الفصل الأول: التأمين الاجتماعى:
"الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"
قالوا فى الأمثال: الجاهل يعيش ليأكل والعاقل يأكل ليعيش. وظاهر أن كلا الرجلين يأكل، ولكن هذا يجعل الأكل غاية للحياة وذاك يجعله وسيلة إليها. والإنسانية الفاضلة إنما تصح وتسمو بذلك الصنف من البشر الذين يرتفعون بوجودهم عن مستوى الضرورات الملحة والشهوات الجامحة، غير أن إيجاد هذا الصنف من الناس يحتاج إلى أمور لابد منها. فإن المأكل والملبس وما إليهما من ضرورات العيش، إذا عز منالها طال التفكير فيها. وإذا طال التفكير فيها واشتد السعى إليها عظمت قيمتها وغلت حقيقتها.. فإذا كلفت طائفة من الناس بأن تقضى عمرها فى تحصيل هذه المطالب المادية، وأن تقف تفكيرها واحتيالها على توفير هذه الضرورات الإنسانية، فمعنى هذا أننا كلفناهم بأن يعيشوا ليأكلوا.. أو ليأتوا بالأكل لأهلهم وأولادهم. ولعل هذا هو الذى جعل الجمهور عندنا يطلق العيش على الخبز. ولا أدل على سقوط القيم الأدبية من هذا الإطلاق الشائع بين العامة. وهم معذورون إذ يحيون فى بيئة ترغمهم على أن يعيشوا ليأكلوا، ولا تمنحهم فرصة من الراحة والطمأنينة يستريحون فيها إلى ما قد يكون فى الحياة من خير وجمال، وسلام و إيمان. إن الملكات الإنسانية التى تقيد بإزاء تحصيل الأقوات، والتى قد تحبس أو تستهلك فى سبيل ضمان المعيشة الكريمة.. هذه الملكات يمكن الانتفاع بها فى ميادين الحياة الأخرى. وإنما انطلقت العقلية الأوروبية تقتحم الآفاق المجهولة، ثم ترجع بالكشوف الباهرة فى ميادين العلم والفن والأدب، لأنها تخطت عوائق الحرمان والضيق، ومزقت ص_035(1/1)
لباس الجوع والخوف، على حين ظلت العقلية الشرقية ـ فى القرون الأخيرة ـ تذوب فى البحث عما يمسك عليها رمق الحياة! وقد حكوا أن فقيها إسلاميا كبيرا فاجأته خادمته وهو ذاهب لإلقاء الدرس بأن الدار ليس بها دقيق فطارت من رأسه مسائل العلم التى أعدها!! فإذا وقع كثير من العلماء والأدباء صرعى لهذا القلق، وإذا فقدت البيئة كلها هذا التأمين الاجتماعى الواجب لأبنائها جميعا، فأى فشل فى الإنتاج المادى والأدبى ينتظر لمثل هذه الحال؟ إن حقائق الحياة الضنكة فى الشرق الإسلامى يحددها هذا الجواب. ثم لماذا ننسى الأزمات النفسية التى تعتور الإيمان فى ظل الاضطراب الاجتماعى عندما يدفن الأذكياء دفنا، و يختفى وهجهم فى ألفاظ من المسكنة والبأساء، بينما نغدق على بعض الناس الخيرات والبركات، لأن المصادفات ـ وحدها ـ أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف. مع أن هذه الأزمات النفسية الناشئة عن الاضطراب الاجتماعى قد تخلع الإيمان من القلوب على نحو ما قال الشاعر: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذى ترك الأوهام حائرة وصبر العالم النحرير زنديقا ولسنا نرضى عن هذا الاتجاه الشارد فى سخطه. فليس العيب من تصريف القدر للأرزاق، ولكن العيب من تظالم الناس، وسوء اقتسامهم لما قسم الله بينهم من معايش. ثم العيب كذلك على طوائف المتدينين، لا ترى مواطن العبادة إلا فى مواطن المسكنة والدمامة والقلق. كأن الله لم يخلق الراحة والجمال والمتاع، إلا ليحتكرها الإلحاد والملحدون.؟ ص_036(1/2)
ومن ثم فهم على الفقر وعلى عدم الشكوى منه حريصون، وللغنى والتطلع إليه مهتمون. *** قيل: إن ابن الراوندى ـ وهو رجل مغموز العقيدة ـ كان جالسا على أحد الجسور ببغداد يزدرد قطعة من جلف الخبز، فمرت به خيل مطهمة من حولها الموالى، وفوقها صنوف الأموال! فسأل: لمن هذه؟ فقيل: لفلان الخادم بأحد القصور... وتبعت هذا الموكب عينا الرجل المحروم، وما كاد ينتهى من عرضه... حتى بدأ موكب آخر فى فخامة ما سبقه! فسأل: ولمن هذا أيضا؟ فقيل: للرجل نفسه. وبعد قليل مر الرجل المحظوظ، صاحب هذه الأموال العظام! فرمقه ابن الراوندى فرأى شخصا دميما ذميما تقتحمه العين. فنظر إلى السماء ثم نظر إلى قطعة الخبز فى يده ثم قال: وهذه لى!! ورمى بها جانبا، وقام معترضا على هذا اللون من تقسيم الأرزاق، وتوزيع النعماء والبأساء على العباد. *** قرأت هذه القصة فى كتاب يلعن ابن الراوندى، ويذكر لونا من كفره بالله، وقد وقفت عندها وقفة طويلة، لأن القصة فى نظرى تضمنت خطأين لا خطأ واحدا... خطأ من ابن الراوندى، وخطأ ممن سرد الحكاية التى أثارت حفيظته، دون أن يعلق عليها بخير أو بشر.. ! أما ابن الراوندى فإن جراءته على الله جور عن الطريق وسفه فى الحكم. فإن الله ـ جل شأنه ـ لم يأمر بتجويع البشر، وإشاعة المسغبة، وهو لا يرضى من أصحاب السلطان أن يغتالوا حقوق الأمم ويوزعوها على أنفسهم وحواشيهم. ص_037(1/3)
فإذا بليت الأمم بشئ من هذا العسف فليس رب العباد هو الذى يثار عليه لوقوع تلك المناكر ، بل تكون الثورة على الملوك الفاسقين والأتباع المارقين. وترك هؤلاء دون نكير عليهم ثم الاتجاه بالسخط إلى الله الذى يكره أعمالهم هو التواء فى الفكر، وسماجة فى الحكم. لماذا يلام الدين، أو يكفر برب العالمين، لأعمال قوم يبرأ الله من مظالمهم! وينزل دينه لحماية الخلق منهم؟ وهب هؤلاء نسبوا إلى الله ما يصنعون. ألم يكذبهم الله فى كتابه؟ إذ قال: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط ..) نعم. أمر ربنا ـ جل شأنه ـ بالقسط. ومن غفلة ابن الراوندى وأمثاله أن يستدلوا بالواقع المؤسف على أن هذه إرادة الله التى يجب الإذعان لها والتسليم المطلق بإزائها، وهنا ينكشف الخطأ الآخر الذى وقع فيه المؤلف الناقم على الفقراء الساخطين ! لقد ذكر غنى الملوك وخدمهم على أنه القدر الذى يعد الإذعان له دينا والتبرم به كفرا وهذا باطل! بل لعل العكس هو الصحيح! أعنى أن التبرم به هو الإيمان الحق، وهو الغيرة على معالم الدين ومصالح الخلق. أما السكوت عليه فهو جهل بالدين أو نكوص عن حمل تبعاته. ورحم الله عمر بن الخطاب إذ رفض السفر إلى أرض الوباء فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فغضب غضبا شديدا لإقحام الإرادة الإلهية إقحاما يخالف الحكمة و يصادم العقل والنقل ثم قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت إذا كنت ترعى قطيع غنم فانتقلت به من مكان مجدب إلى مكان مخصب، أكنت مراغما الأقدار بهذا الانتقال؟ كلا. هذا بقدر الله، وذاك بقدر الله! ص_038(1/4)
والغريب أن كثيرا من الملاحدة نبتت بذور الكفر فى أفئدتهم لأنهم نظروا إلى تخمة نفر من المتعطلين بالأموال وضيعة عدد من الأذكياء. فبدلا من أن يسعوا إلى مرضاة الله بإقامة عدله فى الأرض، نسبوا هذا العوج إلى السماء، وجعلوا هذه النسبة مهادا لإنكار الألوهية نفسها، بعد اتهامها بالنقص والحيف!! ولعمرى إن هذا لهو الضلال المبين. على أن تفاوت الأرزاق حقيقة كونية يستحيل إنكارها أو تسيير الحياة بعيدا عن محورها، ذلك بأن الاختلاف بين طبائع الناس المادية والمعنوية، وانبعاثهم إلى العمل، وإجادتهم لأنواعه.. بعيد المدى. إنه اختلاف يرتكز على فطرتهم التى يولدون بها، وتسهم فى تكوينه إلى حد كبير حالات غير إرادية. هذا يرزق فى حنجرته أوتارا خاصة، فإذا هو مغن يكسب الذهب. وهذا يرزق فى مخه تلافيف خاصة فإذا هو أريب يلعب بالجماعات، وهذه ترزق فى وجهها ملامح معينة، فإذا هى غادة يخضع لها الرجال.. أو ملامح أخرى فإذا هى عاطل لا يفكر فيها أحد.. ومن الناس من يؤثر ضرب الفأس فى الأرض سحابة النهار على أن يمسك بالقلم ويتأمل فى كتاب، ومنهم.. ومنهم.. إن اختلاف الأرزاق تبعا لاختلاف الخلائق والملكات حقيقة لا ريب فيها، وهى حقيقة احترمتها شعائر السماء، ولم تستطع الفكاك منها أنظمة الأرض. وقد ظن بعض المخدرين بعقاقير المذاهب البراقة، أن المساواة المطلقة ممكنة، وحاولوا السير مع هذا الوهم، بيد أن طبائع الأشياء وقفتهم فى مكانهم وأكرهتهم على الاعتراف بها. وإن كان المحزن ـ فى واقع كثير من المجتمعات ـ أن سعة الرزق وضيقه لا يخضعان لهذه القوانين الطبيعية، بل ربما عراهما من الخلل والفوضى ما يشقى الأفراد وينشر المتاعب ويزرع البغضاء. ص_039(1/5)
إن من أفدح الظلم وضع الأمور فى غير نصابها، و غمط الكفايات، ورفع النفايات، والحياة لا تصلح وفق أوامر الله إلا إذا انتفى منها هذا البخس والعقوق ولذلك يقول جل شأنه: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) والأمة الإسلامية لم تنحدر منذ قرون عدة إلا لجفاف هذا " الخير " الدافق من الإيمان الحى، الإيمان الذى لا يبخس حقا ولا يرضى فسادا. فالخير العام الذى عنته الآية، ليس ثواب الآخرة وحده، إنه الاستقرار فى أركان المجتمع. وفى إنصاف الكفايات ضمان لمصالح الأمة أضعاف ما فيه من ضمان لحق إنسان يطلب حقه.. ثم ينضم إلى العدالة فى التقدير والجزاء عنصر آخر لابد منه، هو الرحمة!! وبث مشاعر الحنان والحب فى أرجاء البلاد وإقامة الصلة بين الإنسان والإنسان، والطائفة و الطائفة على ضرب من الاحترام والعناية. *** وإعطاء كل ذى حق حقه، وكل ذى فضل فضله لا يغنى عن هذا العنصر المهم، فإن الحياة ما خلت يوما ولن تخلو مستقبلا من ضعاف يحتاجون إلى العون، ومن مرءوسين يفتقرون إلى الرعاية. وأعلى الناس مواهب قد تخرج من صلبه ذرية تطلب المواساة. بل قد يتعرض هو نفسه لمرض أو لشيخوخة يجعلانه أحوج ما يكون إلى حنان المجتمع وعطفه.. وفى الإسلام تفاصيل رائعة لما يجب على القادرين والواجدين. وفنون منوعة لظلال الرحمة التى يبسطها هذا الدين على الأحياء الذين ينشدون المعاملة الرقيقة، والإحساس النبيل... *** جميل ألا يفقد الإنسان توازنه النفسى إن فقد توازنه الاقتصادى. جميل ألا يفقد الإنسان توازنه النفسى إن فقد المجتمع توازنه الاقتصادى. ص_040(1/6)
وجميل إذا أحرجتنا مطالب الحياة المادية ألا ننسى صور الحياة العليا، وأن نكرس بعض أوقاتنا لها إن استبدت بأكثر أوقاتنا مشاكل الدنيا الرخيصة. ولكن هل من المحتم أن يتعرض الإنسان لهذه المحن، وأن يضطرب فى هذا البلاء ليخرج منه بعدئذ سليما أو جريحا؟ فى أمثال العامة أن رجلا قال: اللهم أدخلنى بيت الظالم و أخرجنى منه على خير.. فقال له العقلاء: ولم هذا كله؟ لا يدخلك فيه و لا يخرجك منه. وخير الطرق للنجاة بإيمان الناس والبعد بهم عن الزيغ والسخط ألا نجعل البيئة الاجتماعية مثلا آخر لبيت الظالم الآنف ذكره. بيئة مليئة بالتجويع والتشريد، فمن يدرى ربما دخلوها فلم يخرجوا منها بخير قط؟ ولئن خرج البعض من أمثالى هذه البيئات بخير ما، إنه خير طفيف لوزن قليل الغناء. وإن أفضل ما نقدمه لديننا ودنيانا أن نعمل على سيادة التأمين الاجتماعى، وعلى شموله لكافة ما يحتاج إليه الفرد من ماديات ومعنويات.
بالوصايا الخلقية أم بالقوانين الحاسمة؟!
والسبيل لذلك ميسرة لمن أراد السير عليها. فإن تأمين المجتمع من الجنايات الخطيرة شرعت له القوانين، وبنيت له الحاكم وكونت له فرق الشرطة. ولم تكتف حكومة فى شرق الأرض ولا فى غربها أن تحارب السرقة أو القتل بالنصح المجرد والوعظ البليغ. بل قامت الحكومات بالخطوات العملية الواجبة لحراسة الأموال والدماء والحقوق، واعتبرت ذلك وظيفتها الأولى. فهل تأمين المجتمع ضد الفقر والعجز والهوان الأدبى والعقلى، أمر يعتبر أقل خطرا عن أن تلتفت له الحكومات وتجعله من جوهر أعمالها ومن أسس وظائفها الطبيعية؟! ص_041(1/7)
ولماذا يفرق بين الحالتين فتتكفل القوانين بواحدة ويترك للخطباء والواعظين أن يستدروا العطف أو يتسولوا الإعانات لإطعام جوعان أو لكسوة عريان أو لمساعدة عاجز؟ أو ليس هذا التفرق بين حالتين متشابهتين مثار تساؤل مريب؟ بلى! فما قام هذا التفريق السمج إلا فى غفلة الأديان عن أداء رسالتها وبسط رقابتها، فقام المحتكرون والمستغلون يؤلفون طبقات تأخذ من الشعب ماله ـ غصبا حراما ـ ثم ترد بعضه ـ صدقة مذلة فتصل هذه الصدقات إلى فريق قليل، وعلى أوقات متباعدة، وتبقى الكثرة العظمى من الأمة فى أكثر أيام السنة تهددها الويلات وتنتابها الكوارث. إن الإسلام تارة يعتبر الأمة كالبنيان يشد بعضه بعضا. وتارة يجعل الأمة كالجسم الواحد فى شيوع الإحساس والشعور بالألم. غير أن هذه الأقوال إن لم تترجم عمليا وإن لم تنقل من ميدان النصائح والأخلاق المستحبة إلى ميدان القوانين المهيمنة على شئون الدولة، و مصاير الأفراد، وعلائق الطبقات فإنها تبقى كما هى فى مواضعها من بطون الكتب أو فى أفواه رجال الدين و لا تتقدم الحياة شبرا إلى الأمام. وقد جاء الإسلام بتعليمات مالية خطيرة الأثر ـ لو أردنا تطبيقها ـ وهى فى جملتها تستهدف إقرار التأمين الاجتماعى ، وبث الطمأنينة فى قلوب الناس. وعلينا أن نبتدع الوسائل لتنفيذها، وأن نقتبس وننتفع بالأنظمة السائدة الآن، و التى تلتقى وإياه عند غاية واحدة. ولنعمل على تطهير المجتمع من آثار التخلخل الاجتماعى بسن القوانين وإحكام التشريعات مثلما نصنع تماما فى مكافحة الجراثم الاجتماعية التى حرمها الدين، وإلا كنا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. ص_042(1/8)
مجتمع مثالى:
والخطوط التوضيحية التى رسمها الإسلام للمجتمع الذى ينشده تشير كلها إلى أنه لابد من اجتثاث عوامل المسكنة والانقطاع والعوز. وإمداد كل فرد بما يحفظ كيانه ويصون حياته. واشتراك أبناء الأمة قاطبة فى الاستمتاع بخيراتها. يقول الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له ".. قال راوى الحديث: فذكر أصنافا من المال حتى رأينا أن لاحق لأحد منا فى فضل. فلما بنى أول مجتمع إسلامى فى المدينة، سنحت الفرصة العملية لتحقيق هذه القاعدة، فكانت الأخوة المتكافلة فى السراء والضراء، المتقاسمة للخير والشر، المتساوية فى نيل الفرص أو الحرمان منها: هى الدعامة المكينة التى قامت عليها هذه الأمة فى أنقى عصورها. ولقد أراد النبى الغزو مرة فقال: "يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم من ليس له مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة! قال جابر بن عبد الله- راوي الحديث-: فضممت إلى اثنين أو ثلاثة ومالى إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملى.. وكان الرسول يقول: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، بخامس ". ولم يكن هذا الترغيب فى استنقاذ الناس من براثن الجوع والفاقة نافلة هينة، بل كان الأمر متصلا بالإيمان وصلب الدين. ومن ثم قال الرسول: "ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم " . ص_043(1/9)
كما روى أن رجلا جاء إلى النبى وقال له : أكسنى يا رسول الله، فأعرض عنه ـ لعدم استطاعته ـ فعاد الرجل يقول: أكسنى يا رسول الله. فقال له: " أما لك جار له فضل ثوبين "؟ قال: بلى غير واحد! قال: " فلا يجمع الله بينك وبينه فى الجنة ". ولقد أتى على الأمة الإسلامية عصر كان كل فرد فيه مكلفا ألا يمسك لديه من المال فوق حاجته! ثم ينفق الباقى فى وجوه المصلحة العامة، وفى ذلك يقول القرآن: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة ..) ولقد عمل بهذه الآية إبان نزولها، وظل إيحاؤها الحانى يوجه الأجيال المؤمنة إلى التراحم والتماسك، ثم تأمرت عليها وعلى أشباهها من آى القرآن ظروف جعلت النزول على حكمها لا يتجاوز هذه الأجيال. ثم طغت أمواج التفكير الرأسمالى، و رجع الناس إلى حكم الأنانية الباغية!. وقطع الإسلام من عمر الزمن أربعة عشر قرنا فإذا أغلب الأمة الإسلامية الآن يفر من قطر إلى قطر ابتغاء النجاة. أو يفر من الحياة إلى الموت ابتغاء الراحة يبحث ـ بخلع الضرس ـ عن ضرورات العيش فلا يجدها. ومع ذلك كله لم يفكر القوم فى العمل بهذه الآية وما شابهها من قرآن أو ما شرحها من أحاديث ! ص_044(1/10)
بيوت الشياطين!
وذلك أن ضغط الطبقات المترفة كان شديد الوطأة، فاستطاع هؤلاء الشياطين أن يكمموا الأفواه، وأن ينشروا الرهبة والرعب، وأن يقضوا أعمارهم فى أيام باسمة وليال حالمة. على حين يحصد الحرمان أجيالا غفيرة من المنكوبين والضحايا. فلا عجب إذا سمى الإسلام هؤلاء شياطين. واعتبر بيوتهم التى يسكنونها بيوت الشياطين. ومراكبهم التى يمتطونها مراكب الشياطين، فعن أبى هريرة قال النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: " تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين " . ثم يقول أبى هريرة: " فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها، فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلا أراها إلا هذه الأقفاص التى تستر الناس بالديباج ". وهذه التسمية تشعر بما ينبغي إكنانه لأصحابها من عداوة، وما يجب إظهاره لهم من تنكر: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) ومن الواضح أن بيوت الشياطين هذه هى التى هدمها الثوار الفرنسيون، عندما انطلقوا يبحثون عن حقوق الإنسان ويهدمون معاقل الظلم، ويتخلصون من ضوائق الكبت والحرمان. وهى كذلك البيوت التى هدمها الروس الحمر لما أعنتهم تفاوت الطبقات، و أمضهم الترف المضاعف فى ناحية والبؤس المضاعف فى ناحية أخرى. وقد تكون هذه الثورات الدامية قد اقترنت بقليل أو كثير من الإغريق والشطط. ولكن هذه طبيعة الحياة، قلما يتمخض فيها الخير والشر. وعندما يكون الفعل منكرا يكون رد الفعل أشد نكرا . ص_045(1/11)
وقد عانت الدنيا ضلالا كثيفا وآلاما غليظة من معيشة المترفين والمستبدين، فلا جرم إذا اضطربت بعض اضطراب تحت أقدام المهتاجين الذين انتصبوا لحربهم و انطلقوا لتأديبهم. وستستقر الأمور أخيرا فيأخذ الناس اللباب ويتركون ماعداه، كما يطعم المرء الثمار الخالصة ويرمى بالبذور والقشور والنوى! و الخبيرون بالنفس الإنسانية يعلمون أن أفراد الشعب لو تساووا فى الحرمان والأزمات ما شعر أحد منهم بغضاضة، بل لعل فى هذا عزاء وسلوى للجميع. وتلك حال الأمم عندما تشتبك فى حرب فتتورع المصائب والتضحيات على كافة طبقاتها. وعندئذ لا يكون هناك موضع لتبرم فرد أو سخط طائفة. أما إذا امتلأ بيت بالنعمة وغص الآخر بالنقمة. أما إذا مرت بالشعوب فترات طائشة تسوق السرور إلى بيت، و الكأبة إلى آخر، لغير حكمة واضحة، وامتياز معروف. فهنا موضع الضغينة، ومنبت الثورة، وعلة الاضطراب والفوضى. وقد تضمن الإسلام طائفة من الوصايا التى يصح أن تعتبر بداية لها ما بعدها فى علاج هذه المشاعر المضطرمة. ولا بأس من أن تستكمل اتجاهاتها النبيلة بمختلف التشريعات الملائمة. تأمل فى هذه الوصايا التى يسوقها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أتدرى ما حق الجار؟ : إذا استعانك أعنته، واذا استقرضك أقرضته، و إذا افتقر عدت عليه، و إذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، و اذا أصابته مصيبة عزيته، و إذا مات اتبعت جنازته. ولا تستطيل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك ـ إلا أن تغرف له منها ـ. ص_046(1/12)
إذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده " . وتلك النصائح ـ لا ريب ـ لها أثرها العميق فى البيئة العربية الساذجة. أول نتائجها أنها لا تخلق بيوت الشياطين التى ذكرناها. بل بالحري تخلق بيوت الملائكة الأبرار. فإذا احتال الشياطين لبناء هذه البيوت وحياطتها بأسوار من التقاليد والقوانين، فلتبق ما شاءت وشاء لها الهوى، فموقف الدين حيالها لا تغيره الجهالات والظنون. هذا الفريق الطائش..!
ليس كبيرا فى عمله ولا خلقه، ليس كبيرا فى رجولته ولا مروءته. ولكنه مع هذا الصغار اللازب، ومع هذا الإقفار من آيات الخير والفضل معدود من كبراء مصر. لأن مصر كثيرا ما يكبر فيها هؤلاء ـ بسحر ساحر ـ وربما لا تبعد عن الصواب إذا قلت: لا يكبر فيها إلا هؤلاء. لو كان البشر يكتسون بأماناتهم وكفايتهم ما عاش هؤلاء أبد الدهر إلا عرايا، لا تخفي لهم سوءة، ولا تستر لهم عورة كأنهم قطعان من الحمير أو الكلاب. يعيش هؤلاء فى مصر بعض العام وفى أوربا البعض الآخر. فأما فى مصر فوظيفتهم الأولى اعتصار جهود الكادحين فوق هذه التربة المغبرة وحصاد ما زرع غيرهم!. حتى إذا أفعموا جيوبهم ذهبا وفضة رحلوا إلى أوروبا ليكونوا سفراء لنا فى ميادين اللهو واللعب. وعندما يستقر هؤلاء السفهاء فى أوروبا أو غيرها يبدأ موسم الاستغلال والاستيلاء على الغنائم الباردة، فتتراكم الخسائر على موائد الميسر. ص_047(1/13)
وتسيل الأموال المبذولة من منابع لا تغيض ولا تشح. وتحمر جوانب الليل بما يذبح من أعراض ويداس من حرمات. وتسجل الصور الفاضحة للأحفال الراقصة، سيقانا تهتز فتهتز فوقها أرداف، وبطونا تتحرك فتتحرك فوقها نهود، وموسيقى تميل أصداؤها بشتي الأعضاء والأهواء. وكم يبلغ هؤلاء؟، فوق عشرين ألفا ينفقون أكثر من عشرين مليونا من الجنيهات. غصبت من مصر سحتا وأنفقت فى أوربا باطلا. وفى الوقت الذى نسعى فيه لإجلاء إنجلترا عن مصر (!) ندع المجال فسيحا لصحفها الكبرى كيما تنشر صورة امرأة لعوب على أنها الراقصة الأولى فى مصر الإسلامية! وفى الوقت الذى نشكو فيه من عض الأزمات بجمهور الشعب نسمح للسفهاء من باشاواتنا وغيرهم ببعثرة الثروة القومية فى البلاد الأجنبية على نحو أثار اشمئزاز الأجانب أنفسهم. ونتلفت حولنا فى هذا الصيف فنجد المصايف القريبة والبعيدة مصايد للإغراء والهزل والجهالة. بينما نحن لا نزال رسميا وواقعيا فى حرب مع اليهود المتربصين والمتحفزين. ماذا نقول لهذا الصنف الرقيع من الناس؟ نقول لهم: لا تعودوا إلى بلد أنتم غرباء عن عواطفه ومشاعره، بل أنتم أعداء لقضيته ومستقبله. إننا لا نملك إلا التعليق على مجونهم وترفهم بإهداء هذه الآية الى كل آثم منهم: (تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) . وعسى أن يأتى يوم ينفذ فيه حكم الله فتطهر الأرض من هذه الأرجاس ويطهر الجو من هذه الأنفاس. ص_048(1/14)
كيف ننظم هذه الأعمال..؟!
