الإعلام بأن صيام السبت في النفل ليس بحرام
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله { يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون } ، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } ، { يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، و أحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، و شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد ... فهذا بحث في مسألة صيام السبت في النفل حاولت أن أستقصي فيه حجج القائلين فيها بالحرمة وذلك بتتبع كلام العلامة الألباني رحمه الله في كتبه و أشرطته ومن ثَمَّ الرد عليها، وكم كنت أتمنى أن يكون الشيخ رحمه الله حيَّاً بين أظهرنا كي أثني الركب عنده و أعرض هذه الردود لا كبحث مستقل ولكن على شكل إشكالات عنت ببالي، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
و رأس المسألة هو حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة ، أو عود شجرة فليمضغه )
ويلحق به أثر موقوف على عبد الله بن بسر حيث سئل عن صيام السبت فقال: صيام السبت لا لك ولا عليك.
والكلام في هذه المسألة ذو شقين كما قال الشيخ الألباني رحمه الله، شق حديثي و شق فقهي.
أولاًًًًًـ الشق الحديثي:(1/1)
بداية أقول أنك أيها القارئ الكريم لن تخرج عن أحد رجلين، فإما أن تكون على درجة من العلم تمكنك من النظر في الأسانيد و النظر في كلام أهل هذا الشأن من المحدثين و من ثم التمييز بين صوابه و خطئه، و إما ألا تكون كذلك.
فإن كانت لديك القدرة على التمييز فإني أحيلك إلى بحث العلامة الألباني رحمه الله في الجزء الرابع من الإرواء تحت الرقم 960 ، و أيضاً إلى بحث لفاضل من طلاب العلم هو الشيخ محمد زياد التكلة نشره على الرابط التالي:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showt...6223#post136223
و إن كانت الأخرى فلا سبيل لك لمعرفة درجة هذا الحديث سوى التقليد، ولكن يلزمك أن تجتهد في اختيار من تقلده فتختار من تعتقد أنه الأتقى و الأعلم، وسوف أعرض فيما يلي أسماء الأئمة الذين لم يقبلوا هذا الحديث على اختلاف بينهم في سبب ذلك، وأسماء من قال بقبوله، كي تكون على بينة من أمرك، مع ملاحظة أن كل مابين هاتين العلامتين [ ] في البحث من كلامي.
هذا وقد استفدت هذه الأسماء من البحثين السابقين:
• الأئمة الذين لم يقبلوه:
1. ابن شهاب الزهري ( ت 124) قال: حديث حمصي ولم يعده حديثاً كما قال الطحاوي.
2. الأوزاعي (ت 157) قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته انتشر.
3. مالك بن أنس (ت 179) قال: هذا كذب.
4. يحيى بن سعيد القطان ( ت 194 ) أبى أن يحدث الإمامَ أحمد به وكان ينفيه.
5. أحمد بن حنبل (ت 241) وقد نقل عنه ذلك الأثرم كما في الاقتضاء لابن تيمية.
6. أبو بكر بن الأثرم ( ت 261 ) قال: شاذ أو منسوخ كما في الاقتضاء.
7. أبو داود ( ت 275) قال: منسوخ، نسخه حديث جويرية .
8. النسائي ( ت 303 ) قال: مضطرب.
9. الطحاوي ( ت 321 ) قال: شاذ.
10. ابن العربي ( ت 543 ) قال: لم يصح فيه الحديث.
11. ابن تيمية ( ت 728) قال في الاقتضاء: شاذ أو منسوخ.
12. ابن القيم ( ت 751 ) قال في تهذيب السنن: شاذ أو منسوخ.(1/2)
13. ابن مفلح ( ت 762 ) ويفهم من كلامه في الفروع ميله لاختيار ابن تيمية و أنه شاذ أو منسوخ.
14. ابن حجر ( ت 852 ) قال: مضطرب.
15. ومن المعاصرين العلامة ابن باز فقال: منسوخ أوشاذ، رحمة الله على الجميع.
• الأئمة القائلون بتصحيحه أو تحسينه:
1. الترمذي ( ت 279 ) قال: حسن.
2. ابن خزيمة ( ت 311 ) أورده في صحيحه.
3. ابن حبان ( ت 354 ) أورده في صحيحه.
4. الحاكم ( ت 405 ) قال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري.
5. ابن السكن ( ت 353 ) ذكره الشيخ الألباني في المصححين.
6. الضياء المقدسي ( ت 643 ) في المختارة.
7. ابن قدامة ( ت 620 ) قال في الكافي: وهذا حديث حسن صحيح.
8. النووي ( ت 676 ) قال في المجموع : يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له لحديث الصماء.
9. ابن عبد الهادي ( ت 744 ) راجع بحث الشيخ زياد.
10. الذهبي ( ت 748 ) أقر الحاكم على قوله: صحيح على شرط البخاري.
11. العراقي ( ت 806 ) قال: حديث صحيح.
12. ابن الملقن ( ت 804 ) قال: والحق أنه حديث صحيح غير منسوخ.
13. ومن المعاصرين العلامة الألباني قال: صحيح، رحمة الله على الجميع.
فمن ظهر له ضعف الحديث عن طريق النظر أو التقليد فقد كفي عناء متابعة هذا البحث، فصيام السبت عنده يكون جائزاً على كل وجه إلا إذا صادف يوماً يحرم صومه كيومي العيد و أيام التشريق، وسلفه في ذلك هم الأئمة الأعلام الذين ذكرناهم في المضعفين وقبلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رووا أحاديث الإباحة دون تقييدها، وأصحابه عليه السلام الذين ثبت عنهم صيام السبت ـ بلا إنكار عليهم من أحد ـ و ذلك إما لكونهم كانوا يصومون صيام داود عليه السلام أو يسردون الصوم.(1/3)
و أما من ظهر له عكس ذلك فسوف نناقشه في الشق الفقهي، و لكن مما يجدر ذكره قبل ذلك أن الذين قالوا بشذوذ الحديث أو نسخه قد أقروا ضمناً بصحة سنده، لكن لما رأوا متنه مخالفاً للجم الغفير من الأحاديث المبيحة لصيام السبت ولم يجدوا سبيلاً لحمل حديث النهي على معنىً تزول به مخالفته الظاهرة لأحاديث الإباحة، قالوا أنه شاذ غير محفوظ أو قالوا أنه منسوخ بتلك الأحاديث، يدل على ذلك قول ابن تيمية في الاقتضاء ج1/263:
( واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده، وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذاً غير محفوظ وإما منسوخاً وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود )
بعبارة أخرى، فإن حديث النهي صحيح الإسناد إلا أنه مخالف للأحاديث الكثيرة المبيحة لصيام السبت، فلو أمكن حمل حديث النهي على النهي عن إفراد السبت بالصيام لزالت هذه المخالفة و لَرُفِعَ التعارض بين الأحاديث، إلا أنهم قالوا أن لفظ حديث النهي لا يقبل حمله على هذا المعنى فيكون الحديث مخالفاً لبقية الأحاديث فيكون حينئذ شاذاً غير محفوظ .
و قولهم عن الحديث أنه شاذ لا يعنون بذلك أن في رواته ضعيفاً أو متهماً، بل رواة الشاذ ثقات، فالشاذ كما قال الشافعي رحمه الله ( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره. إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس ) انتهى نقلاً من مقدمة ابن الصلاح.
أما القائلون بالنسخ كأبي داود رحمه الله فقد قال الحافظ في التلخيص 2/216 ـ217:
((1/4)
وادعى أبو داود أن هذا منسوخ؛ ولا يتبين وجه النسخ فيه. قلتُ[ أي الحافظ]: يمكن أن يكون أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ثم في آخر أمره قال خالفوهم، فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى[ لأن السبت عيدهم و يوم العيد منهي عن صومه] وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية وهذه صورة النسخ والله أعلم )
ثانياًـ الشق الفقهي:
لقد اتفق العلماء الذين قالوا بصحة حديث عبد الله بن بسر في النهي عن صيام السبت على حمل هذا النهي على الكراهة، وقالوا أن سبب الكراهة الذي تزول الكراهة بزواله، هو تخصيصه بالصيام لأن اليهود يعظمونه، أو صيامه منفرداً، أو أن لا يوافق صومه عادة للصائم، أما العلامة الألباني رحمه الله فقد قال بحرمة صيام السبت في غير الفرض مطلقاً، ولم أجد من سبقه إلى هذا القول.
و سوف نتعرف أولاً على حجج القائلين بالكراهة ثم نعود لمناقشة ما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله.
حجج القائلين بالكراهة:
لقد حمل حديث عبد الله بن بسر في طياته نهياً صريحاً عن صيام السبت في غير الفرض و هو قوله عليه السلام (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) و أُكِّدَ هذا النهي وغُلِّظَ بتتمة الحديث ( وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة ، أو عود شجرة فليمضغه ) .
وهذا النهي يتناول كل صور صيام السبت إلا ما استثناه الحديث وهو صيامه في الفرض فيدخل في النهي قصده بالصوم بعينه وكذلك صومه منفرداً أو مقروناً بغيره وكذا موافقة صيامه لعادة وغير ذلك، فما الذي حمل الأئمة الذين قالوا بكراهة صومه منفرداً أو كراهة تخصيصه بالصيام على إخراج الصور الأخرى من الكراهة؟
وأيضاً فما الذي جعل أولئك الأئمة يعدلون عن القول بالحرمة إلى القول بالكراهة؟
أما السؤال الأول فقد ذكر ابن القيم رحمه الله حجة من أخرج بقية الصور من النهي فقال في تهذيب السنن ج7/51:
( ...(1/5)
الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخِرجت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مُخرَجٌ، أما الفرض فبالمُخِْرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمُخِْرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مُخِْرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها )
أي أن حديث النهي عام يشمل كل صور صيام السبت إلا صيامه في الفرض فهذه الصورة خرجت بالاستثناء الوارد في الحديث فهذا هو المُخِْرج المتصل، أما صورة صيامه مقترناً بغيره فخرجت من عموم النهي بالمُخِْرج المنفصل وهو أحاديث إباحة صيام السبت مقروناً بغيره أو صيامه إذا وافق عادة كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فتكون هذه الأحاديث قد خصصت عموم حديث النهي، و لا يبقى سوى صورة صيام السبت منفرداً لأنها داخلة في عموم حديث النهي و لا مُخِْرج لها منه. وكلامهم هذا هو من باب حمل العام على الخاص وهو من طرق الجمع بين الأدلة، و الجمع مقدم على الترجيح .
