بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة سلسلة الإعجاز العلمي والعددي في الميزان
الشيخ/ خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله -عز وجل- التوفيق والسداد في القول والعمل، وأسأله -تبارك وتعالى- القبول، والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.
سنتحدث في هذه السلسلة عن جملة من الموضوعات المتعلقة بالتفسير العلمي، والإعجاز العلمي، وما يسمى بالإعجاز العددي.
ثم بعد ذلك سأتحدث عن موضوعات أخرى كالأمثال في القرآن، والقسم في القرآن والقصص القرآنية، وترجمة معاني القرآن، وأسأل الله -عز وجل- أن ييسر لي دراسة هذه الموضوعات.
أما فيما يتعلق بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي والتفسير العددي فقد جمعت فيه منذ سنتين تقريباً كل ما استطعت أن أصل إليه من الكتب والأوراق في الإنترنت وفي غيره، كل ما كتب في هذا الموضوع وحاولت أن أصل إليه، وأن أقرأه بشيء من الإنصاف والتجرد، وبقيت أقرأ في هذه الأوراق الكثيرة والمؤلفات منذ أول الإجازة إلى يومي هذا، فأنا أقلبها وأنظر فيها وأحاول أن أبعد المكررات والأشياء التي لربما تكون معادة بصورة أو بأخرى قدر المستطاع، وخرجت بعد هذا كله بحصيلة كبيرة سأحاول –بعون الله- أن أنجز خلاصة ذلك في هذه السلسلة؛ فإن هذه الموضوعات قد كثر الكلام عليها، وللأسف فإن الذين يتحدثون في هذه القضايا ويلقون فيها المحاضرات تلو المحاضرات، ويعقدون المؤتمرات ويصدرون المقالات وما إلى ذلك هم من غير أهل الاختصاص.
ملحوظات لا بد منها قبل البدء حول كتابات هؤلاء وإصداراتهم في التفسير العلمي والعددي:
من خلال قراءتي لكتاباتهم كتبت بعض الملحوظات العامة على كتاباتهم وعلى إصداراتهم الصوتية الأشرطة التي سجلوها في مجموعات وألبومات وما إلى ذلك، فهذه سبع ملحوظات أبينها كما يلي:
الملحوظة الأولى:(1/1)
كثرة التكرار في هذه الأشياء التي يذكرونها: تجد مواقع في الانترنت خاصة بالإعجاز العددي، ومجلات خاصة بالإعجاز العلمي والإعجاز العددي، وتجد كتباً خاصة في الإعجاز العددي، وهناك تكرار كبير جداً في هذه المعلومات فيظن من نظر في موقع من هذه المواقع أن هذا الموقع حافل وأن صاحبه قد جد واجتهد وجمع هذه الأشياء الكثيرة، فكيف بغيره ممن وضع موقعاً آخر أو ممن أصدر مجلة متخصصة أو نحو ذلك، بينما الواقع أن هذه المعلومات هي متكررة هنا وهناك، فهذه الملحوظة الأولى (التكرار الكثير).
الملحوظة الثانية:
نحن نعرف أن من آداب أهل العلم في التأليف أنهم إذا كتبوا وألفوا فإن الواحد منهم يعزو الفائدة إلى من أخذها منه.
والقرطبي -رحمه الله- في مقدمة كتابه في التفسير ذكر أن من بركة العلم أن ينسب العلم إلى قائله، والفائدة إلى من استخرجها.
والذي لاحظته عند عامة هؤلاء -فيما قرأت- أنهم لا يعرفون هذا إطلاقاً، فتقرأ وكأنه هو الذي استنتج هذه الأشياء جميعاً، وجاء بهذه الحسابات والأرقام بينما تجد أنها هي هي موجودة في مؤلفات قبله، وموجودة في مواقع أخرى، وموجودة في مجلات، ومع ذلك لا تجد نسبة إلى هؤلاء الذين أخذها منهم!
الملحوظة الثالثة:
الجرأة المتناهية في القول في التفسير والكلام على هذه المعاني مع المسارعة، وكأن القضية منافسة، وهذا أمر غاية في العجب.
يعني إذا لاحظت أو تذكرت أن ثمة مؤتمرات ومجلات متخصصة ومواقع في الإنترنت ومحاضرات تلقى، إضافة إلى مؤلفات ومنظمات تعقد الاجتماعات تلو الاجتماعات، فستشعر وأنت تقرأ أن هناك مسارعة فكل إنسان يريد أن يكتشف شيئاً ليبرزه ويخرجه إلى الآخرين، وفي أي شيء في قضايا تتعلق بالقرآن، وهذا لا شك أنه أمر في غاية الخطورة -كما سيأتي فيما سأذكره بعد قليل إن شاء الله- في المقدمة التي لابد منها.
الملحوظة الرابعة:(1/2)
نحن نعرف فيما نقرأ من كلام أهل العلم في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي العربية وفي غيرها أن عبارات العلماء دقيقة، فالعالم يزن الحرف ويدقق في العبارة، ويعي ما يقول، ولا يطلق العبارات الصحفية كما يقال، بل عبارة عالم موزونة، حتى أنك إذا ناقشته فيها وقلت له: أنت قلت: كذا وكذا، قال: لا أنا قلت: كذا وكذا، لأني أستحضر الاستثناءات الفلانية في كلامي، وهذا مشاهد في كلام العلماء -رحمهم الله-.
ومن تعود قراءة كلام أهل العلم عرف ذلك، ومن ابتلي بقراءة كلام هؤلاء فإنه سيجد بوناً شاسعاً فهم لا يعرفون هذا إطلاقاً.
يأتي الإنسان ويلقي محاضرة أو يحضر مؤتمراً، أو يكتب في مجلة، أو يؤلف كتاباً ويطلق العبارات الفجة.
جلست مع أحدهم، فقلت له: أنتم تطلقون العبارات الفجة في أمور لم تتوثقوا منها، فقال: مثل ماذا؟
قلت: أنتم تقولون: إن الحديد الموجود في باطن الأرض في النواة -كما تزعمون- أنه من الشمس، وأن الأرض كانت ملتصقة مع الشمس، وأن هذا هو معنى قول الله -عز وجل-: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [(30) سورة الأنبياء]، ثم تذكرون مليارات السنين –تحددونها- قلت: فمن أين لكم هذا؟ أشهدتم خلقها؟ ستكتب شهادتكم وتسألون، من أين لكم هذه الأعداد التي تذكرونها؟ ومن أين لكم أن الأرض كانت ملتصقة مع الشمس؟ وأنها انفصلت عنها؟ وأن هذا الحديد الموجود في النواة -إن كان في النواة حديد- من أين لكم هذا الكلام؟؟!(1/3)
قال: لا، هذه فرضيات، قلت: الآن لما ناقشتك تقول لي: فرضيات؟! أنتم حينما تلقون محاضرات للناس وحينما تأتون وتكتبون في مقالات وفي مؤلفات تطلقون العبارات جزماً أن الأرض كانت ملتصقة بالشمس، وأنها كانت جزءاً منها قبل كذا وكذا -مليارات السنين- ثم انفصلت عنها بعد ذلك، وهذا الحديد الموجود في النواة، إنما هو من الشمس، وأنه لا يوجد في شيء من عناصر الأرض الأصلية، من أين لك هذا؟ قال: لا هذه فرضيات.
قلت: كيف تطلقها بعبارات أخرى على سبيل القطع والجزم؟ ثم إذا كانت فرضيات وأنت الآن تعترف أنها فرضيات، كيف تفسر بها كتاب الله -عز وجل- في أمور غيبية لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى-؟ من أين لك هذا التفسير؟!
الملحوظة الخامسة:
نحن عندنا من الأصول الثابتة التي تعلمناها وتربينا عليها أن أقوال السلف يحتكم إليها ولا تحاكم إلى غيرها، فهذه قاعدة من القواعد المتعلقة في التفسير، وهؤلاء يحكِّمون أقوال السلف على هذه النظريات.
من المبادئ التي تعلمناها أن كل قول يعود على أقوال السلف بالإبطال فهو فاسد، وتجيء إلى أحد هؤلاء الذين لا يكترثون بأقوال السلف، وتذكر له هذا الأصل وهذه القاعدة فيقول: لا يشترط أن يقول السلف هذا، ولا يشترط أن يعرفوه!
كيف لا يشترط أن يعرفوه؟ هل يمكن أن يجمِع جميع السلف على فهم الآية على غير وجه الصواب ويحملونها على معنى غلط، ثم تأتي أنت وتحملها على المعنى الصحيح؟!
هذا محال لا يمكن أن يجمِع السلف جميعاً على الخطأ في فهم الآية، ثم تأتي أنت وتدعي الصواب ويكون ما تقوله أنت صواباً!
ولذلك نجد هؤلاء في الغالب إذا ذكروا أقوال السلف يذكرونها على سبيل التندر، والجيد منهم الذي يقول: هم مجتهدون وهذا مبلغهم من العلم.(1/4)
ولا زلت أذكر وأنا طالب في المرحلة الثانوية إذ حضرت محاضرة في الجامعة، وكانت المحاضرة عن الإعجاز العلمي في القرآن، وكأني أراه الآن يتكلم في يوم شاتٍ والحشود خارج القاعة؛ بسبب كثرة الناس الحاضرين، وهو يتكلم عن قضية من هذه القضايا، ثم قال: لننظر ماذا قال القدماء فيها، ثم قال: مجاهد يقول: كذا وكذا، ثم ضحك استخفافاً بقول مجاهد! ثم ألتَفَتُّ إلى الموجودين وإذا هم في حال من النشوة والطرب لهذا الاكتشاف.
إنك لتعجب من النظرة إلى السلف، وكيف تكون أقوالهم وفهمهم وهم أعلم الناس بالقرآن يتحاكم فيها إلى قول جورج وميري وأمثال هؤلاء؟ وهذا في أي شيء؟ في القرآن، وفي معاني القرآن!
وأعجب ما سمعته أن أحد هؤلاء لما نوقش قال: هذا ليس بتفسير.
لما قيل: لا بد أن يكون لكم الأرضية التي تنطلقون منها في التفسير، والآلة التي تشترط فيمن تكلم في التفسير قال: هذا ليس بتفسير، ما هذا إذن؟
حينما تقول: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا}: أي ملتصقة، ثم تقول لهذا: ليس بتفسير؟! ما هو التفسير إذن؟
الواقع أن هذا من صلب التفسير، وليس من حواشيه أو من مكملاته، بل هم من صلب التفسير؛ لأن هؤلاء يبينون عن معاني القرآن، فلا يجوز لأحد أن يتكلم بهذه الطريقة، وهو يفتقد الخلفية التي يجب على من تكلم في معاني القرآن أن ينطلق منها؛ فهذه قضايا شرعية.
الملحوظة السادسة:
وأنت تقرأ أو تسمع لهؤلاء تجد مسافة شاسعة بيداء بينهم وبين العلوم الأساسية التي يجب أن تكون عند من أراد أن يتكلم في التفسير.
فهذا أحدهم يتكلم ويبين وجوه بعض الإعجاز، فيقول مثلاً: ({فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [(14) سورة المؤمنون]، إلى آخرها، فالفاء كما هو معلوم عند علماء اللغة تدل على العموم).(1/5)
أي لغة هذه؟ هذه في لغة التاميل؟ أم في اللغة العبرية؟ أم في اللغة السريانية؟ عن أي لغة تتكلم؟ متى كانت الفاء تدل على العموم؟ أنت تتكلم مع من؟ أي لغة التي تتكلم عنها وتقول فيها: إن الفاء تدل على العموم عند علماء اللغة؟!
هذا لا يوجد إطلاقاً، إلا إذا كنت تتكلم عن لغة أخرى غير لغتنا؛ فنحن نعرف كتب اللغة الموجودة، لم نجد أبداً من يقول: إن الفاء تدل على العموم، بل إن الفاء تدل على التعقيب المباشر، وتعقيب كل شيء بحسبه، وتدل على التعليل وتشعر به أحياناً.
أما أن تصادر الأمور بهذه الطريقة، وتتكلم وأمامك ناس ما يفهمون ويطربون لكلامك، وتقول: الفاء تدل على العموم كما هو معروف عند علماء اللغة، فهذه أشياء مضحكة مبكية في نفس الوقت، وشر البلية ما يضحك.
فالمطلوب منك أن تتوقف لتُناقَش حول هذا الكلام الذي تدعيه، والذي تقوله وتطلقه هكذا على عواهنه من غير خطام ولا زمام.
إن عامة هؤلاء -إن لم يكن جميعهم- تخصصاتهم إما أطباء، أو فيزياء، أو كيمياء، أو أحياء، أو زراعة، أو صيدلة، أو جيولوجيا، وما داموا كذلك فما شأن هؤلاء حتى يتكلموا عن تفسير القرآن؟ ما شأنهم في هذه الأشياء؟
هذه مشكلة كبيرة جداً يجب على الناس أن يتنبهوا لها، هذا كتاب الله -عز وجل- يجب أن نغار عليه، ولا يتكلم فيه من هب ودب ودرج.
الملحوظة السابعة:(1/6)
إذا قرأت في كلامهم تلاحظ شيئاً منها كما أشرنا آنفاً يوجد تكرار كثير جداً، ومنها أنك لما تقرأ المعلومة في عشرة مصادر أو عشرين مصدراً أو نحو هذا، تلاحظ التفاوت، إذ تكتشف أن بعضهم يزيد عليها أشياء من التهويل مما ليست موجودة في المصادر الأصلية، ومعلوم أنه لا ينسب للمصادر، فيتيح لنفسه الفرصة أن يزيد من عنده أشياء حتى تكون القضية بزخم أفضل وإثارة أكثر، وليست هذه الزيادات المؤثرة في المعنى موجودة في أصل المعلومة، وإنما زادها من باب الإثارة، فهل مثل هذا يجعل المعلومات التي يدلي بها في قضايا تتعلق بتفسير كتاب الله -عز وجل- معلومات موثوقة؟!
المشكلة أن هناك أصول لا بد أن الناس يتربون عليها، وأقل الأحوال أولئك الذين يتكلمون في العلم، لا بد أن يكون عندهم شيء من التحرز والورع، وأن يعرفون أنهم يتكلمون عن معاني القرآن، وأن هذا الأمر سيحاسبون عليه، وأن القضية ليست بهذه السهولة وبهذه البساطة التي يتخيلونها.
سأتحدث بإذن الله -عز وجل- عن التفسير العلمي والإعجاز العلمي وما يسمى بالإعجاز العددي، ولذلك سأجعل هذا الحديث على عشر نقاط:
الأولى: في التعريفات.
الثانية: في الجذور التاريخية للتفسير العلمي والإعجاز العلمي.
الثالثة: في بواعث هؤلاء في هذا الاشتغال بالتفسير العلمي.
الرابعة: في أقوال الباحثين عموماً من المؤيدين ومن المخالفين.
الخامسة: في حكمه.
السادسة: في شروط قبوله.
السابعة: في أصناف المشتغلين به.
الثامنة: الاتجاهات في التفسير العلمي.
التاسعة: أهم المؤلفات المغرقة والموغلة فيه.
العاشرة: في محاسنه.
وسأحاول قدر الإمكان أن أنطلق من أصول وثوابت نتفق عليها جميعاً، وسأحاول أن أجعلكم تكتشفون أنتم الصواب في هذه الأشياء من الخطأ.(1/7)
والله -عز وجل- أمر بالعدل والإنصاف، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [(152) سورة الأنعام]، فالعدل واجب بالأقوال والأحكام التي يقولها الإنسان، فمن أراد أن يتكلم على الناس أو يتكلم على القضايا التي يذكرونها أو يتكلم على الطوائف، أو يتكلم على المؤلفات أو نحو ذلك فلا بد أن ينطلق من أصول صحيحة، لا يتكلم بهوى وإنما يتكلم بعدل، والعدل لا يمكن إلا أن يكون منطلق المتحدث فيه من علم صحيح، ومن أصول ثابتة لا تضطرب عليه ولا تتناقض فيقع في ما لا يليق من التناقضات والتعارض والتضارب في أفكاره وأقواله وأحكامه، وعرفنا في القواعد فائدة القواعد، وأن من فوائدها أنها تضبط فهم الإنسان وأنها تنأى به عن الاضطراب والتناقض والتضارب.
المقدمة التي سأذكرها تشتمل على أمرين:
الأمر الأول: في ذكر نماذج من تورع السلف في التفسير، وأريد أن تكون هذه القضايا حاضرةً في ذهنك، استحضر هذا جيداً في جميع البحث الذي تكلم عليه، تذكر هذا جيداً وقارن في النماذج التي أعرضها عليك، قارن بين هذا وهذا، وبضدها تتميّز الأشياء.
الأمر الثاني: في ذكر بعض القواعد في التفسير التي لها تعلق بالموضوع، فإذا فهمتها وحفظتها نطبق بعد ذلك ما يذكرونه على هذه القواعد، وسترى البون الشاسع.
أما القضية الأولى: وهي نماذج من تحرز السلف في التفسير: وكيف لا يتحرزون والله -عز وجل- يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [(33) سورة الأعراف].
ويقول -جل وعلا-: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [(60) سورة يونس].(1/8)
ويقول –سبحانه وتعالى-: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [(69) سورة يونس].
ويقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(105) سورة النحل].
وأنا لا أقصد أن هؤلاء الذين يتكلمون في التفسير العلمي أو الأعجاز العلمي أنهم يفترون على الله الكذب، بل أقصد أنه ينبغي علينا أن نستحضر هذه المعاني؛ ليورث ذلك هيبةً في قلوبنا عند الكلام على معاني القرآن، وعند الكلام على تفسير القرآن.
هذا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قرأ على المنبر أمام الناس وهو من أعلم الأمة، وهو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [(31) سورة عبس].
عمر -رضي الله عنه- لم يتكلم فيها، قال: وفاكهةً وأبّا، ما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر"، ما معنى هذا الكلام؟
اكتفى بالفهم العام للآية وهو أن الله يمتن على الخلق بأنه أوجد لهم ما يحتاجون إليه من المطعومات مما أخرج من الأرض من الفاكهة، والأب التي تأكلها دوابهم، لكن ما هو الأب؟ ما هذا النبات بعينه؟ يقول: لا حاجة لتفسيره فهذا من التكلف، فتورع من ذلك.
لقد تورع من السؤال ورجع عنه بعد أن طرحه على المنبر، فلم يطلب الإجابة منهم بعد هذا التراجع؛ لأنه رأى أن هذا من التكلف.
وفي رواية عن أنس -رضي الله عنه-: "كنا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: فما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه".
وهذا ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن سئل عن آيةٍ -كما يقول ابن أبي مليكة-: "لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها".
يقول: آية تتبادر إلى السامع أنها سهلة، ولو سئلتم عنها لأجبتم، ولكنه رفض أن يجيب فيها وهو حبر الأمة وترجمان القرآن.(1/9)
وهذا جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه طلق بن حبيب فسأله عن آية من القرآن فماذا قال جندب؟
قال: "أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عني"؛ خاف بمجرد ما سئل عن تفسير آية.
وهذا سعيد بن المسيب -رحمه الله- وهو من خيار علماء التابعين يُسأل عن تفسير آية من القرآن فيقول: "إنا لا نقول في القرآن شيئاً"؛ يتهيّب من التفسير.
وذكر عنه يحي بن سعيد أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن -الأشياء الواضحة- ما كان يتتبع الدقائق والغوامض، وسأله رجل عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن.
ويقول يزيد بن أبي يزيد: "كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال -وكان أعلم الناس- فإذا سألناه عن تفسير آيةٍ من القرآن سكت كأن لم يسمع".
وكذلك يقول عبيد الله بن عمر: "أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبيد الله والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع".
ويقول هشام بن عروة: "ما سمعت أبي -يعني عروة بن الزبير من فقهاء التابعين من علماء المدينة- يقول: "ما سمعت أبي يؤول آيةً من كتاب الله قط"، إنهم يخافون وهم جبال في العلم!!
وسأل محمد بن سيرين عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال له: "ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد".
وهذا إبراهيم النخعي يقول: "كان أصحابنا -يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود –يعني النخعي- وغيرهم من أصحاب ابن مسعود- يتقون التفسير ويهابونه".
ويقول الشعبي: "والله ما من آيةٍ إلا وقد سألت عنها" يقول: عندي علم فيها؛ البحر متلاطم، ما كان يعرف القراءة ولا الكتابة، وكان يقول: أقل ما أحفظه الشعر، ولو شئتم لحدّثتكم شهراً، يروي شعراً شهراً كاملاً بدون توقّف.(1/10)
يقول: "لحدّثتكم شهراً لا أعيد بيتاً"، هذا أقل شيء يحفظه، وكان يقول: "والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله -عز وجل-". وكان مسروق يقول: "اتقوا التفسير فإنه هو الرواية عن الله".
وشيخ الإسلام ابن تيمية مع تبحّره في العلم حتى كان -رحمه الله- إذا تكلم في فن يظن السامع أنه لا يحسن غيره؛ لشدة تحققه فيه وضبطه له، حتى إن الطوائف حينما يناقشهم ويرد عليهم كانوا يستفيدون منه في مذهبهم ما لا يعرفونه هم عن عقائدهم.
وكان إذا تكلم في أيِّ فنٍ من الفنون يسمعه إنسان في الرياضيات ويتكلم معه ويعرض عليه أبواب فكان الواحد منهم يخرج ويقول: والله لقد تعلّمت منه أبواباً ما كنت أظن أني أتعلمها.
علماء في الرياضيات يجلسون مع هذا العالم ويجدون عنده أشياء لا يجدونها عند أصحابهم، ومع ذلك كانت له اليد الطولى في التفسير مع قوة استحضار لنصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، ومع هذا كله كان يقول: "ربما طالعت في الآية الواحدة نحو مائة تفسير".
كان يذهب إلى مساجد خربة ومهجورة في دمشق، ويسجد ويمرغ جبهته في التراب يقول: "كنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلّم إبراهيم فهّمني"، يقرأ نحو مائة تفسير، تفاسير ليست مطبوعة طباعة رشيقة، ولا بضغطة زر في الانترنت أو في الكمبيوتر اليوم، وإنما كتب مغبرة ولربما سبّبت له ألواناً من الأمراض من الربو والحساسية ونحو ذلك، ومع ذلك يقرأ نحو مائة تفسير في الآية الواحدة ويذهب ويدعو، فأين نحن من مثل هؤلاء؟
القضية الثانية في هذه المقدمة: وهي ذكر بعض القواعد التي ينبغي التفطن لها، هناك قواعد كثيرة جداً، لكن سأكتفي ببعض ما له مساس مباشر بموضوعنا هذا، وأرجو أن تكون هذه القضايا حاضرة في أذهاننا، ونحن نناقش التفسير العلمي والإعجاز العلمي وما يسمى بالإعجاز العددي.(1/11)
عندنا قاعدة تقول: "تحمل نصوص الكتاب على معهود الأميين في الخطاب": فمن هم الأميون؟ هم الذين خوطبوا بالقرآن حينما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [(2) سورة الجمعة]، فهؤلاء يجب أن نحمل نصوص القرآن على معهودهم في المخاطبة، وطريقتهم في التكلم والمحادثة، واستعمال العربية في وجوه المخاطبات، فنحمل نصوص القرآن على معهودهم، وبناءً على ذلك فإننا نقول بكل اطمئنان: إن الشريعة لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها وأحكامها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضية وما إلى ذلك، واستحضروا هذا جيداً؛ لأنه سيأتي من يقول: إذا كان القرآن لا يشرح الرياضيات والفيزياء والفلك والكيمياء والأحياء والعلوم، علوم الذرة فلا يصلح لهذا العصر.
نقول: الشريعة لا يحتاج في فهمها إلى علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والأحياء الدقيقة وما إلى ذلك، بل هذه علوم تحتاجها الأمة لبناء حضارتها وللأخذ بأسباب القوة، وهي من فروض الكفاية يجب أن يوجد من المسلمين من يقوم بها، ولا يجوز لأحدٍ أن يهوّن من شأنها، لكن هل يتوقّف فهم القرآن عليها؟
الجواب: لا، وذلك لأمور:
الأمر الأول: أن الذين تلقّوها وخوطبوا بها كانوا من الأميين: فمعنى ذلك أنهم خوطبوا بما يدخل تحت إدراكهم وفهمهم ولم يخاطبوا بطلسمات ولا بأحاجي ولا بألغاز وإنما خوطبوا بكلامٍ عربيٍ فصيحٍ مبين فهموه حق الفهم.(1/12)
الأمر الثاني: لو لم تكن الشريعة كذلك لما وسعت جمهور الخلق: يعني لو لم تكن مراعى فيها معهود الأميين لما صارت صالحةً لجمهور الناس؛ لأن جمهور الناس لا يتوفّر لهم هذه العلوم والتخصّص فيها وإنما هي لأفراد قلة، فيصعب على الناس إذن الامتثال والتكليف، وهذه الشريعة جاءت للأحمر والأسود، الأعرابي يستطيع أن يطبّقها، وأناط الله -عز وجل- أحكامها ومعرفتها... الخ بأمورٍ مدركة للجميع.
مثال ذلك: دخول شهر رمضان برؤية الهلال، ما يحتاج إلى مكبّر وآلات رصد ومراصد وما إلى ذلك، ولا يحتاج الإنسان حتى يفهم نصوص القرآن أو يعمل بالأحكام الشرعية إلى تكنولوجيا وآلات دقيقة جداً، واحتراف في بعض العلوم المادية، لا يحتاج إلى ذلك كله، بل يستطيع أن يطبق الشريعة وهو لم يسمع بهذه العلوم قط، يقول –عليه الصلاة والسلام-: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا))(1)؛ فالحاصل أن الشريعة روعي فيها هذه الأمور من رحمة الله ولطفه، فهي صالحة لكل زمان ولكل مكان.