وردت فى الإسلام نصوص كثيرة مفصلة ومجملة تدعو إلى التعاون على البر والتقوى، وتحض على القيام بأنواع من الخدمة الاجتماعية التى يحتاجها كثير من الناس. فالشيوخ والعجزة والمتعبون، يجب أن تبذل لهم المساعدات التى يتطلعون إليها، وعلى الأقوياء أن يقوموا بهذا العبء فى كل زمان ومكان. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" ليس من نفس ابن آدم جارحة إلا عليها صدقة فى كل يوم طلعت فيه الشمس ". قيل: يا رسول الله، من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال:، إن أبواب الخير كثيرة.. تدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك ". والأطفال المشردون الذين فقدوا آباءهم حقيقة أو حكما، يجب أن نعنى بكفالتهم، وأن نشرف على توجيههم وتربيتهم حتى يستغنوا بأنفسهم. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من ضم يتيما بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة البتة " . يقول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " خير بيت فى المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " والنسوة اللاتى فقدن رجالهن، يجب أن تضمن لهم حياة العفاف والكرامة، وألا يتركن لقسوة الزمن وتقلبات الليالى. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله، وكالذى يقوم الليل ويصوم النهار " . ص_049(1/15)
وإعطاء العمال والموظفين رواتب سمحة تسد الحاجة وتغرى بالإجادة أمر لا يسوغ نسيانه. قال الله ـ عز وجل ـ : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وكذلك منحهم الراحة اليومية والأسبوعية والسنوية التى تمنع عنهم السامة وتجدد فى نفوسهم الرغبة وتحبب لهم الحياة، فإن الإسلام نهى فى العبادات أن يصلى أحد فوق نشاطه، فكيف بأعمال الدنيا؟. ثم إن الترويح عن القلوب وإدخال السرور على الناس ورد المضايقات عن نفوسهم أمر ارتفع به الإسلام حتى عده أقرب إلى رضوان الله من الانقطاع إلى الصلاة والصيام!. وفى ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لأن يمشى أحدكم مع أخيه فى قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف فى مسجدى هذا شهرين ". أفبعد ذلك ترغيب فى تمكين الناس من الاسترواح إلى الحياة والاستمتاع بطيباتها؟. والإسلام دين يعتمد على الضمير الإنسانى أولا فى غرس هذه المبادئ، ويكل إلى الأفئدة الرقيقة والقلوب الشفيقة أن تصبغ المجتمع بهذا الحنان والرفق فى إقامة شتى العلائق بين بنيه. ومن ثم يوصف الناس بأنهم أخوة أو رفاق أو زملاء أو مواطنون، أو أى وصف آخر يدل على معنى التكافل فى الحقوق، والتكافؤ فى الدماء، والتعاون فى الحياة!. فإذا لم يتكون فى الفرد هذا الضمير الاجتماعى الذى يشعره بواجباته نحو أمته وبحقوق سائر أفراد الأمة عليه، فهو شخص ساقط، لا إيمان له، وإن زعم أنه مؤمن. ص_050(1/16)
فعن أبى موسى الأشعرى أنه سمع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:" لن تؤمنوا حتى ترحموا " قال: يا رسول الله كلنا رحيم. قال:، إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة عامة الناس ". فهل معنى هذا السناد العاطفى للتأمين الاجتماعى أن يفقد العضد القانونى؟ كلا. فإن تدريس الأخلاق لم يغن عن وضع القانون الجنائى. وأعمال البر التى شرحنا طرفا منها لابد من تنظيمها لتحيا وتبقى، ولتؤتى ثمرتها المرجوة منها!. قد تنزل الفاجعة بأسرة من الأسر، فإذا مشروع خيرى يعلن عنه فى الصحف، وإذا بطلاب الخير ـ وهم قليل ـ يتبرعون، و إذا بطلاب الرياء ومحبو الألقاب ـ وهم كثير ـ يتبرعون، ثم ينتهى الأمر!!. فهل كل فواجع الناس يعلن عنها فى الصحف؟ إن الكثرة الساحقة من مآسى المجتمع لا يعلم بها إلا ذووها. ثم هل التبرعات المنقطعة أو الدائمة هى الطريق الطبيعى لمواساة من يتخلفون عن القافلة البشرية ويقعون فى الطريق؟!. إنها إن ردت عن البطون الطوى فلن ترد عن الوجوه الخجل، فالحاجة ماسة إذا لتدارك هذا الخلل. وتدخل الدولة هنا لا محيص عنه، وروح الدين بل نصوصه تملى به. فإن النصوص الدينية إذا قصر الأفراد فى تنفيذها، وعجزوا عن تحقيق حكمتها، ووقفوا بها دون غايتها التى شرعت من أجلها وجب انتزاعها من أيديهم ووضعها فى وصاية الدولة لتحقيق الغرض الذى إليه قصد الدين، لأن السكوت عن تقصير الأفراد فى الفرائض الموكولة إليهم، هدم للدين نفسه وتجاهل لوظيفته!. ص_051(1/17)
عمل الدولة:
فى الإسلام عبادات شخصية يؤديها الأفراد أداء مباشرا كالصلاة والصيام وما يقرب منهما. وفيه كذلك عبادات اجتماعية يؤديها الأفراد بواسطة الدولة كالجهاد و إقامة الحدود و إيتاء الزكاة وما شابه ذلك. والأصل فى هذا الضرب من العبادات أنه لحفظ كيان الجماعة الإسلامية وتأمين سلامتها فى الداخل والخارج. ولنتريث قليلا فى تفهم الطريقة التى تؤدى بها هذه العبادات. أمر الإسلام بالجهاد فى سبيل الله، فهل من المستطاع أن ينبعث كل فرد على حدته لقتال الأعداء؟ وهل يقال: إن الأمة قد نزلت عن حكم الله إذا أرسلت أبناءها فرادى قياما بواجب الكفاح المنشود؟ لا.. بل هناك تجنيد عام. وقوى متساندة، وقيادة منظمة، ووسائل عرفتها الأمم بالبداهة، فكونت الجيوش ورسمت الخطوط. وعلى الفرد أن يسلم نفسه فى سن معينة للدولة، وهى تصنع به ما تشاء وتكلفه بما ترى. وبذلك يكون قد أدى ركن الجهاد. ولو أدى هذا الواجب الاجتماعى بأسلوب فردى لفشلت الدولة فى الدفاع عن نفسها، بل لفشل الفرد فى العود بنفسه سالما!. كذلك تكاليف الخدمة الاجتماعية التى تفرض على المرء أنواعا من الزكاة والصدقات والضرائب. يؤديها ليطهر البيئة التى يعيش فيها من مظاهر البأساء والضراء. ص_052(1/18)
إن هذه التكاليف لون آخر من ألوان الجهاد، إنه جهاد مسالم نبيل لا يقوم على سفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولكنه يقوم على تجفيف الدموع المراقة، وتخفيف الحسرات المكظومة، وطمأنة القلوب القلقة! بلى إنه جهاد، وقد عد الرسول صاحبه مجاهدا كما سبق فى الحديث: " الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله ". ومن الضرورى لنجاح هذا الجهاد الداخلى أن نسلك به مسلك زميله الجهاد الخارجى، فنعهد به إلى الدولة، وبذلك تعتبر الدولة مسئولة مسئولية مطلقة عن إطعام كل جائع، ومداواة كل مريض، ومساعدة كل عاجز. ولها تبعا لذلك جباية ما تريد من أموال مختلفة المصادر، كثرت أو قلت...!!! وليس هذا التفكير جديدا إلا على أبناء العصور الإسلامية المتأخرة! أما العهد الزاهر للخلافة الراشدة الأولى، فقد كان هذا التفكير مألوفا فيه لدى الشعب والحكومة جميعا. وقد رأينا كيف قاتل الخليفة الأول لجمع الزكاة، فهل كان استيلاؤه عليها إلا ليتولى هو نفسه ـ من حيث إنه حاكم ـ وضعها فى مصارفها المعروفة. وهل هذا إلا إقرار بمبدأ مسئولية الدولة عن التأمين الاجتماعى فى بلادها، وقيامها عن الأفراد أو معهم بهذا الواجب؟ ثم جاء " عمر" فزاد فى مسئولية بيت المال زيادة جديدة، إذ جعله يكفل العجزة من أهل الكتاب. حدث أن رأى ذميا يسأل فقال له: ما أنصفناك، أخذنا منك الجزية وأنت قادر، ونتركك الآن؟ وأجرى عليه راتبا يغنيه. وفى عصرنا الحاضر اتسعت دائرة التأمين الاجتماعى، وتعقدت مشاكل الحياة، وتعددت أقضية الناس، وزادت مهام الدولة، وتجاوزت وظيفة الحاكم حدودها الساذجة الأولى. فلا جرم أن يتطور الفكر الإنسانى، وأن ننظر إلى الدين لا فى نطاق الحوادث الجزئية التى تكلم عنها وحكم فيها، بل فى نطاق الروح العامة التى ترمى إلى إسعاد الإنسانية وإلزامها حدود الحق والعدل وإشرابها معنى الأخوة والفضل. ص_053(1/19)
مشاعر قلقة فى مجتمعات مضطربة!
عندما يفقد المجتمع الدعائم المتينة التى يرسى عليها، والقواعد الأمينة التى يثبت فوقها تنفعل نفوس الناس بعواطف محترقة، كلما لفحهم من شقاء الحياة مس الحوادث الكاسرة والآلام القاهرة. وقد حفظ لنا الأدب العربى صورا كئيبة لمشاعر الضيق المكظومة نذكر بعضها هنا مثلا لما يعانيه جمهور الناس، ولا يحسن أن يبينوا عنه بالتعبير الواضح والأسلوب البليغ. هذا رجل لا يعيش لنفسه، فقد فرغ من حظوظ نفسه بعد ما رسا فى الحياة كالضرس يطحن الحلو والمر، ويسيغ الخير والشر، ولكنه يعيش لأولاده ويعتصر الجهود المفنية ليقدمها لهم، وهم لا يدركون. هو يحب ابنته ويتحرك قلبه نحوها أبدا. بيد أنه يخشى عوادى الأيام أن تتخطفه، ثم تواجه فتاته وحدها المستقبل المجهول! فهو لذلك يتمنى أن تموت قبل أن يموت! أو يحيا لها... وزادنى رغبة فى العيش معرفتى ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم! أحاذر الفقر يوما أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم وعلى ضم! تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم! وهذا رجل آخر يريد أن يتنقل فى جنبات الأرض، وأن تتقاذفه مناكبها العريضة فتمنعه قيود الأهل والولد من هذه الحركة النشيطة. وتضطره أن يحد من مسلكه وأن يقف به فى حدود الدائرة التى تنتهى بأولاد ربطت بعنقه وحده كفالتهم، ونيطت به رعايتهم: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع فى الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض ص_054(1/20)
سيقول بعض الناس: إن هذه المظاهر الجزعة من آثار عدم الثقة فى الله! ونقول لهم: بل هى مظاهر الفوضى الاجتماعية التى ليس فى بقائها إلا ما يغضب الله. لقد رفض الإسلام أن يقعد الكسالى عن طلب الرزق اعتمادا على هذه الثقة المزعومة. وما دامت بركات السماء لا تنزل فى الأيدى المغلولة عن العمل، فهى لا تنزل فى المجتمعات المحرومة من قوانين العدالة، وأنظمة التأمين الدقيق لما يصيب الناس من كوارث وضائقات. وهل ينافى الثقة بالله أذا يموت الرجل وهو يدرى أن الأمة التى يعيش فيها سوف تغدو أولاده، وتكسوهم، وتصل بهم إلى أعلى مرحلة يطيقونها من التعليم والتربية، لأن القوانين التى تحكم البلاد تكفل ذلك كله؟ إن المشاعر التى ذكرنا أمثلة لها هنا ليست عواطف فزع هين، بل هى نفثات صدور محرجة يجب أن نستمع شكاياتها بجد وإخلاص. ولنعلم أن الرجل مع مواهبه كالقائد مع جيشه، إذا اضطر إلى الحرب فى جبهات عديدة أخطأه التوفيق فى أكثرها أو فى جميعها. ومواهب الرجال عندنا توزع على غير ميدان من ميادين الحياة المادية المتشعبة. فهى لا تعطى فرصة الاستجمام التى تعينها على هضم الحياة والابتكار فيها وإجادة العظيم المنتج من فنونها. أفلا توفر لها ذلك باسم الله ومن تعاليم دينه؟؟.
القيم الإنسانية فى المجتمع المؤمن:
إذا كفلت للناس الضرورات التى يحتاجونها، ومنعت عنهم الزيادات التى يطغون بها سقط المال عن العرش الذى يتربع عليه من قديم. وأصبح أغلب تفاوت الناس راجعا إلى قيمهم الإنسانية وحدها! وهذا كسب عظيم للدين وشوط واسمع إلى أهدافه الفاضلة. فقد بلغ المال منزلة جعلت له فى القلوب مرتبة القداسة حتى قال القائل فيه: " لولا التقى لقلت: جلت قدرته"!! ص_055(1/21)
ولئن كان التقى قد عقل الألسنة عن أن تقول ذلك لقد عجز عن منع المجتمعات من بناء تقاليدها الكثيرة على هذا الأساس المنهار. ثم رسخت هذه التقاليد حتى بنيت عليها طائفة من الأحكام الفقهية الخاصة بالزواج! والمهور والنفقات!! وهى أحكام تحترم الغنى والنسب، وترعى جانب البيوتات الكبيرة فى الكفاية والكفاءة. ولذلك قال شاعر، يعتذر عن سياحته فى جمع المال: فإن الفتى ذا الحزم رام بنفسه جواشن وهذا الليل كى يتمولا! ومن يفتقر فى قومه يحمد الغنى وإن كان فيهم واسط العم مخولا! ويزرى بعقل المرء قلة ماله وإن كان أزكى من رجال وأحولا! كأن الفتى لم يعر يوما إذا و لم يك صعلوكا إذا ما تمولا! ونحن نشاهد فى الطبقات الدنيا من الناس، أنها برغم عريها العقلى من التعليم على جانب كبير من الذكاء الذى يدور محوره على كسب المال، وجمعه من أعقد الطرق، بل استخلاصه من أشد المصادر ضنا به. وذلك لأن السعى وراء المال يتصل فى حياتها بغريزة البقاء. وهى غريزة متأصلة فى الحيوان والإنسان معا، إلا أن نتائج هذا السعى الحثيث فى بيئة شحيحة بالخير كانت وبالا على الأخلاق والمجتمع. إذ أصبح النفر من الرجال يقتل حول قروش معدودات!! وأصبح العدد من الفلاحين يقتل لرى حقل ! أفلا نستطيع تلافى هذا الهوان الإنسانى، إذا أمنا على حياة المجتمع تأمينا يقطع دابر الحاجة والاحتيال؟ وبصرف مواهب البشر إلى أسمى من هذه الغايات! ويقى الأمم ضراوة الخصام الدامى على ضرورات العيش..؟؟ ص_057(1/22)
الفصل الثانى :فلسفة الغنى والفقر:
يميل البعض ليفهم من الدين أنه عدو الدنيا، يرهب أصحابه فيها، ويقنعهم بالقليل منها ويصبرهم على لأوائها، ويرضيهم ببأسائها وضرائها، وبعدهم ـ فى الدار الآخرة بما حُرموا منه فى هذه الدار. وبذلك يخلق مجتمعا يحيا على التافه، ويكسل عن استنباط ما فى الأرض من خيرات، ويتخلف حتفا عن المجتمعات التى تعد الحياة وتكرس قواها كلها لخدمتها وتجديدها.! ولعل الشيوعية ـ وهى تحارب الدين ـ تضع هذه الشبهة نصب عينها. وما لنا نخص الشيوعية بهذا الاتهام؟ إن الحضارة الأوروبية التى تسود الغرب لا تسود بالدين عن هذا الفهم. وهى والشيوعية صنوان فى الكفر والإلحاد! ونحن إذ نفند هذه الشبهة ـ لا نزعم أن الدين يوصى الناس بالتكالب على الدنيا، والتفانى فى خدمتها، و إشباع نهمة النفس منها، كما تفعل ذلك المذاهب المادية. ولا نزعم أن الزهد فى شهواتها والتخفف من لذائذها ووضعها ـ بالنسبة إلى الآخرة فى الكفة المرجوحة، لا نزعم ذلك خطأ فى الفكر أو نقيصة فى الخلق. بل إننا نعترف أن اتجاهات الدين فى هذه الأنحاء واضحة، وصادقة. وما دامت الآخرة حقا، فإن إسقاطها من حساب الإنسان ضلال. وما دامت للحياة الدنيا مثل رفيعة ينبغى إيثارها و إن أدى الاستمساك بها إلى قليل أو كثير من التضحيات، فإن إغفال الفضائل الروحية لا يسوغ إلا فى مجتمع من الحيوانات!!. ويجب أن نلفت النظر إلى حقيقة مشتركة بين طبيعة الدين فى تعاليمه وطبيعة الإنسان فى أعماله. إن الدين يذكر حيث يظن النسيان، ويكرر حيث يظن الإهمال، ويوقظ حيث تظن الغفلة. ص_059(1/23)
فإذا لم يحتج الأمر إلى ذلك سكت، أو أرسل القول على نحو لا إثارة فيه. إنه يوصى الولد بين أبويه ويؤكد هذه الوصية مرارا. وقلما يلتفت إلى الآباء يوصيهم بأولادهم، فإن حنان الآباء المنبعث عن أعمق الغرائز والذى يتفجر عواطف غامرة تجعل المرء يتفانى لإسعاد ذراريه، ذلك كله ليس بحاجة إلى إرشاد السماء ليؤدى رسالته. أما مسلك الأولاد فالأمر فيه على العكس، ومن ثم تكاثرت الآيات والأحاديث لتوجهه إلى الحق! وقد كان المفروض أن الناس يعملون للدنيا بوحى غرائزهم المجردة، بل إن عملهم للدنيا يستولى على البابهم ويستغرق أوقاتهم ويشتط بهم إلى سبل معوجة. فالمنتظر من الدين ـ والحالة هذه ـ أن ينذر بالآخرة وأن يسوق من صور الوعد والوعيد ما يغزو القلوب بالرغبة والرهبة. وليس يفهم أبدا من الكلام عن الآخرة شل الأيدى التى تعمل للدنيا. بيد أن المسلمين فى عصور انهيارهم العقلى والخلقى، وهموا أن الاشتغال بالدنيا أمر منكر، فاضطربت فى أيديهم مصالح الحياة، وأدى بهم ذلك إلى شر لابد منه فضاعت فى أيديهم مطالب الدين نفسه. وظلت مضاعفات هذا الغباء تترادف حتى سقطت دولة الإسلام، وأصبحت أرضه كلأ مباحا للاستعمار الغربى واللصوصية الدولية. وازدحمت أسواق التجارة، ومعاقل الصناعة، بسماسرة اليهود ودهاة الأجانب.. وخلت هذه الدوائر المتحكمة فى مصاير الشعوب من كل أثر للنشاط الإسلامى النظيف. والغريب أن العمل للدنيا ـ وإن كان نزوعا مفروغا لكل حى ـ إلا أن الإسلام تكلم فيه بأسلوب صريح، فى تحديده للأطراف التى تنشأ عنها الفضائل والرذائل، وتشخيصه للأهواء التى تصرف عن الحق وتدفع إلى الباطل. وباستقراء الآيات والأحاديث الواردة يوقن أدنى مطلع أن الدنيا ما ذمت بتة إلا حيث يكون معناها الغرور أو العصيان أو الشهوة الجامحة. ص_060(1/24)
وأنه ما هون شأنها إلا حيث يكون القصد التنويه بالآخرة وخلودها الطويل إلى جانب انصرام الحياة وانقضائها. وفى الحديث أن رسول الله ـ صلى اله عليه وسلم ـ قال : " إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا و علما فهو يتقى فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم أن لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لى مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، وأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط فى ماله بغير علم، لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لى مالأ لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء ". إن الدار الآخرة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الدنيا الصالحة فكيف تنفصل عن الدين أو تحسب غريبة عليه؟. ولا بأس أن نستعرض من نصوص الكتاب والسنة ما يوهم ظاهره أنه ترغيب عن الدنيا أو تحبيب فى حياة الفاقة وقلة ذات اليد!!
هل يكون الفقر شرفا..؟
إن الفقر ـ فى نظر الإسلام ـ معزة و سبة، يوم يكون نتيجة الخمول والقعود وعقبى التفريط والاستحماق. وليس هذا النوع من الفقر هو المقصود مطلقا من الآيات والآثار التى تذكر الفقراء بخير. وعندما ندرس سيرة الرسول وصحابته تتأكد لدينا هذه الحقيقة، ونعرف ما يعنيه الإسلام عندما يمجد ألوانا من الحياة القاسية والمعيشة الغليظة؟ هناك فقر التضحية، وما فقر التضحية؟ ص_061(1/25)
الرجل يكون عامر الخزائن، واسع الجاه، فيعتنق مبدأ كريما يبذل من أجله النفس والنفيس، ويبيع راحة البال والوداعة مع الآل فى سبيل فكرته التى آمن بها، ويلحقه من جراء ذلك بؤس أصحاب الدعوات المكافحة. (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) هذا فقر جره النضال، وعرفته الأمم كافة فى عظماء الرجال من بنيها. عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله أنه قال:" هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم : " الفقراء المهاجرون، الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء. فيقول الله لمن شاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا. وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء. قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ". أجل لقد صبروا على الفقر، ولكن أى فقر؟ إنه ليس فقر الصعاليك من المتبطلين وذوى الهمم الساقطة. لقد زهدوا فى الدنيا ليس عن عجز فيها، بل عن تطلع لما فوقها. فلما جاءتهم الدنيا توسلوا بها لما يريدون ففرغت أيديهم منها. هناك فقر يلحق الرجال عندما يقفون فى صفوف المعارضة للسلطات القائمة، ولقد قرأنا لأساطين العلماء كيف احتقروا الملوك وابتذلوا مهابتهم، ودفعوا ثمن ذلك من معايشهم الضيقة، ومن المناصب والرياسات التى رفضوها . ص_062(1/26)
وحسبهم أنهم ساندوا الحق، ولو داسه المتملقون الفجرة ممن يترضون الحكام ابتغاء عرض الدنيا. يحكى أن الحجاج بنى دارا فخمة، واستدعى الزوار يباهيهم بها. فجاءها الحسن البصرى فلما دخلها قال: الحمد لله، إن الملوك ليرون لأنفسهم عزا، و إنا لنرى فيهم كل يوم عبرا، يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده و إلى فرش فينجده، و إلى ملابس ومراكب فيحسنها، ثم يحف به ذباب طمع، وفراش نار وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ماذا صنعت؟ فقد رأينا أيها المغرور! فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟ أما أهل السموات فقد لعنوك، وأما أهل الأرض فقد مقتوك، بنيت دار الفناء وخربت دار البقاء، وغررت فى دار الغرور لتذل فى دار الحبور. ثم خرج وهو يقول: إن الله سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه. هؤلاء علماء فقدوا الدنيا.. أين من هؤلاء من استماتوا فى طلب الدنيا بالزلفى إلى أمثال " الحجاج " من حكام الشرق المنهوب المنكوب؟ إن علماء السوء ـ فى عصرنا هذا ـ هم الشياطين الخرس! وعلى صمتهم وملقهم يعتمد الحكم الفردى فى غشمه واستبداده. إنه يقربهم ويسبغ عليهم المال والجاه على قلة بضاعتهم فى العلم، وقلة نصيبهم من الشرف، بينما يطوح بغيرهم فى أقصى الدنيا لأنهم يقفون ضده بالمرصاد. وفى بعض الدول الإسلامية تذوب الميزانية العامة فى شهوات أسرة من غير ما نكير. ونسأل: أين حملة العلم الإسلامى يمسكون بخناق اللصوص؟ فتجدهم يتنافسون على الفضلات التى ترميها العصابة النهمة، لتشغل الأفواه بالمضغ، عن النقد والملام. روى سفيان الثورى قال: لما حج المهدى أبي إلا أن يطلبنى، فوضعوا لى الرصد حول البيت فأخذونى بالليل، فلما مثلت بين يديه أدنانى ثم قال: لأى شىء لا ص_063
تأتينا فنستشيرك فى أمرنا، فما أمرتنا من شراء صرنا إليه وما نهيتنا عن شىء انتهينا عنه.
فقلت له: كم أنفقت فى سفرك هذا؟
فقال: لا أدرى، لى أمناء ووكلاء.(1/27)
قلت: فما عذرك غدا إذا وقفت بين يدى الله فسالك عن ذلك؟
لكن " عمر بن الخطاب " لما حج قال لغلامه: كم أنفقت فى سفرنا هذا؟
قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارا.
قال: ويحك! أجحفنا ببيت مال المسلمين!!.
إن " سفيان " العالم المسلم رأى محاسبة الملك العباسى عن نفقاته فى رحلة حج أول ما يسأل عنه، إبراء للذمة فى الحفاظ على مال الأمة.
أما ممثلو الإسلام اليوم فى كثير من أممه الضائعة، فأقصى ما يخدمون به دين الله وعباد الله هو إصدار التصريحات المتكررة، بأن الإسلام يحمى الملكية الشخصية. وبلغت الجراءة بأحدهم أن يعد ذلك من الغايات العظمى التى بعث النبى لإبلاغها..!
وذلك كله إرضاء للسرقة من الحكام الذين كونوا لأشخاصهم أملاكا طائلة هى قطعا مغتصبة من حقوق الجماهير.
إن الفقر الذى يحرص عليه الإنسان عندما يحارب هذه الأوضاع هو فقر أشرف من كل غنى يفد عن مهادنتها.
وهو الفقر الذى مجده الإسلام.
وقد قرأنا لأبى ذر قوله: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذنى معك، وأبو ذر قائل هذه الكلمة فى محاربة الفقر هو الذى يطلب الفقر عندما يتعين سبيلا لنظافة الخلق.
عن " أبى أسماء" أنه دخل على "أبى ذر لما وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء مسفعة ليس عليها أثر المحاسن ولا الخلوق.
فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرنى به هذه السويداء؟ تأمرنى أن آتى العراق، فإذا أتيت العراق مالوا على بدنياهم!
ص_064(1/28)
وإن خليلى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد إلى أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلة، وأنا أن نأنى عليه وفى أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ننجو من أن نأتى عليه ونحن مواقير. هذا الرجل الأبى آثر الشظف مع زوجته على أن يدخل فى دنيا الحكام برضا أو معونة، ولو كان فى ذلك الفقر، فهو فى منطق الإيمان أدنى إلى النجاة عند الله.
الرضا بالمقسوم:
إن الرغبة فى إحراز الدنيا وكسب المال لا تقف من الناحية النفسية عند حد، كما أن الشريعة لم تقدر حظوظا معينة من الأرزاق يهدأ المرء بعد نيلها. فالمسلم يستطيع بدافع من طبيعته، وباعث من شريعته، أن يكتسب ما يشاء. بيد أن للمال ضراوة عند المشتغل بجمعه قد تسيطر عليه فتجور على خلقه، والكدح فى الحياة ليس معركة مضمونة النتائج دائما. ومن اليسير أن نرى فى ميادين الكفاح وراء لقمة الخبز فما فوقها طوائف شتى من الناس تستبد بها عواطف الحزن والفرح واليأس والأمل. وتدخل الدين فى هذه الحال ليخفف من مضاعفاتها، ويلطف من غلوائها أمر مفهوم مقبول...! إن أى مجتمع فى الدنيا لا يخلو من نفر يرى نفسه مهضوم الحق منقوص الحظ، ومهما اجتهدنا فى تصحيح الأوضاع و إشاعة العدل فإن الذين يزكون كفايتهم ويتهمون غيرهم لن ينعدموا. فهل يترك الدين هؤلاء فريسة السخط؟ أيقول لهم: انتحروا؟ أيقول لهم: احقدوا؟ أم يوجههم إلى الاحتفاظ بحياتهم واستغلال الفرص المتاحة لهم؟ فى هؤلاء يساق النصح المروى عن رسول الله : " يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " . ص_065(1/29)
ثم يلفت النظر إلى أن المرء قد تتوفر له نعم هى فى ظاهرها تافهة ولكنها فى باطنها خير جزيل. " من أصبح آمنا فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " . وليس هذا من الإسلام ترضية بالواقع على علاته، أو تقبلا للمظالم من الباغين. فإن تعاليم الإسلام فى التشبث بالحقوق ومقالة الجائرين فوق الحصر. عن سويد بن مقرن قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" . وعن سعيد بن زيد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" . فما كانت القناعة رضا بالهوان أو خدشا للعزة. وتقبل الإنسان ـ من الله ـ ما قسم له لا يمنع محاسبة الناص على تصرفاتهم وردها بعنف إن جانبت الصواب. والفهم الصحيح لهذه المسالة متصل بالفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر...!! وقد تكون القناعة أمرا واجبا، إذا كانت سياجا دون الحرام، وحجزا على مطامع النفس وحبها لأخذ المال من أى طريق. سيما إذا رأى المرء أقرانه أغنياء وهو فقير! ولا شك أن فقر القناعة هنا أشرف، والرضا بالمقسوم أكرم، إن لم تكن هناك أبواب متاحة للغنى الحلال. ولا ينتظر أحد من الإسلام أن يجيب دواعى الجشع والتطلع المريب! قال عطاء بن أبى رباح سمعت أبا سعيد يقول: يا أيها الناس لا تحملنكم العشرة على طلب الرزق من غير حله، فإنى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ص_066(1/30)
" اللهم توفنى فقيرا ولا تتوفنى غنيا واحشرنى فى زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة!." وهذا الكلام واضح فى أنه حرب معلنة على الثراء المجلوب من كسب الحرام وأكل السحت، وإيثار للفقر عليه مهما كانت متاعبه.
المستضعفون!