ولهم مسلك آخر في الجمع بين هذه الأحاديث نقله ابن القيم أيضاً قبل الكلام السابق، و ذلك بحمل حديث النهي على معنىً معينٍ، فقال:
( ... فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت ـ كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت ـ فإنه يصومه وحده، وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره، ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك )(1/6)
و أما السؤال الثاني فإن الذي حملهم على القول بالكراهة دون الحرمة هو الكثرة المتكاثرة من الأحاديث المبيحة لصيام السبت إما بالنص عليه أو بدخوله تحت عموم الحث على الصيام مطلقاً أوالحث على صيام أيام قد يكون السبت واحداً منها. فورود هذه الأحاديث الدالة على الإباحة أضعفت دلالة حديث النهي على التحريم ونقلتها إلى الكراهة، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج27/201:
( المقرر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاضٍ بتحريمه أو كراهته على حسب مقتضى الأدلة )
فمن تلك الأحاديث:
• حديث (من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) متفق عليه، والسبت داخل في عمومه.
• حديث (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ) متفق عليه، والسبت داخل في عمومه.
• حديث ( الصيام جُنَّة ) متفق عليه. والسبت داخل في عمومه.
• حديث ( عليك بالصوم فإنه لا مثل له ). رواه النسائي وصححه الألباني. والسبت داخل في عمومه.
• حديث ( كان يصوم شعبان كله ) متفق عليه، و زاد مسلم ( كان يصوم شعبان إلا قليلاًً ) والسبت داخل فيه.
• حديث معاذة العدوية أنها سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم. والسبت داخل فيه.
• حديث ( ... صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه مسلم. و يمكن أن يصادفا يوم سبت.
• حديث ( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر ) رواه مسلم. ويمكن أن يكون السبت واحداً منها.
• حديث ( فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام ) متفق عليه. والسبت داخل فيه قطعاً.(1/7)
• حديث أبي هريرة ( لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده ) متفق عليه، فالذي بعده هو السبت.
• حديث جويرية ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري ) رواه البخاري، وهو كسابقه.
• حديث أم سلمة (...إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد كان يقول إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم ) رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما و الحاكم في المستدرك. وحسنه الألباني.
• حديث عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت و الأحد و الإثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس ) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
إلى غير ذلك من الأحاديث المشتهرة التي رواها الكثير من الصحابة حتى قال ابن تيمية في الاقتضاء (واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت) فأقل ما يقال في هذا المقام هو أن إباحة صيام السبت قد تواترت تواتراً معنوياً، فيحمل النهي في الحديث على الكراهة.
ويمكن أن يقال أيضاً ـ والله أعلم ـ أنه مما يدل على أن المراد بالنهي هو الكراهة لا الحرمة فتوى عبد الله بن بسر رضي الله عنه ـ وهو راوي حديث النهي ـ لمن سأله عن صيام السبت فقال: صيام السبت لا لك و لا عليك، فقوله رضي الله عنه لا عليك دليل قاطع على رفع الإثم عن صائم يوم السبت، فحينئذ يحمل النهي على الكراهة إذ لا إثم على من أتى بالمكروه، أما معنى قوله " لا لك و لا عليك" فقد قال المناوي في فيض القدير 4/230 (صيام يوم السبت لا لك ولا عليك أي لا لك فيه مزيد ثواب ولا عليك فيه ملام ولا عتاب...)(1/8)
تنبيه: اعلم رحمني الله و إياك أن قوله رضي الله عنه حجة إذ لم يعلم له مخالف من الصحابة فضلاً عن كونه راوي حديث النهي عند من يصححه، فهذه الفتوى تبين فهمه للحديث على فرض صحته، وهو فهم السلف الوحيد الذي وصل إلينا لهذا الحديث فوجب الأخذ به.
موقف السلف من صيام السبت
قد علمنا أن عبد الله بن بسر رضي الله عنه وهو راوي حديث النهي ـ إن صح ـ لا يقول بحرمة صيام السبت ، وممن لا يقول بحرمته أيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالت لمعاذة لما سألتها عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم". فمعاذة لا تسأل لمجرد السؤال بل هي تسأل للتأسي بالنبي عليه السلام، و ما كان ليغيب عن عائشة الفقيهة أن تنبهها لحرمة صيام السبت لو كان كذلك عندها، ومن جهة أخرى فمعلوم أن أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تسرد الصوم و تتأول النهي عنه بأنه لمن صام أيام العيد، وهذا يعني بالضرورة أنها كانت تصوم السبت.(1/9)
وممن لا يقول بحرمته أيضاً أم المؤمنين أم سلمة فإنها أجابت ابن عباس ومن معه من الصحابة ـ والغرض من سؤالهم التأسي ولا ريب ـ أن أكثر صومه عليه السلام كان السبت والأحد، و لم ينكر ابن عباس ومن معه من الصحابة عليها ذلك بعد أن تثبتوا من صدق من نقل عنها هذا الوصف لصومه عليه السلام، فهذا يعني أن ابن عباس ومن معه من الصحابة لم يكونوا يقولون بحرمة صوم السبت أيضاً، وممن لا يقول بحرمته أيضاً أم المؤمنين جويرية إذ روت حيث النهي عن صوم الجمعة إلا مع يومٍ قبله أو بعده ولو كانت ترى حرمة صوم السبت لنبهت على ذلك، و أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قد روى حديث جويرية السابق و أيضاً فمعلوم أنه رضي الله عنه كان يصوم يوماً و يفطر يوماً ثم لما كبر صار يصل الصيام عشرة أيام ثم يفطر عشراً ليتقوى على الصوم، وفي الحالين لا بد من أن يصوم السبت، و ممن لا يقول بحرمته أبو هريرة رضي الله عنه إذ روى حديث النهي عن صيام الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده.
ومن تتبع سير الصحابة والتابعين في القرون المفضلة سيجد الكثير منهم رضي الله عنهم كان يصوم صوم داود عليه السلام أو يسرد الصوم مما يعني أنهم لم يكونوا يرون في صوم السبت بأساً، ولولا خشية الإطالة لنقلنا شيئاً من ذلك، فمن أراد المزيد فدونه سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي أو كتاب علو الهمة للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم أو كتاب علو الهمة أيضاً للشيخ سيد العفاني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن من تقدم ذكرهم من الأئمة المصححين أو المحسنين للحديث لم يرد عن أحدهم القول بالحرمة إلا الشيخ الألباني، رحمة الله على الجميع، كما لم يرد عن أي منهم القول بالكراهة مطلقاً، كما أن كتب الفقه التي تعنى بذكر المسائل الخلافية ذكرت في المسألة قولين أحدهما إباحة صيام السبت و الآخر كراهة صيامه منفرداً.
وفيما يلي نذكر ما ورد عن بعض هؤلاء الأئمة:
1 ـ الترمذي: قال في السنن ج3/120(1/10)
باب ما جاء في صوم يوم السبت 744 حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا سفيان بن حبيب عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه قال أبو عيسى هذا حديث حسن ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم يوم السبت.
2 ـ ابن خزيمة: قال في صحيحه ج3/316
باب النهي عن صوم يوم السبت تطوعا إذا أفرد بالصوم بذكر خبر مفسر بلفظ عام مراده خاص وأحسب أن النهي عن صيامه إذ اليهود تعظمه وقد اتخذته عيدا بدل الجمعة.
3 ـ ابن حبان: قال في صحيحه ج8 /379
(فصل في صوم يوم السبت ذكر الزجر عن صوم يوم السبت مفردا)
وقال ج8/381
( ذكر العلة التي من أجلها نهى عن صيام يوم السبت مع البيان بأنه إذا قرن بيوم آخر جاز صومه)
4 ـ الحاكم: قال في المستدرك ج1/601
( هذا حديث صحيح [ يعني حديث ابن بسر] على شرط البخاري ولم يخرجاه وله معارض بإسناد صحيح وقد أخرجاه ... ) فذكر حديث جويرية رضي الله عنها وبعده قول ابن وهب ( سمعت الليث يحدث عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام يوم السبت قال هذا حديث حمصي ) قال الحاكم ( وله[ أي حديث النهي ] معارض بإسناد صحيح ... ) فذكر حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم )
5 ـ ابن قدامة: قال في المغني ج 3/52
(والمكروه إفراده، فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية، وإن وافق صوما لإنسان لم يكره )
6 ـ النووي: قال في المجموع ج6/452
( والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له لحديث الصماء )
7 ـ الذهبي: قال في تنقيح التحقيق 1/396
((1/11)
يحمل الحديث على أنه كان يصوم معه يوماً) نقلاً عن بحث الشيخ زياد.
