربيه جماعة، وتصنعه بيئة، و تتعهده بالرعاية والتعليم،
حتى يمتلك ناصية العلم الذي يطلبه .
.........
إن الأمة التي تهتم بالنابغين، تصنع بهم مستقبلها المشرق، لأنهم يُصْلِحون أمرها، ويسهمون في ازدهارها،
والأمة التي تهمل رعاية نابغيها سوف تشقى حين يتولى أمورها جهلة قاصرون يوردونها المهالك،أو مرضى نفسيون معقدون يسومونها سوء العذاب، أو سفلة أصحاب نفوس دنيئة وهِممٍ خسيسة
يبيعونها لأعدائها بثمن بخس .
أثر عُلُوّ الهمَّة في إصلاح الفرد والأمَّة(1/411)
أصحاب الهمة العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، و يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الموقف،
وهم الصفوة التي تباشر مهمة " الانتشال السريع " من وحل الوهن، و وهدة الإحباط.
...............
زاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء المجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فإن مرور الزمن ليس من صالحك،
وإن الطغيان كلما طال أمده، كلما تأصَّلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولابد من مبادرة تنتشل،
ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة .
..........
هذا زمان لا توسُّط عنده يبغي المغامر عالياً وجليلا
كن سابقاً فيه أو ابق بمعزلٍ ليس التوسط للنبوغ سبيلا
..........
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة " عُمَرِيَّة " توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة،
وتنتظر منك صيحة " أيوبية " تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة،
فاستعن بالله ولا تعجز .
ــــــــــــــــــ
عوائق على الطريق
أخواتي الحبيبات هذه أول مشاركة لي في المنتدى بعد عودته الينا أرجو أن تنال إعجابكن
علو الهمة .... عوائق على الطريق
إن المرأة الصالحة ذات الهمة العالية هي المرأة التي تهتدي بسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - وتتخذ من النماذج الشامخة لنساء المسلمين في علو همتهن القدوة والمثل حتى لا تركن إلى الدنيا ومن ثم إلى الكسل والعجز.(1/412)
قال ابن القيم - رحمه الله - : (علو الهمة: أن لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلا منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم: كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن "الهمة" كلما علت بعدت عن وصول الآفات أليها وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همت المرء: عنوان فلاحه، وسفول همته: عنوان حرمانه)
يا رب! مالي غير لطفك ملجأ **** ولعلني عن بابه لا أطرد
يا رب! هب لي توبة أقضي بها **** ديناً عليّ به جلالك يشهد
أنت الخبير بحال عبدك إنه **** بسلاسل الوزر الثقيل مقيد
أنت المجيب لكل داع يلتجي **** وأنت المجيب لكل من يستنجد
من أي بحر غير بحرك نستقي **** ولأي باب غير بابك نقصد
الحث على علو الهمة:
أولاً - من الكتاب الكريم:
قال الله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين"
ثانياً - من السنة المطهرة:
قال - صلى الله عليه وسلم - : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"
ثالثاً - من أقوال السلف:
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة .
وقال: من نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره
أسباب إنحطاط الهمم:
1- الوهن .... كما فسره المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "حب الدنيا وكراهية الموت".
2- الفتور .... فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك".
3- اهدار الوقت الثمين .... فالمسلمة التي لا تعرف للوقت قيمته فان ذلك يحط من همتها وعزيمتها .(1/413)
4- الكسل .... فترى الفقد ترين المرأة موهوبة ونابغة فيأتي الكسل فيخذل همتها ويمحق موهبتها ويطفئ نور بصيرتها ويشل طاقتها، قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام
5- التسويف بالتمني .... إن من أسباب انحطاط الهمم وأخطرها ركوب سفينة سوف والسير بها في بحار التمني وهو بحر لا ساحل له، وقد قيل .. من زرع شجرة سوف أنبتت له نبتة لعل فيها تمر اسمه ليت يذوقه الانسان طعمه الخيبة والندامة .
6- مصاحبة المثبطات اللاهيات .... ان مجتمع المثبطات اللاهيات عندما يحيط بالمسلمة يضعفها وقد لا تستطيع المقاومة فيدب الفتور في أوصالها ويسري التراخي الى عبادتها وأعمالها، وقال الشاعر:
لا تصحب الكسلان في حالاته *** كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة *** كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
7- فتنة الزواج والأولاد .... فالزواج قد يكون عوناً على علو الهمة وقد يكون بلاءً وفتنة قال - صلى الله عليه وسلم - : "الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة"
وقال الله تعالى: "اعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة"
وقال الله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم"
فأسأل الله أن يجعلنا ممن علت همتهن وأن يصرف عنا دنو الهمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ــــــــــــــــــ
فارس الدعوة
تأملات :الوطن العربي :الثلاثاء 20 محرم 1426هـ - 1 مارس 2005 م
هو.. فارس لا يترجل.
ألف صهوة الخيل فلا غير.
عشق القمم فما عاد يعرف للأودية سبيلاً ولا إليها طريقاً.
سارت هموم الناس في أفلاك شهواتهم، وسار نجم همه في أفلاك دعوته, فهو آخذ بزمام فرسه، طائر على جناح السرعة، قد نصب خيمته في صحراء التائهين، وأوقد ناره عندها كي يراه المنقطعون فيقصدونه, فيستنقذ منهم غافلاً ويعلم فيهم جاهلاً ويرشد فيهم حائرًا.
يالُبينى أوقدي طال المدى أوقدي علَّ على النار هدى(1/414)
أوقدي يالُبن قد حار الدليل أوقدي النار لأبناء السبيل
أوقدي النار وأذكي جمرها علَّ هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما أرشدي هذا الفراش الهائما
إنه فارس الدعوة.. لا ينفك أبداً عن سعي دؤوب وجهد مشبوب في سبيل الدعوة, يحكي لك حاله حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: 'طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله, أشعث رأسه مغبرة قدماه'[1]. لقد سمع قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [ آل عمران ], فأجاب وكان أمة.. هو في ليله قائم, وفي نهاره هاجم, في سره عامل, وفي جهره داع.. إنه ذلك الداعية الذي لا يعرف الراحة، ولا يلذ له النزول من فوق صهوة الدعوة, فَهِم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 'الراحة للرجال غفلة', فأعرض عن الراحة، ونزل إلى الساحة، يصول فيها ويجول. وكيف يستطيب الراحة، وفي التعب في سبيل الله كل اللذة. قيل لعلقمة رحمه الله: كم تعذب هذا الجسد الضعيف! فقال: لا تنال الراحة إلا بالتعب. وقيل لمسروق بن الأجدع: لقد أضررت ببدنك! فقال: كرامته أريد!!
والحر لا يكتفي من نيل مكرمة حتى يروم التي من دونها العطب
يسعى به أمل من دونه أجل إن كفَّه رهب يستدعه رغب
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الداعي والدليل, فلما قبضه الله إليه أقام له من أمته من يخلفه بعده، وهم آحاد أفراد يدلون إلى الحق ويرشدون الخلق ويصبرون على أذاهم. يسيرون على نهج نبيهم, ويلزمون غرزه, ويتبعون طريقته, قد تحلى بهم الزمن على مر عصوره, فصار كعقد من الجواهر أحاط بالقمر.
فتجاوزاً لحقب الزمن الأول واتصالاً بالعصر الحاضر, لنعرض إلى قصص وحوادث, وسير ومشاهد, يتبين عند عرضها بجلاء أنَّ الأمة ما زالت بخير, وأن فيها من يعمل للدين ويدعو إليه, يبذل في ذلك قصارى جهده ومنتهى سعيه، جاعلاً ذلك من أعظم القرب إلى الله, وكما قال شيخ الإسلام: 'أعظم ما عبد الله نصيحة خلقه'.(1/415)
وحين نعرض لهذه الصور المشرقة والصفحات المضيئة, فلسنا نعرضها لنُطرب النفوس فتُبارك دون أن تشارك.. كلا.. بل نعرضها رجاء أن يستيقظ بها نائم، أو يصعق بها غافل, ويتحرك لها فاتر العزيمة ضعيف الهمة الذي ربما وافته فرص عظيمة دون أن يستثمرها, لعله يبذل لدينة وملته أقل القليل, وحتى لا يعيش الحياة دون حياة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف 111 ], وصدق إقبال حين قال:
'تولد الأمة من قلب جليل'
فخذها نماذج من فرسان الدعوة المعاصرة تركت فيها دعاة معروفين[2] قد دونت الكتب آثارهم, ونشرت على الملا أخبارهم, تركتها إلى دعاة هم أقل شهرة من سابقيهم.. وفاءً ببعض حقهم علينا..
المهندس محمد توفيق بن أحمد رحمه الله[3] , ذاك الرجل المبارك, أسس دار تبليغ الإسلام في سويسرا, كان يعمل في صمت طوال خمسة وستين عامًا, أسلم على يديه أربعة آلاف, أرسل رسائل للتعريف بالإسلام والدعوة إليه وصلت إلى مائة ألف رسالة, يقول عنه الصحفي المغربي عبد القادر الإدريسي: التقيت به مرتين تفصل بينهما ثلاثة عشرة سنة: لم يتغير الرجل طوال هذه المدة, بل أستطيع أن أقول: إن قوته وعزيمته تزدادان مضاءً مع توالي الأعوام، الإشراق في عينيه يجذبك إليه بقوة رجل ليس كالرجال, قمة من القمم الشامخة التي وهبت حياتها لله رب العالمين.
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ شيبًا بماء فعادت بعد أبوالا
والسؤال الذي يطرح نفسه، كم يقدم إلى بلادنا من غير المسلمين ثم يرجعون دون أن يكون لأحد منا أقل الجهد, بإعطائه نسخه من كتاب يُعَرِّف بالإسلام, أو أن ندله إلى توعية الجاليات؟! إنها حالة مزرية من الضعف المشين..
[(1/416)
أحمد وبيللوا] رئيس وزارة الإقليم الشمالي في نيجيريا الذي اغتيل في أواخر رمضان عام 1385هـ. كان من ثمرات عمله الدؤوب في نشر الإسلام الذي بدأه في عام 1963هـ بين الوثنيين, أنه لم ينته ذلك العام حتى دخل في الإسلام على يديه ستون ألفاً من الناس، وحتى إذا انتهى عام 1964هـ أي سنتين من بداية عمله كان عدد الذين أسلموا يزيدون على ثلاثمائة ألف!! كلهم يأتون في صحيفة حسناته يوم القيامة, نسأل الله ذلك.
أين فؤادي أذابه الوجد وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوى بذكرهم بالله زدني فديت يا سعد
كانت الدعوة تجري في دمائهم, تتحرك في نفوسهم كما الدم يتحرك في عروقهم, ولا يوقفها إلا انقطاع النفس.
شاب يعيش في ألمانيا كان مجتهداً في الدعوة إلى الله اجتهاداً عظيماً, حتى لا يكاد يذوق طعمًا للراحة, قد استحوذت الدعوة على كل كيانه, وبينما هو على هذه الحال, رأى أصحابه أن يمنحوه إجازة إجبارية ليرتاح ويتفرغ لأولاده، وذهبوا به بصحبة أولاده إلى متنزة ناءٍ لا يعرفه فيه أحد، حتى يهنأ ببعض الراحة ويجم نفسه, ووعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام, فلما رجعوا ماذا وجدوا؟! وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في ذلك المكان كان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلتهم بالدين، فدعاهم إلى الله وألف بينهم, وأقاموا مسجداً كان فيما بعد منطلقاً للدعوة إلى الله في تلك البلدة[4]. أرأيتم لو أنه جعلها مجرد نزهة فقط هل يتم له ما حصل؟!
دون المعالي مرتقى شاهق فَطِر إلى ذروته أو قعِ
من لم يخض غمرتها لم يشد قواعد المجد ولم يرفعِ(1/417)
في غرفة العناية المركزة، اعتدنا أن نسمع فيها صوت الأنين ونرى التوجع والألم, فيا ترى ما حال من استغرقت عليه الدعوة فزاحمت أنفاسه، أيشارك الناس أنينهم وينسى حنينه؟! هذا شاعر الدعوة الإسلامية المعاصرة: عمر بهاء الدين الأميري، يرقد في جناح طب القلب، موصول صدره إلى جهاز المراقبة الإلكتروني بأسلاك تفل من حركته, يحقن في بطنه كل يوم مرات بإبر لإماعة الدم. دخل عليه الطبيب وهو في هذه الحالة, فسأل القائم على التمريض عن استراحة شاعرنا؟ فبادره شاعرنا بالجواب:
كلا رويدك يا طبيب وقد سألت: أما استراح؟
هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح[5]
نعم كيف يستريح من يوقد صدره عبء الدعوة وضخامة المسؤولية. قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: متى الراحة؟ فقال: عند أول قدم نضعها في الجنة!!
بل إن هم الدعوة لا يفارقهم حتى في أشد اللحظات, فهذا الداعية الشيخ/ حسن علي رحمه الله: سمعه بعض الناس وهو في لحظات الموت يقول: 'اترك دينك وصر مسلماً' تلك كلماته التي كان يرددها حال صحته ونشاطه عادت حديث وفاته! لقد استحوذت الدعوة على نفسه, ومن عاش على شيء مات عليه.
كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف المعالي
وحتى لا يظن أن هذا الجهد المبارك لم يكن للنساء فيه نصيب, فإني أعرض إلى صورتين مشرقتين لامعتين من نماذج النساء الداعيات:(1/418)
ذكر صاحب كتاب كيف أخدم الإسلام[6] ؟ أن امرأةً كانت مشغولة بالدعوة لا تترك فرصة تذهب سدى دون نصح أو تأثير، كانت إذا ذهبت للحرم المكي أو المسجد النبوي بذلت نفسها لتعليم المسلمات أمور دينهن، وحثهن على الحجاب الشرعي، رأت مرة مجموعة من الفتيات من إحدى الدول العربية قد كشفن رؤوسهن، وعندما سألتهن عن حضورهن بهذه الصورة، قلن لها: نحن عضوات فريق كرة الطائرة... وأتينا للعمرة, عندها بدأت الموفقة بالدعوة إلى الله معهن وما قامت عنهن حتى تحجب بعضهن... يقول صاحب الكتاب: وقد رأيت رسالة من إحدى اللاعبات أرسلتها إلى الداعية تبشرها أنها بدأت تبعث في نفوس زميلاتها التمسك بالحجاب والستر والعفاف {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [ آل عمران: 104 ].
وهذه امرأة أخرى كانت إذا أقبل موسم الحج قامت باختيار وشراء الآلاف من الكتب باللغة الإندونيسية ثم وضعت كل مجموعة داخل مغلف ثم ترسل بها إلى الحجاج ليتم توزيعها هناك كل عام[7], فيا ترى كم استفاد من هذا الجهد المبارك؟!(1/419)
وبعد هذا العرض اليسير للقمم السامقة من رجالات ونساء الدعوة, والتي أردت فيها بعث الهمة وإيقاظ العزيمة, فإني أتمم ذلك بذكر حديث لفارسٍ من فرسان الدعوة الإسلامية, خاض غمارها, وعاش ليلها ونهارها, ذاك هو الداعية المبارك أحمد ديدات رحمه الله, أتركه ليحرك الدم المتجمد في عروقك بسياط نصحه, ويدفع قدمك للصعود بعظيم وعظه فيقول - بتصريف يسير-: 'إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: 'اليد العليا خير من اليد السفلى', وهذا يعني أن الذي يعطي أرفع منزلة من الذي يأخذ، إن مهمتنا هي أن نخرج لنبلغ رسالة الله، إننا في مكانة أعلى من الناحية العقدية.. ويقول: ملايين الخطط وملايين المتفرغين النصارى هدفهم تحويل العالم الإسلامي إلى النصرانية ونحن نغُطُّ في نوم عميق. النصارى يقرعون أبوابنا في بلادنا!! فقد تنصر 15 مليون إندونيسي وهناك الآن مئات الآلاف من المتفرغين للتنصير في أفريقيا.
هناك مجموعة صغيرة من النصارى قد طبعوا أكثر من [84] مليون نسخة من كتاب واحد بأكثر من [95] لغة ويطبعون 102 مليون نسخة من مجلة شهرية بأكثر من 102 لغة؟!!
النصارى أصبحوا يجرفون المسلمين في كافة أنحاء العالم، وليس هناك من يبكي لهذه النتيجة، بينما نرى النصارى يندفعون على نطاق واحد لنشر دينهم والتضحية بحياة الترف والبذخ والعيش في أدغال أفريقيا والصحاري الحارقة هناك. فالأيرلنديون مثلاً وهم من الفقراء في بريطانيا - مقارنة بالإنجليز - يبعثون الآلاف من الرجال والنساء في العالم لخدمة المسيح كما يزعمون!
ثم يقول وهو يستثير المسلم ويبعثه إلى نشر عقيدته: إن المسلم يملك هذا الدين.. يملك البرهان عليه، وعليه أن يصحو ويعلم أنه يملك [جرافة] منحها الله إياه, تحطم كل الصخور - صخور الأصنام والجاهلية - هي هذا الدين, فعليه استخدامها لنيل العزة...(1/420)
ويقول: من مائة ألف صحابي حضروا حجة الوداع, لم يدفن في المدينة منهم إلا عشرة آلاف! أين ذهب الباقون؟! لقد انطلقوا في الآفاق يمتطون خيولهم وجمالهم ينشرون دعوة الله, أدركوا أن رسالتهم للعالم فلم يكتفوا بالجلوس في بيوتهم ومساجدهم...' إلى آخر كلامه البديع[8].
إن هذه الجهود المباركة المشكورة في سبيل الدعوة, إنما هي أثر من آثار محبة الله ومعرفته, فمن عرف الله دلَّ عليه, وقد صدق عبد القادر الجيلاني رحمه الله حين قال: 'من كملت معرفته لله عز وجل صار دالاًّ عليه, يصير شبكة يصطاد بها الخلق عن بحر الدنيا, يعطي القوة حتى يهزم إبليس وجنده'.
أيها الغافل وكلنا ذلك, هذه قوافل الخير قد سارت وأنت نائم.. فإن أردت اللحاق بها فتوسد ذراع الهمم، وقم على أقدام القلق.. حتى لكأن النوم قد حلف على جفا أجفانك.
إلى كم حبسها تشكو المضيقَ إثرها ربما وجدت طريقا
أجلها تطلب القصوى ودعها سدى يرمي الغروب بها الشروق
أتعقلها وتقنع بالهوينا تكون إذن بذلتها خليقا
ورحم الله ابن سعدي حين قال: [رحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة, وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين][9].
فيا أيها الأخ المبارك: اخرج من ديار الغفلة ومواطن الكسل, وحدث النفس بالعمل, واجعل الهمة تومئ إلى البطالة وتودعها إلى غير رجعه..
سلام على اللذات واللهو والصبا سلام وداعٍ لا سلام قدومِ
إبراهيم بن صالح الدحيم
eedd@gawab.com
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري [2887].
[2] أمثال [العلامة ابن باز والألباني والعثيمين رحمهم الله].
[3] صلاح الأمة في علو الهمة للعفاني 2/ 115.
[4] علو الهمة محمد أحمد إسماعيل ص283.
[5] علو الهمة محمد أحمد إسماعيل ص259.
[6] لعبد الملك القاسم ص33.
[7] كيف أخدم الإسلام للقاسم ص89, وللزيادة راجع الكتاب, ففيه مواقف حاضرة ومؤثرة.
[(1/421)
8] صلاح الأمة في علو الهمة 2 /135 - 136.
[9] كيف أخدم الإسلام للقاسم ص44.
ــــــــــــــــــ
هل أنت معلم ناجح؟لا تحكم على نفسك إلا بعد قراءة
33 خطوة للمعلم الناجح
1ـ اعرف عملية التدريس
إن أي مهنة لا يمكن أن تتقنها وتبرع فيها ما لم تكن ملما بأصولها ومبادئها. وللتدريس ـ الذي هو عملية التعليم والتعلم ـ أصول وقواعد، منها ما يخص المعلم ومنها ما يخص المتعلم ومنها ما يخص المادة ومنها ما يخص أسلوب التعلم ووسائله. وهذا ما يدور حوله غالبا علم النفس التربوي.
فمثلا إلمامك بالطريقة التي يتم بها التعلم، وما هي الأشياء التي تؤثر فيه سلبا أو إيجابا، يساعدك على اختيار الطريقة الصحيحة في التدريس التي تناسبك وتناسب طلابك ومادتك. ومع أن هناك اختلافا في النظريات والآراء في هذا المجال، إلا أن الإلمام بها ودراستها دراسة ناقدة وتطبيق ما صح منها يفيد المعلم كثيرا في التدريس ويساعد على تلافي كثير من الأخطاء التي يقع فيها كثير من المعلمين.
2- اعرف أهداف التدريس العامة والخاصة والسلوكية
للأهداف ـ في أي عمل ـ أهمية كبيرة تتلخص في الآتي:
1ـ توجيه الأنشطة ذات العلاقة في اتجاه واحد، وتمنع التشتت والانحراف.
2ـ إيجاد الدافع للإنجاز، وإبقاؤه فاعلا .
3ـ تقويم العمل لمعرفة مدى النجاح والفشل.
وهذه الأمور الثلاثة تجعل الأهداف ذات أهمية كبرى للمعلم أثناء تدريسه. فمن المهم أن يحدد المعلم أهدافه من التدريس، وبشكل واضح. ولا يمكن أن يتم تدريس ناجح دون وجود أهداف واضحة.
والأهداف أنواع، فهناك أهداف عامة ـ بعيدة المدى ـ وهناك أهداف خاصة ومرحلية. والعلاقة بين العام والخاص من الأهداف علاقة نسبية فما يكون عاما بالنسبة لما دونه قد يكون خاصا بالنسبة لما فوقه. فمثلا في تدريس مادة الفقه في مرحلة ما، هناك أهداف عامة من تدريس المادة .(1/422)
هناك أهداف عامة من تدريس المادة أساسا، وهناك أهداف دونها من تدريس المنهج في مرحلة معينة وأهداف من تدريس مقرر محدد في سنة محددة وأخيرا أهداف خاصة من تدريس وحدة أو درس معين. ولإلمام المعلم بهذه الأهداف يساعد في تنسيق الجهود وجعلها متضافرة للوصول إلى الهدف العام النهائي المقرر في سياسة التعليم....
...محدد الذي يتوقع أن يقوم به الطالب نتيجة لنشاطه في درس معين. وقولنا إنه ظاهر ومحدد لكي نشير إلى سلوك معين يمكن مشاهدته وتحديده وقياسه، وليس سلوكا داخليا لا يمكن مشاهدته. فمثلا إذا قلنا: نتوقع من الطالب بعد هذا الدرس أن يعدَّ من واحد إلى عشرة. فهذا سلوك ظاهر يستطيع كل فرد أن يراه ويقيس مدى نجاح المعلم والطالب في تحقيقه. لكن لو قلنا: نتوقع من الطالب بعد هذا الدرس أن يفهم العلاقة بين كذا وكذا فإن هذا السلوك ـ أي الفهم ـ سلوك عقلي داخلي لا نراه، وإن كنا قد نرى بعض آثاره، فلذلك قد يصعب قياسه.
اربط كل نشاط الفصل بالسعي لتحقيق تلك الأهداف. واجعلها في أول تحضيرك وبشكل بارز، ولا بأس أن تكتب مختصرا لها على السبورة لتضمن عدم شرود ذهنك عنها.
إن الأهداف السلوكية وإن انتقدها بعض الباحثين، لها أثر كبير في تسهيل عملية التدريس على المعلم والمتعلم.
إن من أهم أسباب فشل كثير من المعلمين في أداء دروسهم في الفصل رغم تحضيرهم لها كتابيا تحضيرا جيدا هو عدم رسوخ أهداف الدرس في أذهانهم، فترى المعلم ينتقل من نشاط إلى نشاط وكأنه لا رابط بينها ولا هدف مشترك لها.
3- اعرف تلاميذك - مستواهم - أفكارهم - خصائصهم العمرية(1/423)
عندما تدخل إلى غرفة الفصل لأول مرة فإنك تواجه عالما مجهولا لديك إلى حد بعيد. لكنك في الغالب تدخل على فئة متجانسة بشكل عام من حيث العمر والخصائص النفسية والعاطفية. فمعرفتك المسبقة بالخصائص العامة لتلك الفئة يفيدك في وضع القواعد للتعامل معها. فمثلا إذا عرفت الخصائص العامة لمرحلة المراهقة سهل عليك تفسير كثير من التصرفات التي تصدر ممن يمرون بها من طلابك واستطعت أن تتوقع ـ إلى حد كبير ـ ما يمكن أن يصدر من سلوك أو يحدث من مشكلات تعليمية.
أيضا معرفة مستوى الطلاب الاجتماعي وخلفيتهم الثقافية ونوعية أفكارهم يفيدك في أسلوب طرح الأفكار وعرض الدرس، واختيار الأمثلة.
4-أعد دروسك جيداً
الإعداد الجيد للدرس هو المخطط الذي يتوصل به المعلم إلى أهدافه من الدرس وبالتالي إلى درس ناجح.
* خطوات الإعداد :
أ - تحديد الأهداف :
حدد أهداف الدرس بدقة ووضوح، وصغها صياغة صحيحة. وغالبا ما تكون الأهداف محدد في كتاب المعلم أو في خطة تدريس المقرر، فلا مجال للاجتهاد فيها.
ب- الإعداد الذهني :
بعد أن تحدد أهداف الدرس بدقة، ابدأ في الخطوة التالية وهي رسم الخطة لتحقيق تلك الأهداف. وقبل أن تبدأ في الكتابة يجب أن تكون فكرة خطة التدريس قد تبلورت في ذهنك.
جـ- الإعداد الكتابي :
بعد أن تكون تصورا كاملا ومترابطا لطريقة سير الدرس قم بتسجيلها على شكل خطوات واضحة ومحددة، مراعيا في كل خطوة عامل الوقت وارتباطها بأهداف الدرس.
وما قل الاهتمام بالإعداد الكتابي إلا لأن المعلم ـ والمشرف، أحيانا! ـ صار ينظر إليه على أنه عمل روتيني جامد .. لا تجديد فيه ولا إبداع ولا نمو.
د- أعد متطلبات الدرس :(1/424)
غالبا يحتاج المعلم في شرح لبعض الوسائل التعليمية والمعينة، وينبغي على المعلم الاهتمام بتحضير هذه الوسائل والتأكد من صلاحيتها وإمكانية استخدامها في المكان الذي ستستخدم فيه. وينبغي ألا يؤجل إعداد الوسيلة إلى بداية الدرس حيث أن هذا يضيع الكثير من الوقت، وقد لا تكون الوسيلة المرادة متوفرة أو صالحة للاستعمال.
هـ- حاول التنبؤ بصعوبات التعلم :
المعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يتنبأ بعناصر الدرس التي ستكون صعبة على الطلاب، فيحسب لها الحساب أثناء إعداد الدرس فيكون مستعدا لها فلا تفسد عليه تخطيطه لدرسه.
و - تدرب على التدريس :
بعض الدروس ـ أو بعض الخطوات فيها ـ وخاصة التي تقدم لأول مرة قد تحتاج إلى شيء من التدريب، فلا بأس أن يقوم المدرس بالتدرب عليها ليضمن أن يقدمها بصورة مرضية أمام الطلاب (وقد يلمس هذا بشكل واضح في تدريس اللغة الإنجليزية).
5-استخدم طريقة التدريس المناسبة
للتدريس عدة طرق، وليس هناك طريقة من هذه الطرق صالحة لكل الأحوال بل هناك عدة عوامل تحدد متى تكون طريقة ما أكثر مناسبة من غيرها.
فقم بتحديد ما يناسبك من الطرق في ضوء المعايير التالية:
1ـ الدرس المراد شرحه
2ـ نوعية الطلاب
3ـ شخصيتك أنت وقدراتك كمعلم يقوم بتقديم ذلك الدرس.
* وتذكر أن:
أهداف واضحة ومحددة + طريقة صحيحة درس ناجح.
** بشكل عام، ليكون الدرس ناجحا على المعلم أن:
1ـ يهيئ الطلاب للدرس الجديد بتحديد أهدافه لهم وبيان أهميته.
2ـ يتأكد من معرفة الطلاب لمقدمات الدرس ومتطلباته السابقة، ولو عمل لها مراجعة سريعة لكان أفضل.
3ـ يقدم الدرس الجديد.
4ـ يلقي الأسئلة على الطلاب ويناقشهم لمعرفة مدى فهمهم.
5ـ يعطي الطلاب الفرصة للممارسة والتطبيق.
6ـ يقيم الطلاب ويعطي لهم تغذية راجعة فورية عما حققوه.
7ـ يعطي الواجب .
6-كن مبدعاً وابتعد عن الروتين(1/425)
إن التزامك بطريقة واحدة في جميع الدروس، يجعل درسك عبارة عن عمل رتيب (روتين) ممل، فتكفي رؤيتك مقبلا للفصل لتبعث في نفوس الطلاب الملل والكسل. حاول دائما أن تتعامل مع كل درس بشكل مستقل من حيث الطريقة والأسلوب، وكن مبدعا في تنويع أساليب العرض.
ومن أكثر ما يثير الملل في نفوس الطلاب البداية الرتيبة للدرس، فكلمة: "افتحوا الكتاب صفحة..!" أو البدء بالكتابة على السبورة من الأشياء التي اعتاد عليها أكثر المعلمين، فحاول دائما أن تكون لكل درس بدايته المشوقة، فمرة بالسؤال ومرة بالقصة ومرة بعرض الوسيلة التعليمية ومرة بنشاط طلابي.. وهكذا. وكل ما كانت البداية غير متوقعة كلما استطعت أن تشد انتباه الطلاب أكثر.
من الأشياء التي تجلب ملل الطلاب،وتجعل الدرس رتيبا وضع جلوس الطلاب في الفصل. فالمعتاد لدى كثير من المعلمين أن يكون الفصل صفوفا متراصة، وتغيير هذا الوضع بين وقت وآخر بما يناسب الدرس والموضوع يعطي شيئا من التجديد لبيئة الفصل.
حاول ـ ما أمكن ـ أن يكون لكل درس وضعا مختلفا، فمرة على شكل صفوف، وأخرى على شكل دائرة، وثالثة على شكل مجموعات صغيرة.. وهكذا، وإن كان أداء الدرس خارج الفصل مفيدا ويساعد على تحقيق أهدافه فلماذا الجلوس في الفصل؟!
7- اجعل درسك ممتعاً
- توقف وراجع طريقة الدرس إذا رأيت أنها سبب في إملال الطلاب، فالهدف ليس إكمال خطة الدرس كما كتبت، بل الهدف هو إفادة الطلاب فإذا رأيت أن الخطة لا تؤدي عملها فاستخدم "خطة للطوارئ" تنقذ الموقف وتحصل منها على أكبر فائدة ممكنة للطلاب. فلا شيء أسوأ من معلم يشتغل في الفصل لوحده..! وتذكر أن الأهداف العامة للتعليم والأهداف العامة للمنهج أكبر وأهم من درس معين يمكن تأجيل عرضه أو تغيير طريقته.
- استخدم الأسلوب القصصي عند الحاجة، فالنفوس مولعة بمتابعة القصة.(1/426)
- اسمح بشيء من الدعابة، فالدعابة والمزاح الخفيف الذي لا إيذاء فيه لمشاعر أحد ولا كذب من الأمور التي تروح عن النفس وتطرد الملل.
- حاول دائما ـ ما أمكن ـ أن يقوم الطلاب بالنشاط أنفسهم، لا أن تعمله أنت وهم ينظرون، وتذكر أن من أهداف المناهج أن يقوم الطلاب أنفسهم بالعمل لا أن يشاهدوا من يقوم بالعمل!
- رغب الطلاب في عمل ما تريده منهم واجعل الأفكار تأتي منهم! فمثلا بدلا من أن تقول ذاكروا الدرس السابق وسأعطيكم درجات في الواجب أو المشاركة، قل لهم: "ماذا تحبون أن تفعلوا حتى أعطيكم درجات أكثر في المشاركة؟!.. ما رأيكم في مذاكرة الدرس السابق؟!"
8- استثر دافعية التلاميذ
من الصعب جدا ـ إن لم يكن مستحيلا ـ أن تعلم طالبا ليس لديه دافعية للتعلم. فابدأ بتنمية دافعية الطلاب واستثارتها للتعلم والمشاركة في أنشطة الفصل، مستخدما كافة ما تراه مناسبا من الأساليب التي منها:
- اربط الطلاب بأهداف عليا وسامية .
ليس هناك شيء يجعل الدافعية تخمد أو تفتر من عدم وجود أهداف أو وجود أهداف دنيا، فدائما وجِّه أذهان طلابك إلى الأهداف السامية العظيمة، واغرس التطلع لها في نفوسهم لتشدهم شدا إلى المعالي فتثير فيهم دافعية ذاتية لا تكاد تخبو.
- استخدم التشجيع والحفز .
للتشجيع والحفز المادي والمعنوي أثر كبير في بعث النفس على العمل ولو كان العمل غير مرغوب فيه، فالتشجيع بالثناء والكلمة الطيبة والتشجيع بالدرجة والتشجيع بالجائزة والتشجيع المعنوي بوضع الاسم في لوحة المتفوقين، كل هذه الأشياء لها أثر كبير في حفز الطلاب على التعلم. وهذه الأشياء سهلة ولا تكلف المعلم شيئا.
- حدد أهدافا ممكنة ومتحدية!(1/427)
قم بتحديد أهداف دراسية يكون فيها شيء من الصعوبة وأشعرهم أنك تتحدى بذلك قدراتهم وتريد منهم أن يثبتوا جدارتهم، مثل أن تطلب منهم أن يحفظوا صفحة من القرآن مرة واحدة أو أن يحفظوا عشر كلمات من اللغة الإنجليزية، وستجد أن كثيرا من الطلاب يتجاوب معك ويقبل تحديك. لكن تأكد أن ما تطلبه منهم ليس بالسهل جدا بحيث لا يلقون له بالا وليس بالصعب جدا بحيث يسبب عندهم الإحباط، وأعطهم الوقت الكافي.
- اشعل التنافس الشريف!
إن مثل النشاط الذي في الفقرة السابقة يفتح المجال للتنافس الإيجابي بين الطلاب، فقم باستغلاله لصالحهم. لكن كن حذرا من أن يجرهم هذا التنافس ويتمادى بهم إلى التشاحن والتباغض. وأيضا انتبه لجانب الفروق الفردية بين الطلاب.
- كافئ!
استخدم المكافأة بشتى أنواعها الممكنة مع الطلاب الذين ينجزون ما تطلبه منهم أو يبذلون جهدا كبيرا في سبيله، لكن تأكد أن المكافأة مناسبة للطالب، من حيث ما بذله من جهد ومن حيث مستواه العمري.
9- ابتعد عن العنف
تذكر دائما أنك إنما أتيت لتعلم لا لتعاقب من لا يتعلم! وتذكر أيضا أنه ليس كل عجز في التعلم يرجع سببه إلى الطالب. كن صبورا وتلطف ببطيئي التعلم والمهملين وثق أن المهمل إذا رأى أن إهماله يزيد من تركيز المعلم عليه وتلطفه به فسيكف عن سلوكه هذا. وغالبا ما يكون سبب الإهمال البطء في التعلم وغفلة المعلم عن ذلك.
ارجع بذاكرتك إلى الوراء ـ خاصة إن كنت ممن جاوز الثلاثين ـ وتذكر مدرسيك فستجد أن أول ما يخطر بذهنك صورة المدرس الغليظ الفظ الذي كانت رؤيته تثير الرعب في قلوب الطلاب، وتحسس قلبك فستجد كم فيه من الحنق عليه ـ إلى اليوم ـ لما سببه لك أو لغيرك من الآلام النفسية في أيام الدراسة.
هناك من المدرسين من كانوا بعنفهم وغلظتهم سببا في ترك كثير من الطلاب للدراسة ممن كان يتمتع بقدرات عقلية جيدة وكان يرجى له مستقبلا جيدا.(1/428)
دخل معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة مع الجماعة ولم يعلم أن الكلام قد حرم في الصلاة، فعطس أحد الصحابة فشمته، فنبهه بعض الصحابة ـ بالإشارة ـ فلم يفهم واستمر في كلامه، فلما انتهت الصلاة ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى إليه خائفا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل لطف ولين: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح و التحميد وقراءة القرآن، فقال معاوية معلقا على فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بأبي هو وأمي، ما رأيت أحسن تعليما ولا أرفق منه - صلى الله عليه وسلم - .
10- اجعل اتجاهك جيداً نحو التلاميذ
أثبتت البحوث التجريبية أن نظرة المعلم لتلاميذه ذات أثر كبير على تحصيلهم وتقبلهم. فإذا كان المعلم ينظر إلى تلاميذه على أنهم أذكياء وقادرون على التعلم وجادون ـ ويحسون هم بذلك ـ فسيؤثر هذا إيجابيا عليهم، أما إذا كان المعلم ينظر إليهم على أنهم كسالى ولا يفهمون شيئا فسيكونون كذلك.
- كن متفائلا :
التفاؤل من أحسن الصفات التي يجب أن يتمتع بها المعلم، فكن متفائلا من طلابك وأشعرهم بذلك ترَ منهم ما يسرك.
- اظهر تقديرك لاستجابات الطلاب ومشاركاتهم :
لا تهمل مجهودات الطلاب ولو كانت قليلة، أو دون ما تتوقع. اظهر شكرك وتقديرك لاستجابات الطلاب واطلب منهم المزيد، ليحسوا بالفرق بين المشاركة وعدمها ويتيقنوا أنك منتبه لمشاركتهم.
- علمهم علو الهمة والطموح :
علو الهمة عنصر "سحري" إذا خالط نفس الطالب رأيت منه العجائب. وكثير من الطلاب يملك هذا العنصر لكنه في حالة خمود. فقم بتنشيط هذا العنصر باستثارة حماس الطلاب وضرب الأمثال لهم وإعطاء القصص المفيدة، وربطهم بأهداف سامية.
11-حافظ على نموك العلمي والتربوي والمهني(1/429)
يقع كثير من المعلمين في خطأ كبير عندما يظنون أن تخرجهم ونيلهم للوظيفة هو نهاية المطاف وأنهم بذلك قد وصلوا مرحلة يستريحون فيها. فهذا غير صحيح. فتجنب الوقوع في هذا الخطأ واعلم أنه وإن انتهى وقت الدراسة النظامية المقررة بالتخرج إلا أنه جاء وقت الدراسة الذاتية، وجاء دور مزج الدراسة النظرية بالخبرة المباشرة. فاحرص على الاستمرار في نموك العلمي والتربوي، فإنه لا شيء من هذه الدنيا في ثبات فكل مالا ينمو فهو يذبل!
يمكنك تنمية نفسك بإحدى الطرق التالية:
- القرآءات الموجهة :
استشر المشرف التربوي أو أحد المتخصصين ليحدد لك كتبا أو فصولا لتقرأها في تخصصك الدقيق أو في التربية بشكل عام، احرص على الاشتراك في الدوريات المتخصصة في التربية والتعليم.
- اللقاءات التربوية :
تحرص إدارات التعليم وغيرها من المؤسسات التربوية على إقامة لقاءات تربوية وندوات لبحث وتدارس الموضوعات التربوية المهمة، لا تتردد في الحضور والمشاركة الفاعلة التي يكون هدفها الفائدة، وسترى تقديرا كبيرا من زملائك.
- الدورات التدريبية :
تعقد أحيانا دورات تدريبية ـ أثناء الخدمة ـ للمعلمين، اسعَ للالتحاق بإحداها لرفع مستواك العلمي والمهني.
12- كن قدوة في علو الهمة والأمانة والجد
كل كلامك لطلابك عن الخلق الحسن والصفات الحميدة لا يكون له كبير فائدة إذا لم يرَ منك الطلاب تطبيقا فعليا. فكن قدوة لهم في علو همتك فلا ترض من الأمور بأدناها، وكن قدوة في جدك فلا يراك طلابك لا همَّ لك إلا الهزل والمزاح. وكن قدوة في أمانتك فلا يرَ منك الطلاب تفريطا فيها بإهمال واجباتك الوظيفية والتربوية.
13- انتبه إلى ما بين سطور التدريس(1/430)
من المسلمات أن التربية ليست حشو أذهان الطلاب بالمعلومات، بل هي إكسابهم المهارات اللازمة والاتجاهات الصحيحة وتهذيب خلقهم وتنمية مداركهم العقلية. فما يكتسبه الطلاب من شخصية المعلم وخلقه وهديه في التعامل والتعليم ونظرته للأشياء وطريقة تفكيره قد تكون أهم من وأنفع للتربية من ما يعطيهم من معلومات، وهو ما يمكن أن نسميه ما بين سطور التدريس، فهناك دائما أشياء غير مباشرة يكتسبها الطلاب من المعلم ـ ربما وهو لا يشعر ـ وقد تكون إيجابية وقد تكون سلبية.
إن المعلم الجاد ذا الخلق الحسن الرفيق بطلابه والمهتم بعمله يكتسب منه الطلاب حبا للعلم وحبا للمدرسة وحسن خلق في التعامل مع الآخرين مهما كانت المادة التي يدرسها، والعكس بالعكس! فشخصيتك ذات أثر كبير في تلاميذك.
14- قل - لا أعلم - لما لا تعلمه
يتحرج بعض المعلمين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم! والواقع أن الإجابة على سؤال ما بـ "لا أعلم" أمر يجب أن لا يتحرج منه المعلم لأمور:
1ـ يجب أن نحترم العلم، ونحترم عقلية الطلاب، فإذا سئلنا عما لا نعلم فلا نتكلف الإجابة ونراوغ، بل نعترف أننا لا نعلم.
2ـ يجب أن نرسخ في أذهاننا وأذهان الطلاب أنه ليس مطلوبا من المعلم (ولا من الطالب) وليس في مقدوره أن يعلم كل شيء، بل يجب أن يعرف الفرد حدود علمه وقدراته، فلا يتكلم فيما لا يحسن.
3ـ هذه العبارة: "لا أعلم" إذا قالها المعلم بثقة تزيد من قَدره عند طلابه.
لكن يجب على المعلم أن يرشد طلابه إلى كيفية الحصول على تلك المعلومة المسئول عنها أو يعدهم بالبحث عنها بنفسه.
15- استخدم وسائلك التعليمية بفاعلية
عندما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لأصحابه معنى قول الله تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ... } خط لهم خطا مستقيما وقال هذا سبيل الله، وخط خطوطا كثيرة عن يمينه وعن شماله وقال: هذه السبل ... !(1/431)
وعندما رأى الصحابةَ يتحسسون منديلا من حرير ويتعجبون من لينه ونعومته، قال - صلى الله عليه وسلم - : أتعجبون من هذا؟! لمناديل سعد في الجنة أفضل من هذا!
* للوسائل التعليمية أثر كبير في التعلم، فهي:
1ـ توفر على المعلم الكثير من الكلام النظري .
2ـ تجذب انتباه الطلاب .
3ـ تكسر رتابة الشرح والإلقاء .
4ـ تثبت المعلومة .
5ـ توضح الفكرة بشكل أكبر من الكلام المجرد.
- استخدم الوسائل المتوفرة ـ سابقة الصنع ـ أو قم بإعدادها أنت أو كلف الطلاب بذلك قبل الدرس بوقت كاف. يمكنك استغلال حصة النشاط أو حصة التربية الفنية في ذلك.
- تذكر أن استخدامك للشيء الحقيقي كوسيلة إيضاح أفضل بكثير من استخدام صورته، ويكون ذلك خبرة مباشرة للطلاب، فمثلا في درس اللغة الإنجليزية، بدلا من أن تحضر صورة كرة أحضر معك كرة حقيقية. كان أحد معلمي اللغة الإنجليزية يجد صعوبة في بيان معنى كلمة headmaster للطلاب بحيث يضطر إلى ترجمتها، مع أن هذا أمر غير مرغوب فيه، ولم يخطر بباله أن يأخذ الطلاب إلى غرفة المدير ويقول لهم: This is the headmaster. ! مع أن هذا سيسهل عليه العملية وسيرسخ المعلومة في أذهان الطلاب ويبعث الحيوية في الفصل ويجعل الموقف أكثر طبيعية.
- تأكد أن الوسيلة واضحة وأن الهدف الذي تريده منها ظاهر للطلاب، فما تراه أنت في الوسيلة قد لا يفهمه الطلاب.
- كلما كانت الوسيلة سهلة وبعيدة عن التعقيد فذلك أفضل.
- اجعل وسيلتك شيقة وجذابة.
- كن مبدعا في وسائلك وابتعد عن التقليد.
- احذر من الوسائل التي قد يكون فيها خطر على الطلاب.
- تأكد أن مكان الدرس مهيأ لاستخدام الوسيلة، مثلا: وجود مسمار أو شريط لاصق لتعليق اللوحة، مصدر كهرباء، فصل مظلم...إلخ. فسيئٌ جدا أن يحضر المعلم الوسيلة ثم يمضي وقتا يبحث يمنة ويسرة عن مكان ليعلقها أو يضعها فيه.
- لا تستخدم وسيلة لا تعرف طريقة تشغيلها، فهذا قد يسبب شيئا من الآتي:(1/432)
1. إفساد الجهاز، وقد يتضرر الطلاب أو المعلم بذلك.
2. إضاعة الوقت في البحث عن الطريقة الصحيحة لتشغيله.
3. الارتباك والإحراج الذي يقع فيه المعلم أمام طلابه نتيجة لعجزه عن تشغيل الجهاز.
16- أحسن استخدام السبورة
السبورة من أقدم الوسائل التعليمية وأقلها تكلفة، لا يكاد يستغني عنها معلم، فاعرف كيف تستخدمها بفعالية. يعتقد بعض المعلمين أن استخدام السبورة أمر عشوائي لا يخضع لأصول وقواعد، وهذا غير صحيح. فالمعلم الناجح يستخدم السبورة بشكل منظم ولأهداف محددة.
- قم بتقسيم السبورة لقسمين أو ثلاثة، وحدد لكل قسم نوعية معينة من الأشياء المكتوبة توضع فيه بشكل منظم وواضح، فمثلا، قسم لعناصر الدرس، وقسم للجمل والعبارات التي يراد لها البقاء طول الدرس، وقسم للعبارات الوقتية التي يمكن إزالتها أثناء الشرح.
- لا تتكلم وأنت تكتب على السبورة .
- عند الكتابة على السبورة حاول أن لا تعطي ظهرك للطلاب، بل اعطهم جنبك.
- لا تكتب شيئا خطأ على السبورة، وإذا دعت ضرورة ملحة لذلك فسارع في إزالته.
- استخدم الطباشير الملون بطريقة منظمة، بحيث يساعد الطالب على استيعاب عمليتي التصنيف أو الربط بين الأشياء.
- تأكد أن الكتابة واضحة ويمكن رؤيتها للطلاب في آخر الفصل.
- استخدم جهاز عرض فوق الرأس قد يكون أكثر فعالية إذا تدربت عليه وأعددت المواد بشكل جيد، فهو:
1. يوفر الوقت الذي تصرفه في الكتابة على السبورة.
2. يجعلك تواجه الطلاب دائما.
3. يكون حلا لمشكلة سوء الخط عند بعض المعلمين.
--------------------------------------------------------------------------------
17- لا تغضب
غضب المعلم في الفصل على تلاميذه من أكثر الأشياء التي تجعله متوتر الأعصاب ومن ثم يفقد السيطرة على فصله، وتجعل الفصل في جو من الخوف والرهبة. وقد يقود الغضب المعلم إلى تصرفات تكون عواقبها وخيمة. والفصل ذو المعلم الغاضب بيئة مناسبة لمشاكل الطلاب.(1/433)
* كيف تتجنب الغضب !!
1ـ تعرف على خصائص السلوك العامة للمرحلة التي تدرسها.
(1/66)
أكثر ما يثير غضب المعلم هو تصرف يصدر من بعض الطلاب وقد يكون بغير قصد، فمما يمنع ذلك الغضب أن تتعرف على خصائص السلوك للمرحلة التي يمر بها طلابك، فهذا يجعلك تنظر إلى ذلك السلوك بمنظار أكثر واقعية وموضوعية، فلا يكون بالحجم الذي تصورته. فمثلا إذا قام طالب بالتحدث مع زميله أثناء الشرح فإن هذا التصرف في "عرف" الكبار غير سليم ويثير الغضب حقا، لكن إذا نظرت له على أنه تصرف من طفل أو مراهق يصعب عليه بطبيعته أن يبقى فترة طويلة ساكتا وبدون حراك، بدا لك الأمر طبيعيا أكثر.
2ـ توقع السلوك .
معرفتك أيضا لنوعيات السلوك في المرحلة العمرية لطلابك يجعلك تتوقع بعض التصرفات، فإذا حدثت لم يكن ذلك مفاجئا بل تكون قد أعددت نفسك للتصرف السليم حيالها.
احرص على اقتناء ومطالعة مرجع موثوق في علم نفس النمو.
3ـ لا تهول الأمر!
لا تتصور أن كل تصرف غير مرغوب يقوم به الطالب فالمقصود به إغاظة المعلم أو إفساد جو الدرس، فهذه النظرة تجلب الغضب فعلا. حاول ـ ما أمكن ـ أن تنظر إلى تلك السلوكيات على أنها أخطاء فحسب. وأن كثيرا من السلوكيات التي تغضبنا إنما هي تصرفات طبيعية بالنسبة للطلاب خاصة في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
موسى ـ عليه السلام ـ وهو نبي الله المكلَّم، لم يتمالك نفسه مع معلمه الخَضِر فكرر السؤال عن أسباب ما يفعله الخضر من أمور رغم أنه قد وعده ألا يسأله عنها ورغم تنبيه الخضر له بعد كل سؤال.
4ـ إياك والظلم..!
الغضب غالبا يدعو للعقاب، وأحيانا الانتقام، والانتقام مظنة الظلم، فاحذر الظلم، فبالإضافة إلى ما يسببه من أثر نفسي للطلاب، فهو معصية لله وظلمات يوم القيامة.
18- أحسن التعامل مع مثيري المشاكل من الطلاب(1/434)
لا نكن مثاليين! ففي كل فصل يوجد طالب أو أكثر يتسببون في إثارة المشاكل وإعاقة عملية التدريس بشكل أو بآخر. هناك بعض الأساليب للتغلب على هذه المشكلة أو التخفيف منها. تأمل معي الخطوات التالية:
1ـ اجعل فصلك ممتلئا بالحيوية والنشاط حتى لا تسمح للملل بالدخول إلى نفوس الطلاب.
2ـ ابحث دائما عن السبب الذي يدعو الطالب لإثارة المشاكل وقم بإزالته إن أمكن. قد يكون السبب وجوده بجانب طالب آخر قم بالتفريق بينهما. قد يكون للتعبير عن تضايقه من شيء معين أو لجلب الانتباه إليه، تعامل مع كل سبب بما يناسبه.
3ـ اجعل ذلك الطالب في مقدمة الفصل حتى يكون تحت نظرك وبالقرب منك.
4ـ ليس كل مشكلة يثيرها الطالب تحتاج إلى أن توقف الدرس وتعالجها، من التصرفات ما يكون مجرد النظر إلى الطالب أو المرور بجانبه والتربيت على كتفه كافيا لإنهائه دون أن يشعر الآخرون.
5ـ من أكثر ما يسبب هذه المشاكل فراغ الطالب فأشغل الطلاب، ولا يكفي أن تنشغل أنت فقط بالتدريس!
6ـ استخدم أسلوب الاستدعاء بعد نهاية الحصة والتفاهم مع الطالب بشكل ودي. حاول أن تأخذ منه وعدا ألا يكرر ما حدث.
7ـ حاول نقل الطالب لفصل آخر.
8ـ استعن بالمرشد الطلابي.
وقبل ذلك كله تأكد أن طلابك يعرفون بالتحديد ما تريد منهم أن يعملوه وما تريد أن لا يعملوه.
لا تستخدم الضرب! لن أدخل معك هنا في الجدل المعتاد حول الموضوع، واختلاف الآراؤ في ذلك. فالشيء الأكيد أن استخدام المعلم للضرب ممنوع نظاما منعا باتا، وهذا يكفيك للتخلي عنه.
19ـ خطط ونفد وقيم و شاور تلاميذك وأشركهم في شيء من التخطيط
التخطيط من أسس النجاح في كل عمل. خطط لما تقوم به من أعمال في الفترة أو في الفصل الدراسي أو في السنة. الأنشطة والواجبات الإضافية كل ذلك يحتاج إلى تخطيط حتى يعطي ثماره المرجوة.
والتخطيط لا يفيد ما لم ينفعه تنفيذ دقيق متقن وتقويم لما تم إنجازه.(1/435)
شاور تلاميذك فيما تنوي أن تعمله ـ ما أمكن ـ فذلك يعودهم على مبدأ الشورى وإبداء الرأي وكذلك يجعلهم يتحمسون لما تريد عمله.
20ـ اعمل اختباراتك بشكل جيد بحيث تكون تقييما لك أيضا
يقال إن الاختبار عملية ضابطة تقيس أداء المعلم والمستوى التحصيلي للطلاب. وعمل الاختبارات علم له قواعده وأسس علمية من حيث وضع واختيار الأسئلة وأنواعها وضوابط كل نوع، ويخطئ بعض المعلمين في ظنه أن وضع مجموعة من الأسئلة كافية لاختبار الطلاب مادامت من داخل المقرر.
* تأمل هذه القواعد :
1- ضع هدفا للاختبار .
2- حدد الوقت المخصص للاختبار وحدد عدد ونوعية الأسئلة بناء عليه.
3- قم بتحليل المادة الدراسية
4- ضع الأسئلة بحيث يكون هناك تناسب بين الأسئلة الموضوعة وأجزاء المادة 5- اجعل الأسئلة واضحة جدا وخالية من أي لبس أو إيهام، وتذكر أن الاختبار الصادق هو الذي يقيس ما وضع لقياسه!
* أسئلة موضوعية أم مقالية ؟!
استخدم الأسئلة الموضوعية إذا كنت تريد قياس القدرة على تذكر الحقائق، وإذا كان وقت تصحيح الأسئلة قصيرا.
ضوابط صياغة الأسئلة الموضوعية:
* أسئلة "الصح" والخطأ :
1. لا تضع الجملة نصا حرفيا من الكتاب، بل أعد صياغتها حتى لا يكون الجواب بناء على إلف العبارة لا على الفهم. 2. تجنب التعابير الغامضة أو غير المحددة.
3. تجنب تعابير وصيغ العموم، مثل: "دائما" أو "كلّ" أو "أبدا" ...إلخ، إذ أنها توحي غالبا أن العبارة خاطئ
4. يجب أن تكون الإجابة واحدة ومحددة وقاطعة.
* أسئلة الاختيار من متعدد :
1. يفضل أن تكون الخيارات ثلاثة أو أربعة
2. يجب أن تكون الخيارات صحيحة من الناحية الإعرابية، حتى لا يكون إعراب الكلمة دليلا على الاختيار (هذا ما لم يكن المقصود قياس القدرة اللغوية!)
3. تجنب وضع عبارة: "كل ما سبق" ضمن الخيارات، إذا أن معرفة الطالب لخيار خاطئ يدل على خطأ هذا الخيار.(1/436)
4. ابتعد عن العبارات المنفية أو أساليب الاستثناء، لأن ذلك يربك فهم الطالب.
5. لابد أن تكون الخيارات متقاربة ومنطقية.
6. اجعل أصل العبارة (الجزء الأول منها) يشتمل على مسألة واحدة فقط، واستبعد أي معلومات ليست ضرورية.
* أسئلة الربط :
1. يفضل أن تكون عناصر القائمة الأولى أكثر من القائمة الثانية
2. يجب أن لا يرتبط العنصر في كل قائمة إلا بعنصر واحد من القائمة الثانية، وفي حالة خلاف ذلك نبه الطلاب له.
3. اجعل الربط عن طريق الأرقام أو الحروف وليس عن طريق رسم خطوط.
* أسئلة إكمال الفراغ :
1. اجعل الجملة تحتوى على إشارات وقرائن تحدد بالضبط الكلمة المطلوبة
2. لا تعط أكثر من فراغين في الجملة، حيث أن ذلك يجعلها غامضة.
3. اجعل الفراغ في آخر الجملة ما أمكن، حتى يتضح المطلوب أكثر.
* استخدم الأسئلة المقالية إذا أردت:
1. أن تقيم فهم الطالب للمصطلحات الأساسية المهمة في مقرر ما.
2. أن تعرف قدرة الطالب على المقارنة والموازنة بين الأحداث والمفاهيم والأشياء أو الربط بينها
3. أن تقيس القدرة الإبداعية والتخيلية لدى الطالب.
* ضوابط وضع الأسئلة المقالية :
1. حدد طول الإجابة المتوقعة بالكلمات أو بالصفحة، حتى يكون لدى الطالب تصور عن طول الإجابة المتوقع.
2. ضع نموذجا للجواب الصحيح ووزع عليه الدرجات بدقة، حتى يكون التصحيح أكثر موضوع
3. اعط الوقت الكافي للإجابة.
4. إذا كنت ستحاسب على الأخطاء الإملائية أو النحوية أو على الخط فأعلم الطلاب بذلك مقدما.
* وماذا عن الاختبارات الشفهية؟!
قد تحتاج للاختبارات الشفهية في بعض المواد لقياس المهارات الشفهية كالقراءة الجهرية، وأقول الجهرية لأن القراءة الصامتة يقصد منها الاستيعاب وهذه قد تختبر تحريريا.(1/437)
عند وضع الاختبار تأكد من تحديد الهدف منه، وتأكد من المهارة أو الناحية التربوية التي تريد قياسها. بعض المعلمين يظن أن الفرق بين الاختبار الشفهي والاختبار التحريري هو أن الطالب في الأول يتكلم بالجواب وفي الثاني يكتبه كتابة، وهذا غير صحيح، فالفرق هو أن الاختبار الشفهي يقيس المهارات الشفهية، كالمحادثة والإلقاء والتجويد، ونحوها. فليس بصحيح ـ مثلا ـ أن نسأل الطالب في اختبار شفهي للغة الإنجليزية أن يتهجى كلمة من حفظة، إذ أن هذه مهارة كتابية.
* راع القواعد التالية في الاختبارات الشفهية:
1. ابدأ بالأسئلة السهلة لإزالة ما قد يقع في نفس الطالب من توتر.
2. فاتح الطالب ـ بعد رد السلام ـ بالتحية ولاطفه ببعض الكلمات المشجعة، وأكثر منها إذا رأيت عليه رهبة الامتحان 3. تجنب امتحان الطالب أمام زملائه، خاصة الطالب الخجول.
21ـ "يسروا ولا تعسروا..!"
من المعلمين من يرى أن نجاحه في التعليم يقاس بمدى تشديده على طلابه وتشدده معهم، فالواجبات عليهم مضاعفة ولا بد من أن تكون الحلول نموذجية، والاختبارات صعبة ومحبطة. وهذا غير صحيح، فالتيسير مطلب شرعي وتربوي، والمعلم الناجح هو الذي يأخذ بأيدي طلابه ويصعد بهم شيئا فشيئا بالحفز والترغيب وشيء من الترهيب، أما التشديد والتعنت فكل يحسنه! والنفوس دائما تميل إلى من يسهل عليها الأمور. والله عندما أمر بالصيام، ولما فيه من المشقة قال: {أياما معدودات} تسهيلا للأمر على النفوس.
22ـ كن معلما مربيا.. لا ملقنا!(1/438)
ليست مهمة المعلم أن يحقن أذهان الطلاب بالمعلومات، بل المعلم مربِ، فلا يكن همك هو تنمية الناحية المعرفية عند الطالب بإكسابه معلومات أكثر بل ليكن هدفك مساعدة الطالب على النمو من جميع الجوانب العقلية والروحية والجسمية والنفسية والعاطفية، وإكسابه الاتجاهات الصحيحة، واجعل المعلومات وسيلة لا غاية في ذاتها، فليس المقصود ـ على سبيل المثال ـ أن "يعرف" الطالب أن الصدق صفة حميدة بل الهدف أن يتمثل الصدق في تعامله وأقواله وأفعاله.
23ـ انتبه إلى مواهب تلاميذك وقم بتنميتها، ولا تكن جامدا على مقررك!