عندما كان الحكم الفردى المطلق يسود القرون الأولى لم يكن للشعوب وطبقاتها الكادحة شأن يذكر. كانت مقومات الأمم ومقدراتها تلتقى عند سدة حاكم متسلط ينسب له كل شىء ويصدر عنه كل شراء. فإذا أعلن حربا أكلت الأخضر واليابس، وطاحت فيها ألوف الضحايا فرض على الأمة أن تحمل هذه المغارم لتتوج هامته بإكليل النصر، وتسجل اسمه ـ اسمه وحده ـ فى تاريخ الفاتحين. أما النسوة الثكلى، والشباب الهلكى فليس لهن ولا لهم حساب. وكثيرا ما كانت تقوم حروب عاصفة من أجل مشاكل أسرة مالكة وصلاتها بأسرة أخرى. هذا فى عصور الحرب ـ وما أكثرها ـ. أما عهود السلم فكانت الأمم! تشقى فى حراثة الأرض وإدارة الآلات ليظفر بثمرات عملها اللاغب نفر من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة. كان عامة الناس وقودا يحترق فى صمت لإشباع هذه المطامع. وكانت جماهير المستضعفين تذوب ماديا وأدبيا فى أشخاص السادة الحاكمين.. * * * * فلما جاء الإسلام هدم هذه الخرافات، وبدأ يرد إلى الأمم ثقتها بنفسها وبدأ يفهم كل من له شارة من جاه أنه لا فضل له فيها، وأن حياته لا تخلص له إلا من جهاد أولئك المستضعفين . ص_067(1/31)
عن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال: رأى سعد أن له فضلا على من دونه، فقال رسول الله: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ ". وقال كذلك : " إنما تنصر هذه الأمة بضعفائها ـ لا بكبرائها ـ بدعوتهم وصلاتهم بإخلاصهم ". وقال أيضا: " ابغونى فى ضعفائكم، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم". هذا اتجاه شعبى حق يبرزه الإسلام لينصف به الطبقات المهملة- وهم الأمة كلها- ويكفكف به غلواء القادة والحكام وأنانيتهم التى آذت الله ورسوله وأهل الأرض أجمعين. وقد كان هذا الكلام غريبا على من لفوا استغلال السواد الأعظم من الناس فى بناء مجدهم الشخصى البحت ولسان حالهم يقول: والجماهير ثنايا المرتقى فى المعالى وجسور العابرين! ولكنه الحق الذى أكده بنى الإسلام فى إرشاده المتكرر. إن هذا العامل الزراعى الملوث بالطين، وهذا العامل الصناعى الملوث بالزيوت والدخان ليس شيئا تافها فى حياة العالم، وإن لم يكتب اسمه فى تاريخ العالم المشحون بأسماء الملوك والحاكمين. عن أمية بن عبد الله قال: كان رسول الله يستفتح بصعاليك المسلمين. وعن معاذ: قال رسول الله : " ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى! قال: رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره " وقد وقع المتصوفة على هذه الأحاديث كما يقع الذباب على العسل، ففهموا منها ـ قبحهم الله ـ أنها دعوة إلى الهوان والضعة!! وإلى نزع السلاح ونبذ الكفاح. وفى ظلمات هذه العقول القاصرة، تحولت آيات الجهاد العسكرى والنضال ص_068(1/32)
السياسى إلى ضروب من الرياضيات التى تهزل البدن والروح، وتميت عناصر الغلب والطموح، لا صلة لها أبدا بدين الله. وإنه لمما يحز فى ضمائر المؤمنين أن ينتشر هذا الجهل الفاضح، وأن يظل يهوى بالأمة الإسلامية حتى ينتهى بها إلى هذا الدرك الذى وصلت إليه! * * * إن إهانة الطبقات العاملة واستذلالها لحساب نفر من المستبدين تأدى بالأمة إلى حال من الذلة جعلت وزير خارجية فرنسا فى إبان الحرب البلقانية يقول: " لو كان المسلمون أربعمائة مليون كلب.. لحسبنا حسابهم". هذا الذى يقوله الوزير الفرنسى صورة صادقة لنظرة إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا إلى جماهير المسلمين. إلى الأمة التى أهانها كبراؤها .. فهانت بهم على الناس أجمعين. * * * * إن الطبقات المستضعفة حصلت على حقوقها فى الغرب منذ آماد طويلة. والدساتير المرعية هناك آية تنطق بهذه الحقيقة. وقد كانت إنجلترا ـ التى تحارب الحرية فى بلادنا ـ أسبق الدول الحديثة إلى تقييد سلطان الملوك. ففى سنة 1205م ثارت على الملك" جون " الثانى. ثم هاجت على الملك "شارل " ونفذت فيه حكم الإعدام، كما طردت الملك " جيمس " الثانى. وفى ثورة سنة 1688م وطدت سلطانها الشعبى فمضى فى طريقه مستقيما إلى اليوم. وحدثت فى أخريات القرن الثامن عشر بفرنسا ثورة جائحة انتهت بقطع عنق الملك " لويس " السادس عشر وسفك دماء عدد ضخم من النبلاء، ووضعت مبادئ صالحة لصيانة حقوق الإنسان، لا تخرج فى معناها وأهدافها عن المبادئ المعروفة ـ نظريا فقط ـ فى أغلب بلاد الإسلام!. ص_069(1/33)
وفى مصر دستور صالح لإسعاد الشعب، لو أحكمت الخطط لتنفيذه، ولم تلعب بنصوصه الأهواء. ولكن غير مصر من أقطار الإسلام الأخرى يعيش فى أجواء خانقة كئيبة، يحكم فيها بالحرية والخبز وقلما يجد إليهما سبيلا. فهل يحنو الزمن على أولئك الضعفاء؟ وهل يقصى ـ ولا نقول : يقتص ـ من سادتهم الكبراء؟
الغنى الطيب:
القرآن الكريم يسمى المال الكثير خيرا. وبه فسر العلماء قوله تعالى : (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) وقوله : (و إنه لحب الخير لشديد). فالخير فى الأيتين الثروة الواسعة. كما أوصى القرآن الكريم بحسن تثمير المال، وجعله فى الأيدى الخبيرة التى تستطيع الإفادة منه، وتحصيل المنافع المبتغاة به: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما و ارزقوهم فيها و اكسوهم) وفى الحث على كسبه يقول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " نعم المال الصالح للعبد الصالح !". وفى حديث موسى لما أرسل إليه جراد من ذهب " فجعل يحثو فى حجره، فقال الله له: ألم أكن أغنيك عن هذا؟ فقال له موسى: ولكن لا غنى لى عن بركتك! ". ومن أدعية الكتاب: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) ص_070(1/34)
ومن أدعية السنة :" اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى إليها معادى. واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير، واجعل الموت راحة لى من كل شر". وفيما يتيحه المال لأصحابه من فرص السبق فى الدنيا والآخرة ورد عن أبى هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا النبى فقالوا : " ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم! قال: وما ذاك؟! قالوا: يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق !" ويستطيع أولئك الفقراء أن يذكروا أن بركات الغنى الطيب أكثر من هذا، فهو فى الدنيا قوام الدولة المسلمة، وفى الآخرة منار يهدى ذويه إلى رضوان الله. وقد سمع النبى شكاة القوم، ثم أوصى بأن يكثروا من التسبيح والتحميد ليدركوا بإدمان الذكر ما فاتهم من فضل النفقة! قال أبو صالح:" فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله!- فرجع لهم سبقهم بالغنى !!- فقال رسول الله : " ذلك فضل الله يوتيه من يشاء " . والواقع أن الغنى النظيف، الناتج عن الكسب الشريف، المبذول فى خدمة المثل العليا والنواحى الفاضلة، هو لا ريب منتهى ما ينشده الدين لأتباعه فى هذه الحياة. وأن الرجل المتمكن فى الدنيا، البارع فى شئونها، وقيادة أزمتها إذا سخر مواهبه ومكاسبه فى سبيل الله فهو لا ريب أرسخ قدما فى الإيمان وأدنى مثوبة ومنزلة لدن الرحمن من أى فرد آخر. وقد قال الله فى يوسف- لما أشرف على خزائن الأرض في مصر وتولى أرفع المناصب بها: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) ص_071(1/35)
الثراء وظيفة اجتماعية لا نعمة شخصية:
من النعم ما لا يكاد يتجاوز صاحبه، فهو أول الناس شعورا به وانتفاعا منه كالصحة والجمال مثلا. فإن صلة المجتمع بهذا النوع من المواهب الخاصة محدودة. والغنى ليس من هذا القبيل، فإن الإسلام ربط بالثراء من الحقوق العامة مالا يحصى، وجعل الغنى فى ثروته كالموظف الذى يسند إليه منصب ما، فإن قام بأعبائه بقى فيه، وإلا عزل عنه! والواجبات المنوطة بالمال كثيرة، إذا لم يؤدها رب المال تعرض لأنواع شتى من العقوبات، وقد يكون بينها ما يلقى فيه حتفه ويفقد ثروته. وقد رويت آثار لطاف تشير إلى هذا المعنى! فعن عبد الله بن عمر:" إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما كانوا فى حوائج الناس، ما لم يملوهم، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم ". وفى رواية:" إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم". وعن ابن عباس: " ما من عبد أنعم الله نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل حوائج الناس إليه، فتبرم، إلا عرض تلك النعمة للزوال ". وهذه الأحاديث جميعا تنتظمها الآية الكريمة : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) * * * ** إن المال لله ملكا ورزقا، استخلف فيه الإنسان لينظر أيحسن أم يسئ؟ وقد خلقه وموله، وجعل الإيمان حق الخلق، والنفقة حق المال، قال تعالى: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) ص_072(1/36)
والنفقة المطلوبة هنا أعم من الزكاة المشروعة، هى كل ما يفرضه المجتمع من تكاليف لصيانة المصالح الدينية والدنيوية. قد جاء بعد ذلك فى تعليل الأمر بالنفقة قوله : (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) فالنفقة المبذولة هنا تعنى تضحيات الجهاد من بين ما تعنيه من شتى الأبواب. ولذا صح التفاوت بين المنفقين قبل الفتح يوم كان الأمل فى انتصار الإسلام ضعيفا. وبين المنفقين بعد الفتح عندما أصبح الناس يدخلون فى دين الله أفواجا... نقاء المال:
لا يكون الغنى طيبا إلا إذا عرفت مصادره فكانت متفقة مع شرع الله، وإلا إذا حسن العمل فيه فجرت نفقته على ما يرضى الله. والأغنياء الذين يجمعون ثرواتهم من هذا القبيل، ويتصرفون فيها على هذا النحو، قلة غريبة فى الدنيا. ولذلك جاء فى الحديث: " اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء". وقصة المال والمرأة تتجدد فصولها فى كل عصر ومصر، وتكون جانبا داميا فى شتى المجتمعات. والمقصود بالأغنياء هنا سراق الجهود ودعائم الطغيان. والمقصود بالنساء هنا بائعات الهوى وحبائل الشيطان. والنفوس تهفو إلى الاستمتاع بالثراء العريض والنسوة الفاتنات. بل إن هذه المتعة هى فتنة الطبقات المترفة وبغية الطبقات المحرومة . ص_073(1/37)
وهذا التكالب على الدنيا من الواجدين والفاقدين شديد الخطر على شرف الفرد وعفافه بل هو شديد الخطر على كيان الأمة ومقدرتها. فلا عجب إذا حذر الرسول منه: " إن الدنيا حلوة خضرة، و إن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء". هل معنى اتقاء الدنيا أن نعيش فيها صعاليك؟ وهل معنى اتقاء النساء أن نقطع النسل وننهى الحياة؟ كلا كلا. فالاتصال بالنساء واجب فى حدود النظم المشروعة والمتعة بهن حلال فى هذه الحدود. والتزوج بالدنيا مطلوب! وما دام الاتصال بها عن عقد يهيمن عليه الدين، فباليمن والبركة. إنما المحظور أن تختلس ثمارها، أو أن تنتهب خيراتها، أو أن ينقلب وضع الرجل فيها، فبدلا من أن يتصل بها ليكون سيدا لها، تتصل هى به لتستذله وتفنيه. عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار "! * * * * إن الإسلام ـ إذ يتدخل فى شئون المال ويراقب تداوله بين الناس ـ يهتم بعدة أمور: 1 ـ أن المال وسيلة لا غاية، وأن الغرض من جمعه وإنفاقه يجب أن يستقيم مع الغاية لوجود الإنسان على الأرض. 2 ـ أن الفضائل المقررة من عدل وعفاف، ورحمة وإيثار يجب أن تهيمن على سائر التصرفات المالية. 3 ـ أن الإكثار والإقلال لا يسمح لهما بتمزيق أوصال المجتمع وجعل الرفعة والضعة على أساس مادى بحت . ص_074(1/38)
ولا ننسى أن عناية الإسلام بالدنيا جزء من عنايته بالآخرة! وأن اكتراثه بنظم الأرض ليجعلها فى ضمان السماء. ومن ثم فتشاريعه المالية عبادة كفرائضه الروحية سواء بسواء. إن الزكاة واجبة كالصلاة، وإن الربا حرام كالزنا أو هو أشد... وقد سمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العمل لكسب المال جهادا، كالعمل لقتال العدو ونصرة الدين. وهو إنما يكون كذلك فى الدائرة التى رسمناها. أما عندما يتخمض كسب المال لشهوات الدنيا وزينتها الحائلة، فالإسلام يقف منه موقف الملام والاستنكار. * * * * وقد حرم الدين التنافس فى جمع الحطام والمكاثرة به على نحو يهون من قيمة الآخرة ومصيرها المرتقب أو يجعل الحياة الدنيا منتهى الأمل والألم. عن المستورد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليم.. فلينظر بم يرجع؟ " ومن نقائض التاريخ أن المسلمين فى عصور التأخر انقسموا فريقين.. فريق عزف عن المال وزهد فيه! وفريق أكب عليه وأترف به! فأما الزاهدون المغفلون فقد فروا من ميادين الكفاح. وكيف ينتصر دين ليس له فى ميادين الكفاح أتباع؟! وأما المترفون، فقد نسوا الله، وأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. وهؤلاء حرب !لى الأخلاق والشعوب، وعلى الدنيا والآخرة. وهكذا انهدمت الأمة الإسلامية بين القاعدين والفاسدين، وغام مستقبلها يوم غامت عليها وجوه الرشد فى سياسة المال. عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتى المال ". ص_075(1/39)
ومنذ عدة قرون، وهذه الأمة الإسلامية تدخل ـ من اضطراب توزيع المال وسوء التصرف فيه ـ فى فتنة بعد أخرى، ظلمات بعضها فوق بعض، و إن منزلتها اليوم بين أمم العالم وما تعانيه من تأخر هو نتيجة مؤلمة لأخطاء أجيال متتابعة من الحاكمين والمحكومين. * * * * إن الغرائز النزاعة لما يشبع هواها من زهرة الحياة ليست وقفا على طائفة دون أخرى. وعندما يحدث فى مجتمع ما أن تسكر طوائفه العليا بخمرة المال فإن النشوة الحرام تنضح بالرغبة على من دونها من شتى الطوائف. فتتحرك هى الأخرى لتطلب الثراء بأية وسيلة، ولتشارك غيرها فيما ينعم به من لذة، وتتحول عناصر الأمة كلها إلى سعى جشع وراء المال. لا المال الذى تبنى به المكارم وتؤسس عليه الأمجاد، بل المال الذى يهدئ الأنفاس المبهورة وراء المتع والنزوات والفساد. والويل لأمة تصاب بهذا المرض، إنه سيقودها إلى حتفها حتفا! ولما كان النبى يعتبر أمته صاحبة رسالة كبرى فى الأرض يجب أن تؤديها بأمانة وإخلاص، وتضحية وإيثار، فقد حذر المسلمين من السقوط فى هذا الدرك من فتنة المال، فقال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطى رضى و إن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. وطوبى لعبد أخذ بعنان فرسه فى سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه. إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة، لىان كان فى الساقة كان فى الساقة.إذا استأذن لم يؤذن له،و ان شفع لم يشفع " وقد لوحظ على حضارة الغرب أنها بذلت جهدا مشكورا فى التقريب بين الطبقات وإدارة شئون المال على سياسة أدنى إلى العدل فى التوزيع. ولكن الغرب الذى أحسن توزيع المال أساء فى الإفادة منه. ص_076(1/40)
وكأنه إنما نقم على المترفين القدامى احتكارهم للذة فعمل على إشاعتها بين الجميع، فأصبح الجهد الإنسانى مبذولا فى حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وتقاربت حظوظ الملوك والصعاليك من هذه جميعا. ولا غرو فالحضارة الغربية لا دين لها، وقد جرها الترف إلى البطر فالحسد فالقتال، فهى فى حرب مع نفسها أبدا. وقد أساء الغربيون إلى أنفسهم وإلى العالم بهذه المادية العارمة. إنهم سادوا بها العالم، ثم انقلب عليهم وبالها فدمرنا ودمرنا معهم. وها هم أولاء قد أعادوا البناء ولكن للهدم: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين) * * * * إن " الاشتراكية " الإسلامية تحارب ما أسماه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الفقر المنسى " و " الغنى المطغى ". الفقر الذى ينسى الإنسان الواجبات، لأنه محروم من الضرورات! والغنى الذى يفرغ الإنسان للشهوة والمتاع، لأنه من أرباب القصور والضياع! ص_077(1/41)
الفصل الثالث: القعود عن الدنيا هدم للدين:
نحو إنتاج واسع وثروة ضخمة:
إن الأمم لا تؤدى رسالتها بالمجان، ولا تبلغ أهدافها عن طريق الفقر والكسل والإهمال، فإن أعباء الحياة أثقل مما يطيق الكسالى، وأوسع مما يفكر القاعدون. والرسالات الكبرى- وفيها الحق والباطل- تكلف ذويها أن يبذلوا ما عندهم، وأن يستنبطوا مناج أخرى تعين على البذل والإنفاق. وحاجة الدولة إلى ضخامة الإنتاج وسعة الثراء، كحاجة البدن إلى الغذاء الذى يمده بالحرارة ويحفظ عليه الحياة. ولقد قرعت آذاننا الأرقام الهائلة " لميزانيات " المعسكرات المتأهبة فى الشرق والغرب، فرأينا الدول الكبرى ترصد للدفاع والهجوم أموالا طائلة. ونحب أن نلقى نظرة عجلى على ميزانية الولايات المتحدة لسنة 1951، 1952، لنرى كم يبذل هؤلاء الناس فى سبيل التمكين لأنفسهم أو التأمين لمبادئهم ـ كما يقولون. ثم لنقارن بعدئذ بين ما يدفعه " الأمريكان " لأداء رسالتهم فى الحياة، وبين ما يدفعه العالم الإسلامى فى هذا المضمار العتيد. بلغ تقدير المصروفات التى طلبها مستر " ترومان " 71 مليارا من الدولارات منها ما يزيد على 48 مليارا للدفاع الوطنى والدولى والمساعدات العمسكرية الخارجية، (المليار ألف مليون) ومن الاعتمادات المطلوبة ص0مليون للاستعلامات والتربية فى خارج أمريكا! وكلمة تربية هذه واسعة الدلالة. ونحن فى الشرق الإسلامى ندرى تمام الدراية ما تصنعه الكليات والملاجئ والمؤسسات الأمريكية. وكنا نحسب موارد هذه المنشأت تأتى من جيوب المتبرعين لجماعات التبشير المسيحى فحسب! ولا يعنينا الآن شرح هذا الاحتلال العقلى، والغزو الثقافى- باسم التربية- فقد أفردنا له كتبا أخرى. ص_079(1/42)
إنما يعنينا أن نقول: إن الشعب الأمريكى قَبِل ـ رَضِىَّ النفس ـ أن يؤدى هذه الضريبة الفادحة، وأنه عرف ما عليه فلم ينكره. ولما كان أفراد الشعب فى آخر تعداد نحو 130 مليونا، فإن ذلك يدل على أن كل فرد هناك رجل أو امرأة أو طفل، قدم من دخله الخاص للدولة 150 جنيها فى السنة!! ما ظنك بهذا الدخل نفسه؟ وما ظنك بقيمة رأس المال الذى يدره، وما ظنك بضخامة الأمة التى تضم أفرادا لهم هذا الغنى الواسع؟ لا شك أن هذا الشعب القوى قد وصل إلى مرتبة من الإنتاج فى ميادين العمل المختلفة تستحق التنويه. فما منزلتنا نحن فى هذه الدنيا؟ وما رسالتنا فى هذا الوجود؟ وما إنتاجنا الذى يخدم هذه الرسالة؟! إنك لتشعر بالحسرة البالغة ويغص بالجواب حلقك إذا علمت أن متوسط الدخل للفرد فى مصر يصل إلى ثلاثين جنيها فقط! وأن اللغوب وراء الضرورات التى تمسك الرمق هو شغل الجماهير الغفيرة. والذهول وراء الغزوات العاصفة شغل القلة الممتعة. أما رسالة الإسلام فقد جحدت أهدافها وطرحت أعباؤها. * * * * هل يرجع فلك الفقر إلى طبيعة الرقعة التى يقع فيها العالم الإسلامى؟ كلا، فإن أخصب بقاع الأرض تربة، وأغناها بالخيرات، وأحفلها بالمعادن، وأعظمها سيطرة على الممرات التجارية فى العالم كله، وأقدرها على التحكم فى الشئون العسكرية والسياسية.. إن ذلك كله يقع داخل الدائرة التى يعيش المسلمون فيها كثرة ساحقة.. وطبيعة هذه الأقطار دفاقة بأسباب الغنى... عجزت عن معالجتها الأيدى المشلولة فتلقفتها ـ فى غير عناء ـ أيدى العاملين الأذكياء! *** ص_080(1/43)
هل يرجع ذلك الفقر إلى طبيعة الإسلام؟ كلا كلا... فالإسلام دين عمل متواصل وكدح طويل، وليس الإسلام هو الذى يهمل أمر الأرض ويترك كنوزها دفينة لا ينتفع بها أحد أو يترك أتباعه هملا لا يصلحون لشىء... كيف ونبى الإسلام قد احترف العمل الذى كان يؤديه سواد الناس على عهده. ففى البادية الخشنة قام برعى الغنم أجيرا لأهل مكة على قراريط من الأرض. وإخوانه الأنبياء السابقون كانوا أصحاب حرف يرتزقون منها، كان فيها النجار والحداد والبناء. وأصحابه الذين حملوا شريعتة وبلغوا من بعده رسالته كانوا ذوى جد ملحوظ ويسار ظاهر من نشاطهم فى ميادين المال والأعمال. ونبوغ المسلمين الاقتصادى هو الذى عكر على اليهود مستقرهم بالمدينة وجعل الأسواق تفيض بعزمهم وخبرتهم. ولو كان هولاء الأصحاب الكرام بيننا فى هذا العصر لما تجاوزت أزمة الحياة الصناعية والتجارية أيديهم اللبقة، ولرأيناهم فى المدائن والقرى آيات من الدأب والكفاح والنجاح.. ولم تكن تقوى الله فى عصور الفهم والإدراك علامة على السذاجة والفراغ والعجز كما هى الآن فى عصر الانحطاط المادى والمعنوى الذى نخبط فى ظلماته. بل انظر إلى واحد من عباد الله الصالحين أوتى خبرة فى الحصون السامقة يلجأ إليه الخائفون من الغزو يقولون (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا و بينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا). ص_081(1/44)
إن عباد الله الصالحين، لو أرادوا مثل ذلك اليوم لاستقدموا الخبراء الأجانب ووقفوا ينظرون مشدوهين إلى براعتهم وفنهم! هذا هو صلاح القرون المتأخرة والأجيال المدعية الكذوب. ولقد لانت صناعة الحديد لداود، وعد الله ذلك من أنعمه عليه. وقرن نعمة هذا الإلهام الفنى الرائع بنعمة التوفيق إلى العبادة الخاصة. تلك العبادة التى أطلقت لسان داود بأيات التسبيح نغما حلوا تردد صداه الجبال وتشارك فى ترجيعه الطير: (ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا). فى هذا الجو الطهور من الإخلاص لله وشكر آلائه كانت المطارق تدوى، والمسابك تصوغ، والأفران تصهر.. أيام اليوم فأمارات الصلاح المكذوب والتقوى المصطنعة أن ترى رجالا يمشون رويدا، ويكثرون لغوا، ويأكلون سحتا، ويعيشون فى جو من الهمهمة والشعوذة لا عمل فيه ولا كفاح ولا تكسب!! وربما وقر فى نفوس هؤلاء البطالين أن أعمال الحدادة والنجارة والبناء ورعاية الغنم وأمثالها.. ليس مما يليق بالنبلاء وأشراف الناس أن يتكسبوا به. ولا غرو! فمن أين لهؤلاء منطق النبوة العالية والرجولة الصحيحة وهم عاطلون قاعدون؟ إن فلاحا مغبر الرأس مغضن الجبين ينحنى على فأسه ليخط بها سطور الحياة فى حقله، يجيثه وقت الصلاة فيتوجه إلى الله حيثما آذنته الصلاة، فى أى مكان من أرض الله التى يعمرها، هذا الفلاح أقرب إلى فطرة الأنبياء وأدنى إلى رعاية السماء وأعرف برسالة الحياة وحق الأحياء، من بطين بليد يجلس فى محراب صامت ليدير فى يده حبات مسبحة. إن العالم الإسلامى خارت قواه المادية منذ جهل دينه وما يستهدفه هذا الدين للإنسانية من هدايات وأمجاد. واليوم نتلفت، فنجد الأمم الكبرى تتدفق من بين يديها ومن خلفها ينابيع الثروة ص_082(1/45)
التى لا تحقق بها هدفا نبيلا ولا عملا جليلا. أما نحن فننتظر منهم أن يقدموا لنا الإبرة التى نخيط بها ثيابنا والملعقة التى نأكل بها طعامنا! بل قد تصل المصيبة المضحكة بهم وبنا إلى حد أن نطلب منهم السلاح الذى نحمى به دماؤنا وندفع به العدوان ـ أى عدوانهم ـ عنا...! إن الإسلام يحملنا صنوفا شتى من تكاليف الخدمة الاجتماعية والسياسية يجب أن نقدمها للعالم الكبير، حتى نمثل بحق عقيدة التوحيد ونعرض على أعين الناس مبدأ الإيمان بالله واليوم الآخر. ومن المستحيل أن نصل إلى عشر ذلك مع هذا الجهل الغليظ برسالتنا. ولو علمنا حقائق هذه الرسالة الكبرى، فمن المستحيل أن نسدى لها يدا مع ضالة إنتاجنا وقلة ثروتنا، وستظل أبواب الثراء موصدة حتى تطرقها أيدى العاملين المشمرين الساعيئ إلى خير الدنيا والآخرة. ليس الإسلام دين قعود ولا الأرض التى يحل فيها اليوم من دنيا الناس صفرا من أسباب الغنى. فلم هذا الفقر؟ وما سر هذه الصعلكة؟! يجب أن نعلن حربا شعواء على البطالة وقلة الإنتاج، وأن نرد إلى العمل قداسته. ولنعلم أن تكريم القاعدين جريمة، وأن إثابة عامل دون حقه إهانة لقيمة العمل كما هو بخس لأجر العامل. وأن الإسلام لا يتصور منتسبا له فارغ النفس من الجد فارغ اليد من الشغل. ولا يقبل أن تدين به أمة مغلوبة على أمرها، ينزح الأجانب إلى ديارها فيملئون جيوبهم نضارا، ويخلفون للمواطنين الخانعين فقرا وعارا. إن الإسلام رسالة ضخمة لا يطيقها إلا الأقوياء، ولا يحملها إلا الأغنياء. وعلى العالم الإسلامى أن يسعى حثيثا ليقوى ويغتن بالعمل المتواصل فى مواطنه الخصبة المنتجة. ص_083(1/46)
ويوم نفقه حقوق ديننا علينا، ونرصد لبلوغها ميزانية كبيرة الأرقام، تجمع حصيلتها من أفراد ذوى جدة ويسار... يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
هذه الآفات:
الكسل والعجز والبلادة ليست رذائل خلقية فحسب، بل هى آفات اجتماعية وكوارث اقتصادية، طوحت بأقطار شرقية إلى الوراء. وفقدان العقلية المنشئة. العقلية التى لا تقنع باستغلال ما تحت يدها، بل تسعى إلى استنباط قوى جديدة. العقلية التى تتخطى حدود الفرص المتاحة لتخلق فرصا بعيدة! فقدان هذه العقلية بيننا، جعل موارد الشرق غفلا وخيراته صفرا، ومكن للاستعمار أن يوطد أقدامه ويرفع أعلامه! هذه مثلا مصر. كم بها من كنوز مدفونة وثروات مهملة.. عندما اعتقلنا فى طور سيناء أيام الانتكاسات الدستورية التى طالما تعترى بلادنا، لاحظنا أن هناك أودية رحبة تجود فيها الزروع والفواكه وتكثر بها المياه الجوفية، وهى مع ذلك لا تجد من يوجه لها عناية أو يلقى لها بالا. ويوجد طوائف من الأعراب أقرب إلى البهائم يعيشون على الطوى. وقد يجلس الواحد منهم على شاطئ البحر ليصطاد سمكة أو سمكتين لا يزيد على قدر غذائه أو عشائه فقط. وفى هذه الصحراء وامتدادها جنوبا وشمالا عشرات الألوف من البدو،. على ماذا؟... على التهريب، وعلى الخيانة، خيانة الوطن لمن يدفع أتفه ثمن. فى عهد الاحتلال الإنجليزى كان للجيش الزاحف المعتدى أدلة من هؤلاء الأعراب. وفى أيام الهجوم الصهيونى كان أولئك البدو يستأجرون لأعمال التجسس وطعن المصريين من الخلف. ص_084(1/47)
فماذا صنعت الحكومات المتعاقبة لتحضير هؤلاء وحشدهم فى مستعمرات زراعية منظمة تكثر بها ثروة البلاد وتعالج ما طبع عليه أولئك الأعراب من فراغ وفساد؟ لا شىء. برغم أن حدود مصر الشرقية أحوج ما تكون إلى التحصين والتأمين بعد ما اقترب اليهود منها. واليهود عدو ماكر ماهر. وقد استطاع أن يملأ صحراء النقب بعشرات من المستعمرات الغنية بمواردها القوية بأسلحتها. فكيف يجوز أن تبقى صحراء سيناء وصحراؤنا الشرقية تعج بقطعان من المهربين لا عمل لهم إلا جر الأخطار على البلاد؟ وإلى متى تظل الأرض الصالحة بهذه المناطق جرداء لا زرع فيها ولا ضرع؟ ولماذا لا تنتثر فيها الواحات الحافلة بالأزهار والأثمار المليئة بالقلاع والرجال كما حدث فى الجهة المقابلة لصحراء النقب؟! ثم ماذا ننتظر؟!