8 ـ ابن الملقن: قال الشوكاني في النيل 4/340 ( وقد جمع صاحب البدر المنير بين هذه الأحاديث فقال النهي متوجه إلى الإفراد )
مع العلامة الألباني رحمه الله في القول بالحرمة
اعلم أخي الكريم أن الشيخ رحمه الله رغم تصحيحه القديم لحديث النهي إلا أنه لم يكن يقول بحرمة صيام السبت في النفل، قال رحمه الله في الإرواء ج4/ حديث 960 ( ولو صح [ يعني حديث أم سلمة ] لم يصلح أن يعتبر ناسخاً لحديث ابن بسر ولا أن يعارض به كما ادعى الحاكم ، لإمكان حمله على أنه صام مع السبت يوم الجمعة ، وبذلك لا يكون قد خص السبت بصيام ، لأن هذا هو المراد بحديث ابن بسر كما سبق عن الترمذي . ) يشير بذلك إلى قول الترمذي في السنن بعد أن حسن الحديث ( ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم يوم السبت )
إلا أنه رحمه الله قد عد لاحقاً الجمع بين حديث النهي و أحاديث الإباحة بالطريقة التي ذكرها ابن القيم في تهذيب السنن جيداً، قال: ( لولا أمران اثنان : الأول : مخالفته الصريحة للحديث على ما سبق نقله عن ابن القيم . والآخر : أن هناك مجالا آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أردنا أن نلتزم القواعد العلمية المنصوص عليها في كتب الأصول ومنها : أولاً : قولهم : إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح . ثانياً : إذا تعارض القول مع الفعل قدم القول على الفعل ) ا.هـ من تمام المنة 407
وبناء على ذلك وعلى أمور أخرى ذكرها متفرقة في الأشرطة قال الشيخ رحمه الله بحرمة صوم السبت في غير الفريضة مطلقاً، وسوف أعرض فيما يلي ما بدا لي أنها إشكالات على كلامه رحمه الله، فإن كانت صواباً فمن الله وحده وإن كانت الأخرى فأنا راجع عنها إن شاء الله.
الإشكال الأول(1/12)
بالنسبة للأمر الأول الذي ذكره الشيخ رحمه الله في تمام المنة فإن ابن القيم رحمه الله قد ذكر طريقتين للجمع بين حديث النهي و أحاديث الإباحة، الأولى عن المتقدمين من أصحاب أحمد كالأثرم، قال في تهذيب السنن ج7/49:
( يقال يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص، وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافاً لأن الاستثناء دليل التناول وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده كما قال في الجمعة ) فهذه الطريقة يمكن أن ينطبق عليها ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله من مخالفة صريحة لحديث النهي، لأن هذه الطريقة تقصر دلالة حديث النهي على النهي فقط عن صيام السبت وحده و أنه لا يتناول بقية صور صوم السبت ، ولهذا لم يقبلها الأثرم ومن وافقه، وهذا ما حمل ابن القيم على القول بعد ذلك مباشرة ( فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية عُلِمَ تناول النهي لما قابلها[ أي كل صورصوم السبت في النفل ] وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها كقوله في يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ[ أي لمخالفته لتلك الأحاديث ] )
أما الطريقة الثانية وهي طريقة المتأخرين من أصحاب أحمد ففيها أكثر من مسلك فمن هذه المسالك قولهم الذي نقله ابن القيم في التهذيب ج7/51:
((1/13)
قالوا وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخرِجَت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مُخْرَج، أما الفرض فبالمُخِْرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمُخِْرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مُخِْرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها ) ا.هـ
وليس في هذا المسلك مخالفة لحديث النهي لأنه من باب حمل العام على الخاص كما تقدم.
ومن هذه المسالك أيضاً حمل النهي في الحديث على قصد صوم السبت بعينه، قال ابن القيم في التهذيب ناقلاً هذا المسلك
( لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض ) ا.هـ، وهو ما عبر عنه الترمذي بقوله( ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام ) وقد أقره الشيخ رحمه الله على هذا المعنى في الإرواء كما تقدم، ولفظ الحديث يحتمله، فليس في هذا المسلك أيضاً مخالفة لحديث النهي، فهو من باب حمل الحديث على معنىً يقبله النص و يزول به ما يظهر من تعارض بين الأدلة.
وكلا المسلكين، أعني حمل العام على الخاص، و حمل الحديث على معنىً معينٍ لا يأباه لفظه، من طرق الجمع بين الأدلة وهو مقدم على الترجيح، والله أعلم.
الإشكال الثاني
وهو قول الشيخ رحمه الله أن هناك مجالاً آخر للتوفيق والجمع بين الأحاديث وذلك باستخدام قاعدتين من قواعد أصول الفقه، أولاهما الحاظر مقدم على المبيح، والثانية القول مقدم على الفعل.
وسبب الإشكال هو أن هاتين قاعدتين من قواعد الترجيح وليستا من قواعد الجمع، فكيف يكون إعمالهما " مجالاً آخر للتوفيق والجمع "؟
إذا تقرر ذلك فمعلوم أن الترجيح لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، قال الشوكاني في إرشاد الفحول276:
" ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه و لم يجز المصير إلى التراجيح"(1/14)
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم 3/155:
" ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها"
وقد سبق قول الشيخ رحمه الله أن طريقة الجمع التي ذكرها ابن القيم في التهذيب جيدة ولكن يعكر عليها أمران أولهما: المخالفة الصريحة لحديث النهي، و الثاني: ورود القاعدتين المذكورتين. وقد مرت معنا قبل قليل طريقتان في الجمع تخلوان من المحذور في الأمر الأول الذي ذكره الشيخ، وهما: الطريقة التي حمل بها العام على الخاص، والطريقة التي حمل فيها النهي على قصد صوم السبت بعينه، فإذا كانت هاتان الطريقتان خاليتين من هذا المحذور كما ذكرنا فلا يبقى مجال للأمر الثاني الذي ذكره الشيخ، أعني به إعمال القاعدتين الأصوليتين: تقديم الحاظر على المبيح وتقديم القول على الفعل.
بعبارة أخرى فأنت أيها القارئ الكريم إذا كنت مقتنعاً بأن هاتين القاعدتين هما من قواعد الترجيح لا الجمع كما هو مبين في محله من كتب أصول الفقه، وكنت مقتنعاً كذلك بأن الجمع مقدم على الترجيح وهو كذلك بلا ريب، فيجب عليك عندما تمعن النظر في طريقتي الجمع اللتين ذكرناهما آنفاً أو غيرهما أن تخلي ذهنك عن هاتين القاعدتين وعن كل قواعد الترجيح، فلا يكون المانع لك من تقبل طريقة الجمع هذه أو تلك هو أن تقول: الجمع بهذه الطريقة غير صحيح لأنه مُعارَضٌ بقاعدة الحاظر مقدم على المبيح أو قاعدة القول مقدم على الفعل، والسبب هو أنهما من قواعد الترجيح فلا يصح أن تُعارَضَ طريقة من طرق الجمع بأي قاعدة من قواعد الترجيح، لأننا بذلك نكون قد قدمنا ما حقه أن يؤخر و أخرنا ما حقه أن يقدم.
نعم لو أننا حاولنا الجمع بكل طرق الجمع الممكنة فتعذر ذلك لكون الجمع غير ممكن بواحدة من هذه الطرق، لا لوجود قاعدة من قواعد الترجيح تعارضها، فحينئذ ـ لا قبل ذلك ـ يمكن الانتقال للترجيح و ذلك بإعمال قواعد الترجيح المناسبة.(1/15)
الإشكال الثالث
الحاظر مقدم على المبيح
هذه القاعدة هي أقوى حجة للشيخ رحمه الله في قوله بحرمة صوم السبت في النفل مطلقاً، و رغم أنني أرى أن ما ذكر في الإشكالين السابقين يغني عن الكلام حول هذه القاعدة إلا أنني فضلت الكلام كي يزول الشك عند من لم يرض بما قيل آنفاً، ويمكن طرح الإشكال حولها كما يلي:
1. هذه القاعدة من قواعد الترجيح وليست من قواعد الجمع والتوفيق، و القول بالترجيح يعني إعمال الدليل الذي رجحناه و ترك العمل بالدليل المرجوح، لذلك لا يصار إلى الترجيح إلا بعد تعذر الجمع، لأنه كما قيل الإعمال مقدم على الإهمال، لأن في الجمع عملاً بالدليلين الشرعيين الصحيحين بينما الترجيح يؤدي لإهمال العمل بأحدهما.
قال الشوكاني في الإرشاد 276: " قال في المحصول: العمل بكل منهما من وجه، أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر، انتهى. وبه قال الفقهاء جميعاً" وتقدم قول الشوكاني أنه لا يجوز المصير إلى الترجيح إن أمكن الجمع.(1/16)
2. لو سلمنا بتعذر الجمع وأن المصير للترجيح، فإن للترجيح شروطاً، من بينها التساوي في القوة كما ذكر الشوكاني في الإرشاد، فهل حديث النهي مساوٍ في القوة لأحاديث الإباحة؟ إن أقصى ما يقال في حديث النهي أنه على شرط البخاري كما قال الحاكم، بينما أحاديث الإباحة منها ما هو متفق عليه ومنها ما انفرد به البخاري أومسلم وقد قال النووي في التقريب: " الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري و مسلم، ثم ما انفرد به البخاري،ثم مسلم، ثم على شرطهما، ثم على شرط البخاري، ثم مسلم، ثم صحيح عند غيرهما" قال السيوطي في التدريب: " فائدة التقسيم المذكور تظهر عند التعارض والترجيح " وقد ذكر أبو زهرة رحمه الله في "أصول الفقه" أن علماء الحديث مجمعون على ما ذكره النووي آنفاً، ثم قال: وقال جمهور الفقهاء: أنه يقدم بعد ذلك ما كثر رواته ...إلخ. إذاً إن كان لا سبيل إلى الجمع فالمقدم هو أحاديث الإباحة لما سبق، بقطع النظر عن الحاظر والمبيح، والقول والفعل وغيرها من قواعد الترجيح من قبل المتن، و لا أظن هذا الأمر مشكلاً فهو من باب تقديم الأصح على الصحيح.
أما إذا تساوى الدليلان المتعارضان في القوة ـ وهذا منتف هنا ـ فحينئذ ينظر في الترجيح من جهة المتن .
