مجلة السنة >> العدد 117 - ربيع الثاني 1423 هـ - يوليو (تموز) 2002 م >> الركن الشرعي >>
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية، جامعة إب - اليمن
القرآن الكريم حجة الله تعالى على عباده منذ أول لحظة من نزوله. ولئن كان إعجاز القرآن ظاهراً في فصاحته وبلاغته وأسلوبه، وقد أذعنوا لتحديه وسلموا له بذلك - رغم أن العرب أفصح الأمم وأقدرها على البيان - فهو ما يزال معجزاً للعرب ولغيرهم من الأمم بل معجزاً للإنس والجن ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) [الإسراء:88].
معجز في جوانب أخرى من وجوه الإعجاز عرفتها البشرية، في فصاحته وبلاغته، وفي شرائعه وأحكامه، وفي أخباره وتنبؤاته وعلومه التي كلما توصل العقل البشري لاختراع شيء جديد، أو اكتشاف ظاهرة جديدة في آفاق الكون أو النفس البشرية، وجد أن القرآن الكريم قد سبقه إليها بقرون، بل عرف أن أساسها مذكور في كتاب الله عز وجل لقوله تعالى: ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)) [النحل:89] ، وقوله: ((ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)) [الزمر:27] [الروم:58] وقوله سبحانه: ((وكل شيء فصلناه تفصيلاً)) [الإسراء:12].
وكيف لا يكون أمر القرآن كذلك وهو كلام الله عز وجل الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وهو بكل شيء محيط؟
قال تعالى: ((ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)) [غافر:62].
وقال: ((قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً)) [الكهف:109].
وقال: ((ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)) [لقمان:27].
* * *(1/1)
سلك القرآن الكريم في مخاطبة الناس وإقناعهم بالحق وأمرهم بالتسليم لله رب العالمين، مسلك الحجة والبرهان، القائم على العلم، ومن أهم وسائل تحصيل العلم والبرهنة على الحقائق القراءة والكتابة والبحث، ولذا كان أول ما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)) [العلق:1 - 5].
وسورة التوبة من أواخر سور القرآن الكريم نزولاً ورد فيها الحث على طلب العلم، بل عدّه نفيراً، قال تعالى: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)) [التوبة:122].
فالنفير يكون من جهتين لعزة الأمة وحمايتها:
جهة تحمل السلاح فتجاهد في سبيل الله لدفع خطر الأعداء الخارجيين وجهة تنفر لنشر العلم في أوساط الأمة وتفقهها في دينها لصدّ خطر الجهل، والثانية يقدم دورها على الأولى، لأن العلم يقدم على العمل، وقد ترجم البخاري في صحيحه في كتاب العلم (باب العلم قبل القول والعمل) لقول الله عز وجل ((فاعلم أنه لا إله إلاّ الله)) [محمد:19] ، وقال عمر رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسودوا).
وقال تعالى: ((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب)) [الزمر:9].
وقال: ((إنما يخشى الله من عباده العلماءُ)) [فاطر:28].
وقال تعالى: ((الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)) [الرحمن:1-4].
وقال تعالى: ((ن والقلم وما يسطرون)) [القلم:1].
فقد أقسم سبحانه بالقلم وما يسطر به لأنه آية من آياته العظيمة.
والآيات غير ما ذكرناه كثيرة في الحث على العلم والقراءة والبحث.
* * *
والذي يتلو كتاب الله ويتدبره، يقف أمام آيات كثيرة تحث على التدبر والتفكر والتأمل والنظر في هذا القرآن العظيم وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى في السموات والأرض.
ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد(1/2)
ومن هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: ((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)) [البقرة:164].
وقوله تعالى: ((خلق الله السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ))[العنكبوت:44].
وقوله: ((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ))[العنكبوت:43].
وقوله: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)) [القمر:17].
وقوله: ((وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون )) [الذاريات:20-21].
وقوله: ((كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ))[فصلت:3].
وقوله: ((فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون، ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين، ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )) [الروم:17-24].
وقال تعالى: ((أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر )) [الغاشية:17-21].
وغيرها من الآيات.
المنهج السليم في إدراك الإعجاز العلمي في القرآن:(1/3)
يجب على الباحث عن الحقائق العلمية، والمهتم بالإعجاز العلمي في كتاب الله الكريم أن يوقن أن هذا القرآن العظيم هو من علم الله عز وجل الذي خلق كل شيء فقدره تقديره، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، وأن هذا القرآن لا يعتريه خطأ ولا نقص، ولا يمكن لعالم مهما بلغ شأنه أن يستدرك على كتاب الله شيئاً، ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ))[فصلت:42]، ((لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )) [النساء:82]، وقال تعالى: (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) [القمر:49].
وأمر آخر إنه مع تطور العلوم، وظهور الاختراعات العلمية والاكتشافات الهائلة التي توصل إليها العقل البشري، والتي يفاخر بها بني البشر من سبقهم، بالرغم من كل ذلك فإن هذا التقدم والتطور يعدّ قليلاً ضئيلاً في جانب علم الله عز وجل، الذي يعلم السر وأخفى، فهو سبحانه له الخلق والأمر، ولم يعط الإنسان من العلم إلا القليل فقال سبحانه: (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )) [الإسراء:85].
هذه الآية الكريمة تعتبر قاعدة عظيمة، وركن أصيل في ضحالة علم الإنسان ومحدودية معرفته، في كل شأن من شؤون الكون، ابتداءً من الأرض بما فيها من بحار وأنهار وجبال وأشجار وثمار وطير وحيوان، ثم السموات العلى بما فيها من نجوم وكواكب وطبقات، ورفعها من غير عمد مرئيات، وما فيها من مخلوقات لا يعلمها إلا الله تعالى.(1/4)
وذكر البخاري في صحيحه ترجمة لأحد الأبواب في كتاب العلم بالترجمة الآتية: (باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيَكِل العلم إلى الله) ثم ذكر حديث موسى والخضر عليهما السلام، وفيه: (قام موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرُدَّ العلم إليه ... فسلم موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ علّمكه لا أعلمه، قال: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرّت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعُرف الخضر فحملوهما بغير نولٍ، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر..) إلخ الحديث.
* * *
((وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )):
هذه الآية الكريمة تنادي بالناس جميعاً أنكم مهما بلغتم من التقدم العلمي والرقي الحضاري، فإن ذلك يعدّ قليلاً، وكلما تقدم الإنسان علمياً يدرك مقدار جهله وقلة علمه في جانب علم الله عز وجل.
ولبيان قلة علم الإنسان، وضعفه أمام قدرة الله عز وجل، وعلمه المحيط بكل شيء، ولتحذيره من الاغترار بقدرته وقوة سلطانه، قال تعالى: (( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )) [الروم:9].(1/5)
وقال: ((قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون، ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون )) [القصص:71-75].
وقال تعالى: (( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك ))[الانفطار:6-8].
وقال: ((يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز)) [الحج:73-74].
* * *
((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم )):
إن عطاء القرآن متجدد ومستمر باستمرار البشرية على هذه الأرض المعمورة بإذن الله، قال تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )) [فصلت:53].
لقد تحدث القرآن الكريم عن حقائق علمية، وآيات كونية، ترشد كل عاقل إلى عظمة هذا الخالق والمدبر للكون سبحانه وتعالى، لم يكن العقل البشري على علم بها، بل لم يتبين له حقيقتها إلا بعد زمن، ولذلك فقد استعمل في الآية الكريمة الدالة على آيات الله سبحانه حرف السين لبيان استمرارية العطاء وتجدده ومواكبته لكل تطور بشري، ولذا وُصف القرآن الكريم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يخلق على كثرة الرد).
ومن هذه الحقائق العلمية التي تحدث عنها القرآن والآيات الدالة على عظمة الله سبحانه وإعجاز كتابه ما يلي:(1/6)
- قوله تعالى: ((والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون )) [النحل:8].
كانت وسائل النقل والركوب عند الناس عندما أنزل الله القرآن على قلب رسوله الكريم، هي الخيل والبغال والحمير والركاب وما شابهها من الدواب.
لم يكن الناس على علم بوسائل النقل الحديثة، التي اخترعت بعد نزول القرآن بقرون، لا علم لهم بالقطارات والسيارات والطائرات والسفن، التي تمخر عباب البحر شهوراً عديدة، فكيف كان موقفهم من قوله تعالى: ((ويخلق ما لا تعلمون )) [النحل:8].
ليكن معلوماً أن جميع وسائل النقل والاتصال والأجهزة المتطورة، التي ينعم بها الناس اليوم تندرج تحت قوله تعالى: ((ويخلق ما لا تعلمون ))، فهي من النعم التي أنعمها الله على الإنسان وسخرها له وعلمه بها.
قال تعالى: ((والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون )) [الزخرف:12-14].
فهل ذكرت ربك؟ وهل سبحته وحمدته على ما سخر لك من النعم؟ ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )) [إبراهيم:34].
- ومنها قوله تعالى: ((وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون )) [يونس:90-92].(1/7)
في عصر نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في بيان هذه الحادثة عن هلاك فرعون بعد مطاردته لموسى عليه السلام، كان كل شيء مجهولاً عن هذا الأمر، ولم تكتشف جثث الفراعنة إلا في نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن جثة فرعون موسى التي مازالت ماثلة للعيان إلى اليوم شهادة مادية في جسد محنط لشخص عرف موسى عليه السلام وعارض طلباته وطارده في هروبه ومات في أثناء تلك المطاردة وأنقذ الله جثته من التلف التام ليصبح آية للناس كما ذكر القرآن الكريم (1).
إن هذه الحادثة دليل على ضعف البشر، وعجزهم عن الإحاطة بعلم الله، ودليل أيضاً على أن الأجيال السابقة أشد قوة وآثاراً في الأرض، فتأمل هل استطاع العلماء في هذا العصر أن يعرفوا كنه التحنيط بالرغم من كل ما أوتوه من تطور علمي واكتشافات مزعومة؟!
قال تعالى: ((قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )) [يونس:101].
- ومنها قوله تعالى: ((إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما )) [النساء:56].
هذه الآية الكريمة كانت موضع شك عند الزنادقة في زمن الإمام أحمد رحمه الله، فقد قالوا: (فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلوداً غيرها، فلا نرى إلا أن الله يعذب جلوداً لم تذنب) حين يقول: ((بدلناهم جلودا غيرها )) فشكّوا في القرآن وزعموا أنه متناقض.
__________
(1) - انظر (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) د. موريس بوكاي نقلاً عن كتاب الإيمان لعبد المجيد الزنداني ص225.(1/8)
فأجاب الإمام أحمد على هذه الشبهة بقوله: (إن قول الله ((بدلناهم جلودا غيرها )) ليس يعني جلوداً غير جلودهم، وإنما يعني بدلناهم جلوداً غيرها، تبديلها تجديدها، لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء (1)، أهـ.
لقد أثبتت الدراسات العلمية والتجارب الحديثة أن الجلد هو موضع الإحساس بالألم، إذ يحتوي على ثلاث طبقات، أحدها الأدمة المحتوية على خلايا الإحساس العصبية الناقلة للحرارة، ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يتجدد جلد الكافر كلما نضج بالاحتراق فيرجع كما كان ليستمر الشعور بألم الاحتراق قل صدق الله ((كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ))
قال تعالى: ((بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )) [يونس:39].
خابوا وخسروا الذين يشككون بكتاب الله.
خابوا وخسروا الذين يعرضون عن كتاب الله ولا ينقادون لأوامره ولا يهتدون بهداه.
خابوا وخسروا الذين يقدمون العقل على النقل.
تعس وانتكس من يقدم هواه على كتاب الله ويحاول أن يخضع كتاب الله لعقله، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.
قال الإمام الطحاوي: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة وصحيح الإيمان (2).
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرحه كلام الطحاوي: (وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد (3).
__________
(1) - الرد على الزنادقة والجهمية ص7.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية ص201، 202.
(3) - شرح العقيدة الطحاوية ص201.(1/9)
مجلة السنة >> العدد 118 - جمادى الأولى 1423 هـ - أغسطس (آب) 2002 م >> الركن الشرعي
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
العقل الصحيح لا يتناقض مع النقل الصريح:
اعلم - علمني الله وإياك - أنه لا يكون ولن يكون في القرآن الكريم نص صريح يصادم ويتنافى مع حقيقة علمية ثابتة، إذ العقل الصحيح لا يتنافى ولا يتناقض مع النقل الصريح.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان مكانة العقل مع النقل ما نصه:
"بل العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكتمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلاً بذلك، لكونه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي من العين، فإذا اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأنوار التي يعجز وحده عن إدراكها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق، كما يحصل للبهيمة فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه، ولم تأت بما يعلم العقل امتناعه"(1). اهـ.
* * *
((ولا تقف ما ليس لك به علم)) [الإسراء:36]:
__________
(1) - مجموع الفتاوى [3/338].(2/1)
إن ما يفعله بعض المنتسبين للعلم، من ربط القرآن بالنظريات العلمية، إنما هي محاولات خطيرة على قدسية القرآن، وذلك لأن هؤلاء يحاولون ربط كلام الله عز وجل بنظريات علمية اكتشفها الإنسان، قد يتبين بعد مرور زمن أنها نظريات غير صحيحة، والقرآن في غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف، كما أن التوسع والإسهاب في تفسير القرآن على أساس النظريات العلمية يخرج القرآن عن مسلكه الصحيح، إذ هو كتاب عبادة ومنهج حياة، فأسلوبه يخلو عن الإسهاب والإطناب في ذكر تفاصيل الموضوعات، وكذلك يجب أن يتجنب الباحث في تفسيره، وفي بحثه عن وجه الإعجاز العلمي في هذا الكتاب الكريم مسلك التوسع والإسهاب في ذكر النظريات العلمية كي لا يخرج عن الهدف الحقيقي.
فحسبهم أن لا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جدّ ويجدّ من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق وتستند إلى أصل من الصحة (1).
قال تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)) [الإسراء:36].
* * *
((إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)) [يس:69]:
للقرآن الكريم خصائص تميزه عن سائر الكتب والمصنفات التي عرفتها البشرية، فعنده تلتقي نهايات الفضيلة كلها على تباعد ما بين أطرافها، فبالرغم من قصده في الألفاظ، لكنه يفي بحق المعنى، ولا يحيف على المعنى مطلقاً، كما أنه يجمع بين البيان والإجمال دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وهذه الأمور من خصائص القرآن، بل من عجائبه التي جعلته معجزاً.
فالقرآن الكريم إذن كتاب منهج عبادة، ليس كتاب علم على غرار الكتب التي يصنفها علماء البشر، ولذلك تجده متجنباً للحديث عن تفاصيل العلوم التي اهتم بها العلماء، كعلم الفلك، وعلم الطب، وعلم الأرض، وعلم الحساب وغيرها.
__________
(1) - انظر التفسير والمفسرون للذهبي [2/531]، ومعجزة القرآن الكريم لمحمد متولي الشعراوي ص 84. .(2/2)
إنما نجد فيه قواعد مجملة وأسساً وأصولاً لكل العلوم النافعة التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته، قال تعالى:((ما فرطنا في الكتاب من شيئ)) [الأنعام:38].
فأسس علم الطب مأخوذة من قوله تعالى:
(( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)) [الأعراف:31] وقوله عن العسل: ((شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس)) [النحل:69].
وقوله:((وإذا مرضت فهو يشفين)) [الشعراء:80].
وقوله:((فلينظر أيها أزكى طعاما)) [الكهف:19].
وأسس علم الفلك موجودة في قوله تعالى:
((وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)) [الأنعام:97].
وقوله:((هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب)) [يونس:5].
والماء أصل كل كائن حي وأساسه، إذا عدم الماء تنعدم الحياة ولذا قال تعالى: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)) [الأنبياء:30].
* * *
(( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)) [النحل:89]:
وأذكر فيما يلي آيات كريمة تضمنت حقائق علمية دالة على إعجاز القرآن الكريم، وبحث في موضوعها عدد من العلماء، ما بين مقلٍّ ومكثرٍ (1) منها:
قوله تعالى:((تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا)) [الفرقان:61].
فالشمس جعلها الله سراجاً، والسراج لا يطلق إلا على ما كان يبعث مع الشعاع حرارة، وجعل القمر منيراً، فهو يبعث الضياء ولا حرارة فيه.
وقوله تعالى:((وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون)) [النمل:88].
وقوله:((وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)) [فصلت:10].
وقوله:((وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا)) [المرسلات:27].
__________
(1) - نظر كتاب (رسائل في العلم والإيمان) لعبد المجيد الزنداني ص55، و"تأملات في العلم والإيمان" لنجيب محمد غالب ص15.(2/3)
فالجبال إذا يراها الإنسان يحسب أنها جامدة غير متحركة بينما هي متحركة، كتحرك السحاب، والسحاب تحركه الرياح، فكذلك الجبال لها محرك آخر وهي تابعيتها لدوران الأرض.
وأمر آخر من الحكمة الإلهية في خلق الجبال لتثبيت الأرض ولئلا تميد وتضطرب.