البقاع المقدسة:
ولنترك مصر جانبا، ثم لنورد مثلا آخر من بلاد الإسلام المنكوب بالأدعياء والمنافقين. لنذهب إلى " نجد " و " الحجاز" حيث القفار الواسعة والمهامة المغبرة. ولعلك تتوهم أن الطبيعة ضنت على هذه البلاد المجدبة، بينما عمرت غيرها بأنهار تفيض سمنا وعسلا. وهذا خطأ فاضح، فالقحط فى هذه الديار الجافة، قحط أخلاق لا قحط أرزاق. والفقر السائد هناك فقر مصطنع تعاونت على التمهيد له حكومات مجرمة، وقبائل تحيا هنا وهناك كالسائمة. يقول الأمير " شكيب أرسلان ": " من الأغلاط المشهورة الظن بأن بلاد ص_085(1/48)
الحجاز مجدبة، وأنها من القحولة بحيث لا تتحمل عددا من السكان يزيد على أهاليها الحاضرين. يقولون: إن الحجاز ناشف يابس وأنه كثير الحجار والحرار، قليل الرياض والغياض. وهذا كله من الكلام المرسل بدون تحقيق. يقوله من لا يعرف " الحجاز "! أو يقوله الكسالى من أهل الحرمين الشريفين الذين يبدون ويعيدون أمام حجاج بيت الله الحرام، وزوار الروضة النبوية، فهم يسهبون فى الحديث عن فقر الحجاز تعمدا منهم ليستزيدوا بر الحجاج بهم ويستدروا عوارف العالم الإسلامى عليهم. وحقيقة الحال أن من عرف جزءا من الحجاز ـ لا كله ـ علم أن الحجاز ـ إذا قام أهله على فلحه وزرعه حق القيام ـ أعاش منهم ملايين بالراحة التامة، وأصار إليهم من الخيرات ما لا يذكر موسم الحج إلى جانبه شيئا!. ولقد رأيت على مقربة من مكة وادى "فاطمة" الممتد إلى وادى الليمون مسافة خمس عشرة ساعة. فرأيت جنة من جنان الله فى أرضه لا تفضلها بقعة لا فى الشام ولا فى مصر ولا فى العراق..!. فلماذا ـ بالله ـ تعيش جمهرة الشعب على التسول وتلك إمكانيات الأرض التى تدب فوقها؟ وما هو عمل الحكومات القائمة إذا كان السواد الأعظم يذوب ماديا وأدبيا فى حلقة محكمة من الفراغ والتعطل؟ وهل يبغى الاستعمار الصليبى أكثر من ذلك لو أنه باشر الحكم فى هذه البقاع؟ إن كلا الاستعمارين من داخلى وخارجى يستمد بقاءه من مهانة الأمم وتقييد حركتها وشل نشاطها. وإنه لمن المؤسف ألا تزال بلاد الإسلام ـ وفى مقدمتها الأماكن المقدسة ـ تضطرب فى مهاد الذل الذى هيأه لها هذا الكابوس المزدوج من الاستعمار. ص_086(1/49)
يقول الأمير " شكيب أرسلان ": " لما كنت فى المدينة المنورة قبل الحرب العامة سنة 1914، وجلت فى عواليها والبقاع التى تليها، وشاهدت زكاء تلك الأرض وسمعت خرير مياهها. قذرت أن البلد الطيب وحده ـ لو بقيت سكة الحجاز الحديدية متصلة به ـ لتحمل نصف مليون نسمة ولما تكاءده أمر معيشتهم. وقد بلغ سكان المدينة قبل الحرب الأولى خمسين ألف نسمة. فلما تآمرت إنجلترا وفرنسا على قطع السكة الحديدية بين الشام والحجاز ، وجحدتا حقوق المسلمين فيها تقهقر العمران فى المدينة وضواحيها، فهبط سكانها إلى خمسة عشر كفا. كما أن جميع القرى التى ازدهرت على جوانب الخط تراجعت بسرعة إلى الوراء، كمعان وتبوك ومدائن صالح... ". قال الأمير المسلم: لا إن التخوف من عمران الحجاز أهم الأسباب التى دفعت الدولتين الاستعماريتين إلى المعارضة فى تسليم سكة حديد الحجاز إلى المسلمين. فإنجلترا وفرنسا اللتان تتحكمان فى مائتى مليون مسلم تكرهان أن يكون لهم ملجأ تهوى إليه أفئدتهم، وتتوافر فيه أسباب الراحة، ويسعد لاستقبال الملايين فيه لا سيما الحجاز.. لا سيما الحجاز" أ. هـ. واستطرد الأمير يذكر الأماكن الصالحة للزراعة، فأشار إلى إمكان تعمير خيبر. وهذا حق، فخيبر ـ كما قرأنا فى كتب السيرة ـ كانت بلدا تفيض بأطيب المحصولات. وكان يهودها يدلون بغناهم على عرب الجزيرة. وقد اتخذوا منها قواعد عسكرية محصنة ناوشوا بها الإسلام حينا، ثم أجلوا عنها أخيرا. وقد تقهقرت خيبر الآن ولا يقيم بها سوى بعض الأجراء من السودان، ألفوا الحمى التى تنتشر فى مستنقعاتها. وإننا ندهش لأن رذيلة الكسل، وخلق البلادة، قد تحولا إلى تقاليد معقدة من الشرف المكذوب والنيل السخيف. فكثير من العرب يحتقر الفلاحة ويزرى على الفلاحين ولا يزال هذا السفه شائعا بين العوام فى صعيد مصر. ص_087(1/50)
ولعل هذه التقاليد التى تستكبر على العمل (!) هى التى نشرت التسول والفقر، واستقدمت الاحتلال من أقصر طريق!! ولا يزال العرب عندنا يتعالون على تزويج بناتهم من الفلاحين لأن الفلاحة عار، والبطالة شرف...!! ومن الأماكن المستطاع تعميرها وتثميرها، وادى القرى والحجر. قال أبو عبد الله الكوتى: " كانت قديما منازل ثمود وعاد، ولها أهلكهم الله وآثارها إلى الآن باقية، ونزلها بعدهم اليهود.، فاستخرجوا كظائمها وأساحوا عيونها وغرسوا نخلها. فلما نزلت بهم القبائل عقدوا معهم حلفا، وكان لهم فيها على اليهود طعمة وأكل فى كل عام نظير حراستها من سائر العرب. وهذا تصرف عجيب! وروى أن معاوية مر بوادى القرى. فتلا قوله تعالى: (أتتركون فيما ها هنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم) ثم قال: هذه الآيات نزلت بأهل الوادى، فأين العيون؟ فقال رجل: أتحب أن أستخرجها لك؟ قال: نعم. فاستخرج ثمانين عينا!! قال معاوية: الله أصدق من معاوية… ووادى القرى اليوم خراب…! * * * * إننا نحب أن نصارح قومنا بأن أساليبهم فى الحياة لن تؤدى إلا إلى فنائهم. إن الأجيال تجد وهم يهزلون. وصراخهم فى طلب الحقوق سيعد نباحا ما لم يثبتوا جدارتهم بما يطلبون. بل إن أهليتهم لهذه الحقوق ستكون موضع ريبة بالغة ما لم يتحولوا فى بلادهم إلى رسل للحياة والتعمير، والنشاط والتدبير. هذه سنة الله فى كونه، ولن يزيغ عنها إلا هالك. ص_088(1/51)
الفساد السياسى أخبث علل المسلمين:
من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره!. منذ أمد بعيد أحوالنا تجرى على هذا النحو، مصلحون يرون الأخطار ويرفعون عقائرهم بالتحذير منها، وعميان يقودون القافلة ـ بسلطات مبهمة ـ إلى هذه الأخطار نفسها!! يبذل هؤلاء المصلحون جهودهم بالعلم واللسان لتبيين الرشد من الغى، وميز العدل من الجور، وفضح العقبات التى تسد السبيل القاصدة أمام المسلمين. فإذا هذه الجهود تذهب بددا تحت وطأة الطغيان الحاكم بأمره هنا وهناك. وكثير من بواكير الإصلاح أهيل عليها التراب قبل أن تنبسق وتنمو فلحقها الموت فى مهدها... قتل جمال الدين وهو يحارب استبداد الملوك على عهده. ومات عبد الرحمن الكواكبى منكمشا بعد ما صودرت كتبه وحوربت مدرسته وقضى محمد عبده وهو يحس مرارة الهزيمة فى حلقه... والحق أن مصلحين كثيرين، ونهضات شتى، تعثرت ئم تلاشت أمام ما بعثره الاستبداد السياسى من عوائق وسدود هنا وهناك. وإذا كانت بعض الأقطار تنكب بين الحين والحين بهيجان الزلازل وثوران البراكين، فإن آفة البلاد الإسلامية هذا اللون من التحكم الفردى الناشر للرعب والرهبة، والمالك لسلطات لا نظير لها فى المشارق والمغارب!! يا لله للمسلمين! رجل واحد يملك هذه الصولة كلها. فيسجن أمة ـ إذا أراد ـ ويميت نهضة! إنها أزمة فى الرجولة يعانيها هذا الشرق البائس. لا ندرى متى تنزاح ضائقتها؟ * * ** نقول ذلك ونحن نذكر هنا ما دونه منذ ثلاثين سنة الأمير " شكيب أرسلان " وهو يعالج إصلإح الجزيرة العربية، ويتقدم بالمقترحات النافعة لرفع مستواها وتدعيم شأنها.. ومات الرجل المجاهد ولم ينفذ له رأى، ص_089(1/52)
قال الأمير" شكيب ": " إن الحجاز فيه بقاع كثيرة فى الدرجة القصوى من الخصب والزكاء ولكن ينبغى لها المال والعلم ". لابد من بناء السدود وحفر الآبار لاستنباط المياه، ومن الاعتماد فى السواقى على الآلات الرافعة الحديثة والدواليب الهوائية. أما المال اللازم لهذه المشروعات فله طريقتان: الأولى: تنظيم الميزانية لحكومة الحجاز. ونسارع نحن إلى التعليق على هذا المقترح الذى طالب العقلاء به منذ ثلاثين عاما. المعروف أن الحجاز ليست له ميزانية عامة لمصالح الشعب وأخرى خاصة لشئون القصر. بل المال الوارد كله للجيب الخاص. وتوجد فى العالم الآن بضع وستون دولة فيها دول كافرة ووثنية ومجوسية ومسيحية ويهودية. وليس فيها كلها مثل هذا الوضع الذى انفردت به الأسر الحاكمة فى الأردن واليمن والحجاز وغيرها. وهذا الوضع الزرى، وهو الإسلام! الذى لا يعرفه الله ورسوله!! نعم هو الإسلام... و إن كانت صلة هذه التصرفات بالإسلام هى صلة الجهل بالعهلم والفوضى بالنظم. قال مستر " موريسون " وزير خارجية إنجلترا وهو يتحدث عن مشكلة البترول بين دولته و إيران : " إن الحكومات ـ فى إيران ـ فئة من الناس تستغل جهود العمال لتزداد ثروة. وقد كان المفروض أن تنفق هذه الحكومات الأموال التى تأخذها ثمنا للبترول فى إصلاح الحالة الاجتماعية. ولكنها بدلا من أن تفعل ذلك حولت هذه الأموال عن الطريق القويم الذى كان يجب أن تسير فيه.. إلى طرق أخرى ". وهذا الكلام ينطبق عليه قول الرسول الكريم:" صدقك وهو كذوب ". ص_090(1/53)
فإنجلترا جرثومة الفساد السياسى الذى أهلك الشرق وأذل بنيه. وتشبثها ببترول إيران هو تشبث اللص بسرقته بعد يقظة رب البيت وأهله وإسراعهم لتخليصها منه. ولكن كلام الوزير البريطانى فى اتهام الطبقات الحاكمة صحيح. و إنه لأشد ما يكون صحة بالنسبة إلى الحجاز ومواردها الغزيرة من البترول. * * * * أما الطريق الثانى لتنظيم واستثمار موارد الحجاز فهو تكيف شركات إسلامية كما يقول الأمير " شكيب " من مصريين وعراقيين ونجديين، إلخ... والاقتراح معروض منذ ثلاثين سنة على ما قرأنا. وقد مات فى الكتب التى شرحته كما مات كثير غيره من توجيهات المصلحين. وتولت الشركات الأمريكية أعباء الاستغلال وأعمال التثمير والإنشاء . ومن وراء هذه الشركات تزحف الجبهة الاستعمارية الغربية وتضع أيديها على شرايين حياتنا ودعائم ثروتنا. والذين استقدموا هذه الشركات ومنحوها أوسع الامتيازات على حساب العروبة والإسلام هم طواغيت الاستعمار الداخلى المنكود. وهكذا تختنق دعوات الإصلاح الحر! ويضيع فيها الإسلام والمسلمون. * * * * إن كبراء المسلمين أقل الناس حظوظا من الأمانة النفسية والكفاية العملية، وربما كان قدماؤهم يعترفون بتعاليم الإسلام فى ظاهر الأمر. إلا أن هذا الاعتراف لا يعدو الشئون التافهة والتقاليد الفارغة. فإذا اصطدم الدين بملذاتهم الخاصة نبذوه وتنكروا له. إن الدين فى نظرهم يجب أن يمشى فى ركاب الولاء، وأن يتهيأ أبدا للتضحية والفداء، كما قال شوقى للسلطان عبد الحميد: يفديك نصرانيه بصليبه والمنتمى لمحمد بهلاله..! ص_091(1/54)
و إذا قبل السلطان ـ الذى ضن على أمته بالدستور ـ هذا الفداء فله الشكر. أما قيمة الأنبياء والرسالات والوحى بعد أن فدى بها واحد من الكبراء، فأمر لا يكترث له. أما كبراء العصر الحاضر فينفرون من الإسلام نفورا شديدا، ويعتبرون التعصب له معرة شنيعة. وهم فى حكمهم يظهرون تجردهم من كل نزعة إسلامية. والبلبلة التى سكبت الماء البارد على حرارة الأمة الإسلامية الناهضة جاءت من هذا الفريق الكافر بربه وأمته. إن الأخوة المتساندة فى العمل، المتكاملة فى الرزق، المتساوية فى الحق، المتناصحة فى الدين، المتقاسمة الشر فى الضراء، والخير فى السراء، هى لب الإسلام وقلبه. وما عداها فهو سخف حكام، وصغار شعوب...!! ص_093(1/55)
الفصل الرابع: توزيع الملكيات:
الإسلام يرفض أن توجد طبقة ما تحتكر الثروة، وتستولى بغناها الفاحش على التوجيه الاقتصادي. وهو يدرك النتائج الوخيمة لتكون مثل هذه الطبقة فيحول دون تكوينها. وبمنح الحاكم الحرية فى اتخاذ الوسائل التى تعينه على إقامة التوازن بين الأمة المختلفة. وبيان ذلك أن الرسول- صلوات الله عليه وسلامه-لما هاجر إلى المدينة كان الأنصار مطمئنين فى وطنهم يقيمون فى ديارهم، ويستثمرون أرضهم، ويعيشون فيها عيشة رخية. على عكس المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ إذا صادرها مشركو مكة واغتصبوها منهم. فلما استقر بهم المقام فى المدينة قام المجتمع الإسلامى على نوع من الأخوة الفاضلة كان الأنصار فيه أصحاب البذل الجميل والسماحة المشكورة حتى انطلقت ألسنة المهاجرين بالثناء وهم يذكرون ذلك للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقولون له: " لقد ذهب الأنصار بالأجر كله! ما رأينا قوما أحسن بدلا لكثير ولا أحسن مواساة فى قليل منهم، ولقد كفونا المؤنة!! ". ولقد شكر الله ورسوله هذا الصنيع الكريم لأصحابه، إلا أن إبقاء هؤلاء المهاجرين من غير أملاك مستقلة يأوون إليها وينفردون فيها يجب ألا يطول كثيرا. ومع أن المسلمين انتصروا فى موقعة بدر، إلا أن الغنائم لم يكن بد من توزيعها على كل من اشترك فى القتال وقام بدوره كاملا- وفى هؤلاء كثرة كبيرة من الأنصار- ومن ثم ظلت الحالة الاقتصادية على ما هى عليه. حتى حدثت موقعة بنى النضير، فرأى الرسول الفرصة سانحة لإعادة التوازن الاقتصادى- إذا اعتبر هذا الفيئ ملكا خاصا له- فجعل الغنائم من أرض ومال وقفا على المهاجرين، إذ لا معنى لأن يزداد الأنصار غنى على غناهم بينما أكثر المهاجرين فى قلة ظاهرة من المال. قال الزهرى: " كانت غنائم بنى النضير للنبى خالصة إذ لم يفتحوها عنوة بل فتحوها على صلح، فقسمها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين، لم يعط الأنصار منها شيئا، إلا رجلين كانت بهما حاجة ". ص_095(1/56)
وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ثم يقول: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله …) ومن الغلط أن نظن إعادة هذا التوازن موقوفا على غنائم القتال. فإن الحكمة التى اقترنت بهذا التوزيع- كما هو واضح فى الآية- تنطق بأن الله يريد تقليب الثروة بين شتى الطبقات، ويكره أن يكون حكرا على طائفة معينة. وكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبدى رغبته تلميحا أو تصريحا ـ فى عهود السلام ـ كى يعاد التوزيع على أساس عادل، ويسن من التشريعات ما يراه منتهيا إلى هذه الغاية. فعن جابر بن عبد الله قال: كان لرجل منا فضول أرضين. فقالوا: نؤجرها بالثلث أو الربع أو النصف، فقال رسول الله : " من كانت له أرض ـ أى واسعة ـ فليزرعها، أو يمنحها أخاه، ولا يؤاجرها إياه ولا يكريها "!! فهذا التخيير بين أن يزرع الرجل أرضه كلها وحده، وبين أن يمنح أخاه المسلم بعضها، مع تحريم استئجار المزارعين لها يكاد ينصح بالرغبة الصادقة التى يتقدم بها رسول الله إلى كبار الملاك كى يشاطروا الرجال الذين يستطيعون العمل أرضهم الواسعة بدل أن يشغلوهم فيها لقاء أجر معلوم. ويدل على هذا ما رواه ابن عباس كذلك أن رسول الله خرج إلى أرض وهى تهتز زرعا! فقال: " لمن هذه؟ " فقالوا: اكتراها فلان. فقال: "لو منحها إياه كان خيرا من أن يأخذ عليها أجرا معلوما ". والحديث يشير إلى أن المنح خير من المنع، ولا يتضمن سياقه أمرا حاسما بضرورة التقسيم العقارى على العمال الزراعيين. وذلك حق فإن وصايا النبى لأصحابه فى هذا الأمر الخطير كانت تخضع ص_096(1/57)
لبواعث شتى من مقتضيات المجتمع الذى يعيشون فيه، ولذلك فهى متكاثرة متغايرة. لاختلاف الرجال شحا وجودا واختلاف الأحوال عسرا ويسرا. ولقد كان الأنصار فى عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم كبار المزارعين، وقد أثبت التاريخ لهم من فضائل البذل والإيثار والتضحية ما لم يثبته لقوم فى الأولين والآخرين. ولقد كانوا (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وبيئة مثل هذه البيئة لا تجد سلطة القانون موضعا فيها لتعمل عملها الباطش العنيف. وما دام الرجل يعطى أكثر مما يطلب منه، وينفق أضعاف ما يكلف به، ويقدم ضرورات غيره على ضرورات نفسه، فمن العبث بقيم الرجال أن تجنح إلى سيف القانون تهدد به وتتوعد!! فما أكثر ما تغنى التقاليد عن القوانين. لست ترى إلى إنجلترا؟ إن برلمانها أعرق البرلمانات فى العالم، ومع فلك لا يقوم النظام البرلمانى فيها على مواد مكتوبة بل على عرف مقرر محترم لا يكاد أحد يميل عنه قيد أنملة. بينما وجد بلاد أخرى تكتب فيها المواثيق بالدماء، ومع ذلك لا ترعى لها حرمة. وبلد كالولايات المتحدة يوجد فيها من كبار الملاك من يجردون بالملايين لخدمة الأغراض الاجتماعية وتدعيم النواحى الإنسانية. وأنواع البر هناك لم تشك قط جفافا فى مواردها. فإذا ارتكس هؤلاء القوم وانهارت تقاليدهم العامة فلم تعد لها سلطة القوانين الحازمة فستضطر إنجلترا إلى تدوين تقاليدها البالية فى كتاب. وستضطر الولايات المتحدة إلى تسجيل ديموقراطيتها الاقتصادية فى صحائف حمر. كذلك كانت أحوال المسلمين فى دار الهجرة على عهد النبوة، أدت التقاليد الفاضلة رسالتها، بل قامت بأكثر مما يجب عليها. ونظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جمهور الشعب فوجده رضى النفس لا يشكو من ضيق هو بعد لما يولد، ولا ينقم على سرف هو بعد لما يوجد. ص_097(1/58)
فجاءت وصاياه بشأن توزيع الملكية ترغيبا لا يبلغ حد الإلزام بل لعله ـ وهو يرسل هذه الوصايا ـ كان ينظر إلى مستقبل الأمة على مر الأيام. ولذلك رأينا الأحاديث السابقة تحض على التطوع بهذا التوزيع ، إذ لم تكن ثمة ضرورات توحى بإجرائه، "حكوميا" وتنفيذه " رسميا " بعد ما كفلت التقاليد الآنفة وقوعه" عمليا " فى أغلب الأحيان والأحوال. أما إذا تغيرت النفوس، وحلت الأثرة مكان الإيثار، ونزاحم الناس على المورد المحدود كل يبغى أن يستبد به دون غيره. أما إذا لم تجد إلا شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. أما إذا لم تجد إلا طبقات مسترقة، وطبقة مؤمرة، فهنا يتدخل القانون ـ باسم الله ورسوله ـ ليحقق الحكمة التى عناها القرآن عند تقسيم الملك والمال فقال : (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). من علماء الدين من يرفض بشدة الكلمات التى ظهرت فى هذا العصر كالاشتراكية، والتعاونية، والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية، وغير ذلك من مصطلحات تشير إلى أنواع النظم التى تتودد إلى الجماهير وتتبنى آمالها فى الحياة.. وهؤلاء العلماء يرون أن عنوان " الإسلام " يكفى وحقائقه تغنى. وأن فسح الطريق أمام مصطلحات حديثة ومذاهب جديدة قد يسىء إلى قدرة الدين على إسعاد الناس وشفاء آلامهم. و نحن نفهم هذه النظرة، ونؤيد بواعثها، ونشاركهم الثقة فى غناء الإسلام ووفائه المطلق بحاجات الأمم. ولكننا لا نتطير من هذه الأفكار المحدثة، ولا نتجهم لأصحابها، ونحاول أن نرد المعجب منها إلى منابعنا الأولى فى تلطف وفهم، لماذا؟ لأن الإسلام نكب على مر الأيام بحكام ليسوا من خيرة أبنائه، استغلوا الحكم لمنافعهم وأمجاد أشخاصهم وأسرهم، وصبغوا هذه التصرفات السيئة بصبغة الدين، والانقياد لتعاليمه. ص_098(1/59)
ولأن العلماء الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ساروا فى ركاب أولئك الطاغين ويسروا لهم الفتاوى المغشوشة، وخلطوا بعض العبادات الشخصية ببعض المسالك الاجتماعية الملتوية حتى ظهرت سياسة الحكام المستبدين وكأنها تلبى نداء الدين، وتقيم شرائعه. ولأن العلماء الأخيار اكتفوا بالعزلة والسخط، وربما فضحوا بألسنتهم ظلم الولاة، وفساد من أيدهم من علماء الدين. وربما أشعروا جماهير الأمة بأن هؤلاء وأولئك كذبة على الإسلام بأعمالهم وأقوالهم.. ولكن أولئك العلماء الصالحين لم يقوموا بجهد إيجابى يشرح طبيعة الدين، ويفصل الفروع التى تعنى طوائف الناس، وتمس متاعبهم، وتحل مشكلاتهم. هذه الأحوال مجتمعة جعلتنا نعذر من تشبثوا بالعناوين الجديدة ونشدوا لأنفسهم الخير من ورائها وهذه الأحوال هى التى جعلتنا نقارن بين ما يقال وبين مواريثنا النظرية على أمل أن يشعر الجيل الحاضر بنفاسة ما عنده فيؤثره ويرتضيه. إن غيرنا استطاع عمليا أن يستفيد من التجارب وأن يضع من البرامج ما يحول بين الشعوب والوقوع فى مآسى الذل والحاجة، فما يمنعنا من دراسة ذلك كله والإفادة منه؟؟ إن التعصب لحقائق الدين شىء، والتجهم لما يرسى قواعده ويحقق أهدافه شىء آخر، بل هما شيئان متقابلان. وعندما أمنع الكفر والرذيلة والمظالم بتشريعات محدثة مطبقة فى بلاد أخرى فأنا مع الدين ولست ضده. بل عندما أضع قيودا قانونية فى أصول الحكم وفروعه تمنع أى حاكم قديم ـ مثل معاوية بن أبى سفيان ـ أو أى حاكم جديد من حكام المسلمين اليوم ـ ولا نضرب الأمثال ـ فإن ذلك ليس تهوينا للإسلام شكلا أو موضوعا أمام أنظمة أخرى، ولكنه فى الحقيقة إنصاف للإسلام وبسط لرواقه على أوسع نطاق. وعلى ضوء ما قدمنا نثبت هذه الفقرات فى سياسة المال للأستاذ أحمد موسى سالم، فهى تخدم الإسلام خدمة جلى: ص_099(1/60)
يقول: " إن المال الذى هو دم الحياة الاقتصادية يجب أن يسير وينتشر فى كل جسد الأمة بنفس الانتظام الذى يتدفق به الدم فى عروق الأحياء الأصحاء. معنى هذا أنه يجب أن توضع كل التحفظات على أية سدود أمام هذه الدورة المالية النشيطة حتى لا يقع انسداد، أو تجلط اقتصادى يعيش به جزء من المجتمع محتقنا، ويصاب بالشلل فيه بقية المجتمع! وهذه الدورة لثمرات العمل فى الموارد المملوكة للشعب تنظمها ضوابط وتحكمها أبعاد تمنع الاستغلال، أو تراكم رءوس الأموال فى أيدى أفراد أو طبقة متميزة. حكم الإسلام أنه إذا ما وقع الاستغلال أو التراكم للثروات ـ لأسباب مفتعلة ـ فقد وجبت سيطرة الشعب على ثروته وموارده، وعلى ثمرات جهد العمل، لينال كل مواطن بحق العمل أو حق الإخاء نصيبه الذى يفى بحاجته ". ويقول: ".. إن إقبال المؤمن على الله وهو يوجه عمله إلى مرضاته خفف من نوازع " الاستكثار" من المال ومن " حب التملك " وشهوة " الاقتناء " و " الفردية " فى الإنفاق، و إظهار الثقة بالنفس من طريق " المباهاة ". إن كل طاقات المؤمن فيما عدا " حد الكفاية " لنفسه يتجه به دعما وجهادا إلى إخوته ومجتمعه كما لو كانت المسئولية عن هذا المجتمع كله تتمثل فى شخصه دون سواه، قربى وزلفى إلى الله. وفى هذا يقول الله جل شأنه: (قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ..) ويقول: ".. مبدأ الإيمان بالبعث والحساب، هذا الأمر الذى ينكره الماديون قد مد من نظر الإنسان المؤمن فى أبعاد الكون، وأقطار الأرض والسماء، فشمل الأرض وما بعد الأرض فى تأمله وتفكيره وشمل الدنيا وما بعد الدنيا فى توقعه وعمله. ص_ ص0(1/61)
وبذلك تحقق توازن كامل وعادل فى توزيع طاقات الإنسان الفكرية، وفى توجيه نوازعه واهتماماته الاجتماعية. فالإيمان بالحساب يكبح ولا شك من جماح الإنسان فى عدوانه على الغير بكثرة المال وسطوة الاستغلال، ويسلس من ضراوة الشهوة فيه إلى تملك كل شىء. حتى حياة البشر وكرامتهم ومشاعرهم وعقولهم. وهو فى مقابل ذلك يزيد الإنسان شوقا واستشرافا للعلم، وحماسا و إقبالا على العمل. إن الإيمان بالبعث والحساب يضعف من علاقة الإنسان بالشىء لذاته، بينما يزيد من مسئوليته عن هذا الشىء من حيث حاجة المجتمع إليه. أو من حيث حاجته هو إليه وسط إخوة فى مجتمع هو مسئول فيه معهم، أو مسئول فيه عنهم، فى طريق طويل، وكون متسع، وزمن كير منته. والذى سيسأله عن مواطنيه وإخوته ـ وهو الله ـ أقرب إليه من حبل الوريد، وهو أعلم به وبما ينفعنا من نفسه. إن الإيمان بالبعث والحساب هو القوة الدافعة والواعية التى تعد فى المجتمع الإسلامى خطر الإسراف، وتكافئ بين الإخوة فى ( القيمة الإنسانية) بالحق والصدق بالواقع والوجدان، من حيث أنهم وحدات واحدة أمام الله كما علمهم الله. وهى بذلك تضاعف من نشاط العمل، وتوضح رؤية الأمة المؤمنة لطريقها وأهدافها على المدى القريب والمسار البعيد. (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) ويقول:(.. يشتمل الإسلام على كثير من المبادئ التى هى فى أصوله العقائدية أساس لتوجيه سياسة المجتمع، فى الحال أو الاستقبال، فهى مبادئ عامة تحدد دون لبس نظرة وقرار الإسلام بالنسبة للثروة والمشاركة فيها ومنع تراكمها، واستغلال الناس بها، وحرمان أحد من حقه مهما قل فيها. من هذه المبادئ والأصول الفكرية فى نظرة الإسلام إلى قضية الثروة والمال: ص_ ص1(1/62)
