الإلفة واجتماع الأمة
الحمد لله الذي ألف بين قلوبنا ، قال جل تعالى : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(لأنفال:63) . وقال جل شأنه :{... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون}. والحمد لله الذي نهانا عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ولذا سن الاجتماع ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( سنَّ صلى الله عليه وسلم الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك . والصلاة والسلام على رسوله محمد بن عبد الله القائل : " عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ ". أيها الأحبة : الاجتماع نعمة والفرقة عذاب وجعل الفرقة عقوبة وعذابا ، وجعل تعالى الفرقة من أسباب الهلاك فقال عز وجل {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}.(1/1)
أسباب الهلاك والفشل اختلاف الناس على علمائهم وولاة أمرهم وتحزبهم وانقاسمهم {وإن هذه امتكم أمة واحدة } لأن الحزبية بدلاً من البحر قربه ، وبدلاً من السماء سعف ، وبدلاً من الهواء قنينه ، وبدلاً من الأرض الواسعة حفرة حفرة ، المنهج الوسط بين التكفير والعلمنة وما ذاك إلا أن تفرق الناس في الأقوال يورث تفرقهم في المعاملة والأفعال ثم يورثهم تفرقاً في الأحوال ثم يصبحون طوائف وشيعاً يتباغضون ولا يتوادون ، ويتنافرون ولا يتراحمون ، يسقط بعضهم حق بعض ، ويستبيح ما حرم الله تجاه بعض ، لذا حاجتنا إلى تثبيت اجتماع الكلمة لأن الاختلاف طريق الزوال ، إذا تفرق الناس بالأقوال تفرقوا في الأحوال ثم تحزبوا ثم صاروا جماعات وفرقاً ثم يغريهم عدوهم بالإنقسام . إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول التفرق والاختلاف ، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت إلى دويلات إسلامية ، فنشأت الدولة البويهية، ودولة المماليك، ودويلات الشام ، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي ، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل. وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة ، ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أغرى الاستعمار بعض زعماء المسلمين بالانفصال عنها، وعملوا بقاعدة: فرِّق تسُد. ومما يعين على اجتماع الكلمة : الالتفاف حول العلماء ، وإحسان الظن بهم وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق ، بل نلتمس لهم العذر ونوقرهم ونجلهم حتى وإن اختلفوا في فتاواهم . قال يحيى بن سعيد الأنصاري : ( ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه ) وكذلك تحمل حسنات الإمام العالم ويرجى له المغفرة في خطأه ولا يتطاول .(1/2)
وقال الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: ( كان يرى القدر نسأل الله العفو ، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه إذا كثر صوابه ، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك) ومما يعين على اجتماع الكلمة : الحذر من أن يؤدي الاختلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين ، يقول شيخ الإسلام: ( كانوا يتناظرون في المسائل العلمية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة) . وقال يونس الصدفي : ( ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ) . ومما يعين على اجتماع الكلمة : عدم الإنكار على المخالف ما دام الخلاف سائغاً ، لكن هذا لا يمنع من أن تبين له الحق الذي تعتقده . إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين. وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ . ومقصدهم في ذلك الإنكار المؤدي إلى الفرقة ، لا مجرد التنبيه وإقامة الدليل على صحة ما يعتقده الإنسان، وإلا انسد كثير من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول سفيان: ( إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ). وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: (ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به). ويقول ابن مفلح: ( لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع). قال النووي : ( ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً) .(1/3)