وقوله تعالى:((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون)) [الأنعام:125].
لم يكن للناس معرفة بتغير الضغط الجوي قبل قرون، ولم يكونوا يعرفون زيادة الضغط في المنخفضات، لكن التجارب العلمية الحديثة، مع تطور وسائل النقل والمخترعات، أثبتت أنه كلما ارتفع الإنسان في الجو، كلما يضيق تنفسه، بسبب اختلاف الضغط الجوي.
وقوله تعالى: ((وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا)) [الفرقان:53].
وقوله: ((مرج البحرين يلتقيان ، بينهما برزخ لا يبغيان)) [الرحمن:19-20].
وقوله: ((أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أئله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون)) [النمل:61].
ذكر علماء التفسير المتقدمين إلى أن معنى (برزخاً) أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض.
لقد تساءل العلماء عن ظاهرة عدم اختلاط الماء العذب بالماء المالح منذ قرون عديدة، وأجابوا عن معنى الآيات بما ذكرناه آنفاً وما يشبهه، ولم يقفوا على حقيقة الأسباب المادية المؤدية إلى عدم اختلاط أحدهما بالآخر، حتى أثبتت التجارب العلمية الحديثة وعرفوا ما يسمى بقانون (المط السطحي).
ومعناه: ضبط المواد السائلة وعدم اختلاطها ببعضها، وذلك لأن تجاذب الجزيئات يختلف من سائل لآخر، فيحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله، وغير ذلك من قوانين علمية عرفها العلماء بعد التجارب الحديثة، كقانون تجاذب الجزيئات المتجانسة، وقانون الكثافة، فلكل سائل كثافة تختلف عن كثافة غيره.(2/4)
وقوله تعالى:((بلى قادرين على أن نسوي بنانه )) [القيامة:4].
وقوله تعالى: (( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) [الذاريات:49].
وقوله تعالى: ((يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث)) [الزمر:6].
وغيرها من الآيات كثير، أثبتت وجهاً من وجوه إعجاز القرآن في جانب العلوم التي اكتشفت حديثاً، وسبق القرآن في الحديث عنها.
* * *
جهود العلماء في الإعجاز العلمي، ومنهج التفسير العلمي:
بذل العلماء - شكر الله سعيهم - جهوداً لا تنكر قديماً وحديثاً في موضوع الإعجاز العلمي والتفسير العلمي للقرآن الكريم، فمنهم المؤيد لهذا المنهج، ومنهم المعارض، كما أن منهم من حالفه التوفيق ومنهم من جنح عن الطريق.
فأما الذين أسهبوا وأطنبوا في البحث في تفسير القرآن على ضوء العلوم والتجارب الإنسانية والنظريات التي يتقدم بها العلماء وجعلوا آيات القرآن كأنها مباحث رياضية أو طبية أو جيولوجية، فكانوا موضع نقد ومؤاخذة عند كثير من العلماء، وذلك لما ظهر من تمحلات وأخطاء واستطرادات تذهب ببهاء آيات القرآن، ومن هؤلاء الرازي في (التفسير الكبير) قال عنه بعض العلماء فيه كل شيء إلا التفسير.
وكذلك الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) فعندما ذكر أبواب آداب تلاوة القرآن، ونقل عن العلماء أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع (1)!!!
فمن استطاع أن يقوم بهذه الإحصائية؟!!
وما الأدلة على صدقها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!!
وفي كتابه (جواهر القرآن) قسم علوم القرآن إلى قسمين:
الأول: علم الصدف والقشر، ويشمل: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر!!
__________
(1) - انظر إحياء علوم الدين [3/135] .(2/5)
والثاني: علم اللباب، ويشمل: علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك [(1)].
كيف جعل علوم القرآن تنقسم إلى قشور ولباب؟!!
ومن الذي يجرؤ على القول بأن تفسير ظاهر القرآن من علم الصدف والقشر؟!!
ومن المعاصرين الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) وقد لامه كثير من العلماء على مسلكه في التفسير.
ومن الجهود التي تحمد في هذا العصر في البحث في الإعجاز العلمي، المركز الذي يصدر مجلة في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وكذلك الجهود التي يقوم بها الشيخ عبد المجيد الزنداني، محاولاً ربط هذه الحقائق العلمية بآيات القرآن الكريم، واستنباط اللطائف ومحاولة الجمع بين ظهور الحقائق العلمية والأحكام الفقهية وما ترشد إليه الآيات.
والخطر كل الخطر يكمن في منهج الباحثين في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، مركّزين جهدهم على نتيجة واحدة وهي الاهتمام بتوحيد الربوبية، وهذا يتفق مع منهج المتكلمين والمرجئة منهم على وجه الخصوص الذين يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي واختلفوا في النطق باللسان هل هو ضروري أم لا!!
ولابد من اتباع منهج السلف في دراسة القرآن وتفسيره.
فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا [(2)].
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
__________
(1) - نظر التفسير والمفسرون [2/512] نقلاً عن جواهر القرآن للغزالي.
(2) - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام بن تيمية ص9.(2/6)
قال تعالى: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) [يونس:37].
وقال سبحانه: ((وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)) [يوسف:105].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ...(1)
__________
(1) -(2/7)
مجلة السنة >> العدد 121 - شوال 1423هـ - ديسمبر (كانون الأول) 2002 م >> الركن الشرعي
إعجاز القرآن في الإخبار عن الغيبيات
د. حكمت الحريري
الإخبار عن علم الغيب خارج عن نطاق القدرة البشرية، فعلم الغيب شقة بعيدة تنطفئ عندها مصابيح الفراسة والذكاء، لا يدنو العقل منها إلا وهو حاطب ليل وخابط عشواء، إن أصاب الحق مرة أخطأه مرات، وما يصيبه فإنما هو بأمر الله وقدره ((قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله))، ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)).
وما يصادفه العقل من الصواب لا يستطيع أحد أن يجزم ويثق ببقائه معصوماً من التغيير والتبديل، ولذا كان من كمال الإيمان وحسن الأدب أنه إذا سئل المرء عن أمر أو طُلب منه فعل شيء أو وعد بفعل شيء أن يقول: (إن شاء الله) امتثالاً لقول الله عز وجل ((ولا تقولن لشيئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله)) .
وقد تضمن القرآن الكريم من الأخبار الكائنة والتي ستكون في مستقبل الزمان، وقص علينا من أحوال الأمم الماضية وأخبارها، وسير الأنبياء والرسل مما يعدّ وجهاً من وجوه الإعجاز في هذا الكتاب الكريم.
وذلك لأن النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي أوحي إليه القرآن كان أمياً بالاتفاق، يعيش بين أظهر قوم أميين، لا صلة له بالعلم والعلماء، ويقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ومع ذلك فإنه يذكر أخباراً من لدن آدم عليه السلام إلى خير القرون.
وحينما يذكر من أحوال الأنبياء وأخبارهم المهمة فإنه يذكرها في منتهى الدقة والتفصيل، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فيوافق ما كان صواباً منها كما أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله، ويصحح ما حرّف منها على يد بعض الأحبار والرهبان، بما استحفظوا من كتاب الله أي بما طلب إليهم حفظه (1)؛ فهو المهيمن على الكتب السابقة.
__________
(1) - انظر المعجزات القرآنية لسعيد النورسي ص84، والنبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز ص41.(3/1)
قال تعالى: ((وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)) [المائدة:48].
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من علم الغيب:
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عرضت عليه المسألة ينتظر خبر الوحي ليأتيه بالجواب، فهو كما وصفه ربه سبحانه: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))، وليس من شأنه العجلة أو التسرع في الإدلاء بالجواب، كما كان يريد بعض الجهلة، بل جاء عنه من قول الله عز وجل: ((وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي)) [الأعراف:203].
وقوله تعالى: ((قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون)) [يونس:16].
وقوله تعالى: ((قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)) [الأنعام:50].
وقوله تعالى: ((ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)) [الأعراف:188].
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس: ((إن الله عهده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت)).
ومما ذكره بعض علماء التفسير في سبب نزول سورة الكهف: أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟(3/2)
فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم غداً) ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة به وقالوا وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة، فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: ((ويسئلونك عن الروح)) الآية (1).
فالرسول عليه الصلاة والسلام يتبرأ من علم الغيب، ولا يخبر عن أمر من ذلك إلا عن طريق الوحي، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
ويجب على طالب العلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتكلم بغير علم، وليتذكر المقولة المشهورة (انطق بعلم أو اسكت بحلم).
فما بالك بالخراصين الذين يزعمون أن الساعة تقوم سنة كذا؟!
ويضعون لذلك حداً زمانياً، مع أن هذه التنبؤات تخالف نصوص الوحي؟ فمثل هذه التنبؤات من جنس الكهانة، والفرق واضح بين النبي والكاهن.
التنبؤات القرآنية تقتحم حجب الزمان:
وإن من عجيب شأن النبوءات القرآنية أنها تقتحم حجب المستقبل قريباً وبعيداً، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتاً وتأبيداً.
وأما الأنباء التاريخية وحوادث الماضي، فإنه يخبر عن أمور منذ بدء الخليقة كأنها رأي عين ومشاهدة.
__________
(1) - انظر التفسير الكبير للفخر الرازي تفسير الآية (9) من سورة الكهف، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير.(3/3)
وبعبارة أخرى إن القرآن الكريم يتناول من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن مما لا سبيل للعقل إلى الاقتدار عليه والإحاطة به، وإنما سبيله الإلهام أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام، لقوله تعالى: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ))[يونس:37].
فما سر ذلك، وما هي أسباب هذه الدقة والقدرة على الإحاطة بهذا العلم والقدرة على اقتحام حجب الزمان؟
القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً ((هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة)) فعلمه محيط بكل شيء، وقد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم وأسرارهم وعلانيتهم، وقدّر وكتب كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ ((وكل صغير وكبير مستطر))، ((سواء منكم من أسر القول ومن جهر به)).
وقال تعالى: ((قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم))[فصلت: 9-12].
وقال سبحانه: ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)) [الأعراف:172].
وقال تعالى: ((وكل شيئ أحصيناه في إمام مبين)) [يس:12].(3/4)
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) (1).
إذن نبوءات القرآن ليست من قبيل الرجم بالغيب، ولا تخضع للتخمين والمصادفة، ((إنه لقول فصل وما هو بالهزل))، ((وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين ))[التكوير:24-27].
((قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [الزمر:28].
أقسام الغيبيات في القرآن الكريم:
الأمور الغيبية التي تحدث عنها القرآن الكريم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- أحداث ماضية وأخبار أمم سابقة لنزول القرآن.
2- أمور غيبية وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أمور غيبية في المستقبل منها ما وقع ومنها ما لم يقع بعد.
وإليك بيانها بشيء من التفصيل:
أولاً: أحداث ماضية وأخبار الأمم السابقة وقصص الأنبياء:
تضمنت سور القرآن أخباراً عن أحوال بعض الأمم السابقة وما كان من شأن تلك الأمم ومواقفهم من أنبيائهم ورسلهم، ذلك بأنه ما من أمة إلا وبعث الله فيها رسولاً منهم لقوله تعالى: ((وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)) [فاطر:24]، وقوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)) [الإسراء:15].
ثم إنه إذ يورد تلك القصص، يوردها في دقة وإسهاب، ويورد من أخبار تلك الأمم ومصيرها ما يجعلك تجزم بأن هذه القصص والأخبار لا تصدر عن رأي رجل أمي، فلا مجال في مثل ذلك للذكاء والفراسة، ولا قدرة على علمها ومعرفتها بالاستنباط، إنما سبيل الوصول إليها يكون بالتلقي والتعلم الذي حصل للنبي عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي.
__________
(1) - خرجه مسلم في كتاب القدر، والترمذي في القدر، رقم الحديث [2156 ].(3/5)
يروي تلك الأنباء الموغلة في القدم وكأنه يراها رأي العين ويصفها وكأنه شاهدها وحضرها في كل لحظة من لحظات وقوعها وتكوينها وهذا وجه من وجوه ودلائل الإعجاز في القرآن، وبلاغته وفصاحته ولا عجب إذن فهو كلام رب العالمين، فـ ((تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا)) [الفرقان:1-2].
((قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ))[الفرقان:6].
هذه العلوم النفيسة والتفاصيل الدقيقة، التي يوردها القرآن الكريم لم تنلها يد الأميين، ولم يكن يعرفها إلا القليل من الدارسين للكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، من الأحبار والرهبان، فكان المشركون عندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الوحي أي غيب الماضي وقصص الأنبياء السابقين، تكون حالهم كما ذكره الله عنه ((وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ))[الفرقان:5].
لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء ((قل إن الأمر كله لله)) فبأمر الله يعمل ويدعو، وبوحيه ينطق ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))، ((قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون)) [يونس:16].
فترى في القرآن مثلاً عند عرض قصة نوح أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يوافق ما جاء في سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة.
وفي قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أن الفتية لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية (1)، وفي القرآن يقول تعالى: ((ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة وازدادوا تسعا)) [الكهف:25].
__________
(1) - انظر (النبأ العظيم) للدكتور محمد عبد الله دراز ص 40،41.(3/6)
فهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية، فتدبر هذه البلاغة القرآنية، والدقة الحسابية فيه ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا))
كيف يذكر على لسان رجل أمي وفي وسط أمة أمية لا تكتب ولا تحسب مدة لبث أصحاب الكهف بدقة؟!
وكيف يكون التطابق حتى في الأرقام بين نصوص القرآن الكريم والنصوص الثابتة - في التوراة والإنجيل- التي لم ينلها التحريف والتبديل فإن القرآن والذي جاء به موسى وعيسى ليخرج من مشكاة واحدة كما ذكر النجاشي رحمه الله عندما قرأ عليه الصحابة رضي الله عنهم سورة مريم.
وهل من سبيل إلى التعرف على هذه الدقائق والتفاصيل إلا الوحي الإلهي؟
عندما يذكر القرآن قصص بعض الأنبياء عليهم السلام، يذكر في مقدمات بعضها أو في آخرها أن النبي لا علم له بها من قبل، ولم يتعلمها من معلم، ولم يقرأها في كتاب، ولم يشاهدها، ومن أمثلة ذلك:
- ما جاء في سورة آل عمران في أثناء عرضه لقصة مريم قوله تعالى: ((ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون)) [آل عمران:44].
- وفي سورة هود بعد ذكر قصة نوح قال تعالى: ((تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ))[هود:49].
- وفي أول سورة يوسف قال تعالى: ((إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)) [يوسف:2-3].
- وفي سورة القصص قبل عرض قصة موسى، وبعد انتهاءها قال تعالى: ((نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ))[القصص:3].(3/7)
وقال: ((وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون)) [القصص:44 - 46].
أهداف القصة في القرآن الكريم:
تهدف القصة في القرآن الكريم إلى تحقيق أغراض دينية بحتة توصل في نهاية المطاف إلى سلوك الصراط المستقيم، ((وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم))، ((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)) [الأنعام:153].
((وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)) [مريم:36].
ومن أهداف القصة في القرآن ما يلي (1):
- إثبات صدق الرسالة والوحي.
- بيان توحيد الله عز وجل الذي هو هدف الرسالات.
- وحدة دين الأنبياء جميعاً فدينهم الإسلام ((إن الدين عند الله الإسلام)) [آل عمران:19].
- مظاهر القدرة الإلهية.
- بيان عاقبة الخير والشر، وعاقبة المؤمنين والكافرين.
- بيان عداوة الشيطان لآدم وذريته، وتحذيرهم من غواية الشيطان.
- بيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة.
- بيان قدرة الله عز وجل على خوارق العادات، كخلق آدم ومولد عيسى.. وغير ذلك من أهداف لها أثرها الإيجابي الهام على استقامة السلوك الإنساني والارتقاء بالحياة الإنسانية.
فوائد القصص في القرآن الكريم:
من خلال استعراض قصص القرآن وتدبرها يتحقق عدة فوائد منها:
1- تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه بالله عز وجل وذكر الموعظة للمؤمنين، قال تعالى: ((وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين)) [هود:120].
__________
(1) - انظر (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب، ص144 وما بعدها.(3/8)
2- الدلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يذكر القصة بأحداثها المفصلة مع أنه لم يعاصر وقائعها، ولم يتعلمها من معلم، ولم يقرأها في كتاب، قال تعالى: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه)) [يونس:37].
وقال سبحانه: ((تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين)) [هود:49].
3- تصديق الأنبياء السابقين فيما دعوا الناس إليه قال تعالى: ((ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)) [يوسف:111].
((نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه)) [آل عمران:3].
((يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما ))[النساء:47].
((وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)) [المائدة:48].
4- بيان الحق فيما اختلفت فيه الأمم، قال تعالى: ((قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين)) [القصص:85].
وقال: ((إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)) [النمل:76]...