قلنا إن المعلم مربِ، فعليك أن تتنبه إلى الجوانب الإيجابية ونقاط القوة في طلابك حتى تنميها وتساعدهم على استغلالها والاستفادة منها. فلا يشغلك ما أنت فيه من تدريس لمقررك عن التنبه لهذه النقطة، فقد يكون لدى بعض الطلاب مواهب ومهارات لا تعتني بها المقررات على الوجه المطلوب، فتنبه لهذا النقص فيها وقم بتكميله، ولا تنس أن المعلم جزء من المنهج! وكم من الإبداعات وئدت وكم من العقول ذات المواهب أهملت ولم تنمَّ وتوجه التوجيه الصحيح بسبب غفلة المعلم أو جهله. وتلك ثروات تهدر وطاقات تضيع سدى!
24ـ راع الفروق الفردية
من المسلمات التربوية أن الطلاب يختلفون في قدراتهم العقلية ومهاراتهم وسماتهم النفسية، فلا تغفل عن مراعاة هذا الجانب في تعاملك مع طلابك. فالطالب الذكي المتفوق يحتاج إلى نشاطات تتحدى قدراته حتى يستمر في تفوقه، والطالب البطيء التعلم يحتاج إلى تأنِ ورفق في التعليم، والطالب الخجول يحتاج إلى أن يعامل بطريقة لا يتعرض بها إلى الإحراج الشديد أمام زملائه.. وهكذا مع كل نوعية من الطلاب، يجب أن تعاملها بما يناسبها وبما يجعلها أكثر فعالية. وهذا مع فائدته في هذا الجانب فإنه يجعل الدرس أكثر حيوية بتنويع أساليب الشرح والتعامل مع الطلاب.
25ـ استخدم الواجبات المنزلية بفعالية(1/439)
يرى بعض المعلمين أن الواجبات المنزلية تحصيل حاصل أو أمر روتيني يؤدى بلا هدف، والواقع أن الواجب المنزلي جزء من الدرس ويجب أن يكون مخططا له وله أهداف محددة. فليس القصد إشغال الطلاب أو اتعابهم.
- بعض النقاط المهمة التي تتعلق بالواجب المنزلي:
1ـ حدد الهدف من إعطاء الواجب، هل هو للتمرين والتطبيق، أم للتقويم...؟
2ـ يجب أن لا يكون الواجب مرهقا للطالب، أو كثيرا بحيث يطغى على وقت الواجبات الأخرى أو وقت الراحة.
3ـ تأكد أن الطالب يفهم ما ينبغي عمله، فجهله بالطريقة يجره إلى أحد أمرين:
ا. الحل الخاطئ .
ب. النقل من زملائه.
4ـ يستحسن (وأحيانا يجب) أن تبدأ الحل مع الطلاب في الفصل أو تعطي أمثلة محلولة.
تصحيح الواجبات
1ـ إذا أعطيت واجبا فلا بد من تصحيحه بشكل ما، فلا فائدة من واجب لا يصحح.
2ـ تصحيح الواجب لا يعني التأشير عليه، أو كتابة "نظر" أو "شوهد"، بل لا بد أن يكون التصحيح تصحيحا فعلا.
3ـ كن دقيقا في تصحيحك، فمن أقبح الأشياء أن تؤشر بعلامة "الصح" على عمل خاطئ. تصور الموقف لو قارن الطالب إجابته بإجابة طالب آخر صحيحة، أو لو حاكمك لدفتر الواجبات عند تصحيحك لورقة امتحانه!
4ـ لا يكفي أن تشير بعلامة الخطأ على إجابة الطالب بل لابد أن تشير إلى نوعية الخطأ. وغالبا يستخدم كثير من المعلمين أسلوب الرموز المتفق عليها، فمثلا الدائرة على الكلمة تدل على الخطأ الإملائي، والخط أسفل الكلمة يدل الخطأ النحوي .. وهكذا، فهذا يوفر الوقت على المعلم.
26ـ أدِر فصلك بفعالية!
لا تكن أنت المصدر الوحيد للتعلم في الفصل حاول دائما أن لا تكون أنشطة التعلم متركزة حولك، بل اعمل على جعل الطلاب يستفيد بعضهم من بعض، ويقومون بالعمل هم بأقل جهد منك، حيث ينحصر دورك في الإشراف وتسهيل عمليات التعلم. عود الطلاب على طرح الأسئلة على زملائهم، وعلى الاستنتاج وعدم انتظار المعلومة تأتيهم جاهزة.(1/440)
كن عادلا في توزيع أنشطة التعلم على الطلاب ، يجد كثير من المعلمين أنفسهم ـ دون شعور في كثير من الأحيان ـ يركزون أنشطتهم على مجموعة قليلة من الطلاب في الفصل، وهم المتميزون، ويغفلون أو يهملون بقية الفصل. وقد يكون لديهم مسوغ لذلك وهو قولهم: إن الاقتصار على هذه الفئة تعطي الدرس حيوية، ولو تركناهم وأشركنا جميع الفصل بما فيهم الطلبة الضعاف لكان الدرس بطيئا ودون حيوية! وهذا بالتأكيد ليس بمسوغ صحيح. فالدرس ليس للطلاب الجيدين فقط، بل يجب أن يستفيد منه الكل مع مراعاة الفروق الفردية. وما يناله الفصل بمجموعه عند اشتراكه في أنشطة الفصل يفوق ما قد يعتري عملية التدريس من بطء أو فتور.
27ـ حافظ على وقت الدرس
الوقت هو الدرس، فبدون الوقت لا تستطيع أن تقدم درسا. حافظ على وقت الدرس واجعل كل دقيقة فيه تخدم الأهداف التربوية. بإمكانك استخدام الأساليب التالية للحفاظ على الوقت.
1ـ كن في فصلك في الوقت المحدد
2ـ لا تسمح للطلاب بالتأخر عن وقت الدرس، وعودهم على الحضور قبيل دق الجرس.
3ـ تقيد بقدر الإمكان بخطة الدرس، ولا تستطرد إلا للضرورة.
4ـ تأكد من وجود كل ما تحتاجه في درسك معك في غرفة الفصل وبحالة جيدة.
5ـ كون عادات راتبة (روتين) للأعمال التي ينبغي على الطلاب عملها في كل درس، مثل جمع دفاتر الواجب أو مسح السبورة، فبدلا من أن تطلب منهم عمل ذلك كل درس عودهم على طريقة محددة.
6ـ استغل الدرس حتى آخر دقيقة.
وبالتأكيد لا يعني هذا أن يكون الدرس على وتيرة واحدة من الجد والنشاط، لكن المقصود إلا يضيع شيء من الدرس فيما لا فائدة فيه.
28ـ علم الطلاب كيف يتعلمون
يشكو المعلمون وأولياء الأمور من إهمال الطلاب لدروسهم وعدم مذاكرتهم لها، وهذه حقيقة واضحة ويتفق عليها الجميع بالنسبة لغالبية الطلاب، وحتى الطلاب المجدون لا يبذلون كل ما في قدرتهم في المذاكرة.(1/441)
والأسباب متعددة، لكن هناك سبب نغفله وهو من أهم الأسباب، ألا وهو أن كثيرا من الطلاب لا يعرفون كيف يتعلمون، وكيف يذاكرون؟!
فبدلا من أن نجعل الطالب عالة على المعلم وعلى ولي الأمر، لماذا لا نعلمه كيف يذاكر وكيف يدرس وندربه على ذلك، وستكون النتائج جيدة.
في بداية كل سنة وبالتعاون مع المرشد الطلابي قم بتعليم الطلاب وتدريبهم على أساليب المذاكرة الصحيحة، بخطوات عملية واضحة. ولا أعني بذلك أن نحث الطلاب على المذاكرة، ونبين لهم أهمية مراجعة الدروس، أو نقول لهم حضروا الدرس قبل الشرح وأقرءوه بعده .. فقط، بل لا بد أن نوضح لهم وبالأمثلة: كيف يقرأون؟ وكيف يستخرجون المعلومات والنقاط الأساسية مما يقرؤونه ؟ و كيف يستطيعون التركيز والانتباه على ما يقرأونه؟ وما هي الأمور التي تساعد على المذاكرة الصحيحة.
29ـ علم الطلاب الرجوع إلى مصادر المعلومات
نحن في عصر التفجر المعرفي، وليس من المعقول أن نطلب من الطلاب حفظ كل المعلومات. والغريب أننا نطلب منهم أن يحفظوا معلومات لو سئل عنها من يحمل مؤهلا علميا عاليا لما وجد أي غضاضة في الرجوع إلى أقرب مرجع علمي للحصول عليها. فلماذا لا نكتفي من الطالب بأن يعرف مكان وجود المعلومة وكيف يستخرجها، دون أن نشغله بالحفظ الذي ينتهي مفعولة غالبا بانتهاء الاختبار. وبالتأكيد هذا لا ينطبق على كل المعلومات، فهناك قدر منها لا بد للطالب من حفظه، لكن لو طبقنا هذه القاعدة لخففنا الكثير من الإجهاد عن الطلاب. يتخرج الكثير من طلابنا وهو لا يعرف أمات [4] المراجع في حقول المعرفة الأساسية ولا كيف يستخدمها.
علم الطلاب طريقة الحصول على المعلومات بسرعة ومن مصادرها المعتمدة تفتح له قنوات إمداد علمية مستمرة التدفق ومتجددة.
30ـ علم الطلاب كيف يفكرون!(1/442)
تعود طلابنا أن تعمل لهم الأشياء وتحل لهم المسائل، وحتى إذا قاموا بالعمل أنفسهم فإنهم غالبا يقومون به بطريقة آلية. وذلك لأن طرق التدريس التي نتبعها تعتمد على التلقين، وإعطاء الأفكار جاهزة.
عود طلابك على استخدام تلك الأجهزة الجبارة التي وهبهم الله: عقولهم! اطلب منهم دائما أن يفكروا في حل ما يعترضهم من مشاكل. اطرح عليهم الأسئلة .. استثر أذهانهم، علمهم طرق التفكير السليم وطريقة حل المشكلات. علمهم التفكير الإبداعي.
إن من يلاحظ أطفالنا الصغار يجد في كثير منهم ذكاءً فطريا باهرا، لكن سرعان ما "ينطفئ" جزء كبير منه أثناء الدراسة، حتى لتكاد تحس أحيانا أنك أمام مخلوقات لا تفكر! ترى من المسئول عن هذا الهدر الضخم في الطاقات الذهنية؟ لا شك أن هناك أسبابا كثيرة، لكن يستطيع المعلم الواعي إصلاح الشيء الكثير.
وبالمناسبة فإن التفكير الإبداعي ـ على عكس ما هو شائع ـ لا يحتاج إلى ذكاء خارق، بل يحتاج إلى إلمام بطريقته وتدرب عليها.
كيف تعلم طلابك الإبداع
1ـ اجعل جو الفصل متقبلا للأفكار الجديدة والغريبة.
2ـ شجع الطلاب على تحسس واستكشاف البيئة، والتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم تجاهها.
3ـ استقطع شيئا من الوقت لتشجيع الإبداع وتوليد الأفكار.
4ـ شجع الطلاب على الاشتغال بمجالات متعددة، وقدم لهم أنشطة متنوعة وجديدة.
5ـ أخبر الطلاب أن كل شخص يمكن أن يكون مبدعا إلى حد ما.
ــــــــــــــــــ
اليقين روح أعمال القلوب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:(1/443)
فإن حديثنا في هذه المقالة عن مقام من أعلى مقامات الدين، وخلة من أعظم خلال العارفين، إنه اليقين.. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن منزلة اليقين: "هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافسَ المتنافسون، وإليه شمَّر العاملون، وعملُ القوم إنما كان عليه وإشاراتُهم كلُّها إليه، وإذا تزوَّج الصبر باليقين وُلد بينهما حصول الإمامة في الدين. قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].
وخصَّ سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال وهو أصدق القائلين: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)[الذاريات:20].
وخصَّ أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالَمين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة:4، 5].
وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين، فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)[الجاثية:32].
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي روح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصِّدِّيقية، وهو قُطب هذا الشأن الذي عليه مداره".اهـ.
**التوكل ثمرةُ اليقين:***
و"التوكُّل ثمرتُه ونتيجتُه، ولهذا حسُن اقتران الهدى به؛ قال تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)[النمل:79]. فالحقُّ هو اليقين.(1/444)
وقالت رسُل الله: (وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)[إبراهيم:12]. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا، وانتفى عنه كلُّ ريب وشكٍّ وسُخْطٍ، وهمٍّ وغمٍّ، فامتلأ محبَّةً لله وخوفًا منه، ورضًا به وشكرًا له، وتوكُّلاً عليه، وإنابةً إليه؛ فهو مادَّة جميع المقامات والحامل لها.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرُها بالبخل والأمل".[أخرجه أحمد في الزهد، وحسنه الألباني].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلِك آخِرُها بالبخل والأمل".[رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني].
**الرسول صلى الله عليه ويسلم يسأل ربه اليقين:***
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدَّعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحولُ بيننا وبين معاصِيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علِمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا".[أخرجه الترمذي وحسنه الألباني].
**رجحان العمل وحصول الرضا باليقين:***
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "يا حبَّذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامَهم؟! ولَمثقال ذرَّةٍ من برٍّ، من صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم، من أمثال الجبال عبادةً من المغْترين".[أخرجه أحمد].
وصحَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الرَّوح والفرج في اليقين والرضا، وإن الغمَّ والحزن من الشَّكِّ والسُّخط".(1/445)
وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: "اللهم هبْ لنا يقينا بك حتى تهون علينا مصيباتُ الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمتَ لنا به".
وقال بلال بن سعد: "عباد الرحمن، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيَّام طِوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزن ونصبٍ لدار نعيم وخُلدٍ، ومَن لم يعمل على اليقين فلا يغْترَّ". أي أن الأفعال تدل على ضعف اليقين.
وقال رحمه الله: "كأنَّا قومٌ لا يعقلون، وكأنَّا قومٌ لا يُوقنون".
وقال رحمه الله: "عباد الرحمن، أمَّا ما وكَّلكم الله به فتضيِّعونه، وأمَّا ما تكفَّل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أذَوُو عقولٍ في طلب الدنيا، وبُلْهٌ عمَّا خلقتم له؟ فكا ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصي الله عز وجل".
واعلم - رعاك الله - أنه على قدر قربك من التقوى تدرك من اليقين، ولا يسكن اليقين قلبًا فيه سكون إلى غير الله تعالى.
**أمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين:***
إن من يقلب صفحات التاريخ يجده يزخر بأمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين والثقة بالله، ومنها:
**خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كان خلقه اليقين:***(1/446)
فكل مواقفه عليه السلام تدل على ذلك، ففي محاجَّته لقومه كان خلقه اليقين: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام:80-82].نعم ،كيف يخاف من عنده هذا اليقين؟!!.
ويتجلى يقينه وتوكله وثقته بربه حينما ألقوه في النار، وجاءه جبريل يقول: ألك حاجة؟ فيجيبه: أما إليك فلا، ثم يردد نشيده العلوي: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
إن كل موقف من مواقف الخليل ملؤه اليقين.. إلقاء طفله الرضيع وزوجه في البرية، همه بذبح ولده.. فصلوات ربي وسلامه عليه.
**الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. القمة في علو الهمة:***
ومَنْ كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حينما يشتد الكرب يبدو يقينه مثالاً يحتذى، ولا كرب أشد من ساعة الهجرة: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:40]. حين يقول له الصديق: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يهدئ من روعه: "يا أبا بكرٍ ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".(1/447)
ثم انظر إلى يقينه بربه بعد أن جرى له ما يشيب لذكره الولدان في رحلته إلى الطائف، وهو يقول لملك الجبال الذي عرض عليه الانتقام من المشركين: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا".
**صيحة عمير بن الحمام.. منارة من منارات اليقين:***
فإنه لما سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". قال: بخٍ بخ. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "ما حملك على قولك: بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله، إلاَّ رجاء أن أكون من أهلها. قال - صلى الله عليه وسلم - : "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات كنَّ في قرنه (جيبه) فجعل يأكل منهنَّ ثم قال: لئن حييتُ حتى آكل تمراتي هذه؛ إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه ثم قاتلهم حتى قتل".
ولله در القائل:
يا أمتي وأقول اليوم في ثقة.. ... ..إني اليقينُ فلا شيءٌ يزعزعني
إني العقيدة والإقدام فيصلها.. ... ..وليس غيرُ نداء الله يسحرني
أذود عنه وفيها علَّ خاتمتي.. ... ..تكون في ظلها يومًا فتقبلني
فالليل يعقبه فجر ومئذنةٌ.. ... ..والله أكبر نبراسٌ على الزمن
الهول في خطوي والنور في دربي.. .وأظل أسمع صوتَ الحق في أذني
رزقنا الله يقينا لا يتزحزح، وقرة عين لا تنفد... اللهم آمين.
ــــــــــــــــــ
علو الهمة والرغبة في النجاح !! (وسام التميز)
هل سمعتم بقصة الشاب الصيني الذي ذهب لرجل كبير في السن سائلا إياه مفتاح النجاح فأحضر الرجل العجوز إناء به ماء فاستغرب الشاب وقال له العجوز أنظر إلى الإناء ماذا ترى؟ فنظر الشاب إلى الإناء وإذا بالعجوز يمسك برأس الشاب ويغمره في الماء فحاول الشاب المقاومة
فأقبض الرجل العجوز بقوه أكبر ولكن الشاب قاوم بشده واخرج رأسه من الماء فأستغرب الشاب من تصرف هذا العجوز فقال له العجوز هل رأيت مدى حاجتك للهواء فقال الشاب: نعم قال العجوز : هكذا النجاح لا بد أن تطلبه كطلبك للهواء.(1/448)
إذا وصلت رغبتك في الحصول إلى الحكمة درجة رغبتك في الحصول على الحياة في لحظة الغرق ستحصل على الحكمة . (سقراط)
كيف تحكم أن هذا الشيء غير ممكن ؟ الجواب: جرب
" لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها " . (أثر ) .
لقد فشل أديسون مئات المرات قبل أن يكتشف ضوء المصباح الكهربائي
وهنري فورد أصيب بالإفلاس خمس مرات قبل أن ينجح في اختراع سيارته
ولقد تم رفض كولونيل ساندروس من قبل أكثر من ألف مطعم قبل أن يزدهر بوجبة كنتاكي الشهيرة
ولقد سطر لنا التاريخ بأحرف من ذهب نماذج مشرقه لصنّاع النجاح وروّاده:
فها هو عمر بن عبد العزيز يبنى دولة إسلامية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً،فأمن الناس على أنفسهم وأهليهم وأعراضهم وأموالهم ، وعزوا فلم يجرؤ أحد على إذلالهم، وفاض المال حتى لم يجدوا من يأخذه وكل ذلك في سنتين لا غير!!
وقد فر عبدالرحمن الداخل ليشيد ملكا في قعر بلاد النصارى فكانت الدولة الاموية في الاندلس ، واقام حضارة إسلامية دامت قرونا طويلة، أخرج الله بها الغرب من ظلمات جهلهم إلى علم سادوا اليوم به الدنيا.
وها هو صلاح الدين الأيوب يدخل بيت المقدس، فيكسر الصليب، ويرفع راية التوحيد، ويحدث نجاحا عجز أكثر من ألف مليون مسلم أن يحدثوه اليوم!!
وليكن نشيدك في ذلك نشيد المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر صغير *** كطعم الموت في أمر عظيم
ــــــــــــــــــ
المروءة شيمة النفوس الزكية
الثلاثاء:08/02/2005
(الشبكة الإسلامية) ماهر السيد
إن المروءة سجيةٌ جُبلت عليها النفوس الزكية، وشيمةٌ طبعت عليها الهمم العلية، وضعفت عنها الطباع الدنية، فلم تطق حمل أشراطها السنية. إنها حلية النفوس، وزينة الهمم، فما هي حقيقتها؟
حقيقة المروءة:(1/449)
اعلم - وفقك الله لكل خير - أن حقيقة المروءة اتصاف النفس بصفات الكمال الإنساني التي فارق بها الحيوان البهيم، والشيطان الرجيم، إنها غلبة العقل للشهوة، وحدُّ المروءة: استعمال ما يُجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه، سواءٌ تعلق ذلك به وحده، أو تعداه إلى غيره.
قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقول، وخلق ابن آدم وركّب فيه العقل والشهوة، فمن غلب عقله شهوته التحق بالملائكة، ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائم.
مروءة كل شيء بحسبه:
إذا علمنا أن المروءة هي استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح؛ فإن لكل عضو من الأعضاء مروءة على ما يليق به:
• فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه.
• ومروة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض.
• ومروءة المال: بذله في المواقع المحمودة شرعًا وعقلاً وعرفًا.
• ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه.
• ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره، وعدم رؤيته، وترك المنة به.
وهذه هي مروءة البذل والعطاء، أما مروءة الترك فتعني ترك الخصام والمعاتبة، والمماراة، والتغافل عن عثرات الناس.
دواعي المروءة:
إن أعظم دواعي المروءة شيئان:
أحدهما: علو الهمة. والثاني: شرف النفس.
أما علو الهمة: فلأنه باعث على التقدم والترقي في المكارم أنفة من خمول الضعة، واستنكارًا لمكانة النقص، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها".
وقال عمر رضي الله عنه: "لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمة".
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
وأما شرف النفس: فبه يكون قبول التأديب، واستقرار التقويم؛ فإن النفس إذا شرفت كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة، وعن الدنايا والرذائل نائية، قال بعض الشعراء:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها.. ... ..هوانًا بها كانت على الناس أهونا(1/450)
فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكنٌ.. ... ..عليك لها فاطلب لنفسك مسكنا
وإياك والسكنى بمنزل ذلةٍ.. ... ..يُعدُّ مسيئًا فيه مَن كان مُحسنا
وقال الحُصين بن المنذر الرقاشي:
إن المروءة ليس يدركها امرؤٌ.. ... ..ورث المكارم عن أبٍ فأضاعها
أمرته نفسٌ بالدناءة والخنا.. ... ..ونهته عن سُبُل العلا فأطاعها
فإذا أصاب من المكارم خُلَّةً.. ... ..يبني الكريمُ بها المكارم باعها
شروط المروءة وحقوقها:
ذكر بعضهم للمروءة حقوقًا وشروطًا، وهي تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: شروط المروءة في النفس. والثاني: شروط المروءة في الغير.
أما شروط المروءة في النفس: فهي:
(1) العفة: وهي نوعان:
• عفة عن المحارم: وتكون بكف الفرج عن الحرام، وكف اللسان عن الأعراض.
• وعفة عن المآثم.
(2) النزاهة: وتعني النزاهة عن المطامع الدنيوية، ومواقف الريبة والتهمة.
أما حسم المطامع الدنيوية فيكون باليأس مما في أيدي الناس، والقناعة بما قسم الله تعالى.
وأما النزاهة عن مواقف الريبة: فلنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبعد الخلق عن الريب - أسوة حسنة؛وقف ذات ليلة يحادث أم المؤمنين صفية رضي الله عنها على باب المسجد، فمر به رجلان من الأنصار، فلما رأياه أسرعا، فقال لهما: "على رسلكما، إنها صفية"، فقالا: أوَفيك شك يا رسول الله؟ قال: "إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلبيكما سوءًا". فحري بغيره أن يستعمل الحزم ويغلِّب الحذر، ويترك مواقف الريب، ومظان التهم.
(3)الصيانة: وهي نوعان:
• صيانة النفس بالتماس ما يكفيها.
• صيانتها عن تحمل المنن من الخلق.
شروط المروءة في الغير:
أما شروط المروءة في الغير فثلاثة:
(1) المعاونة والمؤازرة: وهي تعني: الإسعاف بالجاه، والإسعاف في النوائب.
وقد قيل: لم يسُدْ من احتاج أهله إلى غيره. وقال الأحنف عن المروءة: صدق اللسان، ومواساة الإخوان.
((1/451)
2) المياسرة: وهي السماحة والسهولة وهي على نوعين: العفو عن الهفوات، والمسامحة في الحقوق.
أما العفو عن الزلات والهفوات: فلأنه لا مُبَّرأ من سهو أو زلل، وقد قال الحكماء: لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه.
وقال بعض الأدباء: ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم: حُسْنُ المحضر، واحتمال الزلة، وقلة الملال.
وقال ابن الرومي:
فعذرك مبسوطٌ لذنب مقدم.. ... ..وودُّك مقبول بأهلٍ ومرحبِ
ولو بلغتني عنك أذني أقمتُها.. ... ..لديَّ مقام الكاشح المتكذِّب
فلستُ بتقليب اللسان مصارمًا.. ... .. خليلاً إذا ما القلبُ لم يتقلب
وأما المسامحة في الحقوق والأموال: فتتنوع إلى إسقاط الحق أو تخفيفه.
(3) الإفضال: فذو المروءة يجود بماله، فهو إما يجود بماله على من أدَّى إليه معروفًا ولو كان يسيرًا، كما جاد الشافعي رحمه الله على غلام ناوله سوطه حين سقط منه فأعطاه سبعة دنانير، وقد يجود لتأليف قلبٍ، أو صيانة عرضٍ من الحساد والحاقدين والسفهاء.
قالوا عن المروءة:
• قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "للسفر مروءة، وللحضر مروءة، فأمام مروءة السفر: فبذل الزاد، وقلَّة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر: فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن، وكثرة الإخوان في الله عز وجل.
• وسئل سفيان الثوري عن المروءة: ما هي؟ قال: "الإنصاف من نفسك والتفضُّل؛ قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وهو الإنصاف، (وَالإِحْسَان) وهو التفضل، ولا يتمُّ الأمر إلاَّ بهما؛ ألا تراه لو أعطى جمع ما يملك ولم يُنصف من نفسه، لم تكن له مروءة؟! لأنه لا يريد أن يُعطي شيئًا إلا أن يأخذ من صاحبه مثله، وليس مع هذا مروءة".(1/452)
• وقيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]. ففيه المروءة، وحُسن الأدب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: (وأْمُرْ بالعُرفِ): صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغضُّ الأبصار، والاستعداد لدار القرار. ودخل في قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ): الحض على التخلُّق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزُّه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهَلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة.
• وقال الشعبي: "تعامَل الناسُ بالدِّين زمانًا طويلاً، حتى ذهب الدينُ، ثم تعاشروا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعاشروا بالحياء، ثم تعاشروا بالرغبة والرهبة، وأظنُّه سيأتي بعد ذلك ما هو شرٌّ منه".
• وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين: "كمال المروءة: الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تدبير المعيشة".
• وقال ميمون بن ميمون: "أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودُّد، والثالث: قضاء الحوائج".
• وقال ابن سلام: "حدُّ المروءة: رعْيُ مساعي البرِّ، ودفع دواعي الضر، والطهارة من جميع الأدناس، والتخلُّص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوْم، ولا يلحق به ذم، وما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا، ويبعث على شرف الممات والمحيا، إلاَّ وهو داخل داخل تحت المروءة.
ــــــــــــــــــ
الهمة طريق القمة
إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
قصة الضفدع
تعريف الهمة
• ... الباعث على الفعل .
• ... استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور .
يقول ابن القيم :(1/453)
• ... علو الهمّة ألا تقف - أي النفس- دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، ولكما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان.
يقول الفاروق عمر : لا تصغرن همتك، فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته.
حاول جسيمات الأمور ولا تقل
إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصراً
عن غاية فيها الطلاب سباق
المرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت ، وإن قصر بها اتضعت
أقسام الهمة
•وهبية :
هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علو الهمّة، أو سفولها، ويمكن أن تنمى وترعى، أو تهمل وتترك.
•مكتسبة :
أي أن صاحب الهمّة كسب درجات عالية لهمته، وزاد من أصل مقدارها الذي وهبه الله إياه، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خبت وتضاءلت
يقول ابن الجوزي :
•وقد عرفت بالدليل أن الهمّة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته'.
رباعية الهمم
متكاسلون عاجزون واتكاليون
الطفيليون – طبقة التنابلة
يقضون الحوائج ويسعون في الأرض ويؤدون الفرائض .
يريدون أن يرتقوا بأنفسهم ولا يعرفون السبيل لذلك .
يتجاوزون المستحيل ولا يخضعون له .
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغْلِه المهر
يقول ابن القيم :ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها!، فهمة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحش.
همة ربيعة بن كعب الأسلمي
•سل أسألك مرافقتك في الجنة
يقول عبد القادر الجيلاني :(1/454)
•يا غلام : لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع فأين هم القلب، همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده .
يقول ابن القيم :
•لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرًا؛ مَنْ لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه .
يقول المودودي :
•إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها – على الأقل – مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنًا له مريضًا، ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئًا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه، وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
•واسمحوا لي أن أقول لكم:إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبردَ من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم، وأبنائكم، وأمهاتكم؛ فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع .
أهمية الهمة
1- تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق
أمثلة :
•همة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( بناء الدولة ).
•همة الصديق رضي الله عنه ( حرب المرتدين )
2- البعد عن سفاسف الأمور ودناياها .
عبد الرحمن الداخل والجارية
•إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن .
3- صاحب الهمة يعتمد عليه وتناط به الأمور الصعبة .
•ذو الهمّة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا.
4- صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءه
5- صاحب الهمّة العالية قدوة للناس
وسائل ترقية الهمة :
•المجاهدة .
قال الإمام عيسي بن موسى: مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث(1/455)
•الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى
•الاعتراف بقصور الهمّة واعتقاد إمكانية تطويرها .
•قراءة سير سلف الأمة .
•مصاحبة صاحب الهمّة العالية .
•مراعاة الأولويات .
•التحدي بين الشخص وهمته .
•الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة .
(عمر بن عبد العزيز: : إن لي نفساً تواقة ، تاقت إلى الزواج من فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها ، وتاقت إلى إمارة المدينة فتوليتها ، وتاقت إلى الخلافة فتوليت الخلافة ، فتاقت إلى الجنة فأسأل الله أن يدخلني الجنة (
•الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمّة وتضييعها .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما اعتاد الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد: خدمة، ويطيلون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعنى ويتخلله غيبة، وهذا شئ يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش الوحدة
•الإنشغال بالدنيا والمال .
•كثرة التمتع بالمباح والترف الزائد .
•التسويف .
•الكسل والفتور .
إعداد
خالد عبد الله السبع
المرجع
كتاب الهمة طريق القمة
للشيخ محمد بن موسى الشريف
ــــــــــــــــــ
هل أنت إيجابي ؟!
الإيجابية :
هي اتخاذ الوضع الأفضل في الظرف الأسوء !
هي سلوك فاعل نحو الإصلاح، وآفتها الجبن والكسل !
الإيجابية مطلب قرآني :(1/456)
تحدث القرآن الكريم عن فضيلة الإيجابية في مواضع كثيرة بألفاظ مثل المسارعة والمسابقة والمنافسة ، مثل قوله تعالى : "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ " [الأنبياء:90 ]، وقوله تبارك وتعالى : "وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ " آل عمران:114]، وقوله جل وعلا : " ": وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران : 133 ]، وقوله : " سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" [ الحديد 22]، وقوله : " وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " [ المطففين :26]، إضافة إلى قصص الإيجابيين أمثال مؤمن آل فرعون – في سورة غافر – الذي وقف ينصر جماعة موسى – عليه السلام – أمام طغيان النظام الفرعوني المستبد، ومثال الرجل الصالح – في سور يس – الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لنصرة أنبياء الله المستضعفين، ومثال تلك الجماعة التي أنكرت على أصحاب السبت فسادهم – في سورة الأعراف – وكان شعار هذه الجماعة المؤمنة هو الإعذار إلى الله ، حيث لما قال السلبيون " لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا" .. قال الإيجابيون : " مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " [الأعراف : 164] .
ومثال قصة هدهد سليمان – في سورة النمل – ذلك الهدهد الذي طار إلى مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية تاركًا سليمان في الشام، بغير تكليف أو تنفيذ لأمر صادر، ليأتي بخبر عظيم إلى القيادة أدى إلى دخول أمة بأكملها في دين الله ..
الإيجابية سنة مهجورة !
وقد بينت السنة النبوية أهمية هذه القيمة الإسلامية العظيمة، فيقول - صلى الله عليه وسلم - : " إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها(1/457)
فليغرسها " [ صحيح، أحمد، عن أنس ].. فبين أن يكون المسلم إيجابيًا حتى قيام الساعة .. وحتى آخر رمق في حياته .
وقال – - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ ..." الحديث [ مسلم، عن أبي سعيد ] .. فبين أن يكون المسلم إيجابيًا على الفور، حيث الفاء هنا في " فليغيره" للسرعة، حيث الإسراع في تغيير المنكر واجب كما أن تغيير المنكر نفسه واجب آخر .
ويقول أيضًا : " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا، وَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجُوا جَمِيعًا " [البخاري، النعمان بن بشير] .فهذا الحديث الكريم رسالة واضحة إلى هؤلاء الذين اتخذوا من كلمة " وانا مالي " شعارًا لهم، حيث ناموا عن الحق، وتركوا الباطل يكبر حتى أوشك على إهلاك الجميع .
كيف تكون إيجابيًا :
أذا أردت أن تتحلى بهذا الخلق الإسلامي فعليك بأربع:
الأولى : الإستعاذة بالله تعالى من الكسل والجبن صباًحًا ومساءً فتقول :
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ"[ البخاري، أنس ]، وقد قال النبي – - صلى الله عليه وسلم - هذا الدعاء وهو في طريقه لفتح خيبر .
الثانية : مقاومة الكسل والجبن عمليًا بالتحرك السريع في إنجاز الفرائض والواجبات والمستحبات .
الثالثة : الثقة بالنفس، فلا إيجابية صادرة من شخص مائع مهزوز .(1/458)
الرابعة : حب الاقتحام والمغامرة، فالشخص الإيجابي هو الشخص المبادر الذي يقتحم صفوف الباطل، وأسوار الواقع المظلم .
قل ولا تقل :
وإذا أردت أن تنضم إلى صفوف الإيجابيين وجماعتهم ، فاحذر أن تكون من الفئة التي سماها الله " المعوقين " فقال : قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا "[ الأحزاب : 18 ].
هل أنت إيجابي ؟ !
( إعلان : مطلوب أشخاص إيجابيين)
محمد مسعد ياقوت **
قل ... لا تقل ... فقد قال النص الكريم
سوف أسعى وأحاول ... لا أستطيع ... " استعن بالله ولا تعجز"
إن شاء الله سننجح ... أنا متأكد أننا ناجحون ... " إلا أن يشاء الله "
أستطيع أن أوظف إمكانياتي ... ما باليد حيلة ... " فتوكل على الله "
ومن الإيجابية :
أخي الكريم ..
ومن الإيجابية أن تشارك في تغيير المنكر الذي تراه أمامك لو بشطر كلمة
ومن الإيجابية أن تشارك في إصلاح مجتمعك ووطنك ومدينك ، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ..
ومن الإيجابية أن تدلي برأيك في قضايا الأمة على المستويين العام والخاص، العالمي والمحلي .
ومن الإيجابية أن تدعم المخلصين من أبناء وطنك ممن حملوا قضية الإصلاح على عاتقهم .
إن هؤلاء المصلحين أمامك في كل الميادين ( في المحليات .. في البرلمان .. في الصحافة ...الخ)
** المشرف العام على موقع نبي الرحمة www.nabialrahma.com
ــــــــــــــــــ
أسباب انحطاط الهمم وارتقائها
محمد بن عبد العزيز المسعد
فصل : أسباب انحطاط الهمم :
1. الوهن : وهو كما فسره رسول الله ص ( حب الدنيا وكراهية الموت ) ،
أما حب الدنيا فرأس كل خطيئة ، وهو أصل التثاقل إلى الأرض وسبب الإنغماس في الترف ، وقد مرّ بشر الحافي على بئر فقال له صاحبه : أنا عطشان ، فقال : البئر الاخرى ، فمرّ عليها فقال له : الأخرى ، ثم قال : كذا تُقطع الدنيا .(1/459)
أما كراهية الموت فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها ، مع تخريبه الآخرة ، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب .
حب السلامة يثني عزم صاحبه *** عن المعالي ويغري المرء بالكسل
2. الفتور : عن عبدالله بن عمر عن رسول الله ص : (إن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أهتدى ، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك )
والشره : نشاط وقوة ، والفترة : ضعف وفتور .
لكلٍ إلى شأوِ العلا حركات *** ولكن عزيز في الرجال ثبات
3. إهدار الوقت الثمين : أي في الزيارات والسمر وفضول المباحات ، قال ص : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، الصحة و الفراغ )
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع
قال الفضيل بن عياض ( أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة ) ،وقال بعض السلف :( إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب ) ، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله فقال :(إني وقت الإفطار أُحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر )
4. العجز والكسل : وهما اللذان اكثر الرسول ص من التعوذ منها ، وقد يعذر العاجز لعدم قدرته ، بخلاف الكسول الذي يتثاقل مع قدرته ، قال تعالى : ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين )
وقد ترى الرجل موهوباً ونابغة فيأتي الكسل فيخذل همته ويمحق موهبته ويشل طاقته .
5. الغفلة : قال عمر ر: ( الراحة للرجال غفلة ) ، وسئل ابن الجوزي : أيجوز أن أُفسح لنفسي في مباح الملاهي . ؟ فقال : ( عند نفسك من الغفلة ما يكفيها ) ،(1/460)
قال أ.محمد أحمد الراشد حفظه الله معلقاً : ( فإن اعترض معترض بمثل كلام ابن القيم حيث يقول ( لابد من سِنة الغفلة ، ورقاد الغفلة ، ولكن كن خفيف النوم )، فالمراد التقليل من الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم ، كل حسب صحته وظروفه الخاصة ، فالمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للإنتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون من قبل ، ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل ويسوده التواصي بالحق ، والرذائل في ستر وتواري عن عيون العلماء وسيوف الأمراء ، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف ، وجعلت إلقاءات الشيطان قريبة من القلوب ، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يدري ولا يشعر ، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها )
6. التسويف والتمني : وهما صفة بليد الحس ، عديم المبالاة ، الذي كلما همت نفسه بخير إما يعيقها ( بسوف ) حتى يفجأه الموت فيقول : ( ربي لولا أخرتني إلى أجل قريب ) ، وإما يركب بها بحر التمني وهو بحر لا ساحل له ، يدمن ركوبه مفاليس العالم ، كما قيل :
إذا تمنيت بتّ الليل مغتبطاً *** إن المنى رأس مال المفاليس
والمنى هي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ، ليس لها همة تنال بها الحقائق بل اعتاضت بالأماني الدنيّة ، وقد قال المتنبي منزهاً نفسه عن الاستغراق في الأحلام ، مبيناً كيف ألف الحقائق واعتاد ركوب الأخطار :
وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى *** ولكن بأيامٍ أشبن النواصيا
لبست لها كدر العجاج كأنما *** ترى غير صافياً أن ترى الجو صافيا(1/461)
7. مرافقة سافل الهمة من طلاب الدنيا : الذي كلما هممت بالنهوض جذبك إليها، وغرك قائلاً : ( عليك نوم طويل فرقد ) فحذارِ من مجالسة المثبطين من أهل التبطل والتعطل واللهو والعبث ، “ فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري ، ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيف ، فما ظنك بالنفوس البشرية “
ولا تجلس إلى أهل الدنيا فإن خلائق السفهاء تعدي
8. العشق : لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه ، فيلهيه عن حب الله ورسوله ( وبئس للظالمين بدلا ) ، إن عالي الهمة لا يستأسر للعشق الذي يمنع القرار ويسلب المنام ويحدث الجنون ، فكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله ونفسه ودينه ودنياه .
9. الإنحراف في فهم العقيدة : لا سيما مسألة القضاء والقدر وعدم تحقيق التوكل على الله عزوجل .
10. الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد : واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم ،نظراً لقولهص:( وإن لأهلك عليك حقا ) مع الغفلة عن قولهص : ( وإن لربك عليك حقا ) ، وقد عدَّ القرآن الأهل والأولاد أعداءً للمؤمن إذا حالوا بينه وبين الطاعة .
11. المناهج التربوية والتعليمية الهدّامة : التي تثبط الهمم وتخنق المواهب وتكبت الطاقات وتنشئ الخنوع ، وأخطرها وأضرها المناهج التي ارتضت العلمانية ديناً ، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين ، لتخرّج أجيالاً مقطوعة الصلة بالله ، تبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب ، وتأنف الإنتساب إلى الإسلام .
12. توالي الضربات وازدياد اضطهاد المسلمين : مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء وسنن الله عز وجل في خلقه ، وقد كان رسول الله ص يعزّي أصحابه المضطهدين في مكة بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين ،
أخي ستبيد جيوش الظلام *** ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك اشراقها *** ترَ الفجر يرمقنا من بعيد
• فصل : أسباب ارتقاء الهمم :(1/462)
1. العلم والبصيرة : فالعلم يصعد بالهمة ، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد ويصفّي النية ، والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال ، فيتّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد ، كفضول الأكل والنوم والكلام .
2. إرادة الآخرة وجعل الهموم هماً واحداً : قال تعالى : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ، وقالص: ( من كانت همه الآخرة ، جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت همه الدنيا ، فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم تأته الدنيا إلا ما كتب الله له ) .
3. كثرة ذكر الموت : لأنه يدفع إلى العمل للآخرة والتجافي عن دار الغرور ، ومحاسبة النفس وتجديد التوبة ، وإيقاظ العزم على الإستقامة ، قال الدقاق : ( ومن أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاث تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ) ،
مازال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الحمّال
فأصابه مستيقظاً متشمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمال
4. المبادرة والمداومة في كل الظروف : قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فكبير الهمة يبادر ويبادئ في أقسى الظروف حمايةً لهمته من أن تهمد ووقاية لها من أن تضمر .
5. الدعاء : لأنه سنة الأنبياء وجالب كل خير ، وقد قالص: ( أعجز الناس من عجز عن الدعاء ) وقالص: ( إذا تمنى أحدكم فليكثر ، فإنما يسأل ربه ) ،
إذا لم يكن من الله عون للفتى *** فأول مايجني عليه اجتهاده(1/463)
6. الاجتهاد في حصر الذهن : وتركيز الفكر في معالي الأمور ، ولنا في ائمة السلف والخلف الأسوة في ذلك ، قال الحسن : ( نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ) ، وكان الخليل بن أحمد يخرج من منزله فلا يشعر إلا وهو في الصحراء ، فهو يعمل الشعر فلا يشعر بنفسه ، ويقول وليم مارتن ( والعقل الإنساني يصبح أداة مدهشة الكفاءة إذا رُكز تركيزاً قوياً حاداً . . . وهذه القدرة تكتسب بالمران ، والمران يتطلب الصبر ، فالإنتقال من الشرود إلى حصر الذهن ثمرة جهد ملح )
7. التحول عن البيئة المثبطة : إن للبيئة المحيطة بالإنسان أثراً جسيماً لا يخفى ، فإذا كانت البيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون ، فإن على المرء هجرها إلى حيث تعلو همته ، كي يتحرر من سلطانها وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية ، وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة ، حديث العهد بالتوبة ، فإن من شأن التحول من بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة أن تنسيه صحبة السوء وأماكن السوء .(1/464)
8. صحبة أولى الهمم العالية : ومطالعة أخبارهم ، فالطيور على أشكالها تقع وكل قرين بالمقارن يقتدي ، وإن العبد ليستمد من لحظ الصالحين قبل لفظهم ، لأن رؤيتهم تذكر بالله عز وجل ، وكان الإمام أحمد ( إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع أمر ، سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة ، وأحب أن يعرف أحواله ) ، وإذا أردت أن تلمس أثر الصحبة الصالحة العالية الهمة في التسابق إلى الخيرات ، فتأمل قول محمد بن علي السلمي رحمه الله : ( قمت ليلة سحراً لآخذ النوبة عن ابن الأخرم ، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ، ولم تدركني النوبة إلى العصر ) ، ويقول عمرر: ( ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح ، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به ) ، ويقول أ.د.خلدون الأحدب : ( وإذا نظرنا إلى أولئك الذين استفادوا من لحظات أعمارهم ، وكان من نتاجهم ما يعجب ويدهش ، نجدهم لا يصحبون إلا المجدين العاملين والنابهين الأذكياء ، الذين يحرصون على أوقاتهم حرصهم على حياتهم لأن الزمن هو الحياة ) .
9. نصيحة المخلصين : وقد يكون هذا الناصح الأمين أباً شفيقاً ، أو أماً رحيمة ، كقول أسماء ذات النطاقين توصي ابنها عبدالله بن الزبير : ( يابني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح ، امضِ واستعن بالله ) ، وقد تكون زوجة وقد يكون رجلاً من العوام ، كالأعرابي حين قال للإمام أحمد : ( ياهذا ما عليك أن تقتل هنا وتدخل الجنة ) فقال الإمام أحمد : ( ما سمعت كلمة أقوى لي من كلمة الأعرابي )
* ملخصاً من كتاب علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدّم حفظه الله
ــــــــــــــــــ
إذا كنت صفراً فكن ذا قيمة
علي بن أحمد الشيخي(1/465)
هناك صفران يشغلان أول خانة في بعض الأعداد ، أحدهما يضاعف العدد إلى أضعاف كثيرة مثل الصفر الذي يأتي قبل العدد ( 1000 ) فعند إضافة الصفر يصبح هذا العدد ( 10000 ) إذ يتحول العدد من ألف إلى عشرة آلاف ، وهنا نجده قد تضاعف عشرة أضعاف ، وذا أضفنا صفراً آخر تحول العدد إلى ( 100000 ) مئة ألف ، وهنا تضاعف بالتالي أضعافاً كثيرة أيضاً .
أما الصفر الآخر الذي لا يؤثر في زيادة قيمة العدد فوجوده مثل عدمه مثل الصفر الذي يأتي أمام الكسر العشري ( 0,1 ) ليصبح العدد ( 0,10 ) فهنا تحول مسماه من واحد من عشرة إلى عشرة من مئة لكن القيمة بقيت ثابتة لم تتغير ، ومثله لو أضفنا صفراً آخر لذلك الكسر لأصبح العدد ( 0,100 ) فهو يقرأ مئة من ألف لكن القيمة تبقى ثابتة كما كانت أولاً لم تتغير أيضاً .
وأنت أيها العزيز هل تريد لو قدر لك أن كنت صفراً أن تكون صفراً مؤثراً في هذه الحياة بمعنى أن يكون لك أثر في الحياة ، فيدخل في رصيدك سمعة تفوح أريجاً وأجور كثيرة لم تعمل فيها ظاهرياً شيئاً ، لكنها في الحقيقة قد جاءتك من جراء تأثر في الآخرين بأقوالك الصائبة وسلوكك الحميد أو حتى بعمل من قام بتقليد من عمل بعملك حتى ولو بعد حين ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ولمن ضحى بإخلاص وسخاء في هذه الحياة ، فمثل هذا الصنف هو ممن يأمر بالمعروف على قدر استطاعته غير مبال بنقد الناقدين أو شماتة الشامتين ، وهو أيضاً لمن يقدم في مجال عمله عطاء مثمراً حتى ولو تخاذل المتخاذلون بل وحتى في حالة عدم تقدير جهوده من قبل رؤسائه ، لأن رسالتنا في هذه الحياة عمارة هذه الأرض ، ولأن الإنسان كما قيل : إذا لم يضف شيئاً على هذه الحياة فإنه زائد عليها .(1/466)
أما لو كنت من أصحاب الصفر غير المؤثر ممن لا يبالي بتأثيره الإيجابي في الحياة وممن لا يؤدي الواجب المناط به على الوجه المطلوب ولا يهتم بأن تكون أعماله في رضا الله سبحانه وتعالى ومن ثم رضا ضميره من منطلق أداء الواجب المناط به على أكمل وجه ، فهو كما يقال ( مع الخيل يا شقرا ) ، ومن أصحاب ( عليّ وعلى أعدائي ) فهو هنا مثل ذلك الصفر غير المؤثر ، بل وسيجني وبالاً في الدنيا يتمثل في هزيمة نفسية وعدم رضا عن الذات وقلة تقدير لقيمة نفسه في هذه الحياة وفي يوم القيامة سيجني ثمرة شر أعماله خيبة وحسرة وندامة.
وإنني أعرف أشخاصاً كونوا لأنفسهم أمجاداً خالدة دون مجد مؤثل سابق ، حتى أصبحوا نجوماً لامعة في سماء الحياة ، ونعرف جميعاً إلى جانب ذلك أناساً كثيرين يمثلون أصفاراً في هذه الحياة سودت أوراق الحياة دون أن يكون لهم أدنى قيمة فيها.
فاحرص يا رعاك الله لو قدر لك أن كنت صفراً في هذه الحياة أن تكون ذا قيمة .
علي بن أحمد الشيخي
مشرف المقررات المدرسية بتعليم القنفذة
وطالب دكتوراه في علم النفس التربوي
واحد زائد واحد لا يساوي اثنين(معادلة عجيبة)
عيسى بن مانع
إن أهل الحق في صراعهم مع أهل الباطل يستخدمون أحدى معادلتين. المعادلة الأولى هي المعادلة الرياضية البحتة,1+1=2. وهي معادلة القدرات والطاقات و الإمكانات, أي أن أهل الحق يواجهون بطاقاتهم و إمكاناتهم بدون الاعتماد على الله, يواجهون أهل الباطل بطاقاتهم و إمكاناتهم. وهنا كما ترى يا صديقي أن الهزيمة والفشل من نصيب أهل الحق.
فلو قارنت ما يملكه أهل الباطل مع ما يملكه أهل الحق في الجانب الإعلامي فقط لأدركت أن ميزان الحق مرجوح و خاسر. ولو قارنت في الجانب العسكري لما نبست ببنت شفة, ولو نظرت في الجوانب السياسية و الاقتصادية و العلمية و غيرها لما استطاع عقلك أن يقارن.
و صاحب هذه المعادلة مسكين و بحاجة لمجهود كبير و طاقة هائلة.(1/467)
فقوم موسى عندما رأوا البحر أمامهم أملت عليهم معادلتهم الفاشلة أنهم مدركون. و قوم إبراهيم عندما رموه في النار فهم يعتمدون على أن النار تحرق كل ما يلقى فيها و هي معادلة فيزيائية ساذجة.
و كذلك قوم نوح عندما سخروا منه عند بناء سفينة في وسط البر الفسيح, معادلتهم تلك لم تخبرهم أن الماء يمكن أن يأتي إلى هنا في لحظات قليلة.
ولكن المعادلة العظيمة هي المعادلة الربانية التي يكون الله فيها هو الحاكم و الظهير فيا نعم المولى و يا نعم النصير. المعادلة الربانية هي 1+1>2, أي طاقاتك و إمكاناتك + نصر الله و عونه و تأييده. هذه المعادلة التي أدركها نوح عندما أمره الله ببناء السفينة, فلم يتعجب لماذا يبني سفينة في وسط الصحراء القاحلة. بل أدرك أن الماء سيأتي بطريقة ربانية غريبة لا يدركها المغفلون. "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" يقول ابن عباس فانهمر الماء من السماء بطريقة لم تحدث من قبل ولن تحدث إلى يوم القيامة وهي أن أبواب السماء كانت مفتوحة ولم يكن هناك سحاب يهطل منه المطر." وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر". الأرض كلها أصبحت عيوناً تتفجر , لماذا؟ لأن المعادلة ربانية.
وأدركها إبراهيم فعندما كان في الجو يطير ليقع في وسط النار العظيمة, يأتيه جبريل الملك العظيم صاحب الستمائة جناح و يقول له وهو رفيقه في درب العقيدة ونصرة الدين"ألك إليّ حاجة", لم يقل إبراهيم عليه السلام هذا جبريل جندي من جنود الله و رفيقي في الدرب لا يمنع أن أستعين به, كلا بل قال" أما إليك فلا , و أما إلى الله فنعم" لأنه أدرك أن حل المعضلة في المعادلة الربانية التي ستسلب النار قوة الإحراق و تبقي قوة الإشراق. وأدرك أن المعادلة الفيزيائية البحتة لا يمكن أن تحل المسألة.(1/468)
أدركها موسى عندما أتى هو و أخوه و عصا (قطعة خشب). و أطل على مشارف دولة عظيمة ملكها يقول" أنا ربكم الأعلى" و حرسه الفرعوني الخاص كما في إحدى الروايات يقارب ال600 ألف وفي الرواية الأخرى 100 ألف جندي. موسى عليه السلام عندما وقف أمام أسوار هذه المملكة لم يقل بالمعادلة الأولى السقيمة , "أنا و أخي و عصا ماذا نفعل في مواجهة دولة بأجهزتها و قواتها و ملكها الأحمق؟" بل قال الله "لا تخافا إنني معكما اسمع و أرى" فهنا أصبحت المعادلة معادلة ربانية تنقلب بها الموازين في وجوه الطغاة. و أن قطعة الخشب تلك تقسم البحر العظيم و تجعله طرقاً للمشاة. و يمكن أن تتحول إلى حية عظيمة تأكل ما يفعله السحرة و المشعوذون و رجال المخابرات.
لا أريد أن أطيل عليك , ولكن بأي معادلة تتعامل مع أهل الباطل؟ هل تعتمد على طاقاتك وما تملك من قدرات أم أنك تعتمد على الله باتخاذ أسباب التأثير والتقدم والنصر؟ اعتقد أن الفكرة وصلت!
ــــــــــــــــــ
الأمة بين الصالح والصالح المصلح
طارق حسن السقا
في محطة القطار اجتمعوا ليودعوا صديقهم المسافر إلى مدينة الإسماعيلية – شمال مصر- ليتسلم عمله الجديد هناك . وفي انتظار وصول القطار امضوا وقتهم يتجاذبون أطراف الحديث. كان من بين المودعين رجل ذو تقوى وصلاح . كان آخر ما قاله وهو يودع الصديق المسافر:
إن الرجل الصالح يترك أثرا صالحا أينما حل .
ونحن نأمل أن يترك صديقنا أثرا صالحا في هذا البلد الجديد عليه"
صافرات القطار قطعت شجون حديثهم , فهموا بوداع صديقهم الذي استقل القطار وجلس وحيدا يفكر في المجهول الذي ينتظره في الإسماعيلية , وفي تلك الكلمات التي سمعها والتي أخذت مكانها في نفسه , و التي عاش بها وعاش لها بقية حياته والتي لم تدم طويلا .(1/469)
إن تلك النصيحة التي قيلت للمسافر منذ ما يقرب من نصف قرن بينت له ووضحت أن هناك فرقا بين الصالح و الصالح المصلح. و أن المسافة بين الصالح , والصالح المصلح مسافة شاسعة . لذلك أيقن الرجل حينها أن الأمة ليست في حاجة إلى نموذج الفرد الصالح , بقدر حاجتاها إلي نموذج الفرد الصالح المصلح الذي يجب أن يترك أثرا صالحا أينما حل وأينما نزل وأينما تواجد . هكذا فهم المسافر , وهكذا عمل , ومن ثم أخذ يورث الفكرة إلي طلابه وأحبابه وإخوانه في كل مكان . وهذا ما يجب أن نؤمن به نحن اليوم .
فالواقع البئيس للأمة اليوم يدعونا أن نتساءل عن جدوى وجود أهل الصلاح و أهل التقوى في مجتمعات لا يعود تأثيرهم علي من يحيون داخل هذه المجتمعات ؟!!! وما جدوى وجود أهل العلم وأهل الخير كل داخل محرابه يصلي لله, ويعبده حق عبادته , بينما المجتمع من حولهم يعج بصنوف الفساد والمفسدين ؟!!! ما فائدة علم لا ينفع المجتمع ولا ينهض به ولا يعالج مشكلاته ويضمد جراحاته ؟!!! . ما فائدة أبحاث ودراسات مؤلفات بذلت فيها الجهود الميدانية المضنية ومع ذلك انتهى بها المقام إلى أن تكون حبيسة الأدراج ؟!!!.
إن الأمة أحوج ما تكون إلي نموذج الفرد الصالح المصلح. الذي يتحرك بصلاحه وعلمه ,وفقهه , وأخلاقه, وسلوكه بين الناس .يعيش في قلب الواقع بحلوة ووحله . يوقظ النائم . يذكر الغافل. ينصح المقصر . ينبه العاصي .يشجع الجاد . يحي السنة ويميت البدعة. يرد الناس إلى الله ردا جميلا .. يأمر بالمعروف بمعروف. وينهى عن المنكر بمعروف . يرد الظالم عن ظلمه .يرد الناس إلى الله , والي منهج الله , والى كتاب الله . يحبب عباد الله إلى الله , ويحبب الله إلى عباده. والا فما فائدة صلاح الصالحين , وعلم العالمين, وتقوى المتقين دون أن يكون لها اثر ومردود؟(1/470)
إن مشكلة الكثيرين منا أننا نخلط بين الوسائل والأهداف . فمثلا الصلاة والزكاة والصيام والحج ما هي إلا وسائل. وسائل الهدف منها خلق إنسان صالح في المجتمع .هذا الإنسان الصالح إذا ما تحقق في المجتمع ووجد , فيجب أن يكون لها دور في العمل وفي الإصلاح. دور في البناء, و في تقليل هوامش الفساد في المجتمع. دور في جعل الإنسان يعيش على هذه الأرض بالطريقة التي يحبها الله ورسوله. وليس مطلوبا منه أن ينعزل عن الناس ومشاكلهم وهمومهم .
أما أن يصلي المصلون ولا يكون لصلاتهم مردود في ارض الواقع ,أو يصوم الصائمون ولا يكون لصيامهم اثر يعود بالنفع على من هم حولهم . أن يذهب الحجيج في رحلات شاقة يحجون فيها أو يعتمرون ويعودون بلا مردود يجود الواقع الذي يعيشون فيه . فهذا هو الخلل , بل هو الخلل الكبير . نفس الخلل – بل وأفظع منه – أن يتواجد في المجتمع عدد من الصالحين ولا يكون لهم لا مردود ملموس , ولا تأثير ايجابي على المجتمع الذي يعيشون فيه .(1/471)
إن هذا الخلط بين الوسائل والأهداف يذكرنا ببعض من ينتمون إلى الجماعات أو الحركات الإسلامية في عالمانا الإسلامي. وهم يظنون أن مجرد انتمائهم إلى جماعة من الجماعات العاملة على الساحة هو هدف في حد ذاته .ولكن إن الانتماء للحركات الإسلامية هو وسيلة وليست هدف . فكل من ينتمي إلى جماعة تعمل لنصرة الإسلام ويكتفي بهذا الانتماء فقط فهو عبء ثقيل , وبطالة مقيتة , وعدد في الليمون كما يقولون . لأن الانتماء الحقيقي لهذا الدين يجب أن يكون انتماء العطاء, والإنتاج – كل حسب قدراته ومواهبه. فلابد لمن يندرج تحت لواء العاملين لنصرة هذا الدين أن يكون لانتمائه مردود واثر: مردود يشعر به المجتمع واثر يسعد بالبشر . وليس مقبولا من هؤلاء أن يكتفوا بإصلاح أنفسهم وفقط . ويعيشون في المنطقة الدافئة . بل لابد وان يصلحوا أنفسهم بالتزامن مع دعوة غيرهم ودلهم على الخير وإرشادهم إلي الصواب وحثهم على العمل والبناء .
ولكن الواقع يخبرنا أن هناك عوائق تعشش في أذهان الكثيرين من أهل الصلاح و أهل التقوى و أهل الورع أهل والخير في مجتمعاتنا- وهم كثر بفضل الله- . هذه العوائق تحول بين انتقالهم إلى دائرة (الصالح المصلح ). سبب ذلك ظن هؤلاء أن الأمر عظيم و له تبعاته ومسؤولياته . وإنهم لا طاقة لهم بها . كما ويخشى بعض هؤلاء ألا يكونوا على قدر هذه التبعات ولا لهذه المسؤوليات. ولا للجهود المطلوب لذلها . لذلك فهم يفضلون البقاء في المنطقة الدافئة ألا وهي منطقة الفرد الصالح .ويربأون بأنفسهم أن يقتحموا أو يمارسوا دور الفرد الصالح المصلح في المجتمع . ولكن عظمة هذا الدين انه وسع في مفهوم الإصلاح وبسطة لدرجة أن كل فرد في الأمة يستطيع ان يكون له أوفر الحظ والنصيب من كعكة الإصلاح المرجوة . كل حسب قدراته وإمكانياته .