ويقول ابن تيمية:(مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه). وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: ( إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة). وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: ( الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد). ومما يعبن على اجتماع الكلمة : البعد عن المراء والجدال والمهاترات والتراشقات . قال صلى الله عليه وسلم :" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه ، إلا أوتوا الجدل ". ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الجدال والمراء فقال صلى الله عليه وسلم :" من ترك المراء وهو مبطل، بنى الله له بيتاً في ربى الجنة ، ومن تركه وهو محق ، بنى الله له بيتاً في وسطها ، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها ". رواه الترمذي وحسنه. وصححه الألباني رحمه الله. قال الحسن رحمه الله : ( ما رأينا فقيهاً يماري ) . وقال أيضاً : ( المؤمن يداري ولا يماري ، ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله ) . وقال محمد بن الحسين : ( وعند الحكماء أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان ويورث التفرقة بعد الألفة والوحشة بعد الأنس ) . * هل وقوع الخلاف يعد مبرراً للفرقة والتنازع ؟. ( تكفير مرتكب الكبيرة ، الطعن في عدالة الصحابة ) . الخلاف نوعان منه ما هو مذموم ، كالخلاف الذي في أصول العقيدة كخلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة وغيرهم . مع ملاحظة : الاختلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها يقول ابن تيمية: (إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب .(1/4)
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل (الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه ، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه ) . ويقول رحمه الله أيضاً : ( من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ) . ويقول الذهبي: ( ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور).( ــــ ومن علامات الاختلاف السائغ : أن يكون القول صادراً عن اجتهاد ونظر في الأدلة الشرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال الشاطبي: ( الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه.والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي .فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق ... ) . ( الوهم في تعارض الفتوى في النوازل ) * ماذا بعد الخلاف ؟ لا عصمة لأحد ، يجب اتباع الأحكم ، الأعلم ، الأسلم ، الأقدم إذا وقع الخلاف في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف ، فإن الواجب الشرعي هو: 1ـــ إعذار المخالف وإحسان الظن به وأنه يتحرى الحق ويريده. 2ـــ المحافظة على رباط الأخوة : قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه ، وهجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، ولا ابن مندة ، ولا من هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ). 3 ــــ لا تحمل الآخرين على رأيك . فهذا لا يجوز حتى للعالم مجتهد.(1/5)
قال أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: ( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم ). السؤال عن أمر يخصك ؟ السؤال في الخصومة للمحكمة ؟ صور من اختلاف الصحابة والسلف : اختلف عمر رضي الله عنه مع أبي بكر رضي الله عنه في حرب أهل الردة ، ولا زال يراجعه بأدب ورفق وأبو بكر يرد عليه من غير تثريب ، حتى شرح الله صدر عمر رضي الله عنه لقول أبي بكر رضي الله عنه . والقصة معلومة مشهورة. اختلف أبو بكر وعمر في سبي نساء أهل الردة، فسباهن أبو بكر ، وكان عمر لا يرى ذلك . - اختلف ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في كثير من المسائل ، حتى أوصلها ابن القيم إلى نحو مائة مسألة منها: أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق ، وخالفه عمر رضي الله عنه . اختلفا فيمن زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود رضي الله عنه أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا ، وخالفه عمر رضي الله عنه . وبرغم ذلك كانا يثنيان على بعضهما. يقول عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود رضي الله عنه : (كنيف ملئ فقهاً أو علماً آثرتُ به أهل القادسية).(السير 1/491). ويقول ابن مسعود رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه : (كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن) . رواه الحاكم في المستدرك . وبالجملة فقد اختلف الصحابة ومن بعدهم من التابعين في كثير من المسائل : فمنهم من كان يجهر بالبسملة في الصلاة ومنهم من لا يرى ذلك ، ومنهم من كان يتوضأ من الرعاف والقيء والحجامة ومن من لا يرى ذلك ، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو مما مسته النار ومنهم من يرى رأيه لعدم بلوغ الدليل . ولم يكن هذا الاختلاف مبرراً للطعن والتثريب والتفسيق والعداوة والبغضاء فيما بينهم .(1/6)
صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة ــ وكان يرى القنوت في صلاة الصبح ، ويرى الجهل بالبسملة ـــ فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة رحمهما الله . قال القرطبي: ( كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً . وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد) رغم أنه يرى أن خروج الدم بحجامة أو غيرها ينقض الوضوء. ــــ يقول الإمام أحمد بن حنبل: ( لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ) . وفي عصرنا حدث خلاف بين علماء كبار كالشيخ ابن باز والشيخ الألباني والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمهم الله تعالى ، في كثير من المسائل الفقهية: كحكم تارك الصلاة ، وإباحة الذهب المحلق، وتغطية وجه المرأة ، والأخذ من اللحية ما زاد عن قبضة ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع وغيرها . ولكن لم يكن هذا الخلاف أبداً سبباً للتنافر بين هؤلاء العلماء الأجلاء أو ذريعة للقطيعة وعدم التعاون . بل كان كل واحد منهم يذكر الآخر بخير ويثني عليه . ومما يعين على اجتماع الكلمة : لزوم الجماعة : قال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة " ( رواه أحمد والترمذي ) جاءت أدلة الكتاب والسنة متواترة في وجوب لزوم جماعة المسلمين والنهي عن الفرقة والاختلاف. قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، ولم يقل فتقاتلوا بعضكم بعضا.(1/7)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فعليك بالجماعة، فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية". رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صدوقٌ رواتُه. وفي حديث حذيفة بن اليمان المعروف في الصحيحين: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافة أن يدركني"، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " ، وقد عَنْوَن الإمام مسلم باب الحديث بـ: "باب: وجوب ملازمة الإمام عند ظهور الفتن، وفي كلِّ حال، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة". إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يرون الجماعة والائتلاف وينهون عن الفرقة والاختلاف ، عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ". وإسناده جيد . وكان السلف يُعظّمون من شأن الجماعة . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة ) ( لقضم الملح في الجماعة أحب إلى من أكل الفالوذج الحلوى في الفرقة ) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه ، ونتيجة الفرقة ؛ عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم ) .(1/8)
ولذلك أمر المسلم بالسمع والطاعى ولو لم يجد كل ما يجب له ويستحقه ويتمناه قال صلى الله عليه وسلم :" من رأى من أميره شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية". وقال صلى الله عليه وسلم : " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه :" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ". رواه البخاري ومسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري . وقال صلى الله عليه وسلم :" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني". متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم :" من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". رواه مسلم. كل ذلك لحفظ مصالح الأمة . ومن مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل والبطانة . يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله - : " فطاعة الله ورسوله واجبة على أحد ...وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم ... فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله ... ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فماله في الآخرة من خلاق .(1/9)
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهم غير ذلك ، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدينا فإن أعطاه منها وفا وإن لم يعطه منها لم يف " . ووجوب طاعة ولاة الأمور في المعروف من جنس العبادات الواجبة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة ... كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة " . ومما يعين على الوحدة ونبذ الحزبية والعصبية في الإنتماء للجماعات لما فيها من أخذ البيعة - وهي العهد بالطاعة - للحزب أو لزعيمه بقصد الربط بين أفراد مجموعة الحزب وإحكام تنظيمهم ليُنطلَق بهم إلى تنفيذ أهداف الحزب . وجواباً على هذا نقول : إن أمر المسلمين في أي بلد لا يخلو من حالتين : الحالة الأولى : أن يكون لهم إمام ثبتت ولايته شرعاً ، فلا يجوز إحداث بيعة أخرى عليه ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " . فأما أن نقبل الأحاديث أو نردها ولا مخرج في ردها إلا بالتكفير . الحالة الثانية : أن يكونوا متفرقين متحزِّبين ، وعندئذ فلا يجوز اتباع أي من هذه الأحزاب ، ولا يُبابع أحد المتنافسين من أهل الشوكة ، وهي الحال التي سأل عنها حذيفة حين قال : فإن لَمْ يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ فأجابه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله : " فاعتزل تلك الفرق كلها" .(1/10)