3. تقديم أحاديث الإباحة على حديث النهي بناءً على ما سبق يعني إهمال العمل به فلايكره صيام السبت على أي حال، لا أنه يكون مكروهاً إذا أفرد، ناهيك عن القول بحرمته في النفل مطلقاً، فالنتيجة الصحيحة للقول بتعذر الجمع هي جواز صيام السبت على كل حال.(1/17)
4. إذا تجاوزنا ما سبق، فقواعد الترجيح اجتهادية استنبطها العلماء من الكتاب والسنة والغرض منها هو مساعدة المجتهد في ترتيب الأدلة من حيث قوتها سنداً و دلالة للوصول إلى مراد الشارع من الأدلة التي ظاهرها التعارض، لذا تجدهم يختلفون حول بعض القواعد، فمثلاً قاعدة الحاظر مقدم على المبيح خلافية، فالجمهور يقولون بها احتياطاً، ولكن من العلماء من يقول المبيح مقدم على الحاظر.
قال الشيخ في الصحيحة 2398: فإما أن يقال بتقديم الإباحة على النهي، و إما بتقديم النهي على الإباحة، وهذا هو الأرجح عندي.
5. إن الأئمة الذين صححوا حديث النهي لم يكونوا يجهلون هذه القاعدة لكنهم لم يُعمِلوها لأنها كما سبق من قواعد الترجيح فلا يمكن بحال أن تعارِض طريقة من طرق التوفيق، وصنيعهم هذا بتقديم الجمع على هذه القاعدة وغيرها من قواعد الترجيح هو الصواب بإذن الله، لا ما فعله الشيخ رحمه الله من معارضة الجمع بهذه القاعدة وتقديمها عليه. وسوف أستأنس بمثال من كلام الشيخ رحمه الله في الجمع بين الأدلة ليتضح المراد للقارئ الكريم، الذي ربما يستغرب أن يكون هذا المثال متعلقاً بمسألة صيام يوم السبت بعينها ففي الشريط رقم( 542) من سلسلة الهدى والنورطرح الشيخ علي حسن إشكالاً مفاده أن الشيخ الألباني صحح حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل صام السبت فقال له أصمت أمس؟ قال: لا فقال له: صيام السبت لا لك و لا عليك. فما هو التوجيه لهذا الحديث الذي يفهم منه إقرار النبي عليه الصلاة والسلام له بالجمع دون الإفراد؟ قال الشيخ علي: القصد شيخنا أن هذه الجملة صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام عقب جواب الصائم أنه ما صام بالأمس أو أمس، فبالتالي قال له لا لك و لا عليك، أما لو أنه قال أنه صام بالأمس ف.. الشيخ: ... لكن هل يوجد هذا اللفظ؟ فأجاب الشيخ علي أنه غير متأكد. الشيخ: حينئذ يؤجل البحث حين تجد ذلك... وحينئذ لكل حادث حديث.(1/18)
وفي الدقيقة 40:15 وما بعدها قرأ الشيخ علي نص الحديث على الشيخ وهو: ( عن الصماء أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت وهو يتغدى فقال: تعالي تغدي فقالت: إني صائمة فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا قال: كلي فإن صيام يوم السبت لا لك و لا عليك ) فحكم الشيخ على هذا الحديث بأنه منكر لضعف سنده أولاً ثم لمخالفته للثقات الذين رووا عن الصماء بدون هذا التفصيل، ثم قال ـ وهنا الشاهد ـ: ولو صح هذا التفصيل قضي الأمر الذي فيه تستفتيان .
إذاً فالشيخ رحمه الله لو صح عنده هذا التفصيل كان سيغير رأيه ولن يبقى على القول بحرمة صوم السبت في النفل مطلقاً ـ هذا ما يفهم من كلامه ـ، فربما غير رأيه إلى القول بجواز صيام السبت في التطوع إذا صيم الجمعة قبله ويكون بذلك قد أخذ بحرفية التفصيل المذكور، أو سيغيره إلى القول بجواز صيام السبت ما لم يفرد بالصيام ليوافق بذلك من سبقه من الأئمة، هذا مع أن هذا الحديث المفصل مبيح كباقي الأحاديث المبيحة التي قدم عليها الشيخ حديث النهي بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح، فهل خالف الشيخ بذلك قواعد أصول الفقه؟ لا، بل هو في هذا قد جمع بين الحديثين مثله في ذلك مثل الأئمة من قبل الذين جمعوا ليس فقط بين هذا الحديث الواحد بل بين الأحاديث المتكاثرة جداً التي يفهم منها إباحة صيام يوم السبت وبين حديث النهي.
الإشكال الرابع
القول مقدم على الفعل
هذه هي القاعدة الثانية التي اعتمد عليها الشيخ رحمه الله في تقديم حديث النهي على بقية الأحاديث، وقد كفانا الشيخ رحمه الله الرد عليها حيث قال في تمام المنة ( ومن تأمل في تلك الأحاديث المخالفة لهذا [ أي حديث النهي ] وجدها على نوعين:الأول: من فعله صلى الله عليه وسلم وصيامه.الآخر: من قوله صلى الله عليه وسلم كحديث ابن عمرو المتقدم [ و هو نفس حديث جويرية].(1/19)
ومن الظاهر البين أن كلاً منهما مبيح، وحينئذ؛ فالجمع بينهما وبين الحديث يقتضي تقديم الحديث على هذا النوع لأنه حاظر، وهي مبيحة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجويرية «أتريدين أن تصومي غداً»، وما في معناه مبيح أيضا، فيقدم الحديث عليه.
هذا ما بدا لي، فإن أصبت فمن الله، وله الحمد على فضله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفره من ذنبي. )
إذاً فمرجع الأمر لقاعدة الحاظر مقدم على المبيح وقد تقدم الكلام عليها.
الإشكال الخامس
صيام يوم الإثنين والخميس إذا وافق يوم عيد
وهذا تابع لقاعدة الحاظر و المبيح، وملخصه أن الشيخ رحمه الله قد ألزم القائلين بكراهة إفراد السبت بالصيام، بتقديم الحاظر في هذه المسألة على المبيح والقول بالتالي بحرمة صيام السبت في غير الفريضة بناء على كونهم يقولون بحرمة صوم يوم العيد إذا صادف يوم إثنين أو خميس وهما يومان يستحب صومهما، وما ذلك إلا تطبيقاً منهم لقاعدة الحاظر مقدم على المبيح كما صرحوا بذلك، إذ إن يوم العيد منهي عن صيامه، فكما قدم النهي هنا على إباحة أو استحباب صيام الإثنين والخميس فكذلك يقدم نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم السبت على إباحته صيامه، والجواب عن ذلك هو أن النهي عن صيام يومي العيد يفارق النهي عن صيام السبت من وجوه، فمنها:
1. كل من يومي العيد لا يمر سوى مرة واحدة في العام وقد يصادف يوم إثنين أو خميس و قد لا يصادفه فاحتمال حدوث تعارض بين النهي عن صيام يومي العيد وإباحة صيام الإثنين أو الخميس احتمال ضعيف لا يزيد عن مرتين في العام و قد يكون معدوماً، بينما التعارض بين النهي و الإباحة في صيام السبت يتكرر كل أسبوع كما لا يخفى.(1/20)
قال الشيخ رحمه الله في الشريط 380 : صوم الإثنين والخميس أمر عام أي كلما تردد يوم الإثنين بتردد الأسبوع وكذلك الخميس، استحب للمسلم أن يصومهما فكأن هذا نص عام فإذا جاء النهي[أي عن صومهما يوم العيد] فذلك من باب الاستثناء للقليل من الكثير و هذا من جملة الطرق التي يوفق العلماء بها بين الأحاديث التي يظهر التعارض بينها أحياناً، إذاً الأصل الحض على صوم يوم الإثنين والخميس فإذا تعارض هذا الأصل مع نهي عارض ـ هنا يعرض يوم السبت وهناك يعرض يوم العيد ـ فقدمنا العارض على الأصل جمعاً بين النصوص، لهذا أنا أقول بأنه لا إشكال إطلاقاً في إعمال هذا الحديث[ حديث النهي عن صوم السبت] على عمومه.
الجواب: * استثناء القليل من الكثير ينطبق على العيد فهو قليل والإثنين أو الخميس كثير فالنهي عن صيامهما إذا وافقا يوم عيد نهي عارض كما ذكر الشيخ، أما النهي عن صوم يوم السبت فليس عارضاً لأنه يتكرر كل أسبوع فيتعارض النهي و الإباحة كل أسبوع، فلا ينطبق عليه استثناء القليل من الكثير.
* تقديم العارض على الأصل هو من باب الترجيح أيضاً و ليس من باب الجمع والتوفيق، فلا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو غير متعذر.
2. من أثر الفرق السابق أن المعارضة بين النهي والإباحة في السبت قوية، بينما المعارضة بينهما في مثال العيد لا تكاد تذكر، وهذا ما جعل العلماء يبحثون عن أدنى قدر ممكن لدرء هذا التعارض بالنسبة ليوم السبت لعظم أثر هذا التعارض، بينما أثره في مثال العيد لا يكاد يذكر.(1/21)
3. يمكن القول أن القول بحرمة صيام الإثنين أو الخميس إن صادفا يوم عيد ليس من قبيل تقديم الحاظر على المبيح وهي من قواعد الترجيح، بل من باب تخصيص العام، وهو من طرق الجمع المقدم على الترجيح، فأدلة إباحة صيام الإثنين و الخميس عامة تشمل كل إثنين وخميس، أما أدلة النهي عن صيام العيد فخصصت ذلك العام، فأخرجت صورة موافقة الإثنين أو الخميس ليوم العيد من الإباحة إلى التحريم، فاتفق قدراً أن كان المخصص حاظراً و العام مبيحاً، و أما في مسألة صوم السبت فالعام هو الحاظر والمخصص هو المبيح.