ودعونا نؤكد على هذا المعنى من خلال صحابي جليل جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم وسأله :(1/472)
يا رسول الله علمني شيئا ينفعني الله تبارك وتعالى به .
فرد عليه رسول الله بسبع كلمات, ولكنها تلخص فلسفة وعظمة هذا الدين العظيم في بساطة وعمق . كلمات تلخص وتبسط مفهوم الإصلاح أمام المسلمين . كلمات تحل مشكلة الكثير من المترددين في الانتقال من منطقة الصالح إلى منطقة الصالح المصلح . قال له رسول الله يا أبا برزة :
انظر ما يؤذي الناس فاعزله عن طريقهم .
وهي مقولة توضح لنا إن مجالات الإصلاح لا حدود لها, كما وفيها منهاج عمل يكفي ويغري كل صالح أن يتحول من المنطقة الدافئة إلي منطقة الصالح المصلح
فلو أقدم كل صالح على تنفيذ هذا التكليف كل حسب قدرته واستطاعته وتخصصه وطاقته لحلت كثيرا من مشاكل المسلمين صغيرها وكبيرها. لو أقدم كل صالح على تنفيذ هذا التكليف لارتقت الأمة ونهضت من كبوتها . فالأمية , والبطالة , والفقر , والجهل , والمرض , وإقصاء القرآن عن منصة التشريع , وغياب دولة الخلافة الإسلامية , والانهيار الحضاري والأخلاقي والعلمي الذي ابتليت به الأمة , وغياب الشورى عن واقع حياة الأمة , وعدم احترام حقوق الإنسان , والانبهار بكل إفرازات الحضارة الغربية , والحكم بغير ما أنزل الله , وتداعي الأمم علينا ,والحملة الشرسة على الأمة ومقدساتها وغيرها وغيرها كلها أمور تؤذي المسلمين . فمن يعزل هذا الأذى ويميطه عن طريق وعقول المسلمين ؟ فهذه الأمور- وغيرها - تؤذي المسلمين,وتعمق جراحاتهم , وتعرقل مسيرتهم, وتعيقهم عن القيام بالمهمة التي خلقهم الله لها , فمن يعزلها عن طريقهم؟ ومن يتقدم لتضميد جراحهم ؟.(1/473)
إن واقع الأمة اليوم يتطلب من قادتها ومؤسساتها , وأهل الخير فيها أن يسعوا جادين إلي توفير نموذج الفرد الصالح المصلح في الأمة . فالأمة في حاجة إلي فرد يتحرك ويعمل وينتج ويقدم لدينه شيئا ما . فرد لا يكفيه أن يعيش لنفسه, بل يعيش لدينه . فرد إذا ما نظر إلى حال المسلمين اليوم , وما آلت إليه أحوالهم , وإذا ما نظر إلى المخططات التي تحاك ليل نهار لإفساد عقيدتهم يمتلئ طاقة وأقداما لا حسرة وألما . فرد ينطلق يغير ويصلح ويبدع ويطور في هذا الواقع البئيس حتى تعود الأمة إلى سابق مكانتها .فرد يصلح ويستفيد من كل دقيقة في الإصلاح والبناء- بناء شيء ما - وكما يقول الدكتور عبد العزيز الخويطر :
القراءة بناء
وتعود الكتابة بناء
وتدوين الأفكار بناء
والعمل النافع بناء
والقول النافع بناء
والمشي في الخير بناء
وكلها أمور تصب في خانة تبسيط مفهوم الإصلاح أمام الناس حتى لا يكون بيننا من يستثقل مفهوم الإصلاح ويخشى اقتحامه .
فلننطلق , ولتنطلق , ولينطلق الصالحون صوب دائرة الإصلاح ولنضع جميعا نصب أعيننا أن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء فما له والنوم وما له والراحة وما له الفراش الدافئ وما له العيش الهادئ وما له المتاع المريح . كما يقول سيد قطب رحمه الله .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com
ــــــــــــــــــ
ماذا ستكتب على جدار الزمن ؟!
هل تذكر حين ولجت هذه الأرض ؟ حين عانق صوتك هذا الفضاء الواسع ؟ أول وهلة تسقط على تراب هذه الأرض هل تعلم أن صراخك ذلك اليوم كان شديداً ؟ تذكّر طول تلك الرحلة بين قدومك أمس وليداً صغيراً ، وبين وجودك اليوم رجلاً كبيراً ... ودعني أسائلك :(1/474)
ماذا كتبت على جدار هذا الزمن ؟ أين آثارك التي تحتفل بها اليوم ذكريات جميلة على جدار هذا الزمن الطويل ... ؟ عذراً لا أود أن أوجع ظهرك بسياط التأنيب .. كلا ! وإنما أريد أن أرى آثارك واضحة لأحتفل بها ، وأخطو على أثرها ، وأكتب بها شيئاً من ذكريات الأحبة من أمثالك . وجدت هذا العنوان ماذا ستكتب على جدار الزمن ؟ وأنا أتصفح النت ، ووجدت بعضاً من الناس كتب تعليقاً عليه : يقول الأول : سأكتب لو يعلمون ........!! وآخر كتب قائلاً : لن تجدونني .... حينها تذكروا أن لي قلباً نبض حباً لكم لكنكم لم تنصفوه ... وثالث كتب : إن خير الزاد التقوى ... ورابع خط بقلمه فقال : حتى البكاء كان شحيحاً .. وكتبت أنا قائلاً : الحياة فرصة واحدة فإما فلاح الراشدين وإما عثرات النائمين ... الحياة فرصة لا تحتمل نوماً ثقيلاً ، ولا جلوساً طويلاً ، الحياة صفحة بيضاء فإما تاريخ الناجحين وإما نوم الغافلين ! وإذا كانت النفوس كباراً .... تعبت في مرادها الأجساد . ومن علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء . ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام . يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : العامة تقول : قيمة كل امرئ ما يحسن ، والخاصة تقول : قيمة كل امرئ ما يطلب .(1/475)
اهـ وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : وما تقف همة إلا لخساستها ، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون ، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي ، وإنما تقتصر بعض الهمم في بعض الأوقات ، فإذا حُثّت سارت ، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فسل المنعم ، أو كسلاً فسل الموفّق فلن تنال خيراً إلا بطاعته ، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ؟ أو حظي بغرض من أغراضه ؟ اهـ يظل العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً ولا يقبل منّة الأم ، والحية تطلب ما حُفر لها إذ طبعها الظلم ، والغراب يتبع الجيف ، والصقر لا يقع إلا على الحيِّ ، والأسد لا يأكل البايت ، والخنفسا تُطرد فتعود . اجتمع عبد الله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في فناء الكعبة فقال لهم مصعب تمنوا فقالوا : ابدأ أنت ، فقال : ولاية العراق ، وتزوّج سكينة ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله فنال ذلك وأصدق كل واحدة خمس مئة ألف درهم وجهزها بمثلها . وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يُحمل عه الحديث فنال ذلك ، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها ، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة وتلك همم القوم ، وآمالهم . ولقد قال الأول :
وقائلة : لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت : ذريني على غصّتي فإن الهموم بقدر الهمم
قم يا أيها الحبيب واركل كل عثرة في الطريق ، واكتب للناس قول القائل :
ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبداً تحت الحفر
قم يا أيها الفاضل إلى الدنيا ، قم فاكتب على صفحاتها قول القائل :
قلت للصقر : وهو في الجو عالٍ اهبط الأرض فالهواء جديب
قال لي الصقر : في جناحي وعزمي وعَنان السماء مرعىً خصيب(1/476)
قم يا أيها الصادق إلى هذه الحياة الطويلة واكتب على صفحاتها ذكرياتك الجميلة . قم إلى الحياة فخلّد فيها معاني النضال والحرية الحقيقية ، قم إليها مبتسماً متفائلاً مقبلاً إقبال الهمام ولا يغرنّك ما فات منها فإنها لا زالت سانحة ، وفي العمر بقية ، وصفحة الحياة لا زالت بيضاء ، والقلم لم يغمد بعد . قم ولا تلتفت إلى كبوات الماضي فهي سلالم النجاح اليوم ، قم بشرط أن تكون متفائلاً ، راضياً ، هماماً ، طموحاً . هذه الحياة أحوج ما تحتاج إلى همة عالية ، وابتسامة صافية ، وتفاؤل عريض ، وقلب وفيٌّ حبيب ، وقبل ذلك وبعده صدق في الإقبال على الله تعالى فما نيلت الفردوس الأعلى إلا بآمال الفالحين الصادقين . هذه كلمات اجترتها تلك المقالة على صفحات الشبكة العنكبوتية .. وهي بعض ما أكتبه على جدار الزمن . والله يتولاك برعايته . مشعل بن عبد العزيز الفلاحي -
ــــــــــــــــــ
همتك همة بركانية!!! لا تعش مثل غيرك !!!
عبدالرحمن باجري
قبل البداية
يا أمتي أين الهمم
أين التسابق للقمم قد أحرقتني لظى الحمم
ما عاد يطربني الغناء ولا الكلام عن القدم
أقسمت أن يا أمتي أن تعتلين عرش الأمم
مقدمة
لن أقول رب همة أحيت أمة ،،،، بل سأقول رب همة أحيت نفسا،،،، رب همة أحيت أفرادا ،،،، رب همة أحيت أسرة ،،، رب همة طلاب أحيت برامج و أنشطة في جامعتهم ومدارسهم ،،،، رب همة لمت شمل أسر متفرقة ،،،، رب همة شباب وشابات في المساجد احيوا حيا بكامله ،،، رب فكرة بسيطة أحيت بلدا ،،،، رب و رب و رب همة أحيت صاحبها !!!!
كأي شاب عشت أياما أتخبط بين الظلام و النور محتار أي الطريق أسلك ، أتساءل كيف أصل ؟! ، ما صنع هؤلاء و كيف وصلوا؟
مررت بلحظات فتور ،، ومررت بلحظات همة عالية ،، لاحظت كيف ترتفع همتي و كيف تنخفض
لكل شيء أسباب ،،،، فكر بطريقة معينة سترتفع همتك لاعلى اعاليها ،،، فكر بطريقة أخرى ستنخفض همتك(1/477)
تعال معي أخي و تعالي أختي لنشعل همتنا لتناطح السحاب
لن أتكلم عن همة وقتية بل سأتكلم عن همة تحيا بها
أريدك أن ترفع مقاييسك في الحياة لا تعش مثل غيرك !!
حرارة الإيمان تذيب لحام القيد!!
انظر لقلبين قلب أرضي و قلب سمائي
الاول قلب ممتليء بالمنكرات ممتليء بالأغاني ممتليء بصور النساء و صور الرجال ، هواجسه كثيرة ، اضطراباته أكثر
وساوسه لا تعد ، كيف يصبح حال هذا القلب؟!! يصبح مقيد مكبل متجه بثقل نحو الارض يشدك معه للكسل و الخمول
منشغل بتوافه الدنيا فقط ، أنى لقلب مثل هذا ان يطلب العلو و الهمة الدائمة
و أما الثاني قلب سمائي دائما يتجه للاعلى متعلق بالله يرفع صاحبه دوما للسمو
طاهر نظيف مليء بذكر الله و قيام بالليل و استغفار و دعاء
ثابت لان الله معه ، وقوي لان الله ينصره ، مطمئن لان الله يوفقه ، لا يخاف شيئا فالله مولاه
قلب ملائكي !! قلب عظيم ، كمثل هذا القلب ان تقدم انطلق بسرعة وان تحرك تميز بكل ثقة همته عالية كيف لا وقد حطمت كل القيود بداخله
جربها أخي جربيها اختي
قيام ليل و استشعروا روحانية القرآن و ادعو بكل يقين
ثم انظر قلبك كيف تراه ؟!! ،،،، تلك حرارة الايمان أذابت كل القيود
عش نبيلا ساميا
عندما تعيش مفكرا في نفسك فقط ستعيش صغيرا ،، أعدك بذلك وأبصم لك
عندما تعيش تفكر في نفسك و غيرك ستعيش عظيما ،، أقسم لك بذلك
عش نبيلا في بيتك فكر في أهلك فكر في أخيك و اختك فكر في جارك ، مسجدك ، حيك ، مدينتك ، دولتك ، الدول المجارة ، الدول العربية الاسلامية ، العالم الاسلامي ، بل العالم باسره
أنت مسلم عاص كنت ام طائع ، انت تحمل منهج رسولك من بعث "رحمة للعالمين"
نحمل رسالة عالمية ، انت عالمي في نظرتك في تحركاتك سام في تصرفاتك نبيل في قراراتك
دعني أقولها لك مرة أخرى
أنت عالمي ، هل تسمع ؟؟
أختي هل تسمعين أنت عالمية(1/478)
خلقنا لنخرج العباد من الظلمات الى نور الله ،،، خلقنا ونحن نحمل رسالة نخبرها للعالم ابتداء من اقرب الاقربين الى العالم كله
كلما وسعت دائرة تفكيرك ،كلما أثرت أكثر وسموت أكثر
حتى هنا في المنتدى،،،،، من يكتب ليعرف ويشهر (تفكير محدود و صغير) ليس كمن يكتب ليفيد الاخرين (تفكير عظيم)
حتى في عملك في وزراتك تفكر فقط في راتبك (تفكير صغير) تفكر في وزارتك ككل وقراراتها ومدى فائدتها للوطن وكيف تطورها هذا تفكير العظماء ،،،،،وقس على ذلك كل امورك،،،،،وعيش نبيلا عظيما او عش هامشيا كغيرك !!
و دعني أسألك ،،، هل تفكيرك عظيم،،، ام تفكيرك هامشي وصغير ومحدود
جراح طموح و إصلاح الأرض وارضاء الرب
مسلمون نحن ؟!! صحيح ؟!! خلقنا لنعمر الارض و نصلحها،،، نصلح أنفسنا و نصلح غيرنا و نصلح اسرنا اقاربنا ومجتمعنا
لو كنت مسلما و مؤمنا بحق سيكون همك هو الاصلاح في الارض
اية نقراها ونسمعها كثيرا قال تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر"
لم نأمر بالمعروف و ننتهى عن المنكر ؟!!!
لارضاء الرب اولا ، و اصلاح الارض ثانيا ،، معنا منهج قويم ديننا الحنيف ،، به نعرف الحلال و الحرام
والله والله والله من تجنب الحرام و مضى للحلال ستصلح حياته و حياة من حوله
وسيعيش حياة سعيدة يرفل بين نعم الله راضيا و طموحا لفعل الخير
عش طموحا الا تحس بالالم بحال المسلمين
الا تحس بالالم عندما ترى منكرا في الارض
الا تحس بالالم عندما تخرج للاسواق وترى الشباب التائه و المغازلات و التفاهة
الا تحس بالالم عندما تضيع وقتك على لا شيء
الا تحس بالالم لانتشار الفساد اغاني وقنوات ماجنة
الا تحس بالالم عندما ترى الحجاب وقد تخلى عنه الكثير من بناتنا واخواتنا
الا تحس بالالم و انت ترى دعاة العلمانيين من يريدون ان يميعوا عرى ديننا بتأويلاتهم الحمقاء
الا تحس بفلسطين والعراق و كل بلد اسلامي منكوب؟(1/479)
تلك جراح لابد ان تكون في قلب كل مسلم وان لم تحس بها فاعلم انك في خطر
وذاك طموح لابد ان تشعر به في قلبك لتصلح الارض او تصلح من تعرفهم من ذوييك وقبل هذا نفسك
وكل هذا من اجل رضا الله سبحانه و تعالى
فجر ينبابيع الهمة بكلمة !! ( افهم نفسك)
لكل شخص مدخل و لكل قلب طريق و لكل روح نسمة تدخل اليها
هناك من اذا حدث نفسه عن المستقبل و دوره في الحياة كمسلم و انتقى الكلمات الرنانة في حديثه لنفسه
تجد همته تبدأ بالاشتعال
لذا حدث نفسك ركز على ما تقوله لنفسك
لا تقل مثلا " ما اثقل الدراسة " بل قل " امامي مستقبل ينتظر و سأذاكر بكل جهدي و عزيمتي
راقب ما تقوله لنفسك ففي قولك يكمن سرك
الخيال قوة هائلة !!! ( افهم نفسك)
للخيال قوة هائلة ،،، لا تفهم من قولي ان تشطح بخيالك لاشياء غير معقولة ،، بل دعني اوضح اكثر رغم انه قد كتب الكثير
ليكن تصورك قويا ،،، ابدأ عملك و تصورك بنهاية سعيدة انظر لنفسك وانت تحقق امورك بنجاح
لا تشغر بالضعف من جراء معاول الهدم المحيطة ومن الاخبار المؤلمة
تذكر قول الله تعالى " وانتم الاعلون" ما اجملها " وانتم الاعلون"
الا تشعر بالقوة و الفخر كونك مسلم اذا اعزم و كن عبدا مطيعا لخالقك
واقرا عن التخيل و التصور ففيه خير كثير لرفع الهمم
لديك حياة واحدة فقط فعش حميدا و مت عظيما
كلما تذكرت ان لي حياة واحدة فقط يقشعر بدني ،، اتساءل هل عشت ما مضى فيما يرضى الرحمن و هل ساعيش الحاضر و المستقبل بحثا عن رضاه و تحقيقا لاوامره في الارض وان اكون خليفة لله في ارضة
احقا بقي 40 سنة علي تقل كثيرا او تزيد قليلا من عمري
لي حياة واحدة وعمر واحد فلاعشه حميدا مرضيا لربي
ان لم اعبد ربي في حياتي هذه ما الفائدة مني!!
ان لم اقم بواجباتي لاصلح نفسي ومن حولي ما الفائدة مني !!
ان عشت حياتي هامشيا ما الفائدة اني عشت اصلا
لم لا اشد من عزمي وابادر الى الخيرات
لم لا اجتهد في دراستي واحقق العلامات(1/480)
لم لا اجتهد في عملي و ابرز المواهب و احقق التغييرات
لم لا انصح اخي او اختي او صديقي واكسب الاجر و الثواب
اخي حياتك واحدة
اختي لك حياة واحدة فقط
فعيشوها بحق على هدى ديننا الحنيف
ولا تمت اخي او اختي مثل غيرك
عش حياتك حميدا و مت عظيما
عش من اجل دينك و رسالتك في الحياة
بعد النهاية
هيا اتخذ من النجم مكانا لك
وعش على قمم العوالي
سجل على صفحة التاريخ رسمك
امض على دروب المعالي
وضع على رمال الكون خطوك
ــــــــــــــــــ
الإحباط قوة دافعة للنجاح
مبارك عامر بقنه
يواجه المرء في حياته كثيراً من المشاكل والعقبات التي تحول بينه وبين تحقيق أهدافه، وتختلف درجة وشدة هذه العقبات حتى قد تصل شدتها إلى أن يصيب المرء حالة من الإحباط واليأس تجعله يستسلم لهذه المعوقات ويعتقد أنه لا خلاص منها
وإذا أراد الإنسان تغيير حاله وتطوير ذاته والسعي إلى الكمال فإنه حتماً سيواجه معوقات كبيرة وكثيرة وأول هذه المعوقات وأشدها هو نفسه، إذ إن أكبر المعوقات هي التي تنبعث من الذات. ولهذا نجد القرآن الكريم ينسب الخلل والقصور إلى النفس الإنسانية " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" فالمصائب والأخطاء في غالبها مبعثها من النفس، فعملية البناء والهدم تبدأ أولاً من الداخل من النفس "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " وغالب الحال أن التأثير الخارجي لا يكون له أثر كبير ما لم يكن هناك قابلية من الداخل.(1/481)
وعندما ندرك أن أساس التغيير ـ سلباً وإيجاباً ـ هو التغيير الداخلي وأن العوامل الخارجية ليست أساسية في التغيير فإن الاهتمام الأولي يكون للداخل سواء كان للفرد أو الأمة بمجموعها في مقابلة الأمم. وهذا المسلك ضروري لمن أراد أن يتغلب على كثير من الإخفاقات ويتخلص من الإحباط أن يتجه إلى نفسه فيقوم بإصلاحها وتهذيبها وتقويمها.
ومن أراد أن يغير من حاله ويرتقي بها في سلم الكمال فعليه أن يوطّن نفسه على مواجهة الصعاب، وليعلم أن الطريق لن يكون سهلاً خالياً من الأكدار والمنغصات، ومن أراد التغيير دون أن تواجهه مشاكل في الطريق فهو لم يعرف حقيقة الحياة وطبيعة التحول والترقي. وإذا كانت المعاناة من ضروريات التغيير فإن الأمر السلبي الذي قد يصاحب التغيير هو حالة الإحباط التي قد تصيب الإنسان من هذه المعاناة؛ والحقيقة أن الإنسان قد يجعل من الإحباط قوة دافعة للإنجاز وتحقيق أهدافه وطموحاته، فبالإمكان تحويل الإحباط إلى حدث إيجابي.
إننا إذا نظرنا إلى الشيء الإيجابي في أمر ما فإننا نكون قادرين على حل مشاكلنا وتجاوز الوضع بطريقة أسرع وأسهل من هؤلاء الذين لا يرون إلا السلبيات والوقوف عند الإحباطات. فهناك فرق بين أن تكون ضحية أو أن تكون المنتصر. فأنت إذا نظرت إلى الإحباط على أنه منحة وهدية فإنك تكون قادرا على تجاوز هذا الإحباط وتحسين حياتك وتحقيق أحلامك.
إن تفاعلنا الأولي مع أي عقبة قد يُشكّل نوعاً من الإحباط أو يبعث أفكاراً تدميره لا تنتج لنا عملاً إيجابياً. لذا علينا أن نغير نظرتنا إلى الوضع وأن نتعامل مع الإحباط ـ إن وجد ـ بالصورة التالية.
أولاً: الإحباط يدل على أنك بحاجة إلى أن تتخذ خطوة للوراء.(1/482)
كثير من الناس تشغلهم الأحداث الجزئية والجانبية عن الهدف الكلي والغاية الكبرى التي يسعى إليها، ولذلك على الإنسان أن يقف ويبتعد قليلاً عن الحدث كي ينظر إلى الصورة بشكل كامل. اتخذ وقتاً كافياً لإعادة تأكيد الهدف الأساسي وانظر هل لازلت تسير في الطريق الصحيح. فهذه الوقفة التأملية قد تكتشف فيها أنك قد سلكت طريقاً لم يخطر على بالك أنك قد تسلكه يوماً ما.
ثانياً: العقبات تعطي فرصة رائعة للعصف الذهني
أحياناً عندما نضع الخطط ؛ فإننا مباشرة نفكر في الحل ونتجه إليه دون دراسة كافية للخيارات الممكنة. وعندما تصاب بالإحباط فإنك تتجه إلى العصف الذهني، وهي دراسة لجميع الحلول والخيارات الممكنة وبالتالي قد تكتشف طرق أكثر فعالية بقليل من الجهد والتفكير.
ثالثاً: الإحباط علامة بأنك بحاجة للراحة
بعض الأشخاص عندما يواجهون عقبات في الطريق فإنهم يضخمون هذه العقبات ويعطونها أكثر مما تستحق من الوقت والجهد، مما قد يسبب ضغط نفسي يحول بينه وبين إدراك الحل . وإعطاء النفس فترة من الراحة أمر ضروري، فالضغط النفسي قد يصور الأمر على غير حقيقته مما يتعذر على الإنسان اكتشاف الحل. فقد نبذل جهداً قوياً وعملاً شاقاً تجاه تحقيق أهدافنا أو مشروعاتنا ومع ذلك نجد الإخفاق، وأحياناً نلتصق بعمل ما حتى إننا لا نستطيع أن نرى عملاً غيره، ولا ندري لماذا؟ وهذه النقطة بالذات تجعل كثيراً من الناس يقلعون ويتركون أعمالهم التي شرعوا فيها، ولهذا إعطاء النفس قسط من الراحة أمراً ضرورياً للاستمرار.
رابعا: الإحباط فرصة للنجاح(1/483)
إذا نظرت إلى الإحباطات التي تواجهها كفرص وخبرات اكتسبتها فإنك ستواصل في مسيرك وتتغلب على العقبات والمشاكل التي تواجهك. فليس هناك فشل مطلق؛ بل مع الفشل هناك خبرات ومعلومات حصلت عليها، فغالب الشر ينطوي على شيء من الخير، إننا نحتاج فقط أن نتعلم كيف نتعامل مع الإحباط. ونظرتنا وطريقتنا مهمة جداً في ذلك وقد قيل: "يرى المتشائم العقبات في كل فرصة، ويرى المتفائل الفرصة في كل عقبة" لذلك انظر إلى عملك بدقة ستجد على الأقل هناك شيئاً صحيحاً، وهذا رائع، عندها أسأل نفسك: كيف يمكن تطوير ذلك النجاح؟ بوضعك هذا السؤال فأنت أخرجت نفسك من الحالة السلبية المحبطة وعدت لتركز على الوضع الإيجابي، وبالتالي ستتغلب على المشاكل التي تواجهها بإذن الله تعالى.
إن سبب إحباطنا ـ أحياناً ـ هو في مكوثنا على حال واحد وعدم التغيير، ونظن أن هذا هو قدرنا ويجب علينا أن نرضى بهذا الواقع ونتعايش معه، وهذا في واقع الأمر سلب لقدرات الإنسان، فالإنسان إذا كان في وضع سيء فعليه أن يغير هذا الوضع فهو لن يخسر حالة حسنة. والحياة مكان للفرص ولن تنال الفرص إلا بالسعي والبحث عن هذه الفرص.
ختاماً: إذا علمت أن بقاء الحال من المحال، فما تعيشه من لحظات إحباط فهي لن تدوم، وكلما أزداد الكرب والضيق قرب الفرج كما قال الله تعالى:" حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ". والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبيه الكريم
ــــــــــــــــــ
ما أروعه مِنْ هَمّ !!
د. إبراهيم الفارس(1/484)
نظر إلى اللوحة المعلقة أمامه الواقعة بالقرب من سكنه.. يا الله.. إنها سجن الولاية الكبير، بدأ يتأملها بعد أن توقف بالقرب منها.. أفكار عدة تراوده.. ماذا لو خرج بعض السجناء هروباً واختبأوا في شقته.. ماذا لو خرج أحدهم واعتدى عليه.. ماذا.. ماذا..؟؟
وإذ بفكرة سريعة تطرأ على باله.. ترجل من سيارته ودلف إلى السجن وإذا به يقابل مدير السجن ويتعرف عليه ثم يطلب منه أن يلقي محاضرة دينية على السجناء..
يا ترى ما الذي حدا به لذلك، أهو حب الدعوة الذي يسري في دمه؟!.. أم رغبته في تعلم لغة المخاطبة بلغة القوم؟! فهو جديد على الولاية بل على الدولة، جاءها يحمل شهادته الجامعية ويعدّ العدّة لنيل الماجستير والدكتوراه..
وافق مدير السجن على طلبه بعد أن أمهله أياماً يستشير فيها قيادته..
وفي لحظة رهيبة وخطوات خائفة دلف إلى ساحة السجن الكبرى فهو لم يتعود الدخول إلى سجون بلاده فما بالكم بسجون بلد عمّه الفساد وتغلغلت فيه عوامل الجريمة والضياع..
وبدأت المحاضرة وسط صخب وإزعاج ما لبث أن خفت شأنه وانعدم بعد ذلك أثره.. كان مقرراً له ساعة وإذا بها تمتد لساعات كانت نهايتها إسلام جملة من الزنوج والبعض وعده بالتفكير فيما سمعه..
يقول هذا الداعية: خرجت من السجن فرحاً جذلاً أحمد الله على نعمه وأشكره على وافر مننه وأتذكر قول نبيه ومجتباه (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)..(1/485)
وبعد مضي مدة تقارب الشهرين على هذه المحاضرة وإذا بمأمور السجن يتصل بي ويرجوني أن أكرر الزيارة وألقي محاضرة شبيهة فسألته عن السبب الذي جعله حريصاً على تكرار اللقاء فقال: إن سجني نال الجائزة الأولى للسجن المثالي على مستوى الدولة وأريد أن أستمر على هذه المنزلة لأنال بعد ذلك الترقية، فقلت له مستفزّاً: أتعلم أنني بمحاضراتي التي تدعوني إلى إلقائها أخرج بني جلدتك من دينك إلى الإسلام؟! قال: ذلك لا يهمني فقد وجدت فوائد لا تحصى من فعلك أدناها الهدوء الشديد الذي عَمّ السجن بعد الصخب والإزعاج الذي كنا نعيشه..
بعد هذه الكلمات الرائعة من مأمور السجن قررت أن أخصص جزءاً من وقتي للدعوة في السجون فدخلتُ العشرات منها وأسلم على يدي المئات، وبعد أن قاربت على الانتهاء من رسالتي ((الدكتوراه)) قررت أن أعمل مكتبة إسلامية صغيرة وجذابة في كل سجن..
راسلت وكاتبت المسؤولين في إدارة السجون على مستوى الدولة وعرضت عليهم فكرتي وطلبت منهم إعطائي إحصائية بعدد السجون في الدولة فتبين لي أنها تقارب الخمسة آلاف سجن..
درست الإدارة طلبي ووافقت بشرط أن تطلع على محتويات المكتبة وبعد دراسة مع بعض الزملاء اخترنا جملة من الكتب والأشرطة مع جهاز تسجيل ودولاب فاخر ويزين ذلك كله عدد من نسخ القرآن الكريم المترجمة وقد وافقت إدارة السجون على هذه المكتبة التي كلفت ثلاثمائة دولار لكل سجن وقد أنهيت قبل عودتي لبلادي ما يقرب من ألف سجن تقريباً ولله الحمد والمنة وما زلت أسعى لإتمام الباقي وأسأل الله الإعانة..
(إَنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً) [النحل: 120]
هناك رجل بأمة وهناك أمة – وللأسف- لا تساوي رجلاً، والعمل للدين مسؤولية الجميع وهم الإسلام موكل حمله على الكل فماذا قدمت لهذا الدين
أخي الفاضل أجب ثم انقد نفسك وبعدها رتّب أوراقك..
مجلة الأسرة العدد 153 – ذو الحجة 1426هـ
تحرير: حورية الدعوة(1/486)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ــــــــــــــــــ
همسات في أذن سائر
عمر بن عبدالعزيز الرشيد
هو طريق صعب .. مليء بالمنعطفات والمزالق .. يَتعَبُ السائر فيه .. بل في أحيانٍ منه يشرف فيه على الهلاك .. كثيرٌ هم الذين ساروا فيه وتوقفوا في أوله أو منتصفه أو حتى في آخره .. يبدأه الإنسان وهو يعلم ما سيواجهه وما سيلاقيه .. بل يمشي فيه ويرى المتوقفين على جنباته بل والناكصين .. ومع ذلك يواصل السير حثيثاً فيه .. لأنه طريق يوصل إلى جنة عرضها السموات والأرض .. هو طريق أمرنا الله عز وجل أن نسلكه حيث قال (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ( أي فللدين القويم والصراط المستقيم الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله فادع إليه أمتك وحضهم عليه وجاهد عليه من لم يقبله واستقم بنفسك. فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك، ومن المعلوم أن أمر الرسول أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له) انتهى كلام الشيخ بتصرف...
وقد حث عليه الحبيب عليه الصلاة والسلام بقوله (بلغوا عني ولو آية)..
هل عرفت أخي هذا الطريق؟؟
إنه طريق الدعوة إلى الله عز وجل ..
ولن أستعرض في هذه السطور فضائل الدعوة إلى الله فهي معلومة وكثيرة .. ولكن هذه كلمات أهمس بها في أذن كل من بدأ المسير على هذا الطريق..
- اعلم أخي السائر .. أنك ستسير في طريق كئود .. ولئن فرش لك بالورود في بعض أجزائه .. فإنه سيفرش بالشوك في أجزاء أخرى .. فاصبر على عقبات الطريق وليكن قدوتك في ذلك النبي عليه الصلاة والسلام .. فلكم صبر على أذى قومه وتعذيبهم وصدهم عنه..(1/487)
- أخي السائر .. إن أكثر ما يهتم به السائرون هو زادهم .. فلو فقدوه أو تناسوه أو تجاهلوه فقد حكموا على أنفسهم بالهلاك .. ولا يتصور أن يسافر أحدٌ دونما زاد يبلغه المسير .. فاحرص أخي على زادك . احرص على زاد الإيمان والأعمال الصالحة .. واحرص على زاد العلم النافع .. واعلم أن هذين الزادين هما من سيثبتانك –بإذن الله- على هذا الطريق الصعب.
- أخي السائر .. كثيرة هي تلك العواصف والرياح القوية التي تعترض السائرين .. فربما حرفتهم عن الطريق الصحيح ولربما نكستهم ومنعتهم من إكماله .. فاحذر من العواصف والفتن التي قد تعترضك في مسيرك .. وعليك بالجبال الرواسي التي تعينك على مقاومة هذه الأعاصير .. نعم عليك بالعلماء الربانيين الراسخين الذين يوضحون لك الطريق ويثبتونك عليه ..
- أخي السائر .. عليك بصحبة من يعينونك على قطع الطريق .. ويسهلون ذلك لك ويساعدونك على تخطي العقبات والمصاعب .. واحذر من المخذلين الذين يستسلمون من أول مشكلة تواجههم وتقف في طريقهم .. فالله الله بالصحبة الصالحة ..
- وأخيراً أخي السائر .. إن سيرك في طريق الدعوة لا ينتهي حتى آخر لحظات حياتك .. ولذا فإنك قد لا ترى نتائج سريعة لسيرك .. ولكن تأكد أن هناك نتائج لابد أن تظهر ولو بعد حين ..
اللهم اجعلنا ممن يسيرون على الطريق الصحيح وثبتنا عليه واغفر لنا زلاتنا وأعفو عنا إنك ولي ذلك والقادر عليه .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ..
ــــــــــــــــــ
( ياخي ما ني مطوع ) !!
ممتعض
- 1 -
في معركة القادسية ، وفيما المسلمون في أعلى حالات التأهب والاستعداد ، وقائدهم الأغر سعد بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة) ، مضطلع بهكذا خطب ، ومهموم بهكذا جلل ، يشكو في الوقت ذاته مرضا ألم به ، لتتكامل عليه وله الأجور من كل ناحية ..!(1/488)
فهمٌ في القلب ، ووجع في الجسد ، واضطلاع بالخطب ! أقول وفيما هو والجمع كله على هذه الحالة من الغبرة والشعث ، يؤتى بأبي محجن الثقفي يُقاد لسعد لشربه الخمرة ..!
وأين سعد من هكذا حالة تعتبر ثانوية قبالة بيضة الإسلام ، وثغره الشرقي ، والذي إن أُستبيح اليوم فليغسل المسلمون أيديهم من كل شرق للأرض بعدها ..!
لكنه حد الله ، فيأمر سعد بحبسه ، حتى تستقيم الحالة ، ويخف الكرب ..!
ويُحبس أبو محجن الثقفي في خيمة سعد ، حتى يقضي الله للمسلمين الخيّرة من أمرهم !
وجاء اليوم المرتقب ، واصطفت العساكر ، عساكر الرحمن ، وعساكر الشيطان ، وتعالى التكبير ، وتقعقعت السيوف ، وسُمع الصهيل ، وتعالت الصيحات من كل جانب : يا خيل الله اركبي ..!
وأبومحجن الثقفي يسمع هذا كله ، وهو الغضنفر العربي ، والأسد الإسلامي ، فتهيج روحه ، ويطيش عقله ، وهو في قيده يرسف كالأسد حيل بينه وبين عدوه ..!
تحمر وجناته ، ويتشاعث شعره ، ويهدر فمه ، ويتقاطر لعاب الغضب من بين ثناياه ، لُمس الزند فاشتعل ، فُتح السد فانهمر ، ياااااااخيل الله اركبي ..!
أينك يا سعد ..؟!
يااااسعد ...؟!
يااااسعد ..؟!
لكن لا سعد هنا ، فخال رسول الله يدير القادسية ..وما أدراك مالقادسية ..؟!
حسناً ..هناك حل ..!
ياسلمى "زوجة سعد " ..!
يااااااسلمى ..!
تأتيه سلمى زوج سعد : مالك يا أبا محجن ..؟!
فيصيح كالمهبول المجنون : نشدتك الله ياابنت الأكرمين أنت والنساء عندك إلا ما حللتن قيدي لألقى أعداء ربي ، ولكُنّ عهد الله وميثاقه وأغلظ أيمانه إلا ما عدت لقيدي إن لم يكتب الله لي شهادةً ..!
تتردد زوجة سعد والنسوة حولها ثم تسأله : كيف لك الوصول لأرض المعركة وهي قد بدأت ..؟
فيجيبها وهو العالم بمرض سعد : أين البلقاء فرس سعد ؟!
فتجيبه : بالجوار ..!
فيقول أبو محجن : أركبها غفر الله لك ..!(1/489)
وتفتح النسوة لأبي محجن الأقفال ، فينطلق كأنه انطلق لعروس أرض ، وفاكهة صيف ، وسلسبيل قيظ ، لا كأنه يسير إلى الموت الأحمر ، والوطيس الأشعل ..!
وينطلق على فرس سعد وسيفه بيده يهزه ، ولسانه يصرخ : الله أكبر ..الله أكبر ..الله أكبر ..!
فعجت بقلبي دماء الشباب *** وضجت بصدري رياح اخر.
ويدخل المعركة يزيل الرأس عن هام هذا ، ويطأ عنق هذا ، ويخلص مسلماً من ذاك ..!
وسعد يرقب المعركة لمرضه ، وإذا به يرى فرسه ، فيقول : الضرب ضرب أبي محجن ، والكرُ كر البلقاء ..!
وفيما المسلمون كلهم قلب أبي محجن ، ينطلق أبطالٌ شباب إلى خيمة قائد الفرس "رستم " ، لسان حالهم : لا نجونا إن نجا ..! ولسان شجاعتهم : اقتلوني ومالكاً أو اقتلوا مالكاً معي ..!
وفيما الفُرس في كر وفر ، إذا هم برأس "رستم" – رامسفيلد زمانهم- على أعلى الرماح في وضح الشمس ، فعن أي شيء تدافعون يا فُرس ..؟!
فينهزم الفرس ، وينتصر المسلمون ، وتصير الطرق أمامهم إلى المدائن عاصمة الفرس مفتوحة لا يردها إلا مشيّهم ..!
ويأتي البطل أبو محجن مسلما نفسه لسعد بعد نهاية المعركة ..!
فيصيح سعد فرحاً بما صنع : والله لا أحدك بعد بلائك ...!
ويصيح أبو محجن : والله لا شربتها بعد يومي هذا ....!
-2-
الخير في اتباع من سلف والشر في ابتداع من خلف ، ومدار الدين على أربعة أحاديث منها " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
يأمر الخليفة العباسي " المأمون " بترجمة كتب اليونان وفلسفتهم . وينسل إلى عقلية الثقافة الإسلامية بعض أوضارها ، وتظهر عالي موجتها في القول المحدث بـ " خلق القران " . وينشر الخليفة هذا القول بالآفاق ، ويأطر الخلق على هذا الباطل أطراً !
فيستجيب خلق لهذا خشية وتقاةً ، ويأبى اثنان "أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح " !(1/490)
ويحملان إلى الخليفة في السفينة ، وفيما هما في الطريق يموت محمد بن نوح وهو يوصي أحمد بأنه ليس مثله ! فأحمد إمام وإن هو استجاب لهذا الباطل تبعه العوام والخواص ، ثم يلفظ أنفاسه مودعاً الدنيا بوصية خالدة !
ويقدم أحمد على الخليفة " المعتصم " – مات المأمون وأحمد في طريقه إليه بعد دعاء أحمد ألا يراه – فيأمر"المعتصم " بسجنه ، وها هنا غرضنا يأتي !
في السجن يدخل أحمد بن حنبل ، وهو رجل نحيل الجسد ، رقيق البنية فيقول : أنا لا أخاف فتنة السجن فما هو وبيتى إلا واحد .. ولا أخاف فتنة القتل فإنما هى الشهادة ..إنما أخاف فتنة السوط ... و فى يوم أخذوا الإمام ليجلدوه فظهر على وجهه الخوف و الجزع وفى أثناء خروجه الى الساحة لمح ذلك فى وجهه لص شهير اسمه أبو هيثم الطيار فقال له : يا إمام لقد ضربت 18000 سوط بالتفاريق – أى على امتداد عمري – وأنا على الباطل فثبتُ ، وأنت على الحق يا إمام فاثبت لأنك إن عشت عشت حميدا و إن مت مت شهيدا....!
و قد ظل الإمام بن حنبل يدعو للطيار كل ليلة بعد ذلك اللهم أغفر له ... فلما سأله ابنه يا أبتي إنه سارق قال و لكنه ثبتني .
يقول الجلاد :لقد ضربت بن حنبل ضربا لو كان فيلا لهددته . و فى كل مرة أقول السوط القادم سيخرج من فمه من شدة هلهلة ظهره ...
- 3 -
في الكنانة المحروسة " مصر " ، يدب وهن العقيدة في القرن الماضي ، وتهب عليها رياح التغيير الفكري من كل زاوية ..سياسةً ..فكراً ..اقتصاداً ..تعليماً .. أدباً ..شعراً ..!
في كل شيء ،ولكل شيء شياطين وأشقياء عاهدوا الشيطان أن يحولوها إلى جاهلية في كل صادر ووارد ..!
وكان من أسلحتهم الماضية "سلاح اللغة والأدب " ..!
نعم فاللغة لغة القران ، والأدب ديوان العرب ، والشعر لسانهم ..!
ويأتي "الرغاليون الجدد " ، وفحيح حرفهم يملأ الصحف ، ويسود الكتب ، ويصم الآذان ..!(1/491)
وكان لهم هزبر ضاري ، وكاتب ضرغام ، وشاعر مصقع ..لقد كان " مصطفى صادق الرافعي " ..!
ولست هنا في طور تأصيل مقامه الأعلى ، ومنقبته العظمى ، في الذود عن دين الله في كنانة الله ، لأن هذا موضوعي القادم إن شاء الله ..!
لكن ما أنا بصدده هو " ياخي ماني مطوع " ..!
ولأترك المجال الآن لصديقه الوفي ، وتلميذه النجيب "محمد سعيد العريان " ليُقص بدلاً عني ، ويروي لساناً مني ، ليقول لكم " كثير من الذين يقرأوا للرافعي ويعجبون به ، لا يعرفون عنه إلا هذا الأدب الحي الذي يقرأون ، بل إن أكثر هؤلاء القراء ليتخيلونه شيخاً معتجر العمامة ، مُطلق العذَبة ، مسترسل اللحية ، مما يقرأون له من بحوث في الدين ، وآراء في التصوف ، وحرص على تراث السلف ، وفطنة في فهم القران ، مما لا يدركه الشيوخ ..وكثيراً ما تصل إليه الرسائل بعنوان : " صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى صادق الرافعي .." أو " صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر .." .
ومن طريف هذا الباب رسالةٌ جاءته من حلب منذ قريب يُبدي كاتبها دهشته أن يرى صورة الرافعي منشورةً في " الرسالة " إلى جانب مقالته في عدد الهجرة ، مطربشاً ، حليق اللحية ، أنيق الثياب ، على غير ما كان يَحسَبُ ، ويتساءل كاتب الرسالة : " لماذا يا سيدي أُبدَلتَ ثياباً بثياب ، وهجرت العمامة والجبة ، والقفطان ، إلى الحلة والطربوش ؟ ألك رأي في مدنية أوربة وفي المظاهر الأوربية غير الرأي الذي نقرؤه لك ..؟ " .
وما كان هذا السائل في حاجة إلى جواب ، لو أنه عرف أن الرافعي لم يلبس العمامة قط ، وهذا لباسه الذي نشأ عليه منذ كان صبياً يدرج في طربوشه وسراويله القصيرة ، يوم كان تلميذاً يدرس الفرنسية إلى جانب العربية بمدرسة المنصورة ..." ا.هـ .
أحسبني غير محتاج لأن أشرح مشروح ..!
-4 -
قال الشيخ علي الطنطاوي متحدثا عن الشيخ معروف الأرناؤوط رئيس تحرير صحيفة "فتى العرب" في الشام قبل نحو 80 سنة من الآن ..(1/492)
يقول الطنطاوي: كنت أعمل مع معروف الأرناؤوط محررا في صحيفته وكان يكتب مقالات إسلامية حماسية تهز العالم الإسلامي ..
لكنه كان قرندلا .. وكان يشرب الناركيلة .. وكان كما قال الطنطاوي: أول من حلق شاربه في سورية ..فجاء مرة وفد من علماء الهند .. لهم لحى كثة .. يبحثون عن الشيخ معروف الأرناءوط .. يريدون السلام عليه .. لما يعرفون من كتاباته الإسلامية القوية ..
فأشاروا إليهم أنه في المقهى .. فجاءوا وسألوا أين الشيخ معروف الأرناؤوط؟! فتنبه للأمر واستحيا وخرج من المقهى وقال سأدلكم عليه ..فخرج بهم وبحث عن شيخ ذي لحية كثة واتفق معه أن يتقمص شخصيته، وقال لهم هو ذا ..فسلموا عليه ظانينه معروف الأرناؤوط !!!
-5 –
يحكي – وعهدتها على من رواها لي – أحدهم بأن رجلاً رأى في منامه ولليالي متعددة اسم شخص لا يعرفه وختام رؤياه أن هذا الرجل من أهل الجنة !
فيسأل بعض من اختصه الله بتأويل الرؤى فيشير عليه بألا مناص من بشارته !
فيسأل عنه ملياً حتى قيل له أنه من أهل مكة المكرمة . ثم استطاع الوصول إليه بشق الأنفس وهو يظن بأنه سيلقى رجلاً كث اللحية ، صبوح الوجه ، آثار الخشعة بين عينيه !
يقول – وعهدتها على راويها – بأنه جاءه وهو يغسل سيارته عند بابه ، فسلم عليه وسأله : أأنت فلان ؟!
قال : نعم أنا هو !
فيخبره الرجل خبره ، فينهمر الرجل المُبشَّر باكياً مسُتكثراً من البكاء !
وبعد أن هدأ وخف نحيبه ، يسأله الرجل الرائي قائلاً : لا بد أن لك إلى السماء سبب ، فدلني عليه !
فيرد عليه الرجل : والله لا اعلم لنفسي من خير وإنما هو ما ترى ، إلا أن مرتبي أربعة آلاف ريال ، أقسمه نصفين بيني وبين أولاد جاري الأيتام ، والذين لا كافل لهم بعد الله إلا أنا !
ولا غرو يا سادة ..أفلم يقل رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وقرن بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام " .
-6-(1/493)
يروي أحد الدعاة قصةً لطيفة فيقول : بينما أنا في هجعة الليل إذا بطارق يطرق الباب عليّ بقوة وغلظة !
يقول فانتبهت قائماً وخرجت للباب مسرعاً ، فإذا أنا بشاب تفوح منه رائحة الدخان ، وحليق ، ويخبرني بأنه قد أسلم على يديه اثنان من عمالته بعد إن اجتهد عليهما أشهراً ، ويسأل كيف يعمل الآن بعد إسلامهما !
حِمى الفكرة ولباب المقصد
" يا خي ماني مطوع " !! لزمةٌ لسانية نسمعها كثيراً في مجتمعنا حين يُطالب مسلم أن يقدم لربه قرباناً من دعوة أو كلمة حق أو نصرة عدل أو إنكار منكر !
" يا خي ماني مطوع " الإسلام بريء منها براءة ربانيته من رهبانية النصارى وكهنوتهم !
" يا خي ماني مطوع " كم عطلت من مشروع ، وقتلت من موهبة ، وأخرت من فتح !
إن هذا الدين دين عظيم ، جاء ليشمل نقص الإنسان بواسع فضله ، ويلغي عطلة البشر بملائمة أعماله لفروقاتهم الفردية ، ومقدراتهم الإنسانية .
هذا الدين الكامل والقادر على احتواء هذا الخلق بنقصهم وضعفهم وعجزهم ، أقول هذا الدين الكامل جاء ليقول للجميع " الإيمان بضع وسبعون شعبة " !!
فإن كانت بعض مظاهر الإيمان جوارحية كـ تقصير الثوب وإعفاء اللحية ، فإن هناك أعمالاً قلبية وأخرى جوارحية يستطيع الإنسان من خلالها أن يعوض قصوره في شعبة ، بتمامه من أخرى !
فكم من حليق هو أخدم لهذا الدين من ملتح ! وكم متلبس ببعض الذنوب هو أحرق على الشرع من طالب علم في حلقة !
إن دعوتي هاهنا تخص في المقام الأول ما أستسيغ تسميته بـ " الالتزام الفكري " !
إن الفكر إذا صفا من أدران الأفكار المشبوهة ، ونجاسات الأيدولوجيات المحدثة ، فهو على خير إن شاء الله تعالى !
وما علينا جميعا إلا تعويض قصورنا السلوكي بتمامنا الفكري علّ الله أن يصفح عن كثير ، ويُجازي عن قليل !
إن دعوتي وبالأخص في هذا الزمان الخانق على أمة الإسلام أن تتكامل ولا تتضاد ، وان يشترك عاليها طاعةً بنازلها قصوراً في الذود عن حمى الإسلام الأغر !(1/494)
بل علينا تفعيل حتى من تلبس ببعض البدع الغير مخرجة من ملة الإسلام ، فهاهم بعض علماء الإسلام قد تلبس بعضهم ببعض البدع العقدية ، مما سببه سيادتها في زمانهم ،وتعتبر خدماتهم من أجل الخدمات التي قدمت للإسلام ، وما ابن حجر والنووي والبيهقي منّا ببعيد ، رحمة الله عليهم جميعاً !
لقد جعلنا -للأسف -من " اللحية " جوازاً لـ " واعملوا الصالحات " ! بينما الجواز الأول هو " لا إله إلا الله " !
نعم لقد جعلنا اللحية بوابة العمل للإسلام وما اللحية إلا عمل من أعمال الإيمان ، يجب أن توضع في مناطها الصحيح من كونها معصية – لا ننكر ذلك – لا تمنع من الخدمة والسُخرة لهذا الدين الخاتم !
ويحنا ثم ويحنا .. إن لم يطب الحال أفلا يطب المقال ..؟!!
ما بالنا نذكر وباستحضار كثير قول رسول الله عليه الصلاة والسلام "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم " !
وفي المقابل لا نتذكر الجملة التي سبقتها في نفس هذا الحديث القائل "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات"
فالحديث نص سياقه كما في البخاري : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم" .
إن خدمة الدين في الإسلام عامة ، ولا يختص منها إلا الفتيا التي هي لأهل الذكر ، يقول ابن القيم في نونيته :
هذا ونصر الدين فرض لازمٌ *** لا للكفاية بل على الأعيان
إننا باختصار نقول : الدعوة للجميع والفتوى لأهل العلم ..!(1/495)
ولكي ترتاح الأنفس ، وتثق العقول ،فيُقوي قلبي إحالة أعينكم لحروف أسد الدهر ، وبقية ما ترك الأولون ، شيخنا نحن المقصرين كما هو شيخ طلبة العلم ، العلامة الأشم سفر بن عبدالرحمن الحوالي ليقول لكم في معرض ما يجب على الأمة في هذه الفترة ما نصه : " .. تجييش الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين من كل مكان مع تنوع وسائلهم وطوائفهم.وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ التقسيمات التي حصر بها بعض طلبة العلم الاهتمام بالدين على فئة معينة سموها "الملتزمين" فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين. وكل مسلم لا يخلو من خير. والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد. وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً، بل إن استنفار الأمة كلها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوبها هو من أسباب توبة العاصي ويقظة الغافل، وتزكية الصالح.
وهذا جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - خير الجيوش لم يكن من السابقين الأولين محضاً بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.
ولو لم نبدأ إلا باستنفار مرتادي المساجد لرأينا الثمار الكبيرة، وكذلك الأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة.(1/496)
والمقصود أن نعلم أن حالة المواجهة الشاملة تقتضي اعتبار مصلحة الدين قبل كل شيء، فالمجاهد الفاسق – بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة – خير من الصالح القاعد في هذه الحالة " ا.هـ.
وختاماً وقبل أن يظنني بعض إخوتي أمارس إرجاءً مبطناً هاهنا ، وأبتغي لنفسي ولبني طينتي السلوكية عذراً ، أقول إنني أحيل الجميع للشيخ الأديب علي الطنطاوي ليجيب لي وعني كما في مقالته " صناعة المشيخة " من كتاب " مع الناس " ليقول : " أما حلق اللحية فلا والله ما أجمع على نفسي بين الفعل السيئ والقول السيئ ، ولا أكتم الحق لأني مخالفه ، ولا أكذب على الله ولا على الناس . وأنا أقر على نفسي أني مخطئ في هذا ،ولقد حاولت مراراً أن أدع هذا الخطأ ولكن غلبتني شهوة النفس وقوة العادة ، وأنا أسأل الله أن يعينني على نفسي حتى أطلقها فاسألوا الله ذلك لي فإن دعاء المؤمن للمؤمن بظهر الغيب لا يُرد إن شاء الله " ا. هـ
ثم إن الشيخ علي الطنطاوي ذكر في هامش مقالته ما نصه : " وقد أعانني ، فله الحمد " ، ونسأل الله أن نقول مثل قوله قريباً غير بعيد .
ــــــــــــــــــ
إعلان عن وظيفة
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى وعلى محمد بن عبد الله الذي وفى وعلى آله وصحبه وبعد :
نعم وظيفة لم تمتلئ وتحتاج إلى موظفين كثر وذلك أن مجال العمل مفتوح والزبائن كثر فالأمر من أوله إلى آخره في سعة ولله الحمد
الكل مطالب للعمل حتى يعيش ويتزوج وينفق ويزكي و......... إلخ
وكما هو معلوم أن المال خادم والدين مخدوم فالعمل الذي يحصل به المال يكون ليتعبد به الله تعالى في مجالات متنوعة حسب القدرة والإمكانيات يقول تعالى {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (7) سورة الطلاق(1/497)
والأنبياء الذين هم خير البشر قد عملوا فمنهم النجار والخياط وراعي الانعام ومنهم من عمل في الحديد ومنهم ومنهم ومنهم وهم خير البشر على الإطلاق لذلك فالعمل مطلوب ومشروع في ديننا الحنيف فالرزق مبني على التوكل على الله أولا والعمل بالأسباب ثانيا
لكن هناك وظيفة لم ينتبه لها الكثيرون مع أن مقابلها تشريف وأعظم من الكنوز ومن كل شيء ولا تعيق العمل الذي يعمله العبد بل تكون ملازمة لها ومرشدة لها
وتلك الوظيفة هي ((( الدعوة إلى الله )))
نعم فنحن بحاجة إلى من يحمل هذه الأمانة وهذه الوظيفة بيد الجد ويشغلها وتشغله ليخرج الناس بإذن الله تعالى من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الرحمن سبحانه وتعالى فمن عقل هذا فإنه مكلف بقدر الإستطاعة ولكن يبقى القلب محبا شغوفا لأن يبلغ المعالي كما بلغ من سبقنا بذلك { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (10) سورة الحشر
فكن أخي الحبيب وأنتي يا أختي الفاضلة حملة ونقلة لهذا الدين احملوه معكم إلى المشرق أو المغرب وانشروه أينما كنتم حتى تنالوا الفلاح في قوله {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران
ومهما كنت تعمل فاجعل الدعوة رفيقتك في عملك فقد يؤذن للصلاة فادعوا للصلاة وقد يأتي رمضان فادعوا لصيامه وقيامه والدعاء فيه وقد تجد الحلاوة مع كتاب الله فادعوا العالم لهذا الكتاب العظيم فكن عبدا لله داعيا لدينه حتى تنال رضاه
وأنتي اخية إن كنتي تعملين فعليكي نفس الواجب وإن كنتي في بيتكي فعليكي بزوجكي وأبناءك احرصي عليهم فقد قال الشاعر :(1/498)
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعدت شعبا طيب الأعراق
فأنتي نصف المجتمع وصانعة النصف الآخر فعليكي حمل عظيم
إخواني لا أريد أن أطيل عليكم وأذكر نفسي واياكم بفضائل الدعوة فيكفي أن الله مدحها ومدح أهلها وتكفل بحفظهم كما قال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة
نعم فالله يعصمنا من الناس إن قمنا بحقه كما يريد
يقول الشاعر :
يا أيها الدعي الذي عبد الله *** طريق النجاة فيك قويم
أدعياء الضلال سحار فرعون *** وأنت العصا وأنت الكريم
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا دعاة حق ودعاة إصلاح وأن نعمل بما نقول وأن يرزقنا الإخلاص في كل شؤوننا وأعمالنا
فمن وجد في نفسه القدرة على الدعوة عبر الإنترنت فاليعمل ومن وجد القدرة على الدعوة الإنفرادية فاليعمل ومن وجد القدرة على الدعوة في بيوت الله فاليعمل لكن على الجميع العمل والعلم
أخيرا أقول من لم يجد في نفسه أن يكون خادما لدين الله فاليكن خادما لخدام دين الله تعالى فيدافع عن أعراضهم التي تنتهك من الجهال ويدعو لهم ويدعو الناس للذهاب إليه واستماع ما يقولون فالدال على الخير كفاعله كلهم سواء وكلهم مأجورين بإذن الله تعالى
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا على متابعتكم الطيبة
وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخوكم
أبو الحارث
ــــــــــــــــــ
تعطيل الأبدان الجرح والضما
تعتبر ظاهرة تعطيل الأبدان من الظواهر السلبية التي ابتليت بها أمتنا الإسلامية مؤخرا . كما و تعتبر هذه الظاهرة جرحا من جراحات الأمة الغائرة بل ووجع من الأوجاع الحساسة التي عمد أعداء الأمة إلى تصديره إلى مجتمعاتنا . حتى كثر في المجتمع العديد من أصحاب الأبدان المعطلة .(1/499)
وتنامت الأصفار البشرية وأصبحت غثاءً كغثاء السيل. وعجز هؤلاء حتى عن خدمة أنفسهم ومجتمعاتهم وبالتالي أصبحوا أعباء كئيبة علي دينهم وأوطانهم .
إن خطورة تعطيل الفرد لبدنه تكمن في عدة أمور منها :-
أولا :- أن ظاهرة تعطيل الأبدان تعتبر مرض معد . مرض يسري ويتسرب إلي واقعنا كما يتسرب النوم إلى جفوننا . متى ؟ كيف ؟ لا ندري. لا أحد يلحظه ولا يستطيع أن يرقبه . حتى إذا ما مرت السنون فإذا بالأمة كلها وقد أصابها هذا الداء. والمنشأ كان لفرد سن سنة سيئة وعطل بدنه عن القيام بدوره المرجو في هذا الكون الفسيح . حتى يصبح الأمر سلوكا عاما , وروحا تسري بين أفراد الأمة . فالأب الذي لا يستيقظ لصلاة الفجر- مثلا - يصعب أن يستيقظ أهل بيته وبالتالي يصبح البيت معطلا في هذا الجانب , ومن هذا البيت تنتقل العدوى إلى البيت الذي يليه فالذي يليه حتى يصبح الأمر عاما وسلوكا يستمرؤه الجميع .
ثانيا : تكمن خطورة تعطيل الأبدان في أنها من أقوى أسباب تعطيل نصر الله سبحانه وتعالى , لأن الله تعالى ما كان لينزل نصره على أمة أو جماعة أو فئة – أو حتى على فريق يمارس الرياضة – وبينهم من هو صاحب بدن معطل أو حتى صاحب بدن مستريح . لأنه لو تنزل النصر على التنابلة والكسالى بفضل تدخل يد القدرة لزادتهم كسلا إلى كسلهم وعندها فهم لا يلاموا . ألا يوجد من يدافع عنهم ؟ ألا يوجد من يرد عنهم ؟ ألا يوجد من يكافئهم عن تعطيل أبدانهم؟.(1/500)
وشاءت إرادة الحكيم العليم ألا ينزل نصره إلا عندما يتخلص أصحاب الأبدان المعطلة من كل بلادة واسترخاء , من كل دعة وركون , من كل سلبية وأنانية , هنا فقط تتدخل يد القدرة لتدافع عن هذه الفئة عن طريقهم هم لا عن طريق غيرهم . وقبل هذا فلن يتنزل النصر ولن يتنزل الله سبحانه وتعالى من السماء إلى الدنيا ليهش الذباب عن وجوه الكسالى . ولن يتدخل ليحل مشاكل التنابلة , , ولن يتدخل لنصرة أصحاب الأبدان المعطلة ما لم يتحرروا ويتحلوا بالإيجابية ويوظفوا هذا البدن بالطريقة التي يريدها الله تعالى.