وكذلك لا يعوز أحداً رام الامتثال أن يطبقها في الصحراء، في وسط البحر، في بيته، في أي مكان، وبناءً على ذلك نعلم غلط من تجاوز في دعواه فأضاف إلى القرآن كل علمٍ يذكر من علوم المتقدمين، والمتأخرين من علوم الطبيعيات والرياضيات والهندسة والمنطق وعلم الحروف وأشباه ذلك مما يذكره بعضهم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الصيام – باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (ج 2 / ص 759).(1/13)
سيأتي تصريح جماعة يقولون: كل هذه العلوم موجودة في القرآن، فإذا عرفت ما سبق ستعرف بطلان ذلك، وبناءً على ذلك أيضاً نقول: يجب أن نقتصر في فهم القرآن على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبذلك يوصل إلى علم ما أودع فيه من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير الأداة التي يصح تطلبه بها فإنه يضل في فهمه، وهذه المعاني ذكرها الشاطبي -رحمه الله-.
والأمر الثالث: ينبني على ما سبق وقد ذكره الشاطبي أيضاً: أن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم لهم عرف مستمر لا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، فإذا لم نجد لهم عرفاً خاصاً فإننا نرجع إلى لغة العرب وننظر معنى هذا الكلام في كلام العرب الأولين.
ومن عادة العرب في عرفهم في كلامهم ومخاطباتهم أنهم يلقون الكلام على عواهنه، ما معنى يلقون الكلام على عواهنه؟
معناه: أنهم لا ينقِّرون في الكلام -لا يتكلّفون- ولذلك فإن الشاعر الجيد عندهم هو الذي يلقي القصيدة على البديهة بحسب المناسبة يحضر موقفاً من المواقف ثم بعد ذلك يصور مشاعره بشِعره، أما الشاعر الذي يكتب قبل ذلك ويحضر ويكتب ثم يعيد ويزيد وينقّح فما كانوا يستحسنون شعره وإن كان حسناً في ظاهره، ولهذا كان الأصمعي يعيب على الحطيئة مع أن الحطيئة شاعر من نوابغ الشعراء، والأصمعي إمام من أئمة اللغة كان يعيب على الحطيئة ولا يستحسن شعره لماذا؟
يقول: وجدت شعره كله جيداً فدلني على أنه كان يصنعه قبل ذلك، يحسّن في هذا الشعر، ويزيد ويحذف الكلمة وينقص -يحضر لهذا الشعر من قبل- ثم يلقي القصيدة، فما كانوا يستمدحون هذا الصنيع، بل من عادتهم أنهم يلقون الكلام على عواهنه.
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي على أن من نظر في القرآن الذي نزل بحسب معهود الأميين في الخطاب أن لا ينقّر وهو يفسّر القرآن، فيحمل القرآن على تكلّفات لم يقصدها القرآن ولم تخطر على بال السامعين له من العرب الأقحاح.(1/14)
والأمر الرابع: ينبني على ما سبق أنه ينبغي أن تكون العناية منصبّة على المعاني دون أن تكون منصرفةً إلى الألفاظ والتدقيق فيها؛ لأن من عادة العرب العناية بالمعنى دون التنقير في اللفظ والتكلف فيه.
والأمر الخامس: ينبني أيضاً على كون القرآن عربي وأنه يجب حمله على معهود الأميين في الخطاب أن لا يتكلم على معانيه إلا من كان عربياً، إما عربياً باللسان والنسب أو أن يكون عربياً باللسان والفهم، وليس معنى ذلك أن الأعاجم لا يجوز لهم أن يستنبطوا، بل كثير من علماء المسلمين كانوا من الأعاجم، لكنهم تعلّموا من العربية ما جعلهم يزاحمون العرب الأقحاح في فهمهم وتذوّقهم للغة العرب وتصوّرهم لمعانيها، وأما العجمة -عجمة اللسان وعجمة الفهم- فإنها تورث عللاً في تفسير الإنسان وحمله للألفاظ على معانٍ لم يردها المتكلم.
لقد صرنا نحن العرب نعاني العجمة منذ عصور متطاولة -أعني أبناء العرب فضلاً عن الأعاجم- لماذا؟ لأن ألسنتنا قد تكدرت واختلطت وصار الواحد منا يحتاج إلى أن يراجع كثيراً من الأمور حتى يفهم، كما يتعلم الأعجمي علوم البلاغة وعلوم اللسان العربي حتى يفهم الخطاب فهماً صحيحاً، وكل هذا بعد أن كان العرب يفهمونه لأول وهلة بما حباهم الله -عز وجل- به من الفطرة اللغوية النظيفة وسلامة الذوق اللغوي وسلامة ألسنتهم وأفهامهم من العجمة.
فإذن: لا يجوز أن يتكلم عليه –التفسير- من تلوّث بعجمة حتى يحصّل تحصيلاً يؤهله لفهمه على الوجه المطلوب، ولهذا دخلت كثير من البدع والانحرافات في التفسير وفي غير التفسير بسبب هذه اللوثات والعجمة كما قال الحسن -رحمه الله-: "أهلكتهم العجمة".(1/15)
ويقول الشافعي -رحمه الله-: "ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس"، لاحظ هذه العبارة الدقيقة من الشافعي -رحمه الله- يقول: ما حصل التكدير والجهل والاختلاف والانحراف في الفهم إلا بعد ما تركوا لسان العرب واتجهوا إلى لسان أرسطاطاليس، ما هو لسان أرسطاطاليس؟
صاروا يتعلمون المنطق اليوناني، وهو علم أجنبي على الأمة وغلب عليهم ذلك حتى تكدرت به ألسنتهم فأصابتهم لوثة اليونان وغير اليونان من أصحاب هذه العلوم، فصاروا يحكّمون هذه المصطلحات في نصوص الكتب والسنة، وفي الكلام على القواعد وما إلى ذلك، وهذا تجده في أصول الفقه كثير، وفي أصول التفسير، وفي مصطلح الحديث وفي علوم البلاغة وفي علم النحو، وما شاء الله من كتب التفسير ومن شروح الحديث تجد هذه اللوثة التي سرت إلى المسلمين من اليونان ومن غيرهم، فصارت هذه المصطلحات صبغةً عند كثيرٍ من الشرّاح والمفسّرين فصار القارئ في هذه الكتب يحتاج إلى شرح لهذه المصطلحات، ثم صاروا يفهمون بناءً على التركيبة الذهنية التي وجدت عندهم بعد ما صيغت عقولهم هذه الصياغة التي تربوا فيها على منطق اليونان، منطق أرسطو وأفلاطون وأمثال هؤلاء.
فالعقول تصاغ بسبب النظر في الكتب والدراسة والتلقي، فيصبح للإنسان طبيعة خاصة في الفهم والاستنباط وتصوّر الأشياء فتصاغ عقليته.
ما الذي يجعل بعض الناس يرجع من بلاد أوروبا وأمريكا ويبدأ يتكلم على الشريعة عندنا، وأننا يجب أن نفهم القرآن الآن فهماً جديداً، ما الذي جعله يقول هذا وهو من أبناء المسلمين؟
السبب أنه صيغ عقله بناءً على ما تربّى عليه ودرسه، فصارت عنده هذه اللوثات.
لماذا كثير ممن يدرسون في بعض العلوم خاصة مثل العلوم الإنسانية -كما يقولون هناك- يرجعون وعندهم لوثات؟
تتناقش مع أناس صيغت عقولهم صياغة خاصة، ومن ثم فالفهم عندهم فيه إشكالات كثيرة جداً وانحرافات.(1/16)
ما الذي يجعل كثير ممن يذهبون هناك يرجع وهو يتكلم عن قضايا شرعية كبيرة وهامة وحسّاسة، يتكلم عليها على أنها قضايا لربما فهمها السلف بطريقة معينة، ومن حقنا أن نفهم أيضاً بحسب معطيات العصر، فالسلف لهم فهمهم بحسب المعطيات التي كانت عندهم، ونحن من حقنا أن نفهم القرآن ولسنا ملزمين بفهم السلف، ما الذي جعلهم يقولون هذا؟
صيغت عقولهم هذه الصياغة، وصار إذا أراد أن يتكلم عن الكافر يقول: (الآخر)، (فهم الآخر)، ما يقول: الكافر، بل يقول: (الآخر) (فهم الآخر) (التحاور مع الآخر) (التعايش مع الآخر) من هو الآخر؟
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [(المجادلة:22)].
في السابق كان يقول: (غير المسلمين) الآن يقول: (الآخر)!!
للأسف هذه الألفاظ يقولها بعض من ينتسب إلى الدعوة إلى الله، فما بالك بغيره!
أنا رأيت واحداً في تلك البلاد تخصصه في النكاح، ويحدثني عن مشرفه في مرحلة الدكتوراه في الفقه يقول: لا يفيق من السكر، فهو سكران دائماً، يقول: تقع لي مشكلة في البحث في الكلية، فآتي إليه وهو في حالة من النشوة، فيقول: دع الموضوع عليّ، أنا أتكفل لك بحل هذه المشكلة، يقول: ثم آتيه في اليوم الآخر وأقول له: ماذا عملت يشأن المشكلة؟ يقول: أيّ مشكلة؟
لا يذكر شيئاً إذ أنه كان سكراناً، فإذا كان من هذا حاله مشرفاً على رسالة دكتوراه في موضوع النكاح، ما بال هذا يذهب ليدرس الفقه على مثل هؤلاء؟ يا ترى ماذا يرجو من هذا؟ وبأي شيء سيرجع إلينا؟
إن العقول هناك تصاغ، وبالتالي يتغيّر تفكير الإنسان الذي يذهب إلى هناك، و تتغير نظرته للأمور وتقييمه للأشياء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/17)
وعلى كل حال فالسيوطي -رحمه الله- يعلق على عبارة الشافعي: "ولسان أرسطاطاليس" فيقول: إن الشافعي أشار إلى ما حدث في زمن المأمون من ترجمة كتب اليونان، حيث ترجم المنطق والفلسفة وما إلى ذلك، وتسارع إليها الناس يتعلمونها فاستفزهم بعد ذلك أناس مثل الغزالي، وقالوا: إنه لا يوثق بعلم من لا يعرف هذه العلوم –علوم المنطق وغيره- وقالوا: إن من شروط الاجتهاد أن لا يبلغ الإنسان رتبة الاجتهاد حتى يحصل هذه العلوم، فبهذا استُفٍزّ العلماء -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فصاروا يتعلّمون المنطق ويدخلونه في التفسير وشرح الحديث وفي الكلام في الأصول وغيرها من أجل أن يثبت أنه بلغ هذه الرتبة، وبالتالي فسد الفهم.
تقرأ أحياناً عشرات الصفحات بالخط الدقيق من الورق الكبير في بعض كتب التفسير فلا تجد قضية تستحق أن تقول فيها: هذه فعلاً قضية تستحق أن تقف عندها؛ لأن كلامه كلام ليس عليه نور، فالحاصل أن هذا أوقعهم في إشكالات في العقائد وما إلى ذلك.
يقول: "والقرآن ما نزل إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح اليونان" -هذا كلام السيوطي يشرح كلام الشافعي- يقول: "ولكل قومٍ لغة واصطلاح، فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره وخرج الوارد من نصوص الشرع عليه جهل وضل ولم يصب القصد فإن كان في الفروع نسب إلى الخطأ وإن كان في الأصول نسب إلى البدعة".
وأمر سادس: وهو أن من تعرض للخوض في التفسير ولم يكن متأهلاً بمعرفة كلام العرب ووجوه مخاطباتهم كانت موافقته للصواب -إن وافقه- غير محمودة، لماذا؟
لأنه وقع عليه اتفاقاً، ولم يصل إلى الصواب بالطرق التي يجب أن تسلك للوصول إليه، فهو إنما وقع عليه مصادفةً إن صح التعبير، وهذا المعنى ذكره الشاطبي -رحمه الله تعالى-.
قاعدة أخرى:(1/18)
"كل معنىً مستنبط من القرآن غير جارٍ على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء": والواقع أن هذه مرتبطة بالقاعدة السابقة ونتيجة لها، وبهذه القاعدة تبطل تفسيرات الملاحدة والمتكلمين التي خالفوا فيها عقيدة أهل السنة والجماعة وتفسيراتهم، كما تبطل تفسيرات الزنادقة وهي كثيرة جداً، وكذلك تأويلات الباطنية، والتفسيرات الصوفية الإشارية في عامتها وأغلبها، كما تبطل التكهنات التي تذكر في الحروف المقطعة في أوائل السور فيما يسمى بحساب الجُمَّل، وسنعرض له -إن شاء الله- فيما بعد، فإن هذا لا قيمة له؛ لأنه من علوم اليهود وليس من علوم العرب في شيء، فمن الخطأ أن تفسر {كهيعص} [(1) سورة مريم]، ) بحروف الجمّل، كل حرف له قيمة عددية، ثم تحسب نهاية الأمة أو احتراق دولة إسرائيل وسقوطها، أو تحسب قيام الساعة متى يكون عن طريق هذه الحسابات؟
إن حساب الجمّل حساب غير صحيح، وكل ما تتوصل إليه من نتائج بهذا الحساب فهو باطل من أساسه، كما أن هذه القاعدة أيضاً تأتي على ما يذكر من التكلفات فيما يسمى بأسرار الرسم العثماني، وسأذكر بعد قليل بعض هذه الأسرار المزعومة، سنذكر بعض النماذج من عبث الملاحدة حتى نععرف أن العبث ليس جديداً في كتاب الله -عز وجل- وإنما هو من قرون متطاولة.
هذا رجل ممن لا خلاق له يقال له: بيان بن سمعان، هذا الرجل قتله خالد القسري وأحرقه بالنار وله طائفة تنسب إليه يقال لها: البيانية، يقول في قول الله تبارك وتعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} [(138) سورة آل عمران]، يقول: هذه الآية تصرّح باسمي، هذه الآية تتكلم عني، هذا بيان للناس.
وآخر أخرق اسمه (الكسف) أو ملقب بـ (الكسف) هو أبو منصور تنسب إليه طائفة يقال لها: (المنصورية) من أهل الضلال والبدع يلقب بالكسف، يقول: أنا المراد بقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [(44) سورة الطور].(1/19)
لو فرضنا أنك أنت المراد فما معنى: {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} ساقط من السماء، هل سقطت من السماء؟!
وإذا أردت أن ترى تندّر الشاطبي -رحمه الله- به أو بأمثاله فراجع الموافقات وانظر تعليقات الشاطبي على مثل هذا المثال.
وهذا عبيد الله الباطني الرافضي الملقب بالمهدي -تنسب إليه العبيدية- حينما ملك أفريقيه كان له صاحبان من كُتَّامه، ينتصر بهما على أمره، لقب أحدهما بنصر الله، ولقب الآخر بالفتح، ويقول: هما المراد بقوله -تبارك وتعالى-: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [(1) سورة النصر]، وعنده ناس يصفّقون له ويقولون: نعم صحيح.
ومنذ نلك الخزعبات أنك تجد بعض التكلّفات الفقهية عند فقهاء من المتعصّبة في الفقه، إذ تجد عجائب وغرائب في الفهم، ومن ذلك هذا الرجل الذي يقول: يجوز التزوّج بتسع نساء، قإذا قلت له: من أين جئت بهذا الحكم؟ قال لك: الله يقول: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [(3) سورة النساء]!!
جمع مثنى وثلاث ورباع: اثنين وثلاثة يساوي خمسة، ورباع: أربعة فالمجموع تسعة، فهو قال معناها: المجموع يجوز، معناه تخيَّر، أو تزوج ثلاث، أو تزوج أربع، وقد ردّ العلماء على هذا.
بعضهم قال: شحم الخنزير جائز، ما الدليل على أن شحم الخنزير جائز؟ قال: في القرآن، وأين الذي في القرآن يا أستاذ؟
قال الله -عز وجل- يقول: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [(145) سورة الأنعام]، إذن: الشحم جائز، قيل له: أصلاً اللحم يطلق على الأحمر والأبيض في كلام العرب فهذا داخل فيه الشحم.
وبعض الذين عندهم عقيدة معينة يريدون أن يحملوا النصوص تبعاً لعقيدته كأولئك الذين يقولون: إن الأنبياء لا تقع منهم المعصية، وإذا سئل ماذا تقول عن قول الله تبارك وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [(121) سورة طه]؟(1/20)
قال: غوى: من غوى الفصيل ولد الناقة، يعني شرب من الحليب حتى بشم، أي انتفخ بطنه، فآدم أكل من الشجرة حتى انتفخ بطنه، فهذا معنى عصى آدم ربه فغوى عندهم، وليس من الغواية التي هي المعصية وإنما انتفاخ البطن والبشم من كثرة الأكل!!
وابن جرير الطبري –رحمه الله- يردّ على مثل هؤلاء وبيّن أصل الكلمة من الناحية التصريفية وأن فهمهم أصلاً أعجمي.
وهذا آخر يتكلم على قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [(179) سورة الأعراف]، وهو عنده عقيدة أن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لم يقدر أفعال العباد -ينفي القدر– يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} خلقنا لجهنم هذا معناها، قال: لا، هذا ليس معناها، وإنما معناها ذرأنا لجهنم: يعني أن تذروه الرياح.
والحقيقة أن هذه غير هذه، والعلماء ردوا عليه على كل حال.
كذلك الذين ينفون صفات الله -عز وجل- مثل المحبة وأنه لم يتخذ إبراهيم خليلاً، نفوا الخلة، ماذا يقولون في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [(125) سورة النساء]؟
يقولون: اتخذه خليلاً من الخّلَّة يعني فقيراً، اتخذ الله إبراهيم فقيراً، والصواب أن هناك فرق بين الخُلَّة وبين الخَلَّة.
وهناك قاعدة معروفة وهي أن التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، والمعتزلة يسلمون بهذه القاعدة، وإذا أتينا إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [(164) سورة النساء]، فبناء على القاعدة تكون: تكليماً: مصدر مؤكد للفعل قبله كلّم تكليماً، ومع ذلك إذا سألت المعتزلة عن معنى الآية قالوا: جرّحه بمخالب الحكمة، فجعلوا كلَّم من الكلْم وهو الجرح، فهذا التأويل من إملاء الشيطان.(1/21)
ومن إملاء الشيطان تفسيرات الباطنية، ومن أمثلة ذلك تفسيرهم الجنابة بأنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، والغسل من الجنابة يعني تجديد العهد على من فعل ذلك، والطهور: التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام، والتيمم: الأخذ بالمأذون إلى أن يشاهد الداعي يعني أو الإمام، والصيام: الإمساك عن كشف أسرار المذهب والطائفة، والكعبة: النبي، والباب: علي، والصفا: النبي، والمروة: علي، ولهم أيضاً من هذه الخرافات ما يسمونه بالإعجاز العددي تشبه هذا تماماً، وسيأتي قريباً ضمن السلسلة.
وتوجد أيضاً نماذج من تفسير الصوفية والتي يسمونها بالتفسير الإشاري، وفيه أمثلة كثيرة منها:
تفسيرهم لقول الله -عز وجل- وهو يقول لبني إسرائيل لما قال لهم موسى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} [(67 -68) سورة البقرة]، قالوا: البقرة هي النفس تذبح بسكين الطاعة.
طيب وماذا عن قوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}؟ قالوا: هذا الصوفي لا في شرخ الشباب والطيش:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يعاصى كان جنوناً
فما هو في شرخ الشباب ولا في سن الكهولة والضعف والشيخوخة، بل هو متوسط، لا فارض ولا بكر، صارت البقرة هي الصوفي فالحاصل أنه: لا فارض ولا بكر، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ}.(1/22)
وقوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [(69) سورة البقرة]، قالوا: هذه صفرة وجوه أصحاب الرياضة -رياضة النفس- الصوفية، فهي صفرة العبادة، ما هي صفرة مرض؟ وجوههم صفر من العبادة وقيام الليل وصيام النهار، هذه البقرة الصفراء، {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}: أي أنها صفرة عبادة.
ثم قال: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [(71) سورة البقرة]، قالوا: هذا الصوفي ما هو فخاط في الأسواق ورايح جاي، خرّاج ولّاج في تجمعات الناس وأماكن أسواقهم وصخبهم والحراج وما إلى ذلك، بل هو جالس في خلوة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها.
كذلك في قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [(35) سورة البقرة]: هذا الكلام لآدم -صلى الله عليه وسلم- وحواء، قالوا: لا، معناها ليس هو الأكل حقيقةً، وإنما مساكنة الهمّة لشيء سوى الله -عز وجل-.
وقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [(96) سورة آل عمران]، قالوا: باطن البيت قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولهم خرافات في حساب الجمّل كالكلام عن الأعداد وفواتح السور ويذكرون أشياء في عمر الأمة وخراب بعض الدول، وأشياء في نهاية العالم، وأمور باطلة، لا أساس لها، وهذا العلم هو من علوم اليهود لا يجوز أن يبنى عليه استنباط وفهم وحكم.
نماذج مما يسمى بأسرار الرسم العثماني:(1/23)
مما يذكرونه ويدعونه في أسرار الرسم العثماني ما يقولونه في كتابة الألف الزائدة في قوله تعالى: {لَأَْذْبَحَنَّهُ} [(21) سورة النمل]، كيف كتبت بالرسم العثماني؟ كتبت هكذا في الرسم العثماني: {لَأَاْذْبَحَنَّهُ}، فيها ألف زائدة، طبعاً مؤلف كتاب في الرسم العثماني اسمه أسرار الرسم العثماني، يقول: لا دخل لعثمان ولا غير عثمان في رسم المصحف، ليس لهم من هذا الرسم العثماني ولا ذرة، كله متلقى من الله مباشرةً، ويقول: كل هذا له أسرار.
يقول: هذه الألف تدل على معنى أن المؤخر أشد في الوجوب من المقدم عليه لفظاً، فهنا ماذا قال سليمان -صلى الله عليه وسلم- للهدهد حينما توعّده؟
قال تعالى عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُاْعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [(20 -21) سورة النمل]، قال: الزيادة هنا تدل على زيادة تنكيل، ومعناها أن الذبح أشد من: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}.
وهذا مثال آخر:
في قول يعقوب -صلى الله عليه وسلم- لأبنائه: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [(87) سورة يوسف] كتبت في الرسم العثماني هكذا: {وَلاَ تَاْيْئسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [(87) سورة يوسف].
ومثل هذا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [(31) سورة الرعد].
إذن: لدينا الألفاظ الآتية: {لا تاْيئسوا}، {إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ}، {أفلم ياْيئس} هكذا كتبت بالألف الزائدة، فلماذا زيدت هذه الألف؟(1/24)
يقولون: زائدة لتدل على أن الصبر وانتظار الفرج أخف من الإياس، والإياس لا يكون في الوجود إلا بعد الصبر والانتظار، وبعبارة أخرى يقول: زاد في كلمة تيأسوا حرفاً؛ ليدل على أن اليأس ليس كالصبر، فالصبر أخف من اليأس، فاليأس له آثار سلبية ويسبب عندك مشاكل واكتئاب واضطرابات وقلق، والصبر يجعل الإنسان رزين ويتحلى به ويؤجر وما إلى ذلك، فيقولون: لزيادة نكاية اليأس زاد فيه ألف في الرسم، وفي قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [(18) سورة العلق]، كتبت {سندع} هكذا، ما كتب معها واو الجمع والألف الفارقة (سندعوا الزبانية) ولم تسبق بجازم حتى يحذف حرف العلة، فلماذا حذفت الواو؟
يقولون: حذفت الواو من (نَدْعُ)؛ لأن فيه سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش، أي: سندع مباشرةً ويأتون بسرعة فائقة فحذفت الواو.
طبعاً نحن نعرف أن الرسم العثماني ليس بتوقيفي، وأنه اصطلاح كتبوا به القرآن في زمن عثمان -رضي الله تعالى عنه- ومصاحف الصحابة مكتوبة ليست على طريقة الرسم العثماني، والقرآن كان يكتب بالعسب واللخاف وما إلى ذلك، وما روعي فيه قواعد معينة في الكتابة، وما يذكرونه من الأدلة على أن الرسم العثماني كان توقيفياً، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية: حرّف القلم ونحو ذلك من الكلام، فهذا لا يصح ولا يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم إن السلف أعلم الأمة ما أشاروا إلى هذا العلم الذي استنبطه هؤلاء.
قاعدة أخرى: "لا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث": سمعت أساتذة متخصصون في العقيدة يتكلمون عن الأحاديث التي ورد فيها أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، يقول: الذرة معلوم أنها تتكون من سالب وموجب، يوجد منهما شحنة كهربائية، وهذا هو النفي والإثبات في لا إله إلا الله في التوحيد، فمعناها أنه الذي لا يوجد عنده النفي والإثبات لا يستحق الخروج من النار إذا كان توحيده منخرماً.(1/25)
إن الذرة بهذا المعنى اصطلاح جديد للمعاصرين في أن هذا الجزء الصغير المكون من سالب وموجب.. الخ، لكن ما يجوز أن تحمل عليه اصطلاح القرآن وألفاظ القرآن فتفسرها بهذا التفسير، وإنما الصواب هو أن االذرة هي صغار النمل، في اصطلاح المخاطبين بالقرآن، هذا هو اصطلاحهم فلا يجوز لإنسان يأتي ويفسّر القرآن، كما قال كثير من أصحاب التفسير العلمي في القرن الماضي في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [(7 -8) سورة الزلزلة]، كانوا يقولون: هذا إعجاز علمي؛ لأن العلم أثبت أن أصغر شيء هو الذرة فالله مثّل بها في الصغر.
والآن اكتشفوا أن هناك ما هو أصغر من الذرة بل رأيت أحد الذين ينتقدون المتسرعين في التفسير العلمي ويقول ينبغي التريّث، رأيته يذكر هذا المثال، ويقول: ليس بعد الذرة إلا تحطيم الذرة، يعني مؤمن بهذا المثال مسلّم له.
كيف تحملون قول الله -عز وجل-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} على هذه الذرة التي اصطلحتم عليها؟
وإنما هي صغار النمل؛ لأنهم –المخاطبين- هكذا كانوا يفهمون، فيجب حمل ألفاظ القرآن على ما كانوا يفهمون، ولا يجوز أن نحمله على المصطلحات الجديدة.