( أ ) يقول الله : (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) وهذا قانون يتكون من الحقائق الآتية: أولا: إذا استغنى أحد عن المجتمع ـ بتراكم الأموال ـ انفصل عنه فى اتجاه الاستعلاء عليه، وهذا يؤدى إلى طغيانه فى هذا المجتمع وتحوله فى مجال الاقتصاد إلى مركز قوة خطر يعبث بمصالح ومصاير المواطنين. ثانيا: لا يجوز لأحد أن يستغنى عن المجتمع لهذا السبب، أى حتى لا يطغى ويوثر ضد مصالح المجتمع. وهذا أساس لشرعية تأميم الثروات إذا لم تكن لها وظيفة اجتماعية. ثالثا: لابد لكل إنسان لا يستغنى عن المجتمع أن يعمل من أجل هذا المجتمع، فهذا هو الشكل الوحيد لمقاومة خطر الرغبة فى الاستغناء عن المجتمع، اتجاها إلى الطغيان عليه من مراكز القوة الاقتصادية. (ب) ويقول الله فى نفس المعنى بالنسبة للطبقة أو للأمم: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) أى لو كانت الثمرات والأموال تأتى هينة وسهلة لانتهى تكاثرها فى أيدى البشر إلى السيطرة والبغى والظلم. (ج) ويقول الله فيما ينتهى إليه ترف الطبقة التى تجمع الأموال دون جهد، ومن غير حق من هلاك المجتمعات وانحلالها (و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) ويقول: (إنه لا يحب المسرفين) معنى هذا أن الترف والإسراف من أسباب الاختلال الاجتماعى التى تؤدى إلى الانهيار أو الثورة. ص_ ص2(1/63)
(د) ويقول الله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أى أن الإسلام يرفض كل أشكال البخس للحقوق ، من الاستغلال ، وخفض الأجور ، والحرمان من حق التعليم ، والعلاج ، والسكن والرعاية الاجتماعية، والموقع المناسب فى العمل، وتوفير الكرامة الإنسانية للفرد فى كل حال. ونتيجة لهذا فإن الإسلام يرفض الربا لأنه استغلال لحاجة الفرد، وانقضاض عليه فى وقت ضائقة. وسرقة فائدة المال منه بغير جهد، إهدار لحق الرعاية الذى كفله المجتمع الإسلامى لكل من فيه. لذلك فإن الربا ليس هو استغلال الحاجة إلى المال وحده، وإنما هو فى كل نوع من أنواع الضغط يعطى حقا من غير مقابل. (هـ) ويقول الله: (إنما الصدقات للفقراء و المساكين والعاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله ) ومعنى هذا أن الزكاة والصدقات حقوق مفروضة للمجتمع على الأفراد، فى يد دولة الشعب، وهدفها التأمين الاجتماعى فى شكل تأمين دورة الإنفاق للمال بين جميع المواطنين، هذه الدورات الطبيعية التى تشيع بها الحياة والطمأنينة والإخاء والرخاء… إنها فريضة وليست مجرد تطوع. (و) ويقول الله :( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) أى أن دورة الإنفاق التى اكتشفها الاقتصاد الحديث هى مبدأ إسلامى يمنع تركيز الأموال، ويوقف كنزها، ويحد من الإسراف، ويضاعف من حجم المعاملات، ويؤكد الثقة التى تثبت الأسعار، وتزيد الرواج... إلخ. أ. هـ. ص_ ص3(1/64)
موضع الفرد من الحياة العامة:
الإسلام دين يقوم على التراحم، وحديثه عن الله ـ عز وجل ـ يشير إلى طبيعة رسالته، وصبغة تعاليمه فهو يذكر عن الله ـ عز وجل ـ أن رحمته سبقت غضبه، ويعتبر الشرائع التى أنزلها على العباد أداة لإقرار الخير بينهم، ورفع الحرج عنهم. (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) ويقرر أن الخصائص الأولى لرسالة الإسلام الأخيرة، هى تخليص الإنسانية من أعبائها التى أنقضت ظهرها وأثقلت كاهلها وحبستها عن الحركة الحرة أعصارا متطاولة. ثم يرد إلى هذه الإنسانية اعتبارها المسلوب، ويحدد وظيفة النبى ص بين الناس بأنه جاء إليهم يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث. وبهذه الكلمات القلائل، العميقة الدلالة نظف الإسلام حقيقة " التدين " مما علق ولا يزال عالقا بأفهام الكثيرين ـ للأسف البالغ ـ من أن التدين يعنى دائما الحياة الجافة والمعيشة الهون، والزهادة البليدة، واليد التى لا تدرك قيمة المال، والنفس التى لا تفقه معنى الجمال، والمسلك الذى يجعل البيت قبرا قبل القبر، والدنيا فناء قبل الموت، والعمر حرمانا من كل استرواح ونعمة !! وعبارة القرآن فى تكذيب هذه الظنون، وتسفيه أصحابها ينطوى على غضب كبير وتبرم ظاهر (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) فالدين فى الحقيقة يعرف الإنسان بمتاع الحياة، ويهيئ له سبل الانتفاع به ويكلفه لقاء ذلك أن يشكر الله عليه، ويفهمه أن الأرض والسماء وما بينهما لخدمته. ص_ ص4(1/65)
وأن ما انبث فى فجاج الأرض من خيرات، وما انتثر على آفاق السماء من كواكب، وما اتسق فى نظام الكون من جمال وبهجة، إنما هو مهاد ميسر للحياة الإنسانية كيما تتأنق، وتزدان. فنظرة الدين للإنسان كبيرة والموضع الذى يطلبه له من الحياة العامة خطير، وهو لا يفترض له إلا المعيشة الكريمة، لا المعيشة التى يستكمل فيها ضروراته فحسب بل التى يستكمل فيها مباهجه ومرفهاته. وبهذا يكون أهلا لفهم خطاب الله وتذوق ما فيه من معان وأغراض. ولإيضاح ذلك نورد أن القرآن مثلا يقول: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) ترى من يفهم هذا القول؟ ومن يحس بما فيه من إدلال بالنعم وتذكير بالفضل؟ أهو الإنسان المكفول فى معايشه، القوى على أيامه، المفتوح المشاعر لما فى الحياة من خير وجمال؟ أما الإنسان المشرد الذهن، الموصول بالدنيا من أحلك شئونها وأتعس حظوظها، فهو لا يحس بما توحى به الآية من أن السموات والأرض مسخرة له، بل يحس بأنه مسخر ـ روحا وبدنا ـ لكل من فى السموات والأرض ! وإذا تحدث القرآن عن الآلاء التى أنزلها الله لعباده كافة: (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) فمن الذى يدرى فتنة البساتين النضرة، ونفحات الحدائق العطرة؟. أهم سكان مدننا المحرومون من المتنزهات العامة المحبوسون فى أزقة تملأ القلوب وحشة والعقول ضيقا؟ أم غيرهم ممن أخذوا أنصبتهم وفوق أنصبتهم من الأشعة والرياضة والرحلات إلى الأقطار البعيدة بعد أن ملوا النظر إلى ما حولهم من قصور وجنان؟ ص_ ص5(1/66)
وإذا ذكر القرآن حياة الفلاح فى ريفه الهادئ الباسم، وشرح حالته فى غدوه ورواحه إلى حقله قال: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) فمن الذى يعرف هذا الجمال، وتشيع الغبطة فى نواحى نفسه حين ينغمس فيه؟ أهم رقيق الأرض الذين يزرعون القمح ويأكلون الطين وينتجون القطن ويعيشون عرايا؟ . إن الإنسان الذى يعيش تحت المستوى المعقول اللائق به، والذى لا يأخذ القدر المقسوم له من نعم الله وفضله ـ وهو تدر كبير جدا لو وصل إلى أصحابه سالما ـ هذا الإنسان المنكود يقل نصيبه حتفا من التكاليف الدينية والإنسانية. وهو لن يبلغ درجة التقوى فى تدينه إلا إذا أخذ نصيبه المعلوم من مال وبنين وجنات وعيون كما يقول القرآن حين يحض الناس على تقوى الله: (واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون) فأية حال منكرة تلك التى ينظر فيها الكثيرون إلى أنفسهم فلا يجدون لهم شيئا من ذلك كله؟!. وهل ترشحهم أحوالهم الضنكة هذه للخطاب الإلهى الكريم؟. إن الهيمان الشارد على وجهه أبدا، لا يعرف معنى الإلف و إن طال حنينه إليه. والمحروم التائه عن حقه أبدا، لا يذوق طعم الحياة و إن عاش فيها. فإذا استكان فى بيئته إلى عجزه وفاقته فهو ـ بعض إنسان ـ لا إنسان كامل! ألم تر أن القرآن الكريم جعل من خصائص الرقيق أنهم لا يقدرون على شراء وأنهم لا يملكون أى شراء؟. ص_ ص6(1/67)
أما الإنسانية الحرة الطليقة فهى التى تملك أن تنفق، وأن تتسع فى وجوه الإنفاق (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون)
العمل وحده:
وما دام مكان الفرد فى الحياة العامة بهذه المثابة الجليلة، فلابد من صيانة حقه فيه، ولابد من إعطائه الوسائل التى تبلغه إليه، ولابد من حياطة هذه الوسائل حتى تثمر الخير لأصحابها وحدهم، فلا يسرق نتائجها العجزة والكسالى والقاعدون ! وهذا لن يكون إلا بتنظيم الأعمال العامة تنظيفا دقيقا محكما. فمن نكل عنها نكل به ! ومن تأخر فيها دفع إلى الوراء وأخرت منزلته. ومن أحسن فيها كان حقيقا أن يأخذ حظه الموفور من الحياة الصحيحة. إن الله ـ عز وجل ـ جعل منازل الناس فى الدار الآخرة ـ وهى أكرم عنده وأعز عليه ـ بالعمل العظيم لها، فلا ظلم فى أن نجعل منازل الناس فى الدنيا بالعمل لها كذلك: (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) ومن ثم فمن الفوضى أن تكون الدنيا نصيب القاعدين، وأن تكون التعاسة نصيب العاملين!! والعمل فى الإسلام هو الوظيفة الطبيعية لكل حى، وهو سر الخلق وحكمة الوجود: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) والأعمال الدينية المحضة لا تستغرق من عمر الإنسان كبير وقت. فالصلاة مثلا لا تشغل من ساعات اليوم والليلة إلا وقتا يتراوح بين ا%، 2%. ص_ ص7(1/68)
فكيف تنقضى سحابة الليل والنهار بعد ذلك؟. يقول القرآن: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) ومسرح العمل رحب المذاهب واسع الميادين يشمل الأرض برها وبحرها وخصبها وجدبها : (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه). أما استقصاء أبواب العمل ووجوه النشاط العمرانى و أسباب النجاح الاقتصادى فموكول إلى الرجال الذين يتقنون فن الحياة، ولا يضيعون الأعمار لغوا سهوا. ومع أن القرآن كتاب حياة حارة ينبض بالتوجيه العارم إلى الجهاد الدائم، فإن أساليب العمل ملتوية جدا فى أيدى المسلمين، والانتشار فى الأرض الذى أمروا به عقب الصلاة لا يعدو فى اتساع خطوه حركات السلحفاة! ومناكب الأرض التى ذكرت فى كتابهم ضاقت فى أذهانهم كثيرا حتى أصبحت لا تتجاوز مضطرب الرجل بين دار صغيرة وزراعة حقيرة!!. مع أن التدين الصحيح يموت فى هذا الجو الخانق ـ كما أسلفنا ـ جو الصعلكة والمسكنة. إن الإسلام وثيق الصلة بالكون والحياة، ولا يمكن البتة عزل حقائقه الأولى عن العالم المتحرك الذى نصبح فيه و نمسى. ذلك أن الإيمان فى تعاليم هذا الدين يقوم على النظر فى الكون. والعبادة فى تعاليم هذا الدين تقوم على العمل فى الكون. ومعاش المسلم ومعاده كلاهما لا ينحصر فى صومعة ولا ينعزل عن آفاق السماء والأرض، و إلا انعزل عن أسباب حياته. والآيات الكريمة التى تدعم إيمان المسلم بربه عن طريق ربطه بمظاهر الطبيعة، تبصره- فى الوقت نفسه- أن هذه المظاهر الطبيعية مصادر نعمة له، وموارد رزق يطعم منه وينتفع به. ص_ ص8(1/69)
وأنت تشعر بذلك أتم الشعور عندما تقرأ قول القرآن الكريم: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) فالبحر مثلا هنا مورد اقتصادى يستغله المؤمن استغلالا ماديا، ليقيم به حياته المدنية المجردة. وهو كذلك مورد معنوى حافل بأسرار القدرة وبسط الخلق وعظمة التكوين، فهو من هذه الناحية مثار تفكر وتدبر و إيمان!!. والناحية الاقتصادية فى الآية هى الأساس الذى بنيت عليه الناحية المعنوية. وعلى هذا النحو استعرض القرآن ما فى العالم ليقرر أن النظر فى الكون إيمان، وأن العمل فيه عبادة. وزاوج الإسلام بين عمل الإنسان لربه وعمله لنفسه فأصبح كلا العملين يتخذ من الحياة مجرى واحدا. وفهم المسلمون من ذلك أن حاجة الدين للدنيا كحاجة الروح للجسم، فكما أن الرجل يحتاج ضرورات مادية تقيم كيانه وتحفظ حياته، وإلى كماليات يبتهج بتوفرها ويسرها و إلا فلن يستطيع عملا، فكذلك الدين يتطلب قوى مادية وأعمالا تعينه على تحقيق أهدافه وأداء رسالته، و إلا فسوف يجمد ويموت... ويستحيل أن يبلغ المتدينون رسالة ربهم، إلا إذا فهموا منطق الحياة المادى، وصححوا غلطهم القديم نحوه، وقدسوا العمل فى المزارع والمصانع والمتاجر كما يقدسون العمل فى المساجد سواء بسواء. هذا العمل هو الذى نريد جعله ميزان الرجال. يثقل بهم أو يخف على حسب جهدهم. ولا يجوز احترام الأسباب المصطنعة الأخرى التى يجنح إليها الفاشلون كى يحصلوا على المال والجاه. فمن كان فقيرا فى عمله وجب أن يكون فقيرا فى ماله. ص_ ص9(1/70)
ومن كان مكثرا فى ماله فيجب أن يكون ذلك ناشئا عن إكثار فى العمل. وتوزيع الأموال على اختلافها ينبغي أن نراعى فيه وجه الحق وأن نسترشد فى ذلك بقول الرسول صلوات الله عليه وسلامه: " إن أقواما يتخوضون فى مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " ولا غضاضة على كبار الملاك أو صغارهم، إذا هم نزلوا عند رأى الدين فى هذه الأمور. نظريات مختلفة! مما ذكرنا آنفا يتضح أن الإسلام يرتفع بموضع الفرد فى الحياة العامة ماديا وأدبيا. ويأبى أن توجد طائفة بلة أمة من الناس تعيش فى مستوى منحط من الفاقة والحرمان. وأبنا أن تفاوت الناس فى اقتسام معايشهم، يخضع قلة وكثرة ـ فى نظر الإسلام ـ لقيم الأعمال التى يؤدونها، ومن هاتين المقدمتين تنكشف بعض النواحى الاشتراكية فى هذا الدين، ونحب الآن أن نعرض لطائفة من الأفكار الحديثة المتصلة بهذا الموضوع ليزداد الأمر وضوحا. * * * الفكرة الرأسمالية تقوم على حرية العمل والاستثمار والتملك، وترى أن الفرد ما دام واسع الذكاء والحيلة، جم النشاط والسعى، فله أن يحوز ما يشاء من مال، ما دامت سوق المنافسة حرة، وما دامت طرائق الجمع مشروعة، ومن الظلم أن توضع القيود والعوائق أمامه، لتشل إنتاجه فى ميادين العمل المختلفة. وهذا كلام وجيه فى ظاهره، ولقد لقى قبولا ورواجا فى القرون الأولى، ثم لوحظ على مر الأيام أنه لا يكاد ينفك عن المأخذ الآتية: ا ـ تستبد بالرأسماليين شهوة جمع المال من كافة الوجوه الممكنة، فلا يبالون باستغلال جهود العمال، وانتقاص حقوقهم، وتسخير مواهبهم، فما ينسب فى النهاية إلى صاحب المال من نجاح وما يضاف إلى اسمه من ثروة، ليس كله فى الحقيقة له. ص_1 ص(1/71)
2 ـ ينسى الرأسماليون حقوق الله والناس فى أموالهم، ويتهربون من أداء الواجبات الدينية والاجتماعية المنوطة بهم، ويحولون ثراواتهم على عجل إلى كنوز ميتة يقل انتفاع الأمة بها أو ينعدم. 3 ـ إذا كان من بين هؤلاء من يعين فى مشروعات الخير، ويساهم فى نواحى البر، فإن ثرواتهم تنتقل بنظام التوارث إلى أقوام لا عمل لهم ولا عناء فيهم. 4 ـ وجد أن البيوت المالية الكبرى تتعاون على قتل صغار الرأسماليين الناشئين، وترصد من مصروفاتها ما يفسد الأسواق أمام النشاط الاقتصادى لهؤلاء، وبهذا يضيع معنى التنافس الحر. 5 ـ ظهر أن مجتمعات الرأسماليين تغص بفنون اللذائذ الرخيصة، وتنضح بعوامل الفساد العريض، وأن روح الكفاح والمثابرة والجد التى تظهر جلية على مؤسسي هذه الأسر تفنى تماما فى أعقابها. على أن هذه المأخذ تختلف نسبتها بين قطر وقطر، ويقل الإحساس بخطورتها بين شعب وشعب. وقد عالجتها الحكومات بفرض الضرائب القاسية. وسن تشريعات العمل الكثيرة، ولكن الداء فى مكمنه باق عنيد. وقد تخف حدته أو تثقل وطأته تبغا لضعف الرقابة عليه أو يقظتها. ولذلك فالمشاكل بين العمال وأصحاب العمل لا تزال فى مقدمة ما تجتهد هذه الأمم لوضع الحل الحاسم له قدر المستطاع. وموقف الإسلام من هذا النظام ومن مأخذه المعروفة يعود إلى قواعده العتيدة المقررة فى أصوله التشريعية.. قواعد منع الضرر ورفع الحرج، وسد ذرائع الفساد، ورعاية مصالح العباد. وهى مبادئ دينية يسع الأمم أن تجنح إليها لإثبات ما تبغى لنفسها من نظام، ومحو ما لا تود من أوضاع، وتغيير ما لا يلائم أحوال العصر من قوانين. * * * أما الفكرة الشيوعية فى طورها الأخير فتقدم أساسا للتنظيم الاقتصادي يعتبر مغريا للطبقات الضائعة ـ من الناحية النظرية ـ أما الناحية التطبيقية فلم تتح لنا أسباب دراستها المباشرة حتى يتيسر الحكم عليها. ص_111(1/72)
وإن كان ما يبلغنا من شتي المصادر يبعث على الأسي، ويشير إلى هوان إنسانى من طراز آخر.. ونلاحظ عموما أن ثمة مبالغة فى سيطرة الدولة على الفرد، وفى مصادرة مبدأ الملكية مصادرة عنيفة شاملة. مع أن الحاجة ماسة إلى جعل المرافق العامة وحدها ملكا للدولة. أما المرافق الخاصة التابعة للملكيات الخاصة فلا ضير على الشعب من بقائها تحت أيدى أصحابها، بل ذلك أنمى وأجدى. وتنص المادة العاشرة من دستور الجمهوريات السوفيتية على أنه (يحمى القانون للمواطنين حقهم فى الامتلاك الشخصى للدخل الناتج من عملهم ومدخراتهم والمنازل التى يقطنونها وأثاث البيوت، والأمتعة والأدوات المخصصة للاستعمال الشخصى ولتوفير الراحة... وحقهم فى وراثة الملكية الشخصية) ـ أى المنقولات. والمادة الرابعة تدلنا على القاعدة العامة التى يخضع لها مبدأ الملكية هناك. فهى تذكر أنه (يشتمل الأساس الاقتصادى للاتحاد السوفيتى على نظام اقتصادى اشتراكى وملكية اجتماعية للآلات ووسائل الإنتاج). كما تقرر المادة الخامسة أن (الملكية الاشتراكية إما أن تأخذ شكل تملك الدولة فتكون الثروة للشعب عامة أو شكل الملكية التعاونية أو الجماعية) ـ ملكية مزارع جماعية منفصل بعضها عن بعض، أو ملكية الجماعات التعاونية . * * * ونحن نورد هنا محاورة شيقة من كتاب " نفسية الرسول العربى، محمد بن عبد الله " للأستاذ لبيب الرياشي ، تلخص المبادئ اليسارية، وموقف الإسلام منها. المؤلف: من منكم يعلم أسس الشرائع الشيوعية والمبادئ الظاهرة العلمية التى ترتكز عليها. توفيق ـ وهو الشاب المتطرف فى عقائده السياسية، وقد اعتنق فى ماضى ص_112(1/73)
حياته المبادئ الشيوعية ـ ينتفض انتفاضة من مسه سلك كهربائى ويقول: إن منهاج ( الانترناشيونال ) الثالث يلخص فيما تسمعون: أولأ: إلغاء ملكية الأفراد للأراضى، واعتبارها ملكا للدولة مؤجرة للأفراد الذين يدفعون أجرتها للحكومة. ثانيا: فرض ضريبة تدريجية على الدخل. ثالثا: إلغاء حقوق الوراثة. رابعا: إنشاء مصرف مركزى يتولى هو وحده إقراض الأهلين. خامسا: جعل جميع طرق النقل والاتصال من سكك حديدية، وبواخر، وقطر ترام، وتلغرافات، وتليفونات ملكا للدولة. سادسا: توسيع نطاق المعامل، والمصانع التى تملكها الدولة. سابعا: إنشاء جيش من العمال للزراعة والصناعات الوطنية. ثامنا: تنظيم العلاقة بين الصناعة والزراعة. تاسعا: إلغاء الفروق بين الطبقات وجعل السلطة المطلقة بين أيدى العامة. عاشرا: إلغاء النقد ورءوس الأموال ومنح كل فرد من أفراد الأمة ما يحتاج إليه وأخذ ما يفيض عنه. حادى عشر: يقول كارل ماركس: " إن الدكتاتورية هى شرط لازم للمبادئ الشيوعية.. ". المؤلف: إن إلغاء ملكية الأفراد وتسليم الحكومة وحدها المصرف المركزى وطرق النقل والاتصال، والمعامل ـ كما تقول المادة الأولى، والرابعة، والخامسة، والسادسة. معناها أن واضعى هذه الأسس يتصورون الحكومة قسطاس حكمة وميزان عدل، حتى إذا ما حكمت حكما فرديا مطلقا أنصفت الناس كافة. لعمرى، إنها لقصيدة شعرية خيالية بزت ألوانها وصورها ـ ألوان قصيدة دانتى وصورها. أما من ناحية التشريع المحمدى فإنها بمثابة احتكار، احتكار فئة كبرى من البشر جلست على كراسى الحكم ـ لتتصرف بمطلق الحرية والسلطان فى مقدرات سائر البشر، ونشاطهم وجهودهم، تبدل احتكار الشركات باحتكار ص_113(1/74)
جيش من رجالات السلطة الله أعلم بسرائرهم، أن الاحتكار أيا كان موضوعه أيها الأدباء ـ محرم ـ فى التشريع المحمد ى، واحتكار السلطة أوهى من احتكار الأقوات وفى الاحتكار المالى المحدود قال المشرع الأعظم فى أحاديثه: " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " . وقال: " بئس العبد المحتكر: إن أرخص الله الأسعار حزن، إن أغلاها فرح " وفى وصية الإمام على، التى هى دستور الحكم الراشد بين الوالى والرعية وقد وجهها الإمام السامى للأشتر النخعى لما ولاه مصر، قال موصيا بالتجار: ( واعلم مع ذلك أن فى كثير منهم ضيفا فاحشا، وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع، وتحكما فى البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين حلال، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب فى غير إسراف ). صادق: أما البند الثانى القائل: نفرض ضريبة تدريجية على الدخل فليس فى هذا التشريع إبداع واستكشاف. لأن الزكاة والصدقة من أسس التشريع المحمدى. أما البند الثالث القائل بإلغاء حقوق الوراثة فمناقض للشريعة الإلهية التى تعلن الفرائض بصراحة، وقد جاء فى سورة النساء: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) إلى آخر ما ورد فى الفرائض، وكلها تأمر بأن يرث الأهل الأقربون لا الحكومة. أما البند التاسع القائل بإلغاء الفروق بين الطبقات وجعل السلطة المطلقة فى يد العامة، فإنه تشريع لا يقره عقل ولا يتسامح فيه منطق، لأن الإنسان يتفاوت فى أخلاقه وكفاءته وقواه العقلية والجسمانية ونشاطه تفاوتا يزيد أو ينقص، وليس بين العلوم البشرية ما يخالف هذا التفاوت الحقيقى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) فهل من العدل أن ينال العامل الخامل العقيم ما يناله النبيه الذكى النشيط ؟(1/75)
ص_114
سعد: وهنالك تشريع للشيوعية لم يذكره الرفيق توفيق ـ يتعلق بالله والإلحاد، ومشاعة المرأة، وسيطرة الحكومة ـ على الأطفال ـ بعد الثانية من عمرهم. إنه لتشريع يناقض العقل كما يناقض شريعة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله. صادق: ذاك تشريع يذكره السيد سعد، نمر به مر الكرام. المؤلف: إذن لا توافق بين الشرع المحمدى السامى الجليل والشرع الشيوعى. جل ما يفهمنا إياه هذا التشريع، أن فئة كبرى من البشر خضعت تحت وطأة فئة انغمست فى الظلم، وتمرغت فى أتون الاستبداد. وسوف تنفذ فيها الشريعة التى أعلنها الإمام على منذ أربعة عشر قرنا: ( إن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم). ليون: حقا إن الشرع المحمدى غنى فى التشريع الإلهى والاجتماعى، فاجلسوا إلى موائدكم، وكلوا منها طيبا. إنكم بغنى من فضل ربكم عن الاستعطاء التشريعى واستجداء الفضلات من موائد الأغيار. حسبكم أن تكونوا يقظين , نابهين مخلصين لتقفوا من شرعكم السامي ـ أنبل الشرائع وأطهرها –نفخة تعيدكم إلي حظيرة الحق والهدي فتنتصف للروح وينتصف العقل وتنتصف اليد العاملة. صادق: حقا يا سيد ليون، إنك من رجال العلم المثقفين المحللين أ. هـ. ***** إن المآخذ التى نوردها نحن المسلمين على النظام الشيوعى تلتقى عند أصول ثلاثة. فى واحد منها فقط ما يزهدنا فى الشيوعية، فكيف بالثلاثة مجتمعة؟ ومع علمى بتوفر هذه السوءات فى النظام الشيوعى فقلما أبحت لنفسى أن أحمل عليه بالأسلوب الذى لا يفيد منه الإسلام أبدا. بل تستفيد منه نظم أخرى هى فى اعتقادى لا تقل عن الشيوعية خطرا. وإلى القارئ الكريم البيان: *** ص_115(1/76)