سُئِلَ الشيخ ابن باز رحمه الله : بعض الطُّلاَّب السلفيين يقولون : لابُدَّ أن نجتمع على عهد وعلى بيعة لأميرٍ لنا وإن كُنَّا على المنهج السلفي ، لسنا في الجماعات الأُخرى . فأجاب الشيخ بقوله : ( ما يحتاج بيعة ولا شيء أبداً ، يكفيهم ما كفى الأولين . الأولون طلبوا العلم وتعاملوا بالبر مِن دون بيعة لأحد) . ( من شريطٍ بعنوان " أسئلة للشيخين ابن باز وابن العثيمين " سُجِّل بمكَّة المكرَّمة في السادس من ذي الحجة عام 1416 هـ ) . وقال الشيخ ابن عثيمين في جوابٍ له عن سؤالٍ حول الجماعات : ( أرى أنَّ هذه الجماعات التي جاء في السؤال أرى أن تجتمع على كلمة واحدة بدون مبايعة ، بدون معاهدة ، لأنَّ النَّاس ما داموا تحت لواء دولة وحكم وسلطان ، فلا معاهدة ولا مبايعة ، لأنَّ هذه المعاهدة والمبايعة إن كانت مخالفة للنظام السائد في الدولة ، فهذا يعني الخروج على الدولة والانفراد بما تعاهدوا عليه .وإن كانت تعني التساعد فيما يهدفون إليه فهذا لا يحتاج إلى بيعة ومعاهدة ، كما كان أسلافنا .الإمام أحمد رحمه الله إمام وله أصحاب ولم يجر بينه وبينهم معاهدة ولا مبايعة ( مع وجود فتنة خلق القرآن ) . يقول ابن عثيمين : " إنَّا لا نعلم أحداً عاهد أو بايع شخصاً مّا يكون تحت سيطرته في الشّدَّة والرَّخاء والحرب والسّلم إلاَّ الخوارج الذين يخرجون على أئمة المسلمين ويحصل بخروجهم ما لم تحمد عقباه ). ( المصدر السابق ) .(1/11)
ولنا عبرة بما وقع في عهد التابعين لَمَّا رتَّب بعضهم كلاماً جاء فيه : ( الله ربنا ، ومحمَّد نبينا ، والقرآن إمامنا ، ومَن كان معنا كُنَّا وكُنَّا ، ومَن خالفنا كانت يدنا عليه ) فَعُرِض على مَن بالمجلس يقال لكُلٍّ منهم : هل أقررت يا فلان ؟ فوافقوا على ذلك إلاَّ مطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنَّ الله قد أخذ عليَّ عهداً في كتابه فلن أحدث عهداً سوى العهد الذي أخذه عليَّ ، فرجعوا كُلُّهم عن الإقرار ووافقوا التابعي مطرّفاً وكانوا زهاء ثلاثين رجلاً . ( حلية الأولياء 2/204 ومن طريقه الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/192) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليس للمعلِّمين أن يحزِّبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء ، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البرِّ والتقوى ، وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كُلِّ ما يريده ، وموالاة من يواليه ، ومعاداة من يعاديه ، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان وأمثاله الذين يجعلون مَن وافقهم صديقاً والي ، ومَن خالفهم عدوّاً باغي ، بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن يطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحرِّموا ما حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ) . ( مجموع الفتاوى28/15-16 ) . وسُئِلَ سماحة الشيخ ابن باز : هل تُقِرُّون مثل الدخول في الجماعات : فأجاب بقوله : ( ننصحهم جميعاً بالاجتماع على كلمةٍ واحدة وهي طلب العلم والتفقُّه في الكتاب والسُنَّة والسير على منهج أهل السُنَّة والجماعة ، ننصحهم جميعاً بأن يكون هدفهم هو اتباع الكتاب والسُنَّة والسير على منهج أهل السُنَّة والجماعة ، وينتسبون لأهل السُنَّة والجماعة .هذا هو الطريق السويّ الذي يمنع الخلاف) . أ . هـ .(1/12)
وسُئِلَ الشيخ ابن عثيمين : هل هناك نصوص في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فيها إباحة تعدُّد الجماعات الإسلامية ؟ فأجاب بقوله : ( ليس في الكتاب والسُنَّة ما يبيح تعدُّد الجماعات والأحزاب ، بل إنَّ في الكتاب والسُنَّة ما يَذُمّ ذلك ، . ولا شكَّ أنَّ هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله ، بل ما حثَّ الله عليه ، ولا سيّما حينما ننظر إلى آثار هذا التفرُّق والتحزُّب حيث كان كُلّ حزب وكُلُّ فريق يرمي الآخر بالتشنيع والسبِّ والتفسيق ، وربما بما هو أعظم من ذلك ، لذلك فإنَّنِي أرى أنَّ هذا التحزُّبَ خطأٌ ) . (مجلَّة الجندي المسلم ، العدد 83 في ربيع الأوَّل عام 1417 هـ). والحمد لله رب العالمين(1/13)