ثالثا : من مخاطر تعطيل الأبدان شهادة أعضاء البدن على الإنسان يوم القيامة .
يقول الله تعالى: ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم عما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون *". فصلت -آية : 21:19 ")
تشهد الأعضاء على كل من عطل وقصر , وعلى كل من أراح واستراح , على كل من تكاسل وتشاغل . تشهد لتعري كل من ارتدى يوما رداء السلبية المريح . يومها ستتوالى الاعترافات, وتتعالى الشهادات . سينطق كل عضو بأمر ربه يهتك المستور , ويفضح الأسرار . تلك الأسرار التي ظن أصحابها أنها أمور قد طويت صفحاتها في دنيا انتهى أمرها.
وبالنظر في حال المجتمع المسلم منذ اللحظات الأولى لنشأته, ترى كم كان هذا المجتمع مجتمعا فاعلا. لم تعرف بطالة الأبدان يوما الطريق إلى أفراده . ظل طيلة فتراته مجتمعا إيجابيا . فإذا ما نظرت إلى الفرد فيه فإذا هو فرد واحد, , ببدن واحد ولكنه بدن يحمل عشرات القوى ومئات الإرادات . مجتمع لم يهتم طيلة تاريخه بفكر الكم ولكنه لطالما اهتم بفكر الكيف .
يقول تعالى : " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " .(الأنفال آية 65)(2/1)
إن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم:فعله فعل العشرة , وعمله عمل العشرة , وتأثيره تأثير العشرة , وإرادته تساوي إرادة العشرة . حتى في لحظات الضعف. فيجب أن يكون فعل المسلم وكذا عمله وإرادته وتأثيره مضربين في اثنين .
" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين , وإن يكن منكم ألفا يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين(.الأنفال آية 66)
فليس في المفهوم الإسلامي ما يدل على أن هذا الدين اهتم في يوم من أيامه بالعدد والكثرة . إنما انصب اهتمامه على النوعية والكيف. فلما طلب خالد بن الوليد من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مددا قوامه ألف رجل على جناح السرعة يوم اليرموك . فأرسل له الخليفة عمر رجلا اسمه القعقاع بن عمرو ومعه رسالة تقول له :أرسلنا لكم القعقاع والقعقاع رجل بألف رجل .
فالقعقاع هذا الرجل – الفرد – لم يكن غير رجل واحد ككل الرجال . ولكنه كان رجلا واحدا يحمل إرادات عديدة . هذه الإرادات التي تجمعت فيه هي التي جعلت منه جيشا بمفرده . وهي التي جعلت أبو بكر– رضي الله عنه يقول :
" لصوت القعقاع في المعركة بألف رجل " .
وجعلت عمر يقول : " لا يهزم جيش فيه القعقاع "
إن الذي خلق هذه الإرادات في هذه الأبدان المتميزة هو هذا المنهج الذي هو بين أيدينا اليوم وعلى أرفف مكتباتنا . الذي خلق هذه الإرادات في هذه الأبدان هو حسن الاتصال بهذا المنهج .فالذي جعل من المسلمين كيانا يزهو به الزمان هو حسن التعامل مع هذا المنهج . فلقد كان المسلمون في عصورهم الذهبية يتعاملون مع هذا المنهج على أنه منهج للتنفيذ وليس للتثقيف . وهذا هو الفرق بيننا وبينهم . وهذا هو الذي جعلهم أصحاب إرادات ,و أصحاب مواقف يفخر بها التاريخ ويسعد بها الزمان .(2/2)
أما عندما تعاملنا مع هذا المنهج على أنه منهج للتثقيف وليس للتنفيذ حل بنا البلاء وأصبح واقع الأمة واقعا أليما . استشرت فيه بطالة الأبدان , وانعدمت فيه الإرادات , وتنامت فيه الأصفار البشرية, وكثرت فيه الخشب المسندة حتى صرنا في ذيل الأمم , عطلنا أبداننا عن الدور الذي خلقنا من أجله فكثرت مشاكلنا , وتعقدت أمورنا , والصورة بقتامتها وضبابيتها واضحة للعيان . ولا تحتاج إلى مزيد من نكئ الجراح, ولا إلى المزيد من البكاء والنحيب . ولكنها تحتاج إلى مزيد من التشريح والتحليل علنا ننجح في تشخيص الداء وتحديد الدواء .
إن الدواء يكمن في أن يعرف كل فرد في هذه الأمة أن الحل يبدأ من عنده . فالفرد هو الأساس الذي عليه تقوم كل دعاوى الإصلاح. وبالتالي فإن صلاح هذه الأمة يبدأ من عندك أنت . يبدأ من حسن توظيفك لهذا البدن الذي منحه الله إياك . لأنه إذا ما عطل هذا البدن عن القيام بدوره يحدث الخلل الأكبر في المجتمع.
يقول الإمام حسن ألبنا – رحمه الله - :-
" إن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ ما ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات . وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما يقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة . وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته . وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء . "
من رسالة هل نحن قوم عمليون ص 359
فليس من حق الفرد في المجتمع أن يعطل بدنه الذي هو عالم من النعم , وجيش من الأعضاء زودنا الله بها لنعمل ونحقق ونبدع ونحسن ونطور في واقعنا الذي نحياه . أمدنا الله بهذا البدن لنسعى بالخير , ونعمر الأرض ونبني الأمة , لنرضي ربنا وننفع أنفسنا .(2/3)
انظر أيها الفرد إلى نفسك على أنه بدونك لا يتكون الجمع. فلولاك لما كانت الإنسانية . فأنت في الأمة عمدة وليس بفضلة. إنك تمثل أساس بنائها التي تعتمد عليه ولست شيئا زائدا أو مضافا أو ذا أهمية ثانوية . فلتفهم هذا المقام الرفيع الذي وضعك فيه ربك. ولتكن في مستوى مقامك. ولتنظر إلى نفسك نظرة من بدونه لا تكون الأمة .
إن كل تجارب الإصلاح عبر التاريخ بدأت بأفراد . بأفراد خلقوا بأبدان ككل الأبدان ولكن التاريخ يخبرنا أن كل من نجح في توظيف هذه الأبدان . وعرف كيف يستفيد منها من هذه القوة الكونية الهائلة التي وهبها الله إياه وتعامل معها تعاملا نموذجيا نجح وسعد وأسعد من حوله .
أما أن يتحلى الفرد بالسلبية, ويرفع شعارات السلبية اللذيذة من فصيلة " إنا مالي ",
"وما إنا إلا فرد " " ماذا عساي أن افعل " , إنا لا استطيع أن افعل شيئا " , هل انأ وحدي من سيصلح الكون ؟ " " ماذا عساى أن افعل وسط كل هذا الفساد وهذه الأوضاع المقلوبة ." و الباب الذي يأتيك منه الريح ........ " إلي آخر هذه الشعارات فان هذا هو الداء .
أن تعطيل الأبدان عن القيام بالدور الذي يجب عليها القيام به هو ديدن العاجزين الأذلاء الضعفاء . ومنطق من يجهل منزلته وقيمة نفسه في الأمة . وإذا كان الفرد في الأمة يحمل هذه العقلية ويقول هذه المقولات . فان الأمة كلها تصبح لا تستطيع أن تفعل شيئا , لان المفرد الذي هو أساس الجمع لم يولد في هذه الأمة , والسبب هو عدم وعي الإنسان بمنزلته , الأمر الذي قاده إلي التخلي عن مسؤولياته بتبرير يعكس جهله بنفسه ". كتاب الشخصية الإسلامية ص185(2/4)
انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو لم يكن غير فرد . فرد خلق ببدن ككل الأبدان . فرد وسط عالم متلاطم من الفساد والإفساد والأوضاع المقلوبة ؟ وما أن سمع - صلى الله عليه وسلم - نداء السماء " يا أيها المدثر . قم فأنذر " حتى نهض وقام وتحرك ولم يعطل بدنه لحظة ولم يركن , ولم يكسل. إنما قال مقولته المشهورة : " مضى عهد النوم يا خديجة "
ومن " قم فأنذر" إلى اللحظة التي أنت فيها الآن: ما هي النتيجة ؟
وما هي المحصلة التي ترتبت على تحركه - صلى الله عليه وسلم - ؟
وماذا لو ركن هذا البدن عن تبليغ دعوة الله إلى عباد الله ؟
وماذا لو تعطل هذا البدن عن السعي والدعوة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ؟
ماذا لو تقاعس هذا البدن عن السعي بين الناس بالخير ؟
قارن بين الصورتين. والنتيجة هي الفرق بين التعطيل والتفعيل : تعطيل الأبدان وتفعيلها.
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com
ــــــــــــــــــ
عندما زرتك يا دكتور
سعادة الدكتور العزيز / عبد الرحمن السميط سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(2/5)
فاسمح لي أن أسرد على كريم علمك جزءً من فصول الجمال والإبداع ومشهداً من مشاهد الحب والوفاء التي أنت فيها المعدّ والمقدم والمنتج والمخرج وذلك فضل الله عليك .. إنها قصة زيارتنا لكم في مدغشقر لتصوير برنامج ( القارة المنسية ) فبعد عزم فريق العمل السفر إلى القارة كانت المخذلات كثيرة بينما المحفزات واحدة .. المخذلات أكثر من أذكرها حتى لايتشبث بها قارئ فأكون السبب في ثني عزمه عن المسير .. أما المحفزات فهي أن الدكتور / عبد الرحمن السميط الذي هو في سن آبائنا ترك حياة الراحة والدعة وأقام في بيت متواضع في قرية مناكارا بجوار قبائل ( الأنتيمور ) وقطع على نفسه العهد أن يمضي بقية عمره في الدعوة إلى الله هناك .. ألا يكفي هذا أن يحفزنا ؟ ألا يكون هذا درساً من دروس احتقار النفس أمام أمثال الدكتور حفظه الله ؟ بلى والله ،فلقد عزمنا على السفر لتحقيق أمور عديدة سائلين الله تعالى التوفيق والإخلاص .
حطت بنا ركاب السفر في العاصمة ( أنتنانا ديقو ) ليقول لنا الأخوة هناك : إن خط سيركم سيكون عبر طريق وعر تقطعونه في أكثر من ثلاث عشرة ساعة ، أو عبر طائرة صغيرة لا تقلع إلا أحياناً وبعدد لا يتجاوز العشرة أشخاص وهي أشبه بالباص ( المكسر ) .. وهنا سألنا الإخوة : كيف يتنقل الدكتور ؟ فقالوا : الدكتور كثيرا ما يتنقل براً ، وقد سافر بالقطار في أكثر من أربعين ساعة بفتات الخبز ! فقلنا لأنفسنا هذا الاختبار الأول رسبنا فيه جزما حيث طلبنا السفر بالطائرة ؟! وعندما وصلنا إلى
((2/6)
مناكارا ) استقبلنا الدكتور / عبد الرحمن بوجه مشرق ونفس راضية تحمل بين جنباتها همّاً عظيماً هو هذا الدين .. ليقول لنا : متى تريدون أن نبدأ العمل ونزور القبائل لتروا بأنفسكم أن الإسلام كان هنا ولكنه اندرس ؟ لقد تعلمت في أول ساعة معكم يا دكتور أن العمل المتواصل والبذل الدائم هو طريق النجاح .. إن الأمثلة المحفوظة والأشعار المنثورة ليست في قاموسي بشيء لأنها كانت مادة جافة أرددها دائماً عن العزم والعمل والجهد والمثابرة .. لكنها أفلست مني أو أنا أفلست منها عند أول درس عملي من الدكتور ؟
أعلم يا دكتور إني سأوقف قلمي قليلاً لأن الخطوط الحمراء التي لن ترض بخروجها .. والأعمال الكثيرة التي لا تقبل أن يعلم بها أحد لن أبوح بها .. ولكني كتبتها بقلم الذاكرة وحبر الزمن في مجلدات الوفاء .. إن لم استطع قولها للناس تحقيقاً للأمر النبوي الكريم بذم المديح وحفظ حق الإخوان في عمل السر فإني سأقولها لهم بدموع تنهمر بعد عودتي .. وعبارات أتنهد بها عندما يسألني أحد عن هذه الجهود ؟!!
ماذا عساني أن أكتب لكم عن رحلة استمرت قرابة الشهر في إفريقيا لتصوير البرنامج كان نصيب الأسد فيها للأسد السميط .. لقد تعلمنا منك أن الحياة شباب وإن كنت كبير السن .. وهذه الحياة واحة فريدة في صحراء العمر .. ولست أعني الشباب الغض الناعم ، الذي ترق عنده الحياة ، فتسحره بالنظرات المغرية . وتجمع له لذائذ الدنيا ، في لحظة مسكرة ، أو شبهة عارضة ، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة ، فيبدأ تاريخ حياته بالحاء فلا يلبث أن ينتهي بالباء . ديدن حياته يقوم على هذين الحرفين في غير مكانها الصحيح، بالطبع لست أعني هذا الشباب ، وإنما أعني شبابك يا دكتور مع بياض شعرك وصعوبة حركتك .. وتثاقل أقدامك إنه الشباب الحي العامل ، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من مجرد العيش . فهو في جهاد مع وقته ونفسه والهوى والشيطان .(2/7)
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
تعلمت يا دكتور أن المال الصالح في يد العبد الصالح سلاح مضاء وعدة عتيدة وقوة مكينة لا يمكن معها التقاعس أو الكسل .. فهمت منك أن الأثرياء في الأمة كثيرون ولكن النافع منهم قليل .. أولئك الذين ضعف عندهم الخلق والدين ، استخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام ، يأكلون كما تأكل الأنعام دون أن يؤدوا واجباً لدينهم أو مجتمعهم .. بل إنهم أصبحوا حرباً على أمتهم .. يسخرون أموالهم في العفن والفن والفجور... يؤصلون للرذيلة .. ويقيمون لها المؤسسات والأندية .. لا يتوانى الواحد منهم أن يقدم المال لكسر فضيلة .. أو قتل خلق فاضل .. بينما يستثقل أحدهم أن يبذل لعمل الخير .. ( وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) لا يليق بالرجل القادر ، أن يرضى لنفسه ، أن يكون حملاً على كاهل المجتمع ، ثقيلاً مرذولاً ، وأن يقعد فارغاً من غير شغل ، أو أن يشتغل بما لا يعنيه ، إن هذا لمن سفه الرأي ، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام .
تعلمت يا دكتور :أن يكون هم الدعوة إلى الله شغلي الشاغل حتى في اللقمة التي آكلها .. أتذكر تلك الزيارات التي نقطع فيها الساعات بين طرق وعرة وغابات مظلمة مخيفة وأنهار موحشة في قوارب صغيرة ومستنقعات منتنة .. فإذا وصلنا إلى القرية واجتمع أهلها قال لهم الدكتور : ربي الله الواحد الأحد الذي خلقني ورزقني وهو الذي يميتني ويحييني .. كلمات يسيرة يدخل بها أعداد منهم إلى الإسلام ..! أتذكر تلك الملابس التي تحملها معك . لماذا يا دكتور ؟ إنها هدية لملوك القرى تأليفاً لقلوبهم إلى الإسلام ! لماذا هذه الحلوى ؟ لأطفال القرى من أجل إدخال السرور على نفوسهم .(2/8)
ماذا عساي أن أقول ؟ وبأي درس يمكن أن أتحدث ؟ هل يمكن أن أسطر رحلة تعلمت فيها رغم قصر مدتها بقدر ما تعلمته من سني عمري الماضية ؟ لقد نسيت معاناة السفر ومشقة الحياة وشظف العيش قهراً لنفسي لأني أرى شيخاً كبيراً مصاباً بالسكر وبه آلام في قدمه وظهره .. يكسر كل حدود الترف والتأفف أمام ميدان الدعوة إلى الله ! ألا يستحي الشباب مثلي وهم هناك من أن يتذمروا لعدم وجود الماء الصالح للشرب والاستحمام ؟ أو عدم الحصول على المناديل المعطرة ؟ أو النوم أحياناً دون عشاء ؟ إيه أيتها النفس .. كم أنت مترفة .. ومنعمة .. وبعيدة عن ميدان العمل الحقيقي ..
لقد تعلمت من لسع البعوض في تلك القرى دروساً في الصبر .. وتعلمت من شح الماء دروساً في اليقين و تعلمت من انقطاع الكهرباء أياماً دروساً في الطمأنينة ..
يا دكتور لقد منحتني شهادة عليا في هذه الرحلة لم تستطع جامعات الدنيا أن تمنحني إياها .. لقد حصلت على الدكتوراه في احتقار النفس أمام العظماء .. وتجاوزت الماجستير في العمل الحقيقي الذي كنا نعتقد أنفسنا من رواده وبكالوريوس بامتياز في معرفة رجال الأمة الحقيقيين الذين يستحقون شهادات التقدير وجوائز الشكر.. لكنهم مع ذلك يقولون كما كنت تقول لي: يا أخي نحن لا ننتظر شهادات من أحد.. نحن عملنا في الميدان .. وننتظر من الله فقط أن يتقبل منا ؟
لا زلت يا دكتور أتذكر تلك القرية التي أعلن أهلها إسلامهم وكيف كانت فرحتك العارمة .. كأننا خرجنا بأموال الدنيا . كنا نحن ننتظر مشاهد التصوير ونحسب إنجازنا بعدد ساعات التصوير كانت هذه ساحة سعينا .. وميدان بصرنا.. بينما كنت تسبح هناك .. وتنظر هناك ..
وتتأمل هناك .. الآخرة.. !
فلله درك أيها العظيم .(2/9)
كنت أتعجب منك وأنت تحاسب من يعمل معك بكل دقة و تقف بنفسك حتى على طعام الأيتام .. وأقول في نفسي هو جهد زائد ينبغي أن يدفعه لغيره .. لكني فهمت متأخراً عندما قلت لي : أموال الناس التي دفعوها لعمل الخير لا يمكن أن أفرط في ريال واحد منها.
أتدري يا دكتور أن هذا البرنامج كتب سيناريو حلقاته وصمم فكرته وأخرج أطرافه عملكم المتوقد وسعيكم الدائب .. أتدري أني قرأت كل ما كتبته في مجلتكم ( الكوثر ) قبل أن أصل إليك لأجد ما كتبته عن جهود العمل ( غيض من فيض ) وعندها تذكرت قول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - :
( ليس راء كمن سمع ) وأكدت لنفسي ( من شاهد الحقائق ضمن الوثائق ) كنت أتنقل معك بصحبة فريق البرنامج بين القرى و القبائل لنجد منكم شخصاً ملماً بحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وهذا درس من دروس ، فالداعية الحق هو الذي يعرف طبيعة من يدعوهم ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل لما أرسله لليمن ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) إنها معلومة مهمة يراد من ورائها رسم منهج للدعوة .. فليس كل داعية يصلح للدعوة في كل مكان .. بل لابد من مواصفات معينة يسبقها العلم التام بطبيعة المدعوين وأحوالهم .
دكتور : أسعد الله مساءك بكل خير أينما كنت .. تذكرت ذلك المساء الحالم.. عندما أرخى علينا الليل سدوله بعد أن صلينا المغرب وانكمش المنعمون مثلنا من آثار البرد .. فوقفت على تلك الحلقة المستديرة التي تجمع فيها أبناؤكم الأيتام يقرأون القرآن .. وأنت تنتقل من حلقة إلى أخرى .. تطمئن على حفظهم للقرآن الكريم .. وتبتسم في وجوهم كل لحظة .. تذكرت خروجك بعد العشاء لتطمئن عليهم هل ناموا ؟ هل استقروا جميعاً في مهاجعهم ؟
تذكرت سائقك الخاص وأنت تعامله بلطف ومحبة حتى أعلن إسلامه .. تذكرت أولئك الدعاة وهم يجيبون على سؤالي في كل لقاء .. من أي مدرسة تخرجتم في الدعوة ؟ فقالوا : من مدرسة
عبد الرحمن السميط الدعوية !(2/10)
تذكرت تلك الليلة الشاتية عندما عمدنا إلى جذوع الشجر لنوقد النار للتدفئة فجلست وقد أحطنا بك من كل ناحية .. تحكي لنا حكايات رائعة .. ليست عن حب وغزل .. ولا عن شعر وزجل .. بل عن دعوة وإغاثة .. عن إسلام وراحة .. عن أقوام كانوا في ضلال فأنقذهم الله بالإسلام ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) (الأنعام : 142) أيها الفاضل / اسمح لي أن أزجي سرا ً .. هذه الصور المذكورة من الجهد المتواصل ليست حكراً عليك فقط .. بل هي ديدن أسرتكم الكريمة من زوجة وأبناء حفظكم الله بحفظه .
لا أريد أن أحرق البرنامج على مشاهدينا الكرام .. فهو برنامج أسبوعي في قناة المجد بعنوان
( القارة المنسية ) فيه الغرائب والعجائب والأفراح والأتراح .. والفقر و الغنى ..
فيه صور ة إسلام منسية .. وكتاب مقدس عند أهله اسمه ( السواربي ) ومقابر لا يتم الدخول إليها إلا بدعاء يتضمن سورة الفاتحة .. برنامج أظن أن غرائبه وعجائبه ستحمله إلى المشاهدين فلن أتحدث عنه مكتوباً .
شكر الله لك أيها الدكتور الفاضل .. ورفع قدرك .. وجزاك عنا خير الجزاء وكثر الله في الأمة من أمثالك إنه جواد كريم .. وإلى اللقاء على طريق الخير والمحبة ...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابنكم
فهد بن عبد العزيز السنيدي
مذيع إذاعة القرآن الكريم
وقناة المجد الفضائية
المشرف العام على موقع المجلة الإسلامية
ــــــــــــــــــ
إضاءات في قوة الإرادة
محمد السمان
خطيب جامع الجهيمي بالرياض
الإضاءة الأولى .. قوة الإرادة والهمة العالية /(2/11)
الهمة العالية مطلب عظيم يتمناه أصحاب النفوس الكبيرة التي تتوق إلى المعالي ، وقوة الإرادة هي وقود هذه الهمة العالية فبدون هذا الوقود – بعد توفيق الله عز وجل – لن يتم لهذه الهمة منالها ومبتغاها ، ولعل خير شاهد على ذلك ماقرأتَ وما رأيتَ من همة العلماء وطلبة العلم وكيف أنهم استطاعوا بعد توفيق الله من تحقيق أعمال وكأنها أشبه بالخوارق لكن تلك الإرادة التي رُدفت بهمة عالية كانت طريقاً لذلك ، وإليك مثالين على ذلك لعالمين جليلين أحدهما متقدم والآخر معاصر ، فالأول هو الإمام الطبري رحمه الله المفسر المعروف الذي قيل عنه كل المفسرين عيال على الإمام الطبري يعني في علمه بالتفسير رحمه الله ، ذكر أهل العلم أنك لو نظرت إلى أحد كتبه الكبار كالتاريخ أو التفسير ثم نظرت إلى عمره رحمه الله ، لوجدت أنه يكتب في اليوم مايقارب الخمسين ورقة ، كيف وهو قد ألف غيرهما ؟! .
وأما المثال فللإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله ، فقد ذكر جمع ممن صاحبه بركة الوقت لحياة هذا الإمام رحمه الله حتى أنه لا ينام في اليوم والليلة أكثر من أربع ساعات ، فلله درهما ورحمهما الله .
- الإضاءة الثانية .. قوة الإرادة طريق لإنجاز أشياء غير متوقعة ..
الغالب من الناس يتصور في نفسه قصوراً متوهماً ، وكأن أصحاب الإنجازات ليسوا من البشر ، فإذا نظر إلى حافظ القرآن ، أو إلى طالب متفوق في دراسته ، أو إلى مبتكر ، أو إلى عالم ، أو إلى خطيب ، أو إنسان متميز قلل من نفسه واتهم ذاته بعدم القدرة على مقارعة هؤلاء ، واستمر على ماهو عليه ؟ في مكانه لايتقدم إن لم يكن يتراجع ، فهذا وأمثاله ندعوهم دعوة صادقة للتوكل على الله أولاً ، ومن ثم نريد منهم نفض غبار الأوهام وارتداء رداء قوة الإرادة بعزيمة تتهاوى معها كل المثبطات والعوائق ، وسيلحظ بإذن الله الفرق قريباً .
- الإضاءة الثالثة .. قوة الإرادة طريق لفتح آفاق جديدة لم تخطر بالبال /(2/12)
الضعف الذي يعتري البعض يكمن في قصره لامكانته وقدراته في معين واحد وكأنه لايجيد غيره وكأنه لايعرف سواه وبذلك تضعف همته وإرادته إلى التطلع إلى غير ذلك ، حتى وإنه للأسف أن هذه السياسة النفسية بدت تُدار للبعض ليس عن طريق أنفسهم بل عن طريق غيرهم ، وكأنك تطلب مثالاً على ذلك ، فهاأنا أعطيك مثالاً على هذا الداء العضال ، فمن ذلك إلزام الأب ابنه أو ابنته تخصصاً دراسياً معيناً في المرحلة الثانوية أو الجامعية ، وقد يكون ميول الإبن او البنت لتخصص آخر قد يبدع فيه ويتفوق لكن حرجه من والديه قد يكون عائقاً في مثل ذلك ، والبعض قد يختار تخصصه نزولاً لرغبة صديق له وهكذا دواليك ، فقوة الإرادة بعد توفيق الله سبيل لتخصص مناسب وطريق لإكتساب مهارات جديدة ، ووسيلة لإكتشاف إبداع مدفون ، حملت لنا كتب التاريخ القصة التالية / كان الإمام مالك إمام دار الهجرة يطلب العلم على يدي والده أنس وكان أخوه عبد الله يطلب العلم كذلك على يدي والده ، لكن الإمام مالك رحمه الله كان منشغلاً بشيء يلهيهه عن اللحاق بركب أخيه في الطلب ، لقد منشغلاً بتربية الحمام ، وذات يوم والإمام مالك يُسمع ما حفظه على أبيه فوقع الخطأ منه مراراً ولم يتقن الحفظ هذه المرة ، فقال له أبوه كلمة أيقظت الإرادة في نفسه ، قال له يامالك لقد شغلك الحمام عن الحفظ ، هذه الجملة غيرت حياة الإمام مالك فقد أيقظت إرادته وعزيمته وهمته لطلب العلم حتى أصبح إمام الدنيا في الفقه والحديث .
هناك تخصصات ومهارات ومعارف وإبداعات تحتاج منا فقط بعد توفيق الله إلى إرادة قوية ثم ستتحول إلى أرض الواقع بعد أن كانت مجرد أماني .
- الإضاءة الرابعة .. قوة الإرادة طريق للإتقان ..(2/13)
لايستوي رجلان يعملان عملاً واحداً لكن أحدهما متقن والآخر مفرط غير متقن أو إتقانه دون مستوى الأول ، الكل يعمل لكن شتان بين العملين ، وأتذكر في هذا المقام قولاً رائعاً للإمام ابن القيم رحمه الله عندما وصف رجلين في الصلاة يصليان بجوار بعضهما أحدهما متقن خاشع في صلاته والآخر مفرط قد خرج بفكره عن الصلاة ، قال الإمام رحمه الله / فأحدهما قلبه معلق بالعرش والآخر قلبه معلق بالحش – بالقاذورات والنجاسات - ، الأول المتقن كان موفقاً لإرادة قوية قادته إلى مقصده الأسمى بعد توفيق الله ، أما الثاني فضعفت عزيمته وإرادته ، فصلى صلاة بلا روح وهو قادر على أن يفعل مافعل الأول ، فالإتقان في العمل متيسر متى مابحثت عن مظانه وسلكت طرقه وكانت إرادتك تبعاً للتوكل على ربك .
- الإضاءة الخامسة .. قوة الإرادة طريق للقضاء على العادات السيئة ..(2/14)
ولعلي أبدأ هذا العنصر بقصة تروى لملك من ملوك الشرق الأقصى – وقد تكون مجرد رواية ولكن فيها عبرة – هذا الرجل كان – أجلكم الله – لا تأتيه السعادة إلا إذا شرب كأساً من بوله الخاص ، وتمضي الأيام ويتناقل الناس الخبر ، فيأتيه كبير وزرائه ليساره ويناصحه ، فيعزم على ترك هذه العادة القبيحة ولا يستطيع فيجمع الأطباء والحكماء ليأتوه بالدواء ، وكأن داءه بلا دواء ويخطئ الكل ويصيب واحد منهم الهدف ويصل إلى الحل ويطلب من الملك الوعد بالتنفيذ وكل في اشتياق إلى معرفة الدواء فيعلنها ذاك الطبيب الحكيم ، للملك إنك تحتاج فقط إلى عزمة من عزمات الرجال ، نعم فقط لايحتاج إلى أكثر من ذلك إرادة قوية تحطم أغلال تلك العادة القبيحة ، وهكذا كم وكم نخطئ في حق ربنا وحق نفسنا وحق غيرنا ، ونكرر الخطأ ونزعم أن الحل صعب وأنها أصبحت عادة فلا مفك منها ، ولامناص من فعلها ، فنقع في الخطأ مرة وأكثر ، من الآن ياأُخي اعزم عزمة من عزمات الرجال وتوكل على الله قبل ذلك ، وليكن ذلك آخر عهدك بكل عادة سيئة أو أمر محرم .
الإضاءة السادسة .. ضع لك هدفاً ولا تنس الوقت المناسب للإنجاز :
ومن الآن وقبل أن تفتر عزيمتك وتضعف إرادتك ضع لك هدفاً أو أكثر ( كحفظ القرآن أو أجزاء منه ، أو حفظ متن من المتون ، أو تفوق في دراسة ، أو مداومة على قراءة حزب يومي من القرآن ، أو كتابة بحث ، أو عمل مشروع يخدم دينك وأمتك ، أو إقامة مشروع تجاري ، أو ... ) وتذكر وأنت تحدد الهدف أنه يلزمك الإلتفات إلى النقاط التالية ليتحقق المراد بإذن الله :
* ابدأ وثق بالله ثم بنفسك وقدراتك .
* توكل على الله وكن متفائلاً .
* لاتكثر على نفسك .
* لاتتردد .
* لاتستعجل في طلب النتائج .
* لاتزعم الفشل وأنت لم تحاول إلا مرة واحدة .
* لاتلتفت إلى الرسائل السلبية منك أو من غيرك ( مثل : أنت لاتصلح لهذا العمل – سبق أن جربت ولم أنجح _ ... ) .
ــــــــــــــــــ
الطاقات وعلو الهمة(2/15)
سعيد بن محمد الحواش
انطلاقاً من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "الدين النصيحة"، ولما رأيت في حال البعض من إضاعة الأوقات وإهدار الطاقات وعدم الاستفادة منها، ورغبةً في علاج الخلل والقضاء على مكمن الخطر وتربية النفوس على معالي الأمور والطاعة والعبادة والأخذ بها مدرجاً جميلاً إلى القمم والفضائل أحببت من خلال تلك الكلمات أن أُسدي نصحي لنفسي أولاً ولإخواني وأخواتي الشباب، وأشحذ الهمم للتطلع إلى ما يعود على النفس البشرية بالسعادة والطمأنينة والأجر والثواب والبعد عن كل ما يشين فعله من التصرفات والأعمال والأقوال.
وما دفعني لذلك الواقع المرير لكثير من الشباب من مرتادي شبكة الإنترنت وانشغالهم بأمور لا تعود عليهم ولا على من يطالع نتاجهم بالخير والفائدة، فإن المتابع لهم يحزن أشد الحزن من تبادل السباب ونشوب الخلاف غير المحمود والجدل المذموم المبني على الباطل والتطاول على مقام العلماء والنيل منهم والوقوع في نياتهم والتعرض لمقاصدهم وكأنهم لم يعلموا بمصير منتقصهم فإن سنة الله في منتقصيهم معلومة.
ولم يكن همي منصرفاً لتتبع تلك المهاترات والمجادلات وحصرها، فالمطالع لها على علم بها، بل همي منصرف إلى توضيح ما يجب أن يشغل المسلم به وقته وطاقته، ويحافظ على قِيَمِهِ ومُروءته ومبادئه العليا المتمثلة في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"والحث على استثمار تلك الطاقات والجهود المبذولة في غير عمل مشروع وتوجيهها إلى الأعمال الفاضلة المشروعة الموافقة للكتاب والسنة، والتخطيط لشخصيةٍ فذَّة ذات نفع متعدي تفيد وتنفع نفسها ومجتمعها، والإعداد السليم لها ابتداءً بتفريغ النفس عن كل ما يشين ويعكر صفو المسلم المؤمن حقيقةً قلباً وقالباً، وعدم الانشغال بالدنيا وصوارف الأعمال.(2/16)
ولا بد من استشعار أهمية هذه الخطوة في حياة المسلم؛ لأن استشعارها ومعرفة قيمتها يحقق قدراً كبيراً من المسئولية وبالتالي ينتج عنها قدر كبير من السعادة والطمأنينة التي ستكتمل ـ بإذن الله ـ بإكمال الأعمال الفاضلة المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية ابتداءً بطلب العلم الشرعي والحرص عليه والاهتمام بتحصيله والجلوس في مجالس العلماء الربانيين والاستفادة منهم والحفظ عنهم والجد والمثابرة في طلب العلم واستغلال الوقت ومعرفة أهميته المعرفة الحقيقية وليس مجرد العلم بها بل تحقيق ذلك والتأكيد عليه واستشعاره وتطبيقه، فالزمن أخي الشاب كالمال يجب الحرص عليه والاقتصاد في إنفاقه وتدبيره وصرفه فيما يعود على صاحبه بالنفع والفائدة، وإن كان المال يمكن جمعه وادخاره بل وتنميته فإن الزمن عكس ذلك فكل دقيقةٍ ولحظةٍ ذهبت لن تعود إليك أبداً ولو أنفقت أموال الدنيا أجمع، وإذا كان الزمن مقدراً بأجل معين وعمر محدد لا يمكن أن يُقدَّم أو يؤخَّر وَجَبَ على كل إنسان أن يحافظ عليه ويعرف أهميته ويستعمله أحسن وأفضل استعمال ولا يُفرِّط في شيءٍ منه قلَّ أو كَثُر، وإذا تحقق للإنسان ذلك وأحسن استغلال واستعمال الوقت عادَ عليه بالنفع الدنيوي والأخروي، ولكي يحافظ الإنسان على وقته يجب أن يعرف أين يصرفه وكيف يصرفه وأعظم المصارف وأجلها طاعة الله - عز وجل - وطلب العلم والاهتمام به غاية الأهمية فكل زمنٍ أنفقته في تلك الطاعة والفضيلة لن تندم عليه أبداً بل سيكون مصدر عزٍّ وسعادة ورفعةٍ وعلو. قال - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وإن كان هناك ندم فهو على ضياع الأوقات وإهدار الطاقات فيما لا يعود على الإنسان بالنفع والفائدة ويا ليته يَسْلَم وينجو من الإثم والوزر.(2/17)
ويَحْسُن بالمسلم وخاصةً الشباب إلى جوار طلب العلم والاهتمام به أن يُحَدِّد كل منهم هدفه ويُخلص نيته، وأن يحرصوا على السعي وراء كل ما من شأنه أن يفيدهم ويفيد مجتمعهم وأمتهم، ومن ذلك القيام على شؤون الأرامل والمساكين والأيتام فهو باب عظيم لاكتساب الأجر والثواب فقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر"رواه البخاري ومسلم.
فما أعظمه من توجيهٍ نبوي كريم وما أجمل استثمار الطاقات والجهود وتوجيهها نحو القيام على شؤون الأرامل والأيتام والفقراء والمساكين، فقل لي بربك لو استثمر المتشاغل بالباطل واللهو والعاكف على الإنترنت بقصد الباطل وتتبع الشائعات وترويجها وإضفاء المصداقية على الكذب لو انشغلوا ووجهوا طاقاتهم نحو التكافل الاجتماعي والانضمام للمؤسسات الخيرية والإغاثية وتوجيه الجهود والتواصل مع الفقراء والأيتام والأرامل والقيام على مصالح المجتمع ككل ولاسيما أن المؤسسات الخيرية بحاجةٍ ماسةٍ لجهود الشباب ومساندتهم ومؤازرتهم والتعاون من أجل الرقي بأعمالها ورسالتها السامية ولتحقيق التكافل المنشود.
ولله الحمد والمنة هناك كوكبةً مباركة من الشباب العاملين في هذا الصرح العظيم الجليل القدر. والحاجة ماسة لأكثر من ذلك فمن منا الآن يجري ويسعى في حوائج الأيتام والأرامل؟ ومن منا يتفقد حاجاتهم ويسد عوزهم؟!
من يفعل الخير لا يُعْدم جوازيه ***لا يهلك العرف بين الله والناس.(2/18)
إن المسارعة إلى سد حاجات الناس وخاصةً من فقدوا عائلهم من خصال المسلم الحميدة ورأيت شخصاً ـ جزاه الله خيراً ـ فرَّغ نفسه للأرامل والأيتام والمحتاجين ويقوم على جَمْع الصدقات الأرزاق والأثاث والمتاع والملابس ويتم توزيعها على المحتاجين ويقضي حاجاتهم ويتفقد أحوالهم ويُشرف على ذلك إحدى الداعيات المباركات جزاهم الله خير الجزاء وأقر أعيننا بكثرة أمثالها، وذكر أحد الدعاة الفضلاء أنه يعرف شخصاً فرّغ نفسه للأرامل والأيتام فيراجع عنهم الدوائر الرسمية ويقضي حاجاتهم ويبث شكواهم إلى القادرين ويتفقد أحوالهم فيتابع هذا اليتيم في المدرسة ويبحث عن مرتبات التقاعد إن كان لهم فيها نصيب ويذهب بأطفالهم إلى المستشفى جزاه الله خيراً ورزقنا وإياه الإخلاص في القول والعمل.(2/19)
ولا شك أن ساحة العمل الإسلامي الخيري تشتكي من النقص الكبير في كوادرها ومع وجود هذه المشكلة فإنه يَنْدُر من يتنبه لها أو يسعى لمعالجتها، وإذا أدركنا فعلاً حجم هذه المشكلة فإن علاجها يسهل كثيراً ـ بإذن الله ـ فإن إدراك المرض أول خطوات العلاج، ولا أزعم أني سوف استوعب علاج هذه المشكلة لكن حسبي فتح الباب أمام إخواني الشباب لرفع الهمم ومعرفة الواقع والمأمول وكذلك تذكير المختصين حتى يدلوا بدلوهم لوضع الحلول لهذه المشكلة الخطيرة، فأهل الخبرة لهم السبق في علاج هذه المشكلات، ولا أقول أن جميع الشباب مهيئين للعمل الخيري على حدٍ سواء فلا يعامل جميع الأشخاص معاملة واحدة. بل لا بد من توجيه كل شخص إلى ما يمكن أن يُبدع فيه، وهذا أمر يدركه أصحاب النظر والعاملين في سلك الدعوة والعمل الخيري؛ لأن الشخص إذا لم يُهيأ للعمل ولم يرغب فيه فقد يخفق أو تقل إنتاجيته وبالتالي يكون عبئاً على غيره وغير مثمر، وهذا ما نراه ـ وللأسف ـ حينما يتصدر بعض الشباب من خلال شبكة الإنترنت ويكون إنتاجه غير مفيد وغير مثمر بل ضاراً ومُحْبطاً؛ لأنه لم يوفق إلى من يوجهه إلى ما ينفعه وإلى الميدان الذي يصلح له. ولذا فإنني أقترح أن يقوم الشخص بفحص ومعرفة مهاراته ومحاولة استخراج أفضل وأحسن وأجدى الاتجاهات التي يمكن أن ينتج ويفيد من خلالها.. مع الحرص الشديد على استشارة الآخرين والممارسين والمتقدمين والمنتجين للاستفادة من خبراتهم ومعارفهم.
وإن أنسى فلن أنسى عمل عظيم يمكن للشباب ملء فراغه والاستفادة من ممارسته ألا وهو العمل في مكاتب دعوة الجاليات ونشر تعاليم الإسلام وأحكامه، ويعتبر هذا خياراً آخر لمن يرغب العمل فيه ويجد من نفسه إقبالاً عليه، وبالتالي نجد إنتاجا وفائدة، ولاسيما أن دعوة الجاليات ونشر تعاليم الإسلام وأحكامه حقل مهم بحاجةٍ ملحة لجهود الشباب وتعاونهم.(2/20)
قال الحسن: من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماماً لحيّه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب.
وأخيراً أخي الشاب تعاهد نفسك فإذا عملت عملاً فاذكر نظر الله إليك وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك وإذا سكت فاذكر علم الله فيك، وإذا لم ينتبه أحدنا لهذه المبادئ ويعمل بها قلَّت المراقبة والخشية وارتفعت الأصوات بالباطل وكثر اللغط وتجني المسلم على أخيه المسلم، وأنت أخي الكريم حين ترى ارتفاع الأصوات وتداخل الكلمات وكثرة الهرج والمرج تذكر قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -حين قال:"إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه منه شيء".
وختاماً: فإن الفرد منا بحاجةٍ إلى مبادئ صحيحة يعتقدها وتنير دربه وقيم صالحة ينتقيها وطباع بشريَّة يُهََذبها ليكون الاستثمار الأمثل للحياة.
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في صلاح الأمة
عبد الفتاح سيبان
يقول الله - عز وجل - في كتابه العزيز: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)) [آل عمران: 104 - 105]. في الحادي عشر من سبتمبر الماضي حدث ما غير الروتين العالمي لهذا الزمان وأدخلنا في منعطف تاريخي جديد تماماً على الغالبية العظمى من البشر. لقد صدمنا ولم نعد نستوعب ما يحدث هل هذا الذي حدث حق أم باطل؟ وهل له مبرر؟ وزيادة على ذلك لقد كثر اللغط وعلت الأصوات وتزاحمت الفتاوى بين العامة والخاصة، وتبنى كل منا ما يناسبه وما يستهويه، ووقع الكثير منا في حيرة من أمر هذه الفتاوى المنتشرة.. فهذا يحرم وذاك يبرر وثالث يشجع ويبيح والكل أصبح يفتي وليس هناك شرط ولا حد لذلك. فإبداء الرأي والحرية في إصدار الفتاوى صارت لكل من هب ودب في قول ما يريد فيما يريد، وهنا تكمن العلة:(2/21)
ولا أعتقد أن أمة من الأمم ترضى لنفسها مثل هذه الفوضى. وفي حين أنهم للأسف ليسوا سوى صدى هزيل لسلطة ما، يقولون ما يراد منهم أن يقال، ويفتون بما يريد لهم أن يفتون به، ويتناسون ما تحتاج له الأمة وما تريد. وليس هذا في أحداث سبتمبر وحدها، ففي كل حدث مهم، تعود هذه الفوضى، ويعود المفتون على مختلف مشاربهم: فمن شيوخ السلطة إلى شيوخ الغلو إلى غيرهم وغيرهم ممن لا يحصيهم العد، ولا تتوفر فيهم شروط الإفتاء الشرعية.. وبين الحين والآخر يخرج علينا نكرة من النكرات تسبغ عليه مجموعته لقب "الشيخ"، وهو ليس من الشيوخ في شيء، فلا هو شيخ علم، ولا هو حتى شيخ طاعن في السن. ولو كان عندنا جمعية من العلماء معروفة بعلم أعضائها واعتدالهم، وبعدهم عن مواطن الشبهات، لعدنا إليها نستفتيها في النوازل، ونستنصحها فيما يشكل علينا من مسائل.. نعم لو كان عندنا مثل هذه الجمعية لسكت الرويبضة، وانفض الناس عن هؤلاء الأدعياء. لقد بلغ السيل الزبى، وصرنا في حالة من الضعف يرثى لها، وليس لنا منقذ بعد الله إلا هؤلاء العلماء العاملين الربانيين، وتاريخنا يشهد على قوة تأثير العلماء المصلحين على شعوبنا، ووقوفهم وراء كل قائد عظيم. إن أملي كبير أن تجد دعوتكم إلى قيام جمعية للعلماء قبولاً عند صفوة هذه الأمة، وإنه لا أمل في خروجنا من هذا النفق إلا بهذه الجمعية، ولن تؤدي هذه الجمعية دورها المطلوب إلا إذا أشبعت هذه المسألة بحثاً ومدت يدها للجميع، وأخلصت قصدها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــ
الزهد علو الهمة
صفاء الضوي العدوي(2/22)
الزهد في الدنيا والتجافي عنها، مع بذل الجهد في عمارة الأرض بالهدى والعدل والخير، والرغبة في الآخرة والسعي لها، وتقديم أمرها على أمر الدنيا، من القواعد الأصيلة، التي يتميز بها الفكر الإسلامي ويقدمها في اعتدال ووسطية، فلا انعزال عن الدنيا، يضيع الواجبات، ولا الإغراق في جمع حطامها حتى تقسو القلوب، ويُنسى أمرُ الآخرة.
على أن هذا المفهوم قد أصابه من التحريف والتزوير ما أصابه على أيدي العاطلين البطالين، أو المتصوفة المنحرفين، حتى غدا وصفاً للموات الذي يصيب الرجل فيقعد به عن العمل والكسب والمشاركة البناءة في إقامة المجتمع المسلم أو تقويته، ظناً منه أن الزهد الصحيح الذي يدنيه من مرضاة الله ورحماته هو العزوف عن كل شيء من أمر الدنيا، وكف النفس عما أحل الله من الطيبات فيها، والانقطاع للعبادة من ذكر وصلاة، غافلاً عن هدي سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ، وسيرة أصحابه الكرام - رضي الله عنهم -، في تحقيق المعنى الصحيح للزهد، وهو ألا تصبح الدنيا ومتاعها همّ المسلم، فينشغل عن العمل للآخرة، بل يأخذ من الدنيا نصيبه في اعتدال، ثم يقبل على أمر دينه فيجعله أكبر همه.
فلا يشك عاقل أن ما انتحله جهال المتزهدة من تعطيل الطاقات، والبطالة عن العمل البنّاء ليس من الإسلام، بل هو مما يرفضه الإسلام، ويعدّه مرضاً يحتاج إلى طب وعلاج.
وهنا نقول: وإن نفراً من الداعين إلى الله، بل والمنتسبين إلى العلم، خاصموا الزهد بمعانيه المغلوطة، ومفهومه الخاطئ، على ما بينّا آنفاً، وهو رشد منهم وحق، إلا أنك تفتقده بمعانيه الصحيحة في حياتهم وسلوكهم وكتاباتهم وكأن معالم السيرة النبوية وأحداث التاريخ امّحت من ذاكرتهم، وهو خطأ منهم وقصور.(2/23)
وهاك شرحاً يبين المعنى الصحيح للزهد كما ورد في الأحاديث الصحيحة فعن سهل بن سعد الساعدي قال "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك " صحيح رواه ابن ماجة.
فقد اشتمل الحديث على وصيتين نبويتين عظيمتين؛ إحداهما الزهد في الدنيا، والثانية: الزهد فيما في أيدي الناس، فالأول مقتض لمحبة الله - تعالى -، والثاني مقتض لمحبة الناس.
والأحاديث في ذم الدنيا والتعلق بها، والانشغال بجمع فضولها عن أمر الآخرة كثيرة، ولهذا تواردت أقوال الأئمة وأهل العلم من السلف الصالح في التحذير من الاغترار بالدنيا والافتتان بزينتها، والحث على علو الهمّة والتجافي عن الدنيا، والانشغال بما هو أنفع وأبقى من العمل الصالح.
والزهد الحقيقي مداره على صحة اليقين بالله الرزاق، وقوة هذا اليقين، فمن كان قويَّ الإيمان، صحيحَ اليقين، وثق بالله في أموره كلها، وأحسن التوكل عليه، وترك المزاحمة على فضول الدنيا، وانشغل بمحابِّ الله - تعالى - من أنواع العبادة، فيما فتح الله له، من ذكر وصلاة، وصدقة، وعلم، وتعليم، ودعوة إلى الله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجهاد في سبيل الله.
فإذا انشغل المرء بذلك ورضي بما قسم الله له من نعم الدنيا، ووطَّن نفسه على القناعة بما رزق منها وعلى التقلل من أمرها، في الطعام، واللباس، والمراكب، والرياسات المشتملة على حب الدنيا، والترفع فيها على الناس، ارتاح قلبه، وذلك أن الاستكثار منها مما يجلب الهمّ والغمّ.(2/24)
على أن ما جاء من رئاساتها، مما تعيَّن على العبد القيام به، إذا كان ممن وهبه الله - تعالى - العلمَ، والصلاح، وقوة النفس، فعليه أن يقوم حيث أقامه الله - تعالى -، خدمةً للدين، وإصلاحاً للناس، ولا يقول: أزهد في الرياسة لما فيها من وجاهة، وزينة، وما تدعو إليه من التفاخر والكبر، بل يقبلها إن علم في نفسه مقدرة على الإصلاح والنفع، والسلامة من الظلم، والسكوت عن المنكرات، ونحو ذلك مما يضره في دينه، فإن خشي وقوع شيء من ذلك فلا يقبل، فالعاقل الموفق لا يعدل بالسلامة في دينه شيئاً، ولهذا قالوا: إنما الزهد في القلب، كما أُثر عن غير واحد من سلفنا الصالحين.
فحُسْن التوكل على الله - تعالى -، وصدق اليقين به - سبحانه - هو عين الغنى، فمن تحقق من ذلك كان زاهداً، وكان غنياً، وإن خلت يدُه من فضول الدنيا.
وليس وجود المال مع المرء مانعاً ومعارضاً لأن يكون زاهداً في الدنيا، بل إنه يكون من الزاهدين إذا اكتسب ماله من الحلال، وأنفقه في محابّ الله، فوصل منه أرحامه، وأحسن إلى جيرانه، أو جهّز غازياً، أو خلفه من هذا المال في أهله بخير، أو غير ذلك من وجوه البر والإحسان، فهذا زهد الراشدين العالمين؛ لا زهد الجاهلين، وقد سئل الإمام أحمد عمّن معه مال: هل يكون زاهداً؟ فقال: إن كان لا يفرح بزيادته، ولا يحزن بنقصه.
ومراد أحمد - رحمه الله -، التنبيه على ألا يكون المال فتنة ينشغل المرء به؛ فيذهب معه عقله حيث ذهب، فيدور حول المال سرورُه وأحزانه، فينسى أمر الآخرة.(2/25)
أما إذا فرح بالمزيد من الربح في تجارته لما يُمَكِّنه ذلك من زيادة العمل الصالح، والتقرب إلى الله - تعالى -، ففرحه بهذه النية هو من العمل الصالح، وكذا حزنه على تلف ماله، الذي يستغني به عما في أيدي الناس، ويكتفي به عن الوقوف بأبواب السلاطين، فيصون دينه عن النقص، فحزنه هذا ليس مذموماً، بل المذموم ما كان حزناً مجرداً على فوات الدنيا، لشدة تعلقه بها. وقد روي أن سفيان الثوري حزن على تجارة له غرقت، فعوتب في ذلك، فقال: إنما مالي قوام ديني.
فكل ما أصاب العبدُ في الدنيا من المال، يريد به الدنيا وتفاخرها وزينتها فهو متاع الغرور، لأنه يلهيه عن طلب الآخرة، وكل ما كان منها بلاغاً إلى ما هو خير منها، فليس بمذموم، وليس هو من متاع الغرور.
يقول أبو سليمان: ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا واستراح منها، إنما الزاهد من زهد في الدنيا، وتعب فيها للآخرة. فالزاهد في الدنيا على هذا النحو يحبه الله، والزاهد فيما في أيدي الناس يحبه الناس، فقد روي أن أعرابياً سأل ناساً من أهل البصرة: من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا: الحسن؛ أي البصري، فقال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
وقال ربيعة: رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها، ووضعها في حقها.
وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء. وقال: كان من دعائهم: اللهم زهِّدنا في الدنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تزْوها عنا فترغِّبنا فيها.
وروى ابن أبي الدنيا في كتابه "اليقين" عن عمّار قوله: كفى بالموت واعظاً، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً.
وقال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (2/180): قيل لأبي حازم الزاهد: ما مالُك؟ قال: لي مالان؛ لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس. اهـ(2/26)
وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي]له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى[؟!
وقال الفضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله، وقال: القنوع هو الزهد وهو الغنى.
ويبين ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح (9/160) أن إضاعة المال بتضييعه وصرفه في غير محله، وذلك بأن يرميه في بحر أو يعطيه للناس من غير تمييز بين غني وفقير، كما يفعله بعض الجهال من المتزهدة ليس من الإسلام، ويقول: وحاصله أنه لا عبرة بالزهادة الظاهرة. اهـ
وهو يشير - رحمه الله - إلى ما اشتهر عن جهلة المتصوفة من إضاعة المال على النحو المذكور، اعتقاداً منهم أن إمساكهم للمال يقدح في الإيمان، ويفسد الولاية، وهذا من الجهل، ولو أنهم إذ رزقوا شيئاً من نعم الله، أمسكوا منها قدر حاجتهم، وحاجة أهليهم، ثم تقربوا بما زاد على ذلك إلى الله، بالتصدق بها في سبيل الله، لا رميها أو إتلافها لكان خيراً لهم وأقوم، والله أعلم.
وفي الصحيحين أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرض فعاده النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعرض سعد على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بثلثي ماله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا، فقال سعد: بالشطر فقال: لا ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : "بالثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".(2/27)
وعن أنس قال اشتكى سلمان فعاده سعد فرآه يبكي فقال له سعد ما يبكيك يا أخي أليس قد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أليس أليس، قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين ما أبكي ضناً للدنيا ولا كراهية للآخرة ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت، قال وما عهد إليك؟ قال: عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت وعند قسمك إذا قسمت وعند همك إذا هممت. قال ثابت فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما من نفقة كانت عنده.
فقول سلمان - رضي الله عنه - في هذا الحديث "فما أُراني إلا قد تعديت " هو من فرط خشيته لله - تعالى -، وعظيم فقهه في أن لنعم الله - تعالى - على العباد تبعاتٍ، وأنهم موقوفون بين يدي الله - تعالى - ومسئولون عنها، وهو أيضاً من تمام تواضعه - رضي الله عنه -، والنزول بنفسه عن منزلتها، هضماً لها لتنهض إلى المزيد من الطاعة، والإقبال على الآخرة.
ولما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (6/235) قول ابن الجوزي عما تركه الزبير بن العوام - رضي الله عنه - من ثروة طائلة: فيه رد على من كره جمع الأموال الكثيرة من جهلة المتزهدين، قال الحافظ: وتعقب بأن هذا الكلام لا يناسب مقامه من حيث كونه أي ابن الجوزي - لهِجاً بالوعظ، فإن من شأن الواعظ التحريض على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وكون مثل هذا لا يكره للزبير وأنظاره لا يطرد. اهـ
وروى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " صحيح رواه الترمذي وابن ماجة.(2/28)
وعن الأسود بن يزيد قال: قال عبد الله سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك " حديث حسن رواه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة قال ولا أعلمه إلا قد رفعه قال: يقول الله - سبحانه -: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك. وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك " حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجة.
ففي هذه الأحاديث وعيد من الله شديد لمن كانت الدنيا أكبرَ همّه، فهو مقبل عليها بكليته، يجمع حطامها، في نهم لا ينقضي، منشغل بذلك عن الآخرة، فمن كانت هذه حاله، عوقب بشتات القلب، فلا يزال لاهثاً وراء المال والمناصب والشهوات، يعبّ منها، لكنه لا يشبع ولا يرتوي، ولا يكتفي، بل يظل في طلب المزيد، غافلاً عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق، وأن حاله هذا هو عين الفقر، حيث لا تنتهي حاجته، ولا يحصل له الرضى بما جمع من المال، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وجعل فقره بين عينيه"
وفي المقابل حال الرجل الصالح الذي جعل الآخرة همّه، فهو في سعي دائم لتحصيل الحسنات، والوصول إلى مرضاة رب الأرض والسماوات، مع حُسن توكله على الله، فهذا يجمع الله له أمره، ويرزقه القناعة والرضى وغنى النفس، ويبارك له في ماله وصحته وأولاده، وهذا هو الغِنى الحقيقي.
فالمذموم في الأحاديث من أكبّ على الدنيا يجمع حطامها، في انقطاع عن الآخرة، أما من كان له تجارة ناجحة، يسعى في نمائها، وهو مؤمن، يعمل الصالحات، غيرَ غافل عن أمر آخرته، قائماً بحق الله - تعالى - في ماله، فيخرج زكاته، ويتصدق في سبيل الله، فهو من الفريق الثاني الذي جعل الآخرة همه.(2/29)
وفي الحديث القدسي: " يا ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غنى.. " بيان أن على المسلم أن يفرغ قلبه من كل شوائب الشرك بالله - تعالى -، وأن يكون قلبه مملوءاً بتوحيد الله - تعالى -، وأن يحقق العبودية له - سبحانه -، فلا يعبد سواه، إذ هو وحده المعبود بحق؛ إليه وحده الإنابة، وفيه وحده الرجاء، وعليه وحده التوكل، كما أن له وحده نركع ونسجد، قال - تعالى -: ] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له[كما تشتمل العبودية أيضاً في معناها على كل ما يلزم العبد من مقتضى العبودية، من الحب والخضوع والخوف، والطاعة والانقياد، والتسليم، والاحتكام إلى شرعه، فإذا حقق العبد هذا، وانشغل بعبادة ربه عن الانشغال بجمع الدنيا، واكتفى بالسعي المعتدل في كسب قوته، وهو واثق من أن رزقه سيأتيه، إيماناً منه بالله الواحد الرزاق، ملأ الله - تعالى - صدره غنى وقناعة ورضى، وطيّب له حياته، وبارك له فيها، فإذا الضيقُ سَعة، والقليل كاف ومُشبع.
قال الطبري في تفسير قوله - تعالى -: ] من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيراً[ فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله فإن الله مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا، وجزاءه في الآخرة من العقاب والنكال، وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه كما قال في الآية الأخرى: ]من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون[. اهـ
ويقول ابن الجوزي في مواعظه: يا هذا! حب الدنيا أقتل من السمّ، وشرورُها أكثر من النمل. اهـ(2/30)
وعن قيس قال: سمعت مستورداً أخا بني فهر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يحيى بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع " رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: اضطجع النبي - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فأثر في جلده، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله لو كنتَ آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئا يقيك منه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ".
وعن سهل بن سعد قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها فقال: "أترون هذه هينة على صاحبها فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها قطرة أبدا" رواه ابن ماجة وهو صحيح.
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته فمر بجدي أسكّ ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسكّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ". ومعنى "والناس كنفته" أي أنهم أحاطوا به من كل جانب، ومعنى أسكّ: صغير الأذنين أو مقطوعهما.
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلما". وهو حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجة عنه، والدارمي من حديث كعب.(2/31)
وروى مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
وروى البخاري والترمذي وابن ماجة وأحمد عن ابن عمر قال أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي فقال: "يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور".
ففي هذه الأحاديث تحقير أمر الدنيا، وتهوين شأنها، بجانب شأن الآخرة، فنعيم الدنيا قليل، زائل، يشوبه الكدَر، إذا سرّ المرءَ فيها أمرٌ، ساءته أمور، أما نعيم الآخرة فسرور كله، لا نكد فيه، ولا أحزان، وقد بيّن حديث المستورد أن متاع الدنيا كله وزينتها وزخرفها، لا يساوي شيئاً في أمر الآخرة إلا مثل ما لو غمس أحد إصبعه في البحر، فلينظر كم أخذ الإصبع من ماء البحر؟! لا شيء!، فكذلك نسبة متاع الدنيا إلى متاع الآخرة، وهو مثل ضرب للاعتبار، ليعلم العاقل، كم هو مغبون مَن باع الباقية بالفانية.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسوة المثلى والقدوة العظمى في نظرته إلى الدنيا، فلم يركن إليها، ولا تعلق بها، بل كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - فيها كشأن الراكب المسافر، الذي استظل في طريقه تحت ظل شجرة، ثم قام يواصل سيره، فالدنيا أشبه بتلك الاستراحة العارضة، وكما أن المسافر ليس له همّ إلا الوصول إلى غايته، وهي منتهى سفره، فكذلك العاقل الموفق في الدنيا لا يتعلق بدنيا عارضة زائلة منشغلاً عن النعيم الخالد في الآخرة.(2/32)
ومن مثال الراكب إلى مثال الشاة الميتة يضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - تبييناً لحقارة الدنيا وهوانها على الله، يُنوِّع النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيان ليرفع عن هذه الحقيقة كلَّ شبهة، ويزيل عنها كل لبس؛ حرصاً منه - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الخير لأمته، وإنجائها من الوقوع في الغبن والخسارة. فكما لا يلتبس على أحد هوان الشاة الميتة ذات العيب على أصحابها، فكذلك لا ينبغي أن يلتبس على العاقل هوان الدنيا على الله.