أيضاً كلمة (قرية) في اصطلاحنا المعاصر نطلقها على مجمع البنيان الصغير، ومدينة على مجمع البنيان الكبير، فلما تأتي وتقرأ قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [(13) سورة محمد]، فلا يجوز أن تفهم منها أنها هي المجمع الصغير للبنيان، أو البلدة الصغيرة؛ فهذا خطأ وانحراف في الفهم، وإنما القرية والمدينة بمعنىً واحد عند المتقدمين هي مجمع البنيان، فهذه قاعدة أيضاً لا بد من فهمها والتنبه لها: "لا يجوز حمل ألفاظ الكتاب على اصطلاحٍ حادث".(1/26)
ومن القواعد أيضاً التي ينبغي فهمها القاعدة التي تقول: "القرآن عربي فيسلك به في الاستنباط والاستدلال مسلك العرب في تقرير معانيها".
هذه بعض القواعد، والشاطبي -رحمه الله- تكلّم على هذه المعاني في كتابه: الموافقات، وهي موجودة في قواعد التفسير.
أولاً: التعريفات:
ما هي المعجزة؟
المعجزة: هي الشيء الخارق للعادة.
قهذا اللفظ ينبئ عن معناه الذي هو العجز، فمعنى ذلك أن الشيء إذا كان معجزاً فمعناه أنه يخرق عادة مثله، يعني أن هذا الذي جاءت على يده، هذه المعجزة يخرق عادة مثله من الناس، فلا أحد يستطيع أن يأتي بمثل ما جاء به، فهو يخرق عادة الناس.
وهذه المعجزة يعَرِّفونها عادةً بقولهم: هي أمر خارق للعادة على وجه التحدي، وهذا التعريف هو تعريف الأشاعرة، وليس بصحيح، فإن المعجزة لا يشترط فيها أن تكون على وجه التحدي؛ بدليل نبع الماء بين أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم- هل هذا كان يراد به التحدي؟ لا بل كان حينها بين أصحابه؟
وكذلك تكثير الطعام بين يديه هل يراد به التحدي؟ ما قصد به التحدي.(1/27)
بل هناك ما هو أوضح من هذين الدليلين، وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحصل له الشيء وهو يظن أنه لم يره أحد، ولم يقصد إطلاع الناس عليه، ومن ذلك حديث جابر في صحيح مسلم لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فمال عن الطريق ليقضي حاجته فتبعه جابر يريد أن يصب عليه الماء وهو لم يشعر، ونص الحديث كما في صحيح مسلم يقول جابر: "سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا وادياً أفيح، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ير شيئاً يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله))، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله))، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما -يعني جمعهما- فقال: ((التئما علي بإذن الله)) فالتأمتا، قال جابر: "فخرجت أحضر مخافة أن يحش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقربي فيبتعد -وقال محمد بن عباد: فيتبعد- فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف وقفة فقال برأسه هكذا -وأشار أبو إسماعيل برأسه يميناً وشمالاً- ثم أقبل فلما انتهى إليَّ قال: ((يا جابر، هل رأيت مقامي؟)) قلت: نعم يا رسول الله...الحديث"(1)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق – باب: حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3012) (ج 4 / ص 2306).(1/28)
فقول جابر: "فخرجت أُحْضِر -أي أعدو وأسعى سعياً شديداً- مخافة أن يحش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقربي فيبتعد، فدل ذلك على أنه إنما أسرع خشية أن يراه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل هذا قصد به النبي -صلى الله عليه وسلم- التحدي أو إظهار الإعجاز؟ ليس كذلك إذ لم يكن يشعر بأن جابر -رضي الله تعالى عنه- يراه.
فإذن: المعجزة لا يشترط فيها التحدي، قد تذكر على سبيل التحدي، وقد لا يراد بها ذلك، وإنما هي الأمر الخارق للعادة مما يعجز عنه البشر.
الساحر يأتي بخوارق، لكن هل يعجز عنها مثله؟ لا، بل قد يأتي شخص آخر متعلم للسحر ويفعل أكثر مما فعل، فالسحرة يعرفون طرائق بعضهم، ويستطيع الساحر أن يبطل فعل الساحر أو أن يأتي بما يضاهيه، ولهذا ظن السحرة أن ما جاء به موسى -صلى الله عليه وسلم- من السحر فجاءوا بسحرٍ عظيم لإبطال معجزة موسى -صلى الله عليه وسلم- وهذا الإشكال هو الذي جعل الأشاعرة والمتكلمين حينما اشترطوا التحدي فيها، قالوا: يلتبس السحر مع موضوع المعجزة؛ لأن السحر من الخوارق.
فالجواب: نقول: السحر لا يخرق العادة بإطلاق، وإنما يخرج عادة من لا يعرفون السحر، لكن لا يخرق عادة مثله من السحرة.
ولفظ المعجزات هذا اصطلاح ما جاء إلا في وقت متأخر، وإنما الذي في الكتاب والسنة (آيات الأنبياء) ثم بعد ذلك صار العلماء يعبرون بدلائل النبوة، وألفوا كتب في دلائل النبوة، مثل كتاب أبي نعيم وغيره، يقال: آيات الأنبياء، وبعد ذلك قالوا: دلائل النبوة، وما عرف استعمال لفظ المعجزة إلا في وقت متأخر، يمكن أن يقال: في أوائل القرن الرابع الهجري على يد بعض المتكلمين.(1/29)
هناك رجل يقال له: محمد بن يزيد الواسطي المتوفّى سنة 306هـ ألف كتاباً سمّاه: إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه، ويقال: إن هذا أول كتاب ألف –أو هو على الأقل أول كتاب وقفنا عليه في موضوع إعجاز القرآن- ولا مشاحاة في الاصطلاح، لا مانع من تسمية هذه الخوارق التي تظهر على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباع الأنبياء بالمعجزات، وهذا الاصطلاح، اصطلح الناس على أن ما يظهر على أيدي الأنبياء يقال له: معجزات، وما ظهر على يد أتباعهم من الخوارق أنهم يسمونه بالكرامات، والواقع أن هذا جميعاً من دلائل النبوة، فالآيات التي يظهرها الله -عز وجل- على يد أتباع الأنبياء هي مؤيدة للأنبياء الذين تبعهم هؤلاء الأتباع، فالطريق الذي يسيرون عليه مما رسمه لهم الأنبياء طريق صحيح، فأظهر الله هذه الخوارق على أيدي هؤلاء الأتباع، فصارت تسمى بكرامات الأولياء، وإلا فإن كل ذلك من آيات الأنبياء ودلائل النبوة.
هل دلائل النبوة وآيات الأنبياء تقتصر على الخوارق فقط؟
الجواب: ليست مقصورة على ذلك؛ لأن آيات النبوة كثيرة منها ما يعرف من وجهه –صلى الله عليه وسلم- أنه صادق، أي ما في وجهه من البهاء والنور والإضاءة والإشراق، ولقد رآه عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- فقال: "عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب"، فهذه من دلائل النبوة.
ومن دلائل النبوة حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- كان يلقب بالصادق الأمين، فهذا كله من دلائل نبوته، ومن دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم– طيب رائحته، ومن دلائل نبوته أمانته ووفائه، كل ذلك من دلائل النبوة، فليست كل دلائل النبوة معجزات، بل دلائل النبوة منها ما هو معجزات ومنها ما هو غير ذلك وهذه دلائل النبوة منها ما يظهر على يد النبي، ومنها ما يظهر على يد بعض أتباعه، وكلها من دلائل نبوته، فهذه هي المعجزة ودلائل النبوة وآيات الأنبياء.
ما هو الإعجاز العلمي:(1/30)
نحن نعرف أن العلم هو معرفة الشيء على حقيقته، هذا هو العلم أياً كان، سواءً كان في العلوم الإنسانية أو كان ذلك في العلوم المادية التطبيقية التجريبية، أو غير ذلك، فهذا كله يقال له: علم.
لكن في القرنين الأخيرين صار يقال: العلم والعلمي وما إلى ذلك من التخصصات للعلوم التطبيقية والتجريبية والمادية، وصار يقال –جهلاً-: فلان المتخصص في الكيمياء علمي، وفلان المتخصص في الفقه أدبي! وعلى كل حال، ليس المقصود مناقشة هذه القضية لكن حينما يقولون: الإعجاز العلمي، ما المقصود بالإعجاز العلمي؟
يمكن أن يقال عن الإعجاز العلمي: هو إخبار القرآن الكريم، أو السنة بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراك هذه الوسائل البشرية في زمن المخاطبين بالقرآن، مما يدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحة نسبة القرآن إلى الله تبارك وتعالى.
وهذا تعريف الإعجاز العلمي الذي يقصدونه هم، وإلا فالإخبار عن المغيّبات فهذا من الإعجاز العلمي أليس كذلك؟ أليس الكلام عن المغيبات من العلم الذي أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- فوقع كما أخبر، ومن ذلك قوله تعالى: {ألم* غُلِبَتِ الرُّومُ} [(1-2) سورة الروم] أليس هذا من الإعجاز العلمي؟
بلى، ولكن المقصود عند المتأخرين أو عند المعاصرين بالإعجاز العلمي لون خاص من الإعجاز، ولا مشاحّة في الاصطلاح، إذ لا إشكال أن يصطلحوا عليه بمعنى خاص، فلا ننازعهم في كونهم قصدوا به معنىً معيناً وهو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقةٍ أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراك هذه الوسائل البشرية في زمن المخاطبين بالقرآن، مما يدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحة نسبة القرآن إلى الله تبارك وتعالى.
ما هو التفسير العلمي؟:(1/31)
التفسير العلمي: هو تفسير السلف، هذا هو العلم الصحيح، لكن باصطلاحهم ولا مشاحاة في الاصطلاح يقصدون به معنىً خاصاً، ما هذا المعنى الخاص في اصطلاحهم حينما نقول التفسير العلمي؟
يقصدون به التفسير الذي يحكِّم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم منها.
طبعاً انتقيت أفضل التعريفات، وإلا فهناك تعريفات أخرى ليست مضبوطة ولا صحيحة، لكن هذه التعريفات هي الأقرب.
ما هي النسبة بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي، أو ما الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي؟ أو نسأل بطريقة أخرى فنقول: أيهما أعمّ الإعجاز العلمي أم التفسير العلمي؟
معروف أن التفسير العلمي أعمّ من الإعجاز العلمي، والعجيب أني رأيت أحد الكاتبين كتب يقول: إن الإعجاز العلمي أعمّ، ثم تتابع طائفة غير قليلة ممن كتبوا يرددون نفس العبارة -أن الإعجاز العلمي أعمّ- وهذا ليس بصحيح؛ لأن التفسير العلمي منه قضايا هي من قبيل الإعجاز، وهناك قضايا ليست من قبيل الإعجاز، فحينما يأتي إنسان ويتكلم عن قوله -تبارك وتعالى-: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [(39) سورة يس]، ويبدأ يتكلم عن قضية منازل القمر وكلام أهل الفلك في ذلك فهل هذا إعجاز؟
لا، ليس بإعجاز، وإنما يسمى هذا تفسيراً علمياً.(1/32)
لكن حينما يذكر الله -عز وجل- مراحل خلق الجنين: من نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم يخبر الله -عز وجل- وأنه جعل المضغة عظاماً ثم يكسوها لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر، ثم يذكرون تفاصيل ذلك مما عرفوه، حديثاً عن طريق التشريح ومراقبة الجنين وما إلى ذلك ويذكرون تفاصيل دقيقة جداً توافق هذا الكلام، من غير تكلف، فهذا يسمى إعجازاً؛ لأنه لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- مشرحة؟ ولا آلات تراقب الجنين في بطن أمه، ولم يكن الناس في ذلك الوقت يعرفون هذه التفاصيل بهذه الدقة، ولذلك احتار العلماء في هذا العصر في مثل هذه المسائل، فهذا إعجاز هو تفسير علمي وهو متضمن لإعجاز، وبهذا يظهر الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، وأن الإعجاز العلمي أخص من التفسير العلمي، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(1/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
الجذور والبواعث والحكم
الشيخ/ خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن مقدمة تشتمل على أمرين:
الأول: في ذكر بعض النماذج من حال السلف -رضي الله تعالى عنهم- في تورعهم في الكلام في التفسير.
والأمر الآخر: في ذكر بعض القواعد التي لها تعلق مباشر بموضوعنا هذا.
وبعد ذلك ذكرت بعض التعريفات –تعريف الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي، والفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي- وذكرت عند ذكر القواعد نماذج من تلاعب بعض طوائف أهل البدع في تفسير القرآن، ولربما ظن البعض أن تلك النماذج تعني الحديث عن أهل الإعجاز العلمي، وليس هذا هو المراد، فالكلام الذي كنت أذكره هو أني كنت دائماً أقول وأقصد ما أقول، أقول: (الغالب - كثير منهم – بعضهم...) ولم أعمِّم في الحكم، وذكرت أنني سأذكر بعض القواعد ثم بعد ذلك نستعرض هذه الأشياء، ونستخرج الحكم عليها، ولم نصل إلى ذلك بعد، وكنت لا أريد أن استعجل حتى تنجلي الصورة لبعض من قد يظن وأنا أتحدث عن تلاعب تلك الطوائف في القرآن أني أقصد أهل الإعجاز العلمي هكذا برمتهم، وليس هذا هو المراد، فأنا لا أقصد ذلك؛ لأنهم ليسوا على وتيرة واحدة.
والذين يتكلمون في هذه الموضوعات كلامهم في غاية التباين، وسترون هذا بإذن الله -عز وجل- وحتى تعرف ما سأصل إليه -وإن كنت لا أحب أن أستعجل- فأنا مما يعتقد صحة الإعجاز العلمي، مع أني سأسوق لكم مجموعة من أقوال علماء معاصرين وغير معاصرين، وكُتَّاب وأدباء وغيرهم ممن شنّوا حملةً شعواء على أصحاب التفسير العلمي، والإعجاز العلمي، ومنهم كُتَّاب وعلماء تعرفونهم جيداً، وسأذكر كلامهم، فهم يرون رد هذا من أوله إلى آخره، ومن الناس من فتح الباب على مصراعيه.(1/1)
وأنا أقول بالتوسط والاعتدال في الأمور، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والإنسان -وكما قلت سابقاً- يجب أن يتكلم بعلمٍ وعدل، وعليه فسأذكر أمثلة كثيرة منها ما أستطيع أن أقول: إنه معنىً صحيح، ومنها ما أستطيع أن أقول: [لربما، ممكن، الآية تحتمله ولكن لا نجزم بصحته، ولا نجزم أيضاً برده وخطئه].
هذه النتيجة التي كنت أريد أن أصل إليها في النهاية، ولكن لربما فهم بعض الإخوة من كلامي على بعض الطوائف التي تلاعبت بالقرآن أن المقصود هو أصحاب الإعجاز العلمي أو التفسير العلمي، والحقيقة أن ذلك ليس ذلك مراداً.
ثانياً: الجذور التاريخية بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي:
دعونا نتحدث عن التفسير العلمي؛ لأن الإعجاز العلمي هو جزء من التفسير العلمي، فإذا قلنا: التفسير العلمي دخل فيه الإعجاز العلمي، هل يوجد سلف للمشتغلين من المعاصرين بالتفسير العلمي؟ يعني هل لهم جذور؟ هل تكلم أحد من العلماء المتقدمين على هذه القضايا؟ وكلامهم كيف نقيّمه؟ وهل لقي قبولاً وتسليماً عند علماء آخرين؟ أم أنهم ناقشوه أو اعترضوا عليه، أو قبلوا بعضه وردوا بعضه؟(1/2)
هذه القضية ليست جديدة، بل هي قديمة، مضى عليها قرون متطاولة، ونستطيع أن نقول بكل اطمئنان: إنها كانت موجودةً عند بعض الكاتبين والمؤلفين قبل عصر النهضة في أوروبا، أي أنها وجدت عند المسلمين في وقت قيام حضارتهم، وأوروبا كانت تعيش فيما يسمى بعصور الظلمات، وحينما ترجمت كتب اليونان إلى المسلمين في عهد المأمون، تُلُقِّفت هذه الكتب، وهي كتب متنوعة في الفلسفة والمنطق والفلك والطب وما إلى ذلك، فالحاصل أن هؤلاء اللذين تلقفوها منها أشياء مقبولة وصحيحة ومنها أشياء فاسدة كالفلسفة والمنطق اليوناني وما إلى ذلك، فأخذوها وترجموها ثم ذاعت وانتشرت كما أشرت بالأمس، وجاء من يقول بأن العالم لا يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يتحقق من هذه العلوم -العلوم الكلامية والمنطق- وجاء من يقول: لا يوثق بعلم من لم يتحقق من هذه العلوم، ولا يمكن أن يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يحصلها، فاستفز ذلك العلماءَ فصاروا يتسارعون على أخذ هذه العلوم ودراستها وأدخلوها في تصانيفهم -في أصول الفقه في التفسير في شروح الحديث وفي مصطلح الحديث والبلاغة والنحو وما إلى ذلك- ولذلك تجدون صعوبةً في هذه العلوم، لماذا هذه الصعوبة؟ لأنها تشتمل على مصطلحات مأخوذة من كتب اليونان، حينما يقال: السبر والتقسيم، حينما يقال: القضية الحملية، حينما تذكر الجنس البعيد والجنس القريب والفصل والخاصة والرسم، هذا الكلام كله تجدونه في كتب أصول الفقه، وتجدون بعضه في البلاغة وفي النحو، وما إلى ذلك، كلامهم على المبتدأ والخبر تجدون في بعضه أشياء هي في الواقع من علم المنطق فصارت هذه العلوم صعبة، صار النحو صعباً لا يحبه الطلاب وصارت البلاغة مغاليق، وصار أصول الفقه من أصعب العلوم بينما هي علوم ميسّرة وسهلة ولم تبلغ إلى هذا الحد.(1/3)
إذا نظرنا إلى المتقدمين الذين تلقّفوا كثيراً من هذه الأشياء وأدخلوها في كتبهم سواء أدخلوها على سبيل القبول حينما تعرض آية في كتاب الله -عز وجل- تتحدث عن الفلك –مثلاً- تتحدث عن القمر والشمس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [(38) سورة يس]، يأتون ويذكرون ما عندهم من هذه الأشياء في هذا الموضع، كثير من هؤلاء كانوا حينما يعرضونها يعرضونها على أنها تابعة لكتاب الله -عز وجل- وأن القرآن أصل في هذا الباب، وأن هذه مما تكشف عن معناه وتزيده إيضاحاً، فأدخلوا فيه أشياء لا حاجة إليها. وحينما نقول: لا حاجة إليها، لا نقصد أننا لسنا بحاجة إلى علم: الفيزياء أو الرياضيات أو الجبر أو الهندسة أو بعض علوم الفلك المفيدة للمسلمين لا نقصد هذا، لكن نقول: لا حاجة إليها لفهم القرآن، هذا هو المراد وإلا فيجب على المسلمين أن يتعلموا ويحصلوا هذه العلوم النافعة، وأن ذلك من فروض الكفايات، تأثم الأمة بتركها، كل قادرٍ مؤهل على تحصيلها يأثم إن وجد العجز عن المسلمين في شيءٍ من هذه العلوم، ولا يمكن أن تبنى حضارتهم إلا باجتماع أمرين: عمارة الدنيا بهذه الأشياء من العلوم التي تكون أسباباً للقوة، والأمر الآخر هو القيام بأمر الله -تبارك وتعالى- واتباع شرعه والارتباط به والركون إليه، لا بد من الأمرين مهما تدين الناس وصلحت أحوالهم مع الله -عز وجل- لا يمكن أن تقوم لهم قائمة في الدنيا وعمارة وحضارة ما لم يأخذوا بهذه العلوم، وهذا أمر مفروغ منه، وأرى أن من الحاجة أن أذكره؛ لأننا نخشى أن يفهم البعض أننا نريد من الناس أن يعودوا إلى عصور الجمال والبغال ويتركوا هذه العلوم، لا أحد يقول بهذا، لا أعرف مخلوقاً يقول بهذا، لكن هل هذه العلوم ضرورية لفهم القرآن؟
فالجواب: لا؛ لأنها لو كانت ضرورية لحصلت مشكلات لا تخفى.(1/4)
على كل حال كما قلنا: هذه الشريعة أمية- وقد خاطب الله -عز وجل- الناس بهذا القرآن بخطابٍ سهلٍ واضح، ولهذا تجدون حتى الأمثلة في القرآن أو نعيم الجنة حينما يذكره، يذكر الأعناب ويذكر الأشياء المدركة عندهم في بيئتهم، ما يذكر الكومثرا ولا يذكر اللوز ولا يذكر الأشياء أو الثمار التي لا توجد في بيئة المخاطبين، وحينما ذكر الدواب وعجائب خلق الله فيها، ذكر الجمل؛ لأنه يحيط بهم، لم يذكر الفيل مع أنه أضخم من الجمل، بل ذكر لهم أشياء يتصل ببيئتهم، حيث إن هؤلاء هم حملة الرسالة ينقلونها إلى العالمين إذا فهموها فهماً صحيحاً.
الحاصل أنه جاء من العلماء من قال: إن القرآن يحوي علوم المتقدمين والمتأخرين، يحوي علوم الأولين والآخرين، وأمثال أولئك الغزالي المتوفى سنة 505 للهجرة، نقل عن بعض أهل العلم في كتابه: الإحياء، وفي كتابٍ آخر له اسمه: جواهر القرآن، يقول -ليس الغزالي- وإنما من ينقل عنه الغزالي: يقول: إن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومأتي علم لاحظ سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم (77200) من العلوم يقول: موجودة في القرآن، إذ كل كلمةٍ علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمةٍ ظاهر وباطن وحد ومطلع لماذا يقولون هذا الكلام؟ بناءً على بعض الأخبار الواهية التي لا تثبت.
يقول: كل كلمة لها حد ومطلع وظهر وبطن، إذن: المعاني اضربها في أربعة، كلمات القرآن ضرب أربعة وتطلع عندك النتيجة في معاني القرآن والعلوم التي يمكن أن تستخرج من القرآن -هكذا قال-.
وفي كتابه: (جواهر القرآن) عقد فصلاً لكيفية إنشعاب سائر العلوم من القرآن، وذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالم، وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه، وعلم السحر.(1/5)
بعض المفسرين لما تكلم على قوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [(102) سورة البقرة] كتب كتابةً تصلح كتاباً مستقلاً في كتاب في التفسير يعلم فيه السحر، أو يذكر فيه تفاصيل السحر ويعتبر هذا أنه يشرح آية، يقول علم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك، وقد ذكر هذا أو ألمح أيضاً تلميذه: أبو بكر بن العربي إليه المتوفى سنة 543 في كتابه: (قانون التأويل)، وقانون التأويل هذا ذكر فيه رحلته إلى المشرق، وذكر لقيَّه لأبي حامد الغزالي.
جاء الرازي المتوفى سنة 660 للهجرة وألف كتابه الكبير: (مفاتيح الغيب)، وبدأ يطبق ذلك عملياً، يتكلم على الآيات بكلامٍ حينما تمر على آية مثلاً: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [(38) سورة يس]، كأنك تقرأ في كتابٍ متخصص في علم الفلك، كتابات لربما لا يفهمها إلا أهل الاختصاص.
فمثلاً: في قول الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} [(22) سورة البقرة]، بدأ يتكلم عن أن هذا يلزم منه أن تكون الأرض ساكنة، وبدأ يعلل لهذا اللازم، وبدأ يذكر بعض التبريرات وما يرى أنه أدلة، وتحدث أيضاً عن علم الفلك وترتيب الأفلاك ومعرفتها ومقادير الحركات.
كما تكلم على حركة الشمس وحصول الليل والنهار، وعلى حركة جميع الأفلاك عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [(164) سورة البقرة].
وكذا عند قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [(54) سورة الأعراف].(1/6)
جاء رجل آخر اسمه: أبو الفضل أو ابن أبي الفضل المرسي المتوفى سنة 755 للهجرة وقال -أيضاً-: إن القرآن يحوي علوم الأولين والآخرين، وقال: إنه احتوى على علم الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة وعلم النجوم وعلم الآثار، ثم بدأ يتكلم على بعض الآيات.
ثم جاء السيوطي المتوفى سنة 911 للهجرة وذكر هذه القضايا وأكد عليها في ثلاثة كتب، في كتاب: (الإتقان)، وهو خزانة علوم القرآن ذكر هذا فيه، وفي كتاب: (معترك الأقران)، وفي كتاب: (الإكليل في استنباط التنزيل)، وبدأ يطبق هذه الأشياء، يقول مثلاً: الطب مداره على حفظ الصحة واستحكام القوة، وبدأ يتكلم عن وجود الطب في القرآن، وبدأ يتكلم على علم الهيئة، وعلى علم الجبر وأنه مأخوذ من أوائل السور -الحروف المقطعة- وأن كل حرف يدل على رمز، ثم بدأ يتكلم عن قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} [(4) سورة الأحقاف]: وأن هذا يؤخذ منه علم النجَّامة، وتكلم عن الهندسة وأنها موجودة في القرآن، وأن القرآن اشتمل على علم الهندسة، وذكر مثالاً لذلك في قوله -تبارك وتعالى-: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [(30) سورة المرسلات]، قال: فإن فيه قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له.
الآن في الآية يقول الله -عز وجل- عن أهل النار: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ* لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ* إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [(30 - 33) سورة المرسلات]، وهو يتحدث عن نظرية هندسية تتعلق بالمثلث!!