للبحث صلة
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(3/9)
مجلة السنة >> العدد 122 - ذو الحجة 1423هـ - فبراير (شباط) 2003 م >> الركن الشرعي
إعجاز القرآن في الإخبار عن الغيبيات
د. حكمت الحريري
ثانياً: الإخبار عن أمور غيبية وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنوات من عمر الدعوة وحصل له ولأصحابه الذين آمنوا معه من الاضطهاد والتعذيب وتنفير الناس عنه، ومقاطعته هو وعشيرته ثم محاصرتهم لعدة سنوات الحصار المعروف في السيرة بحصار الشعب، ومحاولة قتله…
حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه من ذلك ما ذكرته آيات الكتاب الحكيم، وللدلالة على ذلك نذكر بعض الآيات منها قوله تعالى: (( قال الكفرون إن هذا لساحر مبين)) [يونس:2].
وقال: ((فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل)) [هود:12].
وقال: ((ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)) [الرعد:43].
وقال: ((وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)) [الحجر:6].
وقال: ((وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ))[الإسراء:73].
وقال: ((وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا)) [الإسراء:76].
وقال: ((ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا)) [الكهف:56].
ففي هذه الأوضاع ومع كل التضييق والمعاناة التي كان يجدها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانت تنزل الآيات الكريمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا الدين سيظهر على سائر الأديان وسيمكن لأتباعه، وسيبقى هذا القرآن محفوظاً من العاديات أبد الدهر، فقد كتب الله لهذا الدين البقاء والخلود، ولهذا الكتاب الحفظ والصيانة رغم كيد الأعداء ومكرهم.(4/1)
قال تعالى: ((كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ))[الرعد:17].
وقال سبحانه: ((ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء(24)تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون))[إبراهيم:24-25].
وقال: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر:9].
وقال: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ))[التوبة:33].
- ومن الأمور الغيبية التي وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، عصمة الله لنبيه من الاغتيال بالرغم من تكالب الأعداء عليه وتمكنهم من القوة في ذلك الحين، ومع ذلك فقد أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يعصمه من الناس، فقال سبحانه: ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)) [المائدة:67].
عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحرس حتى نزلت ((والله يعصمك من الناس)) فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله"[1].
وحقاً لقد عصمه الله من المشركين والكفار في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله ولم يكن له فيها عاصم إلا الله وحده[2].
فعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه"[3].(4/2)
- ومن الأمور الغيبية التي وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتح مكة الذي حصل على إثر صلح الحديبية، فقد كان ظاهر الصلح إجحاف بحق المسلمين، حتى تساءل المسلمون أليس رسول الله حقاً؟! علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟، مع أنهم خرجوا للعمرة في ذلك العام، وفي طريق رجوعهم إلى مكة نزلت عليه سورة الفتح حيث قال تعالى: ((إنا فتحنا لك فتحا مبينا)) السورة.
وفيها قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا)) [الفتح:27][4].
فتحقق كل ذلك ووقع طبقاً لما أخبر الله سبحانه به دون أن ينخرم قيد أنملة.
- ومن قبيل هذه الأخبار الغيبية أيضاً:
قوله تعالى: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) [القمر:45].
فهذه الآية من سورة القمر وهي سورة مكية، وقد نزلت في وقت كان أذى المشركين يزداد يوماً بعد يوم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (كنت أقرأ قوله تعالى: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) فأقول أي جمع هذا وأية هزيمة إلى أن كان يوم بدر، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع وهو يقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) فعرفت تأويلها يومئذ)[5].
فقد تحققت تلك النبوءة القرآنية بعد سنوات من نزول الآية، يوم بدر أي في السنة الثانية من الهجرة.
- ومن ذلك: قوله! تعالى: ((الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون))[الروم:1-4].(4/3)
كانت دولة الروم دولة نصرانية تدعي متابعتها للإنجيل، فهم أهل كتاب، وكان الفرس وثنيين يعبدون النار، وكانت فارس حينئذ قاهرين للروم، وقد بلغت دولة الروم من الضعف حداً يكفي من دلائله أنها غزيت في عقر دارها وهزمت في بلادها، عبّر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: ((في أدنى الأرض))، وكان المشركون من أهل قريش يحبون ظهور فارس على الروم لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على الفرس ولما نزلت هذه الآيات كذب المشركون بهذا الوعد الإلهي بنصر الروم في بضع سنين وتراهنوا على تكذيبه، فلم يكن أحد يظن أن تقوم للروم قائمة بعد الغزو الذي حصل لها في عقر دارها من قِبل الفرس، ولكن الله لا يخلف وعده، فتحقق النصر للروم على الفرس بعد بضع سنوات من تلك الحادثة، وتحققت النبوءة القرآنية بتحقق نصرين في يوم واحد، نصر الروم على الفرس، ونصر المؤمنين على المشركين يوم بدر طبقاً لما جاء في قوله تعالى: ((وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ،بنصر الله))
- ومن هذه الأخبار الغيبية التي وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: قوله تعالى: ((تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ، وامرأته حمالة الحطب ، في جيدها حبل من مسد))[المسد: 1 - 5].
نزلت هذه السورة في شأن أبي لهب الذي كان يعلن عداوته الشديدة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان كثير الإيذاء للنبي، نزلت السورة وهو على قيد الحياة ويتمتع بكامل قواه.
ألم يكن بإمكانه بعد نزول هذه السورة أن يتظاهر بإعلان إسلامه من أجل أن يظهر أن النبي كاذب، أو أن القرآن الذي جاء به غير صادق؟
ولكن الأمر بيد الخالق المالك المدبر لكل شيء سبحانه وتعالى إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
((وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [الروم:6].(4/4)
((يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون))[الأنفال:24].
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تحدثت عن أمور غيبية وقعت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي من أكبر الشواهد والأدلة على تحقق الإعجاز ووقوعه في القرآن الكريم.
ثالثاً: نبوءات غيبية في المستقبل:
أخبار القرآن عن أحداث مستقبلية وقعت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نوعين فمنها ما تحقق وقوعه، ومنها ما لم يقع بعد، وهو واقع حتماً بإذن الله.
أ - فمن الغيبيات التي وقعت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
قوله تعالى: ((قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ))[الفتح:16].
استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية الأعراب من حول المدينة فتخلف كثير منهم، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءوا يعتذرون إليه، فنزل قول الله تعالى: ((قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون)) [الفتح:16].
وحصلت دعوة هؤلاء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث انطلقت جيوش الإسلام في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففتحت الشام ومصر وبلاد العراق.
واختلفت عبارات العلماء، من المقصود بقوله تعالى: ((أولي بأس شديد)) فمن قائل: هم الفرس، ومن قائل: هم أهل اليمن، وقيل غير ذلك[6].
فأهل اليمن أشداء، وكذلك الفرس، وذلك لأنهم سكان الجبال وسكان الجبال يتصفون بالشدة والقوة.
- وقوله تعالى: ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)) [النور:55].(4/5)
هذه الآية من سورة النور التي تناولت حادثة الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وقت نجم فيه رأس النفاق، فحادثة الإفك فيها نيل من عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرامة صديقه وخليفته أبي بكر الصديق، وبمعنى آخر فإن المنافقين في قلوبهم غيظ على النبي وأصحابه يحاولون الحطّ من أقدارهم والتطاول عليهم، ثم يأتي هذا الوعد من الله عز وجل، ليكون ذلك دليل صدق على تحقيق التمكين والنصر لعباد الله الصالحين وخلفاء نبيه عليه الصلاة والسلام.
فإذا بوعد الله يتحقق لهؤلاء العباد الصالحين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
ففي عهد الخلفاء الراشدين فتحت بلاد الشام ومصر، ودحرت الدولة الفارسية، ووصلت الفتوحات الإسلامية إلى حدود الصين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وفي عهد هارون الرشيد كبير ملوك الأرض يومئذ كانت دولة الروم تدفع الجزية لبيت مال المسلمين!!
وفي عهد ازدهار الخلافة الإسلامية زمن العثمانيين وصلت الفتوحات الإسلامية المحيط الأطلسي وحوصرت النمسا وهي في وسط أوربا وبقي علم الهلال يرفرف على حدود إيطاليا سنين طويلة[7]!!
وليس هذا موضع بحث الفتوحات الإسلامية، وإلى أين وصلت.
- وقوله تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)) [فصلت:53].
لقد أخبر الحق تبارك وتعالى أنه سيُري الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم واختلاف مذاهبهم، سيريهم آياته في هذا الكون، وفي أنفسهم، واستعمل في اللفظ حرف (السين) للدلالة على المستقبل، وعلى أن عطاء القرآن متجدد مستمر في كل زمن دون انقطاع ولا توقف عند حد أو مع جيل بعينه، ولذا فقد جاء في وصف القرآن على لسان النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - (لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه).(4/6)
إن كل جيل واجد في القرآن أموراً وعلوماً تسبق علم البشر جميعاً، وإعجاز القرآن مستمر إلى قيام الساعة، طبقاً لقوله عز وجل: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)) [الإسراء:88].
لكن الكشف والاختراع يحتاج إلى بحث وسعي وبذل جهد، إلى علم وعمل، كما أمرنا سبحانه بذلك فقال: ((قل سيروا في الأرض فانظروا))
((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))
((فامشوا في مناكبها))
((يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان))[الرحمن:33] وغيرها من الآيات.
- قوله تعالى في شأن اليهود:
((وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب)) [الأعراف:167].
تعرض اليهود نتيجة لفسادهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله إلى نكبات وقتل وتشريد، ومن يطالع تاريخ اليهود يجد أنهم قد جرت عليهم أكثر من مقتلة في جزيرة العرب، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد عمر أُجلوا إلى الشام، وحصلت لهم مقتلة على يد الرومان، والإنجليز والألمان على يد هتلر[8]، وهي آخر المذابح التي نكبتهم في العصر الحديث.
وقوله تعالى في شأن اليهود أيضاً:
((ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس)) [آل عمران:112].
وقوله تعالى: ((وقطعناهم في الأرض أمما)) [الأعراف:168].
هكذا قدّر الله على اليهود أن يبقوا مشتتين في كل واد، أذلاء في كل ناد، فهم على الرغم من توفر الثروات المالية لديهم وسيطرتهم على معظم البنوك في أنحاء الكرة الأرضية واستعطافهم لدول العالم، وسيطرتهم على كثير من أندية الفساد والدعارة في أرجاء العالم رغم كل هذا وذاك لم يستطع اليهود أن يقيموا دولة يشعر سكانها بالأمن والاستقرار!!(4/7)
فما نراه ونسمعه في كل يوم عن أخبار انتفاضة الشعب الفلسطيني الأعزل الذي لا يملك شيئاً مقابل الترسانة التي يملكها اليهود، ففي كل يوم تحصل لهم مجازر وقتل بالعشرات ولا يمكنهم الشعور بالأمن مطلقاً.
فهل هذه حياة، إنهم يشعرون بالموت في كل يوم، رغم ذلك يحرصون على الحياة ((ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون)) [البقرة:96].
واعلم - هداك الله - أن الدولة اليهودية التي تقوم حالياً يكتنفها قول الله عز وجل: ((إلا بحبل من الله وحبل من الناس)).
فلا وجود ولا قيام لدولة يهودية إلا بسببين:
الأول: ذنوب المسلمين وبعدهم عن دين الله.
والثاني: الدعم الدولي، ووجود الطوائف الباطنية، فاليهود والباطنيون يعلمون يقيناً أنه لا مقام لإحداهما إلا بوجود الأخرى[9].
فهل يمكن لأهل السنة أن يمعنوا النظر ويعيدوا حسابهم من جديد.
وقوله تعالى: ((وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ))[الإسراء:4].
ذكر معظم المفسرين أن الإفساد الأول والعلو من اليهود قد مضى.
أما الإفساد والعلو الثاني فهذا زمانه والله العليم، وبوادر هذا العلو وهذا الإفساد دلائله واضحة، فلليهود دور هام في هدم الخلافة الإسلامية في العصر الحديث عن طريق الجمعيات السرية الهدامة التي نشطت في عاصمة الخلافة (استانبول) ولم يعد خافياً على أحد دور يهود الدونمة، وجمعية الاتحاد والترقي في تركيا في تقويض الخلافة الإسلامية.
وما من تطور أو اكتشاف علمي أو اجتماعي إلا وينسب لليهود، فإبراز دور اليهود واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، فما من مركز ولا جامعة في الغرب أو في الشرق بل في بلاد الإسلام، إلا ويدرس طلابها عن شخصية ماركس، وأنشتاين، وفرويد، ودور كهايم، وأضرابهم من اليهود.(4/8)
كما أن اليهود يسيطرون اليوم على الاقتصاد العالمي، ولهم إمكانيات في التحكم بالسياسة العالمية عن طريق تحكمهم بالإعلام العالمي، واختراقهم لكثير من التنظيمات والحركات والنوادي العالمية وعن طريق تنسيقهم مع الحركات الباطنية المناوئة للإسلام.
لقد آن الأوان لكي تصحو أمتنا من الركض وراء سراب القومية العربية والشعارات الوطنية وطرح الأفكار العلمانية.
آن لنا أن ننتهي من الاغترار بأي شعار وأية راية ترفع غير راية الإسلام، فلا عزة لنا إلا بالإسلام، ولا عداوة لنا إلا بسبب تمسكنا بدين الله عز وجل ((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم)) [الممتحنة:5].
ب - ومن الأمور الغيبية التي لم تقع بعد وسيتحقق وقوعها بإذن الله.
قوله تعالى: ((وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ، وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)) [الإسراء:104 - 105].
فقد وضحت سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه ستقع حرب بين المسلمين واليهود في فلسطين وسيمكن الله عباده المؤمنين من أعدائه اليهود فيقتلونهم حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فينادي الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله.
والآية الكريمة فيها وعد الله - ولن يخلف الله وعده - بتجميع اليهود وذلك قوله عز وجل: ((جئنا بكم لفيفا))
ومنذ قيام دولة اليهود في فلسطين عام 1948م واليهود يجتمعون من كل أنحاء العالم على أرض فلسطين.
ومن الأمور الغيبية التي أخبرنا القرآن أنها ستقع ولم يتحقق وقوعها بعد، ما جاء في قوله تعالى:
- عن خروج دابة الأرض: ((وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)) [النمل:82].(4/9)
- وقوله تعالى عن خروج يأجوج ومأجوج: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين)) [الأنبياء: 96 - 97].
- وقوله تعالى عن نزول عيسى عليه السلام: ((وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا)) [النساء:157 - 159].
وقوله تعالى عن عيسى أيضاً: ((ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون(57)وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ، إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ، وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم)) [الزخرف: 57 - 61].
وغير ذلك من الآيات التي تدل على قيام الساعة، واختلال النظام الكوني، وقد كثر ذكرها في الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم[10].
قال تعالى: ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)) [النساء: 113].
وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ...
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar
---
الهوامش :
[1] - سنن الترمذي، أبواب التفسير، رقم [3238]. في تحفة الأحوذي.
[2] - النبأ العظيم ص 49.
[3] - صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، رقم الحديث [843]، والبخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث [4136].
[4] - انظر تهذيب سيرة ابن هشام في خبر صلح الديبية، وتفسير سورة الفتح في ابن كثير.
[5] - انظر ابن كثير تفسير سورة القمر، الآية (45)، والبخاري، كتاب المغازي، رقم الحديث [3953].(4/10)
[6] - انظر في تفسير ابن كثير الآية (16) من سورة الفتح.
[7] - انظر كتاب (الإسلام والعرب والمستقبل) لأرنولد توينبي، ترجمة الدكتور نبيل صبحي الطويل.
[8] - انظر (اليهود في القرآن) لمحمد عزت دروزة ص 113.
[9] - للتوسع في هذا الموضوع تأمل كتاب (رؤية إسلامية في الصراع العربي الإسرائيلي) ج1 مؤامرة الدويلات الطائفية، لمحمد بن عبد الغني النواوي.
[10] - وأما تفسير هذه العلامات المذكورة في القرآن وبيان تفصيلها فموضعه في كتب السنة، وصنف بعض العلماء كتباً مستقلة عن علامات الساعة وأشراطها.(4/11)
مجلة السنة >> العدد 126 - ربيع الثاني - 1424 هـ - يونيو (حزيران) - 2003 م >> الركن الشرعي
الإعجاز التشريعي في القرآن
د . حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية - جامعة إب، اليمن
إن من أبرز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم هو ما تضمنه من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام التي لا يكون صلاح الفرد والمجتمع ولا تتحقق السعادة البشرية إلا بها، وفي حال تركها والتخلي عنها يكون الشقاء والضنك والفساد والهلاك.
قال تعالى: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)) [طه: 123 - 124].
فالقرآن منهج للحياة البشرية بكل مقوماتها، يشمل التصورات العقائدية التي تفسر طبيعة الوجود ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود والغاية من وجوده، ويشمل النظم التي تنبثق من العقيدة التي يدعو إليها القرآن الكريم وتستند إليه، وأساسها الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر.