فالدنيا ملعونة، أي أن ما كان من أمرها مقطوعَ الصلة بالله، والإيمان، والهُدى، والعلم النافع؛ الدال على الله؛ فهو مبعَدٌ عن الله؛ مطرود عن رحابه، لا يقدسه الله، ولا يأبه له.(2/33)
وفي حديث أبي هريرة: " الدنيا سجن المؤمن " بيان أن الدنيا للمؤمن ليست هي الدار التي يمرح فيها ويستريح، وليست هي الدار التي يُطلِق فيها العِنان لرغباته، ويمدّ عينيه لكل ما تشتهيه نفسه وتتمناه؛ فكما تُقَيد حرية السجين، تقيد شهواتُ المسلم عن كل حرام، حتى إذا انقضت الدنيا، انفك المسلم، وانطلق في الجنة، ينتقي من صنوف النعيم والمتعة ما يشاء، قال - تعالى -: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد)، وفي المقابل فالدنيا جنة الكافر، فلا دين له يحجزه عن الحرام، ولا أخلاق تكفه عن المعاصي؛ يحسب نفسه في جنة من كثرة تقلبه في متاع الدنيا، وهو أيضاً ليس عنده حرج أو خوف من الله - تعالى - يُنَغِّص عليه ما هو فيه، فشأنه كما قال الله - تعالى -: ]ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون[، ومن معاني الحديث أيضاً أن الدنيا للمؤمن كالسجن بالنسبة لما أعدّه الله له في الجنة من النعيم المقيم، كما أن الدنيا للكافر جنة بالنسبة لما ينتظره من العذاب والشقاء في الجحيم. ومع كل هذا البيان والوضوح، تأتي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بأن يكون في الدنيا كالغريب، أو عابر سبيل؛ يحثه على قصر الأمل في الدنيا، وألا ينبسط في متاعها، أو يتوسع في جمع حطامها، وأن يكون دائماً مستعداً للقاء الله - تعالى -، فإن من كان هذا حاله، اجتهد في الطاعة، وتجافى عن الدنيا، وأقبل على أمر الآخرة.
قال النووي في شرح حديث المستورد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما مثل الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع " (9/212): ومعناه: لا يعلق بها كثير شيء من الماء. ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها، وفناء لذاتها، ودوام الآخرة، ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر.(2/34)
ونقل القرطبي في تفسيره لقول الله - تعالى - من سورة الزخرف (ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون. وزخرفاً) هذه الأشعار في تهوين شأن الدنيا:
فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن *** إذاً لم يكن فيها معاشٌ لظالم
لقد جاع فيها الأنبياءُ كرامةً *** وقد شبعتْ فيها بطونُ البهائم
وقال آخر:
تمتَّعْ من الأيام إن كنتَ حازماً *** فإنك فيها بين ناهٍ وآمرِ
إذا أبقت الدنيا على المرء دينَه *** فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناحَ بعوضةٍ *** ولا وزنَ رقٍ من جناحٍ لطائر
فلم يرض بالدنيا ثواباً لمحسنٍ *** ولا رضي الدنيا عقاباً لكافر
وقال النووي في شرح مسلم (9/333) عند شرحه حديث "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " : معناه: أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله - تعالى - له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد. اهـ
وقال المناوي في فيض القدير (3/730): "لأنه ممنوع من شهواتها المحرمة فكأنه في سجن، والكافر عكسه فكأنه في جنة. "
وقال " سجن المؤمن " بالنسبة لما أُعدّ له في الآخرة من النعيم المقيم "وجنة للكافر" بالنسبة لما أمامه من عذاب الجحيم. اهـ
وقال في (3/733): الدنيا ملعونة ملعون ما فيها: يمكن أن يكون المراد بلعنها ملاذ شهواتها وجمع حطامها وما زين من حب النساء والبنين وقناطير الذهب والفضة وحب البقاء بها، فيكون قوله "ملعونة"، متروكة مبعدة متروك ما فيها واللعن الترك.
وقال: والدنيا ملعونة لأنها غرت النفوس بزهرتها ولذاتها وإمالتها عن العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أي ما يحبه الله في الدنيا.(2/35)
وفي قوله: "أو عالما أو متعلماً " قال: كأنه قيل: الدنيا مذمومة؛ لا يحمد مما فيها إلا ذكر الله وعالم ومتعلم، وكان حق الظاهر أن يكتفي بقوله "وما والاه" لاحتوائه على جميع الخيرات والفاضلات ومستحسنات الشرع لكنه خصص بعد التعميم دلالة على فضل العالم والمتعلم، وتفخيماً لشأنهما، وتنبيها على أن المعنى بالعالم والمتعلم العلماء بالله، الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج الجهلاء، وعالم لم يعمل بعلمه ومن يعمل عمل الفضول وما لا يتعلق بالدين، وفيه أن ذكر الله أفضل الأعمال ورأس كل عبادة والحديث من كنوز الحكم، وجوامع الكلم، لدلالته بالمنطوق على جميع الخلال الحميدة، وبالمفهوم على رذائلها القبيحة.
وقال: الدنيا مذمومة مبغوضة إليه - تعالى - إلا ما تعلق منها بدرء مفسدة أو جلب مصلحة، فالمرأة الصالحة يندفع بها مفسدة الوقوع في الزنا، والأمر بالمعروف جماع جلب المصالح، والذكر جماع العبادة ومنشور الولاية ومفتاح السعادة، والكل يبتغى به وجه الله - تعالى -. اهـ(2/36)
وفي حديث ابن عمر " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (11/234): قول الطيبي: ليست أو للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا مسكن يسكنه، ثم ترقى وأضرب عنه إلى عابر السبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة، ومن ثم عقبه بقوله " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.. الخ " وبقوله "وعدّ نفسك في أهل القبور " والمعنى استمر سائراً ولا تفتر، فإنك إن قصرت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله "وخذ من صحتك لمرضك " أي أن العمر لا يخلو عن صحة ومرض، فإذا كنت صحيحاً فسر سير القصد وزد عليه بقدر قوتك ما دامت فيك قوة بحيث تكون ما بك من تلك الزيادة قائما مقام ما لعله يفوت حالة المرض والضعف.
وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والاحتقار لها والقناعة فيها بالبُلغة.
وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.
وقال غيره: عابر السبيل هو المار على الطريق طالباً وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه. اهـ
كلمة لابد منها:
لكَم أضرّ بنا غياب الزهد عن حياتنا، فالزهد في الدنيا، من أهم المقومات في الصراع بين المسلمين وأعدائهم، وصمود الأمة في مواجهة المكائد والمؤامرات التي يتعرضون لها الآن، وإن من الغفلة القاتلة أن يظن المسلمون أن عدوهم غافل عنهم، فضلاً عن أن يتوهموا أنه صديق لهم، إلا إذا تصوروا أن الذئاب والنمور تصادق فرائسها.(2/37)
إن عدونا يرقب بحذر ويقظة وتنمُّر صحوةَ المسلمين، مع أن أصحاب الصحوة لم يسلموا من إيذاء بني جلدتهم وتضييق حكامهم، وإن عدونا يمد عينيه بطمع وشره واحتيال إلى ما تبقى في أيدينا من ثروات، فهو لا يرضى لنا عودة إلى ديننا تبعث فينا الحياة والقوة، وتفتح أعيننا على مصالحنا، كما لا يرضى للغافلين منا أن يهنؤوا بما في أيديهم من ثروات.
فهل نفيق الآن؟ ونزهد في الترف والدعة والراحة التي لا تثمر إلا الخنوع والضعف، ونعمل لنرد عن الأمة غائلة العدو، ونقطع أطماعه فينا؟ أم نبقى في ترفنا وترهُّلنا حتى تأكلنا الذئاب؟ اللهم رحماك.
إننا حين نرعي أسماعنا بأدب وتوقير واستجابة لآيات القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فنفْقه معنى الزهد، ونرغب بصدق في ما عند الله - تعالى -، نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق القوة والعزة والأمان.
وعندها يكون باستطاعتنا أن نقول بقوة ووضوح لأولياء أمورنا: هذا هو الطريق الصحيح، فامضوا معنا عليه، فلن نمضي بعد اليوم خلف من يقودنا إلى حتفنا، فلسنا قطعاناً من الدواب، بل نحن مسلمون كرام نبصر طريقنا على ضوء القرآن والسنة، ولله در أبي حامد الغزالي حيث يقول في هذا المعنى: ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر.
وفي طريق الزهد هذا تخرج أجيال قادرة على الجهاد، جديرة بالحياة...
شعبان 1420 هـ - ديسمبر (كانون الأول) 1999 م
http://www.alsunnah.org المصدر:
ــــــــــــــــــ
علو الهمة عند المسلمين
راجح الحنق(2/38)
في قرن وبضع قرن وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمة وعلماً، ونوراً وهداية، فراضوا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في أعالي آسيا، وصحراء أفريقيا، وسواحل أوروبا، وجعلوا دينهم وشرعتهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتحول لها الألسنة، وتحقق فيهم الأنموذج الفريد والمثال الأعلى للبشرية باعتبارهم "خير أمة أخرجت للناس" بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام ولا قوام، ولا علم ولا شريعة، ثم ماذا؟!
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي وجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل، مدفوعين بطاقة خارقة، وقوة دافعة، كانوا يدركون بكل دقة معالم الطريق كأن معهم "خارطة" مفصلة له، وكان الوقود الذي يتزودون به لبلوغ غايتهم هو القوة العلمية، إنها سر عظمة المسلمين وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: العلم، والإرادة.
فكيف بالمسلمين اليوم؟ ماذا يملكون من مقومات العظمة والتمكين في ظل التراجع الملموس في حياتنا، وذلك في معظم المجالات التي من أهمها مجال الريادة والسيادة على الأمم: مجال العلم، والمعرفة، والسلوك والتربية.
لقد ضعفت الهمم، وساد الجهل، وعشش الوهن، وانتفش الباطل وعلا صوته، وأصبح للظلم صولة وجولة، كل ذلك في غياب الهمم العالية، وضعف العلم والإرادة، فهل نسعى جاهدين إلى العلم والعمل، ورفع الهمم، وإعادة الأمة إلى قيادة العالم، وإلى الخيرية والكمال والمجد والسؤدد؟!! هل نسعى؟!
المصدر : http://www.islamselect.com
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في الذكر وتلاوة القرآن
مساعد البديوي
• الذكر زيّن الله به ألسنة الذاكرين.. كما زيّن بالنور أبصار الناظرين.
• قال الحسن البصري - رحمه الله -: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء:(2/39)
في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن.
• قال ذو النون - رحمه الله -: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته.
• لنا أحاديث من ذكراك تشغلنا *** عن الطعام وتلهينا عن الزاد
• الذكر يجمع على العبد ما تفرق من همته وعزيمته.. ويفرق ما اجتمع عليه من الهم والغم والذنوب والخطايا.. ويقرّب إليه الآخرة.. فلا يزال المرء يلهج بالذكر حتى كأنه حضرها.
• قيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن هل تحدّث نفسك بشيء؟
فقال: أو شيء أحب إلي من القرآن حتى أحدّث به نفسي.
• قيل لذي النون: ما الأنس؟ قال: العلم والقرآن.
• قال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين فأينما حلّوا منه حلّوا في رياض نضرة.
• قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا - عز وجل -، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذّها في الطاعات.
• كان مالك بن دينار يقول: يا حملة القرآن، إن القرآن ربيع قلب المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض.
• قال وهيب بن الورد: رحم الله أقواما كانوا إذا مرّوا بآية فيها ذكر للنار فكأنّ زفيرها في آذانهم.
• منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع.
• تلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيها اللسان والعقل والقلب فاللسان يصحّح الحروف، والعقل يفسر المعاني، والقلب يتعظ وينزجر ويتأثر.
فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ.
• قال عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
• قال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعمت به عشرين سنة.
• قال مالك بن دينار: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله.
• قال أبي المهلب: كان أبيّ بن كعب يختم القرآن في ثمان.
• قال ابن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.(2/40)
• عن إبراهيم قال: كان الأسود النخعي يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
• قال أبو إسحاق: إن أبا عبد الرحمن السلمي كان يُقرئ الناس في المسجد الأعظم أربعين سنة.
• وقال أبو عبد الرحمن السلمي: أقبلت على زيد بن ثابت فقرأت عليه القرآن ثلاث عشرة سنة.
• لله در أهل القرآن: كم أنسُوا بكتاب ربهم، وعلموه غيرهم.
• وما أحسن قول الشاعر:
جزى الله بالخيرات عنا أئمة *** لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا
• قال سلام بن أبي مطيع: كان قتادة بن دعامة يختم القرآن في سبع، فإذا جاء رمضان ختم كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة.
• قال الأوزاعي: كان حسان بن عطية إذا صلى العصر يذكر الله - تعالى - في المسجد حتى تغيب الشمس.
• قال الأعمش: كان يحيى من أحسن الناس قراءة، وكان إذا قرأ لم تحس في المسجد حركة، كأن ليس في المسجد أحد.
• عن ابن فضيل عن أبيه قال: كان أبو إسحاق السّبيعي يقرأ القرآن في كل ثلاث.
• قال الإمام النووي عن محمد بن عبدالله الأودي: متفق على إمامته وورعه وعبادته، قال لابنته حين بكت عند حضور موته: لا تبكي، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
• قال حسين الكرابيسي: بتّ مع الشافعي ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا تعوّذ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعا.
• يقول عبد الله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد بن حنبل: كان يقرأ القرآن كل يوم سبعا، يختم ذلك في كل سبعة أيام.
• قال الجنيد - رحمه الله -: العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك.
• قال زكريا بن دلوية: كان أحمد بن محمد القطان إذا جلس بين يدي الحجام ليحفي شاربه، يسبح، فيقول له الحجام: اسكت ساعة.. فيقول: اعمل أنت عملك.(2/41)
• قال محمد بن يحيى: مرّ أحمد بن حرب بصبيان يلعبون فقال أحدهم: أمسكوا فإن هذا أحمد الذي لا ينام الليل. فقبض على لحيته وقال: الصبيان يهابونك وأنت تنام؟ فأحيا الليل بعد ذلك حتى مات.
• قال الحافظ عمر البزار عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان قد عُرفت عادته: لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر، فلا يزال في ذكر الله.. هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس.
• قال فتح الموصلي - رحمه الله -: المحبّ لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يفتر عن ذكر الله طرفة عين.
• إذا نسي الناس العهود وأغفلوا *** فعهدك في قلبي وذكرك في فمي
• عالي الهمة.. ينظر إلى عظم أجر الذكر، فيداوم عليه.
• من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا.. فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة.
• ليس العجب من قوله ( فاذكروني) إنما العجب من قوله أذكركم.
• (فاذكروني) بالتذلل (أذكركم) بالتفضّل.
(فاذكروني) بالرهبة (أذكركم) بتحقيق الرغبة.
(فاذكروني) بالتعظبم (أذكركم) بالتكريم.
(فاذكروني) بترك الأخطاء (أذكركم) بأنواع العطاء.
• فيا نجيب القلب أسرع إلى نيل الدرجات
http://www.deen.ws المصدر:
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في الرضا عن الله تعالى
• الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل منهما ذروة سنام الإيمان.
• قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب - عز وجل -.
• قال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل، فيرضى به.
• قال ابن القيم: وطريق الرضا طريق مختصرة..قريبة جدا..موصلة إلى أجل غاية، ولكن فيها مشقة ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة.. وإنما عقبتها: همة عالية، ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله.
• قال الفضيل بن عياض: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا، لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.(2/42)
• وقيل: الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان.
• وقيل: هو ترك السخط.
• كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - رضي الله عنهما -: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
• وسئل أبو عثمان عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أسألك الرضا بعد القضاء) فقال: لأن الرضا قبل القضاء هو عزم على الرضا.. والرضا بعد القضاء هو الرضا.
• أرفع الرضا: الرضا بالله ربا.
• قال الهروي عن الرضا بالله ربا: وهو يصح بثلاثة شروط: أن يكون الله - عز وجل - أحب الأشياء إلى العبد، وأولى الأشياء بالتعظيم، وأحق الأشياء بالطاعة.
• مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره.
• قال الربيع علامة حب الله: كثرة ذكره.. وعلامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلانية.. وعلامة الشكر: الرضا بقدر الله والتسليم لقضائه.
• وفي وصية لقمان لابنه: أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت.
• قال بعضهم: من يتوكل على الله ويرض بقدر الله فقد أقام الإيمان وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير.
• قال أبو جعفر لرابعة: متى يكون العبد راضيا عن الله؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة. !!
• كان عمر بن عبد العزيز كثيرا ما يدعو: اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته.
• قال أبو معاوية الأسود في قوله (فلنحيينه حياة طيبة) قال: الرضا والقناعة.
• وكان الربيع يقول في شدة مرضه: ما أحببت أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
• قال الحسن: من رضي بما قسم الله له، وسعه وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه.
• قال سفيان في قوله (وبشر المخبتين): المطمئنين، الراضين بقضائه، والمستسلمين له.
• قال الفضيل بن عياض: إن لم تصبر على تقدير الله لم تصبر على تقدير نفسك.(2/43)
• قال حفص بن حميد: سألت عبد الله بن المبارك: ما الرضا؟ قال: الرضا: لا يتمنى خلاف حاله.
• قال محمد بن واسع: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء وهو عن الله راض.
• وقال أبو عبد الله البراثي: ومن وُهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات.
• قال ميمون بن مهران: من لم يرض بقضاء الله.. فليس لحمقه دواء.
• قال غيلان بن جرير: من أعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كفي.
• قال أبو العباس: الفرح في تدبير الله لنا، والشقاء كله في تدبيرنا.
• سئل أحدهم عن الرضا: فقال: أن ترضى به مدبرا ومختارا.. وترضى به قاسما ومعطيا ومانعا.. وترضاه إلهاً معبودا ورباً.
• العبد ذو ضجر والرب ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع في ما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللوم والشوم.
• قال بعض السلف: لو قرض لحمي بالمقاريض، كان أحب إلي من أن أقول شيئا قضاه الله: ليته لم يقضه.
• الله اجعلنا ممن رضيت عنهم ورضوا عنك.
22/11/1425
http://www.denana.com المصدر:
ــــــــــــــــــ
الهمة العالية
محمد العبدة
من أشد ما تصاب به أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذوي همم ضعيفة، وعزائم واهنة وتطلعات قاصرة، يرى أحدهم نفسه قزماً أمام المتغيرات الكبيرة، والتحولات التاريخية، فلا يفكر في التغيير، ولا البدء في مشاريع مستقبلية، ومَنْ هذا وصغه كيف يرجى له الشفاء إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى، ذلك أنه أسير تربية ذليلة، لم يقم يوماً يعمل مستقل أو بعمل تعاوني كبير، لم يتدرب يوماً على القيادة، فإذا فجأة أمر تقوقع وانزوى لأنه لا يملك الخبرة لإدارته.(2/44)
إن عدم الثقة بالنفس مرض يفتك بالدعوة ورجالها، فتعيش دهراً وهي لم تفعل شيئاً ذا بال، وحتى إذا ما واتتها الظروف التي يهيئها الله - سبحانه وتعالى - رحمة بعباده المؤمنين فإنها لا تقدم على اهتبالها، وذلك كله لعدم الثقة بالنفس، بل تصاب بالدوار إذا نظرت إلى ما هو مطلوب منها أو ما ينتظره الناس منها، ومن العجيب - والعجائب جمة - أن تتاح الفرصة أمام الدعوة فلا تقتنص، ثم لا يأتي مثلها إلا بعد دهر.
إن الخروج من المأزق له منافذ، ومنها أن أرض الله واسعة لمن يريد الانطلاق، ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة، والطاقات متوافرة ولكنها بحاجة إلى عزمة أكيدة وثقة بوعد الله، ولقد بعث الله موسى - عليه السلام - ليخرج قومه من الذل والاستعباد، إلى التمكين في الأرض، والاسترواح بشرع الله، ولكن نفوسهم كانت ضعيفة صغيرة، لا تستطيع حمل مثل هذا العمل العظيم، وذلك لما أنسوه من العبودية لفرعون وملئه، فتصاغرت نفوسهم وهانت عليهم حتى لم يعودوا يرون أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض.
بينما نجد أن العربي الذي تلقى من التربية النبوية المباشرة، والذي لم يتلوث بهاتيك المفاسد يحمل بين جوانحه من الآمال والطموحات ما يغريه على اقتحام الأهوال وجوب البحار لتبليغ هذا الدين.
لا بد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضالته وتشعره بأنه جزء صغير من آلة ضخمة، ومن عجلة تدور لا يستطيع الفكاك منها، لا بد أن يقتنع الفرد المسلم بأن عنده طاقات وقدرات يستطيع فيها القيام بأعمال كبيرة.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــــــــــ
بناء الهمة العالية
غادة العمودي
(1)(2/45)
تتشكل مسيرة الإنسان في حياته بحسب ((الهدف)) الذي تطمح نفسه لتحقيقه، والأهداف هي خطوط في دائرة أكبر تسمّى دائرة ((الاهتمامات))، ثم هناك دائرة ((الرسالة)) التي يحملها كل شخص منا؛ وإنما هي صورة لاعتقاده بأهمية مسعاه في تحقيق الإصلاح أو الإفساد في بيئته.
وبتجميع الدوائر وما فيها نستطيع أن نتوقع شريط حياة كاملة لإنسان ما، ليس في الدنيا الفانية فحسب؛ بل حتى في الآخرة الباقية. فمن الناس من لا يستطيع أن يبصر أبعد من موضع قدميه، فهذا سيخيفه اتساع مساحة الأرض التي عليه أن يضرب فجاجها، ويفجّر كنوزها ليحصد خيراتها.
ومنهم صنف آخر يظل متطلعا إلى تعانق الأرض والسماء، نَهِمًا للوصول إلى نقطة يجتمع فيها سلطان الدنيا، وهؤلاء هم أهل العلو والسيادة في الأرض " فحب العلو شيمة أهل المطامع! " ولكن هناك من يتجاوز مشهدية العالم المنظور لإيمانه بمبدأ " أن كل متغير فانٍ "، فنراه يقول بضرورة وجود عالَم آخر يكون أكثر سكينة، وأتمُّ نعيما من هذا العالم القريب!! فالأول هو مثال الشعوب " الجمهور العام " حيث غاية أمله ومنتهى سعيه؛ أن يقضي وطره من لقمة تقيمه، وثوب يستره، وبقيّة من هواء يتنفس منها في زحام الحياة الواقعة...وهذا ((عابد نفسه)). أما الثاني فهو ظامئ تقوده رغبته إلى انتهاب أسباب الدنيا بحق أو باطل، بخير أو شرّ إذ لديه من التعليلات والتبريرات ما يخرجه من دائرة التلاوم مع النفس أو المجتمع.. وهذا ((عابد دنيا)) أما الثالث فهو وريث النّبوات، ونسيم الحضارات، تلين الدنيا لفأس جدّه، وتزف الآخرة لصدق عزمه، تُعْمَرُ بعلمهم وسعيهم قلوبُ العباد وديارهم... وهذا ((عابد آخرة)).(2/46)
وقد اجتمعت النماذج الثلاثة في قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وقومه. قال - تعالى -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالمَيِنَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياَتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 46، 47]
{وَناَدَى فِرْعَوْنُ ِفي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِِِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المْلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنهثمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [الزخرف: 51 56].
فقوم فرعون ((المثال الأول: عابد نفسه)) حبسهم الخوف الفرعوني والطمع العاجل ودفع بهم إلى الانتكاس عن رؤية الحق في دعوة موسى - عليه السلام -، لذلك استحقوا أن يستخف بهم فرعون الأمس، وسيظلون ورقة رابحة في يد من يجيد التراقص على أمانيهم القريبة عبر شعارات زائفة تتضخم بها صناديق الانتخاب لهذا المرشح أو ذاك! وقد وصف علي بن أبي طالب هؤلاء فقال: " هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يميلونَ مَعَ كُلِّ ريحٍ، لم يَسْتَضيِئُوا بنورِ العلْمِ، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيقٍ ".
وهذا الذي وصفهم به أمير المؤمنين هو لعدم علمهم وظلمة قلوبهم، فليس لهم نور ولا بصيرة يفرِّقون به بين الحق والباطل بل كلٌّ عندهم سواء. الإفادة من مفتاح دار السعادة ابن القيم ص: 201(2/47)
أما فرعون ((المثال الثاني: عابد دنيا)) فهو رمزية كل مستكبر وطاغية، قد وصل جبروته إلى أن يقول: {أنا ربكم الأعلى} {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29].
وأبرز سيماء هذا الصنف رفضه لكل صوت يعيده لتواضع البشرية القاصرة، لأن رعونة الباطل في عقله تطغى على الانقياد لأي دعوة أو نصيحة.. لذا يقال بأن من يرفض النصيحة ففيه بعض من فرعون و كِبْرِه!! أما موسى - عليه السلام - ((المثال الثالث: عابد آخرة)).
ومن بعده من اتبع الحق أينما وجده، و هم الصنف الذين تتمثل فيهم الانتقالة القوية التي يعيشها الإنسان حال قبوله الحق، وسعيه لترسيخه في الأرض، ولو كلّفه ذلك بيع النفس في صفقة رابحة المشتري فيها هو الله - عز وجل -. وعنهم قال علي بن أبي طالب: " اللهمَّ بلى، لا تخلو الأرض من قائمٍ للهِ بحجةٍ، لكيلا تبطُلُ حججُ الله و بيِّناته، أولئك هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، بهم يَدْفَع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، يزرعونها في قلوب أشباههم، هَجَمَ بِهِم العِلْم على حقيقةِ الأمرِ، فاستلانوا ما استوعر منه المُتْرَفُون، وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلَّقة بالملإ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه ودعاته إلى دينه، هاه هاه! شوقا إلى رؤيتهم " [الإفادة ص: 195]
إنما يعلو الإنسان في رتبة وجوده أو يهبط بشرف ما يحمله من همّ وما يجول في نفسه من اهتمامات، ولقد سمّى الإسلام دائرة الاهتمامات بـ ((الهمّ)) وجعله فارقا للمَيْزِ بين سبيلين واضحين ((عابد الدنيا وعابد الآخرة)) جاء في الحديث بما في معناه أن من جعل الدنيا أكبر همه شتَّت الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولا يأتيه من الدنيا إلا ما قُدِّر له، ومن جعل الآخرة أكبر همه جمع الله غناه في قلبه وأتت الدنيا وهي راغمة!
(2)
وفي آلية بناء (الهمّ العالي) عمل الإسلام على انتهاج أساليب عدة منها:(2/48)
1- إعادة صياغة الفكر:
وذلك لأن الاهتمامات هي رموز الأفكار، والأفكار هي أولاد العقيدة، من هنا نتوسَّع في استقراء أسس بناء العقيدة من زوايا عدة.
2- إرساء حقيقة الحياة الدنيا في النفس:
قال - تعالى -: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد: 20].
بهذه الصورة تصبح الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه فيتخلص من عبودية المادة ويتحرر من الأنظمة الفكرية التي تقوم على أن الصراع على الثروات هو أساس الوجود.
3- تعميق الإيمان باليوم الآخر:
وتفعيل قانون الثواب والعقاب، بل وأكثر من ذلك حفز الأمل الإنساني على تحصيل أعلى الجنة، فهي درجات يتفاوت ساكنوها بالنعيم كما تفاوتوا في العمل {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاًّ وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 95 96].
جاء في الحديث (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدُّريّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضُلِ ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين) والغابر هو الذهب الماضي الذي قد تدلى للغروب [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص: 60]
4- تعميق النظرة إلى عواقب الأمور:(2/49)
فالحوادث الحاضرة ولحظات الضعف البشري ينبغي أن لا تكون المحضن الذي تنضج فيه اهتمامات الإنسان، فكم من شر باطنه الخير، وكم من خير ظاهر؛ باطنه شرّ دامس. {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]، {وَعْدَ الله لا يخلف الله وَعْدَه ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم 7، 6].
" ومن العجب أن هذا القسم من الناس، قد بلغ بكثير منهم من الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يُحيّر العقول ويُدهش الألباب، وأظهروا من العجائب الذرية والكهربائية، والمراكب البرية والبحرية، والهوائية، ما فاقوا به و برزوا، وأُعْجِبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزا عما أقدرهم الله عليه فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك، أَبْلَد الناس في أمر دينهم وأشدهم غفلة عن آخرتهم، وأقلّهم معرفة بالعواقب، ولو نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها، وما حرموا من العقل العالي لعرفوا أن الأمر لله والحكم له في عباده، وإن هو إلا توفيقه أو خذلانه، ولخافوا ربهم وسألوه أن يُتِمَّ لهم ما وهبهم من نور العقول والإيمان، حتى يصلوا إليه ويَحِلُّوا بساحته، وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبنيت عليه لأثمرت الرُّقي ّ العالي، والحياة الطيبة، ولكنها لمَّا بُنِي كثير منها على الإلحاد، لم تُثْمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدبير " [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: ابن سعدي، سورة الروم]
يقول الشافعي:
أحسنت ظنَّك بالأيام إذ حسنت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ
وسالمتك الليالي فاغتررت بها *** وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ
5- التربية على معالي الأمور والبعد عن سفاسفها:(2/50)
لذا حثَّ الإسلام على مكارم الأخلاق وأهمها الحلم، لأن حسن الخلق هو هيئة باطنة للنفس تشعُّ أضواؤها على العقل والروح. كما حثّ عل مجاهدة النفس والترفع عن نوازع الشهوة والغريزة.. إذ كل ذلك مثبطات يتخبط الإنسان تحت وطأتها عن تبصُّر حقيقة الأمر وترتيب أولوياته، (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)، وقال - تعالى -: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك).
وقال بعض العلماء: " الناس رجلان فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه و لا تكلِّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما مسيء فَمُرْهُ بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده " [ابن كثير تفسير القرآن العظيم: ج2: الأعراف: 199].
هذه هي الأطر العامة التي عمل الإسلام على صياغة الفكر الإنساني على أسسها ويتبقّى هناك تفصيلات تستقل أو تنضوي تحت ألوية هذا العام.
(3)
كيف نعلي هممنا؟!
1- وضوح الهدف:
ففي ظل الضبابية للهدف وانعدام الغاية تتسلل إلى الإنسان من شواغل الدنيا ما يهدر معه العمر دون فائدة.
" الفوز يبدأ من البداية، هناك أناس يبدون دائما مرتبكين، حيث يمشون في طريق ثم يتركونه ويتجهون إلى طريق آخر يجربون شيئا ثم يتحولون إلى غيره، يسلكون طريقا ثم يتجهون إلى الاتجاه المضاد! إن مشكلتهم بسيطة فهم لا يعرفون ماذا يريدون، باختصار لا يمكنك التصويب تجاه هدف إذا لم تكن تعرف أي هو بالضبط " أنتوني روبنز، قدرات غير محدودة، ص: 271
2- سمو الرسالة:
التي يحملها المُكلَّف وسمو الرسالة يأتي من عميق النظرة إلى حاجة الإنسان والمجتمع إلى الصلاح، ولابد للرسالة من يقين يكون زادا قويا لصاحبها يصبّره على جلد العواقب.
3- ترتيب الأولويات:(2/51)
وهي إعادة النظر من حين لآخر بسلُّم المشكلات وإعادة تصنيف هذه المشكلات وترتيب الأولويات حماية للجهد. والأولويات تبدأ من المستوى العقدي ثم التشريعي، وحتى تنتهي إلى المعاملات والواجبات اليومية، وفي فقه الأولويات على الإنسان أن يختار دائما ما هي أقوى الخطوات وأسرعها للوصول إلى هدفه ليبدأ به.
4- المعرفة:
الثقافة والاطلاع وقيام الحكم والتصور الذاتي على أساس المعرفة والعلم هو أصوب السبل وأعمقها نفعا في بناء أفق واسع من الاهتمامات، فالله عزوجل حين أراد لآدم - عليه السلام - أن يكون خليفته في الأرض حمَّله أول ما حمَّله العلم والمعرفة. قال - تعالى -: {وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة 31]
فظهرت مكانة آدم على الملائكة بالعلم الذي علمه الله إياه.
5- تنمية العلاقات الاجتماعية المحمودة:
فالحياة أكبر مدرسة يرتادها البشر من كل الألوان والأجناس والأعمار، وعلى المريد المحنَّك أن يكون صيرفيا ناقدا في اختيار وتمحيص النماذج الإنسانية التي يصادفها لأن كل شخص هو تجربة كاملة قائمة بذاتها تفاعلت في تشكيلها عوامل متفرقة حتى انتصب أمامك بما فيه من الورد والشوك.
يقول دايل كارنجي: " تعلَّم الاختلاط بجميع أنواع الناس، وواظب على الاحتكاك المستمر بهم، إلى أن تتمهَّد الأجزاء غير المتساوية من عقلك، وهذا مالا تستطيع أن تفعله إذا كنت في عزلتك " متعة الحديث ص: 35
6- الاستقلالية الفكرية:
فرق بين أن تصحب الحياة؛و أن تصحبك هي!! فأنت في الأولى محافظا على تفردك الخُلُقي ونسيجك النفسي، في حين أنك في الثانية منصهر في أطياف الحياة المتشاكسة، فتضطر للتخلص من رداء ذاتك المميز!!(2/52)
هذا المعنى هو ما عناه الحديث الشريف حين رفض بقوة مبدأ ((التبعية الفكرية)) بما في معناه لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطِّن نفسك على أن تحسن سواء أحسن الناس أم أساؤوا.
" إن خروج الإنسان على سجاياه، وانفصاله عن طباعه العقلية والنفسية التي لا عوج فيها، أمر يُفْسِد على الإنسان حياته ويثير الاضطراب في سلوكه.. قال - تعالى -{ولكلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات، أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا، إن الله على كل شيء قدير} [البقرة 148]، يريد - سبحانه - أن يقرر لكل إنسان حقّه في اختيار الوجهة التي يريدها لخدمة نفسه وقومه، أي حقه في أن يعيش حرا في نطاق المجتمع الصالح المتكافل، إذ يجب أن يكون هذا الاتجاه من نبع فؤاده ووحي ضميره ووجدانه، والله - سبحانه - يقول {هو مولِّيها} أي لكل إنسان وجهة هو الذي يتولى بنفسه التوجه إليها، أو هو الذي يولِّي وجهه ونفسه نحوها، فإذا حملناه على غير طبيعته، فقد حملناه على الرَّهق، وأدخلنا التشويش على عوامله النفسية المؤتلفة، وذلك أيضا من تغيير خلق الله " [الغزالي جدد حياتك، ص: 151]
وقال العالم النفساني ((وليم جيمس)): " لو قسنا أنفسنا بما يجب أن تكون عليه لاتَّضح لنا أننا أنصاف أحياء، ذلك أننا لا نستخدم إلا جانباً يسيراً من مواردنا الجسمانية والذهينة، أو بمعنى آخر أن الواحد منا يعيش في حدود ضيِّقة يصنعها داخل حدوده الحقيقية، فإنه يمتلك قوى كثيرة مختلفة، ولكنه لا يفطن إليها عادة، أو يخفق في استغلالها كلها ".
وقال كارنيجي: " إنك شيء فريد في هذا العالم، إنك نسيج وحدك، فلا الأرض منذ خلقت رأت شخصا يشبهك تمام الشبه، ولاهي في العصور المقبلة سوف ترى شخصا يشبهك تمام الشبه " [جدد حياتك: 147](2/53)
إن كل المبادئ والبرمجيات التي تنتظم في تغيير سلوكيات الإنسان إنما تعتمد على نقطة ضوء واحدة: وهي أن يعود الإنسان لنفسه ليكتشف سر تميّزه الفطري، ومن هذا السِّر تبدأ عملية التفكيك وإعادة التشكيل للذَّات أولا ثم للمجتمع ثانيا. يقول السباعي - رحمه الله -: " لا ينمو العقل إلا بثلاث: إدامة التفكير، ومطالعة كتب المفكرين، واليقظة لتجارب الحياة ".
24-07-2005
http://islameiat.com المصدر:
ــــــــــــــــــ
الهمة العالية بعد رمضان
د. قذلة بنت محمد بن عبد الله القحطاني
كم أثلج صدري رؤية المصلين في شهر رمضان المبارك وهم يتدفقون أمواجاً إلى المساجد سواءً فلي الحرمين الشريفين أو غيرهما من المساجد بإقبال وخشوع لأداء الصلوات والتراويح والقيام مما فاق السنوات الماضية، وهذا كان شاملاً لجميع فئات المجتمع رجالاً ونساءً شباباً وشيباً بل وأطفالاً، مما جعلني أشعر بعظم هذا الدين وأنه مهما كان الأعداء ومكر الخبثاء فإن دين الله منتصر وأن هذه الأمة لا تزال متمسكة بدينها وعقيدتها وإن بدر التسيب والتعطيل لبعض شعائره..
بل إن المحن والمصائب والحرب المعلنة على الثوابت والقيم في بلاد المسلمين قد جعلت الباطل ينصهر في بوتقة الحق والنور الإلهي، بل وينكشف دعاته ومروجيه..الذين تآمروا على طمس الهدى.. وتتداعوا على المسلمين كما تتداعى الأكله قصعتها!!
فقد كنت ألمس عقيدة الولاء والبراء تنساب مع كل لفظ (آمين) يردده المصلون خلف إمامهم كلما ارتفعت نبرات صوته العذب بالدعاء للمسلمين في كل مكان.
ولقد كان يوحي إليَّ وقوف المسلمات في صفِّ واحد وهن بحجابهن وخمارهن إلى خيبة دعاة التبرج والسفور، ويوحي بأن هذا اللباس (الذي يسميه لبعض تخلف ورجعية!!) ليس مجرد عادة توارثتها الأجيال بل هو عقيدة تختلج مع كل نبضة عرق..(2/54)
كما أن مظاهر صدق الأخوة والمحبة والصدق والمنافسة الشريفة في الأعمال الفاضلة وسمة البذل والجود والعطاء التي تجلت لنا في هذا الشهر المبارك لتعكس ما عند المجتمع من همة عالية وسمو أخلاقي جدير أن يستمر بعد رمضان ويصبح سلوك عملي ومنهج دائم طوال العام يجعلنا نعيش مجتمع مثالي تسوده القيم والهمم العالية، وتتجلى فيه صدق النصيحة والشعور بالمسئولية والمحافظة على المجتمع أن يخرقها السفهاء ومن يعلن انتمائه لهذا الوطن وإن ظهر بمظهرهم وتحدث بلسانهم وادعى الإصلاح.. !!
إن أصحاب الهمم العالية عامهم كله رمضان يقول في شأنهم ابن الجوزي - رحمه الله - أقوامٌ ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، يثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبةً وهم لها سابقون».
وفي رعاية هذه الهمم والسمو بها يقول - رحمه الله - " فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي في صعود السماوات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن. وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصَّلها؛ فإن القنوع حالة الأرذال.
فكن رجلاً رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها" اهـ.
فالأمل إذن معقود على ذوي الهمم العالية لتوجيه الطاقات وتفعليها لأن صاحب الهمة لا يطلب الراحة وليست من أهدافه بل راحته في طلب المعالي، وإن شق ذلك على النفس.
كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فهو يبذل راحته ووقته لصناعة الحياة والوصول إلى القمة وجنة عرضها السماوات والأرض.. وينقذ معه آخرين ويسعى للسعادة في الدارين بعد أن كاد يجرفهم سيل التخريب والإفساد فيصبحوا قطعاناً تعشق الملذات وتخلد للراحة.. !!(2/55)
ولنا في جيل الصاحبة رضوان الله - تعالى -عليهم أكبر قدوة حيث تحولوا في زمن يسير من مجتمع بهيمي يقتل بعضه بعضاً ويأكل الميتة ويشرب الخمر إلى مجتمع رباني ساد العالم ونشر الإسلام والعدالة في سائر أقطار الدنيا!!
06-شوال-1426 هـ 07-نوفمبر-2005
http://www.lahaonline.com
ــــــــــــــــــ
علو الهمة 1
ما هو علو الهمة؟ وكيف كانت الهمة عالية لدى الأنبياء والسلف الصالح؟ وكيف تكون الهمة عالية فى طلب العلم والجود والكرم؟ وأخيرا كيف نعلم أولادنا الهمة العالية؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نريد من فضيلتكم توضيح معنى الهمة؟
الإرادة تبدأ بالهم، وتنتهي بالهمة. إنسان عالي الهمة أي وصل إلى نهاية ما يريد. يقال: الملك الهمّام: هو الملك العظيم الذي إذا أراد شيئاً أمكنه فعله، فالهمة منتهى الإرادة، والإنسان لا يصل إلى درجة عالية من الإيمان إلا إذا كان عالي الهمة. ولكن هناك أيضاً همة عند الكافر يكون مخلصاً في كفره. قالوا: المخلص في كفره ينتصر على المزيف إيمانه.
يذكر أن إيزابيل بنت خوان ملك قنستالة نذرت ألا تخلع قميصها الداخلي حتى تتحرر قنستالة وتعود (غرناطة) من أيدي المسلمين فظلت كذلك 30 عاماً ويسمى (قميص إيزابيل العتيق). همة عالية في العداء للمسلمين. وكانت ترهن مجوهراتها لتمويل الجنود، وهي التي مولت رحلة كريستوف كولومبوس لاستكشاف أمريكا.
يقول محمد إقبال: (المؤمن الضعيف يتعلل بالقضاء والقدر، والمؤمن القوي هو قضاء الله وقدره في الأرض). فالهجرة همة في أعلى مراتبها، حيث نجد في كل عنصر من عناصر الهجرة وأشخاصها أكبر همة.
ناهيك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنجده وهو مطارد مخرج يَعد "سراقة " بسواري كسرى.
سيدنا إبراهيم(2/56)
قدّم نفسه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان فمدحه الرحمن "وإبراهيم الذي وفى.. " وهمته في رفع القواعد لم يطلب من يعينه وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.
ابدأ بما عندك من أسباب ورب الأسباب سوف يسبب الأسباب هذه همة اليقين.
وسيدنا ابراهيم منع عنه النمرود الطعام والشراب ومنع الناس أن يتعاملوا معه ببيع أو شراء. فخرج لإحضار طعام للسيدة سارة فلم يبيعوه فوضع رملاً في كيس كي لا يفجعها بدخوله عليها بدون شيء وعاد للبيت ووضع الكيس ونام. فأيقظته زوجته: قم إلى الطعام. فتعجب: من أين؟، قالت: من الدقيق الذي في الكيس. فالنمرود يمنع ولكن رب السماء لا يمنع " وفي السماء رزقكم ... "
سيدنا زكريا
دعا زكريا ربه هنالك للتعبد مع أن المحراب قريب وهو قريب والله قريب ولكن قال هنالك للدلالة على بعد الأمنية وصعوبتها. فهو بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر. لكن رب الأسباب يقرب كل بعيد كلّ من كد يمينك وعرق جبينك فإن ضعُف يقينك فاسأل الله أن يعينك. فاليقين يضعف، ولكن صاحب الهمة العالية مرتبط بالله فيقوى.
سيدنا يوسف
قال - تعالى –عنه - " إنه من عبادنا المخلصين" فلا يستطيع الشيطان أن يدخل عليه. حيث قال: " إلا عبادك منهم المخلصين". فالهم من يوسف هم اجتناب وبُعد.
كان ابن القيم يقول: اخلصي تتخلصي. تخلّص في طعامك وشرابك وعملك وعبادتك، يُخلصك من الذنوب إن الله يدافع عن الذين آمنوا. وأول ما يدفع عنهم: الذنوب والمعاصي لأنهم لا يغفلون عن ذكر الله. سيدنا يوسف عندما ألقي في الجب، التقطته يد جبريل. فإذا أردت أن تعرف مقامك عند الله تعرف إلى مقام الله عندك. فإذا كان الله - سبحانه - ودينه يساوي كل شيء عندك فأنت كل شيء عند الله - سبحانه -.
سيدنا موسى(2/57)
هو من أولي العزم، وكان عالي الهمة ولكنه كان غضوباً وصوته حاد حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة العروج سمع صوتاً عاليا. فسأل: من صاحب هذا الصوت؟ قالوا: موسى قال: ولما يرفع صوته؟، قالوا: علم الله منه هذه الصفة فقبلها. ولكنه مع ذلك: عندما قال له قومه إنا لمدركون. رد بكل ثقة: كلا إن معي ربي سيهدين.
السيدة عائشة
تقرأ قوله - تعالى - في سورة فاطر " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " فنقول: أما السابق فالذين عاشوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما المقتصد فالذين تبعوا هؤلاء الصحابة، وأما الظالم فأمثالي وأمثالكم فهذا التواضع من علو الهمة. وأكبر مثال للتواضع وعلو الهمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
كيف تكون الهمة في طلب العلم؟
كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب العلم ويحض على طلبه، وسيدنا موسى وهو يتعلم من الخضر ويتواضع له وهو كليم الله. وهو خالف الخضر في أمور ثلاثة فقال الخضر: هذا فراق بيني وبينك. وأنتَ؟ أما تخاف يا عبد الله أنك تخالف الله في اليوم ثلاثين وربما 300 مرة. ألا تخشى أن يقال لك "هذا فراق بيني وبينك".
ثم أوحي إلى موسى: يا موسى ما الذي تعجبت منه من أمر الخضر
قال موسى: أمر السفينة والغلام والجدار
قال - تعالى -: يا كليم هذه أمور حدثت لك
أما خوفك من الغرق: فقد أمرنا أمك فألقتك في اليم فمن كان يحميك؟
قال: أنت يا رب
قال - تعالى -: أأحميك صغيراً وأولي عنك حمايتي كبيراً
اعترضت على قتل الولد وأنت قتلت رجلاً بغير ذنب
أما الجدار فعندما سقيت للبنين ثم توليت فجاءتك إحداهما تمشي على استحياء. فالذي أرسل لك أحداهما هو نفسه الذي أرسلكما للغلامين لبناء الجدار.(2/58)
قيل فسأل رجل سيدنا موسى: أطعت ربي عشرين سنة ثم عصيته عشرين سنة. وأريد أن أعود فهل يقبلني؟ فأوحى الله إليه: قل لعبدي أطعتنا ... ... . فأحببناك، وعصيتنا ... ... .. فأمهلناك، ولو عدت إلينا على ما كان منك ... ... قبلناك. وهذا من كرمه - سبحانه - تعالى -.
معاذ بن جبل مات وعمره 30 سنة ولكنه يرفع راية العلماء يوم القيامة (العلماء العاملون) كان إذا حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لا ينساه.
جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ (يقصد حسن الذكر). فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - : فماذا تقول: لم يقل له: الناس مقامات والجنة درجات قال: أقول: اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من سخطك والنار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فحولهما ندندن.
عبد الملك بن مروان أوصى أولاده بطلب العلم فقال: إن كنت فقيراً أعطاك (العلم) المال وإن كنت غنياً أعطاك الكمال.
كيف تكون الهمة العالية في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
سيدنا إبراهيم الخليل كيف دعا أباه: يا أبت... يا أبت
لقمان مع ابنه: يا بني ... كلام حنون
بينما نجد اليوم الكلام القاسي: أنت.. أنت يا من فعلت كذا...........
ما هو فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أن أكون عالماً فيما أمر عالماً فيما أنهى.
أن أكون رفيقاً بمن أمر.
أن أكون عاملاً بما أمر عاملاً لما أنهى.
وإذا ترتب على المنكر منكر توقف الإنسان ولم ينه.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأهل: سلوك فلا يقال لأب لا يصلي: صل، بل: أنا ذاهب للصلاة في المسجد أتريد شيئاً، فهذا أمر بالمعروف(2/59)
يذكر أنه في زمن أبي جعفر المنصور، دخل عليه رجل مجوسي يدعي الإيمان. فقال: إن رائحة الطائفين حول الكعبة تزعج البعض فلو وضعت على ظهر الكعبة بخوراً وناراً لإن هبت الريح شم الناس ريحاً طيباً. فأمر الخليفة بفعل ذلك. وهذه قضية المجوس: الطواف وعبادة النار. فبلغ ذلك العالم يزيد بن النقاش، فقال: انشروا بين الناس أني ذاهب للحج.
فقال أبو جعفر: نذهب معه لنتعلم منه، فتواعد كلاهما أن يلتقيا في التنعيم ليلقى أبو اليزيد درساً في مناسك الحج. فاجتمع الناس وفيهم أبو جعفر. فقال أبو اليزيد: "إذا قلت أما بعد، استوقفني. وأحمد الخليفة، أنه فعل كذا وكذا، حتى إنه وضع البخور على ظهر الكعبة. فبدأ أبو اليزيد حديثه، فحمد الله ثم قال: أما بعد. فاستوقفه المريد وقال ما أمره به أبو اليزيد.
فقال أبو اليزيد: إخسأ يا هذا أأنت أفقه من أمير المؤمنين؟ أمير المؤمنين أفقه مني ومنك وأعلم بكتاب الله مني ومنك. كيف تتدعي على أمير المؤمنين كذباً أنه يفعل كما تفعل المجوس نطوف حول النار. وانفعل أبو اليزيد حتى قال أمير المؤمنين لأحدهم: اذهب بسرعة وانزل البخور وأطفؤوا النيران. فانتهى الأمر بأدب، دون تجريح لأحد.
كيف نعلي في هممنا في مسألة الجود والكرم؟
الهمة العالية لإخفاء الجود والكرم وستره
يحكى أنه في الكوفة وعلى مدى 40 عاماً. كانت بيوت الفقراء تجد كل يوم صباحاً: الماء والكساء والطعام أمام بيوتها، فلا يعرفون صاحبها. حتى توفي علي بن زين العابدين بن الحسين، وأثناء تغسيله، وجدوا آثار الحبال على أكتافه من حمل أكياس الطعام.
وأفضل الجود: الجود المعنوي، الجود في العلم، الجود في الخدمة أن يجود الحليم بحلمه، وأن يجود الأب برعايته، والمرأة صمام الأمان في البيت، تمتص الغضب في البيت.
كيف نعلي همة الأولاد؟
بذكر الرموز بذكر الصالحين أمثال: السيدة أسماء كيف كانت وهي صغيرة، وهي شابة السيدة عائشة.(2/60)
عبد الله بن الزبير لم يوسّع لُعمر بن الخطاب في الشارع وغيره وسّع فقال ليست الطريق ضيقة حتى أوسع لك ولست نياً حتى أخاف منك. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين..
http://www.abdelkafy.com
ــــــــــــــــــ
الهمة العالية
تشربت حب الدعوة إلى الله - تعالى -..هي كالدم تجري في عروقي..لا أستطيع أن أتناسى ذلك أو أنساه.. نعم.. أنا امرأة ضعيفة كما أعلم من نفسي ويشير إلي كثير من الناس.. بل أنا امرأة من جنس النساء لكنني كنت أعلم أن من أساسيات النجاح في الدعوة التوكل على الله..
كنت أتأمل قول ابن القيم - رحمه الله تعالى -.. وهو يتكلم عن أرفع مقامات التوكل حيث يقول:
أرفع مقامات التوكل: التوكل على الله في الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -، وهو توكل الأنبياء والصالحين ومن سار على نهجهم من الدعاة والمصلحين..
فقلت في نفسي: حسبي الله ونعم الوكيل.
كنت أتأمل أمر الله - تعالى -لمريم - عليها السلام - في قوله - تعالى -: ((وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)) (مريم: 25).
فقلت في نفسي: سبحان الله كيف لمريم - عليها السلام -.. وهي المرأة الضعيفة كحالي.. بل هي منهكة في أضعف أحوالها في حالة مخاض لا تستطيع الحراك.. يأمرها الله - تعالى -أن تهز النخلة.. وهي قلقة مضطربة.. وتهز النخلة..
سبحان الله!! النخلة التي هي من أصلب الأشجار وجذوعها.. من أقوى الأخشاب.. ومع ذلك جاءها الأمر الإلهي بأن تهز النخلة اتخاذاً للأسباب فتأتي النتيجة وهي تساقط الرطب..
حينها علمت أن عليَّ فعل الأسباب والتوكل على الله.. والذي هيأ لمريم - عليها السلام - أن يتساقط عليها ذلك الرطب.. فسيهيئ الله لي ثمرة دعوتي إن شاء الله.. ولعل الله - سبحانه وتعالى - بحكمته وإرادته أراد أن يمتحن صبري في ذلك.. ليتحول هذا الأمر من واقع نظري إلى واقع عملي..(2/61)
تزوجت بحمد الله - تعالى -.. وانتقلت مع زوجي إلى عمله خارج المملكة.. وحملت معي هم الدعوة في أول أيامي هناك..
مع ظروف الحياة الزوجية.. وغربة الأهل والديار وفقد الوالدين والرحم.. انقلبت حياتي رأساً على عقب.. فتذكرت حينها غربة إبراهيم في قومه.. ويوسف في السجن.. ومحمد - عليه الصلاة والسلام - وهو يهاجر من مكة إلى المدينة..
ومما زاد الطين بلة أن زوجي قد حكم علي ألا أخرج من المنزل.. فعرضت عليه أن أجمع نساء الحي في منزلي.. فوافق مشكوراً على ذلك.. فاتصلت عليهن فجمعت النساء في منزلي وقد كنا من الجاليات المسلمة.. كان العدد لا يتجاوز الأربع.. استضفتهن في بيتي.. مع الحفاوة والتكريم.. ووالله الذي لا إله إلا هو ما أردت من خلال ذلك إلا للدعوة إلى الله - تعالى -..
اقترحت عليهن بعد اجتماعين أو ثلاثة.. أن نتلو شيئا من كتاب الله - تعالى -.. وافقن على ذلك.. ويتبع ذلك إلقاء درس تربوي.. زاد العدد بحمد الله - تعالى -على مراحل.. حتى استقر على أربعين امرأة..
حان وقت العودة إلى بلدي.. وقد كنت قبل ذلك أبذل غاية جهدي في تعليمهن وتربيتهن بحمد الله - سبحانه وتعالى -.. ووالله الذي لا إله إلا هو لما حان وقت العودة إلى بلدي لم آسى على شي في ذلك البلد الذي يعج بالفضائح والمنكرات إلا على هذا الدرس.. ودعتهن على أمل العودة.. حتى لا يتفككن وتضعف همتهن.. وقد كنت أعلم أني لن أعود..
عينت واحدة من الأخوات على هذا الدرس.. فكانت تُسمّع لهن ما يطلب حفظه.. وأكون وأنا في بلدي قد أعددت الدرس ثم أرسله بالفاكس.. لتقوم هذه الأخت بقراءته على الأخوات.. مع قيامي بالاتصال عليهن بين الفينة والأخرى.. لأطمئن على حفظهن.. وإن كان هذا قد كلفني بعض الأعباء المالية ولكن ذلك يهون في سبيل الدعوة إلى الله - تعالى -..(2/62)
وقد مكثت على هذه الحال بحمد الله - تعالى -ما يقرب من سنتين.. أحمل لهذا الدرس هما عظيما.. وأنا أتصور حال أولئك النسوة وما يعشن فيه من فتنة لا يعلمها إلا الله - سبحانه وتعالى -..
ومما زاد همي وغمي أن الأخت القائمة عليهن هناك اعتذرت على المواصلة لظروفها.. فأصابني والله من الهم ما الله به عليم.. ولكن الله - تعالى -قريب ممن دعاه.. لجأت إلى الله - تعالى -أن يقيّض لي سبباً كما قيّضه لمريم - عليها السلام -..
حتى جاء الفرج من الله - تعالى -بافتتاح مركز إسلامي في ذلك البلد.. ولحاجة هذا المركز إلى نساء اتصلت علي القائمة على المركز وهي من الأخوات الفاضلات تطلب مني ضمهن إلى المركز.. فكان كذلك بحمد الله - تعالى -..
وهكذا انتقل الدرس.. من درس في بيت إلى منهج في مركز.. وما زال إلى الآن بحمد الله - تعالى -يسير من حسن إلى أحسن.. بل ما زلت بحمد الله على اتصال بهن حتى هذه اللحظة..
ومن هنا يتضح أن من يبتعد عن الدعوة.. ويتخاذل عن التقديم والعمل للدعوة.. ويُبعد نفسه حتى من صفوف المستقيمين المصلحين.. إنما ذلك هو عجز وخور.. وضعف وتواضع مصطنع..
فالدين لمن خدم الدين..
فعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس على المرء أن تتم المقاصد.
منا النداء وعلى الله البلاغ، وعلى الديك الصياح وليس عليه أن يطلع الصباح..
وهو أولا وآخراً، تشبهاً بالدعاة والمصلحين عسى الله أن يجعلنا منهم:((ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
http://www.islamlight.net المصدر:
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في الخوف والرجاء
محمد الجهني
نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يُعيرك عينهُ تبكي بها *** أرأيت عيناً للدموع تُعارً؟
سيد الخائفين رسول الله صلي الله عليه وسلم
عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله، قد شبت! قال: شيبتني هود وأخواتها.(2/63)
آدم و دواد - عليهما السلام -: قال علقمة بن مرثد: لو عدل بكاء أهل الأرض ببكاء داود ما عدله، ولو عدل بكاء أهل الأرض ببكاء آدم حين أهبط إلى الأرض ما عدله.
وقال ثاب البناني: ما شرب داود شراباً بعد المغفرة إلا ونصفة ممزوج بدموع عينه.
قال أويس القرني: (كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم) وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، حفرت الدموع خطين أسودين في وجهه. فقلي بربك: كيف تحفر الدموع مجرى في اللحم.
أبو عبيدة بن الجراح..قال قتادة: قال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كنت كبشاً فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي.
عبد الله بن عمر بن العاص.... يقول: ((لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار)).
الربيع بن خثيم..... لما رأت أم الربيع بن خثيم ما يلقي الربيع من البكاء والسهر نادته..
فقالت: يا بني لعللك قتلت قتيلآً؟
فقال: نعم يا والدة قتلت قتيلاً...
فقالت: ومن هذا القتيل يا بني نتحمل عن أهله فيعفوك والله لو علموا ما تلقي من البكاء والسهر لقد رحموك؟
فيقول: يا والدتي هي نفسي.
الحسن البصري.... قال يونس بن عبيد: ما رأيت أحد أطول حزناً من الحسن، كان يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً.
قال الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً ولا يسعه غير ذلك لأنة بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك.
طاووس.... كان ((طاووس)) يفرش له الفراش فيضطجع ويتقلب كما تتقلي الحبة في المقلى ثم يقوم ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طير ذكر جهنم نوم الخائفيين.
سفيان الثورى.... قال يوسف بن سباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
عبد الله ابن المبارك.... قال رحمة الله: من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيراً ثم لا يبالي ولا يحزن عليه.(2/64)
الفضيل بن عياض... قال رحمة الله: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله أنيسه، وبكى على خطيئته.
علي بن الفضيل..... قال الفضيل بن عياض: بكى علي ابني، فقلت: يا بني، ما يبكيك؟ قال: أخاف ألا تجمعنا القيامة.
العلاء بن زياد... قال قتادة: كان العلاء قد بكى حتى غشي بصره وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلم جهشه البكاء، وكان أبوة قد بكى حتى عمي.
الترمذي... قال عمر بن علك: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم، والحفظ، والورع، والزهد، بكى حتى عمي، وبقى ضريراً سنين.
قال حوشب لمالك بن دينار: رأيت كأن مناديناً ينادى: الرحيل الرحيل، فما ارتحل إلا محمد بن واسع. فبكى مالك وخر مغشياً عليه.
الشافعي.... قال سويد بن سعيد: كنت عند سفيان، فجاء الشافعي فسلم وجلس، فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً، فغشي على الشافعي: فقيل: يا أبا محمد، مات محمد بن إدريس. فقال ابن عيينة إن كان مات، فقد مات أفضل أهل زمانه.