4. إن قيل لا بل تحريم صيام الإثنين أو الخميس إن صادفا يومي العيد هو من باب تقديم الحاظر على المبيح و استثناء القليل من الكثير، قلنا فإنا لا نعلم طريقاً للجمع غير ما ذكرنا في النقطة السابقة فإن كانت غير مقبولة فالانتقال لقواعد الترجيح لا إشكال فيه لتعذر الجمع، بينما الجمع في صيام السبت ممكن فلم نحتج لقواعد الترجيح.
5. الإجماع منعقد على حرمة صيام يومي العيد، بينما حرمة صيام السبت في النفل لم يقل بها أحد قبل الشيخ الألباني رحمه الله.
الإشكال السادس
فهم السلف
سئل الشيخ رحمه الله في الشريط (182) : دائماً ندندن حول عبارة "الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة" فعمن تنقلون من سلف الأمة قولهم بظاهر هذا الحديث؟(1/22)
الشيخ: جوابنا من ناحيتين فعندما نقول أننا سلفيون و لا نقول بقول إلا أن نسبق إليه، أظنك تعلم أن هذا نقوله في فهم النص عندما يكون له أكثر من معنىً واحد، و بخاصة أنا شخصياً أعجمي الأصل فأنا أتهم نفسي والعرق دساس، لذلك عندما يكون هناك نص يحتمل أكثر من وجه فأنا أجبن حين ذاك إلا أن يكون لي سلف أما إذا كان الأمر واضحاً مثل قوله تعالى { و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } فلا نحتاج إلى من سبقنا إلى القول بحيوا بأحسن منها لأن هذا نص صريح، وفي مثل هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله أن الحديث يثبت الحكم به وحده وليس بحاجة أن يدعم بعمل بعض أهل العلم، أي الحديث الذي يكون هكذا واضحاً، هذا الجواب رقم واحد،
الجواب:
1. رحم الله الشيخ فلو أن الحديث لم يكن يحتمل غير معنىً واحد وهو المعنى الذي يقول به من حرمة صومه في النفل مطلقاً، فكيف يقول الإمام أحمد لما سئل عن صوم السبت : " أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء... " ؟
وكيف يقول الترمذي:" كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام "؟
وكيف يقول ابن خزيمة:" باب النهي عن صوم يوم السبت تطوعا إذا أفرد بالصوم "؟
وكيف يقول ابن حبان:" ذكر الزجر عن صوم يوم السبت مفرداً " ؟
إن الذين يسألون أين فهم السلف من حديث النهي عن صوم السبت، إنما يسألون لأنهم وجدوا أكثر من فهم للحديث أولاً، ولأنه ليس بينها أنه يحرم صوم السبت في النفل مطلقاً ثانياً.
2. إن الشيخ رحمه الله قد أقر قديماً فهم الترمذي للحديث بأنه يعني كراهة أن يخص الرجل السبت بالصيام كما في الإرواء، ثم ذهب لاحقاً إلى أن معنى الحديث هو حرمة صوم السبت في غير الفريضة مطلقاً، وهذا يدل على أن للحديث أكثر من فهم لا أنه لا يحتمل سوى فهم واحد لا نحتاج معه إلى فهم السلف، ففهم السلف هو الضابط الذي نعرف به أي قولي الشيخ رحمه الله هو الصواب.(1/23)
3. الشيخ رحمه الله ـ من تواضعه ـ يتهم عربية لسانه ويقول أنه عند ورود نص يحتمل أكثر من معنىً لا يجرؤ على قول إلا أن يكون له فيه سلف، فإذا كان حديث النهي واضحاً و لا يحتمل أكثر من معنىً واحد كما يقول رحمه الله، ووجد الشيخ كل من سبقه من الأئمة يحمل النهي على كراهة الإفراد، فكيف أمكن أن يقول بقول ليس له فيه سلف؟ أليست هذه الحال أكثر افتقاراً عند الشيخ إلى فهم السلف من سابقتها؟
4. و بالنسبة لكلام الشافعي رحمه الله فليس المسؤول عنه هو من عمل بهذا الحديث من العلماء، لأن المخالف للشيخ يقول أن العلماء الذين صححوه قد عملوا به ولكن على فهم آخر غير الذي يقول به الشيخ، فالسؤال هو مََََََََََََنْ مِنَ العلماء قد فهم هذا الفهم أي حرمة صوم يوم السبت في غير الفريضة؟ يعني مخالفوا الشيخ لا يقولون أنه لا يجوز العمل بحديث النهي لأن أحداً من العلماء لم يعمل به، بل يقولون إن كل العلماء السابقين الذين صححوا الحديث قد فهموه على معنى كراهية إفراد السبت بالصوم وعملوا بهذا الفهم، فلا تصح مخالفتهم في فهمهم و عملهم.(1/24)
وقد دار حوار في الشريط رقم (585) بين الشيخ رحمه الله وبين أحد الأخوة الذي كان يقول بكراهة اسقبال القبلة بالبول أو الغائط بلا تفريق بين الصحراء و البنيان جاء فيه: " الأخ: زال النص [ أي حديث النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط ] بعمومه من التحريم إلى الكراهة لأن البنيان وصف ملغىً جمعاً بين النصين. الشيخ: ما الدليل؟ الأخ: ما في فرق بين الصحراء والبنيان لأن البنيان حاجز و الصحراء فيها حاجز، ما في فرق عن الكعبة وهي العلة المذكورة [ أي للتفريق ]. الشيخ:الآن، هذا الجواب ينقلنا لشيء، من الذي يقول بهذا التعليل الذي تقوله أنت من أهل العلم الذين نستعين بهم لتقويم آرائنا و أفكارنا؟ الأخ: بالنسبة للقول بالكراهة أم التعليل نفسه؟ الشيخ: لا لا التعليل" وحيث لم يستحضر الأخ من يقول بهذا التعليل فقد طلب منه الشيخ أن يستحضر وأنهى الجلسة.
فإذا كان الشيخ رحمه الله لم يقبل أن يأتي هو أو أحد غيره ـ لاحظ صيغة الجمع في كلامه ـ بتعليل لقول قال به بعض أهل العلم إذا كان هذا التعليل لم يقل به أحد من أهل العلم، فمن باب أولى ألا يقبل أن يأتي أحد بقول لم يقل به أحد من قبل، وهذا متسق تماماً مع ما كان ينادي به دائماً ألا وهو ضبط الأخذ من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فإذا وجدناه رحمه الله قد خالف مذهبه هذا في مسألتنا هذه أو غيرها علمنا أن هذا وقع بعلم الله وحكمته، فمن فوائد ذلك ألا يفتن أحد بالشيخ فيوقن الجميع أنه لا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، و أن هذا الخطأ ـ إن وقع ـ هو اختبار لنا جميعاً يتبين به من يحاكم كلام الشيخ وغيره إلى ذلك الأصل الأصيل ـ فهم السلف ـ ومن يستثني من ذاك الأصل استثناءات لا مبرر لها.(1/25)
قال الشيخ: الجواب رقم اثنين أن أحداً من هؤلاء المتعصبين الذين لم يطرأ عليهم الحديث إلا في هذه الآونة الأخيرة { لا تصوموا يوم السبت ...} فوجئوا بهذا الحديث ولسان حالهم وبعضهم قد يكون لسان قالهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فيبدؤون ويطرحون هذه الإشكالات: أنت تقول أننا لا نعمل بالحديث الذي لم نسبق من أحد إلى العمل به، كيف أنت تقول هكذا[ أي كيف تقول بحرمة صوم السبت في غير الفريضة]؟ جوابنا رقم اثنين هل أنتم تدعون الإجماع على صيام يوم السبت لأنه كان فيه يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو أي يوم فضيل عادة؟ ما يستطيعون يدعون الإجماع على ذلك، هذا يريحنا و يكفينا دفعاً لشبهتهم لأنهم لا يقولون بالإجماع فنحن أولى ألا نقول بالإجماع إذاً طلبهم ساقط،
الجواب: إن الذي يدعيه المخالفون للشيخ رحمه الله في هذه المسألة هو أن الأمة بسلفها وخلفها، بفقهائها ومحدثيها و عبادها و زهادها طيلة أربعة عشر قرناً لم تعرف القول بحرمة صيام السبت في غير الفريضة قبل أن يقول الشيخ بذلك، ومحال أن تجتمع الأمة على ضلال.
وهنا قد يقول قائل إن أقصى ما معكم هو عدم العلم بالقائل بالحرمة وهو ليس علماً بعدمه، و "ما يدريكم لعل الناس اختلفوا؟"، و أيضاً فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده والجواب:
1. القائلون بجواز صوم السبت على كل حال لهم سلفهم، والقائلون بكراهة إفراده لهم سلفهم، والقائلون بالحرمة لا سلف لهم، وإلا فالبينة على من ادعى.
2. إذا لم يأت القائلون بالحرمة بسلف لهم فإنهم يدخلون ضمن مجموع الأمة التي ذكرنا أنها لم تعرف هذا القول من قبل.(1/26)
3. أما قولهم لعل الناس اختلفوا فهذا إن كان مقبولاً من الإمام أحمد رحمه الله في زمانه فليس مقبولاً الآن بعد هذه القرون حيث دونت كتب الحديث والفقه واستقرت المذاهب، و هل يتصور إن كان القول بالحرمة هو الحق والصواب ألا يجد ـ لا أقول من ينصره ـ بل من يذكره طوال تلك القرون؟ و لو تنزلنا قليلاً و قلنا أنه ربما قال به أحد لم نعلمه، فهل تغير الأمر بالنسبة للأمة؟ أليس هذا القول قد خفي على مجموعها طوال تلك القرون؟ أليس هذا الخفاء يدل على أن ذلك القول ليس بالحق قطعاً.