هذا المنهج - القرآن الكريم - يشمل سائر النظم التي تتمثل في حياة البشر كالنظام الاجتماعي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي والنظام الدولي، والنظام الأخلاقي، وكل الأسس التي تقوم عليها هذه الأنظمة المذكورة، أو تستند إليها، أو تحدد شكلها وطبيعتها أو خصائصها، إنما تنبثق من هذا المنهج الشامل، باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض[1].(5/1)
القرآن الكريم يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً، إذ إنه ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، وليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات، إنما هو المنهل العذب المورود الذي لا ينضب معينه في حياة البشر المتجددة، لتسلك الصراط الذي رسمه لها الخالق العظيم المدبر الحكيم سبحانه ((فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لكلمات الله))، ((إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه))، ((ألا له الخلق والأمر)).
نداءات القرآن تدوي في جميع الآفاق:
من سمات الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم أنه يقدم أحكامه بنداءات مدوية في جميع الآفاق ويملأ الأرض والسبع الطباق بكل قوة ونضارة، حتى إنه ينظر إلى كل عصر من العصور المختلفة في الأفكار، والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر، ووفق مقتضياته، ملقناً دروسه، ملفتاً إليها الأنظار[2].
قال تعالى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم)) [النساء:1].
((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم)) [الحجرات:13].
((يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)) [آل عمران:71].
((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما))[آل عمران:65-67].
((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر)) [النساء:59].
((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود))[المائدة:1].(5/2)
((يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله)) [المائدة:11].
((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) [الممتحنة:1].
((وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم)) [الأحقاف: 29- 30].
((الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم)) [غافر:7].
((قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم)) [الأنبياء:69].
((ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد)) [سبأ:10].
النور المبين:
فالقرآن هو النور المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم لا تزيغ به الأهواء، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، من قال به صدق ومن علم علمه سبق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم.
قال تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)) [الإسراء:9].
وقال تعالى: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة:2].
وقال تعالى: ((يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)) [المائدة: 15-16].
وقال تعالى: ((يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)) [النور:35].
فالله تعالى نور، وكتابه نور، ورسوله نور.(5/3)
اللهم اهدنا لنورك ووفقنا للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك.
أرأيت الشمس التي هي نور الله تعالى، إذا طلعت يستغني كل الناس عن كل نور سواها، إذا طلعت الشمس ولا يحجبها عن الناس حاجب، فلا حاجة عندها للسرج والمصابيح والقناديل، إذا ظهرت الشمس في رابعة النهار، فلا قيمة للسرج والمصابيح والقناديل، إذا أشرقت الشمس بنور ربها وسطع شعاع التوحيد والعبودية لله عز وجل، فما معنى الشرك بالله؟!
وما قيمة الاستغاثة بالأولياء أو بالأصنام أو بالأحجار والأشجار أو الشموس والأقمار؟!!
إذا أشرقت الشمس بنور ربها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً فما جدوى الديانات الوثنية والشركية؟!
وما غناء القومية أو الاشتراكية أو الديموقراطية أو البعثية وغيرها من المبادئ والأفكار والتسميات، التي كونتها ووضعتها العقول البشرية التي اجتالتها الشياطين فحرفتها عن المنهج المستقيم؟!!
قال تعالى: ((أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ))[آل عمران:83].
وقال تعالى: ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)) [المائدة:50].
وقال تعالى: ((إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [يوسف:40].
فخذ ما صفا ودع ما كدر.
خذ ما تراه ودع أمراً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
الناكبون عن الصراط:
على أن أقواماً تنكبوا الصراط المستقيم واتبعوا طريق أصحاب الجحيم فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم.
فقال تعالى في شأنهم: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)) [النساء:60-61].(5/4)
وقال تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)) [النساء:65].
هؤلاء الذين يبغونها عوجاً ويسعون في الأرض فساداً، قال الله تعالى فيهم: ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) [التوبة: 32-33].
هؤلاء الذين يعرضون عن حكم الله عز وجل وعن ذكره إنما يتبعون منهج اليهود قتلة الأنبياء الذين قال الله عنهم: ((أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)) [البقرة:87].
لقد عرف اليهود على مدار التاريخ كله بالتعنت والعصيان لحكم الله وكراهية الأنبياء فتأمل على سبيل المثال لتعنتهم قوله تعالى: ((وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال)) [البقرة:247].
وقوله: ((وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرون)) [المائدة:20-21].
وقوله: ((ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا)) [النساء:51].
وقوله: ((ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون)) [المائدة:80-81].
وليس هذا موضع استقصاء سوء أخلاق اليهود وفسادهم وبيان كيدهم ومكرهم وتحريفهم واحتيالهم وتعنتهم، فقد ذكرته في غير هذا الموضع[3].
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم:(5/5)
فمالك والمسالك الوعرة والصحارى المقفرة والأماكن الموحشة!! دعك من بنيات الطريق، واسلك سبيل النجاة التي سلكها رسل الله وأنبياؤه الكرام عليهم الصلاة والسلام وأنت تتلو قول الله تعالى بيقين ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) [يوسف:108].
لقد عرفت البشرية ألواناً مختلفة من المذاهب والنظم والتشريعات - الخارجة والمنحرفة عن منهج الله - زاعمة أنها تهدف إلى سعادة البشر، ولكن حقيقتها أنها كانت عاراً وشناراً على واضعيها، ودماراً وبواراً على أهلها ومتبعيها، قال تعالى: ((ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون)) [النمل:50-52].
وقال تعالى: ((فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ))[العنكبوت:40].
يقول ألكسيس كارل في كتاب (الإنسان ذلك المجهول) وهو من كبار العلماء الأطباء المفكرين الغربيين، ص30:
"إن نظم الحكومات التي أنشأها أصحاب المذاهب بعقولهم عديمة القيمة.. فمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين تنطبق على الرجال الجامدين فحسب، يجب أن يفهم بوضوح أن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة، وأن علوم الاجتماع والاقتصاد علوم تخمينية افتراضية"[4].
مقولة ألكسيس كارل جاءت في وقت كانت فيه أفكار ماركس ولينين في أوج قمتها وظهورها، فكيف يكون الأمر لو اطلع على سقوط وتفتيت الشيوعية وأفكار ماركس ولينين؟!!(5/6)
لقد تحولت البلاد التي خضعت لتلك الأفكار إلى عصابات (مافيا دولية) تسلب وتنهب وتبيع كل الابتكارات التي أنجزت في الاتحاد السوفيتي سابقاً – وللعلم فإنها لم تتميز إلا بابتكار الأسلحة الفتاكة- حتى إن هذه العصابات لم تعد تلوي على شيء!!
والذي حدث لتلك الإمبراطورية سيحدث لغيرها بإذن الله، مادامت تسير على غير هدى من الله وسيبقى المستقبل لهذا الدين الذي ارتضاه الله ليحكم حياة البشر.
قال تعالى: ((قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل، واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين)) [يونس:108-109].
وقال تعالى: ((ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد(100)وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ،وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)) [هود:100-103].
الشريعة الكاملة:
بعد هذا العرض المسهب، لنداءات القرآن الكريم وبيان ثمرة العمل به، وخطورة النظم والتشريعات المضلة التي تعتمد على العقول البشرية، نتناول بشيء من التفصيل جوانب الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم.
قال تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ))[المائدة:3].
هذه الآية الكريمة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم الجمعة عشية وقوفه بعرفة، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إحدى وثمانين ليلة.
ومن الفوائد والأحكام الشرعية التي تستنبط من الآية ما يلي:
1- كمال دين الإسلام وتمامه فلا نقص فيه أبداً، ولا يحتاج إلى زيادة أبداً، بحيث لا يصح الاستدراك على أحكامه وتشريعاته بل هو شامل كامل.(5/7)
2- إن دين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده فلا يسخطه، بل لا يقبل غيره كما صرح بذلك في آيات أخر قال تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [آل عمران:85].
وقال تعالى: ((إن الدين عند الله الإسلام)) [آل عمران:19]، ((فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [البقرة:132].
3- في بيان إكمال الدين، بيان جميع الأحكام التي تتم بها نعمة الله على عباده وبذلك يتم صلاح حياة الخلق، حيث قال تعالى: ((وأتممت عليكم نعمتي))[المائدة:3] فهذا نص صريح أن أحكام الشريعة الإسلامية التي قررها القرآن تضمنت كل ما يحتاج إليه الخلق في أمور الدنيا والآخرة.
وهذه ميزة واضحة للتشريع القرآني بحيث أن غيره من الشرائع عجزت عن أن تفي بحاجات الناس في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت:
إن أولى المبادئ وأعظم المسائل التي أولاها القرآن العناية والاهتمام هي مسألة توحيد الخالق عز وجل، حيث قال تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) [النساء:48].
وقال تعالى: ((قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد ))[الإخلاص:1-4].
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن هذه السورة إنها تعدل ثلث القرآن.
وذلك لأن موضوع التوحيد ذكر في القرآن الكريم بما يعدل ثلثه.
ومما علم باستقراء القرآن الكريم أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد الربوبية وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء من البشر وأقرّ به المشركون، ولكن لم ينفعهم ذلك ولم ينقذهم من النار قال تعالى: ((ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)) [الزخرف:87]، وقال سبحانه: ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)) [يوسف:106].(5/8)
الثاني: توحيد الألوهية، وهذا النوع بعثت الرسل لتحقيقه وتعليمه للخلق لأنه يتضمن معنى العبادة التي لا يستحقها إلا الله عز وجل قال تعالى: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) [النحل:36].
وقال تعالى: ((لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)) [الأعراف:59].
((وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون))[الأعراف:65].
((وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) [الأعراف:73].
((وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) [الأعراف:85].
الثالث: توحيد الأسماء والصفات، ويبنى هذا النوع من التوحيد على أصلين هما:
- تنزيه الله تعالى عن مشابهة صفات الحوادث.
- الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، ((ليس كمثله شئ وهو السميع البصير)) [الشورى:11].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أنه ما خلق الخلق إلا من أجل عبادته فقال: |(( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)) [الذاريات:56-58].
وبين الحكمة التي خلق الخلق لأجلها فقال: ((وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا)) [هود:7].
وقال: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)) [الملك:2].
ولكي يتحقق حسن العمل من الإنسان يقتضي أن تتوفر فيه الشروط الآتية[5]:
1- أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى، فقال سبحانه: ((قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين)) [الزمر:11]، ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)) [البينة:5].(5/9)
2- أن يكون موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((قل إن كمتم تحبون الله فاتبعوني)) [آل عمران:31]، وقال: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) [الحشر:7].
3- أن يكون العمل مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة قال تعالى: ((ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)) [طه:112].
من ثمرات التوحيد:
ومن أهم ثمرات ونتائج عقيدة التوحيد تحرير الإنسان من ذل الشرك وربقة العبودية لغير الله عز وجل، ومن تسلط الطواغيت ومن أسر الأهواء. فلا الملائكة ولا الجن ولا الأحجار ولا الأشجار ولا الأنبياء ولا الأولياء، ولا الأضرحة والقبور، ولا الملوك والزعماء تنفع شيئاً من دون الله ((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) [البقرة:255]. ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب)) [آل عمران: 26-27].
ومن ثمرات توحيد الله عز وجل أيضاً تهذيب السلوك الفردي والاجتماعي والرقي الأخلاقي لدى الأفراد والجماعات، وحياة الضمير والوجدان وذلك عن طريق تنمية الشعور بمراقبة الله عز وجل.
فلا يمكن لأي شريعة من الشرائع أن تبلغ الكمال الذي بلغته شريعة الإسلام، ولا يمكن لأي شريعة وضعية كانت أو غيرها عدا شريعة الإسلام أن تفي بمصالح البشرية وتوازن بين مصالح الإنسان الدنيوية والأخروية. فالديانة النصرانية بعد تحريفها أغفلت إلى حد كبير الجانب الدنيوي من حياة الإنسان، والديانة اليهودية المحرفة أغفلت الجانب الأخروي، والشرائع الوضعية اليوم تبعتها في ذلك، وكل ذلك مؤداه إلى الشقاء.
كليات الأحكام:(5/10)
ومن جوانب الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم أن بعض آياته تضمنت كليات الأحكام الشرعية، فلم تدع خيراً إلا أمرت به، ولم تدع شراً إلا ونهت عنه، ومن ذلك قوله تعالى: ((الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)) [النحل:90].
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل ((إن الله يأمر بالعدل و الإحسان))[6] الآية.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية، وليس من خلق سيء إلا نهى الله عنه في هذه الآية[7].
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب وأنا معه وأبو بكر، فوقفنا على مجلس عليه الوقار، فقال أبو بكر: ممن القوم؟
فقالوا: من شيبان بن ثعلبة.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشهادتين، وإلى أن ينصروه، فإن قريشاً كذبوه.
فقال مفروق بن عمرو: إلام تدعونا أخا قريش؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: ((إن الله يأمر بالعدل و الإحسان))الآية.
فقال مفروق بن عمرو: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك من كذبوك وظاهروا عليك[8].
فانظر - رحمك الله - فيما يلي كم من آيات بينات وردت في تفصيل هذه الآية المجملة.
فمن الآيات التي تأمر بالعدل قوله تعالى: ((بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)) [المائدة:8].
وقوله تعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)) [النساء:58].
ومن الآيات التي تأمر بالإحسان قوله تعالى: ((وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [البقرة:195].
وقوله تعالى: وقولوا للناس حسنا))[البقرة:83].(5/11)
وقوله تعالى: ((وأحسن كما أحسن الله إليك و لا تبغ الفساد في الأرض))[القصص:77].
ومن الآيات التي تأمر بإيتاء ذي القربى قوله تعالى: ((فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون)) [الروم:38].
وقوله تعالى: ((وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا)) [الإسراء:26].
ومن الآيات التي نهى الله فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي:
قوله تعالى: ((ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) [الأنعام:151].
وقوله تعالى: ((قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ))[الأعراف:33].
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان:
قوله تعالى: ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)) [النحل:126]، فالعقوبة بالمثل عدل، والصبر الذي هو العفو إحسان.
وقوله تعالى: ((وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله)) [الشورى:40]، فجزاء السيئة بالسيئة عدل، ثم دعا إلى العفو، فهذا إحسان.
وقوله تعالى: ((والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له)) [المائدة:45]، تضمنت أيضاً العدل والإحسان.
وقوله تعالى: ((ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)) [الشورى:41 - 43].
فمن انتصر بعد ظلمه فهذا عدل، ومن صبر وغفر فهذا إحسان.
وقوله تعالى: ((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما(148)إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا)) [النساء: 148 - 149].
إلى غير ذلك من الآيات[9].
ومن الآيات الجامعة لكليات الأحكام[10] قوله تعالى:
((قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون)) [الأعراف:29].(5/12)
فجميع الواجبات محصورة في هذه الآية الكريمة، إذ الواجبات محصورة في حق الله تعالى وحق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وقد شمل هذا الموضوع (التوحيد) ثلث آيات القرآن الكريم تقريباً، كما ذكرنا من قبل.
وجميع المحرمات محصورة في قوله تعالى: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ))[الأعراف:32].
فكل ما حرم تحريماً مطلقاً عاماً لا يباح في حال فهو داخل في هذه المذكورات في الآية الآنفة؛ ثم إن بيان أنواع الفواحش والبغي بغير الحق.. جاء تفصيله في مواضع مختلفة من سور القرآن الكريم، ليس هذا موضع بسطها والحديث عنها.
ومنها قوله تعالى: ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [العصر:1-3].
قال الشافعي رحمه الله: لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم ...
الهوامش : ---
[1] - انظر (المستقبل لهذا الدين)، ص: 5 لسيد قطب.
[2] - انظر (المعجزات القرآنية)، ص: 90.
[3] - في كتاب (من جوامع الكلم) موضوع بعنوان (قوم بهت).
[4] - نقلاً عن كتاب (المسؤولية) ص: 146، للدكتور محمد أمين المصري.
[5] - انظر محاضرة للشيخ محمد أمين الشنقيطي مطبوعة ضمن كتاب (بهجة الناظرين) ص: 505، رتبه عبد الله بن جار الله الجار الله.
[6] - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4: 950.
[7] - التفسير الكبير للرازي 7: 259.
[8] - سنن ابن ماجة.
[9] - انظر أضواء البيان للشنقيطي 3/ 260.
[10] - انظر (طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول) ص: 212، للشيخ عبد الرحمن السعدي.
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(5/13)
مجلة السنة >> العدد 127 - جمادى الأولى - 1424 هـ - يوليو (تموز) 2003 م >> الركن الشرعي
الإعجاز التشريعي في القرآن (2)
د . حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية - جامعة إب، اليمن
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل:
ومن جوانب الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم معالجته لمسألة الاقتصاد التي هلك بشأنها كثير من الناس ونشبت بسببها حروب كثيرة على مدى التاريخ البشري فقد أوضح القرآن أصولها التي ترجع إليها جميع الفروع الاقتصادية ومرجعها إلى أصلين[1] هما:
- حسن النظر في اكتساب المال.
- حسن النظر في التصرف به.
فمن حيث حسن النظر في اكتساب المال ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الطرق المشروعة في اكتسابه بالأسباب المناسبة والموافقة للدين والمروءة، فقال تعالى: ((ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)) [البقرة:198].