أول ما يطالع العين من مقابح الشيوعية فلسفتها المادية القائمة على الإلحاد والإباحية. إن الحياة البشرية تتحول فى ظلال هذه الفلسفة الجافة إلى إنسان آلى لا يدرى من وجوده إلا ما يزحم المعدة من وقود، ويثير الغرائز من شهوات، ويهيج المطامع من حروب. ثم تنقطع الصلة بين الإنسانية وبارئها سبحانه. ويتحول الرجال والنساء إلى رقيق للأرض وعبيد للمصنع!!. ونحن المسلمين لا نرضى البتة بهذه الصورة الجاحدة من التفكير. بيد أننا إذا رفضنا هذا الإلحاد الاقتصادى الشيوعى فليس معنى ذلك أننا نرضى بالإلحاد الثقافى أو الإلحاد التشريعى أو الإلحاد الاجتماعى الذى يسود بلادنا فى ظل الرأسمالية الجاثمة على صدورنا. فإذا قيل لنا: حاربوا الشيوعية لأنها إلحاد، فلنقل: سنحاربها. ولكن نسكت عن الرأسمالية التى تحتضن أفانين من الكفر والعبث والمجون؟!. بل هذه أولى بالكفاح السريع فهى عدو مقيم. أما الشيوعية فعدو بيننا وبينه أميال وأميال. والمأخذ الثانى الذى سجله العالم كله على النظام الشيوعى أنه نظام يقوم على الاستبداد السياسى، وخنق الحريات العامة، وبسط سيطرة الدولة على كل شىء فى الأمة. فبينما يستطيع البرلمان الإنجليزى أن يسقط الوزارة التى لا تحوز ثقته مثلا.. وينهض النظام الديمقراطى فى البلاد المستمتعة به على أن الناخب يأتى بالنائب، والنائب يأتى بالحاكم. فالشعب هو أولا وآخرا مصدر ومرجع الاعتبار، بينما تجد ذلك فى أنحاء العالم الحر تجد أن الأوضاع السياسية فى الاتحاد السوفيتى تقوم على النظام الهرمى وأن الرأس فى هذا المثلث نقطة الارتكاز التى يقوم عليها الحكم كله!. فهو الذى يختار الوزراء والنواب. والشعب كذلك إن أمكن!. وهذا هو الحكم الاستبدادى البغيض. ص_116(1/77)
فإذا قيل لنا: حاربوا الشيوعية لأنها إلحاد ثم لأنها استبداد. قلنا: لا بأس وينبغى أن نحارب الاستبداد فى صوره كلها وأن ندعم نظم الشورى فى بقاع الشرق الإسلامى عامة . حتى إذا ذاق الناس طعم الحرية المبذولة والحقوق المصونة أنفوا الاستكانة إلى سطوة فرد، والخنوع فى كنف جبار عنيد. أما أن تصاب الحياة الدستورية بنكسات فى الوطن الإسلامى الكبير، ويعيش كثيرون من أهله عبيدا جاهلين بمعنى الديمقراطية لأنهم لا يذوقون لها طعما، فليس هذا مما يعيننا على مقاومة الاستبداد الشيوعى قط مهما كتبنا ومهما خطبنا.. والمأخذ الثالث على الفكرة الشيوعية أنها تصادر مبدأ الملكية مصادرة عنيفة شاملة. والملكية نوعان: ملكية إنتاج وملكية استهلاك، والشيوعية تعطى الناس حق الامتلاك والادخار لما يكسبون من أعمالهم وجهودهم فهى تبيح الثانية وتحرم الأولى. ومعنى هذا أن الدولة لا تتدخل هناك فيما يملكه المرء إذا اقتصر انتفاعه منه على شخصه. أما إذا حاول فيما يمتلك أن يسخر الآخرين فى عمل تدخلت الدولة فى الحال مانعة. فلك أن تبنى بيتا تسكنه، وليس لك أن تؤجره!. والحقيقة أن مبدأ الملكية مضيق عليه جدا فى روسيا ومطلق الحدود جدا هنا.. والتضييق الشديد هناك حرم المباح. والإباحة المطلقة هنا جعلت الكثير يمتلك عمارات وتفاتيش من أبواب هى السحت عينه. ونحن نحب أن نحارب الشيوعية ولكنا نريد من الناس- وقد أباح لهم الإسلام حق التملك- ألا يعبثوا به ويستغلوه أسوأ استغلال لأكل الحرام والحلال. وهذا لا يغض من مبدأ (إعطاء كل قدر حاجته، وتكليف كل قدر طاقته)، الذى أقام عليه الشيوعيون دولتهم الهائلة. إن رسالة الأحياء- فى نظر الإسلام- أن يعملوا دائما. وتكليفهم بالعمل لابد أن يتخذ إحدى طرائق ثلاث: ص_117(1/78)
إما أن يكلفوا بالسعى والكفاح فى حدود طاقتهم، وإما أن يكلفوا بما هو فوق طاقتهم، وإما أن يكلفوا بما هو دون طاقتهم. وتكليف المرء بالعمل فوق استطاعته لم يقل به شرع ولا عقل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . وتكليفه بما يعد دون مواهبه وملكاته وأوقاته، خلق للفراغ واللهو والكسل، وقتل للذكاء والإتقان والإجادة. وهذا من الآفات الاجتماعية التى بليت بها الأمم المتواكلة فى الشرق. ولم أرفى عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام فلم يبق إلا تكليف كل قدر طاقته. و إعطاء المال للإنسان يأخذ هذه الطرائق الثلاث نفسها. إن أعطى المال دون حاجته حرم وظلم. وإن أعطى فوق حاجته أترف ونعم فأسرف وأفسد. ومعلوم أن حاجات الناس تتفاوت كما وكيفا وأن استحقاقهم لما يحتاجونه يتفاوت كذلك. وهذا لا يقف عقبة فى سبيل تنفيذ هذا الشطر من المبدأ الذى ذكرناه، والذى أقام عليه الشيوعيون مجتمعهم. غاية ما هنالك أنه يفرض تحرى الحق و إصابة الواقع حتى تأخذ العدالة مجراها الصحيح فى أوسع دائرة لها مع الناس. وهذه الأفكار التى سقناها عن الرأسمالية والشيوعية، لا نخدم بها إلا البحث العلمى المجرد. أما واقع الحياة فى مصر فإن الصراع فيه ليس بين نظام رأسمالى ونظام شيوعى، كما هو الحال فى بعض أمم الغرب. ولكن الصراع هنا بين نظام إقطاعى موجود، وعدل اجتماعى منشود. ص_118(1/79)
أى بين بقايا من ظلمات القرون الأولى وبين طلائع التطور الإنسانى الحديث. ونحب أن يعرف حكم الله فى هذا النزاع، وأن نقر نظرية الإسلام لينجب بها أسئلة ملحفة، وتطمئن أفئدة متلهفة. (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم * وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) مخدوعون... فى هذه البلاد شباب قد يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بأنهم " بلاشفة "، و لو ذهبت تستقصى حقيقة هذا الوصف ما وجدت له عند أكثرهم أثرا. غاية ما هنالك أن هؤلاء الشباب غاظتهم مهانة الجماهير وصفاقة الكبراء، وهاجتهم وطأة الاحتلال الداخلى والخارجى وضعف المقاومة المعدة له، على كثرة الخصب والصياح من المعوزين وطلاب المنافع!. فكان من امتزاج هذه العواصف السليمة وانعدام الموجه الرشيد لها ما وسمها بالطابع اليسارى. ولا ريب أن هذا عنوان غلط لمعان صحيحة، وفى الاشتراكية الإسلامية متنفس رحب لهذه المشاعر المكظومة كلها. أعجبنى من قصيدة للأخ الشاعر أحمد فرح الفالوجى قوله: ما حياة الشعوب فى ظلمات من سياط الإرهاب والتهديد؟ وهل المترفون للغضب والنهب وأنتم للمدح والتمجيد؟ دفنونا فى مصرع الفقر أحياء وشادوا القصور فوق اللحود! نحن للزرع والتجارة والصنع وأسيادنا لصرف النقود! * * * ص_119(1/80)
كم زعيم فى الشكل من صنع باريس وفى العقل من عصور الجليد! طلب المجد فى الموائد والميسر و الرقص و ابنة العنقود جنحوا للمفاوضات فى الغرف البيض فصرنا إلى الخطوب السود! لا تسلهم عن الكرامة والشعب و سلهم عن الهوى والغيد طعنوا المسلمين فى القلب لما سلموا قلب دينهم لليهود! **** لا ترد الحقوق فى مجلس الأمن ولكن فى مكتب التجنيد إن ألفى قذيفة من كلام لا تساوى قذيفة من حديد **** هب من قبل حقبة حسن البناء يرسى قواعد توحيد! فإذا الغريب ثائر. وإذا الأذناب يرضونه برأس الشهيد! كلما قام مصلح يفضح الظلم أطاحت به حراب العبيد **** يا شباب الإسلام قد برج القيد فهلا انتفضتم من رقود! مالكم والمبادئ الصفر والحمر و قرآنكم منار الوجود.! يدفع المسلمين للعلم والإنتاج مثل التسبيح والتحميد إنما نحن وحدة مزقتها دول الغرب باصطناع الحدود إن يوما يلمنا من شتات هو للمسلمين أسعد عيد!! **** ص_120(1/81)
إن الشباب الباحث عن الإصلاح، المتطلع إلى سيادة العدل الاجتماعى، الراغب فى إرساء المجتمع على دعائم من الإنصاف والحق، وليس شيوعيا. إن مطالبه معقولة! وإذا أخطأ الطريق إليها أو حسبها لا تجىء إلا عن طريق الزيغ فلنفهمه أن ما يريده ميسر عن طريق الرشاد، وأنه ما يبغى إلا ما قررته آيات الفطرة للناس، وتنزل به الوحى على المرسلين!!. وما يبرق فى ثنايا الأنظمة الأجنبية قد يكون جديرا فى أذهان الغرباء على الإسلام القاصرين فى دراسته. أما الذين يعرفون هذا الدين حق المعرفة، فهم يأنسون إلى حقائقه ولا يرضون عنها بديلا. وقد شرحنا فى فصول طوال شراء الإسلام فى أكثر من مجال. ولا بأس أن نثبت هنا مقارنة محدودة بين نظرات فى الفقه الإسلامى، ولمحات من التفكير الاقتصادى الأوربى، تتصل بملكية الأرض- وهو موضوع حديثنا- للسيد أبى النصر الحسينى. ملكية الأرض: كانت الأرض ولا تزال ركنا هاما فى حياة الإنسان الاقتصادية، وعاملا ذا شأن خطير بين عوامل الإنتاج الاقتصادي . إذ بها ترتبط حياته، فمن مزروعها غذاؤه ولباسه، ومن خشبها وحجرها داره، ومن معادنها ماعونه وسلاحه، ومن شجرها وفحمها ناره، ومن مائها وزيتها صناعاته وقوته. هى " أم " ثروته. كل شيء مفيد لحياته يخرج منها. ولذلك قرر الاقتصادى الإنجليزي الذائع الصيت وأحد أئمة الاقتصاد فى العصر الحاضر، الأستاذ الفرد مارشال (1741 ـ 1824 م) حين حصر عوامل الإنتاج: أن العوامل الأصلية للإنتاج اثنان، وهما الأرض (أى الطبيعة) والإنسان. كذلك ذهب العالم الاقتصادى الألمانى الشهير الذى كان لآرائه الاقتصادية أثر ص_121(1/82)
بليغ فى القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ فون هرمان، (1795 ـ 1868 م)، فكان يراها رأس المال، لأنها تستديم، وتعطى إيرادا. وعدها الاقتصادى الفرنسى دونوير (1786 ـ 1862م) أيضا مثالا تاما لرأس المال. ولذلك كان ملكها مصدرا لنضال مستمر نظرى وعلمى، ظل بين الناس أجيالا طويلة. ولسنا بصدد تقديم أحوال وأطوار ذلك النضال. على أننا سنعرض بعض الآراء فيه لكبار المصلحين والمفكرين. كان الكاتب الاجتماعى الإنجليزى تومس مور (1478 ـ 1535 م) مثلا يرى فى طوباء إلغاء الملك الخاص للأرض وجعلها ملكا عاما. كذلك كان الاقتصادى الإنجليزى جودون (1756 ـ 1836 م) والاقتصاد الفرنسى بردون ( ص89 ـ 1865 م) ضد ملك الأرض، ويريان ملكها حائلا دون نيل البعض للغذاء واللباس والمسكن مع استحقاقهم لهذه الحقوق الفطرية. وادعى الاقتصادى الإنجليزى جراى (1799 ـ 1850م) إن ملكها أو أخذ الأجرة على استعمالها خلاف العدل. ويرى أيضا زعماء المذاهب الاشتراكية والشيوعية إلغاء ملكها وجعلها ملكا عاما. أما الاقتصادى الهولندى جروتوس (1583 ـ 1645 م) والاقتصاديان الإنجليزيان هابز (1588 ـ 1689 م)، ولوك (1632 ـ 1704 م) فكانوا يؤيدون ملكها مع اختلاف الرأى بينهم فى تدخل السلطة الحاكمة فيه. كذلك كان الاقتصاديان الفرنسيان كوتسنيه (1694 ـ 1774 م) وتورجورت (1727 ـ 1781 م) يريان أن مصدر جميع القيم هى الأرض، فكانا يؤيدان ملكها المطلق. ولم يكونا يعتبران تدخل الحكومة فيه من سلامة المبدأ الاقتصادى. ومن مؤيدى ملكها أيضا الفيلسوفان الألمانيان الشهيران كانط (1724 ـ 1804م)، وهيجلى (1770 ـ 1831 م) اللذان لم يكونا يريان نظرية العمل جديرة بتحقيق ملكها، بل إرادة الإنسان الموجهة إليها. ص_122(1/83)
وبجانب هذين الرأيين لإلغاء ملكية الأرض وإبقائها يرى الفيلسوف الإنجليزى الشهير هربرت اسبنسر (1820 ـ 1903 م) وأتباعه رأيا وسطا بينها إذ كانوا يؤيد ملكية الأرض، ومع ذلك يفوضون إلى المجتمع حق تجريد مالكها من ملكه عند الضرورة مع دفع التعويض المناسب له. نظام ملكية الأرض فى الإسلام وموافقته بعض المذاهب الاقتصادية الغربية الحديثة: أما الإسلام فنظام ملكية الأرض فيه نظام مستقل عن النظريات والآراء المذكورة. فالأرض فى الإسلام ملك الله، لا يملكها أحد إلا بتوريثه ـ تعالى ـ ففى القرآن: (إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين) وفى الحديث عن عروة قال: أشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم )" قضى أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله " . وأيضا عن عائشة قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " العباد عباد الله والبلاد بلاد الله " . وورد: "عادى الأرض لله وللرسول ولكم من بعد" وفى رواية: " موتان الأرض لله ورسوله ثم هى لكم منى أيها المسلمون " . توافق الإسلام فى هذا المبدأ أى فى جعل الأرض الغير العامرة ملكا عاما للمسلمين مذاهب الاشتراكية والشيوعية التى تعتبر الأرض ملك الهيئة الاجتماعية العامة. ص_123(1/84)
ولكنه يختلف عنها فى أنه لم يجعل أساس تعميم تلك الملكية تحريم الملكية الخاصة، وإلغائها كما جعلت تلك المذاهب. لما كانت الملكية الخاصة صفة متممة لحرية الفرد، أو وضعا ضروريا لتحقق حريته على رأى الفيلسوف الألمانى هيجل، كان يتحتم أن يكفل للفرد إتاحة الفرصة للحصول على ملك خاص له. فى حين كانت تلك الإتاحة تدريجا له على حمل المسئولية واختبار وجوهها فلذلك لم يحرم الإسلام ملك الأرض الخاص، بل شجعه وذلك بالإقطاع والإحياء. إن تشجيع الإسلام ملك الأرض الخاص يوافقه فيه أهم المذاهب الاقتصادية الحديثة فى الغرب مثل النازية والفاشستية، فهو سبقهما بتقديمه والعمل عليه منذ قرون طوال. الفرق فى الإقطاع بين الإسلام والمذاهب الاقتصادية الغربية نوهنا سابقا بأن الإسلام يوافق ـ فى جعل الأرض الغير العامرة ملكا عاما للمسلمين، أو بلفظ آخر للهيئة الاجتماعية الإسلامية ـ مذاهب الاشتراكية والشيوعية وغيرها التى تعتبر الأرض ملك الهيئة الاجتماعية العام. كذلك يوافق الإسلام فى إقطاعها تلك المذاهب، وأيضا الرأسمالية الغربية، على أن هناك فرفا دقيقا بين الإسلام وبين تلك المذاهب فى إقطاعها أى توزيعها. فالإسلام يوزعها على الأفراد والجماعات توزيع التمليك لأجل الإعمار بغير النظر إلى شىء آخر. تاركا لهم الحرية التامة للتصرف فيها. بينما توزعها الرأسمالية الغربية كعامل من عوامل الإنتاج على المشاريع والصناعات التى يمتلكها فرد أو جماعة على أساس القيمة التى يدفعها لها. وأما الاشتراكية فتوزعها كعامل من عوامل الإنتاج على الصناعات ومشاريع الإنتاج توزيعا يسهل إنجاز الخطط التى ترسمها السلطة المفوض إليها التخطيط وذلك بغير الاعتماد على قيمتها. ص_124(1/85)
كما هى تسمح بملكها على مقياس صغير للإنتاج العائلى المجرد عن وجود المستأجر والأجير والعلاقة بينهما، مما لا يناسب الحكومة مباشرته وملكه. فى حين توزعها الشيوعية ( للاستعمال فى الإنتاج فقط) وليس للتمليك، على شركات التضامن وهيئات التعاون التى تأسست حسب رسم إدارة التخطيط الحكومية، فهى عندها فى جميع الأحوال ملك الهيئة الاجتماعية. الإحياء: أما الإحياء فهو مباشرة موات الأرض أى التى لم يجر عليها ملك أحد بتأثير شىء فيها من إحاطة أو زرع، أو عمارة ونحو ذلك. فالإسلام يملكها من يحييها، إذ فى الحديث: " من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق ". وأيضا:( من أحاط حائطا على الأرض فهى له ). والفرق بين الإقطاع والإحياء هو أن الأول تمليك الأرض من قبل الإمام على طلب فرد أو على غير طلبه، والثاني تملك الفرد الأرض بإحيائها. يوجد اختلاف فى آراء أئمة الإسلام فى الإحياء. فذهب أبو حنيفة إلى أن الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام. ورأى أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعى، وأحمد بن حنبل أن ملُك الموات يعتبر بالإحياء دون إذن الإمام. كلا الرأيين يوافق بعض المذاهب الاقتصادية الحديثة فرأى أبى حنيفة يوافق ما قررته المذاهب الحديثة مثل الاشتراكية والشيوعية وغيرها أن الأرض ملك الهيئة الاجتماعية. إليها يرجع أمرها فهى صاحبة التصرف فيها، فلا يجوز التصرف فيها لغيرها. وقد أبنا لك بعد، أن أمورا عامة للمسلمين مفوضة إلى الإمام، فهو الممثل لسلطة الهيئة الاجتماعية الإسلامية. ص_125(1/86)
وعليه فإذا رأى أبو حنيفة عدم تسويغ الإحياء إلا بإذن الإمام، فهو يدل على أنه كان موفق الرأى وبعيد النظر، إذ لا تزال الجموع المثقفة فى العالم تعتنق ذلك الرأى بعد مضى قرون طويلة. كذلك يوافق الرأى المذكور لأبى حنيفة فى ترجيح إرادة الحكومة، وهى التى يمثلها لدى الإسلام، على إرادة الفرد، مذهبى النازية والفاشستية، إذ كلاهما يقرران أن الحكومة أفضل من الأفراد، وأن لها حقوقا تفوق حقوق الفرد. أما رأى أبى يوسف ومحمد بن الحسن والشافعى و أحمد بن حنبل فى جواز الإحياء بغير إذن الإمام، فيوافق المذهب الاقتصادى الشهير الذى مبناه ( عدم التعرض ) (Faire-Laissez ) وهو مذهب يؤكد خطورة شأن الفرد ورفاهيته فى المجتمع، فيقرر عدم التعرض لأعماله الاقتصادية. ويرى أن الفرد خير قاض فى أموره حسب مؤهلاته، فيجب أن لا تعترض الحكومة أعماله إلا عند التصادم بالغير. ولكن هذا المذهب قضت عليه المذاهب الاقتصادية الحديثة التى ظهرت أخيرا، وأساسها الوطنية مثل النازية، والفاشستية، والاشتراكية، والشيوعية وغيرها. أما مالك فجمع بين الرأيين المذكورين، ونهج نهجا وسطا بينها إذ قرر أنه إذا كانت الأرض الموات قريبة من العمران يلزم فى إحيائها إذن الإمام، وأما إذا كانت بعيدة عنه، فلا يلزم فيه إذن الإمام. شرط التمليك بالإقطاع والإحياء فى الإسلام: على أن تمليك الإسلام الأرض بالإقطاع والإحياء هذا ليس بدون شرط ولا قيد، حيث يتمادى صاحبها بعد الإقطاع أو الإحياء فى إهمالها، ويتغاضى عن إعمارها، ويترك أمرها بمضيعة. ومادام مبتغى الإسلام هو التسول إلى العمران والتقدم، فقد منعت الشريعة الإسلامية احتجازها أكثر من ثلاث سنين، ففى الحديث: ( عادى الأرض لله وللرسول، ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا فهى له، وليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين ) . ص_126(1/87)
فاحتجاز الأرض وتركها غير معمورة، أو اقتناؤها فوق قدرة العمارة، سواء أقطعها الإمام أو هو أحياها من الموات ممنوع فى الإسلام. فقد حدث أن كان رسول الله صلي الله عليه و سلم أقطع بلال بن الحارث المزنى العقيق أجمع. فلم يستطع عمارتها. ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة قال: يا بلال! إنك استقطعت رسول الله صلي الله عليه و سلم أرضا طويلة عريضة فقطعها لك. وأن رسول الله صلي الله عليه و سلم لم يكن يمنع شيئا يسأله ، وأنت لا تطيق ما فى يديك. فقال: أجل فقال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقو فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين. فقال: لا أفعل والله، شيئا أقطعنيه رسول الله صلي الله عليه و سلم. فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته، فقسمه بين المسلمين. أو ليس عمل عمر بن الخطاب هذا حقق قبل عشرة ونيف من القرون ما تمنى وقرر الفيلسوف الإنجليزى الذائع الصيت هربرت إسبنسر (1820- 03 19) بفكره الثاقب فى القرن الحاضر؟ وهو أنه يجب أن يفوض إلى الهيئة الاجتماعية تجريد الأرض من مالكها عند الضرورة. وأيضا هذا الوضع فى الشريعة الإسلامية لتمليك الأرض الموات بالأعمار وتجريدها بالإهمال يوافق المبدأ الاقتصادى الآخر الذى كان أساس دعوة كارل ماركس، ويتغنى به المصلحون الاقتصاديون فى العصر الحاضر. كما كان ولا يزال هدف الجدل بين المذاهب الاقتصادية المختلفة فى الغرب، وهو (أن لكل واحد حقا حسب عمله). فإن الشريعة خولت ملكها على إحيائها، ونزعت ملكها على إهمالها، فكان استحقاق الملكية بالعمل، وفقدانه بعدم العمل. ومعناه أن لكل واحد حقا حسب عمله. ص_127(1/88)
الملكيات الزراعية فى مصر: غصب الحقوق من أهليها يعد من أقبح المظالم التى جاء الدين بتحريمها، وتنفير الناس من الوقوع فيها. وغصب الأرض خاصة جريمة فاحشة، واللعب فى حدودها المعروفة بغية الاستيلاء عليها أو على جزء منها مثار لعنة دائمة. وفى ذلك يقول الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: " لعن الله من غير تخوم الأرض " . والجزاء المعد لذلك يوم القيامة يثقل كواهل الغاصبين: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرض ) . وفى رواية أخرى:( من أخذ شبرا من الأرض بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين ). وذلك لأن نهب العروض والمنقولات قد يستهلك ويقف أثره عند حد، أما اختلاس الأراضى فيبقى دهرا طويلا بالبيع الحرام، والإرث الحرام ونحوهما. ويترك ندوبا غائرة فى جسم المجتمع تظل مثار اضطراب وألم. وأنواع النهب تختلف آثارها وتختلف أجزيتها ، وشر ما رهب منه الإسلام وجعله ماحقا للإيمان ودافعا إلى سخط الله " أن ينتهب الرجل نهبة ـ ذات خطر ـ يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينهبها ـ عجبا من جرأته ـ ". ونهب الأرض لا يعدو هذا القبيل الشنيع. * * * ونحن إذا استعرضنا تاريخ التملك الزراعى فى مصر، فى العصور الأخيرة لم نجد إلا ظلالا سودا لفوضى التمليك والتملك، والاستهانة بالحقوق، والمحاباة للمحاسيب والأجانب، والتجاهل لقيم العمل والعمال، والغفلة عن مستقبل الأمة و مصاير بنيها!. ص_128(1/89)
وعلة ذلك عدم قيام حكومات شعبية تسأل دستوريا عن تصرفاتها، مما جعل الحكم الفردى يتورط فى سلسلة من الأخطاء والتصرفات لم تنج الأمة إلى اليوم من عقابيلها!. وهذا الذى حدث كان بقية من فلسفة الحكم التركى فى معاملة الشعوب على عهود الغشم والافتيات. إذا كان السلطان يعد نفسه المالك الطبيعى للأرض. أليس هو النائب الشرعى عن مالك الملك سبحانه؟؟. فله إذا حق التصرف فيها كيف يشاء. ونبادر فنثبت حكم الإسلام فى هذا الفهم العجيب، وهذا التلصص الحكومى البائد. قال رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ:( من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، لم يكن له خادم فليكتسب خادما، وان لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا ). قال أبو بكر: أخبرت أن النبى صلي الله عليه و سلم قال:( لا من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق ) !! فهل هذا الهدى النبوى هو الذى اعتمد عليه السلاطين فى السطو على الأرض، ومصادرتها من أصحابها، واعتبار أنفسهم ملاكا فيها نيابة عن الله؟ والله- عز وجل- لا يعتبرهم إلا أجراء لدى جمهور المسلمين فحسب!!. ما حدث لها وما ينبغى أن يحدث لها: لا تسمع الآن إلا أصوات خافتة قليلة تهمس بضرورة توزيع الملكيات الكبيرة، وتقييد ما يملك منها فى المستقبل. وقد قدم مشروع برلمانى بذلك، غير أنه قوبل بصدود بال، وانتهزت أول فرصة للتخلص من صاحبه . ص_129(1/90)
وسمعت صيحات الاستنكار جهيرة من رجال الدنيا، ومن رجال الدين!!. كأن التفكير فى ذلك إثم يشين صاحبه، والله يعلم أين يستقر الإثم، أفى السكوت عن مداواة المرض المستفحل؟. أم فى الطب له ومحاولة إنقاذ الأمة من براثنه؟؟. لقد جاء على الملكيات الزراعية حين من الدهر كانت كلها فى يد الوالى، ورفعت عنها أيدى أصحابها الذين عاشوا فوقها كادحين وماتوا تحت ثراها لاغبين. وسوغ ذلك بأنه إجراء اقتضته المصلحة العامة!. ثم عجزت الإدارة بعدئذ عن استقلال الأرض ففكرت أن تعيدها على الشعب من جديد، مرتبطة بأثقال فادحة من الضرائب والإتاوات. فكان الناس يفرون من الملك ومغارمه!. ثم وزعت بطريقة الإقطاع أو الاستيلاء أو الشراء الصورى ، وخضع توزيعها للحظ الذى: يعطى ويمنع لا بخلا و لا كرما لكنها خطرات من وساوسه! فكانت النتيجة التى سجلتها الإحصاءات المتكررة، أن عشر معشار المصريين يملكون تسعة أعشار الأرض، والباقى يملك العشر الأخير، الفاضل من نصيب الأسد. *** يقول أحمد عرابى: " تولى إسماعيل ولاية مصر، فأمر بجمع العساكر وترتيب الآلايات وعندما تكامل حشد العساكر فى ميدان طرة بسفح المقطم وأقيمت تمرينات حربية حضرها الخديوى إسماعيل وجميع رؤساء العسكريين، ولشد ما أدخلت السرور على الخديوى حتى دعا جميع الضباط العظام إلى مأدبة فخمة على ظهر سفينته البخارية، ولم يكد يأخذ القوم مجلسهم حتى وجدوا على المائدة عدة زجاجات مملوءة بأنواع المشروبات الخمرية المحرمة والكئوس المختلفة، وتلك حالة لم يسبق لنا رؤيتها لأنها غير المألوف والمعروف عندنا.. ". ويستطرد عرابي فى مذكراته فيقول: ".. وبعد الفراغ من تناول الطعام أعلن الخديوى سروره وشكره لضباط الجيش على ما أبدوه من النشاط وحسن الترتيب فى ص_130(1/91)