4. الذي يتمسك بعبارة أحمد رحمه الله يجب أن يتذكر جيداً قوله " لا تقل في مسألة بقول ليس لك فيه سلف"
5. إن مسألتنا ليست من المسائل نادرة الحدوث بل تتكرر كل أسبوع و تتعلق بعبادة من أجل العبادات وقد ثبت عن الأكابر من الصحابة والتابعين والمحدثين والفقهاء والعباد إلى يومنا هذا صيام السبت إما لصيامهم الدهر و إما لصيامهم صيام داود عليه السلام، وما سمعنا أحداً أنكر عليهم صيام السبت، و إنا والله لا نعلم مسألة خفي فيها الحق هذا الخفاء وظهر فيها الباطل هذا الظهور، و هذه وحدها كافية في إثبات خطأ القول بحرمة صيام السبت في النفل.
6. إنه من الثابت أن عمل الكثير من السلف مخالف للقول بالحرمة و لم يثبت إنكار ذلك عن أحد فإطلاق عبارات مثل ما يدريك لعل الناس اختلفوا أو عدم العلم لا يعني العلم بالعدم في مثل هذه الحال سيفتح الباب على مصراعيه للمبتدعة و أهل الأهواء، فلو أنكرت عليهم مثلاً احتجاجهم بقوله سبحانه و تعالى { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } على جواز الحضرة معللاً ذلك بأن أحداً من القرون المفضلة لم يفهم الآية على مرادهم و لا عمل به، لقال لك عدم علمك بمن فهم الآية كذلك أو عمل بها على هذا الفهم لا يعني عدمه وما يدريك لعل الناس اختلفوا ؟!! وفي هذا من الشر ما فيه.(1/27)
7. أما كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره، فالذين يقولون بكراهة صيام السبت منفرداً قد أثبتوا الحديث وليس هذا محل النزاع و إنما فهم الحديث، فالاستشهاد بكلام الشافعي رحمه الله هنا ليس في محله، لأنه يتكلم عن دعم الحديث بعمل أهل العلم، والمخالفون للشيخ رحمه الله يتكلمون عن دعم أهل العلم لفهمه للحديث أنه للحرمة.
قال الشيخ: الجواب رقم ثلاثة وهو الأخير نعم ذهب قوم إلى عدم شرعية صيام السبت مفرداً[ هذه الكلمة: مفرداً، سبق لسان والله أعلم] مطلقاً، وهذا مذكور يقيناً في كتاب شرح معاني الآثار للطحاوي ولعله في الاقتضاء لابن تيمية، المهم المسألة خلافية والإمام الطحاوي ينقل هذا عن قوم من أهل العلم فإذاً لسنا منفردين بهذا
الجواب :أما الطحاوي رحمه الله فقد قال في شرح معاني الآثار (قال أبو جعفر فذهب قوم إلى هذا الحديث فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأساً)
وما ذكره معلوم ولكن ليس فيه أنهم قالوا بالتحريم أو عدم الشرعية بل أنهم قالوا بالكراهة فقط، وهو رحمه الله يذكر المذهبين المشهورين في هذه المسألة، الأول: كراهة صومه وتزول هذه الكراهة إما باقترانه بغيره أو موافقته لعادة أو عدم تخصيصه بالصوم، و الثاني: عدم الكراهة، فيظهر من ذلك أن استشهاد الشيخ بكلام الطحاوي لا يؤيد مذهبه، فكون المسألة خلافية هذا صحيح، ولكن الخلاف إنما هو بين القول بالكراهة و الإباحة وليس هناك ذكر للحرمة، أما الاقتضاء فليس فيه ذكر لهذا القول فيبقى الشيخ رحمه الله منفرداً بهذا القول حتى يظهر عكس ذلك.
الإشكال السابع
قول ابن بسر رضي الله عنه لا لك و لا عليك(1/28)
قال الشيخ رحمه الله في الشريط(182): هناك حديث موقوف على عبد الله بن بسر راوي حديث لا تصوموا يوم السبت وهو آخر صحابي مات في الشام، يقول صيام يوم السبت لا لك و لا عليك. ونحن معشر السلفيين نفهم من لا لك أي لا يشرع لك، لأن هذا مثل قوله عليه السلام من صام الدهر فلا صام و لا أفطر. فهل يجوز أن يصوم الدهر ما دام هو لا صام ولا أفطر؟ لا صام: شرعاً، و لا أفطر: واقعاً. إذاً فيم يتعب الإنسان نفسه؟ إذاً لا يشرع بشهادة راوي الحديث صيام يوم السبت. أحدهم يسأل: وقوله و لاعليك؟ الشيخ: هذا معناه أنك إذا صمته فليس عليك وزر تؤاخذ عليه، لكن كيف يمكن فهم هذا النص مع فهم الشطر الأول من الحديث؟ هذا لا يمكن فهمه إلا على أساس أن من فهم أن صيام يوم السبت ليس يشرع له فهو سوف يكون عليه لأنه يكون على معنى من صام الدهر فلا صام ولا أفطر، لكن كثير من الناس يصومون على أساس طمعاً في الأجر لكن لا يتوهمون أنه منهي عنه و لذلك قال لا لك و لا عليك أما من يفهم معنى لا لك بالمعنى الذي شرحناه فهو سيفهم أن لا عليك ليس بالنسبة لهذا الذي فهم الحكم الشرعي خاصة إذا جاءه الحديث لا تصوموا يوم السبت.
1. الشيخ يقر أن معنى لا عليك أي ليس عليك وزر تؤاخذ عليه.
2. يفهم من كلام الشيخ أن ابن بسر رضي الله عنه قال " لا لك و لا عليك " للذي لا يعلم أن صوم السبت منهي عنه وهو يطمع في أجر الصيام ، أما الذي يعلم النهي فليس مخاطباً بالشطر الثاني " لا عليك " بل بالأول فقط " لا لك " ومعناها عند الشيخ هو لا يشرع لك. و كلام الشيخ رحمه الله يحمل في طياته أكبر دلالة على أن ابن بسر رضي الله عنه راوي حديث النهي ـ إن صح ـ لم يكن يقول بحرمة صيام السبت، وبيان ذلك أن السائل في الحديث قد جاء مستفتياً ابن بسر عن صيام السبت ـ علم بحديث النهي أو لم يعلم ـ فهل يسع ابن بسر رضي الله عنه إن كان يعتقد حرمة صيامه أن يكتم هذا العلم؟ اللهم لا!(1/29)
ومقارنة بسيطة ستؤكد هذا المعنى إن شاء الله، فها هو الشيخ الألباني رحمه الله يُسأل مراراً و تكراراً عن صيام السبت فما سمعناه يوماً راعى حال المستفتي ـ أعني كونه يعلم بحديث النهي من عدمه ـ بل يبادر ببيان الحكم الذي يدين الله عز وجل به، و هذا ظننا بالشيخ، وظننا بأصحاب النبي عليه السلام أفضل فما كان لأحدهم أن يكتم علماً علمه الله إياه.
ونحن ما سمعنا الشيخ قال يوماً لسائله: صيام السبت لا لك و لا عليك، و لا أظن أن أحداً من الذين يقولون بقوله يستطيع أن يجيب سائلاً عن صيام السبت بقوله " لا لك و لا عليك " .
إذاً لو كان السائل لا يعلم بالنهي عن صوم السبت لم يحل لابن بسر رضي الله عنه أن يكتم عنه حرمة صومه إن كان كذلك عنده فلايتصور والحال كذلك أن يقول له لا عليك، أما إن كان السائل يعلم بالنهي ويعتقد أنه للحرمة فما معنى أن يقول له لا عليك سوى أن يفهمه أن هذا النهي ليس للتحريم؟(1/30)
و في الشريط رقم 166 قال رداً على من سأل عن معنى "لا عليك" : قبل كل شيء افهم الأولى، لا لك ماذا تعني؟ قال محاوره : أفهم أن المعنى لا أجر لك. قال الشيخ: فشيء لا أجر لك فيه [ كلام غير واضح ] فإذا فعلته في هذه الحالة فما يكون حكمك؟ المحاور: إذا أجبت فأنا أجيب بالعبارة التالية "لا عليك" . الشيخ: لا ما تستطيع، لأنك بذا لا تكون قد مشيت مع العلم، بعبارة أخرى ما حكم من يتعبد بما ليس بعبادة؟ المحاور: ابتداع في دين الله. الشيخ: فما حكم الابتداع في دين الله؟! المحاور: حرام. الشيخ: إذاً فتأخذ من الحديث الموقوف ما يناسب المرفوع [ يعني رحمه الله حديث لا تصوموا يوم السبت ...] و لاتأخذ منه ما يباينه و يخالفه، إذاً قوله لا لك أي لا يشرع لك، فإذا عرفت ذلك استغنيت عن الاعتماد على تمام الحديث. ثم استشهد رحمه الله بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: من صام الدهر فلا صام و لا أفطر، فقال: هذا ما فيه نهي لكن فيه إخبار أنه ضيع وقته وعطشه وجوعه سدىً، و أخيراً يأتي ابتداع في الدين، لذا جاء في الحديث الآخر من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، فهذا الحديث الموقوف ينفعنا نحن في الشطر الآخر، صيام يوم السبت لا لك، ما يضرنا آخره، لا عليك ، لأننا نأخذ من الكلام الموقوف ما يوافق الكلام المرفوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام
1. إن قوله رحمه الله أن صيام السبت تعبد بما ليس بعبادة غير مسلم، لأن هذا هو رأس المسألة فالاحتجاج به يكون من باب إثبات الشيء بنفسه.