عمر بن عبد العزيز..... قال النضر بن عربي: دخلت على عمر بن عبد العزيز، فكان ينتفض أبدًا، كأن عليه حزن الخلق.
وعن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة.. قال شهدت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن قيس يحدثه، فرأيت عمر يبكي حتى اختلفت أضلاعه.
قال المفضل بن غسان الغلابي: كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - لا يجف دمعه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له من الله في دار القرار نصيب
الأوزاعي.... قال أبو مسهر: كان الأوزاعي يحيي الليل صلاةً وقرآناً وبكاءً وأخبرني بعض إخواني من أهل بيرون أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموع الليل.
الجوني..... قال أبو عمران الجوني: أرتني أمي موضعاً من الدار قد انحفر، فقالت: هذا موضع دموع أبيك.
الضحاك بن مزاحم..... قال قيس بن مسلم: كان الضحاك إذا أمسى بكى، فيقال له، فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.(2/65)
يزيد بن هارون.... قال الحسن بن عرفه العبدي: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد، ما فعلت العينان الجميلتان؟
قال ذهب بهما بكاء الأسحار.
عبد العزيز بن أبي رواد قال عبد الله بن مرزوق: قلت لعبد العزيز بن أبي رواد: ما أفضل العبادة؟ قال: طول الحزن في الليل ونهار).
يحيى بن معاذ الرازي... كان يحي بن معاذ يقول: يا من ذكره أعز علي من كل شي، لا تجعلني بين أعدائك غدًاً أذل من كل شي.
السري السقطي.... قال الجنيد بن محمد: سمعت السري يقول إني لأنظر في أنفي كل يوم مراراً، مخافة أن يكون وجهي قد اسود.
وقال الجنيد: سمعت السري يقول ما أحب أن أموت حيث أعرف فقيل له: لم ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح.
محمد بن واسع........... زين القراء قال جعفر: كنت إذا وجدت في قلبي قسوة، نظرت إلى وجه محمد ابن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد ابن واسع، حسبت أن وجهه وجه ثكلى.
علو الهمة في الرجاء
الرجاء من أجل منازل السائرين، وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلي الله.
قال البيهقي في الشعب: (قال بعض الحكماء في مناجاته: إلهي لو أتني خبر أنك غير قابل دعائي، ولا سامع شكواي، ما تركت دعائك ما بل ريق لساني، أين يذهب الفقير إلا إلى الغني، وأين يذهب الذليل إلا إلى العزيز، وأنت أغنى الأغنياء، وأعز الأعزاء يا رب؟!
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني، ووقفت عليه وهو لا يراني، فسمعته يقول: لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بتوبتي لأطالبنك بسخائك، ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار أني أحبك.
عن سلمان الفارسي رضي الله عنة:
إن الله - عز وجل - خلق مائة رحمة، منها رحمة يترحم بها الخلق، وتسع وتسعون ليوم القيامة.(2/66)
قال أيوب السختياني- لله دره-: (إن رحمة قسمها في دار الدنيا، وأصابني منها الإسلام، إني لأرجو من تسع وتسعين رحمة ما هو أكثر من ذلك).
وعن يحيى بن يمان قال: قال سفيان الثوري رحمة الله: ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي، ربي خير لي من والدي.
وقال بعض العباد: لما علمت أن ربي - عز وجل - يلي محاسبتي، زال عني حزني، لأن الكريم إذا حاسب عبده تفضل.
قال سعيد بن ثعلبة الورق: بيتنا مع رجل من العابدين على الساحل بسيراف، فأخذ في البكاء، فلم يزل يبكي حتى خفنا طلوع الفجر، ولم يتكلم بشيء، ثم قال: جرمي عظيم، وعفوك كبير، فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم. قال فتصارخ الناس من كل ناحية.
وعن أبي المنذر الكوفي: أن معاوية جعل يقول وهو في الموت: إن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب، أو تجاوز فأنت رب رحيم عن مسيء ذنوبه كالتراب.
وقال أبو عمران السلمي:
وإني لآتي الذنب أعرف قدرة وأعلم أن الله يعفو ويغفرُ
لئن عظم الناس الذنوب فإنها وإن عظمت في رحمة الله تصغرُُ
قال أبن المبارك جئت إلى سفيان الثوري: عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوا هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظنُ أن الله لا يغفر لهم.
ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً- يعني: سدس درهم أكان يردهم؟
قالوا: لا.
قال: والله، للمغفرةُ عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
قال سليمان التيمي: قال لقمان لابنه: أي بُني، عود لسانك: (اللهم اغفر لي) فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً.
http://www.emanway.com المصدر:
ــــــــــــــــــ
علو الهمة علامة كمال العقل(2/67)
خلق الله البشر وجعل لكل منهم همة وإرادة فلا يخلو إنسان عن هم؛ ولذلك كان أصدق اسم يوصف به العبد أنه همام ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "...وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام.. ".
وجهة الصدق أن كل إنسان له إرادة وعنده اهتمام، كما قال المنذري: وإنما كان حارث وهمام أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمام الذي يهيم مرة بعد أخرى، وكل إنسان لا ينفيك عن هذين والله أعلم.
ولكن همم الناس تختلف بين علو وسفول وبين كبر وصغر وبين ضخامة ودناءة. وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة. فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب.
قيمة المرء على قدر همته:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب". (يريد همته ومطلبه وقصده).
وإنما كان الأمر كذلك لأن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها.. قال أحد الصالحين: "همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من العمل".
وقال عبيد بن زياد: كان لي خال من كلب، فكان يقول لي: يا زياد هم فإن الهمة نصف المروءة.
وعلامة كمال العقل ورجحانه علو همة صاحبه.. يقول ابن الجوزي: "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء
ولم أر في عيوب الناس عيبا.... كنقص القادرين على التمام"
ومعنى علو الهمة:
" استصغار ما دون النهاية من معالى الأمور".. بمعنى أن يطلب المرء من كل أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى منه.
وقيل: "هو خروج النفس إلى غاية الكمال الممكن في العلم والعمل".(2/68)
وقد فسر ابن الجوزي ذلك في صيد خاطره بقوله: "ينبغي لمن له أنفة أن يأنف التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة ـ مثلا ـ تأتي بالكسب لم يجز له أن يرضى بالولاية، أو تصور أن يكون خليفة لم يقنع بإمارة، ولو صح أن يكون ملَكا لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل".
وأعلى الهمم على الإطلاق هي التي لا تقف دون الله - تعالى -، ولا تطلب سواه، ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها ولا حطامها الخسيس الفاني. كيف والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب.
سقوط الهمة أصل الخذلان
إن سقوط الهمم وخساستها هو أصل ما وصلنا إليه من ذل وهوان وحقارة وخذلان، وما من أمة يرضى أهلها بالأمر الواقع ولا تبلغ همم أبنائها أن يغيروه إلا كان لهم الخزي والعار والذلة والصغار.
إن الهمم الكبار تغير التاريخ بل هي التي تسطره وتكتبه:
لقد رأينا محمد بن عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. رجل واحد في وسط عالم كامل من الشرك كيف عبّده بهمته لله رب العالمين؟.
ولقد رأينا أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - كيف أسقطوا أكبر إمبراطوريتين وأعظم دوليتين في زمنهم (فارس والروم) وفتحوا بلاد السند والهند والمغرب والأندلس في فترة وجيزة هي كالحلم في عمر الزمان.
ولقد رأينا في زمان العز وعلو الهمم كيف كان المسلم في عهد صلاح الدين يربط عشرات الأسرى في طنب خيمة.. ولقد باع مسلم أسيرا نصرانيا بنعل فلما سألوه لماذا؟ قال: أردت أن يخلد التاريخ هوانهم وذلهم وأن رجلا منهم بيع بنعل، فخلدها له التاريخ.
ثم مرت الأيام وقعدت الهمم ورأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم قعيد الهمة (بل العدد منهم) أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب فيأتي بالسيف ليقتلهم فيمنعهم الخوف أن يتحركوا حتى يعود إليهم فيقتلهم أجمعين!!(2/69)
ومرت الأيام ورأينا كيف بيعت فلسطين بثمن بخس، وضاعت القدس، وسلب المسجد الأقصى.
ومرت الأيام ورأينا كيف ضاعت العراق ورأينا كيف يركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي طالبا منه العفو والصفح، وطالعتنا الأخبار بصورة رجل هناك يقبل يدي جندي أمريكي شكرا له على تحرير البلاد!!
ومرت الأيام ورأينا في عصرنا شبابا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم إلا عن السفاسف ومحقرات الأعمال، يمعنون في التشبه بالكفار في قصات الشعور وفي أزياء الملابس، وبعضهم يعلق على سيارته أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وطأطأت أعناقهم وأهدرت كرامتهم واستعبدت أمتهم.
إن هذه الأمة إن أرادت أن تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها.. وإنما تعلو الهمم بأمور خلاصتها تخلية وتحلية..
فأما التخلية فهي ترك مثبطات الهمم وأسباب انحطاطها.. ومنها:
أولا: حب الدنيا وكراهية الموت: وهما صنوان لا يفترقان، وقرينان لا يختلفان من أحب الدنيا كره الموت ولابد.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، والانغماس في الشهوات والتشاغل بها عن المهمات. وكراهية الموت يورث طول الأمل، والقعود عن المكارم خشية المخاطر، والهمة لا تسكن قلبا جبانا:
حب السلامة يثني عزم صاحبه.... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فحال خسيس الهمة كحال القائل:
أضحت تشجعني هند فقلت لها.... إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأمصار كعبته.... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم.... إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم.... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
فإذا أحببت الدنيا وكرهت الموت
فدع المكارم لا ترحل لبغيتها.... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي(2/70)
ثانيا: الكسل والخمول: وهما منابت العجز، ولكنه عجز القادر على العمل المتراخي عنه، المتثاقل إلى سفاسف الأمور، المتخلف عن عظائمها.. ومثل هذا تراه دائما في ذيل الركب راضيا بأقبح الأعمال وأحقر الوظائف لقلة همته.. ولله در ابن الجوزي حين قال: "سفول همة الكساح أنزله في جب العذرة".
قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار وقع عليَّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.
قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا.... كنقص القادرين على التمام
ثالثا: التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، كلما همت نفسه بالخير أعاقها بسوف حتى يأتيه الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب.
فالتمني بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا.... إن المنى رأس أموال المفاليس
قال رجل لابن سيرين: رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح فما تفسير ذلك؟ قال أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
رابعا: مصاحبة سافل الهمة: فيسرق طبعك منه فإن الطباع سراقة
ولا تجلس إلى أهل الدنايا.... فإن خلائق السفهاء تعدي
خامسا: الانشغال بحقوق الزوجة والأولاد: بمعنى الإمعان في تحقيق رغباتهم وطلباتهم خاصة مالا حاجة له وإن ضاع لها العمر أو حمل ذلك على تعدي حدود الشرع وقد قال الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن: 14)، وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون: 9).
موجبات علو الهمة
فلابد من تخلية النفس أولا عن تلك المثبطات والموانع عن رفع الهمة ثم بعد ذلك تحليتها بموجبات علوها ومنها:(2/71)
أولا: العلم والبصيرة: فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن الحضيض ويصفي النية ويورث الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتقي فضول المباحات من الكلام والمنام والنظر والطعام وينشغل بما هو أعلى منها.
ثانيا: إرادة الآخرة: بجعل الهم هما واحدا.. قال - تعالى -: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء: 19)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة". (صحيح ابن ماجه).
ثالثا: كثرة ذكر الموت: فإنه الباعث الحثيث على إحسان العمل، والمسارعة إلى الطاعات، وقد وقف - صلى الله عليه وسلم - على قبر فقال: (إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا) رواه ابن ماجه بسند حسن.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلة الأموات.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد.. فإنه من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.
ومن فارق ذكر الموت قلبه ساعة فسد قلبه.(2/72)
رابعا: صحبة أولي الهمم ومطالعة أخبارهم: وانظر إلى أبي بكر لما كان صاحبه هو أعلى الناس همة على الإطلاق سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغت به الهمة أعلاها فكان خير الناس بعد النبيين والمرسلين، فلم ترض همته مجرد دخول الجنة لا بل يريد أن ينادى عليه من أبوابها كلها كما ورد في صحيح البخاري قال - صلى الله عليه وسلم - : (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر - رضي الله عنه - هل على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها قال نعم وأرجو أن تكون منهم).
وانظر إلى أحمد والشافعي، وكذلك الإمام أحمد مع يحيى بين معين فإنها صحبة بلغت بأصحابها إمامة الناس في العلم والدين والورع.
أنت في الناس تقاس.... بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو.... وتنل ذكرا جميلا
خامسا: المجاهدة: وهو الصبر على النفس وسياستها وتعويدها بلوغ الغايات وأعالى المقامات وعدم الرضا بالدون، وكلما جاهد الإنسان نفسه في بلوغ القمم بلغها سواء في أمور الدنيا أو الآخرة" (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
وأخيرا تربية الأولاد على علو الهمة: فالمرء على ماشب عليه، وإذا لم ينشأ الطفل منذ صغره على علو الهمة وترك السفاسف فلن يفلح أبدا، وإذا كان ما حولنا من إعلام ومناهج دراسة ومظاهر معيشة كلها لا يصب في صالح هذا الباب وجب على أولياء الأمور الاهتمام بزرع ذلك في أولادهم، وقبل ذلك في أنفسهم فإن فاقد الشيء لا يعطيه.. وقد قالوا قديما:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على.... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقالوا:(2/73)
وينشأ ناشئ الفتيان منا.... على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن.... يعوده التدين أقربوه
-------------
المراجع:
علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم.
صلاح الأمة في علو الهمة للشيخ سيد حسين العفاني.
02/11/2006
http://www.islamweb.net المصدر:
ــــــــــــــــــ
علو الهمة في الرضا
د ـ محسن العجمي
alagme@hotmail.com
الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فإن كل منهما ذروة سنام الإيمان. • قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب - عز وجل -. • قال ابن عطاء: الرضا سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل، فيرضى به.
قال ابن القيم: وطريق الرضا طريق مختصرة..قريبة جدا..موصلة إلى أجل غاية، ولكن فيها مشقة ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة.. وإنما عقبتها: همة عالية، ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله.
قال الفضيل بن عياض: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا، لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وقيل: الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان • وقيل: هو ترك السخط • كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - رضي الله عنهما -: أما بعد، فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. • وسئل أبو عثمان عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أسألك الرضا بعد القضاء) فقال: لأن الرضا قبل القضاء هو عزم على الرضا.. والرضا بعد القضاء هو الرضا. • أرفع الرضا: الرضا بالله ربا. • قال الهروي عن الرضا بالله ربا: وهو يصح بثلاثة شروط: أن يكون الله - عز وجل - أحب الأشياء إلى العبد، وأولى الأشياء بالتعظيم، وأحق الأشياء بالطاعة.(2/74)
مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره. • قال الربيع علامة حب الله: كثرة ذكره.. وعلامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلانية.. وعلامة الشكر: الرضا بقدر الله والتسليم لقضائه.
وفي وصية لقمان لابنه: أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا. وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت. • قال بعضهم: من يتوكل على الله ويرض بقدر الله فقد أقام الإيمان وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير. • قال أبو جعفر لرابعة: متى يكون العبد راضيا عن الله؟ فقالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة. !!
• كان عمر بن عبدالعزيز كثيرا ما يدعو: اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته. • قال أبو معاوية الأسود في قوله (فلنحيينه حياة طيبة) قال: الرضا والقناعة. • وكان الربيع يقول في شدة مرضه: ما أحببت أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
قال الحسن: من رضي بما قسم الله له، وسعه وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه.
قال سفيان في قوله (وبشر المخبتين): المطمئنين، الراضين بقضائه، والمستسلمين له. • قال الفضيل بن عياض: إن لم تصبر على تقدير الله لم تصبر على تقدير نفسك.
قال حفص بن حميد: سألت عبدالله بن المبارك: ما الرضا؟ قال: الرضا: لا يتمنى خلاف حاله.
قال محمد بن واسع: طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء وهو عن الله راض.
وقال أبو عبدالله البراثي: ومن وُهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات.
قال ميمون بن مهران: من لم يرض بقضاء الله.. فليس لحمقه دواء. • قال غيلان بن جرير: من أعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كفي.
قال أبو العباس: الفرح في تدبير الله لنا، والشقاء كله في تدبيرنا.(2/75)
سئل أحدهم عن الرضا: فقال: أن ترضى به مدبرا ومختارا.. وترضى به قاسما ومعطيا ومانعا.. وترضاه إلهاً معبودا ورباً. • العبد ذو ضجر والرب ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع في ما اختار خالقنا وفي اختيار سواه اللوم والشوم.
قال بعض السلف: لو قرض لحمي بالمقاريض، كان أحب إلي من أن أقول شيئا قضاه الله: ليته لم يقضه.
اللهم اجعلنا ممن رضيت عنهم ورضوا عنك.
16-05-2007
http://www.islamselect.com المصدر:
ــــــــــــــــــ
ما أثارك بعد الموت ؟!
أمير بن محمد المدري
أخي الداعية
أخي المسلم
هب أنك مت الآن
أخبرني ما هي أثارك بعد الموت
ما هي الأعمال المباركة التي ستنسب إليك بعد موتك
ماهي لمساتك على هذه الحياة
ما هي بصماتك
أخي الداعية
أخي المسلم
هب أنك الآن في عداد الموتى
ماهي الكلمات التي سيطلقها الناس عنك
ماهو المشروع الذي تريد أن يخلّد في صحيفة عملك بعد وفاتك
كم مسلماً علّمت
كم مسلماً الى طريق الخير هديت
كم كلمة طيبة غرست
كم علمٍ نشرت
كم حديثاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلّغت
كم مرةٍ بين متخاصمين أصلحت
أخي الداعية
كن ذلك المبارك في حله وترحاله ، كالغيث أينما وقع نفع :
قلب عامر وعقل يثابر .
تقي خفي ، نقي أبي .
نفعه متعد ، وخيره عام
يتجذر هداه في كل أرض أقام فيها
تنداح جحافل وعظه كالسيل العرم ، تذهب بكل سد منيع جاثم على قلوب الغافلين
إذا قال أسمع ، وإذا وعظ أخضع
أخي كن داعية
دؤوب الخطو ، بدهي التصرف ، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شزراً ، وقال : أقبلي يا صعاب ، أو لا تكوني
أخي كن داعية
محمدي الخلق ، صِدّيقيّ الإيمان ، عُمَريّ الشكيمة ، عثمانيّ الحياء ، علويّ الصلابة ، فَضليي العبرة ، حنبلي الإمامة ، تيموي الثبات .
أخي الداعية
أخي المسلم
مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس اموات
يقول جل وعلا
{(2/76)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
يقول الطبري في تفسيرها .
* وقوله: وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ يقول: واجعل لي في الناس ذكرا جميلاً، وثناء حسنا، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً ويرى في عمل الصالحين،
إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} (طه: 39) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (مريم: 96) أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبّه تعالى بقوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل:
قد مات قومٌ وهُمْ في النّاس أحْيَاءُ
وقيل
والذكر للإنسان عمرٌ ثاني
قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»(الحديث) وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطاً يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر «آل عمران» والحمد لله.
وقال القرطبي في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ }.(2/77)
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردًّا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل. والأوّل أظهر؛ أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وهي:
وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: معناه مِن عملٍ. وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } (الانفطار: 5) وقوله: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } (القيامة: 13)، وقال: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر: 18 فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن؛ كعلم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبيس احتبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رِباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سَيِّىءٍ كوظيفة وظفها بعض الظلاّم على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شيء أحدثه فيه صدّ عن ذكر الله من ألحان ومَلاِهٍ، وكذلك كل سُنّة حسنة، أو سيئة يستنّ بها. وقيل: هي آثار المشَّائين إلى المساجد.
وقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أموراً سبعة ً يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً , أو حفر بئراً , أو غرس نخلاً , أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته )) حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596(2/78)
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ))
حسنه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم 198
وروى أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (( أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : من مات مرابطاً في سبيل الله , ومن علّم علماً أجرى له عمله ما عمل به , ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت , ورجل ترك ولداً صالحاً فهو يدعو له )) صحيح الجامع حديث رقم 890 .
أخي الداعية
أخي المسلم
خذ لك زادين من سيرةٍ *** ومن عملٍ صالح يدّخر
وكن في الطريق عفيف الخطا *** شريف السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعده *** يقولون مرّ وهذا الاثر
هذا وصلي اللهم على محمد وعلى اله وصحبه وسلم
ــــــــــــــــــ
همسات للدعاة
موسى بن ذاكر الحربي
الحمد لله الذي جعل الدعاة ورثة الأنبياء . وسادات الأتقياء . ومصابيح الدجي .وأئمة الهدى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ,وكم ضال تائه قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس , وأقبح أثر الناس عليهم .
وصلى الله وسلم على من قال بلغوا عني ولو آية وقال نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها فوعاها فبلغها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين .
أما بعد :-
فالهمم تتفاوت حتى بين الحيوانات .
فالعنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتا ولا يقبل منّة الأم .
والحية تطلب ما حفر غيرها إذ طبعا الظلم .
والغراب يتبع الجيف .
والصقر لا يقع إلا على حي .
والأسد لا يأكل البايت .
والخنفساء تطرد فتعود(2/79)
ومن اسباب التفوق والنجاح في ميادين الحياة التي تتلاطم فيها المحن ويواجه فيها الانسان ألوانا من العقبات التي تحول بينه وبين مطمعه أو يحصل له فشل في بعضها . فمن أقوى اسباب النجاح الهمة العالية .
وهنا ينقسم الناس الى قسمين :
الاول : من يصيبه يأس وقنوط وفتور فتنهار قواة وتغرورق عيناه من الحزن فهذا النوع هم أصحاب الهمم الضعيفة فالفشل دائما حليفهم .
والقسم الثاني: من إذا أصابه فشل بادي الأمر عاد الكرة مرة بل مرات وزاده هذا الفشل قوة وإصرار على مواصلة الطريق يتجاوز كل العثرات ويحطم كل العقبات بكل صبر وعزيمة إنهم أصحاب الهمم العالية .
ذريني أنل ما لا ينال من العلا**** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدارك المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقال الأخر :
لو لا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتّال
فيا أخي الداعية :
لا تظن أن الطريق مفروشة بالورد وأنك إذا أتيت الناس بما يخالف هواهم سيرحبون بك ويجعلونك على الرؤوس .لا ليس الامر كذلك فهاهم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن الذل إلى الكرامة ومن الهوان إلى العزة ومع هذا قال الله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) فالعداوة أمر طبيعي ولكن تأمل أخر الآية - وكفى بربك هاديا ونصيرا- فالنصر حليفك مادام الله معك فهو هاديك وناصرك فلم الحزن والضجر ولم البرود والكسل ؟
لا تعجز :
فإياك وداء العجز فإنه مهلكة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من ( العجز والكسل )(2/80)
وانظر كيف شنع الله على الذين رغبوا في الدنيا وبهرجها وأعرضوا عن الآخرة ونعيمها (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)
وأن طرق الدعوة إلى الله تعالى هو طرق الجنة الذي تعب فيه الأنبياء.
قال ابن القيم رحمه الله
والطريق طريق تعب فيه آدم وناح لأجله نوح ورمى في النار الخليل وأضجع للذبح إسماعيل وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ونشر بالمنشار زكريا وذبح السيد الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود وسار مع الوحش عيسي وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد - صلى الله عليه وسلم - تزها أنت باللهو واللعب .
فيا دارها بالحزن إن مزارها * قريب ولكن دون ذلك أهوال
كن كالنحلة :
كن كالنحلة لا تقع إلا على طيب ولا تخرج إلا طيبا ولا تكن كالجعل الذي يأنف من الطيبات ويألف الخبائث .
أنه حال صغار الهمة ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف )
فعالي الهمة لا يرضى أبدا بالدون ولا يقبل إلا معالي الأمور فيترفع عن كل ما يخرم المرؤة ويزيل الهيبة ويبتذله الناس بسببه فهذا يوسف عليه السلام يدعونه النساء للفحشاء وهو يقول ( رب ا لسجن أحب إليّ مما يدعونني إليه )
و لما جاءه الرسول وهو في السجن قال له ( ارجع إلى ربك فاأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ) كان يريد أن تندحر كل شبهة تحوم حوله أنها النفس الأبية التي لا ترضى بالدون ولا تقبل أن تعيش إلا في عالي القمم
فكن رجلا رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
الحلم حلية الداعية :
قال تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )(2/81)
و في الصحيح عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل :
كل حلم أتى بغير اقتدار * حجة لاجىء إليها اللئام
وكان معاوية رضي الله عنه يقول ( أني لآنف من أن يكون في الارض جهل لايسعه حلمي, وذنب لا يسعه عفوي, وحاجة لا يسعها جودي)
وقال الأخوص .
ما من مصيبة نكبة أرمى بها ****إلا تشّرفني وترفع شاني
وإذا سألت الناس الكرام وجدني ** كا لشمس لا تخفى بكل مكان
احذر تلبس الشيطان :
ليس عذر ما يتعذر به بعض الناس بأنه مقصر فكيف يدعو وهو مقصر ؟ هذا من تلبيس ابليس فلو كان لا يدعوا إلا الكُمّل من الناس ما دعا بعد الأنبياء أحد .
نعم قبيح بالداعية أن تخالف أعماله أقواله قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )
ولكن ليس الحل أن يتنحى المسلم عن الدعوة بل الواجب عليه أن يجاهد نفسه على الالتزام بما يقول ويتوب من الذنوب ويواصل طريق الدعوة فالدعوة ليس حكرا على أحد أو فئة من فئات المجتمع فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بلغوا عني ولو آية ) وهذا الأمر عام لكل مسلم ومسلمة .
وكل بحسبه فعلى العالم ما ليس على غيره فالدعاة يتفاوتون في علمه وقدراتهم ولكن كل بقدر ما يستطيع فهذا الدين أمانة في عنق كل مسلم .
وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه لم يمنعه شربه للخمر من الجهاد في سبيل الله لما كان يوم القادسية وبلغه ما فعل المشركون بالمسلمين وهو محبوس بسبب الخمر قال .
كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا*** وأترك مشدودا على وثاقيا
إذا قمت عنّاني الحديد وغلقت *** مغاليق من دوني تصم المناديا(2/82)
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة *** فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلمّ سلاحي لا أبا لك إنني *** أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
فقالت أم ولد سعد (( أترجع لي إن أنا أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق ؟ )) قال نعم فأطلقته وركب فرسا لسعد بلقا وحمل على المشركين فجعل سعد يقول لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي , وانكشف المشركون وجاء أبو محجن فأعادته في الوثاق وأتت سعدا فأخبرته فأرسل إلى أبي محجن فأطلقه وقال ( والله لا أحبسك فيها أبدا ) وقال أبو محجن ( وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبدا )
فلم تكن معصية أبي محجن رضى الله حائلا دون نصرة الدين وكذلك أنت أخي الحبيب لا يكن تقصيرك مانعا من الدعوة إلى الله .
الصبر طريق النجاح:
اعلم أخي الداعية أن الصبر طرق النجاح والتفوق بإذن الله جلا وعلا فلم تحصل الإمامة في الدين إلا بالبصر واليقين قال تعالى ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون )
إني رأيت وفي الايام تجربة **** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه ****واستصحب الصبر إلا فازبالظفر
رأس الامر:
كل ماذكرت عوامل بلا شك في نجاح الدعوة ولكن العامل الاهم هو الأخلاص لله سبحانه وتعالى فاستصحاب النية وتخليصها من الشوائب وتنقيتها من حظوظ النفس وطلب الشهرة وكلامات الثناء هو عنوان قبولها .
أخي الداعية احذر أن تكون ممن قال الله فيهم (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )
فكل عمل تشوبه شائبة الرياء فإنه يكون هباء منثورا فكم يا أخي الحبيب تكتب في هذه المنتديات وكم تلقي من الكلامات .
فلا يكن ما تسطره يمينك ويقوله لسانك عليك غمة يوم القيامة احذر أن يزين لك الشيطان سوء عملك ويغرك عن محاسبتك نفسك فتكون ممن قال الله فيهم (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )(2/83)
هذه كلامات يسيرة لعلها تكون زادا للداعية وهناك اشياء كثيرة لم اتعرض لها طلبا للأختصار ولكن ما ذكرت في نظري أنه أهم مقومات النجاح والله أعلم
كتبه:
أخوكم في الله أبو انس : موسى بن ذاكر الحربي
mossa96@hotmail.com
ــــــــــــــــــ
أنا وصديقي والفنار
أخذتني شمس الظهيرة بين ذراعيها ، قبلتني بأنفاسها الحارة ، أسرعت نحو سيارتي الفارهة ، كدت أضغط جهاز التكييف قبل أن أشغل السيارة . كان الحر لا يطاق ، تبخّر من ذهني الحديث الذي كان بيني وبين صديقي محمد قبل قليل .
آه.. نسيت إنكم لا تعرفون محمد ، اسمحوا لي أن أعرفكم به إذن...
هو صديقي منذ الطفولة ، عشنا معا أكثر مراحل عمرنا السعيد ، لنا نفس الإهتمامات والرغبات . يشغلنا معاً هم الإسلام والمسلمين ، نتحدث في نفس المواضيع ، نكاد نتفق في معظم الآراء . إلا أن بيننا فرق جوهري كبير ، إنه يعمل لما يتحمس لأجله ، ويفني عمره من أجل قضية يؤمن بها ، أما أنا فالتحسر والتذمر هو أقصى ما كنت أقدمه .
كنت كما يقول عني دائما ؛ " ظاهرة صوتية "...، وبرغم ذلك لاتزال صداقتنا حتى بعد أن فرقت بيننا المشاغل والأيام .
اليوم على غير المعتاد رن الهاتف بمكتبي ، رفعته لأجد محمد على الخط الآخر يدعوني لأمر مهم ، حاولت التأجيل والتسويف كالعادة ، إلا أن إصراره قطع علي كل طريق ، بعد ذلك بساعة كنت أصافحه وأنا أفكر أي مشروع في هذا الرأس يا ترى ؟! . لم يتمادى في السؤال عن الأحوال كثيرا بل دخل بي في صلب الموضوع مباشرة :
- أنت تعرف يا فهد أنني أدير هذه المؤسسة الخيرية ، وإنني متى مارجوت الله بعملي نلت أجريّ الدنيا والآخرة .
لم أعلق على كلامه فلم أر َ فيه مايخصني ، بيد أنه استطرد :
- وأنت تعرف أن هذه المؤسسة توزع كل شهر إعانات يجود بها المحسنون على بعض الأسر في الأحياء الفقيرة .(2/84)
ظننت أنه يريد مني التبرع ، فحمدت الله أن الأمر اقتصر على ذلك، هممت لأخرج حافظة نقودي إلا أنه أكمل دون أن يلحظ شيئا :
- وقد تجمعت إعانات هذا الشهر وحان موعد توصيلها ، إلا أن السيارة المخصصة لذلك أصابها عطل ويستلزم إصلاحها ! عدة أيام .
أخيراً ، وجدت لساني لأهتف : وما موقعي أنا من هذا كله؟!
أجاب بابتسامة هادئة :
- أنت ترى أن سيارتك الجديدة كبيرة بما فيه الكفاية ، لتحتسب أنت الأجر وتذهب فتوزع هذه الإعانات إلى الأسر المحتاجة .
حدقت فيه غير مصدق :
- محمد هل تمزح؟!
تجهّم وجهه وهو يجيب :
- أنت تعرف أني لا أحب المزاح ..
- كيف تطلب مني أن أذهب إلى هذه الأحياء المشبوهة؟! وكيف أقود سيارتي الجديدة في تلك الطرق الترابية الضيقة؟! أنت تعلم أن هذا الأمر مستحيل تماما ، وغير قابل للمناقشة !..
حاول محمد أن يثنيني ، بالترغيب بالأجر تارة والعطف على أولئك المساكين تارة ، إلا أن ذلك لم يؤثر في موقفي ، وأخيرا خرجت من المكتب وبيننا حاجز غير مرئي من التكلف وعدم الرضا .
استرجعت كل ذلك وأنا أقود السيارة إلى منزلي ، ولم يكن ليساورني أي ندم على موقفي السلبي ، فالموضوع برأيي أوضح من أن أناقش فيه أو أجادل .
وقفت عند الإشارة القريبة من المنزل، وهناك أبصرت به ؛ براءته الطافحة من عينيه دفعتني إليه ، رأيت الكثير مثله من قبل؛ لكن لم يلفت نظري أي منهم كهذا الواقف غير بعيد، أنزلت زجاج النافذة ، أشرت له بيدي فاقبل نحوي يحمل بضاعته الزهيدة، رفع وجهه المشرق وابتدرني : السلام عليكم !.. شعرت أن خلف هذا الإشراق إشراقا أجل وأسمى ، أجبته بحنو لم أشعر به منذ زمن : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
- كم علبة تريد؟
- هات واحدة..(2/85)
إمتدت يده الصغيرة بعلبة المناديل ، وبالمقابل أخرجت ريالا دفعته إليه ، فأخذه ليخفيه بجيبه ، لم يبد حراكا ، فالتفت ناحيته لأرى يده تعبث بجيبه الممتلي ، أخرجها تحمل شريطاً قدمه لي مشفوعا بابتسامة بريئة خجولة، نظرت إلى الشريط فإذا به شريط إسلامي ؛ لم أرغب بشرائه فهو موجود بحوزتي .. مجاملة له سألته عن الثمن ، أجاب بابتسامته البريئة : إنه هديه....
صكت العبارة مسامعي ، وتردد صداها في خاطري " إنه هدية "..
لحظات خلتها دهوراً وأنا تنتابني مشاعر شتى ... يا لله طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره ، أخرجه ضيق ذات اليد ليبيع المناديل عند الإشارات ، وهو مع ذلك يعمل للإسلام ، ويحمل هم الدعوة في قلبه الغض ،
وأنا ..... آه من حالنا ..
مددت يدي لآخذ الشريط منه، ثم التفت إليه لأرى هامته تعلو في الفضاء، وتجاوز! الجوزاء .
أصبحت كقبطان ٍ تائه ٍ ببحر ٍ هائج ٍ يقف أخيراً أمام فنار ، ُيلقي بسناه إلى المدى البعيد .
سألته بصوت مخنوق : من أين تأتي بثمن الأشرطة ؟
أجاب وقد ومضت عيناه بالمحبة : إنه أستاذنا ، يحثنا دائما على العمل للإسلام ، وعندما أخبرته أني أريد أن أوزع الأشرطة الإسلامية النافعة تعهد بأن يزودني بها كل يوم .
سألته باهتمام : وهل تعطي الأشرطة لمن يشتري منك فقط ؟
أجهز على ماتبقي من أعصابي بإجابته : أعطي من يشتري ومن لا يشتري .
ستارٌ من الدمع ِ ُأسدل على عيني ، فلم أرَ الإشارة َ وهي تضيء للعبور . تعالى هديرُ السيارات من جانبي . وحينما التفتُ لمحدثي لم أجده !
فانطلقت وقد تعالت أبواق السيارات من خلفي ، وبلا تردد امتدت يدي إلى جانبي لأحمل هاتفي الجوال واضغط أزراره . تعالى الرنين على الجانب الآخر ثم أتاني الرد :
- السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله .. ماذا لديك يا فهد؟
- محمد ، إنتظرني بمكتبك ، سأحضر إليك الآن لأقوم بالعمل الذي رفضته قبل قليل .. ( انتهت )
بقلم : الفنار
ــــــــــــــــــ(2/86)
تعب فيه لذة !
عندما بدأنا العمل في إفريقيا قبل حوالي ربع قرن, لم نكن نتوقع إننا سنواجه كل هذه الصعاب الكثيرة, لكن إرادة الله تعالى جعلت فيها لذة كلما تذكرنا الأجر العظيم الذي يدخره لنا المولى عز وجل.
لم أكن أتوقع أن أسافر مع مجموعة من الأبقار على متن شاحنة تجاوز عمرها ثلاثين سنة في رحلة دامت عشرة أيام عبر طريق ترابي .. لكنني كنت "مسروراً" بألسنة رفيقات السفر اللواتي كن يلحسن رأسي من حين لآخر, كلما تراكم فوقه شيء من الغبار المتطاير من تحت عجلات الشاحنة " المريحة" ذلك أن البقر يحب في العادة إن يلحس الغبار الغني بالأملاح
لقد كوفئت مرة على فعل الخير بتحقيق أجرى معي في احد مركز الشرطة منعت خلاله من الجلوس لعدة ساعات, لأن الضابط المحقق كان كاثوليكيا متعصباً.
والحقيقة إنني لا أريد الخوض في تفاصيل المتاعب الجمة التي كنا نجابهها في المستنقعات, والنوم في الأكواخ المفروشة بروث البهائم والسير على الأرجل مسافات طويلة حتى تتورم الأقدام, من دون طعام أو شراب وسط الأهوال والمخاطر.. فكم من مرة تعرضنا فيها لإطلاق نار عشوائية لا سيما في المناطق التي تعيش حروبا أهلية.
ولو كانت الشاحنات تتكلم لشهدت الشاحنات التي تبرعت بها إحدى الجهات لمكتبنا في موزنبيق على العبث الذي لقيته على أيدي المتمردين خلال سبعة عشر عاما من خدمتها, فقد تم حرقها مرتين بصورة كاملة, وفي كل مرة كنا نعيد إصلاحها من جديد, ولازالت في الخدمة! أو الشاحنة التي كانت محمله بالاسمنت لبناء احد المشاريع فأحرقها العتاة الضالون من المتمردين ونجا باعجوبه كل من سائقها وداعيتنا ليواصلا سيراهما بسلام إلى المدينه بعد اجتياز مسافة ثمانين كيلومتر سيرا على الإقدام, ولم احزن على الاسمنت أو الجوازات والوثائق الضائعة, ولكنني حزنت على كيس من السكر كان أملنا أن نقدمه في مشروع إفطار الصائم لبعض الأهالي الذين لم يذوقوا طعم السكر منذ ثماني سنوات!(2/87)
لا أريد الحديث كذلك عن العشرات من دعاتنا الذين وهبوا أرواحهم في سبيل الدعوة الإسلامية في كل من جنوب السودان وليبيريا وسيراليون وموزمبيق والصومال وغيرها, ومضوا شهداء في درب خدمة إخوانهم ويسعدني جداً إن اقتفي أثرهم.
فلست نادما على المضي قدما في هذا الطريق ! لأنني اخترته بقناعه تامة ورضا بقضاء رب العالمين ولكنني أشفق على أخواني الذين اختاروا زينة الحياة الدنيا التي صرفت أبصارهم عن اللذة الحقيقة التي تحف بها المشاق و المكاره !
و إلى اللقاء
د. عبد الرحمن السميط
مجلة الكوثر العدد, 48, 2003 أكتوبر
ــــــــــــــــــ
نحو ذاتية دعوية فاعلة
تأليف :خالد الدرويش
طبع دار القاسم للنشر والتوزيع
إعداد: صوت الدعوة
مقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم مخاطباً رسوله الأمين ( فقاتل في سبيل الله لا تُكلفُ إلا نفسك وحرض المؤمنين ... ) [ النساء : 84 ] والقائل ( يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة .... ) [ التوبة :38 ] ثم الصلاة على رسول الله سيد المتحركين الذي لم يهدأ ولم يقر له قرار منذ أن أُمر بالتبليغ حتى غادر هذه الحياة الدنيا وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه بالتحرك لنصرة هذا الدين . أما بعد :
إن أول دوافع المبادرة الذاتية التي يجب أن يتذكرها الداعية المسلم هو أن يعلم :
أولاً : أن مناط التكليف فردي .
ثانياً : أن كل فرد سيحاسب يوم القيامة فردا .
ثالثاً : وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى .
رابعاً :وأن الحساب بالثواب والعقاب لا يكون إلا فردياً .
ومن الإيمان بهذا المنطلق يجب أن ينحصر تفكير الداعية المسلم فيما يجلب له الأجر ويقربه إلى الطاعة دون أن يكون تابعاً وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون الالتفاف إلى عمل فلان أو قوله ولا ينتظر الإذن من بالعمل من شخص ما إلا في الضرورة القصوى .(2/88)
والمسلم في نفس الوقت يجب أن يجعل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة عملية له أمام عينيه ولا يجعل الأشخاص الآخرين - أيا كانوا - مثالا له فقد يفتح الله عليه أكثر من الآخرين أو يوفقه الله إلى عمل يتفرد به دون غيره فلله في خلقه شؤون والله يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء .
أهدافي في الرسالة
أولاً : بيان أن المبادرة الذاتية للعمل لهذا الدين أصل في المسلم وأنها صفة من صفات المسلم الحق وأنه محتاج إليها في العمل اليومي .
ثانياً : أنها وسيلة ناجحة لنشر هذا الدين عقيدة ودعوة .
ثالثاً : تصحيح لمسار بعض الدعاة الذين يعتمدون في عملهم وتنفيذاتهم اعتماداً كلياً على الخطط من نصح وإرشاد وتوجيه دون الاعتماد على النفس في إيجاد منافذ للعمل أو اتخاذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء مما أدى هذا إلى الفتور عند بعضهم .
رابعاً : لما وجدت من ضعف التفاعل الذاتي لدى بعض أفراد الصحوة الإسلامية لنشر هذا الدين . أدركت أنه لابد من طرح هذه القضية بقوة في مجالس ولقاءات أفراد الصحوة الإسلامية حتى يتولد الحس الدعوي الذاتي في أنفسهم للعمل يدا واحدة في سبيل النهوض بالمجتمع المسلم ليتولى مركزه السامي الذي فرط فيه وأعطاه لغيره فالعمل من أجل هذا الدين مسؤولية الجميع .
خامساً : إشاعة روح الجدية والهمة الذاتية في أفراد الصحوة الإسلامية فإن الهمة تدفع إلى القمة والعمل يفتح آفاق العمل والمرء يتعلم من تجارب الحياة في أيام مالا يتعلمه في قاعات الدراسة في سنين . فالحياة هي المدرسة الكبرى .
سادساً : بيان أن المبادرة الذاتية الدعوية فيها فوائد عديدة منها :
أ ... زيادة رصيده من الخير والدال على الخير كفاعله .
ب ... زيادة رصيده من الخبرة فتصبح لديه خبرة واسعة في كيفية التعارف والتآلف وجذب القلوب .(2/89)
ت ... مؤازرة المدعوين للداعية لهذا طلب سيدنا موسى عليه السلام من المولى عز وجل أن يجعل له وزيراً من أهله فقال ( واجعل لي وزيراً من أهلي ) [طه : 29 ] أي معيناً وظهيراً على التواصي بالحق .
وقفات لابد منها
أخي الحبيب :
قبل الدخول معك في صلب هذه الرسالة أحببت أن أقف معك بعض الوقفات التي لابد لكل داعية مسلم أن يلم بها علماً حتى تنطلق وأنت على بصيرة من أمرك . وهذه الوقفات هي :
الوقفة الأولى : وهي أم الدعوة إلى الله تعالى والعمل على إقامة الحق وإزهاق الباطل واجب على كل مسلم ومسلمة وأن هذا الواجب يؤدى على صورتين :
أ ... الصورة الأولى : بصفته فرداً مسلماً ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني .. ) [ يوسف : 108 ] .
ب ... الصورة الثانية : بصفته فرداً في مجموعة صالحة تدعوا إلى الله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ..) [ آل عمران : 104 ] فاستشعار المسلم لفريضة الدعوة يبعث في النفس الهمة للعمل والحث على التنفيذ ذلك يعني أنه لا تراخ في الفريضة ولا نكوص عن الواجب .
الوقفة الثانية : وهي أن الدين لا يقوم ولا ينتشر إلا بالجهد البشرى وبالطاقة التي يبذلها أصحابها يقول صاحب الظلال - رحمه الله - إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم وفي حدود طاقاتهم البشرية وفي حدود طاقاتهم البشرية وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية .
الوقفة الثالثة : أن للذاتية عدة جوانب منها الإيمانية والأخلاقية والثقافية والخيرية وسوف اهتم بالجانب الدعوي منها المتعلق بالتأثير في الأفراد والمجتمعات دون الجوانب الأخرى لقلة اهتمام شباب الصحوة بهذا الجانب الذي هو وظيفة الأنبياء والرسل وثمرة الإيمان والعلم .
الوقفة الرابعة : إن العمل الدعوي المنظم والمخطط له مسبقاً أجدى في تحقيق النجاح وأسرع في قطف الثمار .(2/90)
الوقفة الخامسة : إن من يهديه الله على يديك أيها الداعية الذاتي إنما هو كلبنة فكت من بناء الجاهلية ووضعت في بناء الإسلام وهو خسارة للشيطان وأعوانه وكسب للرحمن وأنصاره .
الوقفة السادسة : إن أية كلمة يقولها الداعية للمدعو لا تذهب هباءً منثوراً إما تدخل في مكونات المدعو ويختزنها عقله وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل سنوات بفعل موقف محرك أدى إلى استرجاع تلك الكلمة وتلك النصيحة .
الوقفة السابعة : أن الأجر والثواب يقع بمجرد الدعوة والتبليغ ولا يتوقف على الاستجابة ولذلك فقد وجه الله تعالى رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة فقال تعالى : ( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ .. ) [ الشورى : 48 ] .
** ولا يعنى هذا أن الداعية غير مطالب ببذل قصارى جهده واستخدام أحسن ما يستطيع من الأساليب والوسائل .
المراد بالذاتية الدعوية
الذاتية الدعوية : هي انطلاقة المؤمن ومسارعته للعمل الدعوي بحافز ذاتي من نفسه للعمل لهذا الدين دونما طلب من أحد أو متابعة بل هو السعي لطلب الأجر والمثوبة من الله .
منطلقات الدعوة الذاتية عند المسلم
المنطلق الأول : العمل الفردي العام :
وأقصد بذلك : أن يطلق المسلم بمفرده في ميدان الدعوة إلى الله لنشر الخير لعموم المسلمين وذلك لأن مسؤولية الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على كل مسلم لا يسقطها عنه أي اعتبار وهذا العمل الدعوي العام أصل من أصول هذا الدين إذ بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة قال تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ولم يبعث لطبقة معينة من الناس .
المنطلق الثاني : التعاون مع الصحبة الصالحة :(2/91)
وأقصد بذلك : أن يقوم الداعية المسلم بصفته فردا في مجموعة صالحة لنشر دعوة الله وتبليغ دين الله قال تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) [ المائدة : 2 ] أو تقول هو أن يحاول كل مسلم عامل عن طريق الدعوة الفردية أن يُدخِل في الهداية والاستقامة أخاً جديداً في مدة يحددها ويفكر في هذه المحاولة ويعزم عليها ويبذل ما طاقته من جهد وتضحية .
هذه هي منطلقات الذاتية للعمل الإسلامي بين دعوة عامة حتى تبقى هي قضية الإسلام ومعانيه العامة حية في الأنفس غير مستغربة في القلوب ودعوة جماعية حتى يتضاعف عدد العاملين للإسلام الحاملين لراية الجهاد في سبيل الله وإعداد جيل متميز يتحمل تبعات الدعوة وينذر نفسه لنشرها .
مظاهر الذاتية عند المسلم
( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين )
من المظاهر الذاتية :
1. ... أن يجد المسلم راحته في العمل والبذل والعطاء : فهو يجد أنسه وسروره وفرحته في نصر يصيب الإسلام أو خير يتحقق على يديه أو واجب يوفق إلى أدائه ويحس بلذة غامرة تغمره إذا هو أنفق جل وقته في أمور الدعوة . يقول صاحب مذكرات الدعوة والداعية واصفاً صاحب الذاتية الفاعلة : فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدر الاستعداد أبداً إذا دُعي أجاب أو نودي لبى غُدُوَّه ورَواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه لا يتعد الميدان الذي أعد له ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته يجاهد في سبيلها تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع مت فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوٍ لاصق وألم دفين وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهوة عالية وغاية بعيدة .
2. ... أنه يعيش للإسلام بكليته ويوجه حياته من أجله ويسخر كل طاقته وإمكاناته لما يعز سلطانه ويرفع بنيانه ( نحن نريد نفوساً حية قوية فتية وقلوباً جديدة خفاقة غيورة ملتهبة وأرواحاً متطلعة متوثبة ) .(2/92)
3. ... أنه شديد الحرص على هداية الناس وتعليمهم وتزكيتهم مقتدياً بسيد الدعاة عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى مصوراً صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( إن تحرص على هداهم ) [ النحل : 37 ] فالحرص على هداية الناس سمة أصلية في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذا تمثل بها الداعية الذاتي وكما قال أحد السلف مصوراً حرصه على هداية الناس بقوله : وددت أني أقرض بالمقاريض وأن هؤلاء الناس أطاعوا الله .
4. ... أنه لا يهدأ من التفكير في مشاريع الخير التي تنفع الإسلام والمسلمين .
5. ... أنه دائم الاتصال بإخوانه في الخير والدعوة : حتى يتزود منهم لينطلق مرة أخرى بالعطاء والعمل لهذا الدين متمثلاً الآية الكريمة ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. ) [ الكهف : 28 ] .
6. ... أنه يدعوا إلى الله في كل مكان وفي كل الظروف والأحوال وفي كل البيئات وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نجده يدعو في جميع الأماكن والأزمان والأحوال فوق الجمل وفي المسجد والطرق والسوق والمنازل وفي المواسم وحتى المقبرة وفي الحضر والسفر في صحته ومرضه وحيثما يزور أو يزار وكان يوجه دعوته إلى من أبغضوه ومن أحبوه . * فصاحب الدعوة الذاتية له في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة حسنة في ذلك .
7. ... أنه كثير الهموم والتألم لحال المسلمين وما يجدون من ظلم وعنت وتقديم الحلول والاقتراحات التي تعز الإسلام والمسلمين كما قال أحد الدعاة ( ليس أحد يعلم إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف حياتها ونحلل العلل والأدواء ونفكر في العلاج وحسم الداء ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إلى حد البكاء ) .(2/93)
8. ... الداعية الذاتي دائم النشاط والعطاء والاتصال بالناس فمن سمة المؤمن الداعية أنه ذا حركة نشيطة دائبة مستمرة فهو يبلغ الأمانة ويؤدي الرسالة وينصح الأمة فالداعية يخالط الناس ويصبر على أذاهم ليدعوهم إلى الله تعالى وفي الحديث ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجر من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) [ رواه ابن ماجه ] قال أحد الدعاة أن تكون عظيم النشاط مدرباً على الخدمات العامة تشعر بالسعادة والسرور إذا استطعت أن تقدم خدمة لغيرك من الناس .
ميادين الدعوة الذاتية
( أن تعمل على نشر دعوتك في كل مكان تذهب إليه )
هذه الميادين التي يمكن للفرد أن يمارس نشاطه الدعوي من خلالها هي :
1. ... محيط الأسرة من زوجة وأولاد وأقارب وأرحام .
2. ... المسجد فالمسجد ساحة رحبة للعمل النشط وميداناً فسيحاً للتحرك الدؤوب فهو مركز تجمع ونقطة انطلاق وكان عبادة وميدان تربية وعلم وتوجيه .
3. ... المدرسة والجامعة ومكان العمل .
4. ... الحي الذي يسكنه الداعية والأحياء المجاورة له على المسلم أن يعمل بشكل منظم في الحي والوظيفة وفي العمل وفي كل مجال للعمل لهذا الدين إذ ليس عند الداعية وقت إلا للدعوة .
5. ... التجمعات الأسرية العامة والخاصة .
6. ... القرى والهجر والبوادي ومخيمات الحجاج .
7. ... الأندية الرياضية : وغيرها كثير والميدان فسيح للدعوة إلى الله وما على الداعية إلا التبليغ ولا يترك الفرصة تفوت من بين يديه لعل الله تعالى يكتب له أجر الكلمة المعطاة التي لا يلقي لها بالاً فترفعه درجات والموفق السعيد من وفقه الله لكلمة الخير التي تنشر فيكتب الله له أجرها وأجر من يعمل بها إلى ما شاء الله .
* إن حضور الداعية في المناسبات من الأفراح والأتراح والأعياد يفتح له ميادين للدعوة والخير ويقدم له فرصاً طبيعي الاتصال بالناس وكسب ودهم .
(( فالداعية الحق يترك أثراً صالحاً في المكان الذي ينزل فيه ))
عناصر التأثير في الآخرين(2/94)
من الأمور الهامة التي ينبغي للداعية أن يهتم بها وينتبه إليها : عناصر التأثير في الآخرين وتتلخص فيما يأتي :
1. ... الميل العاطفي والمحبة القلبية للمدعو : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك .. ) [ آل عمران : 159 ] فالداعية لا يكسب قلب مدعوه إلا إذا أحبه وشعر منه العطف والرفق وحب الخير له .
2. ... القدوة السلوكية ( السيرة الحسنة ) : هي وسيلة فاعلة في التأثير على الناس وجذبهم إلى الخير ( وإنك لعلى خلق عظيم ) [ القلم : 4 ] .
3. ... الإقناع العقلي والحجة العلمية ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ].
4. ... تفاعلاته الدعوية ( النموذج المتحرك ) : من أهم عوامل التأثير هو ظهور الداعية في المجتمع بظواهر الاهتمام لهذا الدين والحماس لهذه الدعوة كما قال الصديق رضي الله عنه : أينقص الدين وأنا حي . فالداعية لا يفكر إلا في الدعوة ولا يفرح إلا للدعوة ولا يحزن إلا للدعوة ولا يبكي إلا على الدعوة ..
5. ... طريقته التشويقية في طرح أحكام الإسلام وقضاياه من خلال الأسلوب الحسن والعرض المبسط الذي يصل إلى الروح والعقل والقلب قال الله تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة .. ) [ النحل : 125 ] .
(( إن من نجاحك أيها الدعية : أن تجعل دعوتك مسألة حيوية حارة يتحدث بها الناس في مجالسهم ومنازلهم مع أصدقائهم وأهليهم فيلقى الرجل أخاه فلا يحدثه إلا عنها ويزور الصديق صديقه فتكون أقرب المسائل إلى حديثهما ويسمر السامرون فيدور جدلهم حولها )) .
هذه بعض عناصر التأثير في المدعوين التي ينبغي للداعية التحلي بها ليكون نبراس خير ونور للآخرين .
وسائل اكتساب الذاتية الدعوية
أولاً : التميز الإيماني والتفوق الروحاني :(2/95)
لابد أن ندرك أن أول أساسيات المبادرة والعطاء حسن الصلة بالله تعالى وعظيم الإيمان به وجميل التوكل عليه والخوف منه وهكذا كان السلف الصالح عندما أخلصوا لله كان سمتهم ورؤيتهم موعظة مؤثرة وأن الواحد منهم ليقول الكلمة يهدي بها الفئام من الناس فقوة الصلة بالله تجلب التوفيق والتأثير في الآخرين كما كان الرجل الصالح محمد بن واسع إذا رؤي ذُكر الله .
ثانياً : الزاد العلمي والرصيد الثقافي :
إن التميز الإيماني لابد أن يعضده الجانب العلمي لذا علينا أن نفهم الإسلام بشموله ونقف على حقائقه وأحكامه ونعنى بقواعده وأصوله وأن نتدارسه من مصدريه الكتاب والسنة ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك .. ) [ محمد : 19 ] فالإسلام له خصائص تميزه عن غيره فينبغي للمؤمن الداعية أن يتعرف عليها ويستشعرها في نفسه شعوراً بعظمة دينه وزيف ما سواه ليتحرك من أجله ويكون الدين كله لله .
فإذا توفر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك عوناً له في دعوته ورافداً من روافد نجاحه ومبادرته الذاتية .
ثالثاً : معرفة فقه الدعوة والعمل للإسلام :
لابد ابتداء معرفة الدافع للحركة لمن يتحرك الداعية ؟؟ فمتى اتضح الهدف من التحرك وهو : رضى الله ونصرة دينه ثم الجنة زادت الذاتية الدعوية والعطاء فوضوح الهدف من شأنه أن يجعل الداعية لا يهدأ حتى يحقق الهدف .
رابعاً : استشعار الأجر :(2/96)
وهذه مسألة ضرورية وعامل رئيس في الاندفاع نحو العمل والدعوة الذاتية ولعل هذا هو السر في تبيان أجر بعض العبادات حتى يكون دافعاً للعمل والعطاء فإذا عرف صاحب الذاتية أن كل حركة وسكنة يتحركها المهتدي وكل تسبيحة أو ركعة أو سجدة يفعلها وكل إحسان يجريه الله على يديه فإنما يكون في ميزان أعماله وأن له مثل أجره مصداقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الدال على الخير كفاعله ) فإنه لا شك سيتحرك الحركة الذاتية التي تجلب له هذا الخير الذي يتنامى يوماً بعد يوم .
خامساً : النظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحوال السلف والدعاة مع العمل للإسلام :
إن المتتبع لسيرة سيد الدعاة عليه الصلاة والسلام وأحوال السلف الصالح والدعاة مع العمل للإسلام له دور كبير في إشعال الهمة واكتساب الخبرة وإيقاظ الحماسة في قلب المرء المسلم لاستغلال وقته وجهده للعمل لنصرة هذا الدين .
سادساً : استشعار أن الجنة محفوفة بالمكاره :
لذا يتطلب منه طاقة وهمة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي وهو الجنة فإذا عرف المسلم هذا سوف يجعله يتحرك التحرك الذاتي للوصول إلى الهدف قال الله تعالى ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم منقرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة : 17 ] .
سابعاً : حمل هم الدعوة للعمل للإسلام :
إن انتمائي للإسلام يجب أن يجعل مني صاحب رسالة وهو في الحياة ويفرض عليّ كذلك أن أعمل ليكون المجتمع الذي أعيش فيه مسلماً ملتزماً بقوانين الله تعالى إنه لا يكفى أن أكون مسلماً وحدي دونما اهتمام بمن حولي .
ثامناً : المعايشة الجماعية :
من أهم عوامل اكتساب الذاتية الفاعلة : المعايشة الدعوية فالجماعية دافع للحركة وتوظيف الداعية لملكاته وجهوده وطاقاته في خدمة دعوته ونشر دينه بعكس الفردية والانعزالية فإن المرء يشعر غالباً معها بالفتور والكسل .
تاسعاً : الدعاء :(2/97)
إن العمل لهذا الدين هو هبة ومنحة من الله يمن بها على من شاء من عباده ومادام الأمر كذلك فالجأ أخي المسلم إلى ربك ومولاك واسأله بقلب خاضع ولسان صادق وجوارح خاشعة فهو المسؤول أن يقوي إرادتنا ويعلي همتنا وحركتنا لهذا الدين قال الفاروق رضي الله عنه في دعائه : اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك فارزقني النشاط فيها .
الوسائل الدعوية للذاتية الفاعلة
الوسيلة : فكرة يراد إيصالها للناس .
الأسلوب : طريقة لعرض الفكرة للناس .
مثال :
الوسيلة : الشريط الإسلامي .
الأسلوب : أ – هدية ب – مسابقة ج – إعارة د – إعلان
* بعض الوسائل الدعوية الفردية :
1. ... الكلمة الهادفة سواء كانت تلك الكلمة : أ - محاضرة ب – درس يومي ج – خطبة د- موعظة هـ - نصيحة شخصية فردية .
2. ... الكتاب أو الكتيب : إن الكتاب من أهم وسائل نشر الدعوة والخير فهو يخاطب العقل والعاطفة معاً فيختار الداعية الكتاب المناسب للمدعو على حسب مستواه المعرفي والعقلي ليكون تأثيره أقوى في نفسية المدعو .
3. ... الشريط الإسلامي : خاصة مع الناس الذين لا يحبون القراءة فيختار لكل شخص الموضوع الذي يناسبه . مثال : إنسان تجد فيه غفلة وتعلق بالدنيا تهدي له شريطاً يذكره بالآخرة والموت . * أن يركز الداعية الفاعل على عدم خلو سيارته من مجموعة مناسبة من الأشرطة والكتيبات لاستخدامها عند الحاجة .