وقال: ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)) [الجمعة:10].
وقال تعالى: ((وأحل الله البيع)) [البقرة:275] وقال: ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) [الكهف:46] وقال: ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)) [البقرة:188].
وقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)) [النساء:29].
ومن حيث الأصل الثاني وهو حسن النظر في التصرف بالمال فقد أمر سبحانه وتعالى بالاعتدال والاقتصاد في صرف المال فقال: ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)) [الإسراء:29]، وقال تعالى: ((والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)) [الفرقان:67].
وقال تعالى: ((ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)) [البقرة:219].
وقال تعالى: ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما)) [النساء:5].(6/1)
ونهى عن كنز المال ومنعه عن الفقراء وعن الشح، وحث على الزكاة فقال تعالى: ((الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب)) [التوبة:34].
وقال تعالى: ((وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)) [النور:33].
وقال تعالى: ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) [الحشر:9].
وقال تعالى: ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)) [البقرة:43].
وقال تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم)) [التوبة:103].
إن جميع الأنظمة والشرائع الوضعية عجزت وما تزال عن تقديم نظام اقتصادي متكامل، خال من الغش والخديعة والاحتيال كالنظام الاقتصادي الذي قررته شريعة القرآن الكريم.
في الأنظمة الوضعية يحاول أصحاب الأموال والثروات التخلص من دفع الضرائب أو التقليل منها، لأنها في نظرهم ليست إلا نقصاً من حقوقهم، وإذا دفعوها لا يكون عندهم أي شعور بالرضا والقبول.
بينما نجد أن المتصدق في المجتمع الإسلامي الذي يحكم بشريعة القرآن حينما يدفع جزءاً من ماله كزكاة أو صدقات، يقدمها على أنها قربة لله، ويحسب أن الله سيبارك له في ماله، فهو يدفعها بالرضى والسرور.
إن الشرائع الوضعية القائمة في بلاد الغرب ومن سار في فلكه لم تستطع بكل جمعياتها الخيرية ونظمها الجبارة ومؤسساتها التربوية أن تحقق مثل الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن في المسألتين التاليتين من الجانب الاقتصادي[2]:
الأولى: قوله تعالى ((وآتوا الزكاة)).
والثانية: ((وأحل الله البيع وحرم الربا)).
فالمجتمع لا يمكن أن يعيش بسلام ووئام إلا إذا كانت العلاقة قائمة على التوازن بين الأغنياء والفقراء، بين العوام والخواص، وأساس هذا التوازن عن طريق رحمة الخواص الأغنياء وشفقتهم على العوام الفقراء، واحترام العوام للخواص.(6/2)
في المجتمع الإسلامي الذي طبق شرائع القرآن والتزم بأحكامه تحقق هذا السلام والوئام، ووجدت الرحمة بالفقراء، وحصل للخواص الاحترام.
بينما المدنية الغربية والشرائع الوضعية بكل جمعياتها ومؤسساتها وبكل وسائل نظامها عجزت عن الصلح بين تلك الطبقتين بل إن الهوة تزداد في ظل هذه الأنظمة بين الأمم والشعوب، لأن الأنظمة الوضعية تسعى لتحقيق أمرين هما[3]:
(إن شبعتُ فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع).
(اكتسب أنت لأعيش أنا، واتعب أنت لأستريح أنا).
هذا هو حقيقة وضع النظام الاقتصادي في أكبر امبراطورية اليوم.
يفسر هذا الوضع، ويظهر هذه الحقيقة، ما حصل في الصومال وأفغانستان، والعراق، وفلسطين، وما يسمى الاتحاد السوفيتي سابقاً، وغيرها من البلاد التي تعاني من ويلات الحروب، ولا يخفى على عاقل القوى التي تسعرها.
وعاشروهن بالمعروف:
ومن جوانب الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم عنايته بالمرأة وشؤون الأسرة، والحكمة من الزواج.
لقد كرّم الإسلام المرأة، وأمرها بالاحتجاب رحمة بها وصيانة لحرمتها لكيلا تهان تحت أقدام الذل والمهانة، ولكيلا تكون متعة تافهة لا قيمة لها؛ فتأمل كيف كانت صيانة المرأة حسب توجيهات القرآن، فقال تعالى:
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها))[النساء:1].
وقال تعالى: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)) [الروم:21].
وقال تعالى: ((وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)) [النساء:4].
وقال تعالى: ((للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون)) [النساء:7].
وقال تعالى: ((للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما)) [النساء:32].
وقال تعالى: ((فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) [البقرة:229].(6/3)
وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا))[النساء:19].
وجعل من مقاصد الزواج طلب الذرية الصالحة التي تطيع أمر الله تعالى وتعبده سبحانه.
قال تعالى:
((وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) [الفرقان:63] ((والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)) [الفرقان:74].
ومن شأن احتجابها المحافظة على عفتها قال تعالى:
((وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا))[الأحزاب:33].
وقال تعالى: (( الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم ))[الأحزاب:53].
وقال تعالى: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا)) [الأحزاب:59].
وفي سورة النور ورد كثير من الآيات بشأن العفة والاحتجاب وغض البصر وحفظ الفرج، بل إن سبب نزول الآيات الأولى منها حادثة الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
وكثير من الآيات الواردة في السورة هي من قبيل سد ذرائع الزنا والتحذير من قذف المحصنات المؤمنات.
فالأمر بعدم دخول البيوت إلا باستئذان هو من هذا القبيل، وكذلك تشريع حد القذف، وبيان حد الزنا، والحث على النكاح، وذكر العورات الثلاث ((مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء)) [النور:58].
كل هذه التشريعات هي من قبيل سد ذرائع الزنا، فتأمل السورة وتفسيرها.(6/4)
أما حال المرأة في ظل الشرائع الوضعية في الغرب ومن سلك مسلكهم وقلدهم، فلم تعد إلا سلعة رخيصة لا قيمة لها على الحقيقة، لقد أخرجت المرأة من بيتها ومزقت حجابها، علماً بأن الحياة العائلية لا تدوم بغير المحبة والاحترام بين الزوجين، والتبرج والسفور يزيل عن المرأة هيبتها وعفتها.
وكم سمعنا وقرأنا عن معاناة المرأة وشقائها في المجتمعات الغربية التي خرجت عن منهج الله[4]، وكم من أمراض فتاكة انتشرت في تلك المجتمعات.
عدل الحاكم وطاعة المحكوم:
ومن جوانب الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على العدل والطاعة بالمعروف، فإن جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة يقوم على أساس أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل.
قال تعالى: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))[النساء:58-59].
قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل.
ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه.
وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله[5]، قال تعالى: ((تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) [المائدة:2].(6/5)
فليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله إلا بحكم الله ورسوله ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ))[المائدة:50].
وإذا خرج ولاة الأمر عن هذه فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم)[6].
وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغيره[7].
والبحث في جوانب الإعجاز التشريعي يطول الحديث عنه لو أردنا استقصاءها جميعاً.
تناقضات والرد عليها:
غير أن الذي دعانا للإسهاب أحياناً في الحديث عن هذا الموضوع هو ما ذكره أحد الدكاترة في كتاب صنفه عن إعجاز القرآن بعنوان (المعجزة القرآنية) حيث قال تحت عنوان (ما لا إعجاز فيه): (قبل أن نخوض في وجوه الإعجاز الرئيسية والفرعية في القرآن أود أن أنبه إلى أنه قد ذكر كثير من العلماء وجوهاً من الإعجاز في زعمهم، إلا أننا حينما ندقق النظر فيها نجد أنها لا تعدو المزية والفضيلة للقرآن على غيره من الكتب، إلا أنها ليست من الإعجاز في شيء) ص75 (!!!).
ثم قال: تضمنه للحلال والحرام، فقد ذكر الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره أن وجوه الإعجاز في القرآن ما تضمنه من العلم في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام، وهذا أيضاً لا إعجاز فيه (!!!)، وذلك لأن مسألة الأحكام والحلال والحرام ليست مما امتاز به القرآن، بل هي مما عرفته كل الأمم قديماً وحديثاً وعلى تفاوت بينهم في نوع الحلال والحرام، وبغض النظر عن كون ما حللوه أو حرموه مستنداً إلى شرع أو عقل، أو كانوا مصيبين فيه أم مخطئين، فكل أمة وكل أصحاب دين أو نحلة يزعمون أن عندهم حراماً وحلالاً ينبني عليها الثواب والعقاب في الدنيا عند الماديين، والدنيا والآخرة عند المتدينين.(6/6)
ومسألة الحلال والحرام في القرآن مبنية على الإيمان بالله فالمؤمن يسلم بها والكافر ينكرها ويزعم بطلانها.
ولكن المعجزة لا يمكن لإنسان ما أن ينكرها فمن سمع اليوم شيئاً من الإعجاز الغيبي في القرآن أو الإعجاز العلمي لابد له مهما بلغ عناده في الكفر أن يقف ويتردد في مصدر القرآن، بل لابد له أن يذعن في نهاية المطاف أنه ليس من عند البشر إذ لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثل هذا.
ثم قال: فلا يمكن أن نقول لجاحد إن تحريم الزنا وإباحة النكاح، وحل البيع وحرمة الربا، معجزة دالة على صدق الرسول ووجود الله … لأنه هو أيضاً يوجد عنده ممنوع وجائز وواجب وهو من صنعه، وقد يوافقنا في بعض التشريعات، ومع ذلك فما وجد فيها لا إعجاز ولا غيره) ص76،77.
ويتضح عوار كلام الدكتور من خلال تسجيل الملاحظات التالية:
1- تناقض في كلام الدكتور، ففي صفحة (75) من كتابه يقول: (أود أن أنبه إلى أنه قد ذكر كثير من العلماء وجوهاً من الإعجاز في زعمهم إلا أننا حينما ندقق النظر فيها نجد أنها لا تعدو المزية والفضيلة للقرآن على غيره من الكتب إلا أنها ليست من الإعجاز في شيء).
ويقول، (بعد أن نقل كلام القرطبي: وهذا أيضاً لا إعجاز فيه وذلك لأن مسألة الأحكام والحلال والحرام ليست مما امتاز به القرآن..) ص76.
فهل كان غير مدقق للنظر ولا متدبر للكلام حينما قال في ص53 من كتابه المذكور: ويضاف إلى هذا الذي ذكرناه أن التحدي لم يكن في أن يأتي العرب بنظم كنظم القرآن في البلاغة والفصاحة والدقة والجمال فقط، بل كان في كل جانب من الجوانب التي خاض فيها القرآن من الأحكام والحلال والحرام والأخبار عن المغيبات والخوض في العلوم، والدقة المتناهية في كل سور القرآن…
فالتحدي لم يكن قاصراً على جانب اللغة فقط لأن هذا خاص بالعرب ومن أتقن العربية من غيرهم، بل كان عاماً لكل جانب من جوانب القرآن لأنه كان تحدياً لكل من في الأرض ممن يخالف الدين الجديد!!!(6/7)
2- إن التحدي بالقرآن ووجوه الإعجاز لا يقتصر على جوانب معينة كما ذكر الدكتور، بل إن القرآن معجز في أحكامه التشريعية أيضاً وفي غيرها.
فلما تحداهم بقوله سبحانه: ((قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن))، وقوله تعالى: قل فأتوا بسورة من مثله)).
وقوله: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)) فقد تحداهم بأحكامه التشريعية حيث قال تعالى: ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون))
فلا أحد مهما كان رقيّه وتقدمه في وضع الأحكام والشرائع يستطيع أن يأتي بمثل أحكام القرآن وتشريعاته.
3- إن القول بإعجاز القرآن من بعض الوجوه ونفيها عن وجوه أخر، ينطبق عليه قوله تعالى: ((أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض)) وما أظن أن يقبل بهذا من يؤمن بالله عز وجل وكتبه ورسله، نسأل الله أن يبصّرنا بالحق ويهدينا سواء السبيل.
مقاصد التشريع في القرآن الكريم:
والمقصد العام من الأحكام الشرعية التي نص عليها القرآن الكريم والسنة النبوية هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة بجلب النفع لهم، ودفع الضرر عنهم، وباستقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، وباستقراء العلل والحكم التشريعية المقرونة بكثير من الأحكام يتبين أن مصالح الناس تتكون من ثلاثة أمور، الضروريات والحاجيات والتحسينيات[8].
أما الأمور الضرورية التي تقوم عليها حياة الناس ولابد منها لاستقامة مصالحهم فمرجعها إلى ستة[9] أشياء ولأهميتها وحرص الشريعة الإسلامية عليها فقد وردت النصوص الواضحة بشأنها في كتاب الله عز وجل، وهذه الأمور هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال.(6/8)
فالدين الذي هو مجموعة العقائد والعبادات والأحكام التي شرعها الله تعالى لتنظيم علاقة الناس بربهم، قد وردت النصوص في القرآن والسنة لإيجاده وإقامته وتثبيته في القلوب، ومن ذلك النصوص الواردة في بيان أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ووجوب الدعوة إلى الله عز وجل وتوقير الرسل والأنبياء الذين حملوا الدين للناس، والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
وقد شرع لحفظ الدين أحكاماً عدة منها أحكام الجهاد لصد خطر الاعتداء على المسلمين ومحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة.
قال تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) [الأنفال:39]، وأحكام الردة، حتى لا يقع العبث في الدين، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه).
لكنه قبل ذلك لم يجعل الدخول في الإسلام بالقهر والإجبار، ولم يقسر الناس على الالتزام بعقيدة الإسلام، إنما ترك لهم حرية الاختيار ليكون الدخول عن قناعة وطمأنينة قلب، فقال سبحانه ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)) وقال تعالى: ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) وقال: ((إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا))
أما النفس فقد شرع الله سبحانه لإيجادها الزواج والتوالد وحث عليه فقال سبحانه: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء)).
وقال سبحانه: ((ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)) وشرع لحفظ النفس وكفالة حياتها إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب الملبس والمسكن، وشرع القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وحرم إلقاء النفس إلى التهلكة، قال تعالى: ((ولكم في القصاص حياة )) وقال تعالى: ((كتب عليكم القصاص)) وقال: ((ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا)) وقال تعالى: ((ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)) [النساء:29] وقال: ((كلوا واشربوا ولا تسرفوا)). وغيرها من الآيات.(6/9)
وأما العقل فقد جاء في القرآن بالمحافظة عليه من النصوص قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)) [المائدة:90].
وأما الأنساب فمن أجل المحافظة عليها فقد شرع الله حد الزنا، قال تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)) [النور:2] وقال تعالى: ((ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)) [الإسراء:32].
وأما الأعراض فقد شرع لأجل المحافظة عليها جلد القاذف ثمانين جلدة، فقال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) [النور:4].
وأما المال: فقد شرع القرآن الكريم لتحصيله وكسبه إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات والتجارة وو..
ولأجل المحافظة عليها وحمايتها شرع قطع يد السارق وحرم السرقة وحرم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل وحرم الربا.
فقال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ))[المائدة:38].
وقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما))[النساء:29].
وقال تعالى: ((وأحل الله البيع وحرم الربا))
ومجمل القول في مسألة المقصد العام من الأحكام التي شرعها القرآن الكريم أن المصالح البشرية التي يتم بها نظام الدنيا ترجع إلى ثلاثة أمور هي:
1- درء المفاسد المعروف عند علماء الأصول بالضروريات، وحاصله دفع الضرر عن الستة المذكورة آنفاً.
2- جلب المصالح المعروف بالحاجيات، هو ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة ورفع الحرج عنهم، وتخفيف أعباء التكليف عليهم كقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والفطر في رمضان للمريض.. وأنواع العقود التي تحصل في المعاملات.(6/10)
ما تقتضيه المروءة من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات المعروف بالتحسينات، وفيه شرعت أحكام تقصد إلى أحسن المناهج وأقومها في أبواب العبادات والمعاملات والعقوبات، ومن هذه الفروع خصال الفطرة، وتحريم المستقذرات والاحتراز عن النجاسات والتطوع بالصدقات والصلاة والصيام، وتفصيل هذه المسائل في علم يختص بها وهو المسمى بـ (علم أصول الفقه، ومقاصد التشريع).
الخصائص العامة لأحكام القرآن الكريم:
تتميز الأحكام الشرعية في القرآن الكريم عن غيرها من الشرائع الوضعية بالأمور التالية:
1 - عموم الشريعة بحسب المكلفين وبحسب الزمان والمكان فنصوص القرآن الكريم لا يختص الخطاب بحكم من أحكامها بمكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجوداً ولا يستثنى من الدخول تحت أحكامها أي مكلف[10]، بل هي تخاطب عامة الناس، وأحكام القرآن بالتالي عالمية، قال تعالى: ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)) [سبأ:28].
وقال تعالى: ((يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)) [الأعراف:158].
2- أحكام القرآن تجمع بين المرونة والثبات:
قال ابن القيم رحمه الله: (الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التقديرات وصفاتها، فإن الشارع يتنوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة وعزر بالعقوبات المالية في عدة مواضع)[11].