أثناء التمرينات الحربية، وأمر لكل واحد من الباشوات بخمسمائة فدان، ولكل من أمراء الآلايات بمائتين، من زيادة المساحة التى توجد فى بلاد مديريتى الغربية و المنوفية.. ". ثم يقول عرابى: ".. خرجت الأوامر من المعية الخديوية إلى المديريتين المذكورتين بتسليم الأراضى المذكورة على أصحاب الرتب المختلفة، ولكن عند الشروع فى استلام تلك الأطيان ظهر بأكمل معانيه. فقد كان يتوجه كل واحد من المندوبين من طرف المنعم عليهم بأمر من المديرية إلى بلد يختارها من أحسن البلاد تربة، ويطلب تحديد المقدار المعين قطعة واحدة فى أخصب حوض من الأراضى المملوكة لأربابها فيجاب إلى طلبه، ثم يحال المالكون الضعفاء على الحيضان الأخرى التى توجد بها زيادة المساحة، وقد لا توجد حيث يخصص مقدار الأرض المأخوذة منهم على جميع الأفدنة الموجودة فى البلد، فيخص الفدان الواحد قيراطان أو ثلاثة أو أربعة فتؤخذ من الكل وتجمع فى جهة وتعطى لأولئك المساكين بدلا من أراضيهم التى كانوا يملكونها، وقد تكون هذه الأراضى من أردأ أنواع الأرض.. ". ويعلق عرابى على هذه الواقعة فيقول: " وتلك أول مظلمة من المظالم الكبيرة التى وقعت فى عهد إسماعيل ". *** وأكثر من هذا فقد امتد تسلط الملك السابق على أعيان الوقف ذاتها يمسخها ويبدلها ثم ينتهى بها المطاف آخر الأمر لتكون ملكا خالصا له.. رقبة ومنفعة، ومثل واحد يغنى عن كثير فى هذا المقام. فى تفتيش المطاعنة بمديرية قنا 818 فدانا لوزارة الزراعة تجاور 4.09 فدان فى نظارة الملك السابق وقد رأى أن يضم هذا القدر الذى لوزارة الزراعة إلى الآلاف الأربعة التى تحت نظارته فصدر أمر فى 25 سبتمبر 1946 بأن تتسلم الأوقاف الملكية الخصوصية من وزارة الزراعة 818 فدانا و 9 قراريط و7 أسهم قدر ثمنها بمبلغ 204.569 جنيها و 388 مليما واقع الفدان 250 جنيها بما عليها من مشتملات ، وبعد شهر تقريبا بدأت المساومات فى البحث عن الوسيلة التى يدفع(1/92)
بها ثمن هذه الأرض، وانتهى الرأى فى 17 أكتوبر سنة 1946 على أن تشترى مصلحة الأملاك ص_131
136 فدانا وكسورا من وقف " قوله " الخيرى. وهى مجاورة للجهة القبلية لقصر القبة، وتضمها إلى هذا القصر بدعوى أنه ملك للدولة. و إن كان الملك هو الذى يعيش فيه ويتمتع به، وقدر ثمن الفدان من هذه الأطيان بمبلغ2000 جنيه وبلغت جملة الثمن 253229 جنيها و 166 مليما وفى مقابل ذلك يضع الملك يده أيضا على مساحة أخرى قدرها 31833 فدانا وكسورا تابعة لمصلحة الأملاك فى نواحى الحامول وكفر الجرايدة وعزب الشطوط. وبذلك تكون الصفقة قد تمت على الوجه الآتى: أولا: وضع الملك يده بوصفه صاحب الولاية العامة على الأوقاف، على 818 فدانا وكسور تابعة لوزارة الزراعة بجهة المطاعنة، وعلى 3383 فدانا وكسور بتفتيش الحامول ، تابعة لمصلحة الأملاك، أى أكثر من أربعة آلاف فدان فى مجموعها. ثانيا: دفع الملك السابق ثمن هذه الأرض جميعها بأن قدم لمصلحة الأملاك 136 فدانا من وقف قوله ضمها إلى قصر القبة كما دفع فرق الثمن من أموال بدل الأوقاف الخيرية التى فى نظارته. ولما كانت الأطيان التى وضع الملك يده عليها فى جهة المطاعنة وفى تفتيش الحامول وهى تبلغ4000 فدان كما قدمنا هى لحساب الأوقاف الخيرية التى استبدل بها الى 136 فدانا من وقف" قوله " الخيرى فقد رأى الملك أن يجعل هذه الأطيان ملكا خاصا له بأن استبدلها بأطيانه الخاصة فى تفتيش أدفينا وقفا خيريا وجعل ما استولى عليه من وزارة الزراعة ومصلحة الأملاك ملكا خاصا له، وهذا كل ما كان يبغيه الملك السابق من هذه العملية الطويلة المرهقة وبها تخلص من تفتيش " أدفينا" وهو أرض مستصلحة كثيرة النفقات قليلة المحصول وأخذ بدلا منها 4000 فدان من أجود الأطيان فى الوجهين القبلى والبحرى. فهل يعتبر تقييد الملكيات نداء آثما فى مثل هذه الأحوال المريبة وبين هذه الطبقات الكئيبة؟. فإن يكن هذا إثما فما تكون العدالة والاستقامة(1/93)
والحسنى فى معالجة الأمور؟ ثم هناك الأرض الواسعة التى تملكها المرابون الأجانب. إن تجاهل الطرق الخبيثة التى تمكن بها هؤلاء المرابون من طرد الفلاحين عن زراعتهم ليس إلا تجاهلا لنصوص الإسلام نفسها. ص_132
فما أخذ هؤلاء الأرض إلا نظير الديون الفاحشة الربا، والأرباح المركبة البعيدة عن التصور التى فرضوها. فكانت الجنيهات القلائل يخرجها الخواجة المقرض، لتصطاد له بعد سنين أفدنة بأسرها. ومبالغ الربا فى نظر الإسلام، كديون القمار فى نظر القانون، لا يجوز الاعتراف بها ولا بما ترتب عليها. فطرد هؤلاء الأجانب من الأملاك المصرية واجب محتوم!. ثم هناك الأرض التى أقطعتها الحكومة للشركات المستغلة فى شمال الدلتا وغيرها كيما تقوم على إصلاحها، فاستخدمت هذه الشركات جماهير الفلاحين المدربين الذين استماتوا فى تحويلها إلى جنان ناضرة. ثم أخرجوا منها بالأساليب المنحطة التى اتبعت فى تسعير الأرض وتقسيط ثمنها فاستردتها الشركات من جديد، مع أن الذين أصلحوها هم أحق الناس بملكها على مقتضى القاعدة الشرعية:"من أحيا مواتا فهو له ". إن مضى الزمن، وتنقل المواريث لا يحل الحرام، ولا يبيح المحظور، ولا يسلت السرقة صفتها الأولى ليوارى سوءتها فى لباس خداع. والإصلاح الدينى لذلك الفساد، واسع لمن شاء الأخذ به: (فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) فى إطار أسود! بين صدور الطبعة الأولى والطبعة الثانية من هذا الكتاب، نقل إلى اللغة العربية كتاب " الأرض والفقر فى الشرق الأوسط " اعتمدت فيه مؤلفته " دورين وورنر " على منشورات المؤسسة الملكية للشئون الدولية بلندن. والإنجليز هم طليعة خبراء العالم فى فهم المشاكل الاقتصادية لهذا الجزء الحساس من العالم. ولهم سياسة خاصة فى تعقيدها أو تهوينها على النحو الذى يخدم مصالح امبراطوريتهم وحدها. ص_133(1/94)
ونحن نقتبس فقرات مما يخص مصر، ويتفق مع رأينا الذى أثبتناه فى غير ما كتاب من كتبنا، تقول المؤلفة: "ومع أن الإنتاج الزراعى فى مصر لا مثيل له فى العالم كله من حيث مقداره، إلا أن دخل الفلاح فيها أقل دخل فى أقطار الدنيا كلها، ومن المؤكد أنه أدنى دخل للفرد فى أى قطر أخذ بأسباب الزراعة الحديثة ويتمتع برأس مال كبير. أضف إلى ذلك أن ظروف الفلاح المحيطة به رديئة جدا، فالأمراض الوبيلة التى تهدد حياة الناس سببها ما يتبع فى البلاد من أساليب الرى. وليس للناس من مستوى للحياة. فالوجود فى هذا العالم هو المستوى المقبول عندهم. وأى شىء دون ما يعيش فيه الفلاحون معناه الهلاك ". وتقول الكاتبة: " إن أسهل السبل وأقصرها للتغلب على مشكلة الفقر هى أن تنهج مصر نهج بلاد شرق أوربا، فتسارع إلى تقسيم ما لديها من أراض زراعية على الذين لا يملكون أرضا من الفلاحين، أو الذين يملكون قطعا صغيرة لا يكفى إنتاجها لسد أودهم ". ونحن لا نعرف النظام الذى تعنيه الكاتبة بالضبط، وما نقترحه نحن لمشاكلنا ينبع من فكر إسلامى مستقل، ونحن نؤيد المؤلفة كل التأييد فيما تقوله بعد ذلك: " لا توجد فى بلاد العالم عوائق سياسية تحول دون تحقيق هذا الإصلاح أقوى مما هى فى مصر. فالباشوات المصريون المهيمنون على ما تنتجه البلاد والمتمتعون بثرواتها وخيراتها والقابضون على مرافق القطر بأيد من حديد يفعلون بها ما يشاءون. وهم يعارضون أى إصلاح من شأنه أن يرفع مستوى المعيشة، كما أن فى البلاد كثرا من الإقطاعيات الواسعة، تمتلكها شركات كبرى. وقد زالت الروابط الإنسانية من علاقات هذه الشركات بمستخدميها وعمالها ومع أن الحكومة تسيطر سيطرة تامة على الإنتاج إلا أنها لا تستعمل سلطاتها للحد من بأس أصحاب الأرض. لأنها تمثل فئة الملاك من الشعب ". *** ص_134(1/95)
وتعود بنا المؤلفة القديرة إلى الصفحة المنطوية من تاريخ مصر الحديث فتقول: " إن ما جرى فى وادى النيل من أحداث خلال القرن الماضى أدى إلى دعم سيطرة الملاك وزيادة بأسهم. فقد تمخضت الإصلاحات التى قام بها محمد على باشا عن الإقطاعيات الكبيرة. ولئن قضت تلك الإصلاحات على سلطان جباة الضرائب الذين كانوا يسيطرون على البلاد أيام الحكم العثمانى فإنها عوضتهم ما فقدوه من سلطة أراضى واسعة. ثم ضاعف هؤلاء أملاكهم بما أضافوه من مساحات جديدة ". ثم قالت " وفى عهد إسماعيل ملكت تلك الأراضى إلى الأغنياء تمليكا نهائيا وقد تضاعفت الأراضى الزراعية خلال القرن التاسع عشر بنسبة 70% مما كانت عليه قبلا ويمتلك أغلبها الأغنياء المصريون. وجاء دور الاحتلال الأجنبى فقوى سلطة الأغنياء ـ بل أعطى الخونة من أتباعه مقدارا آخر من التفاتيش والعزب ـ. ولا ريب أن الحركة الحقيقية التى عرفتها مصر و التى كان يؤمل منها الخير للبلاد هى ثورة عرابي باشا الذى كان هو نفسه فلاحا. ولكن الإنجليز- لاحظ أن الكاتبة الإنجليزية- لكن الإنجليز أخمدوها بقصفهم مدينة الإسكندرية عام 1882.. ". وتستطرد الكاتبة الموفقة فتقول: ".. ليس من أمل لإصلاح نظام ملكية الأرض حتى ولو كان ذلك على نطاق محدود ما دام توزيع الثروة وأسلوب الحكم باقيين بشكلهما الراهن. إن إصلاح نظام ملكية الأرض يتوقف على إحداث تغييرات سياسية جوهرية، وإلا فستصبح مشكلة الأرض يوما ما الدافع الرئيسي إلى قيام ثورة فى البلاد " أهـ *** ونحن نكره الثورات. ونكره ما يؤدى إليها من عوج وفوضي، وما يعقبها من مذابح ومظالم. ويزداد كرهنا لهذه الثورات إذا كانت حمراء، أنها تحرق وحى السماء إلى جانب ما هاج أحقادها من غبن وافتيات. ص_135(1/96)
والأسلوب الذى نؤثره تغليب الروية على النزق. ولعل الحكمة تسود الموقف آخر الأمر. وقد ساءنا ما ذكره المعرب الأستاذ حسن السلمان عن أحوال العراق- وهو بصدد الكلام عن إمكان هجرة الأيدى العاملة من مصر-. فقد قرر حاجة العراق إلى فلاحينا الذين لا أرض لهم!! ثم استدرك: ( لكن ذلك يتوقف إلى حد بعيد على إحداث تغييرات سياسية فى هذا القطر أيضا. و إلا كانت الهجرة إليه بمثابة نقل الفلاحين المصريين من عبودية إلى عبودية أخرى... ". أرأيت ؟؟. إن المسلمين بشر حال فى كل مكان!!. وليهنأ كبراؤنا مع آفاقهم المذهبة.. هناك، بعيدا عن الفاقة والحرمان. فوضى التمليك ونكبة فلسطين: يخطئ من يحسب الهزيمة الشنعاء التى لحقت بالمسلمين فى الأرض المقدسة حدثا عارضا، أو طعنة وجدت منفذها الدامى من جسم مكتمل سليم!. فالحقيقة أن العار الذى صبغ وجوهنا فى هذه الجولة الأولى من مأساة فلسطين. كان نتيجة متوقعة أو محتومة للأسباب الكثيرة التى تجمعت من قبل فى أحوال الأرض التى اغتالها اليهود، وفى أخلاق الأهلين الذين عاشوا فوق هذه الأرض. إن مشكلة فلسطين كانت نتيجة أخطاء القرون السابقة!. من الذى باع أرض فلسطين لليهود، وأمضى بيده صكوك البيع للبقاع الشاسعة التى بنى عيها اليهود مستعمراتهم الحصينة؟. من الذى قدم لليهود الدعائم التى بنوا عليها دولتهم فى صمت؟ والتى استطاعوا منها الوثوب على بقية فلسطين وتضييق الخناق على أهل البلاد. والجيوش التى ذهبت لإنقاذهم- كما يقال-؟. إن الذى فعل ذلك هم كبار الملاك!. هم طبقة الأفندية الذين يساوون فى مصر طبقات الباشوات!. هم أصحاب الإقطاعات التى منحت لهم أو لآبائهم بالجبت والطاغوت، منحها إياهم السلطان التركى أو نوابه من اللصوص. ص_136(1/97)
هؤلاء الغرباء على الأرض وعلى الزراعة وعلى العمل والإنتاج هم الذين باعوا لليهود أرض الوطن ليضيع الوطن كله ـ من بعد ـ. أما الفلاح الذى يملك القليل وتربطه بأرضه الضيقة أقدس روابط الألفة والحياة والمحبة فقد ظل بأرضه حتى قتل فيها أو طرد منها. وهكذا تحمل المساكين فى الحرب والسلم خطايا الكبراء الحاكمين. خيانة وكبر! ومن أعجب ما يصور لك سفالة هؤلاء ( الأفندية) من باعة الأرض لليهود، ويوضح لك نظرتهم الحقيقية إلا جمهور الشعب أن أعرابيا من البدو انتقل ـ بسحر ساحر ـ من صفوف العامة إلى صف أصحاب الثراء والجاه. وعلم الأعرابى المحظوظ أن واحدا من ذوى الإقطاعات الكبرى يريد أن يبيع أرضه لليهود، فأرسل إليه يعرض أن يشترى منه الأرض بالثمن نفسه الذى عرضه السماسرة والصهيونيون. ولكن ابن الكرام سليل الحسب والنسب هاج وماج لهذه المساومة. وأبى أن يكون الطرف البائع فى صفقة يكون طرفها الآخر فلاح مهين!! إن انتقال الأرض لليهود أشفى لنفسه وأحفظ لكبره. هذه الفجوة العميقة بين المترفين والكادحين التى تجعل المهابة نصيب العامل والاعتزاز نصيب العاطل، رأيتها فى مصر كما علمتها فى أقطار العروبة الأخرى. حتى لقد كانت أواصر المودة تنعقد بين أعيان الريف وبين " الخواجات " النازحين إلى بلادنا للاشتغال بالربا!. ربما مر الواحد منهم( بالخواجة ) فلوى يده بالسلام باشا. فإذا مر بفلاح فقير تجهم وانتفخ وأدبر واستكبر.!!! وهكذا يكون الإسلام فى بلاد الإسلام!!. تشابه نظام الوقف والنظام الشيوعى! تبلغ مساحة الأرض الموقوفة سُبع مساحة المزروع من أرض مصر كلها، وهذا قدر كبير من الثروة العامة يستحق منا النظر العميق والتفكير الطويل. ص_137(1/98)
ونظام الوقف يعنى إبقاء عين الأرض محبوسة على الجهة المعينة لها إلى قيام الساعة. فلا يمسها تصرف ما، وتنفق غلتها فى المصارف التى حددت لها، من نواحى الخير الموجودة أو التى ستوجد!. والوقف نوعان خيرى وأهلى: أما الوقف الخيرى فجائز باتفاق الفقهاء، وقد أقره الرسول، ولم ير به بأسا ( فقد أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبى صلوات الله عليه وسلامه وقال: يا رسول الله: أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندى منه، فكيف تأمرنى به؟. فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فتصدق بها عمر رضي الله عنه ، أنه لا يباع أصلها ولا يورث. للفقراء والقربى والرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف.. ثم اتفقوا أنه لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا غير متأثل مالا ". ولقد عرف المسلمون أن الإسلام دعا إلى الوقف الخيرى من حيث كان دين فطرة ثم من حيث دعا دعوة ملحة إلى البر بالناس و إلى الصدقة الجارية فى نصوص كثيرة منها قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له )، فمضوا بهدى الفطرة وآداب الدين يقفون أموالهم على المستشفيات وعلى المساجد وعلى التكايا والأسبلة وعلى دفن الموتى وختان الأطفال وعلى إعانة الفتيات على الزواج وعلى التعليم والسياحة فى الأرض والرحلة لأداء فريضة الحج وعلى كفالة الفقير واليتيم المحروم وعلى كل غرض إنساني شريف، بل لقد اشركوا فى برهم الحيوان مع الإنسان. ولقد تأخذ أحدنا الدهشة وهو يستعرض حجج الواقفين ليرى القوم فى نبل نفوسهم ويقظة ضمائرهم وعلو إنسانيتهم بل فى سلطان دينهم عليهم وهم يتخيرون الأغراض الشريفة التى يقفون لها أموالهم ويرجون أن تنفق فى سبيل تحقيقها هذه الأموال. وربما استشرفت نفوس إلى أمثلة من هذا البر يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة أسوق هذه الأمثلة. ص_138(1/99)
وقف الزبادي: وقف تشترى منه صحاف الخزف الصينى فكل خادم كسرت آنيته وتعرض لغضب مخدومه له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور ويأخذ إناء صحيحا بدلا منه وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه. وقف الكلاب الضالة: وقف فى عدة جهات ينفق من ريعه على إطعام الكلاب التى ليس لها صاحب استنقاذا لها من عذاب الجوع حتى تستريح بالموت أو الاقتناء. وقف الأعراس: وقف لإعارة الحلى والزينة فى الأعراس والأفراح يستعير الفقراء منه ما يلزمهم فى أفراحهم وأعراسهم ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه، وبهذا يتيسر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلة لائقة ولعروسه أن تجلى فى حلة رائقة حتى يكتمل الشعور بالفرح وتنجبر الخواطر المكسورة. وقف المغاضبات: وقف يؤسس من ريعه بيت ويعد فيه الطعام والشراب وما يحتاج إليه الساكنون تذهب إليه الزوجة التى يقع بينها وبين زوجها نفور وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من الجفاء وتصفو النفوس فتعود إلى بيت الزوجية من جديد. وقف مؤنس المرضي والغرباء: وقف ينفق منه على عدة مؤذنين من كل رخيم الصوت حسن الأداء فيرتلون القصائد الدينية طول الليل بحيث يرتل كل منهم ساعة حتى مطلع الفجر سعيا وراء التخفيف عن المريض الذى ليس من يخفف عنه وإيناس الغريب الذى ليس له من يؤنسه. وقف خداع المريض: وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة فى المستشفيات وهى تكليف اثنين من الممرضين أن يقفا من المريض بحيث يسمعهما ولا يراهما فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيرد عليه الآخر: إن الطبيب يقول إنه لا بأس به مرجو البرء ولا يوجد فى علته ما يشغل البال وربما نهض من فراش مرضه بعد يومين أو ثلاثة أيام. ص_139(1/100)
وهكذا سلك الواقفون كل مسالك الخير فلم يدعوا جانبا من جوانب الحياة دون أن يكون للخير نصيب فيه. وهم بهذا إنما يصدرون عن إحساسات إنسانية عميقة تنفذ إلى مواطن الحاجة التى تعرض للناس فى كل زمان ومكان، ولا شك أنه قد كان للدين أثر كبير فى إيقاظ هذا الوعى الاجتماعى وتوجيهه إلى التساند والتكافل الذى لا تقوم الأمم إلا به ولا تحيا الشعوب حياة كريمة إلا فى ظلاله. البر على هذه الصورة أرضى للنفس وأروح للقلب إذا كان موصولا لا ينقطع، دائما لا ينتهى. ولهذا آثر كثير من المحسنين أن يكون إحسانهم على هذه الصورة الدائمة المتصلة، وعلى مر الأيام وتعاقب الأجيال كثرت الأوقاف وأصبح لها كيان بارز فى الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى كل قطر من الأقطار. إن بذور الخير التى كمنت دهرا فى أطواء هذا الوقف، تفتحت أزهارها ونضجت أثمارها فى القرون العجاف التى عاشت- فقط- أمجاد الماضين، وبرهم الباقى! أجل، فقد جاء العصر الأخير وهذه الأوقاف تجبر المكسورين، وتنقذ الغارمين، وتكفل الأرامل واليتامى، وتصل بأولاد الفقراء إلى المراحل العليا من التعليم، وتسد حاجات للمجتمع الإسلامى لم يستطع المعاصرون الوفاء بها أو القيام عليها!. وبرغم أن ولاة هذه الأوقاف أفادوا الكثير منها لأنفسهم ومأربهم إلا أن ينابيعها الثرية ضمنت الحياة لعشرات ومئات من المعاهد والمستشفيات وألوف من الأسر الفقيرة، وألوف من المساجد وغيرها من المؤسسات الدينية الخالصة. من أجل ذلك بذل الاستعمار- حيث نزل- جهودا قوية لبعثرة هذه الأحباس، وحل ما وثقته الأيام من عراها وشن حملات متتابعة عليها حتى تنقطع جهات الخير عن الموارد التى تمدها بالحياة، بل عن الضمانات التى تكتب لها البقاء... وذلك ما يريد!!. ونحن ننبه إلى أن الوقف الخيرى عمل مبرر وسعى مشكور، وأن أصحابه رجال يستحقون كل إجلال وتكريم، وأن من الواجب على المجتمع احترام نياتهم و إنفاذ وصاياهم فى الحدود التى توائم(1/101)
المصلحة العامة وتوافق تعاليم الدين.. ص_140
وأما الوقف الأهلى ، فقد رفضه فريق من الفقهاء ـ فيهم الإمام العظيم أبو حنيفة ـ بحجة أن يحبس الأموال عن التداول العام مما يضر بالحالة الاقتصادية!. وهذا نظر دقيق لا ريب. غير أن كثيرين من الفقهاء أقروه، ويقوم هذا الوقف على حبس العين بين طبقات من الورثة حتى إذا انقرضوا عادت إلى جهات الخير المعينة لها. وقد غالى الفقهاء بهذا النوع من الوقف حتى جعلوا شرط الواقف كنس الشارع!! فجاء من الواقفين من مزق أحكام المواريث الإسلامية، فأعطى الأبناء وحرم البنات، والفقهاء ساكتون فى انتظار فناء الجميع، لتظفر جهات الخير بالتركة المرتقبة! و ينتظر أن يتخلص المسلمون من هذا النوع من الوقف... *** والذى يعنينا أن الفقه الإسلامى سمح بأن يحبس أصل الأرض وأن تبذل ثمارها للمستحقين، وهذا ما توسع الشيوعيون فى تطبيقه وتنفيذه، فأصبحت الأرض عامة لا يمسها هنالك بيع ولا إرث وأصبح الشعب كله مستحقا فيها!.. فهل يا ترى تشبه حال المستحقين هناك حال مستحقى وزارة الأوقاف هنا؟؟. ذاك ما يترامى إلينا خلال الأنباء الواردة إن كان الأمر كذلك، فقد آن الأوان لينفخ فى الصور!.. و إلا فعلى النظام الشيوعى أن يطلب رد اعتباره من نظام الوقف المصرى الذى يطعم فيه الموظفون ويجوع فيه المستحقون!!. وهذه المقارنة لا نرمي بها إلا لفت النظر إلى العاطفة الإنسانية العريقة، المتغلغلة فى تعاليم هذا الدين نحو الفقراء واليتامى والمتعبين، مما جعله يؤبد بعض موارد الإحسان على صورة مست النظم الحديثة فى فكرتها وتصميمها، و إن خالفتها فى نواح عدة!. والعيب عندنا دائما ينبت من سوء الفهم وسوء العمل، وقد تأمر هذا وذاك على إحاطة نظام الوقف بإطار أسود يوحى بالرجعية والفساد والمظالم. و يشير إلى أن المستحقين فيه آخر من ينتفع به!!. ص_141(1/102)
أحكام المواريث: ومن العوامل الدائبة على تقسيم الملكيات الكبرى وتحطيم كتلتها، نظام التوريث الإسلامى الذى يجزئ التركة أرباعا وأثمانا وأثلاثا وأسداسا. وقد وضع حزب العمال الإنجليزى فى برنامجه الاشتراكى أن يتجه بالمواريث الإنجليزية هذه الوجهة. إذ أن التركات والألقاب هناك من نصيب الابن الأكبر وحده لتبقى الثروات على ضخامتها الأولى، فتبقى للأسر الأوتوقراطية دعامتها المادية التى تعتز بها وتشمخ. ولكن أغنياء المسلمين لا يميلون إلى الأخذ بأحكام كتابهم فى هذا الموضع، فهم يحتالون بإجراءات مصطنعة للفرار منها. فتارة يحرمون البنات. وتارة يفضلون وارثا على وارث. وما أكثر عقود البيع الصورى التى تنجو بها الملكيات الكبرى من هذا التوزيع الواجب. مع أن الرسول صلي الله عليه و سلم قال: " الإضرار فى الوصية من الكبائر" ، ثم تلا قوله تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها... ). هذه الحدود المذكورة هى أنصبة المواريث فى قوله من قبل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين …). وروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف فى وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فإذا أوصي عدل فى وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ". ص_142(1/103)