وعلى كل حال السيوطي كان ينطلق من قوله -تبارك وتعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [(38) سورة الأنعام]، ومن قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [(89) سورة النحل]، وتحمس لمثل هذا النوع.(1/7)
السيوطي يعتبر متأخراً ثم إن الفترة التي جاءت بعده تعتبر فترة ركود في التأليف وركود في كل شيء، ثم جاء العصر الحديث، وجاءت فترة الانبهار بالحضارة الغربية ومعطياتها في أوائل البعثات، وذلك حينما ذهبت البعثات من مصر الواحدة تلو الأخرى في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وتعرفون ما حصل هناك حينما كانت البعثات تذهب ومعها مرشد ديني كرفاعة الطهطاوي، فينقلب المرشد مثل رفاعة الطهطاوي فيدرس في فرنسا اللغة الفرنسية، ويدرس مع البعثة ثم يرجع في حالٍ تعرفونها، يرجع وهو ينتقد كل شيء مما عليه الناس، ينتقد الحجاب، ويرى نزع الحجاب، ويرى الأخذ بما عليه الحضارة الفرنسية أو الأوروبية في كل شيءٍ من الأشياء.
بل إنه تكلم على أشياء غريبة جداً، تكلم عن الرقص، فقال: الرقص في المشرق يعتبر عيباً لكنه في فرنسا شيء آخر، ليس فيه أي شيء من العيب ولا فيه ما يدنس الأفكار والأخلاق والعرض والشرف، إنما هي توازن في الحركات فقط وليس فيه أي غضاضة، وأي امرأة تدعوها وتستضيفها وتعمل لها وليمة أو عشاء أو نحو ذلك هي تراقصك، ثم يدعوها الآخرون، في كل يومٍ يدعوها واحد، ثم يراقصها، ويرون أن ذلك من باب الموازنة في الحركات فقط وليس كالرقص المصري، هذا الآن شيخ الحملة أو شيخ البعثة التي ذهبت إلى فرنسا، هم ما رجعوا يقولون هذا الكلام، وهو رجع وألف كتباً تعرفونها.
جاء الطبيب محمد بن أحمد الإسكندراني المتوفى سنة 1306 للهجرة وألف كتاباً اسمه: (كشف الأسرار النورانية القرآنية في ما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية)، هذا عنوان الكتاب، جاء وذكر أشياء كثيرة مما يتعلق بالتفسير العلمي.(1/8)
جمال الدين الأفغاني أول ما جاء وهو شخصية تعرفونها -شخصية غامضة- جاء من المشرق وربما من إيران، وتلقب بالأفغاني وليس بأفغاني، ثم جاء إلى مصر وهي محط أو المحطة الثقافية في البلاد الإسلامية، وفيها الأزهر، وكان الناس يعلمون بالطريقة المعهودة التي تخرج فيها العلماء في النحو والقراءات والأصول والتفسير وغيره، فجاء جمال الدين الأفغاني وصار يطرح طرحاً جديداً، فالتف حوله طائفة من طلاب الأزهر وكل جديدٍ يستهوي -على كل حال - بدأ يطرح لهم أشياء جديدة، وبدأ يطرح لهم أشياء تتعلق بالتفسير العلمي، ويأخذ أشياء مما يقوله أو من معطيات الحضارة المعاصرة ويربطه بالقرآن، وجمال الدين الأفغاني متوفى سنة 1315هـ، وكان من أبرز تلامذته الذين تخرجوا على يده محمد عبده.
جاء عبد الرحمن الكواكبي المتوفى سنة 1320 للهجرة وألف كتاباً اسمه: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، ويشير بهذا العنوان إلى الذين يعارضون هذه الأشياء ويجمدون على النمط القديم، وذلك في نظره من الاستبداد والاستعباد.
وصف القرآن بأنه شمس العلوم وكنز الحكم، فذكر أشياء كثيرة وحاول أن يربط بين الآيات القرآنية وبين ما ظهر في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي من علوم ونظريات.
الشيخ محمد عبده وجدت عنده هذه الأشياء لكنه كان يدعو إلى شيءٍ من التريّث والتأدب مع القرآن وعدم زجّ الآيات القرآنية في كل نظرية لم تثبت، هذا من الناحية النظرية، لكن سترون كيف فسّر بعض الآيات.
كذلك مصطفى صادق الرافعي في كتابه: (إعجاز القرآن) يميل إلى هذا، توفي سنة 1356 للهجرة.
هذه جذور هذه المدرسة التي تشتغل بالتفسير العلمي.
ثالثاً: بواعث الاشتغال في التفسير العلمي:
ما هي بواعث هؤلاء؟ أو لماذا فعلوا ذلك؟(1/9)
نحن قلنا: الأمة مرت بمرحلة انبهار، أعقبتها مرحلة استعمار كرّس فيها المستعمر طاقته وجهده على تغريب الأمة ودحرها وتحطيم معنوياتها، وتحطيم كل ما هو قائم مما يصلح أن ينتفع به أو يبنى منه حضارة، حطم أخلاقها، حطم عقائدها، أراد أن يمسخهم في شخصيته، وأن يذوبوا في أحضانه، هذا الذي كرسه الاستعمار، حينما خرج من بلاد المسلمين ماذا فعل؟ ما هي الحضارة التي أقامها؟
لا شيء، إنما حطمهم وابتزهم إلى النخاع، كانت بعثات تذهب هناك، تذهب بكميات هائلة، وجدت مدارس الإرساليات التنصيرية في بلاد المسلمين، في الشام وفي غيرها كتركيا، ومصر، وأندونيسيا، وفي بلادٍ كثيرة من بلاد المسلمين، فخرَّجت الكثيرين ممن يفكرون بعقولهم.
في هذه المرحلة بدأ يتحرك بعض الغيورين، وأرادوا أن يعيدوا الأمل في نفوس المسلمين الذين تحطمت نفوسهم ليقولوا لهم: إن هذه الحضارة التي انبهرتم بها موجودة في القرآن، وإن في القرآن من الآيات والنصوص ما يدل على هذه المكتشفات التي ننظر إليها ونحن -في تصنيفهم- في طائفة المتفرجين الذين لا يسمعون عنها إلا بعد تطاول السنين، لا يسمعون عنها حتى تصدر أو تنتجها أبحاثهم وأفكارهم، فليس لنا منها إلا السماع بعد أزمنة متطاولة، فأرادوا أن يقولوا لهم: لا؛ فأنتم إن لم تستطيعوا اكتشاف هذه الأشياء -أيها المسلمون- ولكنكم في الواقع تجدونها مرصودة في كتاب الله -عز وجل- دل عليها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.
انطلقوا من هذا المنطلق وأرادوا أيضاً جذب غير المسلمين إلى الإسلام، وبالذات الغربيين، يعني أرادوا أن يقولوا للمسلمين: لا تنزعجوا، لا تتشككوا في كتابكم، لا تتخلوا عن دينكم، فهذا القرآن يحتوي على هذه الأشياء، وأنتم -أيها الغرب- الذين امتلأتم غروراً من اكتشاف هذه الأمور، فهي موجودة عندنا في كتابنا، فهذه دعوة لهم إلى الإسلام.(1/10)
قالوا: هذا هو عصر المكتشفات وعصر العلم وعصر التكنولوجيا فينبغي أن نبزر جانباً من جوانب الإعجاز لهؤلاء الناس الذين لا يفقهون فصاحته وبلاغته؛ لعجمتهم، وكذلك العرب فإن ألسنتهم قد تكدرت وتغيرت، قالوا: نبرز لهم جانباً -وجوانب الإعجاز كثيرة جداً، فالصحيح أنه لا يقتصر على جانبٍ واحد- نبرز لهم جانب الإعجاز العلمي، وهم بين متوسعٍ في هذا للغاية وبين مقل، يتفاوتون غاية التفاوت، منهم من حول كتابه في التفسير إلى شيءٍ آخر حتى قال عنه بعض أهل العلم: فيه كل شيء إلا التفسير، كما سيأتي في بعض الأمثلة.
جاء من يقول: نريد أن نقرب إلى أصحاب هؤلاء أهل الحضارة المادية الذين لا يؤمنون بالغيب، نقرب لهم حقائق القرآن، فجاء من يقول بأن الجن هي عبارة عن الشر الموجود، وليس ثمة وجود للجن حقيقة، والملائكة هي الأرواح الطيبة أو المعاني الطيبة أو شيء من هذا القبيل، وجاء من يقول بأن الطير الأبابيل هي الميكروبات.
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [(4) سورة الفيل]، هو الطين الذي يعلق بأرجل البعوض من المستنقعات فيسقط على هؤلاء فتصيبهم الميكروبات، يقول: الطير الأبابيل هي الميكروبات، ومن تلطّف قليلاً قال: هي البعوض يحمل بأرجله من طين المستنقعات، لماذا تقولون هذا الكلام؟ قالوا: لأن هؤلاء الغربيين لا يؤمنون بالغيب.(1/11)
إن الذين شاهدوا هذه الآية من قريش حينما أنزلها الله –جل وعلا- كانوا يعرفون هذا، ومنهم من عاصر هذه الحادثة فما جاؤوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أين أصحاب الفيل؟ وأين الطير الأبابيل؟ فلو كان ذلك غير صحيح لسارعوا إلى إنكاره؛ خاصة أنهم أحرص ما يكونون على تكذيب القرآن وإبطاله، أضف إلى ذلك ما كان يشعر به كثير من المسلمين، ومنهم بعض من كان يتكلم على هذه الأشياء ما يشعرون به من الهزيمة الداخلية فتكلفوا وحملوا القرآن على أشياء لا يجوز أن يحمل عليها كما سترون، ولذلك جعلوا القرآن في أغلبهم وعامتهم تابعاً لهذه النظريات، يعني تجده يتكلم عن النظرية على أنها قضية مسلمة، ثم يأتي بالنص القرآني على أنه تابع لها، لا أن يجعل النص أصلاً ويجعل النظرية تابعة له.
أضف إلى ذلك سوء فهم طبيعة القرآن كما قلت لكم في الدرس الماضي: إن بعضهم بدعي بأن القرآن إن لم يشتمل على الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلوم الذرة فإنه لا يصلح لعصرنا هذا، يقول ذلك من باب التأكيد أن القرآن مشتمل على هذه الأشياء جميعاً!
فهؤلاء ما فهموا طبيعة القرآن والأمر الذي أنزله الله -عز وجل- من أجله، فوقعوا في ما وقعوا فيه.
إذن: البوادر والبواعث التي عندهم كانت بواعث طيبة، قصدها حفظ المسلمين وأيضاً دعوة هؤلاء الكفار، لكن ليس كل مجتهدٍ مصيب، فوقع في ذلك أشياء كثيرة مما سترون.
رابعاً: أقوال العلماء والباحثين في هذا النوع من التفسير:
أقوال العلماء والباحثين قديماً وحديثاً ما رأيهم في هذا النوع؟
هؤلاء العلماء والباحثون يمكن أن نجعلهم على ثلاثة أقسام:(1/12)
القسم الأول: الممانعون المعارضون الذين يردون ذلك ويشنعون على أصحابه، وهؤلاء كثير جداً، وعلى رأسهم الشاطبي -رحمه الله- في كتابه: (الموافقات)، فقد كان ينكر ويشدد النكير على هؤلاء الذين نسبوا إلى القرآن كل علم، ومن هؤلاء نسبوا إلى القرآن كل علم من مر بنا قبل قليل كالغزالي وابن العربي، وكذا من جاء بعدهم ووافقهم على ذلك.
فالشاطبي كان يشدد على هؤلاء، ويبين أن كلامهم ليس بصحيح، وأن هؤلاء تجاوزوا الحدود في الدعوى على القرآن، وأضافوا إليه كل العلوم من علوم الطبيعيات والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها.
ثم بدأ الشاطبي -رحمه الله- يتكلم على أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيءٍ من هذا المدعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، فالسلف ما خاضوا فيه وهم أبصر الأمة وأعلم الأمة، إذن: لا يجوز لنا أن نخوض فيه، طبعاً هذا الكلام قد لا نسلم به على إطلاقه، لكن هكذا قال الشاطبي -رحمه الله- بل إنه كان يقول أكثر من هذا، وكان يرى أن لا يتشاغل باللطائف البلاغية ولطائف المعاني وإن كانت صحيحة، وهناك نكات في المعاني لطيفة تستنبط وتستخرج، يقول: لا، بل نبين المعنى الأصلي ولا نشغل الناس بهذه المعاني الدقيقة واللطائف والنكات البلاغية؛ لأنها تشغل عن المقصود الذي نزل من أجله القرآن.
نحن نقول: ينبغي التوسط، فالذين أغرقوا في ذكر اللطائف حتى إنك إذا قرأت كلامهم في التفسير يضيع عليك المعنى الأصلي الذي نزلت الآية من أجله نقول: هذا غير صحيح.(1/13)
نحن يمكن أن نجمع بين هذا وهذا، فنذكر المعنى الأصلي ونؤكد عليه، نقول: الآية دلت على كذا وكذا ويستخرج منها كذا وكذا وكذا وكذا، فنجمع بين البيانين -البيان المجمل والبيان المفصل- هذا ما أظنه أقرب في هذه القضية، وعلى كل حال فالشاطبي له رأي يشدد فيه، ليس في التفسير العلمي بل في هذه اللطائف.
وممن كان يشنّعون على أصحاب التفسير العلمي الشيخ محمد شلتوت -رحمه الله- تكلم على هؤلاء وقال: إن هؤلاء المثقفين الذين أخذوا بطرفٍ من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئاً من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون القرآن على مقتضاها... إلى أن قال: ففسروا القرآن على أساسٍ من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.
يقول: نظروا في القرآن على هذا الأساس فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزل الله القرآن، فإذا مرت بهم آية فيها ذكر المطر أو وصف للسحاب أو حديث عن الرعد أو البرق تهللوا واستبشروا وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب وكيف ينشأ...الخ.
تكلم على هذه القضية وقال: هذه نظرة خاطئة بغير شك؛ لأن القرآن كتاب هداية، وقال: هذه قضية خطيرة؛ لأن العلوم غير مستقرة وأنها متطورة، وأن النظريات تتجدد وتتغير، وهذا يعني التشكيك بالقرآن، ونسبة الخطأ الذي يقع في هذه النظريات إلى القرآن.
هذه خلاصة كلام الشيخ محمد شلتوت وهو من أكثر من رد هذه الطريقة وقال: يجب أن ندعو إلى عظمة القرآن وجلاله بالمحافظة على مهابته وقدسيته دون الاجتراء عليه بهذه الطرق والصور التي فعلها هؤلاء.(1/14)
ومن الذين ردوا التفسير العلمي أيضاً الأستاذ أمين الخولي، له بحث بعنوان: إنكار التفسير العلمي، وله رسالة اسمها تفسير معالم حياته ومنهجه اليوم رد على هؤلاء.
وممن أشار إلى تحفظه على الأقل، وإن كان وقع في أشياء غريبة في التفسير الشيخ/ محمد رشيد رضا -رحمه الله- مع أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كما حدثني أحد تلامذته كان قد كتب للشيخ محمد رشيد رضا رسالةً يحرضه فيها على الرد على طنطاوي جوهري، وطنطاوي جوهري سنذكره بعد قليل هو من أكثر الناس إيغالاً في التفسير العلمي.
فكان الشيخ عبد الرحمن بن سعدي يحرض الشيخ محمد رشيد رضا على الرد على طنطاوي جوهري في مجلة المنار، وكان الذي عرفته من نتيجة الرسالة من خلال كلام أحد المشايخ الذين هم من تلامذة الشيخ ابن سعدي أن الشيخ محمد رشيد رضا لم يهتم بذلك كثيراً، ولم يتجاوب مع الشيخ، وقال: لم يبلغني عن هذا الكتاب شيء، أو ما سمعت عنه شيئاً أو نحو هذا، لكن في بعض كتابات الشيخ محمد رشيد رضا تجد ما يشير أو ما يكون فيه شيء من الغم بمثل هذه الطريقة، ولربما يقصد هذا الكتاب.
وكذلك من المعاصرين الذين ردوا هذه الطريقة برمتها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مع أنه يحاول إثبات الوحي بطرق غريبة، فهو يحاول إثبات الوحي ليقربه إلى الغربيين أو المعاصرين عن طريق التنويم المغناطيسي!!(1/15)
ومع ذلك ينكر إنكاراً تاماً على هؤلاء الذين يشتغلون بالتفسير العلمي، وكان المتوقع منه -رحمه الله- أنه يؤيد هذه الطريقة، فكان يقول بأن القرآن كتاب هداية وإعجاز ولا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز، وإذا ذكر فيه شيء من الكونيات فهذا للهداية ولبيان عظمة الله -عز وجل- ووحدانيته، ولا يقصد القرآن مطلقاً من ذكر هذه الكونيات أن يشرح الحقائق العلمية في الهيئة والفلك والطبيعة والكيمياء وما إلى ذلك، ولا أن يحل مسائل حسابية أو معادلات جبرية أو نظرية هندسية، ولا أن يزيد في علم الطب باباً ولا في علم التشريح فصلاً إلى آخر ما ذكر.
والشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني هو من العلماء المعاصرين وكتاباته تدل على علمه، وتكلم على هؤلاء الباحثين الذين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فأدخلوا فيها هذه الأشياء ونعى عليهم ذلك، وذكر قصدهم الحسن وأن ذلك لا يعذرهم، وبين أن عظمة القرآن لا تتوقف على توافقه مع هذه المعطيات للحضارة الحديثة، ثم ذكر ما يعانيه العالم من نتاج هذه الحضارة من حروبٍ طاحنة وأسلحةٍ فتاكة وما إلى ذلك، فكانت النتيجة في النهاية أنه يقول: لا نرى حاجة إلى مثل هذا النوع من التفسير خصوصاً بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد، وأن أبحاثاً كثيرةً منها لا تزال قلقة حائرة فما أثبتوه بالأمس نفوه اليوم.
ثم ذكر كتاباً لأحد الغربيين يقول: إنه أثار ضجةً كبرى، وهو بعنوان: الكون الغامض، هذا الكتاب خلاصته يقول: لا يوثق بشيء من هذه النظريات والاكتشافات؛ فإنها تتجدد وتتغير وما كنا نقرره بالأمس نبطله اليوم، وما نقرره اليوم سنبطله في الغد، وهكذا فنحن أمام كونٍ غامض هائل لا ندرك شيئاً من مراميه وحقائقه.
هذا المؤلف يقال له: سير جميس جنس، فإذا هذا واحد منهم يقول هذا الكلام، فكيف نربط القرآن بهذه الأمور المتجددة المتغيرة؟(1/16)
ومن هؤلاء الشيخ محمد بن حسين الذهبي -رحمه الله- في كتابه: (التفسير والمفسرون)، تكلم فيه على هذه الطريقة وبين خطأها وردّها إجمالاً ولم يستثنِ شيئاً، وبيّن أن هذه الطريقة خطره للأسباب السابقة، وأن القرآن كتاب هداية، وأن هذا سيؤدي إلى نسبة الخطأ إليه.
وممن رد على هؤلاء في بعض المواضع الشيخ محمد الأمين الشنقيطي العالم المعروف صاحب أضواء البيان –رحمه الله تعالى- رأيت له رداً في كتابه الأضواء، ورأيت له راداً في أشرطته المسجلة في دروسه في المسجد النبوي.
وهذا من كلامه في التفسير في أضواء البيان الجزء الثالث صفحة 118، يقول: "واعلم -وفقني الله وإياك- أن التلاعب بكتاب الله -جل وعلا- وتفسيره بغير معناه لمحاولةٍ توفيقية مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء البتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة وإنما فيه فساد الدارين، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحظ جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [(60) سورة الأنفال]".
يقول: حينما نمنع هذا النوع من التفسير لا يعني أننا نرد العلوم المادية هذه التي تنفع في الأمة.
وممن كتب في رد هذا الأستاذ أحمد محمد جمال، فقد ردّه بجملته، وكذلك الأستاذ محمد الصادق عرجون، ومن أكثر من شنع عليه ورده الأستاذ سيد قطب أيضاً في كتابه: (في ظلال القرآن)، فله نقد لاذع لهذه الطريقة، وكان مما قال: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمّسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها؛ كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن – سيد قطب (ج 1 / ص 155).(1/17)
ثم ذكر أن تصرفات هؤلاء ناشئة من الهزيمة النفسية عندهم، وأن العلم هو المهيمن والقرآن تابع له، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم أو الاستدلال له من العلم"، ثم يذكر عظمة القرآن وكمال القرآن.
والأمر الآخر الذي ذكره قال: إن هؤلاء لم يفهموا طبيعة القرآن ووظيفته وهي الهداية والدعوة إلى التوحيد والإيمان.
والقضية الثالثة قال عن هؤلاء: إنهم لا يزالون في تأويل مستمر لنصوص القرآن وصرفها عن معانيها، ونقل عن عالم طبيعي فيلسوف اسمه: ماريتس ستانلي يقول في هذه العلوم: إن العلوم حقائق مختبرة ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجه، ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك وليس باليقين... إلى أن قال: ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف وليست نهائية، ويقول: الباب لا زال مفتوحاً للتعديلات والتغييرات وما إلى ذلك.
على كل حال الذين أنكروا هذه الطريقة يمكن أن ألخص مبرراتهم في التالي:
- أن القرآن كتاب هداية.
- وأن نصوص القرآن نصوص قطعية، وهذه النظريات نظريات محتملة غير ثابتة، تتغير وتتبدل، والعلوم التجريبية علوم ظنية في أحسن أحوالها، فهي في الغالب فروض راجحة، أو حقائق علمية نسبية احتمالية؛ وهذا كما يقول علماؤهم، وطبيعة المنهج القرآني تختلف عن ذلك.
- هذه نماذج من أقوال أهل العلم والكُتَّاب في هذا العصر وفي غيره في هذا الموضوع.
خامساً: حكم التفسير العلمي للقرآن:
لو سأل سائل فقال: ما حكم التفسير العلمي للقرآن؟
نقول: نحن لا ننكر ذلك جملةً، يقول ابن القيم -رحمه الله-:
فعليك بالتفصيل والتبيين فـ ... الإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبط ... الآراء والأذهان كل أوان(1/18)
فالإنسان إذا أراد أن يحكم على أمورٍ يدخل تحتها أشياء كثيرة من الصواب والخطأ فينبغي أن يفصل في هذه الحكم.
نحن لا ننكر أن هناك أشياء من معطيات هذه الحضارة توافق أشياء في القرآن، بل لربما يكون في غاية الصراحة في الدلالة عليها، وسترون أشياء من هذا، فنحن لا ننكر هذا على أن يكون ذلك من غير تكلف، وبحيث لا تعود على أقوال السلف في الإبطال ولا تناقضها، وحيث اللفظ يحتملها تمام الاحتمال، وهذا شيء سترونه، وعندي أمثلة كثيرة جداً.
كذلك أيضاً نحن حينما نقرر قضية مثل هذه في مثال أو مثالين أو ثلاثة أو نحو ذلك، هذا فيه أكبر رد على الذين يزعمون أن الدين يعادي العلم، وهذه قضية وجدت في أوروبا وصار الصراع بين الكنيسة وبين العلم للأسباب التي تعرفونها، فقد كانوا يحرقون العلماء، والكتب محرفة عندهم وفيها أشياء تناقض هذه الأشياء التي اكتشفت فصاروا يكذبون بها، ويحرقون العلماء ويقتلونهم.
نحن نقول: لا، فهذه الأشياء منها ما هو صحيح ولا يوجد في القرآن ما يدل عليه دلالة خاصة، ومنها ما هو صحيح ويوجد في القرآن ما يدل عليه، ومنها ما هو لربما يكون صحيح ويوجد في القرآن ما يحتمله، أو على الأقل على بعض الأقوال، ومنها ما هو باطل في أصله -غير صحيح ولا ثابت- وقد أبطله بعض علماء هذه العلوم المادية.
نحن لا ننكر هذا؛ لأنه يفيد أيضاً في استمالة مثل هؤلاء المنبهرين بالعلم، فهذه الأشياء منها ما هو موجود في القرآن لكن باعتدال من غير تكلف، فحرمة القرآن أعظم من أن يسلم أهل الأرض جميعاً، تبقى للقرآن حرمته وعظمته وجلاله، فلا نحرف معاني القرآن من أجل أن يسلم شخص لزرقة عينيه لا، فالقرآن أعظم عندنا من ذلك.(1/19)
أيضاً الله -عز وجل- في القرآن حثنا على الانتفاع بمواهب هذا الكون والنظر فيه وما إلى ذلك، والإنسان لا يستطيع أن ينكر أنه إن وجد شيئاً من هذا التوافق فإن ذلك يزيد في إيمانه، حينما يقرأ الآن قارئ علينا الآيات التي فيها تفاصيل خلق الجنين، ثم نأتي بعالم من العلماء المتخصصين في الأجنة ويشرح لنا كلاماً لا يخالف الآيات إطلاقاً، والآيات ليست تابعةً له بل هو تابع لها، ولا يخالف أقوال السلف بل يوافقها، وإن كان في تفاصيل زائدة، لا شك أن هذا يمتلئ القلب معه من الإيمان.
وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [(260) سورة البقرة]، فيحصل بمشاهدة هذه الأشياء من طمأنينة القلب ما لا يخفى، وفي نفس الوقت نحن لا نسلم تسليماً مطلقاً بهذا التفسير العلمي، فنحن نعتقد أن الإعجاز ثابت ولو تركنا هذا التفسير العلمي برمته، فكيف إذا رددنا الأشياء الباطلة منه واقتصرنا على الأشياء الصحيحة؟!
إن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون ليست بالضرورة من أجل الوقوف على هذه الأشياء التي يذكرها أصحاب التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، وإنما للوقوف على مواطن العبرة، هذه السماء العظيمة وهذه الأرض والرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، هذا لا بد له من مدبر، وأنه رب إله واحد، ولو كانت آلهة متعددة لحصل التضارب في هذا الكون والتلف والزوال.