3- أحكام القرآن رعايتها شاملة لجميع المصالح.(6/11)
الأحكام الشرعية في القرآن الكريم تشمل جميع المصالح الدنيوية والأخروية والفردية والجماعية، ولا تنفصل إحداهما عن الأخرى، ففي تقرير رعاية مصالح الدنيا والآخرة قال تعالى: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك)) [القصص:77].
ففي ربط مصلحة الدنيا بالآخرة حث للناس وتحريض لهم على فعل الخيرات والتزود بالحسنات، وهذا يدفع إلى التضحية ومساعدة الآخرين والتحرر من الأثرة وحب النفس.
وفي رعاية المصالح الفردية والجماعية قال تعالى: ((كل نفس بما كسبت رهينة)) [المدثر:38]، وقال تعالى: ((لا تكلف إلا نفسك)) [النساء:84]، وقال تعالى: ((تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) [المائدة:2]. وغيرها من الآيات.
4- نصوص القرآن وأحكامه محفوظة من التحريف والتبديل وهذا دليل على صلاحيتها ومناسبتها لأحوال الناس جميعاً ما دامت السموات والأرض، قال تعالى: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر:9]، وقال تعالى: ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)) [فصلت:42] وغيرها.
5- المسؤولية في أحكام التشريع القرآني تجمع بين العقيدة والسلوك.
في الشرائع الوضعية يحاسب الإنسان أمام السلطة القضائية التي يقوم عليها ويضعها مجموعة من الأفراد المتخصصين في الدولة، وهذا الجهاز هو الذي يتولى المراقبة والمعاقبة على المخالفة للأحكام الوضعية.
وقدرة البشر محدودة وعلمهم قليل، ولذلك فإن الاحتيال على القوانين البشرية والقدرة على التخلص من رقابة البشر ميسورة، ومن ثم فإن الفضائح والاختلاسات والجرائم كثيراً ما تقع وهي واسعة الانتشار في ظل الأنظمة التي تقوم على القوانين الوضعية التي اصطنعها العقل البشري المحدود.(6/12)
أما في القرآن الكريم فإنه يضعنا أمام سلطة ثلاثية[12]، ولكل واحدة منها أمانة في أعناقنا، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون))[الأنفال:27].
فقد جمعت الآية الكريمة في هذه الكلمات القليلة أنواع السلطات القضائية الثلاث، على النحو الآتي:
1- لا تخونوا الله المسؤولية الدينية أمام محكمة السماء من فوقنا.
2- والرسول المسؤولية أمام الناس محكمة البشر من حولنا.
3- وتخونوا أماناتكم المسؤولية الأخلاقية أمام محكمة الضمير.
وهناك نص آخر يؤكد هذا المعنى ويزيده تفصيلاً، هو قوله تعالى: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) [التوبة:105].
ففي قوله تعالى:
- فسيرى الله عملكم المسؤولية أمام المحكمة الإلهية.
- ورسوله والمؤمنون المسؤولية أمام المحكمة الإنسانية.
- فينبئكم بما كنتم تعملون المسؤولية أمام محكمة الضمير.
خلاصة القول في هذا، إن القرآن يقف بنا أمام ثلاث محاكم أدبية:
- محكمة الضمير في قلوبنا.
- ومحكمة الرأي العام من حولنا.
- ومحكمة السماء من فوقنا.
وأنه قد أعدنا للوقوف أمام هذه المحاكم بأنواع ثلاثة من التربية لوجداننا هي:
- تربية الوجدان الخلقي.
- وتربية الوجدان الاجتماعي.
- وتربية الوجدان الأدبي.
هذه بعض المزايا التي اختص بها القرآن الكريم عن غيره من الشرائع، مما يتضح لمن تدبر في آياته الكريمة أنه كتاب معجز من جميع الوجوه، قال تعالى: (( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)) [النحل:89].
وقال تعالى: ((وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)) [الأنعام:115].
وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
---
[1] - انظر محاضرة الشيخ الشنقيطي ص: 509.
[2] - انظر (المعجزات القرآنية) ص: 94 لسعيد النورسي.(6/13)
[3] - المصدر السابق.
[4] - انظر: (مشاهداتي في بريطانيا) لعبد الله مبارك الخاطر رحمه الله، مقالات نشرت في مجلة البيان - بلندن.
[5]- السياسة الشرعية لابن تيمية، ص: 6.
[6] - سنن ابن ماجة، كتاب الفتن من باب العقوبات.
[7] - انظر مجموع الفتاوى 35/404.
[8] - انظر: علم أصول الفقه، ص: 204، لعبد الوهاب خلاف.
[9] - واعتبرها بعض العلماء خمسة حيث جعل الأنساب والأعراض شيئاً واحداً.
[10] - انظر: (المقاصد العامة للشريعة الإسلامية)، ص: 42، للدكتور يوسف حامد العالم.
[11] - (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) لابن قيم الجوزية.
[12] - انظر (دراسات إسلامية) ص66،68 للدكتور محمد عبد الله دراز.
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(6/14)
مجلة السنة >> العدد 130 - رمضان - 1424 هـ - تشرين الثاني ( نوفمبر) 2003 م >> الركن الشرعي >>
الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية - جامعة إب، اليمن
ذكرت في بعض المباحث السابقة موضوع الربط والتناسب بين الآيات والسور، وتبين لنا بالأدلة الوافية الانسجام التام والتناسق الكامل بين الآيات والسور فإنها وإن اشتملت على نجوم متعددة وأغراض مختلفة ومعان متنوعة، لكنها ترمي إلى هدف واحد، وتندرج تحت مقصد واحد لا تنفك عنه.
وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، ذلك بأن آيات القرآن نزلت في أوقات متباعدة، والطريقة التي اتبعت في ترتيب آياته حيث كان يقول عليه الصلاة والسلام:
"ضعوا آية كذا في موضع كذا".
ولو كان هذا الأمر من تأليف البشر لما خلا من تناقض واضطراب وعيب ومؤاخذة، لكنه ((تنزيل من حكيم حميد)).
تقرأ السورة الطويلة المنجمة في نزولها، فلا تحس بشيء من تناكر الأوضاع، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، فلم يكن الانتقال بين الأغراض المختلفة في السورة الواحدة أمراً اعتباطياً بلا هدف – فهذا لا يليق بكلام العقلاء من البشر فكيف بكلام أحكم الحاكمين- إنما هناك صلات وثيقة بين هذه المعاني والأغراض بحيث تتظافر جميعاً لتصل إلى الغاية القصوى والهدف العام الذي تدور حوله السورة، وهو ما يطلق عليه بعض العلماء الوحدة الموضوعية أو عمود السورة ونظامها.
وللوقوف على هذه الحقيقة ومعرفتها، لابد من تدبر القرآن، فإنها لاتظهر إلا بالتدبر والتأمل الصادق وقد وبخ سبحانه من يقرأ القرآن ولا يتدبره فقال: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) فالقرآن لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الردّ.
قال تعالى: ((ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)) [لقمان :27].
كيف نستدل على الوحدة الموضوعية في سور القرآن؟(7/1)
يستدل على الوحدة الموضوعية في السورة من خلال الأمور التالية:
1- عرض السورة عرضاً واحداً، نرسم به خط سيرها إلى غايتها، ونبرز به وحدة نظامها المعنوي في جملتها لكي ترى في ضوء هذا البيان كيف وقعت كل حلقة في الموقع المناسب لها. والسياسة الرشيدة في دراسة النسق القرآني تقضي بأن يكون هذا النحو من الدرس هو الخطوة الأولى فيه، فلا يتقدم الناظر إلى البحث في الصلات الموضعية بين جزء جزء منه إلا بعد أن يحكم النظر في السورة كلها بإحصاء أجزائها وضبط مقاصدها على وجه يكون له عوناً على السير في تلك التفاصيل[1].
(إن السورة مهما تعددت قضاياها فهي كلام واحد يتعلق آخره بأوله، وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة، وإنه لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها،كما لاغنى عن ذلك في أجزاء القضية)[2].
2- اسم كل سورة مترجم عن مقصودها.
هنالك ارتباط وثيق بين المعاني والأغراض المختلفة التي تتعرض لها آيات السورة وبين اسم السورة الذي يحتوي على الهدف العام منها.
الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له[3].(7/2)
قال برهان الدين البقاعي بعد أن ذكر كلام شيخه محمد البجائي: وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماة عنوانه الدالّ إجمالاً على تفصيل ما فيه؛ وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام ومقصود كل سورة هادٍ إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة وأطبق بينه وبين اسمها[4].
3 - العود على البدء: ترى في كثير من سور القرآن أن الكلام ينتقل من معنى إلى آخر ومنه إلى معنى آخر ثم يعود على ما بدأ منه ولم يكن هذا الانتقال والانجرار من معنى إلى آخر إلا لوجود رابطة مهمة تربط بين الآيات والمقاصد يقتضيها السياق.
قال الشيخ عبد الحميد الفراهي:
إني رأيت في ترتيب كلام الله وله الحمد على ما أراني أن الكلام ينجر من أمر إلى أمر وكله جدير بأن يكون مقصوداً، فيشفي الصدور ويجلو القلوب، ثم يعود إلى البدء فيصير كالحلقة[5].
وإن من عادة العرب وفطرة البلاغة أن ينجر الكلام من أمر إلى آخر، ثم يعود إلى الأول أو الوسط وإذا كان المخاطب عالماً بأسباب الكلام عاقلاً له بقلبه لم يشكل عليه نظمه[6].
ومن أمثلته في القرآن الكريم سورة الممتحنة حيث بدئت بقوله تعالى : ((ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) وختمت بقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور)) الممتحنة (22)
وسورة الحشر بدئت بقوله تعالى: ((سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم)) وختمت بقوله تعالى: ((يسبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم))
وسورة المؤمنون بدئت بقوله تعالى: ((قد أفلح المؤمنون)) وختمت بقوله: ((إنه لا يفلح الكافرون)) وغيرها من السور.(7/3)
فالوحدة الموضوعية في الممتحنة تدور حول البراءة من أعداء الله وعدم موالاتهم، والوحدة الموضوعية في سورة المؤمنون حول صفات المؤمنين المفلحين، وأوصاف الكافرين الخائبين.
4- تكرار بعض الآيات أو معانيها في السورة: تكررت في بعض السور الآيات مرات عديدة، مثل سورة المرسلات، وسورة الرحمن، وسورة هود، وسورة القمر 000
والآيات التي تكرر ذكرها قوله تعالى: ((فبأي آلاء ربكما تكذبان)) وقوله تعالى: ((ويل يومئذ للمكذبين)) وقولهِ تعالى: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)) وقوله تعالى: ((فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)).
فتكرار الآيات في السورة الواحدة، رغم أنها تتطرق لعدة معان وتنجر من غرض إلى آخر، لكن هذا التكرار يدل على وحدة الموضوع الذي تدور حوله آيات السورة والهدف العام الذي تقصده.
متى بدأ الاهتمام بدراسة الوحدة الموضوعية عند العلماء؟
للتفسير أربعة أساليب هي:، التفسير التحليلي، وهو أقدمها، والتفسير الإجمالي، والتفسير المقارن، والتفسير الموضوعي والوحدة الموضوعية من جزئيات التفسير الموضوعي.
والتفاسير التي صنفت حسب هذه الأساليب كثيرة جداً تعد بالمئات، لكن المصنفات على طريقة التفسير الموضوعي قليلة جداً إذا ما قورنت بأساليب التفسير الأخرى، فلم يكتب فيها إلا القليل من العلماء.
التفسير الموضوعي حديث النشأة، فلم يظهر هذا المصطلح إلا في القرن الرابع عشر الهجري عندما قررت هذه المادة ضمن مناهج كلية أصول الدين بالجامع الأزهر.
وإن كان هنالك كتابات قليلة في هذا العلم ظهرت قبل القرن الرابع عشر الهجري، لكنها كما قلت لم تكن تعرف باسم التفسير الموضوعي، ولم يكن هذا العلم شائعاً مثلما هو الحال في زمننا .(7/4)
فقد ألف العلماء في موضوعات مختلفة تتعلق بالقرآن الكريم كتب فيه أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ (الناسخ والمنسوخ) وكتب الماوردي المتوفى سنة 450هـ (أمثال القرآن)، وكتب الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ (المفردات في غريب القرآن)، وكتب ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)
وكتب ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ (أقسام القرآن)، وكتب برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور).
الوحدة الموضوعية في القرآن كله:
إن الإقرار بوجود التناسب بين الآيات يؤدي إلى انتظامها في وحدة موضوعية معينة تحت هدف عام ومقصد معين بالرغم من تنوع أغراض السورة.
وقد ذكرنا أن ترتيب الآيات أمر توقيفي، وأن الراجح في ترتيب السور أمر توقيفي أيضاً.
ومما أجمع عليه أهل التأويل من السلف والخلف على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وأنه أوثق تعويلاً وأحسن تأويلاً، فإن أصح طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر[7].
فالله سبحانه وتعالى يقول: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر:23]
فمعنى قوله متشابهاً: أي يشبهُ بعضه بعضاً، مثاني: ثنيت موضوعاته مرة بعد مرة، وهذا يقودنا إلى القول بوجود الوحدة الموضوعية في القرآن كله.
فسورة الفاتحة جامعة كالديباجة، ففيها مفاتيح لجميع ما في القرآن[8]، ولذلك كان من أسمائها :أم القرآن وأم الكتاب والأساس.(7/5)
وقال الحسن البصري: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتبٍ من السماء أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان[9] جمعت هذه السورة على إيجازها علوماً جمة تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله ((رب العالمين))، وتوحيد الإلهية من قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) فهو المألوه بعبادته والاستعانة به، وتوحيد الأسماء والصفات وقد دل عليها قوله ((الحمد لله ))، فالأسماء الحسنى والصفات العليا كلها محامد ومدائح لله تعالى.
وتضمنت السورة أيضاً إثبات الرسالة في قوله: ((اهدنا الصراط المستقيم)) لأنه الطريق الذي دلنا عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
وتضمنت إثبات الجزاء بالعدل، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: ((مالك يوم الدين)) وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل على الحقيقة ليس مجبوراً على أفعاله، وذلك يفهم من قوله تعالى: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة.
وتضمنت السورة أيضاً أصل الخير ومادته وسبب قبول العمل، وهو الإخلاص الكامل لله في قول العبد: ((إياك نعبد وإياك نستعين))[10].
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ قل هو الله أحد الله الصمد حتى ختمها"[11].
وعن قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءاً من أجزاء القرآن"[12].(7/6)
قال النووي في شرح الحديث :قال المازري، قيل: معناه أن القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص وأحكام وصفات لله تعالى، وقل هو الله أحد متضمنة للصفات فهي ثلث وجزء من ثلاثة أجزاء[13].
وقال ابن حجر: هي ثلث باعتبار معاني القرآن، لأنه أحكام وأخبار وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار[14].
وعن أبي العباس بن سريج في تفسيره لسورة ((قل هو الله أحد)): بأن الله أنزل القرآن على ثلاث أقسام: ثلث منه أحكام، وثلث منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات[15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :مضمون هذا القول أن معاني القرآن ثلاثة أصناف: الإلهيات والنبوات والشرائع[16].
ونقل الثعالبي في تفسيره عن ابن العربي قوله: اعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد وتذكير وأحكام، وعلم التذكير هو معظم القرآن، فإنه مشتمل على الوعد والوعيد والخوف والرجاء، والقرب وما يرتبط بها ويدعو إليها ويكون عنها، وذلك معنى تتسع أبوابه وتمتد أطنابه[17].
ثم تأمل في بعض سور القرآن كيف تثنى موضوعاتها مرة بعد مرة، فتجد المعنى واحداً ولكن يختلف الأسلوب وطريقة السياق، ولاشك أن هذا مؤداه إلى القول بالوحدة الموضوعية .
اقرأ مثلاً بتدبر وتأمل سورة البقرة وهي أطول سور القرآن الكريم، ثم اقرأ بالطريقة نفسها سورة لقمان كيف تكررت المعاني مع اختلاف الأسلوب وطريقة السياق، فالمعاني نفسها التي وردت في البقرة جاءت بطريقة مختصرة في سورة لقمان، لقد اتحدت السورتان في افتتاحيتيهما ((ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)).
((ألم ، تلك آيات الكتاب الحكيم،هدى ورحمة للمحسنين))، ثم جاء في سورة البقرة قوله تعالى: ((يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)).(7/7)
وجاء في سورة لقمان قوله تعالى: ((ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد))، وقوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)).
وفي لقمان: ((ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور)).
واقرأ أيضاً سورة التوبة كيف افتتحت بالأمر بالبراءة من المشركين، قال تعالى: ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)) وقال تعالى في سورة الممتحنة ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)).
فقد جاءت سورة الممتحنة كخلاصة لسورة براءة، ثم إن هاتين السورتين أوجزتا في سورة (الكافرون)
ثم تدبر سورة (العصر) فقد أوجزت فيها مضامين أربع سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، فقد احتوت على أربع صفات :
- الذين آمنوا - وعملوا الصالحات.