4. ... البحث : إن البحث عن مفيد فائدة جليلة في نشر الدعوة ولهذا ينبغي أن يهتم الداعية به . مثال : قد يلاحظ الداعية في المدعو إهمالاً في المحافظة على إقامة الصلوات الخمس في المساجد جماعة فيطلب الداعية من المدعو بكتابة بحث عن أهمية صلاة الجماعة في المساجد ومنزلتها وثوابها والسلبيات المترتبة على تركها وإهمالها .
5. ... توزيع ونشر المطويات : وهي عبارة عن بضع صفحات تعالج موضوعاً معيناً وميزتها أنها من السهل أن يقرأها الإنسان في دقائق معدودة .(2/98)
6. ... إشاعة كل عمل إسلامي : يراه الداعية أو يسمع به والدال على الخير كفاعله .
7. ... التأليف والتصنيف : وهذه الوسيلة من الوسائل التي يبقى ثوابها دائماً لا ينقطع فقد جاء في الحديث ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من علم ينتفع به وولد صالح يدعو له وصدقة جارية ) [ رواه مسلم ] .
8. ... الرسالة : تعني أن يقوم الداعية بكتابة رسالة إلى المدعو يدعوه إلى فعل الخير أو ترك الشر ممزوجة بالعاطفة والوجدان القلبي . فالرسالة أسلوب من أساليب الدعوة والتي يجب على الداعية أن يستخدمها فقد ينجح هذا الأسلوب مع نوعية من الناس فالرسالة لها تأثير عجيب عندما يقرأها الإنسان في تمعن وترو .
9. ... شكر كل من ساهم في دعم الدعوة والثناء عليه : من خلال الهاتف .الرسالة. الفاكس . الإنترنت . (( وفي دعم هذا العمل تشجيع له على مواصلة العطاء الدعوي )) .
10. ... التفكير فيما ينفع الدعوة والتخطيط لها : إن أول خطوة للعمل الجاد هي التفكير لذا يلزم على الداعية أن تكون له جلسة تفكر لإيجاد الجديد من الوسائل الدعوية أو تطوير للموجود .
11. ... ومن أهم الوسائل الدعوية المعنوية التي يمكن أن يباشرها الداعية إلى الله : الدعاء للمدعو بأن يهديه الله تعالى ويشرح صدره ويفتح عليه وهذا أسلوب قرآني قال تعالى ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) [ الأعراف : 89 ] . وأسلوب نبوي قال - صلى الله عليه وسلم - في دعائه شفقة على أمته (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) [ صحيح البخاري]
12. ... تشجيع كافة أعمال البر والخير : ولا سيما في مجال الدعوة ونشر العلم وتقديم الخدمات .
13. ... إظهار المحبة والمودة في المقابلة والمهاتفة والدعاء للشخص المقابل بأدعية تؤثر في نفسه مثل : بلغك الله أعلى منازل الجنة . فهي وسيلة للتآلف وزيادة المودة .(2/99)
14. ... طرح مشاريع خيرية دعوية في المجالس العامة أو الخاصة : مثل : كفالة داعية وتفطير صائم وكفالة يتيم وبطانية الشتاء ووقف خيري . وفي هذا الطرح فوائد :1- دعمها بالدعاء. 2- دعمها مادياً . 3- معرفة الناس لها وتفاعلهم معها ونشر الحس الدعوي لدى المدعوين .4- إشادة بالعاملين وتثبيت لهم .
15. ... الهدية الهادفة :1- مثل إهداء كتاب أو شريط أو اشتراك في مجلة أو مصحف مكتوب عليه اسم المُهدَى إليه . 2-سد النقص لدى المهدى إليه فإن كان في حاجة إلى مدفأة مثلاً أهديت إليه فهذا أولى لأن في ذلك تلمس لحاجة الأخ .
16. ... تخصيص وقت دعوي ساعة في الأسبوع : مثلاً لزيارة الأرحام والجيران وأن تكون الزيارة هادفة بمعنى أن يضع الداعية هدفاً تربوياً يحققه من خلال الزيارة .
17. ... الدلالة على كل خير للمسلمين ( الكلمة الطيبة ) : هي التي تؤدي إلى العمل الصالح قال تعالى ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ فاطر : 10 ] فالكلمة تثمر لقائلها عملاً صالحاً في كل وقت . *فالدلالة والكلمة الطيبة من الداعية قد تنشئ دعوة وقد تبني مؤسسة خيرية وقد ينقذ الله بها أقواماً أو يعمر بها نفوساً بل قد يحي بها أقواماً من السبات وما على الداعية إلا التبليغ ولا يترك الفرصة تفوت من يديه لعل الله تعالى يكتب له أجر الكلمة التي أعطاها ولا يلقي لها بالاً وترفعه الدرجات . * صور للدلالة على الخير : فلا يفوت على الداعية فرص الكلمة المؤثرة البليغة مثل : 1- رفيق السفر في القطار أو الطائرة . 2- اللقاء العابر على وليمة أو مناسبة . 3- في السوق وعند الشراء . 4- في المسجد بعد الصلوات. 5- عند التعارف مع الغير في السفرات والخلوات . 6- دعوة الغير لسماع محاضرة أو ندوة . (( إن قول الكلمة الطيبة بهذه النيات ظاهرة من ظواهر العطاء الذاتي والإيجابي في حياة الداعية )) .(2/100)
18. ... استثمار الفرص : وأقصد بذلك توظيف هذه الفرصة في خدمة الدعوة مثل : 1- المناسبات الإسلامية : رمضان – الحج – الأعياد .... الخ . 2- الأفراح – والأتراح – المجالس العائلية العامة والخاصة . 3- السفر كالمرور بقرية على الطريق العام لتوزيع الكتيبات والأشرطة .. الخ فالداعية الناجح هو من يمتلك صفة استغلال الفرصة وتوظيفها في خدمة الدعوة بل ويصنع الفرصة ويوظفها توظيفاً سليماً في خدمة الدين .
19. ... دعوة فرد بعينه لرفع درجة التزامه ( الدعوة الفردية ) .
20. ... المشاركة في المجلات الإسلامية وذلك بدعمها معنوياً بالمراسلة والتشجيع أو مادياً بالاشتراك فيها .
21. ... تقوية العلاقة بالمؤسسات الدعوية والإغاثية والمشاركة معها بقدر الإمكان وخاصة في المواسم كرمضان .. الخ .
22. ... التسخير : وأقصد بذلك : توظيف الداعية لطاقته وإمكاناته وما آتاه الله من النعم في خدمة دعوته . مثل 1- النفس 2- المال 3- الوقت 4- التفكير ..الخ .
23. ... الحوار الهادف : وهو الذي يكون اثنين أو أكثر حول قضية من القضايا بهدف إحقاق الحق والدفاع عنه بالحجة والبرهان .
24. ... التزام الإمامة في أحد المساجد لتفعيل رسالة المسجد ودعوة أهل الحي للهداية قال تعالى ( واجعلنا للمتقين إماماً ) [ الفرقان : 74 ] .
25. ... التعاون الدعوي مع الآخرين لنشر الدعوة الإسلامية بأقصر وقت ممكن ( وتعاونوا على البر والتقوى ) [ المائدة : 2] .
26. ... المساهمة في دعم نشاطات الدعوة مادياً ومعنوياً .
27. ... التخطيط بجدية لبرامج الدعوة : وضع خطة سنوية / شهرية / أسبوعية / يومية / مناسبات .(2/101)
28. ... على الأخ الداعية الفعال أن يسعى لتصميم منزله دعوياً وذلك بعمل جملة من الأمور : 1- أن يكون قريباً من المسجد . 2- أن تكون واحدة من غرف البيت إن أمكن مصلى لا تستخدم إلا لذلك . 3- أن يجعل واحدة من غرف المنزل مكتبة عامة . 4- التزام الشخصية الإسلامية في المنزل . 5- نشر الآداب والأعراف الإسلامية قي البيت . 6- وضع طاقات منزله لخدمة الدعوة . 7- تأثير البيت المسلم على ما حوله وذلك بنشر الدعوة بينهم .
29. ... استثمار همة الناس في الدعوة مثل : من كان ذا غنى ومال وفير يستثمر للمشاركة في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإقامة المنشآت النافعة ونحو ذلك .
30. ... المبادرة الذاتية لفتح أنشطة دعوية : مثل : 1- دارية الحي . 2- نشاط مدرسي . 3- تفعيل دور المسجد . 4- نشاط عائلي هادف .
* وأخيراً : يصل شعور الداعية بالعجز وافتقاره إلى توفيق الله تعالى وعونه وتسديده هو العامل المحرك والمولد لكل أسباب هذه الدعوة الذاتية .
نماذج من الذاتية في الدعوة إلى الله
النموذج الأول : دعوة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الله تعالى .
أسلم الصديق رضي الله عنه على يد الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وآمن بموجب الدعوة وحمل صفات الداعية وتقدم يدعو الأفراد إلى الله وأدخل في دين الله عدداً مباركاً من الصحابة الكرام أمثال :
1. ... الزبير بن العوام .
2. ... عثمان بن عفان .
3. ... طلحة بن عبيد الله .
4. ... سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين .
النموذج الثاني : دعوة مصعب بن عمير رضي الله عنه في المدينة .
بعدما أسلم وفد يثرب وبايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين ووصل مصعب إلى المدينة يدعو فيها إلى الله فلم يبقى بيت في المدينة إلا وفيه مسلم فرحم الله مصعباً وأجزل له الثواب .(2/102)
* الذاتية الدعوية عند الصديق ومصعب بن عمير عرفا أن الدعوة كلمة طيبة تخرج من قلب صادق تؤثر في نفوس الآخرين .
* فجزى الله أبا بكر ومصعباً رضي الله عنهما عن الإسلام خير الجزاء .
نتائج الذاتية الدعوية
1. ... اتساع فقه الداعية في الدعوة وازدياد خبرته بالحياة وطبائع الناس .
2. ... الأجر الجزيل من الله تعالى ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) [ فصلت : 33 ] .
3. ... انتشار الدعوة والخير في أوساط الناس .
4. ... إشاعة روح الجدية والهمة في الوسط الدعوي .
5. ... مواجهة تيار الفساد ضد الإسلام وأهله .
6. ... تطهير النفس من العيوب وذلك أن في النفس عيوباً خافية لا يكتشفها صاحبها إلا في جو العمل والعطاء وفي محيط الدعوة وما يصاحبها من جهاد ومكابدة ومعاناة .
7. ... فتح ثغرات ومنافذ جديدة للعمل الدعوي .
8. ... تكوين النموذج القادر على العطاء والمبادرة الذاتية الدعوية .
* هل بعد هذه النتائج للذاتية الدعوية خمول وكسل عن دعوة الله تعالى ؟؟
صفات مثالية للداعية الذاتي
الداعية الذاتي :
1. ... مخلص العمل لله تعالى .
2. ... صحيح العقيدة .
3. ... مثقف الفكر .
4. ... قوي الجسم .
5. ... منظم في شؤونه .
6. ... حريصاً على وقته ونافعاً لغيره .
7. ... نشيطاً في دعوته .
8. ... يحمل هموم أمته بين جوانحه .
9. ... لا يهدأ من التفكير في مشاريع الخير والدعوة .
10. ... غدوه ورواحه وحديثه وكلامه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له .
11. ... يشغل الناس بهموم دعوته .
12. ... له جزء يومي من القرآن .
13. ... يذكر الله في كل أحيانه .
14. ... بيته وأهله مسخر لخدمة الإسلام وأهله .
15. ... له في كل سهم غنيمة .
16. ... محباً للقراءة والإطلاع .
17. ... له مشاركة فعالة مع مؤسسات الإسلام .
18. ... مخصصاً جزءًً من ماله لأعمال البر والدعوة .
19. ... مهتماً بأهله إيماناً ودعوياً وثقافياً .
20. ... يعيش عيشاً جماعياً مع إخوانه المؤمنين .(2/103)
أخيراً : (( يجد أنسه وسروره وفرحته في نصر يصيب الإسلام أو خير يتحقق على يديه أو واجب يوفق إلى أدائه ويحس بلذة غامرة تغمره إذا هو أنفق جل وقته في أمور الدعوة )) .
الخاتمة
أخي الكريم :
وبعد لم يكن المقصود من تناول الموضوع في هذه الرسالة المعلومات المجردة وحسن الجمع والترتيب والتنسيق .... كلا
ولكن المقصود هو العمل والتفاعل لنصرة دين الله وحمل هم الإسلام فالله الله في العمل للدين فإنها مسؤولية الجميع .
أخي العزيز :
هذا الموضوع : الدعوة الذاتية يجب ألا نمل طرحه ولا نسأم تكراره حتى يتجدد في القلوب وتتشبع منه الأفئدة ويكون معنا في كل لفتة وفلتة وفقني الله وإياكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين .
المراجع : كتب تربوية ودعوية .
أخوكم
خالد عبد الرحمن الدرويش
الأحساء – الهفوف
5813909
ص . ب : 50087
ــــــــــــــــــ
نهر الحسنات الجاري
أكثر من مـ100 ـائة فكرة للحسنات الجارية
المقدمة
الحمد الله الذي يعطي الكثير على القليل ، ويتفضل على العمل الصغير بالأجر الكبير ، وينظر إلى القلوب والأعمال ، ولا ينظر إلى الصور والأموال ، وهو العظيم القدير ، والصلاة والسلام على البشير النذير ،والسراج المنير ، خير هاد وأقوم دليل ، ما من خير إلا ودل عليه ورغب فيه وسابق إليه ، وهو لذلك أهل ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته ،ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله ،وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد :
فيا باغي الخير أقبل !
فهذا ميدانك العظيم يناديك ، ويفتح ذراعيه لك ...
فها هي الصدقات الجارية التي يجري نفعها لك ما جرت منفعتها لغيرك ..
توقعها مرة ، فيقع لك أجرها كل مرة !(2/104)
فعن سليمان الفارسي _رضي الله _ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اربع من عمل الأحياء تجري الأموات : رجل ترك عقبا صالحا يدعوا له ينفعه دعاؤهم ، ورجل تصدق بصدقة جارية من بعده له أجرها ما جرت له ، ورجل علم علما فعمل به من بعده ، له مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر من يعمل به شيء ).صحيح الجامع 1/215 (888)
وهكذا همتك _ أيها التاجر الماهر _ لا بد أن ترقى لتحوز الأجر المستمر والثواب المتصل الذي لا ينقطع أجره ولا يمتنع بره لمرة واحدة فقط كغيره من الأعمال ، بل يتتابع فيه الأجر ويتعاقب فيه الثواب ، لتغنمه جميعا في يوم الجزاء والحساب .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ابن الإنسان انقطع عمله من ثلاث ، صدقة جارية ، أو عمل ينتفع به ، ولد صالح يدعوا له ).مسلم 3/1016(1631)
وها أنت ترى بعين بصرك وبصيرتك سعة رحمة الله بنا ومبلغ فضله علينا ، يوم فتح لنا باب الغنيمة من الأجور التي تتهادى كالزهور في زهو وألق بين عيون كل مسدد وموفق ، ويعمى عنها من أسكرته وكبلته الزلة ، ومن وقع في فخ المعصية تكبلت قدمه بقيود الخذلان والحرمان عن الطاعة والإحسان ، والمهدي من هداه مولاه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله !
واها على أحوال قوم أعرضوا يا معرضين عن الكريم تعرضوا
عن بابكم كم فاتهم خيرات فلربكم في دهركم نفحات
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (افعلوا الخير دهركم ، وتعرضوا لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته ، يصيب بها من يشاء من عباده ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم ).الصحيحة 4/511(1890)(2/105)
وبين يدي كل عامل خامل يوم الحسرة والتغابن الذي يندم فيه على تفريطه ، ويتبرم فيه من عجزه ، ويتألم فيه على تقصيره ، ومما فاته من بذر الخير كان في متناول يده ، فأضاعه في زمن الغرس ، وجناه ألما وندما في يوم الحصاد !
قال تعالى : {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي }.الفجر 23-24
وقال تعالى :{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين }.الزمر55-58
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أفضل المؤمنين أحسنهم خلقا ، وأكيسهم _ أي العاقل الريب _ أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم استعدادا ، أولئك الأكياس ).الصحيحة 3/372(1384)
وغليك ايها الرائي بعض الصور المشرقة من الصدقات الجارية التي ينبغي لكل مسلم أن يأت بها ولو مرة واحدة في العمر ليكون من أهلها ، فما يدرك كله ، لا يترك جله .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدجلة ) .البخاري 1/23 (39 )
والناس في هذا الميدان ما بين مقبل ومدبر ، ومستقل ومستكثر ، ومسترسل ومستحسر ، فالعاقل يغنم ما يقدر عليه مما وقع تحت يديه ن لأنه في مهمة عمل ورحلة استكثار من العمل الصالح الذي تستجلب به رحمة الرحيم الرحمن ، وتستدفع به نقمة العزيز الجبار .
وقد جمعت من سبل الصدقات الجارية ما أرجوا أن يكون في متناول ايدي الجميع أغنياء وفقراء ، أقوياء وضعفاء ، ذكورا وإناثا ، وليس لأحد عذر في ترك العمل الصالح ، وإن كان يسيرا ، وفي أعين البعض صغيرا أو حقيرا !(2/106)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه ).الصحيحة 1/605(342)
فها هو البحر الهادر بين يديك ، فغص لججه ، واقتحم ثبجه ، واجمع كنوزه ودرره ، ومعدنه وجوهره ، ولا تكن من الخوالف فتدركك المتالف ، والله المستعان على كل حال.
كنوز من الصدقات الجارية
1- منيحة الغنم أو البقر أو الإبل للفقراء ليستفيدوا من وبرها ولبنها وروثها .
فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة ، تغدو بعس _القدح الكبير _ وتروح بعس ، إن أجرها لعظيم ).مسلم 2/585(1019)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ، لا يعمل عبد بخصلة منها رجاء ثوابها ، وتصديق موعدها ، إلا أدخله الله الجنة ) .البخاري 3/200(2631)
2- حفر الآبار في المناطق التي تحتاجها كالبوادي والقرى ، أو تعميق ما غارت مياهها ، وبناء ما تهدم من جدرانها .
فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبد حري من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة ).صحيح الترغيب 2/186(1594)
3- شراء الدرجات الهوائية والنارية ( الدبابات ) للدعاة الذين يتجولون بها في الغابات والأحراش _كما في أدغال إفريقيا _ لنشر دين الإسلام .
4- توزيع الخيام على البدو الرحل بدلا عن بيوت الشعر المتهالكة التي لا تدفع حرا ولا تمنع قرا .
5- مد شبكات توزيع المياه الصالحة للشرب في القرى والأماكن المحتاجة لها.(2/107)
فعن أب ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تبسمك في وجه أخيك صدقة ، وأمر بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ، وبصرك للرجل الردئ لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة ).صحيح سنن الترمذي 2/186(1594)
6- إجراء الأنهار وتصريف الأودية والينابيع وتوصيل قنواتها للمزارع والبيوت بشق الأخاديد وتمديد الأنابيب الموصلة لها لمن ينتفع بها .
7- تجهيز ٍورش عمل للميكانيكا أو الحدادة أو النجارة أو الألمنيوم وتشغيل العمالة المناسبة الفقيرة فيها ليكون ريع الورشة لهم .
8- إهداء بعض النساء الفقيرات ماكينات خياطة وتطريز لتعمل عليها وتستفيد من دخلها .
9- إعطاء الفقراء بعض أدوات الزراعة كالحراثات والحصادات والمناجل ، وخير من ذلك البذور والشتلات التي تنتج مرة من بعد مرة .
10- تركيب دارات كهربائية "مواتير" ضخ المياه على بعض الآبار المشاعة أو لبيوت بعض الفقراء .
11- فرش المساجد بالفرش المناسب لها .
12- تركيب برادات المياه الداخلية والحافظات بالمساجد ليشرب منها المصلون في تلك المساجد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ففي ابن آدم ستون وثلاثمائة سلامى أو عظم أو مفصل ، على كل واحد في كل يوم صدقة ، كل كلمة طيبة صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ).الصحيحة 2/117(576)
13- وضع كاسات المياه وأكواب الشراب على برادات المياه .
14- وضع أباريق الوضوء في المساجد التي لا يوجد بها مياه في صنابير .
15- بذل المناديل الورقية بالمساجد.
16- تعليق حوامل الكتب ولوحات الإعلانات عن المحاضرات والندوات والأنشطة الدعوية في المساجد .
17- توفير لوازم المساجد من المكيفات ومكبرات الصوت والساعات وغيرها .
18- حفر القبور للموتى ودفنهم فيها .(2/108)
فعن أبي رافع رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من غسل مسلما فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة ، ومن حفر له فأجنه أجرى عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة ، ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة ).أحكام الجنائز ص51 رقم 30
19- تجهيز لبنات القبور ووضعها في المقابر حتى يستفاد منها عند الحاجة .
20- التبرع بالأرض كطريق للمسلمين يعبرون منها بأقدامهم أو مركباتهم .
21- التبرع بالأرض لجمعية خيرية أو هيئة شرعية لتبني عليها مقرها أو بعض منافعها .
22- التبرع بالأرض لتكون مقبرة للمسلمين يدفنون فيها موتاهم .
23- التبرع بالأرض للفقراء والمساكين ليبنوا عليها منازلهم .
24- التبرع بالأرض للفقراء ليغرسوها ويستفيدوا من زرعهم فيها .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أرض تهتز زرعا ، فقال : (لمن هذه ؟!فقالوا : اكتراها فلان . فقال - صلى الله عليه وسلم - أما أنه لو منحها إياه كان خيرا له من أن يأخذ عليها أجرا معلوما ).البخاري 3/201(2634)
25- التبرع بالأرض لبناء مسجد عليها .
26- التبرع بالأرض لتكون مواقف سيارات للمسلمين يضعون فيها مراكبهم .
27- التبرع بالأرض لتكون مصلى للعيد وصلاة الاستسقاء .
28- التبرع بالأرض ليبنى عليها مستشفى أو مدرسة أو دائرة تقوم على تقديم الخدمة للمسلمين .
29- وقف الأرض على بعض المجالات الخيرية ليستفاد من ريعها في مصالح المسلمين .
30- التبرع بقوارب بحرية أو شباك صيد لبعض صائدي الأسماك .
31- شراء الملابس الجديدة وتوزيعها على مستحقيها من الفقراء والمحتاجين خاصة عند حلول العيد أو بداية العام الدراسي .
32- التصدق بالملابس القديمة المستهلكة على أهل الحاجة بعد غسلها وكيها وتجهيزها للاستخدام مرة أخرى .
33- خياطة الملابس في البيوت وإرسالها إلى النساء أو الأيتام المحتاجين .(2/109)
34- فرش بيوت الفقراء بالفراش المناسب لهم .
35- تجهيز بيوت الفقراء بما يحتاجون إليه من أثاث ولوازم كالسرر وأدوات الطبخ والخزانات ( الدواليب ).
36- التصدق للفقراء بالثلاجات والغسالات والسخانات وأدوات الكي وأجهزة التدفئة في المناطق الباردة ، والمكيفات المبردة في المناطق الحارة .
37- إدخال السرور على أطفال الفقراء بإهدائهم لعب الأطفال الخالية من المخالفات الشرعية ولو كانت مستخدمة .
38- توزيع الخمار الشرعي "الحجاب" والعباءات الساترة على النساء في البلدان التي تعاني من تبرج وتهتك وسفور .
39- توفير لوازم دور التحافيظ النسائية المختصة بتدريس القرآن والسنة بمثل الكراسي والسبورات والأقلام وغيرها مما تجتاجه تلك الدور .
40- بناء السدود وحواجز المياه الترابية والخراسانية في المناطق التي تعاني من شح المياه الجوفية .
41- بناء الأربطة ودور الإيواء للأسر الفقيرة أو الأرامل المنقطع بهن لذوي الحالات الخاصة كدور العجزة وفاقدي والديهم وغيرهم .
42- بناء المدارس الإسلامية التي تعلم الكتاب والسنة في البلاد المسلمة وغيرها من البلاد التي بها أقلية مسلمة .
43- بناء المساجد في المدن والقرى والهجر والبوادي .
فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من بنى مسجدا لله ، بنى الله له في الجنة مثله ).مسلم 4/1809(533)
44- بناء المستشفيات والمستوصفات في البلاد الفقيرة لتعالج المرضى الفقراء بالمجان .
45- بناء مغاسل الموتى ، وتجهيزها بما يلزمها من أكفان وحنوط ونعوش وأدوات غسل ونقل .
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من غسل ميتا فستره ، ستره الله من الذنوب ، ومن كفن مسلما ، كساه الله من السندس ).الصحيحة 5/467 (2353 ).
46- بناء مستودع خيري لجمع وتوزيع المواد الغذائية والاستهلاكية والملابس وغيرها على الفقراء .(2/110)
47- بناء مطبخ خيري يقدم الوجبات للأسر الفقيرة ، وتجهيزه بلوازمه مثل القدور والملاعق والأفران وغير ذلك .
48- بناء استراحة على الطرق الطويلة تحتوي على بعض الخدمات المهمة كدورات المياه وغير ذلك مما يستفيد منه العابرون على تلك الطرق .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته ، بعد موته علما نشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه ، أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من المه في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته ).صحيح سنن ابن ماجة (1/46) (198)
49- بناء مسكن مناسب لطلاب العلم الذين يؤمون العلماء ليجاوروهم ويأخذوا العلم عنهم ، ويقصدون الجامعات العلمية والشرعية لتحصيل العلم النافع فيها .
50- بناء قصور الأفراح ليتم تأجيرها من الفقراء الذين ثبتت حاجتهم بأسعار رمزية أو مجانية ليقيموا فيها أفراحهم ومناسباتهم السعيدة .
51- بناء مراكز إسلامية بالدول التي يوجد بها أقلية مسلمة وتجهيزها بلوازمها المهمة فيها .
52- ترميم منازل الفقراء المتصدعة والتي تكاد أن تسقط على رؤوس أصحابها وتحتاج إلى ذلك الترميم .
53- إقامة الأسوار المحيطة بالمقابر عند خوف العبث بها والتعدي عليها .
54- شراء حافلات كبيرة لنقل الحجاج الفقراء إلى المشاعر المقدسة بالمجان .
55- شراء حافلات لحلقات التحفيظ في المساجد لنقل الطلاب لمزاولة أنشطتهم الدعوية والتربوية .
56- شراء حافلات لنقل الطلاب الفقراء من المدارس وإليها .
57- شراء حافلات لنقل النساء المنتظمات في دور النساء القرآنية بالضوابط الشرعية .
58- منح بعض الفقراء سيارات خاصة بهم ولو كانت مستعملة .(2/111)
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما نحن في سفر مع النبي صلى لله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له . قال : فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد ، فليعد به على من لا زاد له ).صحيح مسلم (3/1090)(1728 )
59- منح الهيئات القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض السيارات المناسبة لهم لتكون عونا في القيام بمهمته .
60- منح بعض المرضى المعاقين سيارات خاصة تناسب حالتهم الصحية وتتوافق مع إعاقتهم .
61- التبرع بسيارات إسعاف لبعض مراكز الإسعاف لنقل المرضى والجرحى وخصوصا حال الأزمات في الحروب والآفات العامة .
62-التبرع بسيارات واسعة لنقل الموتى من البيوت والمستشفيات والمساجد للمقابر ليتم دفنهم فيها .
63- التبرع بشاحنات مياه كبيرة لنقل المياه للمناطق الجافة وخصوصا للبادية الذين يعانون من ضعف مصادر المياه وصعوبة الحصول على المياه العذبة .
64- توزيع لباس إحرام للحجاج والمعتمرين عند إرادتهم الدخول في الأنساك
65- تركيب برادة خارجية للمياه في المساجد أو المدارس أو المقابر أو أسوار البيوت حيث الأحياء المكتظة بالعمال والأطفال والفقراء .
66- توفير بعض احتياجات المستشفيات كجهاز الأشعة والتحاليل والمختبرات .
67- التبرع لبعض المرضى المعاقين بالكراسي المتحركة والأسرة الخاصة بهم .
68- المساهمة في توفير الأطرف الصناعية لبعض المرضى الذين اتلوا بتلف بعض أطرافهم أو بترها .
69- التبرع لمرضى السكر بأنابيب تحليل السكر عند عجزهم عن شرائها .
70- التبرع بجهاز توسيع الشعب الهوائية لمن أصيب بضيق في التنفس .
71- شراء النظارات البصرية للفقراء المصابين بعجز في نظرهم .
72- التبرع بمطبعة لطباعة الكتب الدينية والنشرات لتوزيعها في وجوهها المناسبة .(2/112)
73- التبرع بأدوات التصوير والنسخ والاستقبال للمكاتب الدعوية والإغاثية .
74- توفير أرقام هواتف للمكتبات الخيرية سواءا الدعوية أو الإغاثية .
75- توفير أجهزة التسجيل والنسخ للأشرطة للمكاتب الدعوية
76- القيام بشق الطرق وتعبيدها وتوصيلها لمن يستفيد منها .
77- توفير أرفف وحوامل أو معلقة للمصاحف في المساجد .
78- نشر المصاحف ووقفها على المساجد والمكتبات والمدارس وغيرها .
فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (سبع يجرى للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ).صحيح الترغيب 1/36(74)
79- وقف بعض لوازم الأفراح الغالية كزينة العروس وحليها ليتم إعارتها لمن تريدها في ليلة زواجها ثم يتم ردها لتستفيد منه غيرها .
80- غرس الشجر الذي يستفيد الناس من ثمره أو ظله أو ورقه أو جذوعه .
فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا ، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ).صحيح البخاري (3/94 (2320 ).
81- تأليف الكتب والكتيبات والمطويات والنشرات وطبعها لتوزيعها لمن يستفيد منها .
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت ، من مات مرابطا في سبيل الله ، ومن علم علما ، أجري له عمله ما عمل به ، ومن تصدق بصدقة ، فأجراها يجري له ما وجدت ، ورجل ترك ولدا صالحا فهو يدعوا له ).صحيح الجامع 890
82- توزيع الكتب على المكتبات العامة في المساجد والمدارس والدورات وغيرها .
83- توزيع الكتب على طلاب العلم في الدروس المنهجية والدورات العلمية .(2/113)
84- توزيع الكتيبات على عامة المسلمين ليستفيدوا منها بطريق المناولة أو المراسلة أو وضعها في أماكن الانتظار في المستشفيات والمطاعم وصوالين الحلاقة ومكاتب العقار وغيرها .
85- توزيع الكتيبات على غير المسلمين لدعوتهم إلى الإسلام .
86- إرسال الكتب الإسلامية إلى المكتبات العالمية ومراكز الأبحاث .
87- إنشاء موقع على شبكة الإنترنت العالمية تدعوا إلى الإسلام والمعتقد الحق والمنهج الصواب الموافق للسنة والكتاب .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم ، مثل آثام من تبعه ، لا ينقص من آثامهم شيئا ) .صحيح مسلم 4/1636(2674)
88- إنشاء قناة فضائية إسلامية تدعوا إلى الإسلام وتنافح عنه ، بضوابط شرعية لا بد منها .
89- إنشاء إذاعة إسلامية تنشر الخير في الأرض ، ويمكن أن تكون إذاعة محلية تختص بقطر معين أو تكون عالمية الإرسال .
90- إعداد مجلة إسلامية شرعية تتناول قضايا الإسلام والمسلمين .
91- إعداد جريدة يومية سيارة تتناول الحوادث اليومية من منظور إسلامي .
92- مد المجاهدين في سبيل الله بلوازم الجهاد من عدة وعتاد .
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله ، ومنيحة خادم في سبيل الله ، أو طروقة فحل في سبيل الله ).صحيح سنن الترمذي 2/125(1328)
وعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من جهز غازيا في سبيل الله ، كان له مثل أجره ، من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئا ).مسلم 31197(1895 )
93- توفير مولدات كهربائية للبوادي والهجر عامة أو خاصة .(2/114)
94- إهداء حقيبة المدرسة التي تحتوي على لوازم الدراسة من أقلام ودفاتر وألوان ومراسم لأبناء الفقراء عند بداية العام دراسي .
95- توفير حاسب آلي لمن ينتفع به في الدعوة إلى الله تعالى سواء كان لأفراد أو لمجموعات دعوية أو إغاثية .
96- التبرع بحاويات صغيرة لحفظ الماء لبعض أهل البادية أو حاويات لتكون مستودع مائي يلجأ إليه الجميع عند الحاجة إليه .
97- إضاءة الطرق المظلمة التي يحتاج إليها المسلمون في تنقلاتهم في الليل .
98- وضع حافظات مياه كبيرة "براميل " على طرق المسافرين تملئ بالمياه الصالحة للشرب والوضوء وسائر المنافع ، وينبغي تعاهد الماء فيها مرة بعد أخرى .
99- كفالة طلاب العلم حال طلبهم له وعكوفهم عليه وكذلك الدعاة الذين يجوبون الأرض لينشروا دين الله تعالى في أنحاء المعمورة ، وهذا من أعظم المسالك التي يستمر خيرها وبرها في الحياة وبعد الممات .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان أخوان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أحدهما يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليطلب العلم والآخر يحترف ، فشكا المحترف أخاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( لعلك ترزق به ).صحيح سنن الترمذي 2/274(1912)
100- التبرع بالعربات اليدوية "التي تحمل البضائع " لبعض الفقراء الذين يعملون في أماكن بيع الخضروات والأسواق العامة .
101- بناء البيوتات الصغيرة للبدو الرحل المعتادين على التجوال لأمر غير ذي بال ، لتوطينهم وتعليمهم وتوظيفهم والرقي بهم في دينهم ودنياهم .
102- تركيب المظلات التي تحمي من الشمس والمطر للطلاب في الدارس أوللمنتظرين لسيارات النقل العام في الطرق العامة .
103- الاشتراك لسنة أو أكثر في بعض المجلات الإسلامية وإرسالها لمن يستفيد منها أفرادا أو جماعات .
104- عمل أحواض مائية صغيرة تحتوي على المياه الصالحة لسقيا الحيوانات والطيور وكل ذات كبد رطب .(2/115)
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد على البعير فسقيته ، فهل في ذلك من أجر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( في كل ذات كبد حرى أجر ) .صحيح الترغيب1/399(946)
105- وضع مكانس وأدوات تنظيف في المساجد .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمساجد أن تبنى في الدور ، وأن تطهر وتطيب )صحيح ابن ماجةحديث613.
106- وضع أدوات الحفر كالمساحي والزنابيل والفؤوس في المقابر ، لتكون تحت يد من يقوم بحفر القبور للمسلمين .
107- وضع لوحات إرشادية على حافتي الطرق يستدل بها الحيران ويسترشد بها التائه على ما يريد من المكان .
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (تبسمك في وجه أخيك : لك صدقة ، وأمرك بالمعروف : صدقة ، ونهيك عن المنكر : صدقة ، ولإرشادك الرجل في أرض الضلال : لك صدقة ، وبصرك الرجل الرديء البصر : لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق : لك صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك :لك صدقة ).صحيح سنن الترمذي 2/186(1594 )
108- تمهيد وتعبيد طرق المسلمين التي تهدمت من السيول الجارية والأمطار الغزيرة والتصدعات الخطيرة وغيرها .
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من أخرج من طريق المسلمين شيئا يؤذيهم ، كتب الله له به حسنة ، ومن كتب له عنده حسنة ، أدخله الله بها الجنة ).الصحيحة 5/386 (2306 )
109- تعليم الناس القرآن والسنة وأحكام الشريعة وتربيتهم عليها وتهذيبهم بها .
فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت ).الصحيحة 3/323(1335 ).
الخاتمة(2/116)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
أرأيت أيها الحبيب كم هي سعة رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء؟!
أعمال يسيرة ، وأخرى كبيرة تناسب كل همة ، وتوافق كل عزيمة ، وهي بضاعة رائجة وتجارة مثمرة ، معروضة على عرصات الحياة، وكل الناس يغدو إليها ، وينافس عليها ، فأين أنت عنها ؟!
هل ترضى بالدون وتقنع باليسير ؟!
عن أب مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ... كل الناس يغدو ، فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها ) .مسلم 1/172 (223)
وغدا تقوض الخيام ، وتخلع الأوتاد ، وترفع الأطناب ، وينادى في الأهل والأحباب ، الرحيل ... الرحيل !
فيا لفرحة الفائزين برضوان رب العالمين !
ويا لحسرة المفلسين في يوم القيامة والدين !
ويا لخسارة الغافلين يوم يصاح في آذانهم ، جاء الأجل .
وانتهت فرص العمل ، وأنتم في خمول وكسل ، فعضوا أصابع الندم ، أدروا دموع الألم ، اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل !
أرجوا من وقف على وسائل وأفكار أخرى أن يتفضل علي بإرسالها إلي حتى تضاف في الطبعات القادمة إن شاء الله تعالى ، وله أجر الدلالة إليها والإعانة عليها .
وكتبه محب الخير
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
أدخله الله - وأحبته-الجنة
ــــــــــــــــــ
سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته
الحمد لله المحمود على كل حال , الموصوف بصفات الكمال والجلال ,له الحمد في الأولى والآخرة , وإليه الرجعى والمآل .(2/117)
أما بعد : فإن من عظيم نعمة الله على عباده المؤمنين أن هيأ لهم أبواباً من البر والخير والإحسان عديدة , يقوم بها العبد الموفق في هذه الحياة , ويجري ثوابها عليه بعد الممات , فأهل القبور في قبورهم مرتهنون , وعن الأعمال منقطعون , وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون , وبينما هذا الموفق في قبره الحسنات عليه متوالية , والأجور والأفضال عليه متتالية , ينتقل من دار العمل , ولا ينقطع عنه الثواب , تزداد درجاته , وتتناما حسناته وتتضاعف أجوره وهو في قبره , فما أكرمها من حال , وما أجمله وأطيبه من مآلٍ .
وقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أموراً سبعة ً يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً , أو حفر بئراً , أو غرس نخلاً , أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته )) [ حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596].
وتأمل أخي المسلم – ملياً هذه الأعمال , واحرص على أن يكون لك منها حظ ونصيب مادمت في دار الإمهال , وبادر إليها أشد المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار وتتصرم الآجال .
وإليك بعض البيان والإيضاح لهذه الأعمال :(2/118)
أولاً : تعليم العلم , والمراد بالعلم هنا العلم النافع الذي يبصر الناس بدينهم , ويعرفهم بربهم ومعبودهم , ويهديه إلى صراطه المستقيم , العلم الذي به يعرف الهدى من الضلال , والحق من الباطل والحلال من الحرام , وهنا يتبينُ عظمُ فضلِ العلماء الناصحين والدعاة المخلصين , الذين هم في الحقيقة سراج العباد , ومنار البلاد , وقوام الأمة , وينابيع الحكمة , حياتهم غنيمة , وموتهم مصيبة , فهم يعلمون الجاهل , ويذكرون الغافل , ويرشدون الضال , لا يتوقع لهم بائقة , ولا يخاف منهم غائلة , وعندما يموت الواحد منهم تبقى علومه بين الناس موروثة , ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة , منها يفيدون , وعنها يأخذون , وهو في قبره تتوالى عليه الأجور , ويتتابع عليه الثواب , وقديماً كانوا يقولون يموت العالم ويبقى كتابه , بينما الآن حتى صوت العالم يبقى مسجلاً في الأشرطة المشتملة على دروسه العلمية , ومحاضراته النافعة , وخطبه القيمة فينتفع به أجيال لم يعاصروه ولم يكتب لهم لٌقِيُّه . ومن يساهم في طباعة الكتب النافعة , ونشر المؤلفات المفيدة , وتوزيع الأشرطة العلمية والدعوية فله حظ وافر من ذلك الأجر إن شاء الله .
ثانياً : اجراءُ النهر , والمراد شق جداول الماء من العيون والأنهار لكي تصل المياه إلى أماكن الناس ومزارعهم , فيرتوي الناس , وتسقى الزروع , وتشرب الماشية , وكم في مثل هذا العمل الجليل والتصرف النبيل من الإحسان إلى الناس , والتنفيس عنهم بتيسير حصول الماء الذي به تكون الحياة , بل هو أهم مقوماتها , ويلتحق بهذا مد الماء عبر الأنابيب إلى أماكن الناس , وكذلك وضع برادات الماء في طرقهم ومواطن حاجاتهم .(2/119)
ثالثاً : حفر الآبار , وهو نظير ما سبق وقد جاء في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما رجل في طريق فاشتد عليه العطش , فوجد بئراً فنزل فيها فشرب , ثم خرج , فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش , فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني , فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب , فشكر الله له فغفر له , قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟ فقال : في كل ذات كبدٍ رطبة ٍ أجرٌ " متفق عليه . فكيف إذاً بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوا منها خلقٌ , وانتفع بها كثيرون .
رابعاً : غرس النخل , ومن المعلوم أن النخل سيد الأشجار وأفضلها وأنفعها وأكثرها عائدة على الناس , فمن غرس نخلاً وسبل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم , وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان ٍأو حيوان ٍ, وهكذا الشأن في غرس كلما ينفع الناس من الأشجار , وإنما خص النخل هنا بالذكر لفضله وتميزه .
خامساً : بناء المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله , والتي أذن الله جلا وعلا أن ترفع ويذكر فيها اسمه , وإذا بُني المسجد أقيمت فيه الصلاة , وتُلي فيه القرآن , وذكر فيه الله , ونشر فيه العلم , واجتمع فيه المسلمون , إلى غير ذلك من المصالح العظيمة , ولبانيه أجرٌ في ذلك كلِّه , وقد ثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة " متفق عليه .
سادساً : توريث المصحف , وذلك يكون بطباعة المصاحف أو شرائها ووقفها في المساجد , ودور العلم حتى يستفيد منها المسلمون , ولواقفها أجرٌ عظيم ٌ كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ , وكلما تدبر فيه متدبر , وكلما عمل بما فيه عامل .(2/120)
سابعاً : تربية الأبناء , وحسن تأديبهم , والحرص على تنشأتهم على التقوى والصلاح , حتى يكونوا أبناء بررة ً وأولاد صالحين , فيدعون لأبويهم بالخير , ويسألون الله لهما الرحمة والمغفرة , فإن هذا مما ينتفع به الميت في قبره .
وقد ورد في الباب في معنى الحديث المتقدم مارواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته " [ حسنه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم 198 ]
وروى أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : من مات مرابطاً في سبيل الله , ومن علّم علماً أجرى له عمله ما عمل به , ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت , ورجل ترك ولداً صالحاً فهو يدعو له " [ وانظر صحيح الجامع حديث رقم 890 ] .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جاريةٍ , أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له " وقد فسر جماعةُ من أهل العلم الصدقة الجارية بأنها الأوقاف , وهي أن يحبس الأصل وتسبل منفعته , وجل الخصال المتقدمة داخلةً في الصدقة الجارية .
وقوله : " أو بيتاً لابن السبيل بناه " فيه فضل بناء الدور ووقفها لينتفع بها المسلمون سواءً ابن السبيل أو طلاب العلم , أو الأيتام , أو الأرامل , أو الفقراء والمساكين . وكم في هذا من الخير والإحسان .
وقد تحصل بما تقدم جملةً من الأعمال المباركة إذا قام بها العبد في حياته جرى له ثوابها بعد الممات , وقد نظمها السيوطي في أبيات فقال :(2/121)
إذا مات ابن آدم ليس يجري *** عليه من فعال غير عشرِ
علومٌ بثها , ودعاء نَجْلِ *** وغرس النخل , والصدقات تجري
وراثةٌ مصحفٍ , ورباط ثغر *** وحفر البئر , أو اجراءُ نهرِ
وبيتٌ للغريب بناه يأوي *** إليه , أو بناءُ محلِ ذكر ِ
وقوله : " ورباط ثغر " شاهده حديث أبي أمامة المتقدم , وما رواه مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه : قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه , وأمن الفّتَّان " أي ينمو له عمله إلى يوم القيامة , ويأمن من فتنة القبر .
ونسأل الله جل وعلا أن يوفقنا لكل خير , وأن يعيننا على القيام بأبواب الإحسان , وأن يهدينا سواء السبيل , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
ــــــــــــــــــ
أوجه الشبه بين الداعي إلى الله وبين الشمس
هناك خمسة أمور يتشابه بها الداعية إلى الله وهذا المخلوق العظيم إلا وهي الشمس
1- الشمس متحركة وليست مستقرة في مكان محدد أو إقليم خاص ... وكذلك الداعي إلى الله ينبغي ان يكون كالشمس متحرك بين الناس ليبلغ دين الله .
2- الشمس تستمد نورها من الله وتنير به العالم كله ..... وكذلك الداعية إلى الله يستمد علمه من الله وينشره بين الناس اجمع .
3- الشمس ليس عندها عنصريه ولا حزبية بل تخرج على العالم كله ... وكذلك الداعي إلى الله ينبغي ان لا يفرق بين الناس أسودهم وأبيضهم عربيهم وعجميهم بل هم سواسية عنده .
4- الشمس لا تأخذ أجراً من احد على نورها الذي تنير به العالم ... وكذلك الداعي إلى الله لا يأخذ أجرا على دعوته { لا أسئلكم عليه أجرا}(2/122)
5- الشمس ليس لها إجازة رسمية ولا عطلة صيفية ولا راحة... وكذلك الداعية إلى الله ينبغي ان يوصل دعوته في كل الأحوال وتحت كل الظروف وان لا يكل ولا يمل وكلما فرغ من عبادة نصب إلى أخرى { فإذا فرغت فانصب}
وأخيراً
إذا خسفت الشمس يكون هناك خوف ووجل من الناس...... وكذلك إذا ترك الداعي إلى الله الدعوة فهو خطر على الأمة الإسلامية .
ــــــــــــــــــ
أخي انصر هذا الدين
إخواني الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يخفى عليكم ولا على ذي عينين أن الكفر قد حشد جمعه وجمع حشده وأناخ بكلكله كله في ساحة الإسلام وتعاضد الكفر الخارجي مع النفاق الداخلي على أهل الإيمان .
والدرع الواقي والدواء الشافي من ذلك أن نعمل جميعا في إقامة دين الله وإقامة الدين لا تتم إلا بمجابهة أخطار الخارج وتقويم انحراف الداخل أو بالأدق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( قوام الدين كتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا )
يتأول قول الله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد:25)
وقد قام بالنصرة بالسيف طائفة من المؤمنين وهم المجاهدون الصادقون
وقام بالهداية بالكتاب بعض العلماء وطلاب العلم والدعاة العاملين(2/123)
وهاتان الطائفتان هم بقية الخير في الأمة الذين قاموا بمايجب عليهم نحودينهم وإيمانهم فنجوا بصلاحهم وإصلاحهم قال سبحانه : (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 116-117 )
وبقيت في الأمة جموع غفيرة تتفرج معركة الإسلام مع خصومه
وكثير منهم ممن ينتسب إلى الصحوة الإسلامية فحبهم للإسلام وحميتهم على الدين لا تتجاوز عبارات الإعجاب بالمجاهدين والمصلحين وعبارات الذم والتشنيع على الكافرين وهذا وإن كان خيرا إلا أنه لا ينصر ملة ولا ينقذ أمة .
فأقول لهذه الجموع الخاملة والطاقات المعطلة كونوا أنصار الله وخوضوا المعركة مع إخوانكم وسارعوا في رد كيد الأعداء من الكفار والمنافقين .
فأنت أخي المسلم قادر على أن تفعل للإسلام الكثير مهما قل علمك وضعف تدبيرك وخفي اسمك وجهل قدرك
أنت كنز الدر والياقوت في لجة البحر وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العلي ولإن لم يسمعوك
فمجالات نصرة الدين ووسائل وأساليب الدعوة لا حصر لها فستجد فيها ما يناسب تخصصك وقدراتك فابحث عن ذلك وشاور فيه أهل العلم والصلاح من حولك وقل لهم أنا سهم للإسلام فحيث كانت مصلحة الإسلام فارموا بي هناك
وإليك بعض الخواطر في بعض الأمور التي تستطيع فعلها
أولا :
محافظتك على فرائض الله واجتناب حرماته فذلك من أعظم ما تنصر به الأمة
كما أن من أسباب تسلط أعدائها عليها ذنوب أبنائها
فالذنوب جراحات أثخنت الأمة
فيا أخي الكريم إن لم تدفع عن الأمة فلاتوهنها بذنوبك ومعاصيك فتعين بذلك أعداءها عليها فرب جرح وقع في مقتل
ثانيا :(2/124)
احرص على أن لا تجلس مجلسا إلا وتنصح فيه للدين أو تأمر فيه بالمعروف أو تنهى فيه عن المنكر أو تدعو فيه إلى الخير أو تحذر فيه أساليب الكفار والمنافقين
ثالثا:
أن هناك وسيلة وأسلوب دعوي رباني نبوي يغفل عنه كثير منا في الدعوة إلى الله وهو أسلوب الرسالة فالله أرسل إلى عباده الكتب يقرأونها فيهتدون بها وأهل اليمن استجابوا لسليمان عليه السلام برسالة كتبها إليهم وحملها هدهد
وكثير من الأمراء والملوك وزعماء القبائل دخلوا الإسلام بالرسائل
فللرسالة تأثيرها على المرسل إليه
فعندما يشعر أنه المخاطب بهذا الكلام من المرسل يعطيه اهتمامه ويرجع إليه إذا أراده
وأيضا المرسل قد يدبج في رسالته من حسن القول ولين الخطاب وقوة الإستدلال ما يغيب عنه عند المحادثة والخطاب
وأرجو أن تكتب الرسائل بخط اليد ليشعر المرسل إليه بأنه المعني في الخطاب
فالناس سأموا المطبوع والرسائل المفتوحة إلى الجميع
فاكتب رسائل بخط يدك لكل من جارك قاطع الصلاة
رسالة إلى التاجر رسالة إلى الشاب غير المستقيم
رسالة على المغترب في ديار الكفر
رسالة إلى من فرطت في الحجاب
رسالة إلى موظف البنك
رسالة إلى صاحب الدش
رسالة إلى صاحب الفندق
رسالة إلى صاحب تسجيلات الفيديو
رسالة إلى صاحب تسجيلات الأغاني
رسالة ............ رسالة
...... وهكذا لكل من رأيت لزوم نصحه في معروف أو نهيه عن المنكر
وتكتب الرسالة بأسلوب رفيع لين مؤدب تخاطب عاطفته وعقله وممكن تستعين في صياغتها ببعض المشايخ وطلاب العلم ويترك مكان اسم الموجهه إليه فارغا واسم المرسل يكتب عبد الله بن عبدالرحمن بن عبد العزيز الناصح مثلا إن كنت لا تريد المرسل إليه يعرف شخصك
وتحتفظ بالأصل وتصور من كل رسالة عددا كبيرا ويفضل أن يكون تصويرا ملونا لتظهر الرسالة كأنها أصل للمرسل إليه لأنك تحتاج إلى إرسالها مرات كلما لاح لك صاحبها .
ثم إليك أمثلة لما تفعل :(2/125)
1= تقوم بأخذ أرقام فاكس البنوك أو الفنادق مثلا وترسل بالفاكس الرسالة الخاصة بالمحل أو موظفيه وممكن المدراء وكبار الرجال في المؤسسات ترسل لهم عبر البريد الخاص بهم
فتخيل أنه يفتح الظرف أو الموظف يقرأ الفاكس يجد فيه ما يذكره بربه ويحذره من عقوبة فعله وآثاره الوخيمة عليه في الدنيا والآخرة
2= تمر على محل الفيديو تسلمه ظرفا قائلا له هذه رسالة لك من عبد الله بن عبد الرحمن وتمضي لسبيلك
3= تمر بجوار بيت عليه دش فتلقى الولد الصغير بعد أن تطرق الباب بأدب وتقول له
هذه رسالة مهمة تعطيها أباك فتنتظر الأم والأولاد موعد رجوع الأب لينظروا مافي الرسالة فيسألوه عن فحواها فيجدون ويسمعون خيرا
4= تقف في السوق فترى شابا مظاهر عدم الإستقامة واضحة عليه فتدخل يدك في جيبك وتخرج رسالة مظرفة تسلمها له بأدب قائلا له كم كنت أبحث عنك يقول لماذا قل معي لك رسالة من أخيك عبدالرحمن 00من هو 000 لو قرأت الرسالة لعرفته وتمضي وتتركه مع الخير
5= صاحبك أو من تعرفه المغترب في أمريكا مثلا يدق عامل البريد بابه يسلمه رسالة منك تذكره فيها بالله وبدينه وتحذره من الكفر والفسوق والعصيان وترشده إلى الخير
كم وقعها في نفسه من الرياض من صنعاء من بغداد من القاهرة من القرية النائية والبادية البعيدة رسالة تذكرني بالله
وهكذا تمضي في عملك أو دراستك أو نزهتك وأنت تحمل رسائل الخير مبشرا داعيا إلى الله
خواطر :
1= جمعت مع إخوان لي مبلغ قدره 4000 ريال سعودي واشترينا ورقا وظروفا
وكتبنا رسائل عددها 5 ثم صورناها فكان العدد كالتالي :
خمسة وعشرون ألف لرب البيت الذي أدخل فيه الدش
وخمسة آلاف موزعة على الفنادق ومحلات الغناء والفيديو
وأتينا بجموع من الأحباب الأشبال الصغار وشغلناهم في التظريف
ثم وزعنا الرسائل على الشباب الكبار لكل مجموعة منطقة محددة من مدينة ما
انطلقوا بعد صلاة العصر ولم يأت العشاء إلا وثلاثون ألف رسالة سلمت لأصحابها في المدينة(2/126)
2= أحدهم أعرفه أدخل ولده الدش إلى بيته وهو رضي بالحال وهو يصلي وعلى خير
كتبت له رسالة باسمي ذكرته فيه بما فتح الله علي
يرسل لي بعد بضعة أيام شاكرا بأنه قرأ الرسالة وصعد السطح وأنزله وفعلا وإلى اليوم بيته خاليا من ذلك .
3= أعرف أخا تركب معه الطائرة فتناوله المضيفة الشراب وهو يناولها رسالة الهداية الي كتبها بيده قبل قليل لعل الله يهديها بها .
4= أعرف أخا يتصل بالتلفونات لا لشيء إلا ليذكر الناس بصلاة الفجر أحدهم قال له والله ما ذكرني أحد بها إلا أنت .
5= أعرف أخوة يجمعون شرائط المحاضرات والدروس من المكتبات التي اتخذها بعض الإخوة زينة ويذهبون بها إلى مواقف التاكسي وسيارات الأجرة يوزعونها عليهم والله رأيتهم يتخاطفونها
وغيرها من وسائل الدعوة التي لا تحتاج إلى مؤسسات ولا إلى كثير مال ولا إلى قوة حجة وبيان .
فلعنك الظلام لا يجدي شيئا ولكن أوقد شمعة تبدد ولو جزءا منه
طلب أخير : أرجو من الأخوة المشاركة في صياغة هذه الرسائل كل رسالة ليستفيد منه من أراد العمل .
محب العلماء والمجاهدين والدعاة
الدليل اليماني
المصدر شبكة أنا المسلم
للفائدة رسائل دعوية للتوزيع
ــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله خير وسيلة لإنقاذ البشر
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً ، إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأحمده -تعالى- وأشكره وأكبره تكبيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى كل من سار على نهجه ودعا بدعوته وسلم تسليماً كثيراً(2/127)
أما بعد - أيها الناس - إن المجتمع البشري اليوم - وللأسف يتجاذبه موجات إلحاد وعواصف تبشير ، ويفتح أمامه دعاة الشر والفساد سبلاً جائرة حائدة عن الحق ومجانبة للصواب، فلئن كان محتاجاً إلى الدعوة إلى الله وإلى سبيله العادلة، وصراطه المستقيم في كل وقت كاحتياجه إلى الماء والهواء - فإنه اليوم أحوج ما يكون إلى ذلك . فمن حائر به يحتاج إلى بيان، ومن غافل يحتاج إلى تنبيه، ومن معاند يحتاج المجادلة بالتي هي أحسن - وإنّ افضل وسيلة لإنقاذه ، وأجلَّ صفة ، وأحسن وسيلة تلحق المؤمن بركب الأنبياء ، وتحله مكانة عالية في عالم السعداء، هي دعوة الناس إلى الخير على هدى وبصيرة، دعوتهم إلى سبيل الله الذي هو دينه الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، دعوة يزينها عمل صالح وقول صادق، ونيةحسنة، وإعلان للعقيدة والحق ، مهما كانت الأحوال أو قست الظروف . يقول تعالى : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}
فيا ورثة الأنبياء ، وخلفاء الله في أرضه، وأمناءه على تبليغ رسالة نبيه إلى الإنسانية، إنَّ داعي الخير قد دعاكم إلى إنقاذ البشرية بدعوتها إلى الفضيلة، إلى البر والتقى ، إلى الخير والهدى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة بالحكمة والمعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} .{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ن وألئك هم المفلحون} .
وإن هذه الدعوة، دعوة الناس إلى سبيل الله الذي هو دين الإسلام التي أمرنا الله بها ، هي دعوة الله تعالى : {والله يدعو إلى دار السلام ، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} . ودعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، ودعوة أتباع الرسل رضوان الله عليهم : { قل هذه سبيلي ، أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعي }(2/128)
فاتقوا الله - أيها المسلمون - أيها العلماء - واستجيبوا لما دعاكم الله له من دعوة الناس إلى الخير كل بحسبه، فما قُبل الدين سلفاً وظَهَر إلا بالدعوة إليه، وإظهاره للأمة في أبهى صورة، وأروع منظر، وما خلد لأي شخص في الدنيا ائتمام أو ذِكر مثل ما خلد للدعاة الإسلاميين من ذكر حسن، وثناء عطر.
فاتقوا الله أيها المسلمون - اتقوا الله يا ذوي العلم والبصيرة- بدعوة الناس إلى التمسك بتعاليم الدين، والتخلق بأخلاق سيد المرسلين ، دعوة ملؤها الإخلاص وحب هدايه الآخرين. قال عليه الصلاة والسلام : (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، دعوة متمشية مع قول الله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} شعارها قول صادق ، وعمل مخلص ، وبصيرة نيرة، وأساليبها تتمشى مع أساليب الدعوة الأولى، حسب حال الداعي والمدعو، كمخاطبة الجاحد والمعاند على ضوء : {وإنا أو إياكم لعلى هدىً ، أو في ضلال مبين} ، {قل فاتوا بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين} .
وليحذر الداعية - أو الآمر بالمعروف ، أو الناهي عن المنكر أن يخالف فعله قوله، فذلكم رد لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}.
ويقول الشاعر الحكيم :
لا تنه عن خلق وتأتي مثلَه *** عار عليك إذا فعلت عظيم(2/129)
ثم ليعلم أن الدعوة إلى الله ليست مقصورة على كلمة تُقال في اجتماع أو من منبر فحسب، ولكنها تربية وتعليم ، وتخطيط لتقوية الدين وتنظيم، وأمر ونهي، وبيان وتنبيه، ومجادلة بالتي هي أحسن، وطَرْقٌ لكل باب، وتسخير لكل وسيلة : بلاغ وأداء من إذاعة وصحافة ومنبر ومدرسة وبيت، وبداية بالأهم فالأهم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمين : (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم).
فإلى هذه الفضيلة -أيها المسلمون-، فضيلة الدعوة إلى الله وإلى كتابه وسنة رسوله، إلى وظيفة الأنبياء ، إلى خير وسيلة تلحقكم بركب السعداء . قرأ الحسن البصري - رحمه الله - قول الله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} فقال : هذا حبيب الله ، ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله .
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأن يهب لنا من أزواجنا، وذرياتنا قرة أعين ، ويجعلنا للمتقين إماماً ، تعالى خير مسؤول غفور رحيم .
عبد الله بن حسن القعود
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الثاني
فتور الهمة أسبابه وعلاجه
الآفة الأولى الفتور
معناه :
لغة : يطلق الفتور على معنيين :
أ) الانقطاع بعد الاستمرار أو السكون بعد الحركة .
ب)الكسل أو التراخي أو التباطؤ بعد النشاط والجد .
جاء في لسان العرب :
( وفتر الشيء ، والحر ، وفلان يفتر ، ويفتر فتوراً وفتاراً : سكن بعد حدة ولان بعد شدة ).
اصطلاحا : أما في الاصطلاح فهو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين بل قد يصيبهم بالفعل . أدناه : الكسل أو التراخي أو التباطؤ . وأعلاه : الانقطاع أو السكون بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة(2/130)
قال تعالى عن الملائكة :
{ وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون }.