ثم نحن لا نتسارع فيه أيضاً ولا نسلِّم أيضاً بكل ما يقولون، لأن هذا مدعاة للزلل، وهو طريق خطر ينبغي الحذر في سلوكه، وقد عرفنا كلام السلف -رضي الله تعالى عنهم- في التورع في التفسير.(1/20)
ثم إن هذه الطريقة ألجأت الكثيرين إلى مجاوزة الحد والتكلف والتمحل في محاولة الربط بين نصوص القرآن وبين هذه الأشياء، ثم نحن ندرك أن كثيراً من هذه الأمور التي يذكرون إنما هي نظريات وليست حقائق ثابتة، ثم أيضاً إذا نظرنا إلى القرآن وأنه جاء لهداية البشر والدعوة إلى الإيمان والتوحيد وبيان ما يحتاج إليه الناس لنجاتهم وسعادتهم، فتحويل القرآن والدعوة إلى تأليف كتب في التفسير على هذه الطريقة لا شك أنه خروج عن المقصود، وللأسف توجد اليوم دعوة صريحة لتأليف كتب تفاسير تتخصص بهذا الجانب.
سادساً: شروط قبول التفسير العلمي:
إذا قلنا: إننا لا نسلم بالتفسير العلمي مطلقاً ولا نقبله مطلقاً، فالذي نقبله بناءً على أي شيء؟
نقول: هناك شروط لا بد أن تراعى في هذا الموضوع وهي:
أولاً: تذكَّر ورع السلف في الكلام على التفسير، وليكن حاضراً في ذهنك، ثم أيضاً القواعد العلمية التي يبنى عليها التفسير، فنحن لا نحمل ألفاظ القرآن على مصطلحٍ حادث، بل يجب أن نفهم القرآن على معهود الأميين من حيث وجوه المخاطبات، فلا نفهمه بطريقةٍ غريبةٍ عنه، فالقرآن يجب أن ندرك أنه كتاب هداية يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ويجب أن نتوسط في هذا الأمر وأن نعتدل، فلا نفرط ولا نفرط، ما نندفع وننسب للقرآن أشياء لا يصح نسبتها إليه، فنقول على الله الكذب، ولا نرد الأشياء الصحيحة ونتعنّت في ردّها بحجة أنها ما قال بها السلف! فهي لا تخالف أقوال السلف، وإنما هي زيادة معنى -كما سيأتي بعد قليل-.
ثم أيضاً ينبغي أن يكون الكلام في الحقائق العلمية، وليس في الفرضيات والاحتمالات والنظريات، وسترون كثيراً مما سأعرضه هي ليست حقائق علمية.
وأيضاً ينبغي أن ندرك أن القرآن حمّال ذو وجوه، وأن الآية يعبر فيها بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة، فلا يتحمس إنسان ويقول: الآية تدل على هذا المعنى وتختص به.(1/21)
دعني أضرب لك مثالاً أو مثالين من نفس التفسير العلمي والإعجاز العلمي في الاحتمالات التي يمكن أن نقبلها ولا تعارض أقوال السلف، وهي عند أصحاب التفسير العلمي متنوعة ومتعددة، تجد هذا يذكر شيئاً، وهذا يذكر شيئاً، وكل واحد يعتقد أن ما قاله هو الصحيح، ونحن نقول: لربما الآية تحتمل هذه الأشياء جميعاً.
انظر في قوله -تبارك وتعالى-: {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [(61) سورة النمل].
موضع الشاهد هنا: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}.
وكذا في قوله -تبارك وتعالى-: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [(19 -20) سورة الرحمن].
وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [(12) سورة فاطر].
ثم الآية الأخرى أيضاً: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} [(53) سورة الفرقان].
لو جئنا إلى أصحاب التفسير العلمي وجمَّعنا كلامهم المتفرق ماذا يقولون؟
كلام السلف في قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا}: أي حاجزاً، والكلام الذي يذكره أصحاب التفسير العلمي كلام قريب جداً، والآية تحتمله، هل هذا هو المعنى أو لا؟ الله أعلم، لكن الآية لا تمنع منه وتحتمل ذلك جميعاً، من هذه المعاني:(1/22)
1- أن دورة المياه في الكون والتي تبدأ بتبخر كميات هائلة من سطح المحيطات فتتكون منها السحب وتنزل على اليابسة مطراً، وهي مياه عذبة، ترتفع من المحيطات فلا يزيد ذلك في ملوحة البحر وإذا نزلت الأمطار العذبة لا ينقص ذلك من ملوحة البحر، وإذا جاءت الأنهار وصبت لا تتغير ملوحة هذا البحر،مع ما تحمله هذه الأنهار والأمطار من أتربة ومعادن، فيبقى البحر ملحاً أجاجاً، هذا أحد المعاني التي يذكرونها وهو أبعدها، لكن استمع إلى المعاني الأخرى:
2- أن مستوى سطح الأنهار أعلى في العادة من مستوى سطح البحر، ومن ثم لا يبغي البحر على الأنهار التي تصب فيه، ويغير مجاريها بمائه الملح فيحولها عن وظيفتها ويبغي على طبيعتها، هذا المعنى هل فيه إشكال؟ هل يعارض أقوال السلف؟ أبداً، لا يعارض أقوال السلف.
خذ معنىً آخر:
3- علماء البحار يقولون: إن الأنهار الضخمة تشكل عند مصباتها أشبه ما يكون ببحيرات خاصة، لها خواصها من حيث المذاق فليست هي بالمياه العذبة كمياه النهر، وليست بالمياه المالحة الأجاج كما هي الحال في مياه البحر، هذه المنطقة تعيش فيها كائنات خاصة تتلاءم مع هذه الطبيعة، لا تستطيع الخروج إلى الملح، ولا إلى العذب، وتبقى هذه المنطقة محافظة على هذه الخصائص، فهذه المنطقة حجر محجور عند علماء البحار، تحجر الكائنات الخاصة بها، وتبقى على طبيعتها فلا تختلط بغيرها، فهي محجورة على المياه على الأخرى.
4- يقولون: هناك حاجز بين البحار أنفسها يمكن تمييز خاصيات ماء كل بحر على جانبي الحاجز، البحر الأحمر والبحر العربي، الخليج العربي وبحر العرب.
ويقولون: المعادن والكائنات الحية تختلف من بحرٍ إلى بحر بينهما حاجز، وذهبت بعض البعثات ونظرت في البحر الأحمر وأعماقه والمحيط الهندي في جنوب عدن، ونشروا بعض الملاحظات الآتية:(1/23)
وجدوا المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبتها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وبواسطة قياس الأعماق وجدوا حاجزاً مغموراً عند مجمع البحرين يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، ووجدوا أيضاً حاجزاً مغموراً بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وأثبتت التحاليل الكيميائية أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها الطبيعية والكيميائية عن مياه البحر الأحمر؛ لوجود هذا الحاجز عند ملتقى كل بحرين.
5- يقولون: هناك حاجز من نوعٍ آخر أيضاً في داخل المحيطات فأعظم الأنهار موجودة في داخل البحار، أعظم من نهر النيل ونهر دجلة أو الفرات، تشق في البحر بداخله، عذبة وتحافظ على خواصها وطبيعتها داخل هذه البحار، ولها أيضاً مقاييسها الخاصة في الحرارة والبرودة مما يختلف عن البحر وهي في داخله، هذا ذكره بعض علماء البحار.
النص القرآني: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا}، هل يعارض هذه الأشياء؟ الجواب: لا، فهو يحتملها، هل نقطع بتفسيره بشيءٍ منها؟ الجواب: لا، قد يكون كل ما ذكر من هذه المعاني داخل في هذا البرزخ، فالله -عز وجل- لم يحدد برزخاً معيناً.
إذن: إذا أردنا أن نفسر ينبغي أن ننتبه أننا لا نتمحل ونتمسك باكتشافٍ من هذه الاكتشافات التي قبلناها وأخذناها ونقول: هذا هو المعنى، لا؛ قد تكون هناك معاني أخرى فالقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.(1/24)
6- مثال آخر: في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [(22) سورة الحجر]، كلام السلف فيها واضح: تلقح النباتات، وابن القيم -رحمه الله- يقول: " الرياح تلقح السحاب"، والمعاصرون ذكروا أشياء من تلقيح الرياح، يقولون: بأن نمو السحب ونزول المطر يتطلب أن تلقح الرياح هذه السحب بأكداس من جسيمات مجهرية تسمى (نويات التكاتف)، ومن أهم خواص هذه أنها تمتص الماء أو تذوب فيه، وتحمل الرياح كذلك بخار الماء وتلقح به السحاب؛ لكي يمطر إلى آخر الطريقة التي ذكروها، هل هذا يعارض قول الله -عز وجل-: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}؟ هل خص شيئاً معيناً تلقحه الرياح؟ الجواب: لا، فالرياح تحمل لقاح النباتات التي تحتاج إلى لقاحٍ من نبتٍ آخر، ويمكن أن تكون ملقحةً للسحاب فهذا لا يعارض أقوال السلف ولا يعود عليها بالإبطال، فالآية تحتمل هذه الأشياء جميعاً.
من الأشياء التي ينبغي أن نستحضرها ونحن نتكلم عن التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي أنه لا يمكن أن يتصادم حقيقة ثابتة مع ما جاء به القرآن، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بمحارات العقول ولم يأتوا بمحالات العقول -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما معنى هذا الكلام؟
معناه أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاؤوا بأمورٍ قد تتوقف فيها العقول لا تدركها، لكن لم يأتوا بشيءٍ قط يقول العقل الصحيح فيها: لا، فلا يوجد شيء إطلاقاً، لا في نصوص الكتاب ولا في السنة يعارض حقيقة ثابتة، وهذا أمر نحن نعلمه ونسلم به.
من الشروط المهمة في قبول التفسير العلمي:(1/25)
أن لا يتنافى هذا التفسير مع سياق الآية ودلالة الألفاظ واحتمال النص من جهة اللغة، ومن الأمور التي ينبغي أيضاً أن نستحضرها جيداً أن الآية إذا كان فيها خلاف بين العلماء في معناها فلا ينبغي أن نتسرع ونقطع بأحد المعاني لأنه يوافق نظريةً من هذه النظريات، لا، لأن القول الآخر قد يكون هو الصحيح، لكن نحن غاية ما نقول إذا كانت هذه حقيقة ثابتة، والقول الآخر موافق لها تماما ًأننا نقول: وعلى قول بعضهم يمكن أن يكون هذا المعنى داخل في الآية، نحن نتكلم بهذه الطريقة، لا أن نأتي ونتكلم على القضية بطريقة كأنها لا يوجد غير هذا، لا، نتكلم بطريقة فيها شيء من الانضباط.
ومن ذلك أيضاً نبذ التكلف في الربط بين هذه وهذه، بل نجعل الآية أصلاً ولا نجعلها تابعةً للعلم؛ لأن القرآن ليس بحاجة أن نثبته بهذه النظريات.
يشترط أيضاً أن لا يخالف التفسير العلمي حقائق شرعية: فالله -عز وجل- يخبرنا أنه جعل السماء سقفاً محفوظاً، كل كلام الغربيين الذي رأيته ففيه أنهم لا يؤمنون أن هناك سقفاً على الحقيقة، وإنما هذا الكون بما فيه من غازات أو غير ذلك وكواكب لكنه لا يوجد سقف.
أما السماء الثانية والثالثة والرابعة فهذه لا يعرفونها إطلاقاً، ونحن نؤمن أن السماء سقف وأن لها أبواب.
وكثير من الذين تكلموا على الإعجاز ممن قرأت لهم رأيت أنهم لا يصرحون بنفي السقف، لكن كلامهم يوافق كلام الغربيين، فماذا يقولون؟
بعضهم يصرح ويقول: نعم هي سقف لكن ما معنى السقف؟ يقولون: السماء كل ما علا وارتفع، فالسماء هي عبارة عن غازات فيها هذه الأفلاك والكواكب والنجوم السابحة، هكذا يفسرون السقف، يقولون: ليست كما كان يتصور الناس سابقاً أنها عبارة عن فراغ فقط، وإنما هي عبارة عن غازات وأشياء معينة، لكن سقف بالمعنى المعروف، أبداً، كما سيأتي فيما يذكرونه في الانفجار الكوني كيف تكونت هذه الأفلاك؟(1/26)
فنقول: أولاً: هذه ليست حقيقة، إنما هي فرضية وغير صحيحة أيضاً، فلماذا نربطها مع الآيات؟ ثم لماذا نتكلم على النصوص ونجعلها تابعة لكلامهم ونقول: السقف يعني الغازات، نقول: لا، السقف ليس بالغازات، السقف معروف، والسماء لها أبواب حقيقية، وهذا الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.
طبعاً بعض الذين يذكرون هذه الشروط تجده يقع ويخطئ -وقد أكون واحداً منهم في بعض الأمثلة التي أذكرها مما أظنه قريباً من الصواب-.
عند التطبيق تجده يذكر أمثلة تستغرب كيف ذكرها؟
يعني هذا أحد المنضبطين –مثلاً- يقول في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا...} إلى أن قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [(9-10) سورة فصلت]: يبدأ يتكلم على الحقائق، يقول: حقائق كونية، -بهذه العبارة حقائق- يقول: خلق الأرض وتقدير الأقوات في أربعة أيامٍ قبل السماء، كيف؟ الله خلق الأرض ثم بعد ذلك استوى إلى السماء، ثم في يومين آخرين دحا الأرض وقدّر فيها أقواتها، هذا الذي دلت عليه النصوص، ويقول: أصل الكون المادي من السديم والدخان...إلخ.
ونفس القضية يذكرها شخص آخر له كلام طويل جداً وقع في نفس المسلك، فذكر أشياء غريبة وهو ممن يذكرون الشروط، ولا أدري كيف بنى عليها؟
سابعاً: أصناف المشتغلين بالتفسير العلمي:
هؤلاء الأصناف ليسوا على وتيرة واحدة، منهم أناس من جملة العلماء دخلوا في هذه الأشياء لكن إدراكهم لها قليل، يعني إدراكهم لهذه العلوم والحقائق قليل فوافقوا على أشياء ظنوا أنها حقائق وليست بحقائق، فوقعوا في إشكالات.(1/27)
وطائفة من هؤلاء هم أصلاً بعيدين عن الكتاب والسنة والتمسك بها، إما أن يكونوا أصلاً ممن أسلم حديثاً أو من المسلمين الذين لا يتقيدون بالشرع، فهو بعيد تماماً، فبدأ يذكر مثل هذه الأشياء، وبعض هؤلاء أصلاً غير مسلمين يذكرون هذه الأشياء بناءً على ما قيل لهم.
وهناك طائفة لها علم وبصر بهذه الأشياء من المسلمين وليسوا من المسلمين الجدد وليسوا من البعيدين عن الدين بل هم من المتدينين المخلصين الداعين إلى الإسلام، ولكن هؤلاء أيضاً ليسوا على وتيرةٍ واحدة، بعضهم ليسوا من العلماء في هذه العلوم الشرعية.
لذلك نحن نقول: من الشروط الأساسية أيضاً:
أن يكون عند المفسر خلفية يصح أن يشتغل معها بالتفسير من اللغة والأصول وأصول التفسير وقواعده وما إلى ذلك من العلوم.
وشرط آخر: وهو أن هذه الأقوال يجب أن لا تعود على أقوال السلف بالإبطال، نحن نقول: إذا توفرت هذه الشروط فالباب مفتوح، والقرآن لا تنقضي عجائبه، وكما سبق في حديث البخاري، حديث أبي جحيفة قال: "قلت: لعلي -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة"(1).
__________
(1) - أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير – باب: فكاك الأسير (2881) (ج 3 / ص 1109).(1/28)
فالاستنباط من القرآن والسنة وفهمهما لا يقتصر على جيلٍ دون جيل وعصرٍ دون عصر، ولا يقتصر على فئة كهنوتية -كما يقال- هي التي تتكلم عليه، وإنما نقول: من حقق الشرط يتكلم، يتعلم هذه الأشياء ويتبصر بها ويدرسها ثم بعد ذلك يتكلم، فكما أننا لا نرضى أن يتكلم في الطب إنسان ليس له بصر في الطب أو في الهندسة، إنسان ليس له بصر في الهندسة، فكذلك التفسير والقرآن لا يجوز أن يتكلم عليه من ليس له بصر فيه، وليس معنى هذا أن من درس هذه العلوم في الطب أو الفيزياء أو الهندسة أنه لا يستطيع أن يتكلم على القرآن، بل قد يكون درس هذه الأشياء ودرس العلوم الأخرى، وحصل فيها أكثر من آلاف ممن يتخرجون من كليات الشريعة، وهذا شيء مشاهد لا ننكره، بل يوجد كثير من الطلاب المتميزين في العلوم الشرعيه ممن بحضرون مجالس العلم هم في الغالب ممن يدرسون الطب وغيره من العلوم، فليس هناك حكر على أحد قي أن يتعلم ثم يتكلم؛إذ ليس الأمر كما يقول بعض الناس: لا يجوز لهؤلاء أن يتكلموا ويلقوا خطباً ويلقوا محاضرات، فهذا غير صحيح، بل إن المسلم إذا تعلم فإنه قد سار على الطريق، ومن سار على الطريق وصل فإذا حصل هذه الآلة فما الحاجز والمانع الذي يمنعه من فهم هذه الأشياء ومعرفتها؟
أرجو أن لا يفهم أحد أننا نقول: لا يجوز أن يتكلم على التفسير أو الفقه أو الحديث إلا من تخرج من كلية الشريعة! معاذ الله، بل أنا من أكثر الناس الذين ينكرون على قائل هذه المقالة، لكن في نفس الوقت أقول: لا يجوز أن يجترئ على القرآن ويفسره ويربطه بأشياء هي أمور مضحكات ومبكيات وهو لربما لا يعرف أن ينطق بالآية نطقاً صحيحاً، هذا غير لائق ولا يجوز إطلاقاً.(1/29)
زارني أحد هؤلاء وقد أقام مشروعاً كبيراً يقول: إنه اشتغل فيه ثمان سنوات في اليوم قضى عليه اثنا عشر ساعة يأكل بيده اليسار من غير علة!! يا أخي: تعلم أولاً المبادئ، تعلم آداب الطعام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك، ثم بعد ذلك سر قليلاً قليلاً حتى تصل، أما أن تأتي وتقتحم مباشرةً وتتكلم في مثل هذه الأشياء، في مشروع ثمان سنوات اثنا عشر ساعة في اليوم؟!
وهذا آخر جاء بأوراق -جزاه الله خيراً لورعه- أراد أن ينظر هل هذا الكلام صحيح أو لا؟ وإن كنت لا أذكر المثال جيداً، لكن المهم أنه كان يريد أن يأتي بأشياء من كلام القرآن على النبات، وهو متخصص في علم النبات فجاء بأمثلة ويقول: في قوله -تبارك وتعالى-: {وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ} [(133) سورة الأعراف]، وقرأ في التفسير أن القمل: بمعنى الدبا أو صغار الدبا، فكان يظن أن الدبا نوع من الشجر، فقلت له: الحمد لله أنك سألت عنها، وإلا لو قلتها أمام الناس في المحاضرة لصارت حديث القوم.
ثامناً: الاتجاهات في التفسير العلمي:(1/30)
من المعلوم أن الخطأ لا يؤمن على أحد، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا اجتهد وكانت لديه أهلية فإن الله يعذره، لكن إذا لم يكن لديه آلة الاجتهاد وليست له أهلية فهنا لا يعذر، ومن هنا ا4ول: إن الذين يشتغلون بالتفسير العلمي ليسوا على وتيرة واحدة في انضباطهم، وإنما يوجد اتجاه منضبط وآخر غير منضبط، فالاتجاه غير المنضبط هو الاتجاه الخطير؛ حيث يربط الآيات القرآنية بنظريات لم تثبت، وبأشياء لا يدل عليها القرآن وبأشياء لا يحتملها اللفظ، ويذكرون في هذا أشياء عجيبة وغريبة لربما أشياء نقول عنها: تخرصات وليست هذه جديدة، فأنا سأذكر لكم من كلام المعاصرين ومن كلام القدماء أشياء تتشابه؛ لأن بعضكم قد يقول: إن هذه الأشياء التي تقول: إنها تخرصات قد اكتشفت بالآلات وبالمراصد وبالتكنولوجيا الحديثة، فأقول: ليس الأمر كذلك، فأنا سآتي بأمثلة كانت قبل هذه التكنولوجيا قطعاً، ومن تلك الأمثلة:
هذا فيثاغورس المتوفى سنة 600 قبل الميلاد -هذا عنده آلات حديثة ولا تكنولوجيا- يقول: الأرض كوكب من الكواكب الدائرة حول النار المركزية، وما هي النار المركزية ما هي؟ هي الشمس.
كانت الفكرة السائدة في وقته أن الأرض مركز الكون، وأنها ثابتة والفلك يدور حولها، وهذا رأي بطليموس، وكان فيثاغورس يقول بأن للأرض حركة يومية وسنوية حول الشمس، وكان العلماء في عصره ينكرون عليه هذا الكلام.
فالقضية أن الشمس لها حركة وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن لها حركة يومية وحركة سنوية وعرف هذا البابليون والقدماء من المصريين قبل فيثاغورس، وهذا الذي سماه المتأخرون بالهيئة الجديدة وقرروه بعد ما كان علماء الفلك ينكرونه ويرون أنه من الزور والبهتان والباطل.(1/31)
ومن الأمثلة: ما زعمه أهل الفلك أن الأرض كانت غير محددة الشكل، ومع مرور 200 مليون سنة، أخذت شكلها الكروي، فقولهم مع مرور 200 مليون سنة، هل هذه حقيقة علمية؟! هل يوجد أحد يقول: إن هذه حقيقة علمية؟! أشهِدوا خلقها؟!
ويقولون: خروج الماء جاء بعد حشو وتكوين الأرض بحوالي مليار سنة، والله -عز وجل- ماذا يقول؟ يقول: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [(30 -32) سورة النازعات]. أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وكان الدحو في يومين. والدحو ما هو؟
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} [(31) سورة النازعات]، وهم ماذا يقولون؟ يقولون: هذا جاء بعد تكوين الأرض بحوالي مليار سنة، وظهور المرعى بعد ذلك بكثير؛ لأن الحياة النباتية والحيوانية المتطورة لا يزيد عمرها عن مليار سنة من عمر الأرض، على أكبر تقدير، ويزعمون أنها تطورت حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم خلال أربعة مليار ونصف مليار سنة، وأن الكون الذي يحيط بنا كان قبل 18 مليار سنة سديماً غبارياً، طبعاً هذا أنكره بعض العلماء من المعاصرين من علماء الفلك، ولا زال بعض من يشتغلون بالتفسير العلمي والإعجاز العلمي يقولون هذا دل عليه قوله -تبارك وتعالى-: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [(30) سورة الأنبياء]، وقوله -تبارك وتعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [(11) سورة فصلت]، يقولون: هذا هو السديم بعد الانفجار الذي حصل، ويقولون: إن الكون الذي يحيط بنا كان قبل 18 مليار سنة سديماً غبارياً، ولماذا لم يقولوا: إن الأرض لها 18 مليار سنة، مع أن الله خلق الأرض في يومين والسماوات في يومين ودحا الأرض في يومين؟!(1/32)
يقولون: قبل 18 مليار سنة كانت سديماً غبارياً فانفجر انفجاراً مذهلاً قبل 15 مليار سنة، وبدأ بالتوسع والانتشار ثم بدأ ظهور الشمس والكواكب الشمسية ومنها الأرض، وعمر الأرض أربعة فاصلة سبعة من عشرة مليار سنة (4.7 مليار سنة).
ويزعم المتقدمون أيضاً أن العالم الجسماني كرة منضدة من ثلاث عشرة كرة، ومركز العالم مركز كرة الأرض.
والفلاسفة المتشرعون -أي الفلاسفة المؤمنون بآله- قالوا: المراد من السماوات السبع أصناف أجرام الكواكب، أي ليست سبع سماوات فوق بعضها.
والمعاصرون من علماء الفلك يقولون بأن الأرض ثلاث طبقات أساسية: القشرة الأرضية الصخرية، وتنقسم إلى قسمين، وطبقة الرداء السميكة تبعد 2800 كيلو إلى أسفل، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام، وطبقة النواة أكثر من 3000 ألف كيلو، وهي قسمين خارجية وداخلية، فعلى هذا يصير معنا سبعة أقسام يعني سبع طبقات، فيقولون هذه طبقات الأرض السبع!
نحن لا نستطيع أن نقول هذا، فهم قالوا هذا على أي أساس؟ هل دخلوا إلى الأرض ورأوا هذه الطبقات؟!
الله -عز وجل- أخبرنا أنه خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [(12) سورة الطلاق]. فما هذه الطبقات؟ لا ندري، قد يكون بينها فراغات وقد لا يكون، لكن الذي نعلمه هو أن بعضها فوق بعض قطعاً، والأدلة على هذا كثيرة كقوله: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، ومنها كذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين))(1).
إذا قلت لي: إن المعاصرين عندهم رصد وعندهم آلات وعندهم أجهزة فالقدماء ما عندهم رصد، فعلى أي شيء اعتمدوا في سرد هذه الحقائق كما يزعمون أم أن المسألة فرضيات؟
__________
(1) - أخرجه البخاري في كتاب: المظالم – باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2321) (ج 2 / ص 866)، ومسلم في كتاب: المساقاة – باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612) (ج (3 / 1231).(1/33)
الحقيقة أنها فرضيات وليست بحقائق فلا يجوز أن نحمل عليها القرآن أو نفسر القرآن بها.
وماذا يقول المعاصرون؟:
يقولون: إن النجوم أجرام سماوية مشعة ذاتياً مكونة من غازات متوهّجة يبعد أقربها عنّا بأكثر من 271 ألف مرة مقارنةً ببعد الأرض عن الشمس حيث تبعد الأرض عن الشمس قرابة 149.6 مليون كيلو متر.
وتحتوي مجرتنا –على حد زعمهم- على ما لا يقل على مائة مليار نجم، وهناك نجوم أكبر من الشمس بمليارات المرات، فيا تُرى هذه حقائق علمية أم فرضيات؟ إنها فرضيات.
والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات، فالسيارات هي الكواكب بإجماع القدماء، وهي سبع عندهم، والمعاصرون يقولون: بل هي تسع، فهل هذه الأشياء ثابتة أم أن الناس لا زالوا يكتشفون؟
لو قرأتم كتاب الإنسان ذلك المجهول وطالعتم كيف تكلم عن عجز العلم الحديث عن اكتشاف كنه الإنسان وحقيقته والتعقيد الذي فيه فكيف بالكون من حولنا؟!
زعموا أن ضوء بعض الكواكب لا يصل نوره إلى الأرض في مائة سنة ضوئية بل أكثر، ويقولون: قبل مائة سنة انطفأ هذا الكوكب والآن يصلنا نوره، نعم الآن يشع وهو منطفئ ميت منتهي منذ مائة سنة وأكثر من مائة سنة.
ويقول المعاصرون بأن الأرض كسائر الأجرام السماوية في تطور مستمر ولن تبقى على شكلها الحالي، ويقولون تغير مواقع القارات ومراكز القطبين مراراً، ولم تأخذ القارات والمحيطات توزعها الحالي إلا منذ مائة مليون سنة تقريباً، وتتجه أفريقيا الآن شمالاً نحو أوروبا، وشبه الجزيرة العربية واستراليا نحو الهند وجنوب شرق آسيا، ويتوسع البحر الأحمر بمقدار 102 كيلو متر في السنة، وفي الأرض مخزون حراري يتزايد مع الزمن وسيؤدي حتماً إلى انفجارات وتبدلات جذرية في شكل الأرض وسطحها، وبالتالي ستختفي البحار والجبال، وسيغطي المهل كامل الأرض!! فهل هذه حقائق أم فرضيات؟ هل يوجد أحد يقول: إن هذه حقائق؟!(1/34)
وهذا كتاب آخر اسمه: (العلم الحديث حجة للإنسان أو عليه)، يذكر صاحبه فيه بعض الأشياء عند المتقدمين حتى لا يظن أحد أن المعاصرين عندهم ما ليس عند غيرهم:
في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [(12) سورة الطلاق]، عندنا تفسير اسمه تفسير القمي النيسابوري مطبوع وموجود، والنيسابوري هذا متوفى سنة 728هـ، يعني قبل النهضة في أوروبا.
يقول: في قوله: {مِثْلَهُنَّ}: أي في الخلق لا في العدد، وقيل: هن الأقاليم السبعة، والدعوة شاملة لجميعه، وقيل: إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها، وهذا يشبه قول الحكماء - يعني الفلاسفة-.
يقول: هي أرض صرفة تجاوز المركز فهذه طبقة، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها، أي طبقة الزمهرير، وقد تعد هذه من الهواء، فهذا يتكلم عن الطبقات السبع للأرض، متى توفي؟ سنة 728 للهجرة، وهو ينقل عن غيره من أهل الفلك، فهل أولئك عندهم آلات استطاعوا أن يعرفوا طبقات الأرض؟ أم أن المسألة هي مجرد فرضيات واحتمالات وظنون لا يجوز أن يفسر بها القرآن بحال من الأحوال؟!
وهذا كتاب اسمه: (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان) للسيد محمود شكري الألوسي، وهذه بعض الأشياء في هامش الكتاب، يقول علماء الفلك والفيزياء: لو رجعنا إلى ما قبل ستة عشر إلى ثمانية عشر مليار سنة لوجدنا سحابة دخانية غبارية لا يمكن تصور امتدادها أو حجمها أو كثافتها.
يقول: 16-18 مليار سنة سحابة غبارية، فمن الذي أعلمهم بهذا؟ هل هذا يمكن أن يكتشفه العلم الحديث قبل 16 مليار سنة؟(1/35)
يقول: هذه تضم كل ما هو موجود من أجرام ومواد كونية في الفضاء الحالي، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} [(11) سورة فصلت]، وبعد مرور ما يزيد على خمسة مليارات -أي قبل عشرة مليارات سنة تقريباً- حدث انفجار مروع، تناثرت نتيجة هذا الانفجار أشلاء سحابة دخانية مطلقة دوياً لا يوصف، ونوراً باهراً خيالياً، وامتلأ الفضاء بالإشعاعات الكونية الموزعة الآن بانسجام فيه، وليس لها مصدر محدد تأتي منه، ومعها جزئيات مادية متقدة الحرارة آلاف الدرجات، فالكون كله كان كتلة واحدة، ولعل في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [(30) سورة الأنبياء]...الخ، ثم بدأ يتكلم على أشياء بالمليارات من السنين، ولا أريد أن أطيل في ذكرها.
وهذه أيضاً أرقام يذكرها المعلق في الهامش؛ فالكتاب حققه بعض العلماء، لكن علق عليه رجل متخصص في الفلك، يقول: وأبعد مجرة تم تصويرها تقع على بعد مليار سنة ضوئية أو أكثر، وبدأ يتكلم عن أشياء تعد بالمليارات.
إذا تأملت في الأشياء التي يقولها المشتغلون في التفسير العلمي فإنك تجد أحياناً تناقضات، فمثلاً: في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [(5-7) سورة الطارق]، يقولون: أثبت العلم الحديث أن السائل المنوي الذي تسبح فيه الحيوانات المنوية يتكون من صلب الرجل وظهره، كما أن بيوضات الأنثى تتكون من عظام الصدر.
بينما الآخرون عندما يتكلمون عن الإعجاز في هذه الآية ماذا يقولون؟ يقولون: إن أصل الجزء الذي يفرز الحيوانات المنوية الذي عند الإنسان وتتكون فيه أصله توجد في الظهر، ثم ينزل بعد ذلك!
فهل لاحظت الفرق بين القولين، وكلهم يذكرون أن ما قالوه هو من الإعجاز العلمي.(1/36)
وفي قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [(6) سورة التكوير]، يذكرون أشياء، فبعضهم يقول بأنه يمكن تفجير البحار -تفجير المياه- إلى العنصرين الأكسجين والهيدروجين، فتتحول المياه إلى هذين الغازين، كما كانت قبل أن يأذن الله بتجميعها، إذ أن تكوين البحار منهما، كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين، كما يقع في تفجير القنابل الذرية والهيدروجينة اليوم...الخ.
بينما آخرون يتكلمون على الإعجاز العلمي في هذه الآية ويقولون: إن قعر البحار يتقد وإنه في غاية الحرارة! مع أننا نرى الغواصين ينزلون قديماً وحديثاً إلى القعر ولا يجدون حرارة ولا ينصهرون، أليس كذلك؟ وعلى كل حال هذه أشياء غريبة.
وهذا يقول: بأن علم الميكروبات وعلم الجراثيم والطيران والتصوير الشمسي، صورة الكاميرا، الكهرباء، كلها مأخوذة من الآيات، فقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [(9) سورة الأحزاب]، في هذا علم الميكروبات والجراثيم".
وقوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} [(36) سورة ص]، هذا فيه علم الطيران.
وقوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [(12) سورة سبأ] كذلك علم الطيران.
وفي قوله –عز وجل-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [(45) سورة الفرقان] هذا التصوير الفوتوغرافي حبس الظل.
وقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ} [(35) سورة النور] هذا الكهرباء والضوء، وهناك أشياء أخرى كثيرة، أذكرها فيما بعد بإّن الله، فأسأل الله عز وجل لي ولكم السداد والرشاد، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(1/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإعجاز العددي
الشيخ/ خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي هذا الدرس -إن شاء الله- سأختم الكلام على التفسير العلمي والإعجاز العلمي، ثم أبدأ بعد ذلك بالتفسير العددي، وقد ذكرنا في التفسير العلمي ثمانية أمور، والآن ننتقل إلى الأمر التاسع وهو:
بيان أهم الكتب المغرقة في التفسير العلمي والموغلة فيه:
قد مرَّ طرف منها عند الكلام على الأمثلة، لكن لا بأس أن أذكر جملةً من هذه الكتب، فمن هذه الكتب كتاب اسمه: (كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية)، وهذا الكتاب لطبيبٍ يقال له: محمد بن أحمد الإسكندراني في القرن الثالث عشر الهجري، وهو في ثلاثة مجلدات، وطبع بمصر قديماً قبل أكثر من مائة سنة (سنة 1297 للهجرة).
وهناك رسالة لعبد الله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية، وهذه طبعت أيضاًَ قبل أكثر من مائة سنة، وذلك في سنة 1315 للهجرة.
وهناك كتاب آخر اسمه: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وهو لعبد الرحمن الكواكبي، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات نشرها عندما كتبها في بعض المجلات حينما زار مصر، ولم يكتبها باسمه، وذلك سنة 1318هـ، وإنما كان يكتب رمزاً: الرحالة (ك)، وفي أول هذا الكتاب يذكر بأن السر في أن العلماء السابقين لم يتعرّضوا للتفسير العلمي والإعجاز العلمي؛ لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم فيكفرون ويقتلون.(1/1)
وهناك كتاب اسمه: إعجاز القرآن للرافعي، وهناك كتاب آخر للدكتور: عبد العزيز إسماعيل، وهو طبيب اسمه: الإسلام والطب الحديث، وهذا مطبوع أيضاً سنة 1357 للهجرة، ويقرر في هذا الكتاب بأن كثيراً من آيات القرآن لا يمكن أن تفهم إلا بفهم العلوم المادية العصرية، ويقول: سيأتي الوقت الذي يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين، يعني أقرب من العباد، وأقرب من علماء الشريعة.
ومما يبين الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي كما قلت أن التفسير العلمي أوسع من موضوع الإعجاز العلمي؛ إذ إن التفسير العلمي منه ما يتعلق بالإعجاز ومنه ما لا يتعلق بالإعجاز.
خذ هذا المثال من كتاب الإسلام والطب الحديث مما لا يتعلق بالإعجاز، وهو لا يدعي فيه الإعجاز، لكن كيف يفسر القرآن تفسيراً علمياً؟
يقول: في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [(32) سورة إبراهيم]: هذه الآية الكريمة معناها أن اللحوم والأسماك والألبان... إلى أن قال: أفضل في التغذية من البقول والقمح والذرة، وليست الأفضلية في مقدار المواد الزلالية الضرورية للجسم في كل نوع؛ لأن هذا يجب أن لا يكون سبباً مهماً للأفضلية.
ثم بدأ يقارن بين الأغذية وما فيها من نسبة المواد الزلالية ثم قال: وقد اهتدت أخيراً لجنة الأبحاث بإنجلترا إلى أن قيمة المواد الزلالية تختلف في نوعها وفي المقدار منها الذي يمنع المواد الزلالية المكونة للأنسجة من أن تحترق، ورأوا أن اللحوم بالنسبة للمواد الزلالية ونوعها لها قيمة أكثر من للبن والذرة كالبيان التالي: لحوم: 104، لبن البقر: 100، أرز: 88، بطاطس: 79، فول: 70، دقيق: 40، ذرة: 30.
ثم يقول: إن هذه النتيجة التي لخّصها القرآن الكريم لم تظهر حقيقةً ثابتة إلا منذ سنوات قليلة....أهكذا التفسير الذي يفسر به كتاب الهداية الذي أنزله الله -عز وجل-؟.(1/2)
ومن الكتب: كتاب أشرت له في الأمثلة السابقة: وهو كتاب: (الجواهر في تفسير القرآن لطنطاوي جوهري)، وهذا الكتاب ذكرت أمثلة منه، لكن هذا المؤلف يقول: إن الآيات التي فيها العلوم وما يتعلق بالكون وما إلى ذلك أكثر من 750 آية، بينما آيات الأحكام المتعلقة بالفقه يقول: لا يزيد الصريح منها على 150 آية، فيقول: لماذا العلماء أشغلوا أنفسهم بالفقه والاستنباط وتركوا هذا العدد الهائل من الآيات فأغفلوه ولم يتشاغلوا به؟ ويرى أن هذا تقصير كبير، وأن واجبنا في هذا العصر أن نحيي هذا العلم، وأن نعيده فتياً.
ويقول: لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الكتب الإسلامية في الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل إلى 150 آية؟
ويرى أنهم جهلوا علماً آياته كثيرة جداً، فيقول: آباؤنا برعوا في علم الفقه، فلنبرع نحن في علم الكائنات!
وهذا الكتاب مثل كتاب لسان العرب أو القاموس أو المعجم الوسيط، وفي هذا التفسير تجدون صور حيوانات وصور نباتات، وصور كأنه قاموس أو كتاب في الأحياء، ويستشهد أحياناً على بعض المعاني التي يذكرها الإنجيل، بل أحياناً يشرح بعض الحقائق الدينية بكلام أفلاطون وبكلام الباطنية ورسائل إخوان الصفا، ويبدي رضاه عن ذلك وقبوله له، كما أنه يستخرج كثيراً من المعاني بطريقة حساب الجمَّل.
وانظر إلى كلامه مثلاً عن بني إسرائيل حينما قالوا لموسى -صلى الله عليه وسلم-: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}، إلى أن قال موسى -صلى الله عليه وسلم-: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً} [(61) سورة البقرة].
فهو ماذا يقول؟(1/3)
يتكلم عن الحياة البدوية، وأن أكل العسل والطعام الخفيف أصح وأجود للصحة والهواء والحياة الحرة، بخلاف المدن التي فيها التوابل واللحوم والإكثار من ألوان الطعام، الحاصل أنه يفهم الآية بهذه الطريقة.
ويقول في قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}: المن والسلوى أفضل من الثوم والعسل طعماً ومعنىً وهو يأتي بلا كدٍ ولا تعبٍ بخلاف الثوم والعسل والبصل.
كما أنه يتكلم بكلامٍ طويلٍ جداً عن الأسرار الكيميائية في الحروف الهجائية الموجودة في أوائل السور: {الم} [(1) سورة البقرة]، {يس} [(1) سورة يس]، وما أشبه ذلك...فهل هذا من العلم؟ وهل هذا من التفسير؟
ولما فسّر سورة الكوثر وسورة الكافرون وسورة النصر ذكر بحثاً طويلاً ويطبق على هذه السور بعض الأشياء التي يدعيها، فيقول في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [(1) سورة الكوثر]: الحوض الذي أعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم- رمز للعلم والمعرفة، ويقول: فلا المسك الإذخر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من درٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه، الحوض الذي عليه الكيزان وعدد نجوم السماء يقول: هذه أفانين العلم...ألم أقل لكم: إن في بعض كلامهم ما يشبه كلام الباطنية؟!!
ويقول في قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [(1) سورة النصر]: هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون، هنا يكون نصر الله والفتح ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجاً، {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}: معناه دخول الناس في العلوم أفواجاً.
ويتكلم عن حكماء المسلمين الذين نشروا هذه العلوم وأمثالها،وكيف انتصروا على الجهل؟ وكيف أصبح المسلمون في مرتبةٍ عليا..(1/4)
ومن ضمن هذه الكتب: كتاب اسمه: (الكون والإعجاز العلمي للقرآن للدكتور منصور حسب النبي)، وكتاب: (مع الطب في القرآن الكريم لعبد الحميد دياب)، وكذلك كتاب: (القرآن ينبوع العلم والعرفان لعلي فكري)، وكتاب: (التفسير العلمي لآيات القرآن لحنفي أحمد) وغير ذلك من الكتب.
عاشراً: هل لهذا التفسير محاسن؟:
أشرت إلى هذا في بعض الكلام السابق، ونقول: هذا التفسير الصحيح منه له محاسن، وذكرت سابقاً نماذج صحيحة ونماذج محتملة من هذا التفسير، فالصحيح منه والحسن له محاسن لا شك، ومن هذه المحاسن: دخول أناس في الإسلام من علماء الطبيعة ممن لم يكونوا من المسلمين، مثل: موريس بوكاي، وأرثون أليسون وهو طبيب إنجليزي لقب نفسه أو تسمى بعبد الله إليسيون، وكات سفنز وسمّى نفسه: يوسف إسلام، فهؤلاء من الغربيين بعضهم علماء وبعضهم أدباء وبعضهم شعراء وبعضهم غير ذلك، نعم دخلوا في الإسلام بسبب ذلك، إضافةً إلى تثبيت المسلمين الذين عندهم شيء من الزعزعة والضعف في الإيمان، ودفع عادية الطاعنين في الإسلام الذين يقولون: إن الإسلام ضد العلم، وأنه يحارب العلم، وأنه لا يمكن أن نتحضر إلا إذا تركنا الدين كما فعلت أوروبا، هذا مجمل ما أردت أن أذكره في التفسير العلمي.
خلاصة لما سبق:
التفسير العلمي والإعجاز العلمي لا نرده بإطلاق، بل هناك شروط وضوابط إذا توفرت قبلناه، مع مراعاة أن القرآن كتاب هداية، لا يجوز لأحد أن يتقحم، وأن يستعجل وأن ينسب إلى القرآن ما ليس منه، بل يجب الورع عند الكلام عن التفسير والخوف من الله -تبارك وتعالى- كما كان السلف الصالح -رضي الله عنهم- يخافون.
إضافةً إلى أن هذا النوع من التفسير لا يتوقف الإعجاز القرآني عليه، وإنما الإعجاز ثابت من غير هذا النوع، فهو ليس من الأنواع الضرورية في الإعجاز، يعني لا ينتفي الإعجاز عن القرآن إذا انتفى هذا النوع.(1/5)
ومن المهم بالنسبة للذين يتكلمون في هذا التفسير وفي غيره من أنواع التفسير أنه يجب عليهم أن يحصلوا آلته بدارسة العربية، وأصول التفسير، وقواعد التفسير، وأصول التفسير، وأصول الفقه، وما يحتاج إليه لفهم القرآن والاستنباط منه، فمن درس هذه الأشياء أياً كان تخصصه وموقعه فإنه يتكلم، ولا يشترط أن يحمل شهادةً من كليةٍ شرعية؛ فالعلم ليس حكراً على أحد، لكن من حصل آلته فله أن يتكلم، وليس العلم كلأً مباحاً يتكلّم فيه كل أحد، فلا بد من تحصيل هذه الآلة.
نقول: أفضل ما يكون الكلام في هذه القضايا ممن جمع بين الأمرين، لكن أين هذا الذي جمع بين الأمرين؟ أين الرجل العالم بعلوم الطبيعة وعالم بأمور الشريعة، قد لا نجد، إذن ما العمل؟
نقول: هؤلاء الذين يجدون مثل هذه الأشياء ينبغي أن يعرضوا ما رأوه على لجنةٍ من العلماء الذين لهم بصر في التفسير، ثم ينظرون فيها بعد ذلك ويقررون، هل هذا مما يحتمله النص القرآني أو لا؟ هل هذا من الفهم الذي لا يعارض أقوال السلف، كما قيل: " إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن"(1)، فيكون من ضمن المعاني التي تحتملها الآية، ثم يقيّدون العبارة التي يعبّر بها، فلا يعبّر بعبارات فيها شيء من المجازفة وتهاويل ضخمة وعبارات واسعة، إنما العلماء هم الذين يدقّقون في عباراتهم وفي كلامهم فيقول مثلاً: وهذا على أحد القولين، قد يكون له قول أو احتمال، أو هذا مما تحتمله الآية ولا يقطع به، أو أن هذا من المعاني الصحيحة التي تدخل في الآية وهو لا يعارض قول السلف، المهم أن يعبر بالعبارة الملائمة الدقيقة المناسبة التي يعرفها العلماء، فهذه هي الطريقة التي نتخلص فيها من كثيرٍ من هذا التقحّم.
__________
(1) - أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير – باب: فكاك الأسير (2881) (ج 3 / ص 1109).(1/6)
ولو أن الناس انضبطوا في هذا لاستراحوا من كثيرٍ من الخلط، لكن المشكلة حينما يكون عندنا قناعات بأن من حق كل إنسان أن يتكلم؛ لأننا أحياناً إذا تربينا في بعض الأجواء مثل في أوروبا فهكذا أنت تعبّر عن رأيك كما تشاء وحتى لو كان ذلك في القضايا الشرعية التي تحتاج إلى فقه وعلم!!
تلقي محاضرة في بلد من البلدان الأوروبية في أمر يتعلق بأصول الدين، فتفاجأ أن أكثر من نصف العدد ممن لا يظهر على كثيرٍ منهم سيما الاستقامة والتدين قد رفعوا أيديهم، فتظن أنهم سيسألون، ثم تفاجأ أن كل واحد من هؤلاء عنده اعتراض وعنده وجهة نظر وعنده مداخلة يريد أن يذكرها، وهكذا حتى في هذه القضايا بلا خطام ولا زمام ولا ضوابط ولا خلفية، وهكذا حتى تشعر أنك مع أناس بينك وبينهم مسافة طويلة تحتاج إلى أن يفهمونها حتى يعرفون هذه القضية ولماذا قال السلف فيها هذا القول، ولماذا قلنا: إن هذا من أصول أهل السنة والجماعة، وهكذا لربما أثرت تلك الأجواء في أوروبا في الانفتاح وحرية التفكير والتعبير حتى أردنا أن نجعل ذلك عندنا، وهذا هو السر الذي يجعل بعض الكتاب في الصحف يكتبون أعمدة وأشياء يتكلم عن حقائق شرعية وقضايا وثوابت مسلمة يريد أن يبدي فيها نظره ورأيه، نسأل الله السلامة والعافية.
الإعجاز العددي:(1/7)
علماء المسلمين-رحمهم الله- تكلموا على عدد حروف القرآن، وعدد الآيات، وعدد السور، وعدد الكلمات، وتكلموا على عدد النقط في القرآن، وتكلموا أيضاً على المرات التي يتكرر فيها الحرف الواحد من الألف إلى الياء، فلما يتكلمون على حرف الألف –مثلاً- يأتون بعدد الكلمات في القرآن التي تبدأ بحرف الألف، ثم يسردونها في مجلدات -وهي موجودة ومطبوعة- فيذكرون الحرف كم مرة تكرر؟ وكم عدد الكلمات التي تبدأ بهذا الحرف في جميع القرآن، ويذكرون منتصف القرآن بعدد الحروف، وربع القرآن وسدس القرآن وعشر القرآن وواحد من ستين، وواحد من ثلاثمائة وستين، وهكذا يذكرون كل ذلك بالحروف، ويذكرون ذلك أيضاً بالكلمات، فإذا أردت أن تقف على الكلمة في نصف القرآن، أو ربع القرآن، أو ثمن القرآن فكل هذا بالكلمات وبالآيات موجود، ويتفننون في هذا غاية التفنن، ويوجد لهم مؤلفات كثيرة في هذا، وهذا مثال واحد منها وهو من أصغرها أتيت به؛ لخفة حمله.
خذ مثالاً آخر: يقولون: كل ما في القرآن من (أَلَّا)، فهو في المصحف حرف واحد إلا عشرة أحرف، بمعنى أن كل ما ورد من (ألّا) فهي بهذا الشكل إلا عشرة مواضع تكتب هكذا مفصولة (أَنْ لَا) وهذا نحتاجه نستفيد منه في عدِّ الكلمات وعدِّ الحروف.
ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر النعمة فهو بالهاء إلا أحد عشر موضعاً تكون بالتاء المفتوحة، ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر (الكلمة) فهو بالهاء إلا ثلاثة مواضع تكون بالتاء المفتوحة، وكل ما في القرآن من ذكر (المعصية) هو بالهاء إلا في موضعين بالتاء المفتوحة.
ويقولون: كل ما في القرآن من ذكر (إنما) فهو حرف واحد في المصحف إلا الذي في الأنعام: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [(134) سورة الأنعام].(1/8)
ويقولون: كل ما في كتاب الله -عز وجل- من ذكر (أمَّن) فهو موصول إلا في أربعة مواضع (أم مَّن)، ويقولون: كل شيء في القرآن فيه ذكر الربا فهو بالواو إلا في موضعٍ واحد: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا} [(39) سورة الروم] فهو بالألف الممدودة.
وكل شيء في القرآن (فيما) فهو كلمة واحدة موصولة إلا أحد عشر موضعاً (في ما)، وكل ما في القرآن (مما) فهو موصول إلا ثلاثة مواضع (من ما)، وكل ما في القرآن (بئس ما) فهي مفترقة إلا في ثلاثة مواضع (بئسما) كلمة واحدة، وهكذا، ويذكرون عدد النقط والكلمات.
وعدد آيات القرآن فيه خلاف كثير جداً بين العلماء، لكن بناءً على أي شيء هذا الخلاف؟ هل يوجد أحد منهم ينكر آية من القرآن؟
حاشا وكلا بل القرآن محفوظ كما أنزله الله -عز وجل- من فوق سبع سماوات لم يتغير منه حرف واحد، ولكن العلماء يختلفون في هذا لأسباب كسبب القراءات والأحرف، فالبسملة هل تعد من السورة أم لا؟ بينهم خلاف في هذا؟ فهي في بعض الأحرف من السورة، وفي بعض الأحرف ليست منها، وكله حق من عند الله -عز وجل- والقرآن نزل على سبعة أحرف.
كذلك أيضاً: هناك سورة الفاتحة هل البسملة آية منها؟
الفاتحة سبع آيات: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [(87) سورة الحجر] فإذا قلنا: الفاتحة سبع آيات والبسملة آية منها فيكون قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة] كله آية، وإذا قلنا: إن البسملة ليست بآية من الفاتحة وإنما هي آية مستقلة -للفصل بين السور- فتكون الآية السابعة فصل في ذلك الموضع، تقول: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ* غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [(5-7) سورة الفاتحة].(1/9)
فبعضهم يرى أن الآيتين آية واحدة باعتبار أن البسملة آية من الفاتحة، وبعضهم يقول: لا، فليس هناك زيادة ولا نقص في القرآن، لكن باعتبار العد بحسب الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، فهم يختلفون في العدد من عهد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- للاعتبار الذي ذكرته لكم آنفاً.