- وتواصوا بالحق - وتواصوا بالصبر.
فسورة البقرة وسورة آل عمران تضمنتا الإسلام والإيمان، حيث تضمنت معظم الأحكام الشرعية المفصلة في سورة البقرة، ولذا فقد أوجزت بقوله تعالى: ((إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) وسورة النساء فصلت حقوق الأرحام والأمر بالقسط وإيفاء الحقوق، ولذا أوجزت بقوله تعالى في العصر ((وتواصوا بالحق))
وسورة المائدة سورة العقود عقود الحل والحرمة والأمر بالوفاء بالعقود، والتزام الحلال واجتناب الحرام ولذا أوجزت بقوله تعالى: ((وتواصوا بالصبر)) فالحرص على الحلال واجتناب الحرام يحتاج إلى الصبر[1] ... للبحث صلة
---
[1] - إمعان النظر في نظام الأي من السور ص 315 للدكتور: محمد عناية الله سبحاني.
[18] ... للبحث صلة
---
[1] - انظر النبأ العظيم ص199.
[2] - انظر الموافقات (3/413).
[3] - انظر: نظم الدرر (1/17).
[4] - نظم الدرر (1/19).
[5] - دلائل النظام ص 54.
[6] - انظر: دلائل النظام ص 55.
[7] - انظر مقدمة في أصول التفسير، ودلائل النظام ص 71.(7/8)
[8] - دلائل النظام ص 93.
[9] - التفسير الكبير لابن تيمية 7/122، وانظر تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي ص 61.
[10] - انظر تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن للسعدي ص 12.
[11] - صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب (فضل قراءة قل هو الله أحد) رقم الحديث 812.
[12] - صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب (فضل قراءة قل هو الله أحد) رقم الحديث 811.
[13] - شرح صحيح مسلم للنووي 4/419.
[14] - فتح الباري لابن حجر 8/678.
[15] - التفسير الكبير لابن تيمية 7/121.
[16] - التفسير الكبير لابن تيمية 7/226.
[17] - الجواهر الحسان 1/386، تفسير الآية (113) من سورة النساء.
[18] - إمعان النظر في نظام الأي من السور ص 315 للدكتور: محمد عناية الله سبحاني.
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(7/9)
مجلة السنة >> العدد 131- شوال - 1424 هـ - ديسمبر (كانون الثاني) 2003 م >> الركن الشرعي >>
الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم 2 - 2
د. حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية - جامعة إب، اليمن
الحكمة في إيجاز بعض السور:
بعض السور جاءت على غاية الإيجاز والقصر،كسورة العصر، وسورة الكوثر وسورة الإخلاص…والحكمة في ذلك والله أعلم- هي أن الله وعد بحفظ هذا القرآن وذلك لحفظ هذا الدين الذي أكمله الله ورضيه لنا ديناً، لا لمحض كونه كتاب الله فإن الكتب السابقة كلها كتب الله، كما أنها كلها منزلة على أنبياء الله ومع ذلك تعرضت تلك الكتب عدا القرآن للتحريف والتزوير.
ولما كان المقصود إبقاء دين الإسلام كاملاً وظهوره على الدين كله، جاءت الأصول الكلية على غاية الإيجاز والوضوح .
فإن عسر على بعض الأشخاص حفظ سورة البقرة فلا يعسر عليهم حفظ سورة العصر.
وإن عسر على شخص حفظ سورة التوبة، فلا يعسر على غيره حفظ سورة الممتحنة، وإن عسر على آخر حفظ هذه فلا يعسر على سواه حفظ سورة الكافرون.
فإن كان من الصعب على كل فرد في الأمة حفظ هذا الكتاب الكريم بتمامه، فلا يصعب عليهم حفظ هذه السور القصار في صدورهم، فالإسلام دين الفطرة والرسول بعث للناس جميعاً ((ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)) [الأعراف 158].
فالعالم والجاهل والذكر والأنثى والحضري والبدوي لايسع أحد جهله، وهذه مزية دين الإسلام على غيره من الديانات والمذاهب كلها.
ولذلك ترى السور القصار تختص بمعنى واحد فسورة الإخلاص للتوحيد، وسورة العصر تضمنت أصلي الدين (الإيمان والأعمال) وسورة الكوثر تضمنت البشارة[1].
من ثمرات الاهتمام بالوحدة الموضوعية
1- الاحتراز من الإسرائيليات وردها والوقوف على حقيقة الروايات وتمييز صحيحها من ضعيفها .(8/1)
ومن هذه الروايات الموضوعة (قصة الغرانيق) التي حشا بها كثير من المفسرين كتبهم وذلك عند تفسير قوله تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم)).
فقد ذكر كثير من المفسرين أن الشيطان ألقى أثناء قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ((ومناة الثالثة الأخرى)) (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى)، لكن علماء الحديث ردّوا هذه الرواية لورودها من طرق مرسلة.
والعلماء الذين اهتموا بربط الآيات ونظامها والوحدة الموضوعية كالبقاعي، وأبي حيان في البحر المحيط، ذكروا أن المقصود بالشيطان جنس الشيطان من الإنس كالنضر بن الحارث يلقون لقومه وللوافدين عليه شبهاً يثبطون بها عن الإسلام، ولذلك جاء قبل هذه الآية ((والذين سعوا في ءاياتنا معاجزين)) وسعيهم بإلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو جنس يراد به شياطين الإنس[2].
2- استنباط لطائف الحكم والنكات العجيبة وذلك من خلال تدبر نظم القرآن وارتباط الآيات المؤدي إلى الوحدة الموضوعية.
فتأمل في قوله تعالى: ((وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا(27)يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا(28)وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)) [الأحزاب27-28].
سياق الآيات في يهود بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت أرضهم وأموالهم وديارهم غنيمة للمسلمين 00ولما وسع الله على المسلمين بكثرة الأموال التي أحرزوها من الغنائم، طلبت النساء أن يوسع عليهن في النفقة.
فمن اللطائف والحكم التي تستنبط من خلال سياق الآيات مايلي:
- إن نقض العهد سبب المذلة والهوان وتسلط الأمم.(8/2)
- إن كثرة الأموال من أسباب الاهتمام بالدنيا وطلب التوسع فيها، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتلهيكم كما ألهتهم)[3] ولذلك خيّر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بين صحبته وعدم الاهتمام بالدنيا، وبين التوسيع عليهن والمفارقة،فاخترنَ الله ورسوله.
- سياق الآيات الذي يذكر موقف بني قريظة، وبعده موقف نساء النبي صلى الله عليه وسلم ففيه التحزب على أمور معينة، تحزب اليهود على نقض العهد، وتحزب نساء النبي على طلب التوسع في النفقة. وهذا يتناسب تماماً مع اسم السورة وهو كما ذكرنا من قبل طريق الاستدلال على الوحدة الموضوعية.
3- الحدّ من الخلافات وحسم النزاعات الناجمة عن كثرة الآراء.(8/3)
الاهتمام بالوحدة الموضوعية يؤدي إلى تضييق هوة الخلاف وتوحيد الآراء والمواقف، والذين أغفلوا القول بالوحدة الموضوعية في التفسير، يأتون في تفسير الآية الواحدة بالأقوال الكثيرة، والاحتمالات المتعددة، والوجوه المختلفة المتباينة،فيذكرون في تفسير الآية الواحدة بل الكلمة أحياناً احتمالات عديدة متعارضة،في حين أن القول الفصل فيها لا يحتمل الوجوه الكثيرة التي يذكرونها، وإنما يحتمل وجهاً واحداً، ففي تفسيرهم لقوله تعالى: ((فهل عسيتم إن توليتم أن أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)). ذكر كثير من المفسرين قولين متناقضين في معنى (توليتم) فالأكثر على أنها من الولاية والمعنى إن وليتم الحكم وقيل بمعنى الإعراض، والمعنى لعلكم إن أعرضتم عن قبول الحق أن يقع منكم ماذكر، وكثيرٌ منهم رجح القول الأول والحق أن معنى (توليتم) أعرضتم، وهذا الذي تؤيده الوحدة الموضوعية في السورة. والقول الثاني لاوجه له مطلقاً، فقد ابتدأت السورة بقوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)) وختمت بقوله تعالى: ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) وجاءت الآية التي ذكروا فيها الوجهين المختلفين في وسط السورة تقريباً فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)) فأول السورة وختامها يحذر من الإعراض والتولي عن طاعة الله ورسوله، ولاعلاقة لها بذكر الولاية والحكم[4].
مثال آخر ذكر القرطبي في تفسير سورة الكوثر، ستة عشر وجها لمعنى كلمة (الكوثر) على النحو الآتي:
1- نهر في الجنة 2- حوض النبي صلى الله عليه وسلم
3- النبوة والكتاب 4- القرآن
5- الإسلام. 6 - تيسير القرآن الكريم وتخفيف الشرائع
7- كثرة الأصحاب والأمة والأشياع. 8- الإيثار
9- رفعة الذكر 10- الشفاعة.
11- نور في قلب النبي صلى الله عليه وسلم دله على الله.
12- معجزات الرب هدى بها أهل الإجابة لدعوة النبي.(8/4)
13- لاإله إلا الله محمد رسول الله . 14- الفقه في الدين
15- الصلوات الخمس . 16- الأمر العظيم.
هذا وقد ثبت بيان معنى الكوثر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر : قلت لسعيد ابن جبير : فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة. فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه[5].
إذا كان الكوثر قد ورد بيان معناه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الحاجة لذكر الوجوه المتعددة؟
ولاتحسب أن الوجوه التي يذكرونها في كثير من الأحيان هي من قبيل اختلاف التنوع، بل هي من قبيل اختلاف التضاد الذي لا يجتمع مع غيره حيث يكثرون من عبارة : (قيل و قيل…).
جهود العلماء في دراسة الوحدة الموضوعية
قلت إن هذا النوع من التفسير ( الوحدة الموضوعية) حديث النشأة من حيث استعمال هذا المصطلح، وإن كانت جذوره تمتد إلى قرون سالفة، وهو بحر لاساحل له وخير من مخر هذا العباب، وجلب منه ما يرضي الخلان والأصحاب، الإمام برهان الدين البقاعي المتوفي 885 هـ في كتابه المشهور " نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" وكتابه الآخر" مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" .
ووضع الإمام الشاطبي بعض القواعد المتعلقة بدراسة القرآن وتفسيره على النحو الذي نحن بصدد الحديث عنه وذلك في كتابه " الموافقات" .
والفخر الرازي أشار في تفسير بعض المواضع من القرآن الكريم إلى هذه الوحدة.
ولابن قيم الجوزية في كثير من كتبه وعند تعرضه للكلام عن تفسير بعض الآيات والسور يبين الوحدة الموضوعية فيها.
أما في عصرنا الحاضر، فقد ظهرت دراسات عديدة حول هذا الأسلوب من التفسير ( التفسير الموضوعي) أو (الوحدة الموضوعية).
فمن هذه الدراسات ما كتبه الدكتور محمد عبدالله دراز في تفسير سورة البقرة عن طريق بيان الوحدة الموضوعية.(8/5)
وللأستاذ سيد قطب رحمه الله في سفره القيم (في ظلال القرآن) جهود مشكورة حيث يذكر في مقدمة معظم السور الموضوعات التي تناولتها السورة.
وللأستاذ محمد محمود حجازي كتاب (الوحدة الموضوعية في القرآن)
وهناك بعض الرسائل العلمية الجامعية التي تتناول تفسير بعض السور وفق المنهج المذكور.
وللشيخ القاضي شمس الدين بن شير محمد جهود قيمة في كتابه الموسوم (أنوار التبيان في أسرار القرآن) حيث قدم خلاصة موضوعية لما تدور حوله آيات كل سورة من القرآن الكريم .
وللدكتور مصطفى مسلم دراسة موضوعية لسورة الكهف، ضمن كتابه (مباحث في التفسير الموضوعي).
وبالرغم من تعدد الدراسات والكتابات المعاصرة التي ظهرت حول تفسير القرآن على منهج الوحدة الموضوعية، لكنها لم تحقق المطلوب منها، فكلهم شكر الله سعيهم، خاضوا في هذا البحر ولكنهم لم يتجاوزوا الشطآن والسواحل. نسأل الله القريب المجيب العليم الحكيم أن يهيئ وييسر من عباده الصالحين ويوفقهم لإنجاز مثل هذا المشروع المهم إنه على كل شيء قدير وهو اللطيف الخبير.
نماذج من جهود العلماء في بيان الوحدة الموضوعية .
قال الرازي عند تفسيره لقول الله تعالى: ((قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)) [فصلت :44]: وكل من أنصف ولم يتعسف علم أننا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد[6].
وقال الشاطبي في كلامه عن الأدلة على التفصيل في المسألة الثالثة عشرة:(8/6)
فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك[7].
ثم قال: وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معانٍ كثيرة، فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى:
أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة، من كونه مقربا إلى الله زلفى، أو كونه ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعاً، صادق فيما جاء به من عند الله، إلا أنه وارد على وجوه أيضاً، كإثبات كونه رسولاً حقاً، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم .
والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لاريب فيه، بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به، فرد بكل وجه يلزم الحجة، ويبكت الخصم، ويوضح الأمر.
فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن الكريم بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر. ويتبع ذلك.
فإذا تقرر الترغيب والترهيب والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار وصف يوم القيامة، وأشباه ذلك.(8/7)
هذا وإذا عدنا إلى النظر في سورة المؤمنين وجدنا فيه المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه. إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية، ترفعاً منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن جاءت.
فكانت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى، فافتتحت السورة بثلاث جمل:
إحداهما: وهي الآكد في المقام، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرم له، وذلك قوله: ((قد أفلح المؤمنون)) إلى قوله: الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون))
والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جارياً على مجاري الاعتبار والاختبار،بحيث لايجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلاً.
والثالثة:بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق، والإعانة على إقامة الحياة، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما، وكفى بهذا تشريفاً وتكريماً.
ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر: ففي نوح مع قومه قولهم: ((ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم)) ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولاً منهم أي من البشر لا من الملائكة فقالوا ? ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون)). ?((ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون)) ثم قالوا: ((إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا)) أي هو من البشر، ثم قال تعالى: ((ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه)). فقوله "رسولها" مشيراً إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها، ثم ذكر موسى وهارون وردّ فرعون وملئه بقولهم: ((أنؤمن لبشرين مثلنا)).(8/8)
هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لاغض فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى، فقال بعد تقرير رسالة موسى: ((وجعلنا ابن مريم وأه ءاية)) وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان، ثم قال: ((ياأيها الرسل كلوا من الطيبات))، أي هذا من نعم الله عليكم والعمل الصالح شكر تلك النعم ومشرف للعامل به، فهو الذي يوجب التخصيص، لا الأعمال السيئة. وقوله تعالى: ((وإن هذه أمتكم أمة واحدة)) إشارة إلى التماثل بينهم، وأنهم جميعاً مصطفون من البشر.
ثم ختم هذا المعنى بنحو مما بدأ به، فقال: ((إن الذين هم خشية ربهم مشفقون)) إلى قوله: ((وهم لها سابقون)).
وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا فهم أن ماذكر من المعنى هو المقصود مضافاً إلى المعنى الآخر وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية، استكبارا من أشرافهم، وعتواً على الله ورسوله، فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف، فإن التطورات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف، وأصله العدم، فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية، فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق، فهذا كله كالتبكيت عليهم والله أعلم.(8/9)
ثم ذكر القصص في قوم نوح: ((فقال الملأ الذين كفروا من قومه)) والملأ هم الأشراف، وكذلك فيمن بعدهم: ((وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا وكذبوا بلقاء الأخرة وأترفناهم)) الآية. وفي قصة موسى: ((أنؤمن لبشرين مثلنا مثلنا وقومهما لنا عابدون)) ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام.
ثم قوله: ((فذرهم في غمرتهم حتى حين)) إلى قوله: (( لا يشعرون )) رجوع إلى وصف أشراف قريش، وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين، فردّ عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قول: ((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون))
ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم، وذكر النعم عليهم، والبراهين على صحة النبوة، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين، فهذا النظر إذا اعتبر كلياً في السورة وجد على أتم من هذا الوصف، لكن على منهاجه وطريقه.
ومن أراد الاختبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح والتوفيق بيد الله، فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد[8].أهـ.
وقال ابن القيم : في تفسير سورة العنكبوت مضمون هذه السورة هو سرّ الخلق والأمر، فإنها سورة الابتلاء والامتحان، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة، ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمتها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل، وآخره هداية ونصر، والله المستعان[9].
وهكذا نجد في سائر سور القرآن أن موضوعات كل سورة على اختلاف أغراضها يبرق إلى وجود رابطة مع الاسم الذي هو عنوان السورة، والله أعلم .
وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
---
[1] - انظر: دلائل النظام ص82-83.
[2] - انظر: تفسير الآية (52) من سورة الحج في البحر المحيط، ونظم الدرر 13/67.
[3] - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث (6425).(8/10)
[4] - انظر: من جوامع الكلم للمؤلف ص193.