2. يفهم من كلامه رحمه الله أن التعبد بما لا أجر للمرء فيه تعبد بما ليس بعبادة و هذا التعبد ابتداع في الدين فيكون محرماً ومن ثم لا يشرع، وهو ما ينطبق على صيام السبت في غير الفريضة لقول ابن بسر رضي الله عنه " لا لك ".(1/31)
ويجاب عن ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" وقد صححه الشيخ في صحيح الترغيب والترهيب، قال المناوي في فيض القدير (قال الغزالي قيل هو الذي يفطر على حرام أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام ورب قائم أي متهجد في الأسحار ليس له من قيامه إلا السهر كالصلاة في الدار المغصوبة وأداها بغير جماعة لغير عذر فإنها تسقط القضاء ولا يترتب عليها الثواب ذكره الطيبي ) فهاتان عبادتان قد فقد فاعلهما أجرهما و ثوابهما لا لكونهما لا تشرعان في أصلهما بل لخارج عنهما، فقول ابن بسر لا لك يمكن حمله على من خصه بالصيام مثلاً و لا يمكن حمله على معنى لا يشرع ـ أي يحرم ـ لأن ما يحرم لا يقال لفاعله " لا عليك" .
3. أما قوله رحمه الله أننا نستغني بالشطر الأول " لا لك " عن الثاني " لا عليك "، فكيف يكون ذلك؟ إننا إذا أردنا أن نفهم مراد أي شخص من عبارته فلا يكفي أن نأخذ منها جزءاً و ندع الآخر، و إلا فلن يكون من الممكن الوصول لمراده.
4. الشيخ رحمه الله يقر ضمناً أن عبارة " لا عليك " تخالف فهمه لحديث النهي المرفوع وذلك بقوله و لا تأخذ منه ـ أي الموقوف ـ ما يباينه و يخالفه ـ أي المرفوع ـ، ومخالفة هذه العبارة للقول بحرمة صوم السبت في غير الفريضة واضح بحمد الله فالفعل الذي لا يكون عليك لا يمكن بحال أن يكون محرماً.
5. أما قوله رحمه الله أننا نأخذ من الكلام الموقوف ما يوافق المرفوع ففيه:(1/32)
• إن عبد الله بن بسر هو راوي الحديث المرفوع ـ إن صح ـ فقوله الموقوف حجة لأنه لم يعلم له مخالف من الصحابة وهو فهم السلف في هذه المسألة الذي يجب أن يرجع إليه لعدم المخالف، إذا تبين ذلك فلا بد من أخذ كلامه كاملاً لأنه هو المبين للمرفوع و يوافقه، و لا يمكن أن نجعل فهمنا للحديث المرفوع الذي لم يقل به أحد من قبل هو القاضي على كلامه فنحكم على بعضه أنه موافق للمرفوع وعلى الباقي أنه مباين له! فإذا وجدنا بعض كلامه مبايناً لما فهمناه من المرفوع فهذا دليل واضح على خطأ فهمنا فيجب تصحيحه في ضوء كلامه رضي الله عنه لا العكس.
• لمخالف الشيخ رحمه الله أن يقول ونحن نأخذ من الموقوف ما يوافق الأحاديث المستفيضة في إباحة صيام يوم السبت وهو قوله " لا عليك " و لا يضرنا الشطر الأول، والصواب هو الأخذ بالعبارة كاملة كما سبق.
6. أما استشهاده رحمه الله بحديث صيام الدهر فيفهم منه أن قول "لا لك و لا عليك" يشبه قوله عليه السلام فلا صام و لا أفطر في إفادة التحريم، ويجاب عن ذلك أن أحداً لم يقل بحرمة صوم الدهر خلا ابن حزم رحمه الله قال الحافظ في الفتح (... وإلى كراهة صوم الدهر مطلقاً ذهب إسحاق وأهل الظاهر وهي رواية عن أحمد وشذ بن حزم فقال يحرم)(1/33)
وقد سئل الشيخ الألباني رحمه الله في الشريط(438) هل يعتد بتفرد ابن حزم؟ فقال: ( إن كان تفرد دون الأئمة فلا يعتد به، أما إن وافق مَنْ قبله فينظر حينئذ في المسألة من حيث الدليل ) فتفرد ابن حزم بالقول بحرمة صوم الدهر لا يعتد به، إذاً فأقصى ما يدل عليه قوله عليه السلام " لا صام و لا أفطر" هو الكراهة، وبالتالي فأقصى ما تدل عليه عبارة " لا لك و لا عليك" هو الكراهة أيضاً. ومن جهة أخرى فقد قال الحافظ (لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه ثَمَّ من أجاز صوم الدهر الا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحباً وحراماً وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعاً فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال ثَمَّ من علم تحريمها ولا يصلح الجواب بقوله لا صام ولا أفطر لمن لم يعلم تحريمها) و لا يخفى أن عبارة لا لك و لا عليك أوضح في الدلالة على هذا المعنى: ما أجر و لا أثم، و أنه لو كان يحرم صوم السبت فلا يقال لمن صامه لا لك و لا عليك، وأنه لا يصلح الجواب بقول ابن بسر " لا لك و لا عليك " لمن لم يعلم تحريم صيام السبت كما تقدم قريباً.
7. أما قول ابن بسر رضي الله عنه لا لك و لاعليك، فإن الشيء الذي إن فعلته يكون لا لك ولا عليك إنما هو المباح، وقد يشكل هذا لأن الصوم عبادة فإن جاز صيام السبت فلا بد أن يكون لصومه أجر فلا ينطبق عليه قوله لا لك، والجواب أنه ربما أراد أن ينبه السائل أنه لم يرد شيء يخص صيام السبت بفضيلة خاصة حتى يسأل عنه بعينه، فيكون صومه جائزاً، مثل باقي الأيام التي لم يرد في صومها بعينها شيء، و لا إشكال في هذا عند من لا يصح عنده حديث لا تصوموا السبت لأن عدم الصحة يعني أن ابن بسر رضي الله عنه لم يرو هذا الحديث عن النبي عليه السلام.(1/34)
أما من يرى صحة الحديث فيزول الإشكال إذا استحضرنا أن جواب ابن بسر هو فهمه لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقدم على غيره وفيه أنه ينفي الإثم عمن صام السبت، فهو فهم من حديث النهي أنه لا يحرم صوم السبت إلا أن ترك صومه أولى لذا زهَّد السائلَ في صومه فقال " لا لك " ثم بين له أنه لا يحرم صومه فقال " و لا عليك "، وهذا المعنى غير بعيد فقد قال ابن تيمية في معرض ذكره للأقوال في سرد الصوم ج10/393 " هو مكروه كما دلت عليه السنة وان كان جائزاً " و قد صوب هذا الرأي، وهذا الفهم لكلام ابن بسر أولى بكل تأكيد من أخذ بعض كلامه رضي الله عنه و ترك الآخر الذي يدل دلالة لا مفر منها على كونه لا يرى حرمة صيام السبت، والله أعلم.
الإشكال الثامن
صوم داود عليه السلام
لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صيام داود عليه السلام هو أفضل الصيام، وهو أن يصوم المرء يوماً ويفطر يوماً، وهذا يعني أن من يصوم هذا الصيام سيصوم السبت في أسبوع ويفطر السبت في الأسبوع التالي ثم يعود لصومه في الأسبوع الثالث وهلم جرا، وقد سمعت للشيخ الألباني رحمه الله أكثر من رأي حول كيفية صيام يوم و إفطار يوم مع القول بحرمة السبت إلا أنه استقر أخيراً على أن من صام الأربعاء يصوم الجمعة ثم الأحد، أما من صام الخميس فلا يصوم السبت ويصوم الأحد، فماذا ستكون النتيجة؟
إن من بدأ الصيام يوم الأربعاء سيصوم الجمعة ثم الأحد ثم الثلاثاء ثم الخميس ولن يصوم السبت بل سيصوم الأحد فالثلاثاء فالخميس فالأحد وهكذا، إذاً ستكون النتيجة أن يصوم الأحد والثلاثاء والخميس فقط من كل أسبوع، فهل ينطبق على هذا الصوم أنه صوم يوم و إفطار يوم؟
أما من بدأ الصوم يوم الخميس فسيصوم أيضاً الخميس والأحد والثلاثاء من كل أسبوع، وهذا ما لم يقل به أحد فيما أعلم.(1/35)
فالذي يقول بحرمة صيام السبت في النفل مطلقاً سيبطل عملياً صيام داود عليه السلام و هو صيام يوم و إفطار يوم لأنه سيؤول عنده إلى صيام الأحد والثلاثاء والخميس من كل أسبوع، وفي هذا ما فيه.
الإشكال التاسع
الاستدراك على النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشيخ رحمه الله في الشريط (204): خلاصة الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن صيام يوم السبت إلا في الفرض، فإذا قال قائل: لأ و إلا في عاشوراء و إلا في عرفة و إلا في أيام البيض، الله أكبر! أليس هذا استدراكاً على رسول الله؟ و زعماً ـ لا سمح الله ـ مش فصيح ومش عارف يحكي؟
الجواب:
1. أما الاستدراك فنبرأ إلى الله عز وجل منه، ونبرئ الأئمة الذين حملوا الحديث على كراهة صيام السبت منفرداً منه، كما نبرئ الأئمة الذين خالفوهم و أجازوا صيام السبت لضعف الحديث عندهم من عدم الإنكار على من استدرك على النبي عليه السلام.
2. إن صنيع هؤلاء الأئمة ليس استدراكاً على النبي صلى الله عليه وسلم و لا شبه استدراك كما ذكر الشيخ في موضع آخر بل هوحمل للحديث على معنىً يقبله لفظه كما فعل الترمذي أو جمعٌ بين النصوص التي وردت عنه عليه السلام في هذه المسألة، وقد مر بنا مثال من كلام الشيخ رحمه الله يوافق صنيع الأئمة في الجمع بين حديث النهي وحديث الصماء المفصل الذي ضعفه الشيخ رحمه الله و ذلك على فرض ثبوته.(1/36)
3. مثال آخر من كلامه رحمه الله و ذلك في النهي عن الصلاة بعد الفجر والعصرحيث قال في الشريط 53: " كيف التوفيق بين لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس[ يعني مع حديث تحية المسجد] ... فإن قلت لا أصلي تمسكاً بهذا الحديث جاءك حديث آخرإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين... فيصبح الأمر لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس و لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا، فيه[أي يوجد] استثناء، الاستثناءات كثيرة وكثيرة جداً" ثم ذكر رحمه الله أحاديث تدل على هذه الاستثناءات ثم قال:" لذلك العلماء المحققون جاؤوا بقاعدة تجمع بين الأحاديث الواردة في هذه القضية قالوا الصلاة المنهي عنها في الأوقات المكروهة هي النوافل المطلقة أما النوافل التي لها أسباب فلا تكره..."، فأي فرق بين قوله رحمه الله والقول الذي أنكره و عده استدراكاً؟ الشيخ أدخل من كلامه استثناء على أحاديث النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة استفاده من الأحاديث الأخرى، والعلماء الذين قالوا بتوجه النهي في حديث السبت لإفراده أدخلوا استثناءات استفادوها من أحاديث أخرى، وليس في صنيع الشيخ أو صنيع أولئك الأئمة رحمة الله على الجميع استدراك على النبي صلى الله عليه وسلم، حاشاهم.