الخلاف في عدد الآيات:
أجمعوا على أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية (6.200) واختلفوا في الزائد، فابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ستة آلاف ومائتا آية وسبع عشرة آية (6.217)، والعد عند أهل المدينة من القراء يقولون: (6.214) وأربع عشرة آية، وبعضهم يقول: وعشر آيات (6.210)، وأهل مكة يقولون: عشرون آية (6.220)، يعني أن الخلاف في الزائد على ستة آلاف ومائتين، هل هو عشرة أو سبعة عشر، أو عشرون أو ست وثلاثون كما عند الكوفيين، وعند البصريين خمس، وعند بعضهم أربع آيات، وبعض البصريين يقول: تسع عشرة آية، وعند الشاميين ستة وعشرون آية، وهكذا... ...
هذا اختلاف في العدد عند القراء، بناءً على اعتبارات ذكرتها آنفاً، هل البسملة من كل السور أو من الفاتحة أو آية مستقلة؟ وكذلك أيضاً في فصل بعض الآيات، فأحياناً الحروف المقطعة في أوائل السور بعضهم يعتبرها تابعة لما بعدها فالجميع آية، وبعضهم يفصل، لكن هل هذا من عند أنفسهم؟
الجواب: لا، هذا بحسب اختلاف الأحرف وتفاوت الأحرف التي نزل القرآن عليها، وكله حق، وكل مرجع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية والتلقي، وكله ثابت وكله حق، فما زيد فيه حرف واحد وما نقص منه حرف واحد: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [(9) سورة الحجر]، إذن: عدد الآيات العلماء مختلفون فيها.
الخلاف في عدد الكلمات:(1/10)
كذلك عدد الكلمات العلماء مختلفون فيها، فابن مسعود يقول: سبع وسبعون ألفاً وتسعمائة وأربعة وثلاثين كلمة (77.934)، ومجاهد وسعيد بن جبير يقولان: (77.437) آية، وعطاء بن يسار يقول: (79.277)، ويزيد الضرير يقول: عددها: (76.000).
هذا الاختلاف ليس بناءً على نقصٍ أو زيادة في كتاب الله -عز وجل-، وإنما يختلفون أحياناً في الكلمة مثل: (إنما) هل هي كلمتين أو كلمة واحدة؟ ومثل: (بئس ما) هل هي كلمة واحدة أو كلمتين؟ فمن عدها كلمتين زاد عنده العدد، ومن عدها كلمة واحدة نقص.
وعلى كل حال فلمؤدى أو الحصيلة واحدة من جهة أن القرآن هو هو لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن يختلف فيه نظر علماء العدد.
الخلاف في عدد الحروف:
أجمعوا على أن عدد الحروف في القرآن: ثلاثمائة ألف (300.000) حرف، واختلفوا في الكسر الزائد على ذلك، فابن مسعود يقول: الزائد أربعة آلاف وسبعمائة وأربعون حرفاً (4.740) وحمزة القارئ المعروف يقول: الزائد ثلاثة وسبعون ألفاً ومائتان وخمسون ألف حرفاً (73.250) وعاصم يقول: الزائد ثلاثة وستون ألفاً وثلاثمائة ونيف وهكذا.
القراءات:
تعرفون القراءات وأن القرآن نزل على سبعة أحرف، فمثلاً: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [(100) سورة التوبة]، في حرفٍ آخر أو في قراءةٍ أخرى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ}، نفس الآية، وكلها قراءات متواترة وكله من عند الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- تواتر عنه أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها من عند الله، فبناءً على أي شيء تعد؟
هذا أقرب مثال: قوله تعالى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} {مَلِكِ}: هذه قراءة الجمهور، وهي قراءة متواترة، كم حرف؟ ثلاثة أحرف، وقراءة عاصم التي نقرأ بها حفص عن عاصم {مَالِكِ}: أربعة أحرف، هذا من عند الله، وهذا من عند الله، وكله صحيح.(1/11)
ومن الأمثلة على ذلك في تفاوت القراءات قوله تعالى: {وَأَوْصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [(132) سورة البقرة]، بزيادة ألف، والقراءة التي نقرأ بها: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [(132) سورة البقرة]، اختلفت القراءة وكلها حق.
وفي سورة آل عمران: {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [(133) سورة آل عمران] بدون الواو، وفي القراءة الأخرى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، وكله حق.
وفي سورة المائدة {مَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}، بزيادة دال، وفي القراءة الأخرى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [(54) سورة المائدة].
وفي سورة المائدة: {عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ* يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ} [(52-53) سورة المائدة]، بدون واو، وفي قراءة حفص عن عاصم: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ} بالواو.
وفي سورة التوبة: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا} [(107) سورة التوبة]، بدون واو، وفي قراءة حفص عن عاصم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} بالواو، وهكذا توجد أمثلة كثيرة يتفاوت معها العدّ.
العلماء -رحمهم الله- تكلموا على حروف المعجم في القرآن، فمثلاً: الألِفات عددها: ثمانية وأربعون ألفاً وتسعمائة وأربعون ألفاً (48.940)، لكن هل هذا محل اتفاق؟ لا، لماذا؟ للاعتبارات التي ذكرتها قبل قليل.
وهكذا حروف المعجم من أولها إلى آخرها، وعدد النقط وأجزاء القرآن، كذلك أين يتوقف النصف الأول بالضبط؟ قالوا: في قوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [(74) سورة الكهف]، ويقولون: النون والكاف من: {نُّكْرًا} من النصف الأول، والراء والألف من النصف الثاني..(1/12)
وأنا إنما أذكر هذا الكلام لأقول: إن العلماء تفنّنوا في معرفة الأعداد في القرآن، ومع ذلك لا يوجد في علومهم إطلاقاً شيء اسمه الإعجاز العددي؛ فهذا الأمر لا يحتاج إلى تكنولوجيا حتى يقال: والله ما اكتشفوا ذلك، وإنما نحن الذين توصلنا نحن إليه، والحقيقة أنهم تمهّروا في العدد ومع ذلك ما التفتوا إلى هذا، وسترون أشياء كالأثلاث والأرباع والأخماس وأنصاف الأسباع وأنصاف الأتساع، وما إلى ذلك.
الذين يريدون أن يحفظوا القرآن في ثلاثمائة وستين يوماً (في سنة) لهم قسمة دقيقة للغاية لكل يوم كم يحفظ، فإذا أردت أن تحفظ القرآن في سنتين، تضرب في اثنين يعطيك بدقة بقدرٍ متناسب بالحرف، كم تحفظ كل يوم؟.
خذ من الأمثلة:
عدد آيات السور فاتحة الكتاب: سبع آيات بالاتفاق، لكن أين السابعة؟ هل هي: {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}، أو أن ذلك موصول بما بعدها؟
سورة البقرة: {الم}، هل هي آية مستقلة؟ أم هي تابعة لما بعدها، {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [(2) سورة البقرة]، في بعض القراءات تابعة لما بعدها، وفي بعض القراءات آية مستقلة، وكله حق.
ومما اهتموا به وذكروه: في قوله تعالى: {فَلَمَّا}، يقولون: هذه جاءت 101 مرة في القرآن، ويذكرونها، وكذلك قوله: {وَلَمَّا} [(89) سورة البقرة]، يذكرون كم مرة تكررت، وأين تكررت؟
كذلك يذكرون قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} [(189) سورة البقرة]، كم مرة تكررت، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [(4) سورة البقرة]، هل تكررت أو لا؟
من الأشياء العجيبة واللطيفة التي تذكر في هذه الكتب أو بعض ما يذكر في هذه الكتب أسئلة كأن يقول: هات سبع آيات متوالية آخر كل منها اسمان لله -عز وجل- ما هي؟ ومنها قولهم: ما هي الآيات التي تبدأ بحرف الشين في القرآن كله؟ ما الآية التي تحتوي على حروف المعجم جميعاً؟ ما السورة التي ليس فيها لفظ الجلالة؟ وهكذا..(1/13)
وأقصد بهذا أنهم تفنّنوا وتمهّروا في هذه الأشياء، بل هناك أشياء أظن أن أصحاب الإعجاز العددي لو رأوها لقالوا: هذا من الإعجاز، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [(33) سورة الأنبياء] اقرأها بالمقلوب تجدها نفس الشيء، فهذه ذكرها العلماء المتقدمون من باب الملح، ولم يقولوا: هذا إعجاز، ولو رآها أصحاب الإعجاز العددي سيقولون: هذه قمة الإعجاز مع أنه ليس فيها إعجاز.
من الأشياء التي أريد أن أذكرها في هذه المقدمة أن القرآن كما أشرت أنزل على سبعة أحرف، فهذه الأحرف يحصل فيها كلمة مكان كلمة، وحرف مكان حرف، وأيضاً يحصل فيها أحياناً زيادة حرف، كـ{تَجْرِي تَحْتَهَا} [(100) سورة التوبة] {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا}، وما إلى ذلك من وجوه التغاير، ففيه سبعة أوجه من وجوه التغاير.
الرسم العثماني الذي يبني عليه أصحاب العدد دعوى الإعجاز ليس بتوقيفي، وليس له قاعدة مطردة، فلاحظ كيف تكتب الكلمة الواحدة أحياناً بالتاء المفتوحة، وأحياناً بالتاء المربوطة.
(بئس ما) أحياناً تجعل على كلمتين، وأحياناً كلمة واحدة، و(إنما) أحياناً تجعل كلمتين، وأحياناً كلمة واحدة، فالرسم العثماني ليس بتوقيفي، وإنما هو شيء اصطلح عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمن عثمان، وباقي مصاحف الصحابة لم تكن مكتوبة على الرسم العثماني، فنحن نلتزم بالرسم العثماني؛ لئلا يدخل باب العبث والتبديل في القرآن؛ لأن قواعد الإملاء تتغير من عصر إلى عصر ومن مصرٍ إلى آخر، فنقول: لا يجوز طباعة المصاحف على الرسم الإملائي الحديث، لا على أنه توقيفي وإنما من باب سد الذريعة لحفظ القرآن.
هؤلاء يبنون على الرسم العثماني أشياء غريبة، فلو لاحظت الرسم العثماني في (الزكاة) فإنها تكتب أحياناً بالواو، كذلك الربا تكتب أحياناً بالواو وأحياناً بالألف، فهم يبنون على ذلك عد الحروف.(1/14)
قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [(18) سورة العلق] بدون واو مع أنه لم يسبق بجازم، فكيف يبنون العدد هنا؟ يبنونه على الرسم العثماني، كلهم يصرح أنه يبني ذلك على الرسم العثماني، مع أنه حتى الرسم العثماني نفسه يتفاوت، فالمصاحف المطبوعة على قراءة ورش أو نافع بناءً على هذه القراءة، {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [(33) سورة المرسلات] هكذا: {كَأَنَّهُ جِمَالَاتٌ صُفْرٌ}، تغير عدد الحروف أم لم تغير؟ لا شك أنه تغيّر.
ثم أيضاً: الرسم ليس على نطق الكلمة، فمثلاً: {بِسْمِ اللّهِ} [(1) سورة الفاتحة]، كيف نكتبها على حسب النطق أو بناءً على الإملاء الحديث؟ تكتب هكذا ( باسم الله) فيها ألف، هكذا في الإملاء الحديث، بينما هي في الرسم العثماني من غير ألف.
كذلك نقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [(4) سورة الفاتحة] كيف تكتب في المصحف؟ تكتب بصورة: {مَلِكِ}، وذلك من أجل أن تحتمل القراءتين، فهم يبنون على الرسم العثماني، وهل هذا يصلح أن يبنى عليه العدد؟ ما دام أنه ليس توقيفياً فكيف تبني عليه العدد؟ ثم إن القراءات تتفاوت، فبناءً على أي شيء تعد؟
إذا كان العلماء مختلفون في عدد الحروف وفي عدد الكلمات وفي عدد الآيات للاعتبارات السابقة، فهل يصح أن نبني على هذا أرقاماً؟ أبداً، لا يمكن أن نبني عليها أرقاماً.
كذلك يبنون على ترتيب السور فيقولون، هذه السورة رقم 95 أو رقم 19، والرقم 19 هذا له عندهم أشياء وأشياء ستأتي، وهذه السورة رقمها كذا، والسؤال هو: هل ترتيب السور توقيفي؟
الجواب: الراجح أنه ليس بتوقيفي وإنما هو اجتهادي، استأنس فيه الصحابة مما كانوا يرون من غالب قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن ترتيب السور بهذا الشكل ليس توقيفياً، إنما التوقيفي هو ترتيب الآيات في القرآن في السورة الواحدة، أما ترتيب السور ليس بتوقيفي، ولذلك فإن مصاحف الصحابة الأخرى لم تكن مرتبة بهذه الطريقة.(1/15)
إنهم يبنون على عدد السور مع أن عدد السور مختلف فيه، فمثلاً: هل الأنفال والتوبة سورة واحدة أو لا؟
العلماء مختلفون في ذلك، كذلك هل سورة الفيل وقريش سورة واحدة أو هما سورتان؟
القرآن هو القرآن لم يزد فيه شيء ولم ينقص، لكن العلماء يختلفون، هل هما سورتان أم سورة واحدة؛ للتشابه، فهل يمكن أن نأتي ونبني على العدد أحكاماً، ونذكر أشياء على أنها من قبيل الإعجاز؟! ثم إن الطريقة التي يبنون عليها هذه الأرقام والإعجاز الذي يذكرونه، ليس لهم قاعدة ثابتة فيه، وإنما يذكر أرقاماً، ثم يحاول أن يأتي بموافقات، إما بعمليات حسابية -طرح وقسمة وضرب وجمع- إلى أن ينتج له الموافق، أو يجمع معها كلمات أخرى ويحذف -كما سترون-.
فمثلاً: كلمة: (الناس) كم مرة وردت في القرآن الكريم؟ والرسل كم مرة وردت في القرآن؟ إذا ما أسعفه العدد ليتوافق أدخل مع (الناس) (الإنسان) و(البشر)؛ ليكتمل له العدد، وسترون هذا، بينما إذا جاء يتكلم عن كلمة الموت –مثلاً- فإنه لا يأتي بكل الكلمات، وإنما يقتصر على الإتيان بكلمة (الموت) أو (الميت) فقط ويترك (موتكم) و(يميتكم) و(تموتون) لماذا؟ من أجل أن يستخرج عدداً يوافق شيئاً آخر، فهل هذا إعجاز؟
إن الموافقات تحصل في أشياء كثيرة في حياتنا اليومية، فأنا أحدثك عن نفسي:
أنزل من الفندق فآتِ إلى موظف الاستقبال، وأرى إنساناً يسلم له المفتاح، وإذا قارئ يقرأ في الراديو: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [(59) سورة الأنعام]، نعم في نفس اللحظة التي أسمع فيها صوت المفتاح يضرب على طاولة الاستقبال يقرأ القارئ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.(1/16)
ومن المصادفات أنه كثيراً ما يحدثني إنسان بالتلفون أو أتحدث مع إنسان ويذكر كلمة، فمثلاً: يقول: أنا أعاني من مرض حسد، فأسمع في نفس اللحظة القارئ يقرأ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [(54) سورة النساء]، ولا أحصي كم مرة حصل مثل هذا، فهل هذا إعجاز أم أنها مجرد موافقات وقعت؟
إن إعجاز القرآن ثابت، ولسنا بحاجة إلى تكلفات من أجل أن نثبت أن القرآن معجز، فهل وصلت الأمور إلى هذا الحد؟
الآن لو جئنا بأي كتاب من الكتب، كصحيح البخاري مثلاً أو كتاب ألفته أنت أو أي كتاب، وأخذناه كلمة كلمة، وأظهرنا الأرقام فيها، فإننا سنجد أرقاماً متوافقة، ألا نستطيع أن نربط بينها؟ نستطيع أن نربط بينها.
ولقد كنت أراجع تصحيح أحد الكتب، فلفت نظري الإحالة حيث ذكر المؤلف شاهدين من الشعر، فكانت إحالة الشعر الأول: انظر أو تقدم هذا البيت عند الآية رقم 48 من سورة الأنعام، وإذا بالشاهد الذي بعده مباشرةً يقول عنده: تقدم هذا الشاهد عند الآية رقم 48 من سورة الأعراف، راجعت وأنا أقول: أكيد في هذا خطأ فإذا هو فعلاً عند الآية 48 من الأعراف وعند الآية 48 من الأنعام وليس فيه خطأ، فهل هذا الشيخ الذي كان يتكلم وكُتبت دروسه، هل كان مستحضراً لهذه القضية -أن الشاهد هذا ذكره عندما تكلم على الآية رقم 48 من سورة الأنعام والشاهد الآخر عند الآية رقم 48 من سورة الأعراف- أم حصل هذا موافقة؟
حصل موافقةً، وهذا يحصل كثيراً.
ثم أيضاً هذا القرآن عربي وخاطبنا بلسانٍ عربيٍ مبين، فهل اللجوء إلى عدد الحروف في الكلمة هو مما تفهمه العرب من المخاطبات؟
القرآن يخاطبك فيقول مثلاً: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [(9) سورة الإسراء] فهل تبقى تعد حروف هذه الكلمة وتستنبط منها معنىً؟ هل هذا هو اللسان العربي؟ وهل هذا هو الخطاب القرآني وهكذا يُفهم؟(1/17)
بعض الإخوة من حرصهم وغيرتهم قاموا بدعاية كبيرة جداً وحملة ضخمة على كلمة (كوكا كولا)؛ لأن الكلمة مكتوبة بالإنجليزية، فقرؤوها من الخلف في الزجاجة بالعربي، لاحظ كيف قرؤوها بالعربي وبالمقلوب، (لا مكة) (لا محمد).
أقول: أولاً: هذه كلمة إفرنجية، فكيف تقرؤونها بالعربية؟ ثانياً: كيف تقرؤون هذه الكلمة بالمقلوب؟ إلى هذا الحد صار عندنا من الحدس والحساسية من منتجاتهم؟ تقرؤها بالمقلوب وهي كلمة أعجمية، ثم أيضاً ما هو المعنى (لا مكة ، لا محمد)؟ هي جملة غير مفيدة،؟
أنا سأجعل منها جملة صحيحة بتقدير محذوف: لا مكة مذمومة ولا محمد كاذب مثلاً، فما المشكلة الآن، ما معنى لا مكة لا محمد؟ إنها جملة غير مفيدة، ما لها معنى، فنحن أحياناً نتمحّل في القراءة أو في عدد حروف الكلمة وأشياء غريبة جداً ليست أصلاً من اللغة، ولا تدل عليها من قريب ولا بعيد.
بعد هذه الأمور التي ذكرتكم بها نبدأ بالكلام على الإعجاز العددي أو ما يسمى الإعجاز العددي، وسيكون الحديث على خمس نقاط:
أولاً: حقيقة الإعجاز العددي.
الثاني: الجذور التاريخية له.
ثالثاً: المؤلفات أو من أشهر المؤلفات فيه.
رابعاً: الأسس والأصول التي يبنون عليها.
خامساً: الأقسام التي يندرج تحتها مزاعمهم في هذا الإعجاز.
وأرجو من الإخوة أن يفكروا بعقولهم، فالمشكلة أننا نفكر بالعاطفة في كثير من الأحيان، فمن خلال النظر في كثيرٍ من الكتابات في الإنترنت لا سيما في بعض المواقع والساحات والحوارات وما إلى ذلك، نجد التفكير بالعاطفة وملاحقة أشياء لا حقيقة لها، وبالتالي فإن مثل هؤلاء الناس من الممكن أن يُتلاعب بهم، وممكن أن يغرّر بهم، نظراً لليأس الذي يعيشونه أو نظراً لمشاعر الإحباط أو نحو ذلك، فلنتنبه.
أولاً: حقيقة هذا الإعجاز العددي:
ما هو الإعجاز العددي؟(1/18)
الإعجاز العددي هو محاولة استنتاج قضايا إعجازية من الأرقام، إما على سبيل التوافق وإما بعمليات حسابية أو بما يسمى بحساب الجُمَّل الذي يذكر في الحروف المقطعة كما سيأتي.
من أي الأرقام يتم الاستنتاج؟
الجواب: يتم ذلك من رقم السورة ورقم الآية ورقم الجزء وعدد الكلمات وعدد الحروف وعدد الآيات، ومن أرقام صرح القرآن بها...الخ.
ثانياً: الجذور التاريخية لهذه المزاعم:
هل هناك أشياء يستندون إليها؟
هناك حديث أخرجه ابن خزيمة والبيهقي والحاكم وصححه الحاكم وهو بإسناد صحيح، وصححه من المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- وهو حديث ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يدخله مع الصحابة فسألهم يوماً عن ليلة القدر متى هي؟ فكل واحد أجاب بما عنده، ونحن نعرف أن ليلة القدر فيها عدة أقوال، فالذي يحضرني الآن أن الحافظ ابن حجر ذكر فيها في الفتح أربعين قولاً وهو شهر واحد، ولربما ذكر بعضهم أكثر من هذا.
عمر سأل الصحابة -رضي الله عنهم- والصحابة مختلفون في ليلة القدر متى هي، فكل واحد ذكر له شيئاً فسأل ابن عباس وقال له: لماذا لا تتكلم؟ فقال له: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، فأمره أن يتكلم، فقال: السبع -بناءً على أي شيء قال ذلك ابن عباس؟- قال: رأيت الله ذكر سبع سماوات، ومن الأرضين سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، وبرز نبات الأرض من سبع، فسأله عمر عن بعض تفصيل هذا ووافقه عليه، هل هذا الكلام الآن يتعلق بالإعجاز؟ هل فيه إعجاز من قريب أو بعيد؟
أبداً، إنما هي محاولة للاستنباط من قِبل ابن عباس -رضي الله عنه- في معرفة ليلة القدر مستأنساً بذكر العدد سبعة في قضايا متعددة في القرآن، ومن أقوى الأقوال في ليلة القدر أنها ليلة السابع والعشرين مثلاً، فاستأنس بهذه الأمور فقط، لكن هل لهذا علاقة بموضوع الإعجاز؟ أبداً، ليس له علاقة ولم يدعي هذا أحد البتة.(1/19)
ابن رجب -رحمه الله- في كتابه لطائف المعارف ضعّف هذا الأثر أصلاً وردّه، وقال: قد صحّ عن ابن عبّاس أنه كان ينضج على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين، يقول معنى هذا أن له رأي آخر في المسألة.
ثم ذكر ابن رجب شيئاً آخر في قضية العدد، فيقول بأن طائفة من المتأخرين -ليسوا السلف بل من المتأخرين- استنبطوا من القرآن أنها ليلة سبعة وعشرين من موضعين من القرآن، الأول قالوا: تكرر ذكر ليلة القدر في ثلاثة مواضع في القرآن، و(ليلة القدر) حروفها تسعة، والتسعة إذا ضربت في الثلاثة المواضع التي تكررت فيها فهي سبع وعشرون.
والثاني: أن الله قال فيها: {سَلَامٌ هِيَ} [(5) سورة القدر] فيقولون: كلمة {هِيَ} هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة، يقولون الكلمات ثلاثون كلمة السابعة والعشرون {سَلَامٌ هِيَ}.
ثم نقل ابن رجب -رحمه الله- عن ابن عطية المفسر صاحب كتاب المحرر الوجيز، أنه قال: هذا من ملح التفسير، لا من متين العلم.
عندنا أشياء من صلب العلم وعندنا أشياء من ملح العلم، وعندنا أشياء ليست من العلم، كما قسم الشاطبي -رحمه الله- فابن عطية يقول: هذا من الملح، يعني ممكن يذكر من باب الملاطفة، يعني أنه شيء لطيف، لكن تذكره على أنه معنىً ثابت تفسر به وتبني عليه حكماً بأن ليلة القدر هي ليلة سبعة وعشرين، فليس الأمر كذلك.
يقول ابن رجب: وهو كما قال، يعني قول ابن عطية: إن هذا من ملح العلم وليس من صلب العلم فلا يلتفت إليه.
ثالثاً: المؤلفات في الإعجاز العددي:
المؤلفات في الإعجاز العددي كثيرة جداً، أذكر بعضها:(1/20)
يوجد كتاب اسمه: رسم المصحف والإعجاز العددي، دراسة نقدية في كتب الإعجاز العددي في القرآن الكريم للدكتور: أشرف عبد الرزاق قطنة، وهو يرد على الإعجاز العلمي، وهذا الكتاب حاولت أن أحصل عليه لكن لم يتيسّر لي ذلك، وهو يرد على أصحاب الإعجاز العددي، هذا الكتاب قام بدراسة ثلاثة كتب من كتب الإعجاز العددي، وهي من أشهر كتب الإعجاز العددي، كتاب اسمه: معجزة الرقم 19، مقدمات تنتظر النتائج لبسّام جرار، هذا يدرس فيه العلاقة بين الحروف في فواتح السور وبعض كلمات القرآن الكريم والعدد 19، ودرس كتاباً آخر اسمه: الإعجاز العددي للقرآن الكريم لمؤلفه: عبد الرزاق نوفل وهذا الكتاب يدرس العلاقة بين تكرار ورود الكلمات المترادفة والمتضادة في القرآن.
الكتاب الثالث الذي درسه هذا الكتاب النقدي اسمه: المعجزة النظرية الأولى لمؤلفه: عدنان الرفاعي وهذا يحصي الحروف والكلمات في القرآن، ويعمل على بيان الترابط العددي بينها من جهة، وترابطها مع الظواهر الكونية من جهةٍ أخرى.
ومن الكتب أيضاً: كتاب موسوعة الأعداد في القرآن الكريم: لمهدي كري...م، وأيضاً تعرض لهذا الموضوع: مصطفى الدبّار في كتابه: وجوه من الإعجاز القرآني،.
وكذلك يوجد كتاب اسمه: أسرار معجزة القرآن الكريم لعبد الحليم الخطيب، وهناك رسالة علمية في جامعة اليرموك بعنوان: الإعجاز العددي بين الحقيقة والوهم، وما وقفت عليه، ويبدو أنها ما طبعت، وهناك أيضاً رسالة أخرى في جامعة أم القرى في عام 1408هـ في هذا الموضوع: دراسات في الإعجاز العددي بين الماضي والحاضر، ويبدو أنها ما طبعت ولم أقف عليها.