[5] - صحيح البخاري، كتاب التفسير، رقم الحديث (4966).
[6] - التفسير الكبير للرازي 9/570.
[7] - الموافقات في أصول الشريعة 3/415.
[8] - الموافقات للشاطبي 3/415 – 419.
[9] - بدائع التفسير لابن القيم 3/370.
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(8/11)
مجلة السنة >> العدد 132 - ذو الحجة 1424 هـ - فبراير (شباط) 2004 م >> الركن الشرعي >>
الإعجاز البياني في القرآن الكريم
د. حكمت الحريري
رئيس قسم القرآن وعلومه، كلية التربية - جامعة إب، اليمن
بعد وصولي إلى صنعاء قبل بضع سنوات، وقفت على الشارع أمام الفندق الذي كنت مقيماً فيه وأنا لا أعرف فيها شيئاً، فكانت تمر سيارات الأجرة لتقل الركاب من جهة إلى أخرى وقبل وصول السيارة بمسافة ينظر السائق أمامه وكلما رأى شخصاً يشير السائق بيده يميناً وشمالاً!!، فكيف بشخص مثلي وهو لا يعرف في البلد شيئاً أن يفهم إشارة السائق؟!!
لم أكن أعهد مثل هذا المنظر أو هذه الإشارات منذ مدة بعيدة حيث قضيت في بلاد الأعاجم بضعة عشر عاماً، كان معاون السائق الذي يحصّل الأجرة من الركاب في تلك البلاد يصيح بأعلى صوته منتفخ الأوداج من أجل إرشاد الركاب على جهة السير، وتحديد جهة سير الحافلة.
أذكر أني ما رأيته من حال السائق في صنعاء واعتماده على الإشارة و العقل كلاماً كنت قرأته لشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، فقد قال ما خلاصته:
«قوى الإنسان ثلاث هي: قوة العقل وقوة الغضب وقوة الشهوة، فأعلاها قوة العقل التي تميز بها العرب عن سائر الأمم، وباعتبار القوى الثلاث انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني وهم العرب والفرس والروم، فإن هذه الأمم التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية وهم سكان وسط الأرض طولاً وعرضاً ومن سواهم فتبع.
فغلبت على العرب القوة العقلية المنطقية واشتق اسمها من وصفها فقيل لهم عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار وذلك خاصة القوة النطقية.
وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما واشتق اسمها من ذلك فقيل لهم الروم، فإنه يقال: رمت هذا أرومه إذا طلبته واشتهيته.
وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة، واشتق اسمها من ذلك فقيل فرس كما يقال فرسه يفرسه إذا قهره وغلبه.(9/1)
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً: فضيلة العقل والعلم والإيمان، وهي كمال القوة المنطقية، وفضيلة الشجاعة وهي كمال القوة الغضبية، وفضيلة السخاء والجود وهي كمال القوة الطلبية الحبية.
وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث المسلمون واليهود والنصارى، فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور، ومعجزة نبيهم هي علم الله وكلامه » أهـ .
ومعلوم من حياة الأمم وسير الأنبياء أن المعجزات تكون من نوع الفن الذي برع فيه أقوامهم.
كان معظم سكان الجزيرة العربية في وقت نزول القرآن أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا ماندر، فقد كانوا يحفظون وقائعهم التاريخية وخطبهم وأشعارهم وحكمهم وأمثالهم وقصصهم ومواعظهم وسائر أمور الحياة عندهم، يحفظونها في أذهانهم، ويعتمدون على الذاكرة والعقل بدلاً من اعتمادهم على الكتابة والتدوين، فنمت فيهم قوة العقل والذاكرة، فتميزوا من بين سائر الأمم بالفطنة والذكاء، ونتج عن ذلك فصاحتهم وبلاغتهم وإعرابهم عن مرادهم بأوجز العبارات وأفصحها، حتى عمرت أسواقهم وأماكن احتشادهم يعرضون فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة، يتنافسون في ذلك أشد التنافس، ولا يغيب على من قرأ تاريخ العرب قبل الإسلام موضوع المعلقات التي يقال إنها كتبت بماء الذهب ثم علقت على الكعبة الشريفة.
إذن فسر اختيار العرب لتكون فيهم رسالة خاتم النبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم تميزوا بغلبة القوة العقلية المنطقية، ولغتهم أفصح لغات العالم على الإطلاق.(9/2)
وإذا كان الأمر كذلك فإن من نافلة القول أن نذكر أن أعداء هذا الدين يمكرون، ويكيدون للقرآن الكريم، ويسعون سعياً حثيثاً للتقليل من شأن اللغة العربية والتجهيل بها، نلحظ ذلك من خلال الحرب المعلنة على هذا الدين التي أشعل نارها في العصر الحديث " دنلوب " في خطته التعليمية ضد الأزهر، ثم إنها مستمرة على يد تلامذته ومن سلك سبيله المظلم، وما إدخال اللغات الأجنبية على مناهج التعليم في سن مبكر وإلزام الطلاب بدراستها، ثم تقليص المناهج المقررة في مواد اللغة العربية ثم الدعوة إلى تغيير المناهج إلا من هذا القبيل. نسأل الله أن يرد كيد الخائنين في نحورهم.
أسباب الإعجاز البياني في القرآن الكريم
نزل القرآن الكريم في أزهى عصور البيان العربي وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، ورغم ذلك فقد انقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، إنه كلام تعجز عنه قوى البشر.
فهذا الوليد بن المغيرة، وهو كافر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعاند للقرآن، طلب منه أبو جهل أن يقول في القرآن قولاً يعلم به قومه أنه كاره له، قال: فماذا أقول فيه؟ فوا الله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال فدعني أفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه.
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثل هذا القرآن لأسباب هي:
1- أن علمهم لايحبط بجميع أسماء اللغة العربية وألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها.
2- أن أفهامهم لا تدرك جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ.
4- أن معرفتهم لا تكمل لاستيفاء جميع وجوه النظم التي يكون بها ائتلافها وارتباط بعضها ببعض.(9/3)
ومن تدبر القرآن الكريم وجد هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولاترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً من نظمه.
وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.
صار القرآن معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ وفي أحسن نُظُم التأليف متضمناً أصح المعاني، من توحيد لله عز وجل ودعاء إلى طاعته وبيان منهج عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهى عن منكر، وإرشاد إلى مكارم الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعاً كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه.
لم يخرج القرآن في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفراداً وتركيباً، وكان بذلك أدخل في الإعجاز وأوضح في قطع الأعذار قال تعالى: ((الر تلك آيات الكتاب المبين(1)إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)) [يوسف:1-2].
وقال تعالى: ((حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)) [غافر:1-2]، وقال تعالى: ((ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)) [فصلت:44].
ولكنه تميز في أسلوبه عن أساليب العرب في كلامهم، فلا يدخل على طريقتهم في نظمهم للشعر، ولا مثل أساليبهم في النثر والخطابة، بل هو لون آخر متميز مستقل تماماً.
وقد ذكرنا في موضع آخر من أدلة تحديه للعرب على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله، أو بسورة فعجزوا، وذكرنا من الأدلة على تأثيره في قلوب سامعيه ما يغني عن إعادة ذكره في هذا الموضع.(9/4)
ما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القران لألسنتهم وأقلامهم، وكثير منهم طالبوا بإبطال حجته؟ السبب في ذلك أن في القرآن منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم عنه ((بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)) [البروج:21 - 22] إنه الوحي، كلام الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قال تعالى ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)) [الإسراء:88].
وقال تعالى ((تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)) [الزمر:1]
وقال تعالى ((وما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون)) [الشعراء:210-211]
وقال تعالى ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) [يونس:37].
إن أول ما يلاقيك ويسترعي انتباهك في مناعة القرآن وأسلوبه الفذ، غريب تأليفه في بنيته، وما اتخذه من رصف حروفه وكلماته وآياته، هذا النظم العجيب الذي خرج فيه عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس وعرفوه، فلا جرم لم يجدوا له مثالاً يحاذونه ولا سبيلاً يسلكونه إلى تذليل منهجه، وآية ذلك أن أحداً لو حاول أن يدخل عليه شيئاً من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين من الحكماء أو البلغاء، أو غيّر فيه شيئاً من كلماته وتراكيبه، لأفسد مزاجه في كل فم قارئ ، ولجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذاً لنادى الداخل على نفسه بأنه واغل دخيل، ولنفاه القرآن عن نفسه كما ينفي الكير خبث الحديد.
((الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)) [فصلت:41-42] وبالمثال يتضح المقال :(9/5)
قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا)) [المائدة:38] فقلت: والله غفور رحيم سهواً، فقال الأعرابي: كلام من هذا فقلت كلام الله .قال: أعد، فأعدت: والله غفور رحيم، ثم تنبهت، فقلت ((والله عزيز حكيم)) فقال الآن أصبت، فقلت كيف عرفت؟ قال: ياهذا عزيز حكيم فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع.
وحدثوا أن رجلاً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ ((فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله)) [غفور رحيم] فقال أعرابي لا يكون ،وفي رواية أخرى أنه قال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
وسمع أعرابي إماماً يقرأ [ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا] - بفتح تاء تنكحوا - فقال: سبحان الله! هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن، والقراءة "ولا تنكحوا" فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إماماً، فإنه يحل ما حرم الله.
إمساك العرب عن معارضة القرآن وسفاهة مسيلمة الكذاب:
ومع كون العرب أئمة البلاغة وأرباب الفصاحة، ومع زعم بعضهم أنهم قادرون على معارضة القرآن والإتيان بمثله كما حكى القرآن عنهم ((وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين)) [الأنفال:31].
ولكن لم ينقل عنهم مجرد المحاولة للمعارضة لما يعرفونه في قرارة نفوسهم من أن القرآن فوق طاقة البشر ومن حاول ذلك، فإنما يكشف عن عجزه وسفهه بما يهذي كفعل مسيلمة الكذاب، ومما حكي من قوله: "يا ضفدع نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الوارد تنفرين" وقوله: " ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى، بين شراسيف وحشى".(9/6)
وعن سعيد بن نشيط قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى البحرين فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو ثمّ. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة فأعطاني الأمان ثم قال: إن محمداً أرسل في جسيم الأمور وأرسلت في المحقرات. فقلت: أعرض عليّ ما تقول فقال:يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين لا وارداً تنفرين ولا ماءً تكدرين، يا وبر يا وبر يدان وصدر وسيرك حفر ونقر.
ثم أتى أناس يختصمون إليه في نخل قطعها بعضهم لبعض فتسجى القطيفة ثم كشف رأسه فقال: "والليل الأدهم والذئب الأسحم ما جاء بنو أبي مسلم من محرم".
ثم تسجى الثانية فقال: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما حرمته رطباً إلا كحرمته يابس، قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم شيئاً" قال عمرو: أما والله إنك تعلم وإنا لنعلم أنك من الكاذبين. فتوعدني" أ.هـ
فإن هذا الكلام خالٍِ من كل فائدة، وإنما تكلف هذا النوع من الكلام الغث لأجل ما فيه من السجع، والساجع عادته أن يجعل المعاني تابعة لسجعه لايبالي بما يتكلم به إذا استوت أساجيعه.
الأولى في حفظ الاعتبار بالإمساك عن محاولة المعارضة والتسليم لهذا الكتاب المعجز فهو كلام رب العالمين قال تعالى ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)) [النساء:82]
وقال تعالى : ((قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون)) [الزمر:28]، وقال تعالى: ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)) [البقرة:23-24].
* * *
وقوع المعارضات والمباريات بين الشعراء في الجاهلية والإسلام
إذا كان العرب على فصاحتهم وبلاغتهم قد عجزوا عن معارضة القرآن ومن أقدم على ذلك فقد حكم على نفسه بالسفه وافتضح بين الخلق أمره.(9/7)
لكنه قد حصل من المعارضة والمباراة بين الشعراء العرب، من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين وهم باعتبار الإجادة في رأي النقاد على طبقات، فشعراء الجاهلية ثلاث طبقات حسب اختلاف ذوق النقاد وتقسيمهم، فمن الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية امرؤ القيس وزهير والنابغة، والطبقة الثانية: الأعشى ولبيد وطرفة، والطبقة الثالثة: عنترة ودريد بن الصمة وأمية بن أبي الصلت.
وكان امرؤ القيس يعّد من فحول الشعراء، وقد تنازع مع علقمة بن عبدة في وصف الفرس، في قصيدتيهما المشهورتين، فافتتح امرؤ القيس قصيدته بقوله:
خليلي مرّا بي على أمِّ جندب نقضّ لبانات الفؤاد المعذب
فلما صار إلى ذكر الفرس وسرعة ركضه قال:
فللزجر ألهوب وللساق درة وللسوط منه وقعُ أهوج منعب
وابتدأ علقمة قصيدته بقوله:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يك حقاً كلُ هذا التجنب
فلما صار إلى ذكر الفرس وركضه قال:
فعفّى على آثارهن بحاصب وغيبة شؤبوب من الشد ملهب
فأدركهن ثانياً من عنانه يمرّ كمرّ الرائح المتحلب
وكانا قد حكّما بينهما امرأة امرئ القيس، فقالت لزوجها: علقمة أشعر منك، فقال: وكيف ذلك؟ قالت:لأنه وصف الفرس بأنه أدرك الطريدة من غير أن يجهده أو يكده، وأنت مريت فرسك بالزجر وشدة التحريك والضرب، فغضب عند ذلك وطلقها.
وجرى بين امرئ القيس والحارث البشكري مباراة عجيبة ومعارضة تامة، حيث ابتدأ امرئ القيس بذكر نصف البيت فيتمه الحارث، وكان له فيها ما ليس لامرئ القيس لأن المبتدئ متمكن من الاختيار وموسع عليه، والمجيز مقصور القيد ممنوع من التصرف إلا في الجهة التي هو بإزائها،
قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهنا.
فقال الحارث: كنار مجوس تستعر استعاراً
قال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح
فقال الحارث: إذا ما قلت قد هدأ استطارا
قال امرؤ القيس: فمرّ بجانب العبلات منه
فقال الحارث: وبات يحتفر الأكم احتفاراً
قال امرؤ القيس: فلم يترك ببطن السي ظبياً(9/8)
فقال الحارث: ولم يترك بعرصتها حماراً
قال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب
فقال الحارث: عشارٌ ولّه لاقت عشارا
قال امرؤ القيس: فلما أن علا شرجى أصاخ
فقال الحارث: وهت أعجاز ريقه فخارا
قال امرؤ القيس: فلم تر مثلنا ملكاً هماما
فقال الحارث: ولم تر مثل هذا الجار جارا
فلما رأه امرؤ القيس قد ماتنه ولم يكن في ذلك الدهر شاعر يماتنه آلى ألا ينازع الشعر بعده أحداً.
ومما يعدونه من بديع الشعر ومحاسنه قول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليلٍ كأن نجومه بكلِّ مغار الفتل شدّت بيذبل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة الذبياني:
كليني لهم يا أميمة ناصبٍ وليلٍ أقاسيه بطئ الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يتلو النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء وجلسائهم، فمنهم من قدم أبيات امريء القيس ومنهم من قدم أبيات النابغة.
وعلى الرغم من اعتبارهم شعر امرئ القيس في الطبقة الأولى من الحسن والإبداع، إلا أن له من قبيح الشعر، ومن ذلك قوله:
فقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وكل مكارم الأخلاق سارت إليه همتي ونما اكتسابي
وليس من همنا أن نستقصي ما جرى من المباريات والمعارضات بين الشعراء في كل عصر فإن لذلك مواضعه في كتب الأدب.
هذا ولم يعد الأمر قاصراً على من ذكرنا، فإن من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لاتتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها، وكل شاعرين جمعهما عصر، جدّ كل واحدٍ منهما في مغالبة الآخر، وجعل ذلك همه وكده وقصر عليه دهره، وقد عرف ذلك عند من تتبع تاريخ الأدب العربي، فقد اشتهرت قصة المعارضة بين جرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري.(9/9)
ومن أجود شعر البحتري قوله:
أهلاً بذلكم الخيال المقبل فعل الذي نهواه أو لم يفعل
برق سرى في بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الركاب الضلل
وذكروا أن أجود منه قول الصنوبري:
أهلاً بذاك الزور من زور شمس بدت في فلك الدور
ففي قول البحتري (ذلكم الخيال) ثقل روح وتطويل وحشو وغيره أصلح له، ثم قوله: (فعل الذي نهواه أو لم يفعلِ).
ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة وإن كانت كسائر الكلام.
وما من قصيدة تذكر في شعر العرب إلا وهناك شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها ومعارضون في بدائعها. وهناك فرق بين كلام يكثر تصرفه واضطرابه ويختلف اختلاف الأهواء وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج وفي وصفه على حد وفي صفائه على باب وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفه مؤتلف ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع ومطيعه شارد، وهو على تصرفاته واحد لا يستصعب في حال ولا يتعقد في شأن ...
للبحث صلة
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
abo-omar(9/10)