الإشكال العاشر
لقد قال الشيخ رحمه الله في أحد أشرطته " هذا الحديث صحيح وكل من يضعفه فهو الضعيف المضعف، لأنه يضعف بدون علم "
و رغم أن الشيخ رحمه الله قد استخدم صيغة العموم إلا أننا نحسن الظن به ونقول أنه لم يعنِ بذلك الأئمة الكبار الذين ضعفوا الحديث، فإن كان الظن في محله إن شاء الله، فما المانع أن يوجد من المتأخرين من يرى الحق مع أولئك الأئمة؟
وهل كونه مخطئاً في رأيه يلزم منه أنه يضعف بلا علم؟
لقد كنت أتمنى ألا أتناول هذه النقطة ولا سابقتها في هذا البحث، ولكن ما سمعته أو قرأته من بعض الأخوة ممن يتابعون الشيخ رحمه الله في هذه المسألة قد حملني على الكلام.(1/37)
فهذا أحدهم يقول لي في حوار معه: الشيخ ناصر رحمه الله يقول كل من يضعف هذا الحديث فهو الضعيف المضعف!!
وهذا آخر يقول في بحث له ـ غفر الله له ـ: يتبين لمن له أدنى معرفة بعلم المصطلح أن الحديث صحيح غاية في الصحة ... و بذلك يتبين لصاحب الاعتراض الأول ضعف قول شيخ الإسلام بن تيمية و ابن حجر و قول الإمام مالك رحمه الله إنه كذب ، ... و كذلك تبين ضعف قول النسائي و الطحاوي.
فهل هؤلاء الأئمة الذين ذكرهم وغيرهم من المضعفين ليس لديهم أدنى معرفة بعلم المصطلح ؟ معاذ الله !
لوازم القول بحرمة صيام السبت في النفل:
1. تخطئة الأئمة الذين لم يقبلوا هذا الحديث. و نظرة متأنية ستبين لنا أن أغلبهم من علماء الحديث المتقدمين، والواحد من هؤلاء لو حكم على راو بحكم لم نستطع أن نخالفه إلا إذا وجدنا من الأئمة من خالفه، أما ان اتفقوا في الحكم على راو فليس لأحد أن يخالفهم، فما الفرق بين أن يتفقوا في الحكم على راو أو يتفقوا في الحكم على حديث؟
2. تخطئة الأئمة الذين صححوا الحديث.
فلم يقل أحد منهم بحرمة صيام السبت في النفل بل حملوا النهي على الكراهة.
3. مخالفة فهم راوي الحديث وهو فهم السلف الوحيد بين أيدينا، وكفى بهذا اللازم منفراً عن هذا القول.
4. الانفراد بقول لم يقل به أحد قبل ذلك.
5. مخالفة ما أجمعت عليه الأمة منذ عهد الصحابة وطوال أربعة عشر قرناً من عدم القول بحرمة صيام السبت في غير الفرض، و الأمة لا تجتمع على ضلالة.
6. تقديم الترجيح على التوفيق بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، وهو خطأ.
7. الترجيح بين أحاديث غير متساوية في القوة، وهذا خطأ لمخالفته شرطاً من شروط الترجيح.
8. ترجيح حديث ليس في البخاري أومسلم اختلف حكم الأئمة عليه اختلافاً كبيراً على الأحاديث التي فيهما وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا مخالف لما أجمع عليه المحدثون كما ذكر أبو زهرة رحمه الله.(1/38)
9. تقديم الترجيح من قبل المتن على الترجيح من قبل السند وهو خطأ أيضاً.
10. إبطال العمل بحديث صيام داود عليه السلام الذي هو أفضل الصيام عند الله عز وجل إذ سيؤول إلى صوم الأحد والثلاثاء والخميس فقط من كل أسبوع، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين.
11. إبطال العمل بحديث صيام السبت و الأحد.
12. إبطال العمل بشطر أحاديث صيام الجمعة وهوالخاص بصوم يوم بعده.
الخلاصة
1. حديث النهي عن صيام السبت غير صحيح وقد ضعفه المتقدمون من أهل الحديث، فصيام السبت جائز على كل حال.
2. في حال كون الحديث صحيحاً يتوجه النهي إلى إفراده أو تخصيصه بالصيام، والمراد بالنهي الكراهة وهو مذهب كل من صحح الحديث.
3. الأمة مجمعة طوال أربعة عشر قرناً على عدم حرمة صيام السبت في النفل.
4. انفرد الشيخ الألباني رحمه الله بالقول بحرمة صيام السبت في غير الفريضة، إذ ليس له سلف في هذا القول، وهذا دليل على خطأ القول بالحرمة، قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 21/291 " كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ كما قال الامام أحمد بن حنبل إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"
5. الشيخ رحمه الله غير معصوم فيجب على من يتبعه ممن يطلب الحق أن يعلم أنه إن اتبعه في كل ما يقول فسوف يتبعه في صوابه وخطئه، وهذا لا ينبغي.
6. كان الكثير من الأئمة يتورعون عن القول بحرمة أمر ما خشية أن يحرموا ما أحل الله فكانوا يقولون لا ينبغي أو أكره ذلك وما أشبه، فينبغي لطالب النجاة أن يضع كل الإشكالات واللوازم المتعلقة بالقول بحرمة صيام السبت نصب عينيه قبل أن يتبنى القول بالحرمة.(1/39)
7. من أصر على القول بالحرمة دون أن يكون له سلف في المسألة فليعلم أنه قد خالف بذلك أهم ما يميز المنهج الحق الذي يتبناه، أعني بذلك فهم سلف الأمة، فإن فعل ذلك ظناً منه أنه ينصر السنة، فليمسك عن الإنكار على مخالفه لأنه ما خالفه رغبة عن السنة و لا إهمالاً للحديث، بل إعمالاً لأهم ما يميز هذا المنهج الحق.
رفع الملام عن الألباني الإمام
إن للشيخ الألباني رحمه الله مكانة عظيمة في قلوبنا بل وله منة علينا و على أغلب إن لم نقل كل من التزم منهج السلف الصالح في هذا العصر، فهذه كتبه و أشرطته تملأ الآفاق تحمل العلم الغزير و الدعوة الصافية الصادقة، فكم أنار الله عز وجل بكلماته الطريق للحيارى و كم أعاد بها الشاردين عن الحق إلى جادته؛ لقد كان رحمه الله و بحق حامل لواء توحيد الاتباع طوال عمره، أعني بذلك مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله فكم بذل من عمره وجهده في سبيل تبيانه وتنقيته من الشوائب، نسأل الله عز وجل أن يجزيه عن ذلك خير الجزاء....... ولكن!
قد قيل قديماً شيخ الإسلام حبيب إلى قلوبنا لكن الحق إلينا أحب، ونحن اليوم نقولها:
الشيخ الألباني حبيب إلى قلوبنا لكن الحق إلينا أحب ! فالشيخ على جلالته بشر يخطئ و يصيب، فنحن نوافقه إن أصاب ولا تمنعنا جلالته أن نخالفه إن أخطأ، بل لا بد لنا من أن نخالفه ونخالف كل من يخطئ من مشايخنا، ونحن نعلم أننا بذلك نكون قد سرنا على نهجهم وحققنا مرادهم من بعدهم.
فالذي يجد نفسه لا يخرج عن أقوال الشيخ رحمه الله أبداً، بل و يوافقه في كل ما يقول، و يعتقد أن كل ما يقول عنه الشيخ رحمه الله أنه السنة هو السنة في الحقيقة، فليراجع نفسه! لأن الشيخ غير معصوم ففي كلامه و اختياراته أخطاء لا محالة وهذه الأخطاء ليست من السنة بكل تأكيد.(1/40)
ومن جهةأخرى فإنه بعدم خروجه عن أي قول من أقوال الشيخ يكون قد خالف أهم ما نذر الشيخ رحمه الله حياته من أجله وهو التمسك بفهم سلف الأمة للكتاب والسنة وترك التقليد الأعمى للمشايخ.
و نحن إن كنا نخالف الشيخ في هذه المسألة أو غيرها إلا أننا نلتمس له العذر أن خالف كل ما حقه ألا يخالف مما ذكر في هذا البحث إن كان صواباً، و السبب في هذه المخالفة ـ والله أعلم ـ هو شدة تعظيمه و توقيره لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيخ رحمه الله إذ صح عنده حديث النهي و اقتنع بأنه لا يمكن حمله سوى على التحريم المطلق صرح بالقول بالحرمة ناصراً بذلك ما يرى أنه الحق، و ذاباً بذلك عما اعتقد أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم كنا نتمنى أن يستصحب معه ذلك الحصن الحصين الذي لطالما حصن به العقول والقلوب ألا وهو فهم السلف، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه!
فنسأل الله عز وجل أن يغفر للشيخ و يرحمه ويجعلنا و إياه من أقرب الناس منزلاً ممن قضى عمره في الذب عن سنته ودعوة الناس لاتباعه بأبي هو و أمي.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلم.(1/41)