رابعاً: الأسس والأصول التي يبنون عليها هذا النوع من الإعجاز:
ما هي المنطلقات التي ينطلقون منها في هذا الإعجاز؟
خذ هذا المثال على ذلك:
هذا أحد المؤلفين يقول: الطريقة التي سرت عليها:(1/21)
اعتمدت المصحف الإمام كمرجعٍ وحيد: وهل هذا يصلح في العدد؟ هل يصح أن يعوّل عليه في العدد؟ لا، لماذا؟ لأن طريقة الرسم العثماني تختلف من كلمة إلى كلمة، وعما ننطق به أيضاً.
يقول: اعتمدته بعدد سور القرآن، وعدد آياته وكلماته وحروفه، ثم يقول: بنيت على أن عدد سور القرآن 114: وهل هذا محل اتفاق؟ الجواب: لا.
يقول: أولها فاتحة الكتاب وآخرها سورة الناس: معناها أنه اعتمد الترتيب الذي عليه المصاحف العثمانية مع أنه ليس بتوقيفي، فكيف يبني عليه أحكام واستنتاجات ومعاني وإعجاز؟
يقول: عدد آيات القرآن: ست آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية: هل هذا محل اتفاق؟ لا، فكيف يبني عليه؟ ويقول: وتعداد الكلمات ما قمت بعدّها: نحن ذكرنا لكم الاختلاف في عد كلمات القرآن.
ويقول: تعداد الكلمات يعتمد على رسم الكلمة، فالطريقة التي سرتُ عليها أن الكلمة المرسومة برسمٍ واحد، أعتبرها كلمة واحدة: وهذه الطريقة صحيحة أم غير صحيحة في العدّ؟ غير صحيحة.
كذلك أيضاً هو لا يعد الضمائر في الكلمة، فمثلاً: حينما يقول: تأخذونها –مثلاً- أصل الكلمة: أخذ، فهو يعتبر مثل هذه كلها كلمة واحدة: (تأخذونه) يعتبرها كلمة واحدة، بينما هي لا تعتبر كذلك، ففيها لواصق من الضمائر ونحوها، وهكذا يبدأ يبني على هذا أشياء ويذكر أمثلةً له.
ومن الأمثلة أيضاً: تركيب في قوله: (ما يقولون) يقول هو: أعتبرها كلمتين (ما أنت) كلمة واحدة (ما لم) يقول: أنا أعتبرها كلمتين.
ويقول: بعض من كتب في الإعجاز العددي يعتبرون (ما لم) –مثلاً- كلمة واحدة: بناءً على ماذا؟ رأيتم التفاوت في كتابة هذه الكلمات؟!
ويقول: هذا بعض من اصطلحت عليه في تعداد الكلمات، وأعتقد أنه مطابق لإجماع العلماء: وأين الإجماع؟ هل المسألة فيها إجماع؟ أو أحد ادعى الإجماع؟ أيداً، لكن هؤلاء يكتبون ويأتي من يقول: ما شاء الله، ثم يقبل هذا الكلام على عواهنه!.(1/22)
يقول: أسير على تعداد الحروف وفق رسم الحرف في المصحف العثماني: فكلمة {مَلِكِ} هي تقرأ (مالك) فهي أربعة حروف وهو يحسبها ثلاثة أحرف، ولا أدري هل يعتمد رواية حفص عن عاصم في المصاحف المطبوعة عليها أو قراءة ورش أو نافع؟ على أي شيء يبني هذا الإعجاز؟
الهمزة والألف له اصطلاح معيّن في عدّها، كذلك أيضاً يذكر أنه لا يراعي النطق بالحرف، فكلمة {بِسْمِ} من {بِسْمِ اللّهِ} يعدها باء وسين وميم -ثلاثة أحرف- بينما هي في الواقع أربعة أحرف، فيبني كذلك، وهكذا يذكر أشياء من مصطلحاته التي بناها على أمورٍ لا يصح البناء عليها، ثم بدأ يذكر أشياء من ذلك، وبنى عليها ألواناً من الإعجاز.
بالنسبة للسور المكية والسور المدنية، ما هو ترتيب نزول القرآن؟ من أول سورة نزلت إلى آخر سورة؟
حسب ما أذكر الآن أن فيه روايتين، وكلاهما لا تصح في الترتيب حسب النزول، ومع هذا فهؤلاء يأتون مثلاً وينظرون إلى ترتيب النزول، وينظرون إلى ترتيب المصاحف ويستخرجون أشياء من الإعجاز، بينما ترتيب السور في المصاحف ليس بتوقيفي، وترتيب النزول لا يصح فيه حديث، فكيف تبنون عليه مثل هذه الاستنتاجات؟!
كذلك أيضاً: السورة المكية الأصل أن جميع آياتها مكية إلا ما دل الدليل على أنها ليست بمكية، فالعلماء أحياناً -وهذا كثير جداً في التفسير- يقولون: هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، بناءً على ماذا قالوا: إلا ثلاث آيات؟ أحياناً بناءً على ما لاح لهم من المعنى، ولكن هذا لا يجوز.
فسورة الأنعام سورة مكية نزلت جملة كما ثبت هذا في روايات صحيحة، شيّعتها الملائكة في ليلة واحدة، ومع هذا نجد من المفسرين من يقول: يُستثنى منها بعض الآيات.
ما هي الآيات التي تستثنى منها؟
يقول: يستثنى منها قول الله -تبارك وتعالى-: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [(141) سورة الأنعام]، لماذا {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مدينة والسورة بنص الحديث نازلة في ليلة واحدة في مكة؟(1/23)
قال: لأن هذه تتكلم عن الزكاة والزكاة ما فرضت إلا بالمدينة!
والصواب أن هناك من الآيات ما ينزل قبل تقرير الحكم، وأيضاً قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الراجح أن أصل الزكاة فرض بمكة، لكن الأنصبة والتفاصيل كانت بالمدينة، فكان يجب على الإنسان أن يخرج يوم الحصاد شيئاً غير مقدر.
فلاحظ كيف قال بعضهم بأن السورة استثني منها بعض الآيات، وهذا أوضح مثال إذ أن هذه سورة نص الحديث أنها نازلة جملة واحدة ومع ذلك يستثنون بناءً على ما لاح لهم من المعنى.
الآيات التي تحدثت عن اليهود كقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [(146) سورة الأنعام] قال: الآيات التي تتحدث عن اليهود هذه في المدينة -مع أنها من الآيات المكية- لماذا؟ إنه يأتي وينظر إلى هذه الاستثناءات مع أنها ليست محل اتفاق ويستنبط منها استنباطات.
ومن الأمثلة:
أتى إلى سورة يوسف وسورة النحل وهما سورتان من السور المكية -بعض العلماء يقول: أن سورة يوسف مكية- فهذا ينظر أعلى السورة في المصحف ويظن أنها قضية نهائية فيقول: سورة يوسف سورة مكية إلا الآيات 1 و 2 و3 و7 فمدينة، بناءً على ماذا؟
سورة النحل يقول: إنها مكية إلا الآيات: 126 و 127 و128 فهي مدينة، ثم يضع جدولاً بهذه الطريقة: الآيات سورة يوسف سورة النحل، رقم الآية وعدد الكلمات، الآيات المستثناة من سورة يوسف، الآية رقم 1 كم عدد كلماتها؟ يقول: خمس، الآية رقم اثنين عدد كلماتها ست، الآية رقم ثلاثة عدد كلماتها 16، الآية رقم سبعة عدد كلماتها 7.(1/24)
سورة النحل: الآية رقم 126 قالوا: إنها مدينة –مستثناة- عدد كلماتها 12، وهكذا، ثم خرج بمجموع الكلمات من السورتين من الآيات المستثناة، مجموع الكلمات للآيات الأربع من سورة يوسف: 34 كلمة، ومجموع الكلمات من سورة النحل المستثناة (34) كلمة ويقول: هذا إعجاز، والكتاب مليء بهذه الجداول وبهذه الطريقة، يقول: النتيجة لقد تساوى عدد الكلمات في الآيات المدينة في السورتين في كل سورة (34) كلمة، بالله عليكم أهذا إعجاز؟ أصلاً من قال لك: إن هذه الآيات فعلاً مستثناة؟ ومن قال لك: إن طريقتك في عدّ الكلمات أصلاً صحيحة؟
مثال ثان:
سورة هود وسورة الحج وسورة الشورى، تعامل معها بنفس الطريقة على أن فيها آيات مستثناة، ووضع جدولاً ثم خرج بنتيجة مجموع الكلمات في الآيات الثلاثة من سورة هود المستثناة ثمانين كلمة، ومجموع الكلمات في سورة الحج ثمانين كلمة، وكذا الأمر في سورة الشورى ثمانين، ثم كتب النتيجة وكتب بين قوسين (تناسق عجيب)، ثم كتب تعليقاً: الإحصاء صحيح والمرجع المصحف الإمام، وهكذا ذكر عدة أمثلة على ذلك بنفس الطربقة، فيا ترى بناءً على أي شيء حكمت؟ ومن قال لك: إن هذا الاستثناء صحيح أصلاً؟
وهذا أصدر سلسلة من الكتب، وذكر أننا في عصر الأرقام، وأننا في عصر الكمبيوتر والحاسبات، فهذا هو الإعجاز الذي ينبغي أن نبرزه أن الناس، لم يعودوا يفقهون البلاغة والفصاحة ولا يتذوقونها فينبغي أن نبرز الإعجاز العددي في القرآن!!
خامساً: الأقسام التي تندرج تحتها مزاعمهم في هذا الباب:
أولاً: موافقات رقمية إما ابتداءً وإما بتكلفات حسابية، ومن أمثلة ذلك أنهم وضعوا جداول في الانترنت -مواقع خاصة- وفي كتب، وبعضهم ينقل عن بعض، وجمعت ما كتبوا، وأعطيتها أحد فضلاء طلبة العلم ممن يتميّزون بالدقة العلمية، فأحصى لي هذه الأشياء بعدهم وتتبّعهم فيها فكانت النتائج كالآتي:(1/25)
هم يقولون: الدنيا ذكرت 115 والآخرة 115 مرة، فلننظر هذا الكلام الذي قالوه أهو صحيح أم لا؟ هذه الكلمة وردت في القرآن بهذا العدد المزعوم سبعة وستين مرة (الحياة الدنيا) أو (حياتكم الدنيا)، وثمانية وأربعين مرة (الدنيا) وحدها، ووردت أربع مرات لا يراد بها ما يقابل الآخرة، كقوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [(42) سورة الأنفال] يعني القريبة، شاطئ الوادي هو الجانب الآخر من الوادي، الجانب الذي يلي المدينة، {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}: مما يلي مكة وهذا في غزوة بدر.
كذلك قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [(6) سورة الصافات] فليس ذلك مما يقابل الآخرة.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [(5) سورة الملك]، فيكون العدد الحقيقي لعدد مرات ذكر (الدنيا) بالمعنى المقابل للآخرة 115 مرة الذي ذكروه ننقص منها الأربع الآيات هذه التي ليست مقابل الآخرة، فتكون قد ذكرت في الحقيقة 111 مرة، وهذا لا يتناسب مع عدد مرات ذكر الآخرة.
كلمة الآخرة في القرآن يقولون: وردت 115 مرة، وهي جاءت باسم اليوم الآخر 26 مرة أيضاً، فينبغي أن نعد: 115 + 26 = 141 مرة، ومع ذلك فـ 115 التي ذكرت فيها الآخرة ليست كلها بمعنى اليوم الآخر فمن ذلك: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}[(7) سورة ص]، فالملة الآخرة بعضهم يقول: إنها النصرانية، والمشركون يقولون ذلك: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}، فليس هو اليوم الآخر؟ فكيف تعدّها معها؟(1/26)
وكذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [(7) سورة الإسراء]، فليس المراد بالآخرة هنا اليوم الآخر، وإنما المراد بذلك الكرة الثانية.
وعليه يكون العدد الحقيقي: 141 فإذا نقصنا الاثنتين اللتين ليستا في مقابل الآخرة يصير عندنا: 139 مرة، وكذلك أيضاً وردت كلمة الآخرة على سبيل الوصف أحياناً لا التسمية مثل: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ} [(94) سورة البقرة]، يصف الدار بأنها الآخرة، وكقوله تعالى: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [(30) سورة النحل] الأولى وردت ست مرات، والثانية مرتين، وكقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [(20) سورة العنكبوت] وردت مرة واحدة.
ومن ذلك الملائكة يقول وردت: (الملائكة) ثمان وثمانين مرة و(الشياطين) ثمان وثمانين مرة، وإذا كان كذلك فما الذي تريد أن تصل إليه؟ ثم إننا لا نسلّم لك هذا العدّ؛ فالملائكة وردت في تصريفات متعددة، جاءت ملك عشر مرات، ملكاً ثلاث مرات، ملكين مرتين، الملائكة: 68 مرة، ملائكته: خمس مرات، بهذه التصريفات: 88 مرة، ما حسبنا جبريل: ثلاث مرات، ولا حسبنا ميكال: مرة، ولا حسبنا مالك: مرة، الزبانية ما حسبناها وقد وردت مرة، هاروت وماروت على القول بأنهما ملائكة وردت مرة، بينما هم حسبوا ملك الموت، والشياطين يقولون: وردت 88 مرة ، هي وردت كلمة الشيطان 68 مرة، الشياطين 17 مرة، شيطاناً مرتين، شياطينهم: مرة واحدة، المجموع 88 مرة، وإحدى هذه المرات تشبيه: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } [(65) سورة الصافات]، وما عدوا إبليس معها، وقد ذكر 11 مرة.
الملائكة وردت بتعبير آخر في مواضع كثيرة مثل:
{(1/27)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [(1) سورة الصافات] {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [(1) سورة المرسلات] على قول بعض السلف، كذلك: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى*ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [(5 -6) سورة النجم].
وقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [(164 -165) سورة الصافات] فالمراد بهم الملائكة.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ} [(19 - 20) سورة التكوير] جبريل.
وكذلك قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [(24) سورة الذاريات].
بينما كلمة: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [(31) سورة يوسف] التي قيلت في يوسف -صلى الله عليه وسلم- يعدونها من جملة هذه الأشياء.
وعن الحياة والموت يقولون: ذكرت 145 مرة، الحياة وقد وردت تصريفاتها متعددة، حي: مرة، وتحيون: مرة، ونحيا: مرتين .. الخ التصريفات المتعددة بما فيها: حياة، حياتكم، حياتنا، الحيوان، محياهم محياي، محيي، مجموع هذه الأرقام 136 مرة، ما الذي أخذ منها حتى قال 145 مرة؟ لا ندري، من وأين أوصلها إلى الـ 145 مرة؟ وبناءً على ماذا انتقى؟ لا ندري.
الموت: يقولونعنه: ورد 145 مرة، وتصريفاته كثيرة: مات، وماتوا -وكلها مكتوبة عندي بأرقامها- مجموع هذه التي تكررت في الواقع 158 مرة، إذا أضفنا إليها الميتة ست مرات زد 158 + 6= 164، وهم يقولون 145 مرة! بناءً على ماذا 145؟
والعجيب أنك تجد من يقرأ هذا وينتشي ويقول: سبحان الله، مع أنه لو فرضنا أنها توافقت فعلاً فما العجيب وما الإعجاز فيها؟ اجمع من أي كتاب أرقاماً أو كلمات، ثم اربط بين كلمتين وقل: هذا وجه من الترابط والتناسق، ما المشكلة في ذلك؟!!
يقولون أيضاً: كلمة النفع وردت خمسين مرة، والفساد: خمسين مرة، مع أن أكثر ما وردت كلمة النفع المذكورة كانت منفية ومن أمثلة ذلك:(1/28)
قوله تعالى: {وَمَا لَا يَنفَعُهُ} [(12) سورة الحج]، وقوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [(3) سورة الفرقان]، وكقوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [(219) سورة البقرة]، وقوله: {يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [(13) سورة الحج] وما أشبه ذلك.
كذلك الفساد يقولون: وردت خمسين مرة، مع أن له معانٍ متعددة، مرة مثبت، ومرة منفي كقوله تعالى: {لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [(251) سورة البقرة]، وقوله: {أَفْسَدُوهَا} [(34) سورة النمل]، وقوله: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [(73) سورة يوسف]، وقوله: {لَتُفْسِدُنَّ} [(4) سورة الإسراء]، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [(4) سورة القصص]، وأشباه ذلك.
ما العلاقة بين النفع وبين الفساد؟
هناك كلمات متعددة لو ربطنا بينهما كالنفع والضر، والإثم والشر، والفساد والصلاح، فمثلاً كلمة: النفع والضر وردت 66 مرة، الإثم 48 مرة، الشرّ: 30 مرة، الفساد والصلاح: 180 مرة، الخير: 188 مرة، لو أردنا أن نجمع ونجري إحصائيات سنخرج بنتائج أحسن من التي يذكرونها.(1/29)
يقولون: المصيبة وردت 57 مرة، والشكر: 57 مرة، كان من المناسب أن يذكر مع المصيبة الصبر لا الشكر، والحاصل أن كلمة المصيبة في الواقع وردت عشر مرات، والباقي خمسة وستين مرة وردت بمعان وصيغ أخرى مثل: أصاب أصابت، أصابتكم، أصابكم، أصبتم، تصبهم، وآيات أخرى لا علاقة لها كقوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [(117) سورة آل عمران]، وقوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [(50) سورة التوبة]، وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ} [(78) سورة النساء]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [(120) سورة التوبة]...فكل ذلك ليست هي المصيبة؟ ومع ذلك يعدون ذلك معه.
كذلك الشكر تارة تأتي منفية كقوله تعالى: {لاَ يَشْكُرُونَ} [(243) سورة البقرة]، وكقوله: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [(17) سورة الأعراف]، وتارة مثبتة كقوله تعالى: {لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [(189) سورة الأعراف]، وتارة تأتي بصيغة الأمر كقوله تعالى: {وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [(144) سورة الأعراف] وهكذا...
بينما المناسب ذكر الصبر، الصبر ورد 103 مرات، الرضا ورد نحو 73 مرة، هذا مجملاً بغض النظر عن كونه منفي ومثبت وبأي طريقة ورد.(1/30)
يقولون: الضالون ورد 17 مرة، والموتى 17 مرة، فما العلاقة بينها وبين الموتى؟ ثم الضالون والضالين ومضل والمضلين وضالاً {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [(7) سورة الضحى] هل هذه عدها كلها حتى يستخرج هذا الرقم 17 مرة؟ وكذلك الموتى جمعها من أمواتاً، أموات، الميت، ميتون، ميتين، ولم يذكر التصريفات الأخرى فيها، فاقتصر على بعض الأشياء، وكذلك في الضالين اقتصر فقط على الضالين، وترك أشياء كثيرة كان المفترض أن يذكرها على طريقته في العد سابقاً، لكن ما عدّها حتى يستخرج هذا التوافق، وما جاء بجميع التصريفات كما في المواضع الأخرى، وهو كاتب واحد.
وهناك أشياء تكررت برقمٍ واحد مثل 17 مرة، كلمة: (عبادي) (ضر) (سليمان) صلى الله عليه وسلم (سمعنا) (الرجال) (الكذب) (رسلنا) (رسله) (الحسنى) هل يمكن أن نركب منها شيئاً؟
لو جاء إنسان وقال كلمة: (الرجال) 17 مرة وكلمة (الكذب) 17مرة، إذن: (الرجال) و(الكذب) بينهما تلازم!!؟
كلمة (ضر) وكلمة (رجال) قال: الرجال ملازمة للضر، كلها وردت 17 مرة هذه الكلمات.
وشخص آخر يريد يثبت إعجاز فيقول: كلمة (سليمان) وردت 17 مرة، والرسل 17 مرة (رسلنا) 17 مرة و(رسله) 17 مرة و (الحسنى) 17 مرة فسليمان من الرسل، ومن رسله رسل الله 17 مرة، والحسنى هي مثواه -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء وهي الجنة، فهذا توافق، طبعاً هم ما قالوا هذا، لكن هذا ممكن نحن نأتي بأشياء منه ونقول هذا من الإعجاز العددي!!
(الذهب) يقولون: ثمان مرات و(الترف) ثمان مرات بينما كلمة (الترف) جاءت بتصريفات كثيرة كـ(أترفناهم، أترفتم، أترفوا، مترفوها، مترفين، مترفيها...) جمع كل التصريفات وما أشبه ذلك.(1/31)
البركة: يقولون: 32 مرة والزكاة 32 مرة، جمع (بارك، باركنا، بورك، تبارك، بركات) الخ وخرج بـ 32 مرة منها: {تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [(54) سورة الأعراف]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [(14) سورة المؤمنون]، ومنها: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [(155) سورة الأنعام]، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [(3) سورة الدخان].
أما الزكاة ما عد كل التصريفات جمع معها أشياء لا تصلح أن تجمع مع الزكاة التي هي إخراج المال، قال: قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [(156) سورة الأعراف] هذه من الأعراف وهي مكية، يؤتون الزكاة يعني الإيمان، تزكية النفس هذا معناها، ليست الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام.
وكذلك في قوله:{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } [(81) سورة الكهف] ليست زكاة المال المخرجة المخصوصة، وإنما زكاةً يعني طهارةً وصلاحاً.
عدوا أيضاً قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً}[(13) سورة مريم]، {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [(6 -7 ) سورة فصلت] يعني الإيمان على قول مشهور في الآية.
ومما يذكرون أيضاً: (الصلاة) يقولون: وردت خمس مرات و(الشهر) 12 مرة و(اليوم) 365 مرة، بينما إذا جمعنا كلمة الصلاة بجميع تصاريفها فإننا في الواقع نخرج برقمٍ آخر غير ما ذكر، لكنه اختار الصلوات المجموعة دون سائر الاستعمالات لتوافق العدد الذي يريد، وإلا فهي: صلى: ثلاث مرات تصلي: مرة، ويصلوا: مرتين، ويصلون: مرة، ويصلي: مرتين، وصلوا: مرة، والصلاة: 67 مرة، وصلاتك: ثلاث مرات، وصلاته: مرة، وصلاتهم: ست مرات، لماذا لم يجمع هذا كله وإنما اقتصر فقط على (الصلوات)، فقال خمس مرات؟(1/32)
الشهر جاء عشر مرات (الشهر) وشهراً: مرتين، وشهرين: مرتين، والشهور: مرة، وأشهر: ست مرات، المجموع 21 مرة، لكنه اختار فقط المفرد -الشهر أو شهراً- من أجل أن يقول: السنة: 12 شهراً.
وبالنسبة لليوم كذلك، كلمة اليوم وردت في القرآن 349 مرة ويوماً: 16 مرة، ويومكم خمس مرات، وغير ذلك، فالمجموع 475 مرة، بينما هو اختار بعضها وترك الباقي وقال وردت كلمة اليوم 365 مرة.
أنا أمامي الأمثلة التي ذكروها، وهي عشرون مثالاً ولربما تزيد، وكلها بهذه الطريقة، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وإلا فكل الأرقام التي يذكرها تحتاج إلى مناقشة فيها أصلاً ولا يسلّم له ذلك، وتوجد أشياء ليس لها معنىً أصلاً أذكر منها شيئاً وأختم، فمن ذلك أنه يقول:
(الأصنام) ذكرت خمس مرات و(الخنزير) خمس مرات (والخمر) خمس مرات، و(البغضاء) خمس مرات و(التنكيل) خمس مرات و(الحسد) خمس مرات، و(الرعب) خمس مرات، و(الخيبة) خمس مرات، فما الذي يريد أن يصل إليه؟ مع أني ما تابعته في صحة هذه الأرقام.
ومن الأمثلة أنه ذكر الناس والرسل، فالناس أدخل معها الإنسان وأدخل معها البشر من أجل أن يقول أنها وردت 368 مرة ولتوافق الرسل، وأدخل مع الرسل (المرسلات) ليقول: إنها 368 فالناس توافق عدد الرسل، فلو فرضنا توافق عدد الناس والرسل في القرآن ماذا يعني ذلك؟ أين الإعجاز في ذلك؟ لا يوجد إعجاز.
يقولون أيضاً: متاع الإنسان كذلك تكرر 368 مرة، طبعاً نحن ما تابعناه بالعدد لكن سنفترض أنه صحيح- فما هو متاع الإنسان الذي تكرر؟
يقول: الرزق تكرر: 120 مرة، والمال: 86 مرة، والبنون: 162 مرة، المجموع: 368 مرة، طيب وأين ذهبت الزوجات؟ وأين ذهبت المراكب والحرث والأنعام، وما إلى ذلك من الأشياء التي هي من متاع الإنسان؟ لم يعدها، وإنما عدَّ بعض متاع الإنسان.(1/33)
وهذا يقول بأن قول الله -عز وجل- عن أهل الكهف: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [(25) سورة الكهف]، يقول: لاحظ أنه ما قال: ثلاث مائة وتسع سنين، وإنما ثلاث مائة سنة يعني قمرية، وثلاثمائة وتسع سنوات شمسية، فهذا إعجاز.
يقول: إذا حسبت عدد أيام السنة القمرية ثم ضربتها في 300، ثم حسبت عدد أيام السنة الشمسية ثم ضربتها في 300 تجد أن الفرق بين عدد الأيام الشمسية والقمرية تسع سنوات بالضبط، ويقول: القرآن يقول لك: ماذا تريدها؟ تريدها ميلادي أو هجري؟ هذه نص عبارته في الشريط: تريدها ميلادياً أو هجرياً؟
القرآن خاطبنا بالسنوات الشمسية أو السنوات القمرية؟ وعلى أي شيءٍ نحمل ألفاظ القرآن وعلى أي معهود؟ على معهود الفرس الروم، أو على معهود الأميين في الخطاب فما هذا التلاعب؟
الله أخبرنا أنهم بقوا ثلاث مائة سنة وتسع سنوات، فكيف تقول: إنهم جلسوا في القمرية ثلاث مائة سنة، وفي الشمسية 309 سنوات؟
بل بحسابنا بقوا ثلاث مائة وتسع سنوات، وليس هذا من الإعجاز في شي.
أتوقف هنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(1/34)