أي (أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به ويصلون ويذكرون الله ليل نهار لا يضعفون ولا يسأمون ).
أسبابه :
ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية :
() الغلو والتشدد في الدين : بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي : الانقطاع والترك بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب وهذا أمر بديهي إذ للإنسان طاقة محدودة فإذا تجاوزها اعتراه الفتور فيكسل أو ينقطع ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد ونهيه الصريح عن الغلو ، والتنطع ، والتشديد إذ يقول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ( إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ) ، ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاث يعنى : المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم أفعالهم.
( لا تشددوا على أنفسكم ، فيشدد عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع ، والديارات - رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ، ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .... )
وعن أنس رضى الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في السر ، فلما أخبروها كأنهم تقالوها ، وقالوا أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثالث : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال :
((2/131)
أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم إلى لله وأتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس منى ) ، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة ، فقال من هذه ؟ قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال :0 مه عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أحب الدين ما داوم صاحبه عليه ) ، ( اكفلوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ )
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - قال : كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار ، وتقوم الليل ، فقيل له : إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال - صلى الله عليه وسلم - :( إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل )
2- السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات :
فإن هذا من شأنه أن يؤدى إلى السمنة وضخامة البدن ، وسيطرة الشهوات ، وبالتالي التثاقل ، و الكسل و التراخي ، إن لم يكن الانقطاع و القعود ، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله ، وتحذيرهما من السرف ، قال تعالى :{ يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه ... )(1)
وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السرف و التوسع في المباحات بصاحبه ، فحذروا منه ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - :( أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع ، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم ) (2)(2/132)
وإذا يقول عمر - رضى الله تعالى عنه - :( إياكم و البطنة في الطعام و الشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وابعد من السرف ،وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه )(3)
وإذ يقول أبو سلمان الدارانى:( من شبع دخل عليه ست آفات : فقد حلاوة المناجاة ، وحرمان الشفقة على الخلق - لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع - وثقل العبادة - وزيادة الشهوات ، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد ، والشباع يدورون حول المزابل ).(4)
__________
(1) أخرجه الترمذى
(2) أورده المنذرى في الترغيب و الترهيب
(3) أورده علاء الدين في : كنز العمال
(4) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين
3- مفارقة الجماعة ، وإيثار حياة العزلة و التفرد : ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد ، متعددة المراحل ، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد ، فإذا سارها المسلم مع الجماعة ، وجد نفسه دوماً ، متجدد النشاط ، قوى الإرادة ، صادق العزيمة ، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها ، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه ، ويقوى إرادته ، ويحرك همته ، ويذكره بربه فيسأم ويمل ، وبالتالي يتراخى ويتباطأ ، إن لم ينقطع ويقعد.
ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة ، وتحذيره من مفرقتها ، و الشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }
{ وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان ...}
{ وأطيعوا الله ورسوله ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ... }
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم }
وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
( .... عليكم بالجماعة ،وإياكم و الفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )(1)
((2/133)
من فارق الجماعة شبراً ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )(2)
( وآمركم بالسمع و الطاعة ، و الهجرة و الجهاد ، و الجماعة ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا كانت ميتته ميتة جاهلية )(3)
( الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )(4)
وقد أدرك سلف الأمة ذلك فلزموا الجماعة ، ورغبوا فيها ، وأكدوا عليها ، يقول علىّ رضى الله عنه :_( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )
ويقول عبد الله بن المبارك :
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ... ... ولكان أضعفنا نهباً لأقوانا
4- قلة تذكر الموت و الدار الآخرة :
__________
(1) أخرجه الترمذى
(2) أخرجه البخاري
(3) أخرجه أحمد
(4) أخرجه مسلم
فإن ذلك من شأنه أن يؤدى إلى فتور الإرادة ، وضعف العزيمة ، وبطء النشاط و الحركة ، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره - صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور بعد النهي و التحذير ، إذ يقول :( إني نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة )(1) وفي رواية :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) كما نفهم الحكمة من حضه - صلى الله عليه وسلم - من تذكر الموت ، وانتهاء الأجل إذ يقول :
( أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء ، فقال رجل : يا رسول الله إنا نستحي من الله تعالى ؟ فقال : من كان منكم مستحيياً فلا يبيتن ليلة إلا وأجله بين عينيه ، وليحفظ البطن وما حوى و الرأس وما وعى وليذكر الموت و البلى ، وليترك زينة الدنيا )(2)
5- التقصير في عمل اليوم و الليلة :(2/134)
مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة ، وترك قيام الليل ، أو صلاة الضحى ، أو تلاوة القرآن ، أو الذكر أو الدعاء ، أو الاستغفار ، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد ، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر ، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات ، وأدنى هذه العقوبات : الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف .
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شئ من هذا إذ يقول :
( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد : يضرب كل عقدة ، عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة ، فأصبح نشيطاً طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) (3)
__________
(1) أخرجه الترمذى
(2) أخرجه ابن ماجه
(3) متفق عليه
6- دخول جوفه شئ محرم أو به شبهة : إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه ، وإما بسبب تعامله فيما نسميه شبهة ، وإما بسبب غير ذلك ، فمثل هذا يعاقب من سيده ومولاه ، وأدني عقاب في الدنيا ، أن يفتر فيقعد ويرقد عن الطاعات ، أو على الأقل يكسل ويتثاقل فلا يجد للقيام لذة ، ولا للمناجاة حلاوة .
ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه ، والابتعاد عن الحرام ، وما كانت به أدنى شبهة، إذ يقول الله عز وجل :
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين }
{ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون }
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ، إني بما تعملون عليم }
وإذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( كل جسد نبت من سحت - أي من حرام - فالنار أولى به )
، ((2/135)
الحلال بين و الحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان ، و المعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه )(1) (دعما يريبك إلى ما لا يريبك ) ، ويربى النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عملياً على ذلك حين يجد تمرة في الطريق ويرفض أكلها قائلاً :( لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها )
وعلى هذا المنهج سار سلف الأمة ، فكانوا يفتشون ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم من الطعام و الشراب واللباس و المركب .... الخ وإذا وجدوا شيئاً شابته شائبة أو أدنى شبهة اجتنبوه ، مخافة أن يجرهم إلى الحرام ، فتفسد قلوبهم ، فيحرموا العمل أو يحرموا قبوله .
__________
(1) متفق عليه
عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :( كان لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - غلام يخرج له الخراج ، فجاء في يوم بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : أتدرى ما هذا ؟ فقال أبو بكر وما هو ؟ ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أنى خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شئ أكله )(1)
7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين : كأن يجعل همه العقيدة فحسب ، ملغياً كل شئ غيرها من حسابه ، أو يجعل همه الشعائر التعبدية ، تاركاً كل ما سواها ، أو يقتصر على فعل الخيرات وراعية الآداب الاجتماعية ، غاضاً الطرف عما عداها فكل هؤلاء وأمثالهم تأتى عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور ، وهذا أمر بديهي ، نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها ، فإذا اقتصر واحد من الناس على بعضه فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة ، لا كل الحياة ، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل : وماذا بعد ؟ فلا يجد جواباً سوى الفتور إما بالعجز وإما بالكسل .(2/136)
ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض ، ولا تجزيء :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ،أي اعملوا بجميع شعب الإيمان ، وشرائع الإسلام ، ولا تسيروا خلف الشيطان ، لما يكنه لكم من العداوة و البغضاء فيصرفكم عن منهج الله بالكلية ، أو عن بعضه فتفتروا وتضيعوا ....
__________
(1) أخرجه البخاري
8- الغفلة عن سنن الله في الكون و الحياة : فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله - أفكاره ومشاعره ،وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في يوم وليلة بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة و الواقع ، مع شجاعة وجرأة وفية ، لا تستكثر تضحية وإن غلت ، ولا تعبأ بالموت سعت إليه أو سعى إليها ، ولا تهتم بالنتائج أياً كانت ، ما دامت نيتها لله ، وما دام هدفها إعلاء كلمة الله ، غير واضعين في حسابهم سنن الله في الكون و الحياة : من ضرورة التدرج في العمل ، ومن أن الغلبة إنما تكون للأتقى ، فإذا لم يكن فللأقوى ، ومن أن لكل شئ أجلا مسمى لا يقدم ولا يؤخر .... الخ فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع ، وكان غير ما أملوا ، وما أرادوا وما عملوا ، فتروا عن العمل إما بالكسل و التواني و التراخي ، وإما بالقعود والانسلاخ و الترك .
9-التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات وقلة العاملين :
ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين ، ضانين على أنفسهم بقليل الراحة و الترويح فهؤلاء وأمثالهم ، وإن كانوا معذورين بسبب ضخامة الأعباء ، وكثرة الواجبات وقلة العاملين ، إلا أنه تأتى عليهم أوقات يفترون عن العمل لا محالة .(2/137)
ولعل هذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على حق البدن مهما تكن الأعذار و المبررات إذ يقول :" إن لربك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية أخرى :" فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزويك عليك حقاً "(1)
__________
(1) أخرجه البخاري
10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق : ذلك أننا نجد بعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته ، من زوجة أو ولد ، أو إقبال دنيا ، أو امتحان ، أو ابتلاء ،أو نحو ذلك ، و بالتالي لا يأخذون أهبتهم ، ولا استعدادهم ،وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات ، أو ببعضها ، فإذا هم يعجزون عن مواجهتها ،فيفترون عن العمل إما بالكسل و التراخي ، وإما بالوقوف والانقطاع .
وهذا سر تنبيه القرآن الكريم ، وتحذيراته المتكررة من معوقات الطريق إذ يقول سبحانه :
{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم } ، { واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ... } ، { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين ونبلوا أخباركم } .
11-صحبة ذوى الإرادات الضعيفة و الهمم الدانية : فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع و شهرة ،وحين يقترب منهم ويعايشهم يراهم خاوين فاترين في العمل ، كالطبل الأجوف ، فإن مضى معهم عدوه- كما يعدى الصحيحَ الأجربُ - بالفتور و الكسل .(2/138)
وهذا هو سر تأكيده - صلى الله عليه وسلم - على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب ، إذ يقول :( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل ) (1) .
( إنما مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك : إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة ) .
__________
(1) أخرجه أبو داود
12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي : ذلك أن كثيراً من العاملين أفراداً كانوا أو جماعات يمارسون العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً ، ولا تعرف نظاماً ، فيقدمون الأمور الثانوية أو التي ليست بذي بال ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسية و التي لابد منها من أجل التمكين لدين الله ، وهذا يؤدى إلى أن تطول الطريق وتكثر التكاليف و التضحيات ، فيكون الفتور غالباً ، إن لم تتدخل يد الله بالرعاية و التأييد و الثبات .
ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما وجهه إلى اليمن إذ قال له : إنك تأتى قوما من أهل الكتاب ، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .
إن الحديث قاعدة رئيسية في منهجية العمل ، وترتيبه ودقته .
13- الوقوع في المعاصي و السيئات ولاسيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها :
فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور ، وصدق الله الذي يقول :
{(2/139)
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول :( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً ، كمثل قوم نزلوا إلى أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود و الرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً ، وأججوا ناراً ، وأنضجوا ما قذفوا فيها )(1) ، ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً ، نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكره - عز وجلّ - { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
__________
(1) أخرجه أحمد
تلك هي الأسباب التي توقع في الفتور غالباً .
آثاره :
وللفتور آثار ضاره ، ومهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي :
على العاملين : فمن آثاره على العاملين قلة رصيدهم - على الأقل - من الطاعات ، وربما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان ، فيلقى الله مقصراً مفرطاً ، لذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - :( اللهم إني أعوذ بك منالهم و الحزن وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن و البخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) .(1)
( اللهم اجعل خير عمري آخره اللهم اجعل خواتيم عملي رضوانك ، اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك ) .... ( ..... اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتيمه ، وخير أيامي يوم ألقاك فيه )(2)
وكان من بشرياته لأمته :( إذا أراد اله بعبد خيراً استعمله ، قيل كيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه )(3)
وكان من وصيته لها :( إن العبد ليعمل بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنما الأعمال بالخواتيم )(4)
( لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له )(5)(2/140)
وكان من تأثر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضى الله تعالى عنه - لما مرض مرض الموت إذ جاء : أنه لما مرض بكى فقال :0 إنما أبكى لأنه أصابني على حال فترة ، ولم يصبني على حال جهاد )(6) ويقصد أن المرض أصابه وهو في حال سكون وتقليل من العبادات و المجاهدات .
__________
(1) أخرجه أبو داود
(2) أورده الهيثمى في مجمع الزوائد 10/157 من حديث أنس ، وعقب عليه بقوله :( رواه الطبرانى في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمى ، وهو ثقة )
(3) أخرجه الترمذى
(4) أخرجه البخاري
(5) أخرجه أحمد
(6) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير
على العمل الإسلامي : ومن آثاره على العمل الإسلامي طول الطريق ، وكثرة التكاليف و التضحيات ، إذ مضت سننه سبحانه : ألا يعطى النصر و التمكين للكسالى و الغافلين و المنقطعين ، وغنما لعاملين المجاهدين الذين اتقنوا العمل ، واحسنوا الجهاد :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً }
{ إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون }
{ و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }
علاجه :
ولما كان الفتور يؤدى إلى الآثار و المخاطر التي ذكرنا لزم التحرز و التطهر منه ويستطيع العاملون التحرز و التطهر منه على النحو التالي :
1- البعد عن المعاصي و السيئات كبيرها وصغيرها ، فإنها نار تحرق القلوب ، وتستوجب غضب الله ، ومن غضب عليه ربه فقد خسر خسراناً مبينا ً ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى }
2- المواظبة على عمل اليوم و الليلة : من ذكر ودعاء وضراعة ، أو استغفار ، أو قراءة قرآن ، أو صلاة ضحى ، أو قيام ليل ، ومناجاة ولاسيما في وقت السحر ، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد ، ينشط النفوس ويحركها ويعلى الهمم ، ويقوى العزائم ، قال تعالى
{ وهو الذي جعل الليل و النهار خلفة ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً }
{(2/141)
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً ..... سنلقى عليك قولاً ثقيلاً ... }
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من نام عن حزبه من الليل ، أو على شئ منه ، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل )(1)
3- ترصد الأوقات الفاضلة و العمل على إحيائها بالطاعات ، فإن هذا مما ينشط النفوس ، ويقوى الإرادات يقول : - صلى الله عليه وسلم - :
( ..... فسددوا وقاربوا وأبشروا واستيعنوا بالغدوة و الروحة وشئ من الدلجة )
4- التحرر من التشدد و الغلو في دين الله ، فإن ذلك مما ينشط ويساعد على الاستمرار ، عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت :
__________
(1) أخرجه مسلم
( كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصير ، وكان يحجره من الليل فيصلى فيه فجعل الناس يصلون بصلاته ، ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال :( يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ) وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملاً أثبتوه .(1)
ولا جرم أن نشير هنا إلى أن التحرر من التشدد و الغلو لا يعنى الترك والإهمال ، بل يعنى الاقتصاد و التوسط مع المحافظة عل ما اعتاده من العمل ، ومع اتباع السنة ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
5- دفن النفس في أحضان الجماعة ، وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال ، وحسبنا قوله - صلى الله عليه وسلم - :( الجماعة رحمة و الفرقة عذاب )(2) ، ( يد الله مع الجماعة )(3) ، وقول على رضى الله عنه - المذكور آنفاً :( كدر الجماعة خير من صفو الفرد )(2/142)
__________
(1) أخرجه مسلم
(2) أخرجه أحمد
(3) أخرجه الترمذى
6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون { فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } من استفراغ الطاقة وبذل الجهد الإنساني أولاً { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ، ومن التدرج في العمل ، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضى الله تعالى عنها - ( إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة و النار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام ، ولو نزل أول شئ ، لا تشربوا الخمر ، ولا تزنوا لقالوا : لا ندع الخمر ولا الزنى أبداً )(1) وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز - رضى الله تعالى عنه - خامس الخلفاء الراشدين ، فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدى الخلفاء الأربعة ، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه ، وكان له ابن يقال له عبد الملك ، فيه فتوة وحماس وحيوية وتقى ، فأنكر على أبيه البطء ، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف و المظالم ، حتى تعود الحياة سيرتها الأولي أيام الراشدين ، إذ قال له يوماً :
( ما لك يا أبت لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي ، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق ) .
فكان جواب الأب الفقيه :( لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة ) (2)... الخ
7- الوقوف على معوقات الطريق من أول يوم في العمل : حتى تكون الأهبة ، ويكون الاستعداد لمواجهتها و الغلب عليها فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع .
8- الدقة و المنهجية في العمل على معنى مراعاة الأولويات وتقديم الأهم ، وعدم الدخول في معارك جانبيه ، أو مسائل جزئية هامشية.
__________
(1) أخرجه البخاري
(2) الموافقات للشاطبى(2/143)
9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله : إذ أن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي والإشراق القلبي ، والإشعاع الروحي ، ما يسبى ، ويجذب بل ما يحرك الهمم و العزائم ، ويقوى الإرادات ، وقد لفت النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنظار إلى ذلك حين قال :
( ألا أخبركم بخير الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من تذكركم رؤيته بالله عز وجل )(1)
10- إعطاء البدن حقه من الراحة و الطعام و الشراب مع الاعتدال في ذلك ، فإن هذا مما يجدد نشاط الجسم ويعيد إليه قوته وحيويته .
وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - العاملين إلى ذلك ، فقد دخل مرة المسجد فرأي حبلاً ممدوداً بين ساريتين ، فقال :( ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد )(2)
وقال أيضاً : إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه )(3)
11- الترفيه عن النفس بالمباحات ، من مداعبة الأهل ، أو ملاعبة الأولاد ، أو القيام ببعض الرحلات النهرية للتجديف ، أو القمرية للرياضة ، و التدبر و التفكر ، أو الجبلية للصعود و التسلق ، أو الصحراوية للتمرس و التعود على مواجهة مشاق الحياة ، أو الحقلية أو غير ذلك ، فإن هذا مما يطرد السأم و الملل ، ويقضى على الفتور والكسل ، بحيث يعود المسلم إلى ممارسة نشاطه ، وكأنما ولد من جديد ، أو صار خلقاً آخر .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه
(2) متفق عليه
(3) متفق عليه(2/144)
عن أبى ربعي حنظلة ابن الربيع الأسيدى الكاتب ، أحد كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لقيني أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول ؟ قلت : نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً ، قال أبو بكر - رضى الله تعالى عنه - فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة و النار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد ، و الضيعات ونسينا كثيراً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) (1) ثلاث مرات .
12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة و التاريخ و التراجم ، فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين ، أصحاب العزائم القوية والإرادات الصادقة التي تسرى عن النفس ، وتسليها وتولد فيها حب الاقتداء و التأسي وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول :
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب }
وعلى سبيل المثال حين يقرأ المسلم عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا فتر في الوقت من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وارتفاعها قليلاً أخذ يدور في صحن بيته ، ويردد على نفسه :
وكيف تنام العين وهي قريرة ... ... ولم تدر أي المحلين تنزل
حين يقرأ المسلم ذلك تتحرك مشاعره وأحاسيسه فينشط ويجاهد نفسه ليكون ضمن قافلة العاملين المجاهدين .
__________
(1) أخرجه مسلم(2/145)
13- تذكر الموت وما بعده من سؤال القبر وظلمته ووحشته ، و البعث و الحشر ... الخ فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدتها ، وينبهها من غفلتها ، فتنشط وتتابع السير ، وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة كل أسبوع - وزيارتها للاعتبار بأحوال أهلها :( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة )
وجاء عن ابن السماك الواعظ : أنه كان قد حفر حفرة في بيته كأنها قبر ، وكلما أحس من نفسه فتوراً أو كسلاً ، نزل إلى هذه الحفرة واستلقى كأنما قد مات ، ثم يتخيل أنه قد سئل ، وأن أعماله قد قصرت به ، ويأخذ في الاستغاثة و الصراخ وطلب العودة قائلاً :
{ رب ارجعون لعلى أعمل صالحاً فيما تركت ..}
وبعد طول استغاثة وطلب يجيب نفسه ، ها أنت يا ابن السماك قد أعطيت فرصة أخرى ، ثم يقوم من قبره ، وكأنما نشط من عقال .
14- تذكر الجنة و النار ، وما فيهما من النعيم و العذاب ، فإن ذلك مما يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة و العزائم الفاترة ، جاء عن ابن هرم بن حيان أنه كان يخرج في بعض الليالي ، وينادى بأعلى صوته :( عجبت من الجنة كيف ينام طالبها ، وعجبت من النار كيف نام هاربها ، ثم يقول : { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً بياتاً وهم نائمون } )(1) .
15- حضور مجالس العلم ، إذ العلم حياة القلوب وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص ، فنشطته سنة كاملة ، بل الدهر كله وصدق الله الذي يقول :
{ إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } ، { وقل رب زدني علماً }
16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله ، دون التخلي عن شئ منه ، فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار ، حتى تنقضي الحياة ونلقى الله .
17- محاسبة النفس و التفتيش فيها دائماً ، فإن ذلك مما يبصر بالعيوب في بدايتها ، فتسهل معالجتها :
__________
(1) التخويف بالنار لابن رجب
{(2/146)
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .... }
ــــــــــــــــــ
أسباب الفتور عن طلب العلم:
السؤال: ما أسباب الفتور في طلب العلم؟
الجواب: أسباب الفتور في طلب العلم أو غيره من فعل الطاعات: أولاً: ضعف الهمة والعزيمة, وإلا فالإنسان ينبغي كلما ازداد في طلب العلم أن يزداد نشاطاً لأنه يجد زيادة في معلوماته, فيفرح كما يفرح التاجر إذا ربح في سلعة فتجده ينشط, فإذا ربح في نوع من السلع ربحاً كثيراً تجده يحرص على أن يحصل على كمية كبيرة من هذا النوع, كذلك طالب العلم ما دام جاداً في طلبه الصادق فإنه كلما اكتسب مسألة ازداد رغبة في العلم, أما الإنسان الذي لا يطلب العلم إلا ليقضي وقته فقط فهذا يلحقه الفتور والكسل. ثانياً: أن الشيطان ييئس طالب العلم, يقول: المدى بعيد, ولا يمكن أن تدرك ما أدرك العلماء، فيكسل ويدع الطلب, وهذا خطأ. ذكر أحد المؤرخين عن أحد أئمة النحو وأظنه الكسائي أنه همّ بطلب العلم، وهو معروف أنه إمام في النحو, ولكنه صعب عليه -وأظن أن النحو صعب على كثير منكم- فهمّ أن يدعه, فرأى نملة تحمل طعماً معها تريد أن تصعد جداراً, فكلما صعدت سقطت, كلما صعدت سقطت, إلى عشر مرات أو أكثر! وفي النهاية وبعد التعب والإعياء صعدت, فقال: هذه النملة تكابد وتكدح كل هذه المرات حتى أدركت إذاً لأفعلن, فجدّ في الطلب حتى أدرك الإمامة فيه. ثالثاً: مصاحبة الأشقياء, فإن الصحبة لها تأثير على الإنسان, ولهذا حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على مصاحبة الأخيار, وأخبر أن الجليس الصالح مثله كحامل المسك؛ إما أن يهدي لك منه, وإما أن يبيع، وإما أن تجد منه رائحة طيبة, وأن الجليس السيئ كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد رائحة كريهة, وهذه مسألة لها تأثير عظيم, حتى أنها تؤثر على(2/147)
الإنسان لا في ترك طلب العلم فقط بل حتى في العبادة, فإن بعض الملتزمين يسلط الله عليه رجلاً سيئاً فيصحبه ثم يهوي به في النار والعياذ بالله. رابعاً: التلهي عنه بالمغريات, وإضاعة الوقت, مرة يخرج يتمشى, وبعض الناس يكون مفتوناً بمشاهدة ألعاب الكرة وما أشبه ذلك. خامساً: أن الإنسان لا يشعر نفسه بأنه حال طلبه للعلم كالمجاهد في سبيل الله بل أبلغ, أي: أن طلب العلم من حيث هو أفضل من الجهاد في سبيل الله, لا شك في هذا؛ لأن طالب العلم يحفظ الشريعة ويعلمها الناس, والمجاهد غاية ما فيه أنه يصد واحداً من الكفار عن التأثير في الدين الإسلامي, لكن هذا ينفع الأمة كلها, صحيح أننا قد نقول لهذا الشخص: الجهاد أفضل لك لأنه أجدر به, ونقول للآخر: طلب العلم أفضل لك, لكن قصدي أن طلب العلم من حيث هو أفضل من الجهاد في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122] أي: وقعد طائفة: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] أي: القاعدون: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]. هذا ما حضرنا الآن من أسباب الفتور في طلب العلم, فعليك أيها الطالب أن تكون ذا همة عالية, وأن تترقب المستقبل, وأنك بإخلاصك النية لله قد تكون إماماً في الإسلام.
ــــــــــــــــــ
الفتور طبيعة بشرية:
السؤال: أريد أن أسألك بخصوص الفتور أسبابه وعلاجه، فالإنسان يشعر بضعف دينه أحياناً؟(2/148)
الجواب: الإنسان لا يمكن أن يكون على وتيرة واحدة، حتى الصحابة قالوا: (يا رسول الله! إننا عندك نتعظ ونؤمن، وإذا ذهبنا إلى أهلنا -النساء والأولاد- نسينا، فقال: ساعة وساعة) لا يمكن للإنسان أن يكون على وتيرة واحدة، لكن يحافظ الإنسان على صلاح القلب، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، يدع الخوض فيما لا يعنيه، يدع النزاع الذي لا فائدة منه، يدع التحزب الذي فرَّق الأمة ويقبل على الله عز وجل، ولهذا ترى العامي خيراً في عقيدته وإخلاصه من كثير من طلاب العلم، الذين ليس لهم هم إلا الأخذ والرد، والقيل والقال، وماذا تقول يا فلان؟ وماذا تقول في الكتاب الفلاني؟ وفيما كتبه فلان، هذا هو الذي يضيع العبد ويسلب قلبه عن الله عز وجل، ولا يجعل له هماً إلا القيل والقال. فنصيحتي لكل إنسان: أن يكون مقبلاً على الله عز وجل، وأن يدع الناس وخلافاتهم، هذا أحسن شيء.
ــــــــــــــــــ
شاب مستقيم يعاني من تسلط الهم والضيق فما العلاج ؟
سؤال:
شاب يعاني من ضيق نفسي وحزن وهم ولا يدري ما هو السبب علماً بأنه يصلي الليل ويصوم كثيرا ، ويصلي الصلوات ولكن أحياناً ينام عنها ، ويحضر الدروس الإسلامية ويقرأ الكتب ويحاول حفظ القرآن ويسمع الأشرطة الإسلامية . ومع ذلك يعاني من الحزن والهم علماً أن الشاب يحب عمته حباً كبيراً ويكون تحت خدمتها دوماً وأن العمة لا تعاني من أي شي.
الجواب:
الحمد لله
إن مما يَسُر أيها الأخ السائل حرصك على هذا الشاب واهتمامك به عن طريق البحث عن العلاج الناجع كي تقدمه له رجاء أن ينفعه الله به وأنت حين تفعل ذلك إنما تجسد الأخوة الإسلامية ، فنسأل الله أن يكتب لك الأجر على ذلك .
وقد شرحت حال هذا الرجل وسيكون الجواب في النقاط التالية :
الأولى :
حياتنا الدنيا على اسمها دنيا لا يثبت فيها حال الإنسان بل يتقلب فيها بين ما يحبه وما يكرهه .(2/149)
والعاقل إذا تأمل في هذه الدنيا وجد أنه محتاج لأن ينظر إليها نظرة المتفائل ، ويقضي على الهم والحزن الذي طالما كدر صفو الإنسان ومزاجه . والذي يُريد به الشيطان أن يُحزن به المسلم .
إن التقوقع على النفس باحتضان الآلام والآهات أكبر مرتع للشيطان ، وأخصب مكان لتكاثر هذه المنغصات
وإن التطلع للحياة السعيدة والنظر لجوانب الفأل فيها لمن دواعي الأنس والارتياح ، ومن المعلوم أن هذه الدنيا مزيج من الراحة والنصب ، والفرحة والحزن ، والأمل والألم ، فلماذا يُغلب الإنسان جانبها القاتم على جانبها المشرق المتألق ؟
ومن المعقول أنه لو لم يغلب جانب التفاؤل والاستبشار فلا أقل من أن ينظر إليها بعدل واتزان .
الثانية :
إن ضيق الصدر وحياة الضنك لا تستولي على فكر الإنسان وتحيط به من غير أسباب أخرى تدعو إليها بل هي مؤشر على وجود خلل في العلاقة بين العبد وبين ربه ، فبقدر ما يكون الإنسان مقبلاً على الله بقدر ما يفيض عليه من الأنس والراحة ما لا يعلمه إلا الله ، ولهذا كان أهل العلم والقرب والخشية من الله أسعد الناس بهذا الفضل حتى قال قائلهم تلك العبارة الخالدة : ( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف ) . وهذا ما أفصح عنه القرآن الكريم قال الله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل/97 وأما الشعور بالضيق والكدر فإنه يحمل تنبيهاً للعبد ليقوم بالتفتيش في علاقته بربه ، فإن للذنوب والمعاصي أثراً على العبد في ضيق صدره وشتات أمره قال الله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه/124(2/150)
وهذا الشاب الذي تسأل عنه فيه خير كثير حيث إنه ممن يحرص على طلب العلم ونوافل العبادات كالصيام وحسن صلة الرحم بعمته ، ومع هذا فلابد من أن تلفت انتباه هذا الرجل لمراجعة حساباته مع الله تعالى فلعل هناك ما منع عنه هذه السعادة من ذنب اقترفه في جنب الله أو حق لعبد أخذه ، وادعه لأن يكثر من التوبة والاستغفار لاسيما وقد ذكرت عنه أنه ربما نام عن الصلاة وهذا أمر عظيم تساهل فيه كثير من الناس وتهاونوا فيه .
الثالثة :
قد يكون ابتلاء هذا الشخص بالمصائب والنكبات مما يقدره الله على العبد من أجل رفع درجاته إن قام بما أمره الله تجاهها من الصبر والرضى بما قدر الله ، فإن كل ما يقدره الله على المؤمن خير له في دينه ودنياه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
وإذا أصيب المؤمن بمصيبة فهو إما أن يصبر أو يجزع فإن صبر ظفر بالأجر العظيم وارتاح لقضاء الله وقدره لأنه لما علم أنه من عند الله اطمئن لذلك وسلّم ، فلا داعي للجزع والضجر؟
وعلى العكس من ذلك لو لم يصبر فإنه مع ما يصيبه من الإثم بالجزع والتسخط ، وما يكتنفه من الهم والغم يفوته الأجر الذي أعده الله للصابرين قال الله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10
الرابعة :
صدق التوجه إلى الله بالدعاء ، والتضرع له سبحانه بأن يزيل عنه هذه الوساوس ، ويكثر من الاستعاذة من الشيطان الرجيم فإنه يغيظه أن يرى العبد المؤمن في دعة وطمأنينة ، فيوسوس للعبد ليصرفه عن ذلك ويلبسه لباس الخوف والتوجس .(2/151)
وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء ندعو به يدفع الهم والحزن . روى أحمد (3528) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ، وَابْنُ عَبْدِكَ ، وَابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجِلاءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلا نَتَعَلَّمُهَا ؟ فَقَالَ : بَلَى ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (199) .
الخامسة :
حاول أن تدله على أن يغير شيئاً من رتابة يومه فيفتح على نفسه من أنواع المباحات التي تبدد الفتور وتجدد النشاط ، لا بأس أن يسافر للنزهة والاستجمام من غير إسراف ، وأفضل من ذلك أن يسافر لأداء العمرة وزيارة المسجد النبوي ، لأنَ تغيير واقع الحياة المستمر يفيد في هذا كثيراً.
سادساً :
عليه أن يبتعد عن الأماكن التي يشعر بأنها تثير فيه كوامن الهم والغم وتجدد فيه الأحزان ، كما أن عليه اجتناب قراءة الكتب القصصية التي تحمل طابع المأساوية ، ويحاول ألا يجالس أصحاب الهموم ولو بغرض المواساة ، وعلى العكس من ذلك يحاول قراءة الكتب المفيدة التي تبعده عن هذه الهموم ، كما أن عليه إذا شعر بالضيق والحزن ألاّ يجنح إلى الصمت والتفكير والبحث عن الانفراد في هذه الحال .
وأخيراً . .(2/152)
فالنصيحة لهذا الشاب أن يرفع رأسه إلى الأمام وينظر للمستقبل بعين التفاؤل واليقين بالنجاح ، وأقول له : إنك تمتلك الكثير من مقومات النجاح وعناصر التفوق ومثلك ينتظر منه الكثير والكثير ، وأملنا في أن تزول عنك هذه الرواسب ، والهموم النفسية ، فتح الله عليك ، وفرج همك وغمك .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
ــــــــــــــــــ
كيف يعاقب نفسه لحثها على الخير ؟
سؤال:
أعلم ما لمعاقبة النفس وحرمانها من الأثر في الحث على العمل , ولكن كيف أعاقب نفسي ؟.
الجواب:
الحمد لله
المؤمن الحريص على نجاة نفسه هو الذي يسعى لسلامتها من كل ما يهلكها ، ويرفق بها ، ومن الرفق بها مراقبة سيرها إلى الله لتنجو من عذاب الآخرة ، ومجاهدتها للقيام بما أُمرت به واجتناب ما نهيت عنه ابتغاء رضوان الله ، فيبدأ بالتوبة من سائر الذنوب ، ويحثها على المسابقة في العمل الصالح ، والارتقاء بها إلى المقامات العلى في الإيمان ويسعى إلى ذلك بالأسباب المعينة كمعرفة ثواب الأعمال وآثارالذنوب وأسبابها والابتعاد عن المخذلين وضعيفي الهمم ، وسماع أخبار المجتهدين في الطاعات ثم إذا ضعفت عن الصالحات أو بدرت منها المعاصي ، وجنحت إليها ، فهذا مقام المعاقبة .
فالمعاقبة تكون بعد معرفة الحق ثم الميل عنه ، ولا يبدأ بالمعاقبة إذ لا عقاب قبل معرفة ؛ وحتى يكون ذلك أقطع للعذر عنها .
وتنبه ـ بارك الله فيك ـ إلى أن المعاقبة غير مقصودة لذاتها ، بل هي وسيلة إلى تهذيب النفس وتربيتها ،
وهي مثل الكي للمريض تستعمل بقدر الحاجة .
وليس من المعاقبة المحمودة تعذيب النفس وتكليفها بما لا تطيقه ، أو بما يؤذي البدن كالحرق بالنار أو القيام في الشمس ، أو ما يشبه ذلك بل بزيادة في الأعمال الصالحة بلا مشقة زائدة ، أو حرمانها مما ترغب ، وأنت طبيب نفسك ، وتعلم ما يساعدها على الفتور والعصيان فتتركه .
قال المقدسي رحمه الله :(2/153)
إعلم أن [ المؤمن ] إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيراً أو فعلت شيئاً من المعاصي فلا ينبغي أن يهملها ، فإنه يسهل عليه حينئذ مقارفة الذنوب ويعسر عليه فطامها بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده ، وكما روي عن عمر أنه خرج إلى حائط له - أي : بستان - ثم رجع وقد صلى الناس العصر ، فقال : إنما خرجت إلى حائطي ، ورجعت وقد صلى الناس العصر ، حائطي صدقة على المساكين .
وروي أن تميماً الداري رضي الله عنه نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى طلع الفجر فقام الليل سنة لم ينم فيها عقوبة لنومه تلك الليلة .
ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه فقال : تسألين عما لا يعنيك لأعاقبنك بصوم سنة ، فصامها .
أما العقوبات التي فيها إضرار بالبدن أو ارتكاب منهي عنه : فلا تجوز ، كما روي أن رجلاً نظر إلى امرأة فقلع عينيه ، وآخر عصى الله بيده فوضعها في النار حتى شُلت ، فمثل هذا لا يجوز ، فإنه ليس للإنسان أن يتصرف في نفسه بمثل هذا . أ.هـ بتصرف من " مختصر منهاج القاصدين " .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
ــــــــــــــــــ
أسباب الفتور وعلاجه
سؤال:
ما هو الحل الأمثل للفتور في الإيمان بعد أن كان الشخص يتقي الله ثم أصابه فتور بحيث لم يعد يستطيع أن يقرأ القرآن ؟.
الجواب:
الحمد لله
للفتور أسباب لا بدَّ قبل العلاج من الوقوف عليها ومعرفتها . ومعرفتها من طرق وعلاج الفتور .
ومن هذه الأسباب : ضعف الصلة بالله تعالى ، والتكاسل في الطاعة والعبادة ، وصحبة ضعيفي الهمة ، والانشغال بالدنيا وملذاتها ، وعدم التفكر في نهاية الدنيا ويعقبه ضعف الاستعداد للقاء الله تعالى .
وأما كيفية علاج المسلم لما يصيبه من فتور في الطاعة والعبادة ، فيكون بعدة أمور منها :(2/154)
1. توثيق الصلة بربه تعالى ، وذلك عن طريق قراءة القرآن قراءة تفكر وتدبر ، واستشعار عظمة الله تعالى من عظمة كتابه ، والتفكر في عظيم أسمائه وصفاته وأفعاله تعالى .
2. المداومة على النوافل والاستمرار عليها ، وإن كانت قليلة فمن أكثر أسباب إصابة المسلم بالفتور هو الاندفاع بالطاعة والإكثار منها في أول الطريق ، ولم يكن هذا هديه - صلى الله عليه وسلم - ولا وصيته لأمته ، فقد وصفت عائشة رضي الله عنها عمله - صلى الله عليه وسلم - بأنه " ديمة " أي : دائم غير منقطع ، وأخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بأن " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " ، فإذا أراد المسلم أن لا يصاب بالفتور فليحرص على العمل القليل الدائم فهو خير من كثير منقطع .
3. الحرص على الصحبة الصالحة النشيطة ، فصاحب الهمة يزيدك نشاطا ، والكسول لا يرضى بصحبة صاحب الهمة ، فابحث عن صحبة لها همم تسعى للحفظ وطلب العلم والدعوة إلى الله ، فمثل هؤلاء يحثونك على العبادة ويدلونك على الخير .
4. قراءة الكتب المتخصصة في سير أعلام أصحاب الهمة لتقف على نماذج صالحة في سيرك إلى الله ، ومن هذه الكتب " علو الهمة " للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم ، وكتاب " صلاح الأمة في علو الهمة " للشيخ سيد عفاني .
5. ونوصيك بالدعاء ، وخاصة في جوف الليل الآخر ، فما خاب من لجأ إلى ربه واستعان بمولاه ليثبته على الطاعة ويعينه على حسن أدائها .
ونسأل الله أن يوفقك لما فيه رضاه ، وأن يهديك لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال .
والله أعلم.
الإسلام سؤال وجواب
ــــــــــــــــــ
مشكلة الحماس أول التوبة ثم الفتور بعدها
سؤال:
عندما يتوب الإنسان يبدأ بداية قوية ويقول : إن الشيطان يأمرني بالتخفيف ، ويزيد من الطاعات ، ثم تبرد الهمة فيقول : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، وتخف الطاعات حتى يعود كما كان .(2/155)
وسؤالي : ما هي النصيحة ؟ هل يبدأ بداية قوية أم بالتدريج حتى يثبت عليه ويزيد عليه بعد مدة أو يأخذ بالمقولة " إذا هبت رياحك فاغتنمها " ؟.
الجواب:
الحمد لله
إن نعمة الهداية والتوبة من أعظم نعَم الله تعالى على المسلم ، وتغيير حاله للأحسن مما يقرِّبه إلى الله تعالى أكثر ، وفي العادة يُقبل التائب على الطاعة إقبالاً عظيماً يحاول فيها تعويض ما فاته من العمر الذي قضاه في المعصية والضلال .
وهذا الأمر طبيعي بالنسبة لكل صادق في توبته ، وقد ذكَره نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وبيَّن ما يحصل بعده من برود وفتور في الهمة ، وهذا أمر طبيعي أيضاً ، لكن الخطر على صاحب هذه التوبة أن يكون فتوره وبروده في تناقص مستمر إلى أن يرجع إلى حاله الأول ، ولذا كان من الواجب الانتباه إلى هذا الأمر ، وعلى التائب الطائع إذا فترت همته أن يقف عند الاعتدال والتوسط ، والتزام السنة ؛ ليحافظ على رأس ماله ، ويحسن الانطلاق مرة أخرى إلى الطاعة بقوة ونشاط ؛ لأن الانطلاق من التوسط خير من الانطلاق من الصفر .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ ) . رواه ابن حبان في "صحيحه" (1/187) ، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (56) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلا تَعُدُّوهُ ) رواه الترمذي (2453) وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب" (57) .
قال المباركفوري رحمه الله :(2/156)
" قوله (إن لكل شيء شِرَّةً) أي : حرصا على الشيء ونشاطا ورغبة في الخير أو الشر .
(ولكل شِرَّةٍ فَتْرَةً) أي : وهْناً وضعفاً وسكوناً .
(فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أي : جعل صاحب الشرة عملَه متوسطاً ، وتجنب طرفي إفراط الشرة وتفريط الفترة .
(فَارْجُوهُ) أي : ارجو الفلاح منه ؛ فإنه يمكنه الدوام على الوسط , وأحب الأعمال إلى الله أدومها .
(وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ) أي : اجتهد وبالغ في العمل ليصير مشهوراً بالعبادة والزهد وسار مشهوراً مشارا إليه .
(فَلا تَعُدُّوهُ) أي : لا تعتدوا به ولا تحسبوه من الصالحين لكونه مرائيا , ولم يقل فلا ترجوه إشارة إلى أنه قد سقط ولم يمكنه تدارك ما فرط " انتهى .
" تحفة الأحوذي " ( 7 / 126 ) .
ولكي يتجنب المسلم الإفراط والتفريط فعليه بالقصد ، وهو التوسط ، فلا يبالغ في فعل العبادة والطاعة ؛ لئلا يملَّ فيترك ، ولا يتركها كسلاً وتهاوناً لئلا يستمرئ الترك فلا يرجع ، وكلا الأمرين ذميم ، ومن توسط في الأمر سلك ، ومن سلك وصل إلى ما يحبه الله ويرضاه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ . قَالُوا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلا أَنَا ، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا ، وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا ) . رواه البخاري (6098) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قوله : ( سددوا ) معناه : اقصدوا السداد أي : الصواب .
قوله " وقاربوا " أي : لا تُفْرِطُوا (أي تشددوا) فتُجهدوا أنفسكم في العبادة ، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فَتُفَرِّطُوا (أي تقصروا) .(2/157)
قوله " واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة " : والمراد بالغدو السير من أول النهار , وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار , والدلجة : سير الليل ، يقال : سار دلجة من الليل أي ساعة ، فلذلك قال : ( شيء من الدلجة ) لعسر سير جميع الليل .
وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة , وعبر بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة .
قوله " والقصدَ القصدَ " أي : الزموا الطريق الوسط المعتدل , واللفظ الثاني للتأكيد " انتهى باختصار .
"فتح الباري" (11/297،) .
والخلاصة : ندعوك للتفكر في الأحاديث السابقة ، والتأمل في معناها ، واعلم أن التوبة بحاجة إلى شكر ، وأعظم الشكر أن تداوم على بقائها ، ولا يكون ذلك إلا بالمداومة على العمل والطاعة ، واعلم أن ( أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ) رواه البخاري ومسلم ، فلا تبدأ بقوة ولا تفتر بالمرَّة ، بل اقتصد في الطاعة ، وهذا في مقدورك ، وكلما رأيت من نفسك نشاطا فاجعله في طاعة الله ، وكلما رأيتَ فتوراً ومللاً فارجع إلى التوسط ، ونسأل الله أن ييسر أمرك ، ويهديك لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
ــــــــــــــــــ
حتى لا نصاب بالفتور في رمضان
محمد بن صالح المنجد
الخبر
10/9/1423
عمر بن عبد العزيز
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة ومننه الكبرى وكرمه البيّن، سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظمه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.(2/158)
أيها المسلمون، هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان، وهذه آلاؤه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل وما عشنا من يوم الزيادة في هذا في رمضان فهو من الله، وما بلغنا زيادة في هذا الشهر فهو منّة من الله، فإن من عباد الله من أوقفه انتهاء أجله عن إكمال هذا الشهر الكريم، إن من الناس من أوقفته المنيّة عن الاستمرار في هذا الشهر المبارك، فلله الحمد على هذه النعمة.
أيها المسلمون، إن معرفة نعمة الله علينا في هذا الشهر هو الذي يجدد النشاط في النفس ويبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله الذي عاهدنا عليه، عهد الله علينا أن نعبده لا شريك به شيئاً، وعهد الله علينا أن نعبده دائماً وأبداً.. لا نتوقف عن عبادته في زمن ونعبده في زمن، وإنما مشوار الحياة كلها عبادة لله رب العالمين قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، أيها المسلمون، فيما يلي تنبيهات على أمور تتعلق بهذا الشهر الكريم، نحن الآن على مقربة من نهاية الثلث الأول، وقد أنهينا ثلث رمضان، فلا بد من حساب، كيف مضت أيام الشهر الماضية؟ وكيف انقضت لياليه، ذهب الثلث والثلث كثير، فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي؟(2/159)
أيها الناس، إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان، هذا شيء ملاحظ فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير وما يجدون من لذة العبادة نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة في العشر الأواسط ونلحظ هدأة الرجل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر أم أنه ينبغي علينا استدراك ذلك، ويجب علينا أن لا نخسر شيئاً من أيام رمضان ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر.
ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر، فإذا مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحول عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة.. كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟
أولاً: ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به، وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لابد أن تكون موجودة دائماً الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا الامتناع "أي: عن الملذات" إرضاء رب العالمين ((إنما الأعمال بالنيات)).(2/160)
ثانياً: مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، نتذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط وإنما الاحتساب شرط لحصول المغفرة، الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره، فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم وبكل صوم، ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.
ثالثاً: أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، ((كل عمل ابن آدم له كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)).
الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر))؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا، ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفّعني فيه.هكذا يقول الصيام يوم القيامة.
رابعاً: فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة، يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة "باب الريان"، والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وفتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب الجحيم، وسلسلة الشياطين، كل ذلك مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة.
مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه : ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردت الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة- أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر كل ليلة، في جميع رمضان-: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)).(2/161)
ثم انتبهوا أيها المسلمون لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث، عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحول صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال : ((ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة))، فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟ لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.
خامساً: ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال : ((أنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان))، فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط، وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم عليه السلام والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في آخر الشهر.
سادساً: من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة، التأمل فيها والوقوف على شيء من حكم الله؛ توحيد المسلمين، المواساة والإحسان، أثر الجوع والعطش، والأمر بضبط النفس....أمور كثيرة.
سابعاً: التفكر في حديثه : ((رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار فأبعده الله قال جبريل لمحمد:قل آمين، قال محمد : آمين)).
ثامناً: تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات.. وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط وتعود الحيوية.
يا عباد الله، لا تفقدوا لذة مناجاتكم وعبادتكم لله في أي جزء من هذا الشهر.
وكذلك ينبغي التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر وحلاوة أيامه ولذة عباداته.
تاسعاً: ومن الوسائل، عدُ كم ذهب من الشهر يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد، كم مضى من شهرنا..كم ذهب من شهرنا.. كم ذهب؟ ذهب الثلث والثلث كثير.(2/162)
عاشراً: مقارنة الحال بما قبله وما بعده، قارن حالك بما قبل الشهر وبما بعده، لتعرف عظمة هذا الشهر.. لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان، فلا تُفِدك المعرفة.
الحادي عشر: تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي شهرنا مرة أخرى، تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهر طويلة عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى، هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط ومضاعفة العبادة وترك الكسل ونفض الغبار والقيام لله رب العالمين.
الثاني عشر: ابتغاء وجه الله في هذا الصيام، قال : ((من صام يوماً في سبيل الله ـ يعني: صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد ـ باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله من جهنم مسيرة مائة عام))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض))، وقال: ((من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً)).
أيها المسلمون، إن الاجتماع لقيام الليل لم يشرع إلا في رمضان وصلاة التراويح، هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يقام بحقه، التبكير إلى المساجد وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى، والفرض أهم من النفل.
ثانياً: أن لا تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجل جمال الصوت فقط وحسن النبرة، وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الالتذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنه.(2/163)
ثالثاً: استحضار القلب عند الآيات الرحمة.. العذاب.. الثواب.. العقاب.. القصص.. الأمثال.. أهوال القيامة.. ذكر أسماء الرب وصفاته جل وعلا، فينبغي أن تكون الآذان حاضرة لإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية، لينبعث تذكر ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات.
ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة ولا في سماع كلام الله.. أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم! فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام.. وقدر الكلام بقدر المتكلم، كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، و كلام الله لا شيء أجل منه، ولا أدعى على التقبل ولا التذكر ولا التأثر ولا الخشوع، لا شيء أدعى من كلام الله.
رابعاً: عدم رفع الصوت بالبكاء والنحيب و الصياح، كان يصلي و في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر، بهذا الصوت المكتوم كان يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت.بكاء القلب أهم!
كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه. هذا هو الإخلاص لا صياحاً ولا صراخاً.. عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.
أيها المسلمون، السحور عبادة جليلة يغفل عنها الكثيرون و ينامون عنها وعن صلاة الفجر! ومع الأسف نجد قلة عن المتوقع في صلاة الفجر في رمضان، والسبب عدم الاستيقاظ للسحور، السحور بركة كما قال : ((عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك، هلم إلى الغداء المبارك)) ـ يعني السحور ـ نعم السحور، هذه الأكلة بركة فلا تدعوه قال : ((فلا تدعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين))، ((فصل ما بين صيامنا و صيام أهل الكتاب أكلة السَحَر))، فاعتنِ بالسحور.
أولاً: لأن الله وملائكته يصلون على المتسحرين.
ثانياً: لأن فيه بركة.
ثالثاً: لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب ويجب أن نخالف اليهود والنصارى.(2/164)
رابعاً: أنه أعون على الصيام.
خامساً: أنه أضمن لأداء صلاة الفجر.
فعليك به يا عبد الله ولا تُفَوِّته.. كيف وهو بركة! فيه من البركة ما لا يوجد في غيره من الوجبات.
وعليكم كذلك بالحرص على تفطير الصائمين في الداخل و الخارج ((من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)). احرص على إطعامه.. وإشباعه.. وإيصال الطعام إليه بغير منة ولا أذى، وإنما تحمد ربك أن هيأ لك الفرصة، لأن يطعم الصائم من طعامك ويشرب من شرابك. فليست الولائم التي تقام لتفطير الصائمين مجالاً للبذخ ولا للأشر والبطر، ولا للفخر والخيلاء.. وإنما هي مجال لأن تتواضع لله وتشكره أن هيأ لك هذا العدد من الناس ليفطروا عندك ويأكلوا من طعامك.
وتذكر إخوانك المسلمين في أقاصي الأرض ممن لا يجدون طبقاً واحداً من الأطباق التي تزخر بها مائدتك.. فاتق الله يا عبد الله!
وكذلك من الوصايا.. تلاوة القرآن العظيم في هذا الشهر، وسيأتي له تفصيل إن شاء الله.
ومن الوصايا: قوموا إلى نسائكم.. قوموا إلى نسائكم.
يا أيها المسلمون، يا أيها الرجال، قوموا إلى نسائكم فعلموهن كيفية الصيام وآداب الصيام. قوموا إلى نسائكم اللاتي يأتين إلى المساجد فعلموهن أموراً ومنها:
صلاة المرأة في بيتها خير لها...قال : ((وبيوتهن خير لهن))، قال لأم حميد زوجة أبي حميد الساعدي: ((قد علمت أنك تحبين الصلاة معي)) ثم قال لها: ((وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي))، بين لها أن الصلاة في قعر بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وكلما كانت أعمق في البيت كلما كان أفضل، وصلاتها في مسجد قومها خير لها من الصلاة في المسجد النبوي!
ولكن إن أرادت المرأة أن تذهب إلى المسجد، فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله و قد جاء الجمع بين الفقرتين في حديث واحد: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن)). علموهن هذه المسألة.(2/165)
ثانياً: قوموا إلى نسائكم فأْمروهن بالحجاب. الحجاب يا أيها الرجال المسلمون، يا أرباب الأسر، يا أيها الرعاة الذين يرعون شؤون العائلة، أنتم المسؤولون أمام الله، كل واحد توجد امرأته في الشارع حاسرة مقصرة في الحجاب سواء كان قصيراً، أو لا يستر الوجه، أو شفافاً أو ضيقاً، فهو المسؤول عنها. وهو الذي يشاركها في الإثم قطعاً، وهو الساكت عن الحق، وهو الشيطان الأخرس، وهو الذي أقر الخبث في أهله. هو الذي أقر فيهم السوء، وهو الذي يراها تمشي ولا ينكر، وهو الذي يراها تسفِر ولا يغيّر. فتباً لمعاني الرجولة كيف اضمحلت في نفسه وكيف نقص الإيمان وكيف زال التأثر بقول الله: قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] وقودها الناس ـ أنفسهم ـ والحجارة. هؤلاء هم وقودها. كيف ترضى أن تخرج امرأتك و لو إلى المسجد في حالة من قلة الحياء والحجاب والتقصير في اللباس الشرعي... لو ظهرت أظافرها وأنت ساكت وأنت تعلم فأنت مشارك في الإثم والعدوان. كان النساء في عهد الرسول إذا خرجن من بيوتهن إلى الصلاة يخرجن متبذلات بعيدات كل البعد عن الزينة، متلفعات بالأكسية، لا يعرفن من الغَلَس، لا يعرفن، كأنهن غِربان، أسود في أسود لا يرى منها شيء.
والآن زوجاتنا، بناتنا، أخواتنا، وحتى أمهاتنا، كثير من المسلمين يعيشون حالة عجيبة من التقصير، ونندهش في هذا الشهر الذي هو فرصة للتوبة والتغيير.. كيف لم يحدث فيه تغير في الحجاب؟ زينة ومكياج وبهرجة وتجمل ولبس أحسن الثياب وتبخر وتطيب وخلوة بالسائق.(2/166)
وهذا الزوج الذي يقر الخبث في أهله.. هؤلاء الناس رجالاً ونساءً ما موقفهم أمام الله والسيئة تضاعف في رمضان ما لا تضاعف في غيره؟ تضع حجابها في السيارة فإذا نزلت إلى المسجد لبسته، كحال الرجل الذي يحمل معه المشلح، فإذا وصل إلى مكان الوليمة الرسمية نزل فترجّل فلبس المشلح ودخل! وهكذا يفعل هؤلاء.. أو بعض هؤلاء، ورجالهم في غيهم سادرون.. ورجالهم في سبل الشيطان ماشون منهمكون. ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية))! تقول: ما علاقتنا؟ ما علاقتك؟ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
لا لإهمال الأطفال في البيت، ولا لإحضار المزعجين إلى المساجد لإشغال المصلين والتلبيس على الإمام والتشويش على عباد الله. أوصوهن بعدم الانشغال بالقيل والقال وارتفاع الأصوات بعد الصلاة لدرجة يسمعها الإمام و الناس. أوصوهن بتراص الصفوف وسد الخلل وملئ الفُرَج، فصفوف النساء في المساجد مليئة بالمآسي. انصحوا نساءكم أن لا يقضوا رمضان في المطبخ، وليبقين من الأوقات للعبادة، فهي الأساس وهي الهدف وهي أعظم شيء في هذا الشهر. لا تكلفوهن بكثرة الطبخ، بل امنعوهن عن التمادي والتفنن وتضييع الأوقات فيه.. هذا من وظيفتكم.
يا عباد الله، تجنبوا تحويل ليالي هذا الشهر الكريم إلى ليالي أنس مع الخلائق ومجالس معاصي، ولعب ورقص، ومسلسلات وأغاني، وطبل وزمر، وولائم يتفنن فيها في المأكولات، وترمى فيها الأطعمة في براميل القمامة. الأمر أعظم من ذلك!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(2/167)
إذا كنا نخفف من صلاة التراويح حتى لا يشرد المتذمرون ولا يهرب المقصرون الكسالى وحتى يدرك أصحاب الأعمال والوظائف أعمالهم، فهذا لا يعني أن تنقطع العبادة بعد صلاة التراويح، بل بقي لك من قراءة القرآن والصلاة ـ مثنى مثنى ـ إذا أردت دون أن تعيد الوتر...بقي لك متسع، والنوم مبكر وإدراك الفجر وأكلة السَحَر.. مناقشة جمع الزكوات وتوزيع الصدقات ووصل الرحم وبر الفقراء.. قال الله تعالى وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] ولم يقل يطبلون ويزمرون! وهؤلاء الناس في الأسحار يطبلون ويزمرون وقت النزول الإلهي، في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان في الليالي المباركة يعصون الله سبحانه وتعالى. يقول الله: ((هل من سائل فأعطيه؟)) وأصحابنا في وادٍ آخر...((هل من تائب فأتوب عليه؟)) وهؤلاء القوم في لهوهم وشغلهم عن ربهم وعن العبادة. تجنبوا قرناء السوء في هذا الشهر الفضيل.
أيها الشباب، دعوا الأرصفة وأقبلوا على الله، واتركوا العود وهلم إلى التوبة وإلى هذا الموسم الفضيل.
اللهم اجعلنا ممن عمر هذا الشهر بالعبادة، اللهم أعنا فيه على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك، وارزقنا توبة نصوحاً، وعملاً متقبلاً، وصياماً مبروراً، وقياماً مشكوراً. اللهم إنا نبرأ إليك من تقصيرنا، اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عما أسرفنا فيه من حق أنفسنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، رب العرش العظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن. سبحانه.
والله الذي لا إله إلا هو، إنه ينبغي علينا أن نحبه أكثر من أي شيء.(2/168)
اللهم اجعلنا ممن يحبونك واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير، الداعي إلى الله بإذنه، البشير النذير، الذي أدى رسالة ربه وبلغ الدعوة ووفى الأمانة ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ الذي حبه مقدم على حب البشر أجمعين.
لا يؤمن أحدكم حتى يكون رسول الله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، اللهم اجعل حب رسولك مما تعمر به قلوبنا.
أيها المسلمون، عمرة في رمضان تعدل حجة، أجر عظيم وموسم فضيل وثواب جزيل ورب كريم، أبواب الخير مشرعة، والبقية عليك يا عبد الله لإكمال المشوار، ((عمرة في رمضان تعدل حجة)).
وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، هذه الحجة ليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر، فإذا رأى المسلم أن من مصلحة عبادته استباق الازدحام الشديد جداً الذي لا يطيقه ويعطله عن أعماله وعن شغله حتى في نفسه وطعامه وشرابه فعليه أن يبادر؛ وإذا رأى أن تشتيت ليالي العشر بالأسفار وفوات القيام سيتحقق فلا بأس عليه أن يعتمر في العشر الأول أو الأواسط، أو كان ممن للمصلحة في بقائه في بلده في العشر الأواخر، أو يخشى عدم التمكن من حجز مكان للسفر فليبادر الآن بالذهاب، فالبيت قريب، والسبيل آمن والأجر عظيم؛ كم من الناس يتمنون أن يعتمروا وأن يؤمّوا البيت العتيق فلا يتمكنون.. ولا يستطيعون من ظلم ظالم.. أو فقر فقير لا يستطيعون أن يأتوا البيت العتيق، فأنت قريب والسبيل آمن ولله الحمد فلماذا لا تبادر بالذهاب.
ونوصي إخواننا الذين سيذهبون في رمضان إلى مكة والآن العطلة دراسية قريبة وبعدها سيعقبه سفر وأسفار، نوصي الذين يذهبون لقضاء العشر وغيرها بجوار بيت الله الحرام بما يلي:(2/169)