وهذه الآثار إنما يقصد بها قطع دابر التدخل فى التوريث الإلهى للأهل والأقربين. على أن نظام التوريث ليس إلا عاملا ثانويا فى تدعيم الاشتراكية الاجتماعية التى يجب أن تسود، حتى لا ينقسم البشر المتساوون، إلى سادة وعبيد. أما العامل الأول فهو مراقبة مبدأ الملكية نفسه، وملاحظة مدى إفادة المجتمع من إطلاقه وتقييده. وإصدار التشريعات المتصلة بذلك لتعمل عملها الحاسم حين الحياة وبعد الممات!!. وقص أجنحة الثروات المتزايدة بفرض الضرائب وأخذ الصدقات. وبذلك يحال بين الترفع الأوتوقراطى وبين دعائمه المادية الخبيثة. موقف الشيوعية من مبدأ الوراثة: والشيوعية ترفض نظام التوارث المشروع عندنا. بل إنها تحارب مبدأ التوريث نفسه ولا تكاد تقره إلا فى توافه المتاع. وحجتها الأولى والأخيرة: أن الميراث قد ينتقل أموالا طائلة لمن لا يستحقون بعملهم شيئا منها. وذلك ينافى العدالة، وينافى مبدأ تكافؤ الفرص، ثم إن أولاد الأغنياء لهم فى ثرواتهم الموروثة تصرفات أضرت بالمجتمعات وزحمتها بأفانين من العبث والسخف.. هذا كلام عليه مسحة من الصدق، بيد أنه مغشوش لمن فطن إلى جوهره... لو كانت المواريث تنقل الأموال فقط من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة لأمكن عد ذلك من الأمور التى تقاوم الطبيعة فيها- لو أمكن أن تقاوم- . ولكن الوراثة سنة ثابتة مطردة تنقل مقادير هائلة من الخصائص والصفات المادية والمعنوية، وتحملها بأمانة عن الموتى المدبرين إلى ذراريهم الناشئين. ص_143(1/104)
وقوانين الوراثة معروفة فى علوم الأحياء والاعتراف بآثارها لا مندوحة عنه والمجتمعات كلها تعترف بالذكاء والنباهة والقوة ـ وهى بعض ما يورث ـ وتقدم ذويها ـ . وتحتقر الغباء والبلادة والضعف ـ وهى بعض ما يورث كذلك ـ وتؤخر ذويها ـ . ومبدأ تكافؤ الفرص لا يتدخل فى توزيع المواهب على البشر!. والمال الموروث من أيسر الشئون التى يستطاع التحكم فيها حتى لا تضار الأمة به. فالإسلام الذى حدد لكل وارث حظه من التركة، وضع من القوانين ما يمنع سوء التصرف فى هذا النصيب الموروث. فسد أبواب الحرام فى المجتمع حتى لا يمكن إنفاقه فى حرام. وقدر مصارف الحلال للفرد حتى إذا جنح بعدها إلى تبذير ومتلفة أمكن الحجر عليه إلى أن يرشد. ومن ثم يتضح أن المال الموروث ـ فى ظل الإسلام ـ لا يميل ذرة بموازين العدالة، وأن سبيله سبيل غيره من روافد الوراثة الأخرى، بل لعله أقلها خطرا. فالزعماء الذين ورثوا الفقر والذكاء تخلصوا من أوزار الفقر ومضوا صعدا إلى القمة. وهناك من ورثوا فى دمائهم جراثيم الدعارة والت إليهم ثروات طائلة وملك عريض... فما هى إلا أيام حتى ضاعت أملاكهم ثم هووا إلى الحضيض...!. *** على أن الإسلام الذى أقر مبدأ التوارث المالى رفض بشدة مبدأ توارث الزعامات الروحية أو المدنية أو غيرها. فعندما اختار الله " إبراهيم " ـ عليه الصلاة والسلام ـ نبيا، طلب منه هذا النبى الكريم أن تتنقل نعمة هذا الاختيار فى بنيه، فأبى الله عليه ذلك: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) ص_144(1/105)
وتعاليم الإسلام تقطع دابر هذا التوريث، ولا ترشح للزعامة إلا أهلها الذين يدركونها عن جدارة وكفاية. غير أن المسلمين لهم فى ذلك تقاليد جنونية فى منتهى السخف. بل أحسبها نزعة من نزعات الوثنية المخرفة تسرى إلى الأمم فى إبان الضعف والسقم. وليس لأمتنا أى عذر فى الخبط!. إن المتصوفة فى بلادنا يتوارثون مشيخة الطريق!. ويكتبون أوراقا طولها عدة أذرع مملوءة بالأنساب التى تصلهم إلى فلان أو فلان. وفى مصر جمعيات دينية أسسها جد، وورثها ابن وينتظر رياستها حفيد. وقد كان شيخ الإسلام فى تركيا يلد شيخ الإسلام المرتقب. والقائد المظفر يلد القائد المظفر. والشرق الإسلامى ملئ بالأسر التى تنتسب إلى آدم أبى البشر المعروف! فهو مخلوق من تراب!. أما هم فسلالات من عنصر آخر لا يدرى كنهه.. لعله النار... وتاريخ هذه الأسر يعرفه- من يطلبه- عندما تمحص الأسباب الحقيقية لتدهور الإسلام والمسلمين منذ بدأ طور الانحلال إلى اليوم. *** ص_145
الفصل الخامس مؤسسات الربا والاحتكار والاستغلال ص_146(1/106)
الدين والربا نصوص الإسلام متضافرة على تحريم الربا، وعلى عده منكرا اقتصاديا واجتماعيا غليظ الإثم. ومن الممكن عده جريمة سياسية كذلك، إذا ثبت أن الغزو الاقتصادى القائم على المعاملات الربوية، كان التمهيد الفعال للاحتلال العسكرى والتجارى الذى سقطت أكثر دول الشرق فى مخالبة الباطشة. فقد اقترض الحكام الشرقيون بالربا. وفتحوا أبواب البلاد للمرابين الأجانب، فما هى إلا سنوات معدودة حتى تسربت الثروة من أيدى المواطنين إلى غيرهم. وقد مرت أيام عصيبة على الثروة العقارية فى مصر، كانت مهددة بالضياع لولا تدخل الحكومات آخر الأمر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولتحريم الربا فى الإسلام ـ بل فى كافة الأديان ـ علل خلقية واجتماعية جديرة بأن تعرف وأن تناقش. فإن الربا عصب الحياة المالية الحاضرة، ودعامة النظم الرأسمالية القائمة. وقد أقصى الدين عن الحياة الاقتصادية لكى تحيا هذه النظم وتبقى وعلى الدين أن يختار أحد نهجين: إما أن يرضى بموقف الخنوع والاستنكار السلبى ويكتفى بالنصائح الروحية التافهة!. وإما أن يصطلح مع النظم التعاونية والاشتراكية الحديثة ويتقدم إلى الميدان بحلول عملية إيجابية. أما محاولة اللعب بالنصوص، وتقديم الفتوى الملائمة. ص_147(1/107)
أو الغفلة عن أخطار الرأسمالية القريبة والبعيدة والتجهم للنزعات الاشتراكية الحرة. فذاك ما لا جدوى منه قط على دين الله ودنيا الناس. ولن يزيد العالم إلا خبالا، بل سيظل يقوم ويقعد كالذى يتخبطه الشيطان من المس. شبهة سقيمة... سألنى رجل قاصر النظر: كيف تقيمون نظاما إسلاميا يحرم الفائدة الربوية مع أن كيان العالم كله يقوم على الفائدة وتسعيرها وتمويل المشروعات الهائلة على أساسها.. ثم أردف: إنكم تخربون ولا تشيدون!. وعجبت- فى نفسى- لهذا الأحمق يحبس نفسه فى دائرة ضيقة، ثم يتساءل: كيف الفكاك منها. كأن العالم إذا أجمع على ترك نظام الزواج جاء من يقول: لا محيص من إباحة الزنا، و إلا انقطع النسل. فإذا قلت له: إن الربا حرام! قال لك: أتريد انقطاع الحياة؟. وأسارع إلى إفهام أولئك المعترضين أن الإسلام ليس وحده الذى يحارب الربا.. إن طائفة كبيرة من مؤسسى الاشتراكية الحديثة ينبذون نظام الفائدة. ويرى " كارل ماركس " مبتدع الشيوعية أن الربا واحد من مظاهر اللصوصية التى تسلكها الرأسمالية فى سلب حقوق الطبقات العاملة. ولما كان العمال- فى نظره- هم المنتجين الحقيقيين فإن بخسهم ثمرة جهدهم بسبب إقراضهم أو تسخيرهم يعد جريمة. وسواء كان المستولون على جزء من أجر العمل ملاكا، أو مرابين، أو منتجين فهم جميعا آكلون لأموال الناس بالباطل . ص_148(1/108)
ومن ثم وجب أن تكون وسائل الإنتاج ملكا للجماعة حتى لا يتحكم فرد فى فرد!!. ونحن نذكر رأى ماركس فى الربا ليعرف الحمقى وأنصاف المتعلمين فى بلادنا أن هناك أنظمة قامت واستوت على أقدامها، وهى تحتقر الربا وأصحابه. فكيف يعجز المسلمون ـ إذا أخلصوا لدينهم ـ عن إقامة صرح اقتصادى لا مكان فيه للربا والمرابين؟؟ ويكون فى جوهره ومظهره إسلاميا بحتا؟؟. ثم إن الربا حرام فى كل دين، وليس فى الإسلام وحده. كان القانون الرومانى يبيح القرض بفائدة، فجاءت الكنيسة الكاثوليكية وحرمته تحريما صارما. إذ جاءت التوراة والإنجيل على السواء بتحريمه. لذلك قام الكنسيون بتحريم المطالبة بفائدة عن النقود لدى إقراضها. فروح الأخوة التى هى أساس تعاليم المسيح كانت من دعائم هذا التحريم. ثم نقل فقهاء القانون الفرنسى القديم هذا التحريم، وعللوه بسبب منطقى، اقتبسوه عن أرسطو ، هو أن النقود لا تلد نقودا، فتكون المطالبة بفائدة عن النقود ضد طبيعة الأشياء. ويقول علماء التشريع الحديث بعد هذا: إن أثر ما تقدم على القانون يبدو فى تحديد سعر الفائدة !. و الذى أعرفه أن اليهود لا يستبيحون التعامل بالربا إلا مع من لا يدين باليهودية. إذ إن الربا عندهم محرم تحريما باتا بنص التوراة. وقد نهى القرآن عليهم تناقضهم مع دينهم فى معاملة الأجانب واستباحة مالهم. أما الدكتور شفيق شحاتة أستاذ القانون المدنى بكلية الحقوق فى كتابه " تاريخ ص_149(1/109)
القانون الخاص فى مصر "، فقد استعرض القانون المصرى من عهد الأسرة الثالثة الفرعونية من سنة 2980 قبل الميلاد إلى سنة 663 ق. م. ثم قال: إن القرض بفائدة لم يعرف فى مصر إلا فى عهد الانحطاط الثانى الذى حدث فى الفترة الواقعة بين 1200 ـ 663 ق. م. وهو ينقل رأى العالم الكبير ريفييو: (إن المصريين كانوا لا يتعاملون بالربا أبدا، فالتعامل بالربا كان مقصورا على الأجانب). وهو يرى أن فكرة الفائدة دخلت القانون المصرى فى عهد الإقطاع الثانى المتقدم ذكره، منقولة عن الكلدان. ويهمنا أن نعلم أن النظام القانونى فى مصر القديمة كان ـ إبان ازدهاره ـ فى منزلة من السمو دونها كثير من النظم القانونية المعاصرة. ومما يستحق العناية أن المصريين القدماء عرفوا مختلف النظم التى يريد العالم أن يجريها الآن، فقد سادت عندهم نظم المذهب الفردى، والإقطاعى، والاشتراكى، وغير ذلك من النظم. ولم يعرفوا خلال هذه المراحل المختلفة التعامل بالفائدة، حتى قيل إنها دست على القانون المصرى فى أواخر أيام الأسر الفرعونية المغلوبة على أمرها!. وذلك بعد أن نكست الأوضاع، وأظلمت الأفكار، وانحطت الأخلاق. وأراد الله لدولة العز أن تزول! ولقرى أمر فاسقوها أن تدمر!. حكمة تحريم الربا: يسعى الدين من وراء تحريم الربا إلى أمرين خطيرين: أولهما: عدم استغلال الأزمات و الضوائق الطارئة وبيع المساعدات فيها بأجر غال أو زهيد. ص_150(1/110)
فإن تغليب العاطفة الإنسانية واجب، ووظيفة المجتمع أن يحمى أبناءه شرور الحاجة، وأن يكفل ضروراتهم الطارئة والملازمة. والأمر الثانى: ألا يوجد أفراد يأكلون من غير عمل، ويربحون من غير كفاح، فإن سرقة جهود العاملين باسم ما قدم إليهم من مال لا يجوز. وقد أسلفنا القول فى ضرورة جعل العمل أساس الدخل والامتياز والتفوق، ولا مانع- شرعا- من مصادرة التصرفات المالية التى تخالف هذا المبدأ، والتى قد يتذرع بها إلى إقرار الربا وإشاعته. وظاهر أن كلا الأمرين لا يتحقق إلا فى جو اشتراكى صحيح، أما ترك المعوزين فريسة سهلة للمرابين، وترك أصحاب الكفايات التجارية ألعوبة فى أيدى أصحاب الأموال المدخرة، فهذا حرام. والإسلام يرسم صورة دامية للاستغلال الربوى الشائن، ويوضح كيف يعيش بعض الناس على كد غيرهم ونشاطه كما تعيش الديدان الطفيلية على غذاء الأجسام الكادحة. وكيف يزدردون سهلا لينا ما احترق غيرهم فى جمعه وتحصيله!. ثم يبين الجزاء المعد لهم يوم القيامة فيقول النبي صلوات الله عليه وسلامه: (رأيت الليلة رجلين أتيانى فأخرجانى إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذى فى النهر، فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل- الذى على الشط- بحجر فى فمه فرده حيث كان! فجعل كلما أراد أن يخرج رمى فى فمه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا الذى رأيته فى النهر؟ قال: آكل الربا ". ص_151(1/111)
أنهار من دماء وقذائف من حجارة، وقمع موصول القسوة والإصرار، وحرب من الله ورسوله بدأت في الدنيا ولم تؤذن بنهاية. فلم أعد هذا كله؟. إن هذا اللون من التعذيب يرمز إلى أحوال مصاصى الدماء من المرابين الذين يرجمون المجتمع بفضل ثرواتهم، فيتركون الحياة فيه جحيما لا تطاق. فهل من عيب على المجتمعات البشرية إذا هى أعادت تنظيم كيانها الاقتصادى من جديد بعيدا عن رءوس الأموال التى لا تعمل إلا بالفائدة. إن الإسلام يرى ـ على لسانه نبيه ـ أن: " درهم ربا يأكله الإنسان، وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية " !! فهل يعنى ذلك إلا أن المجتمع الدينى يحب أن يحيط معاملاته المالية بسياج يمنع هذا الوباء. وأن يقبل كافة صور الاستثمار والاستقلال الاقتصادى التى تبعده عن الربا قليله وكثيره. وأن يدرس ببصر مفتوح الوسائل الحديثة التى يتبعها الاشتراكيون فى الزراعة والصناعة والتجارة وسائر ضروب الإنتاج. الشركات الكبرى: ليس هناك مانع شرعا ولا عقلا ـ من أن يشترك عدة أفراد فى إدارة عمل ما، لكى ينتفعوا به وينفعوا الأمة منه. وقد أقر الإسلام نظام الشركة وفصل الأحكام المتعلقة به فى صوره المحدودة الأولى. وأوجب أن يكون الشركاء أمناء: " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه. فإذا خان خرجت من بينهما وجاء الشيطان " . ص_152(1/112)
ولا ريب أن خيانة الشركاء لأنفسهم دون خيانتهم لجمهور الشعب. وتأمرهم جميعا على اغتيال حقوقه الكثيرة أعظم جرما من تغفل بعضهم للبعض الآخر. فإذا تأسست الشركات وهدفها الأكبر هذه الخيانات الشعبية فهى شركات شيطانية يجب غل أيديها عن العمل، وضبط تصرفاتها فى الحدود السليمة المعقولة. وقد تضخمت الشركات فى النظم الرأسمالية حتى لتضاع ميزانيتها ميزانية بعض الدول الكبيرة. وما كان هذا ليعتبر مثار شكاية ولا موضع مؤاخذة لو أن الأمور جرت مع هذه الشركات فى أوضاعها النزيهة. لكن هذه الشركات تمثل- من وجهة النظر الإسلامية- مجموعة آثام اقتصادية شائنة فهى تقوم غالبا على أساس الاحتكار، والتحكم فى الأسعار، وحرية تحديد أجور العمال وجعل الربا صبغة ثابتة لمعاملاتها المالية العديدة. وقد ضاق العالم ذرعا بهذه الشركات، ونبتت فى أقطار شتى نظم جديدة للاستغلال الاقتصادى الذى يقى الناس شرور هذا الاتجاه الرأسمالى وما فيه من افتيات واضح على مصالح الشعوب وحقوق الطوائف العاملة. وتباينت النظم الجديدة فى تقديرها للصالح العام، وتحديدها للطرق المنتهية إليه. وأبرز ما فى الحياة الغربية الآن " اشتراكية الدولة " و " اشتراكية رأس المال " وهى التى يقوم عليها النظام الشيوعى فى روسيا. إذ يمتاز هذا النظام (بأن الدولة تملك الصناعة وتتولى إدارتها جميعا، فالأرض والمصانع والسكك الحديدية والسفن وخطوط الطيران والمتاجر والمصارف. مثلها كمثل الشوارع والطرق الزراعية عندنا ليست ملكا خاصا لأفراد أو شركات، بل ملك للمجتمع كله. ويديرها موظفون تعينهم الحكومة وتجرى عليهم الأرزاق وتسألهم عن تصرفاتهم). وليس هناك سبيل إلى إحراز المال إلا من العمل فى مصدر من مصادر الثروة المعروفة. ص_153(1/113)
والمادة الأولى من الدستور السوفييتى تنص على أن الاتحاد الجمهورى (هو دولة اشتراكية من العمال والفلاحين). ويبيح القانون الروسى ـ إلى جانب النظام الاشتراكى السائد ـ أن يقوم أفراد الفلاحين ورجال الصناعات اليدوية بأعمال خاصة ضيقة النطاق تعتمد على مجهودهم الشخصى على شريطة ألا يستغلوا فيها مجهودا لغيرهم. أما اشتراكية الدولة فنظام اقتصادى وسط، طبق بأشكال مختلفة فى ألمانيا، وإيطاليا على عهود النازى والفاشيست. ويطبق الآن فى إنجلترا وغيرها مع تعديلات موضوعية لا تغض من الأساس الحقيقى له، و القاضى بإشراف الدولة على المصالح والشركات الكبرى إشرافا مباشرا، ودخولها فى رأس المال بأسهم تزيد على النصف، وتحكمها فى أنواع الإنتاج ووسائله، وتوزيعها للأرباح على الأيدى العاملة توزيعا ينتفى به الجور والحقد، وتقارب به مستويات المعيشة بين الرؤساء والمرءوسين. *** وهذا المنهج الاقتصادى وسط كما ترى بين تعطيل مبدأ الملكية وبين إطلاقه. والناس ـ من الناحية الدينية ـ أحرار فى اختيار الأسلوب الذى ينظمون به دنياهم مادام هذا الأسلوب لا ينطوى على كهوف خفية للمآسي التى تؤثر فى معنوياتهم، و التى تشكل حياتهم تشكيلا كله أغلاط وانحطاط. وقد بين الإسلام الجرائم الاقتصادية التى يحاربها فذكر فى عدادها الربا والاحتكار والاغتصاب. وهذه المآثم تعتبر المعالم الأولى للنظام الرأسمالى الطليق فكيف يبقى ويبقى معه الإسلام؟. إذا حرمنا نباح الكلاب وعواء الذئاب فالطريقة المثلى للتنفيذ أن تعدم الكلاب والذئاب؟ لأنها ما دامت حية فستنبح وتعوى. والنظم التى نبحت الإنسانية، وقطعت طريقها، وأنشبت فيها أظافرها وأنيابها، هى هذه النظم المحتكرة للأقوات والمصالح، المحتقرة للشعوب، والطبقات العامة، المتسلطة بالجبروت على المال تعبث به وتملأ به الأرض فسادا. ص_154(1/114)
وعندما يصدر الحكم بإعدامه يكون الناس قد استجابوا حقا لرأى الدين ونزلوا على رسالاته العادلة. حياة تعاونية أو حياة ربوية: لم يذكر القرآن آية فيها ترهيب عن الربا إلا ذكر معها كلاما يرغب فى المعاونة الصادقة والمساعدة الواضحة لمن يحتاجونها. تارة باسم الزكاة، وتارة باسم الصدقات، وتارة باسم الإنفاق العام فى السراء والضراء جميعا. (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله) (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء) والمفروض أن عقلية الشعوب عندما تسمع ذلك لا تقف فى تطبيق الآيات عند محاربة الصور الجزئية للربا أو مصادرة أحواله العارضة، و إلا كانت عقلية بدائية صغيرة. بل الواجب أن يدور دولاب العمل، وأن توضع له قوانين الحركة، بحيث تكون هناك حاجة ما إلى التفكير فى نظام الفائدة الربوية. ومن ثم فتمويل المشروعات العامة والأعمال الكبرى ينبغى أن يتم عن طريق التعاون الشعبى الذى لا يسمح فيه بإدخال العناصر غير العاملة، و إن ملكت المال ـ ما دامت لا تعيش إلا على الابتزاز والسلب ـ على أن يحمى العمال والمستهلكون من وساطات السمسرة والاحتيال. ص_155(1/115)
ويسترشد فى هذا الشأن بقوانين الجماعات التعاونية الناجحة فى مختلف البلاد وسائر الأنظمة الأخرى. أما الأعمال الفردية فتوفر لها سبل القرض الحسن. أو ليس هذا كان أبقى على كياننا من تصرفات تنتهى بإنشاء صندوف الدين! فتدفع الحكومة الربا بدل أن تدفع غوائله عن الناس. تقسيمات الربا: قسم فريق من الاقتصاديين الربا إلى قسمين؟ ربا استهلاك، وربا إنتاج!. ويقصد بالأول القروض التى تؤخذ لتستهلك فى النواحى الإنسانية البحتة من أطعمة وأدوية ونفقات مدرسية وشبهها. وأخذ فائدة عن أمثال هذه الديون خسة وصغار، ولذلك فهم يحرمونها ـ لأسباب خلقية ـ . أما النوع الثانى وهو ربا الإنتاج فهو عن الديون التى تؤخذ للأغراض التجارية المحضة، ويرون أن الفائدة ـ فى حدود نسبة معينة ـ لا مانع من إقرارها. وهذا التقسيم ليس إلا محاولة لتخفيف آثار الربا وتغطية نصائحه، ومدا لأجل الأنظمة الرأسمالية البالية، وغضا عن أوزارها التى ناءت بها الشعوب. وهذا الكلام خطأ من الناحية الدينية والناحية المدنية معا. فإن الإسلام حرم الربا فى القروض كلها، ما كان منها للاستهلاك وما كان منها للتجارة: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا) ثم حرمه بنسبه كلها فاحشة كانت الفائدة أم خفيفة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) ص_156(1/116)
(وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) فكل ما زاد على رأس المال يعتبر أخذه ظلما. وما يحتجون به من قول القرآن الكريم : (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) لا أصل له، فإن قيد الأضعاف هنا كقيد الإحصان فى قول القرآن: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وانتفاء القيد فى الآيتين لا يبيح الربا فى الآية الأولى كما لا يبيح الزنا فى الآية الثانية. ذاك من الناحية الدينية، أما من الناحية المدنية فلدينا من الأسباب ما يجعلنا لا نغفل فى ربا الإنتاج الجوانب الإنسانية التى لاحظناها فى ربا الاستهلاك. بل هناك ظروف حيوية تجعلنا نحرم الربا بنوعيه فى شتى القروض، فإن التاجر الذى يقترض ليعمل إنما ينفق كسبه فى الغذاء والكساء والدواء وما إلى ذلك فلم يباح الربا فى قرضه؟. على أن الأمر الذى يستحق الذكر والاعتراض القروض التى تطرحها الشركات فى الأسواق المالية سندات محددة الفائدة، فإن هذه السندات تضاعف رأس مال الشركة وتخفف الأرباح التى توزعها على حملة السندات وتنمى الإيرادات الأصلية. مع العلم بأن أكثر الشركات المساهمة صورية، يلتهم أغلب أسهمها وأطيب ثمرتها أفراد لا يتجاوزون عدد الأصابع. ويتناول فتات المائدة بعدهم جمهور الموظفين والعمال، وبذلك يعمل الربا على ترجيح كفة الطبقة المالكة، وبخس الطبقة العاملة، وهو ما لا وجود له قط فى النظام التعاونى الذى طالبنا به آنفا باسم الدين. ص_157(1/117)
وباء..! أينما رميت ببصرك فى جوانب الحياة الداكنة التى نعيش فيها، رأيت شبح الربا ماثلا أمامك. لم يترك عملا اقتصاديا إلا دس فيه أصابعه الصفراء. فالأغنياء يودعون أموالهم فى المصارف بالربا، والمصارف تمنح التجار مساعدتها المالية بالربا، والشركات تطرح أسهمها وسنداتها بالربا، والحكومة تعقد القروض الوطنية بالربا، وتقبل وفور الأفراد بالربا، وتحكم قوانينها على المدينين بسداد الربا، وشركات التأمين تبذل عونها فى الكوارث المفاجئة على أسامى الربا. وهكذا صح ما يروى عن الرسول: " ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره ". والشبكة الربوية العديدة الفروع الطويلة الخيوط المعقدة الاتجاهات المنتشرة فى الحياة العامة انتشار الشرايين فى الجسم يجب أن ندرك لها خطورتها. فإن إنقاذ الأمة منها ليس بالأمر الهين. وهذه الآلة الدائرة قد وكل إليها كياننا المالى كله، ونحن لا نريد تغيير جزء فاسد منها " بقطعة غيار سليمة " فهى للأسف متماسكة الأجزاء، متشابكة الحركة، فلابد من تحطيمها كلها ووضع نظامنا المالى على دعائم أخرى، تكفل له على عجل حياته وازدهاره، وتصون حاضره ومستقبله. إن التأمل القليل، والتفكير القريب، يكشفان عن وجه الحقيقة فى هذه المشكلة. وسنرى عندما نبحث، أن الفساد الخلقى والاجتماعى، وجفاف المعانى الإنسانية من الحياة العامة، ونية الاستغلال والاغتيال عند العاطلين المكتنزين، وقلة الفرص السانحة أمام العاملين المجتهدين، وانعدام العون أو ضآلته لمن يصابون بالنوازل الفادحة. هذا كله هو العامل المباشر لوجود الربا. فهو فى الحقيقة مرض الرأسمالية المشربة بالأنانية الحادة والمنافع الشخصية الجارفة. ص_158(1/118)
أما حيث يوجد التكافل الاجتماعى والنظام التعاونى، وتضيق الحيل فى وجوه الجشعين والمستغلين فلا محل لظهور الربا والمرابين. وذاك ما تعمل له دائما السياسة الاشتراكية الحريصة على مصلحة الجمهور، وعلى سوق أفراده جميعا إلى ساحات الكفاح والجد. من الذى يغلق أبواب الإسلام دون قبول هذه الأفكار الطيبة والآراء المعقولة؟ أهم رجال الدين؟ لا، فما يقبل أهل الدين حياة تغيم صفحتها بسواد كثيف من غبار الربا!. أهم أبناء الشعب؟ لا. فما يقبل جمهور الشعب أن ينغص عيشه بكلب أصحاب المال وهم يضيقون عليه الخناق ويسدون أمامه المذاهب. إنهم نفر قليل من عباد العجل الذهبى ومقدمى القرابين الشعبية على مذبحه. ولهذا النفر الشقى يجب أن يقال: (انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما) *** سمعت كبيرا من علماء الدين يتملق النظم القائمة، ويرى أن الربا ضرورة اقتصادية لابد من السماح بها، وترك الاعتراض عليها و إلا انهارت الأوضاع فى الأمة الإسلامية، وتعرض المسلمون لخراب جلى! وهذا كلام يتطلب إجابة واضحة. فنحن لا نفكر فى وقف دولاب الأعمال، وخنق نشاط الأموال، وتعريض المسلمين لأزمات البطالة، وتمكين الأجانب من دس أصابعهم فى شئوننا الاقتصادية وفق ما يحلون ويحرمون!. إننا نرغب أولا فى تحكيم ديننا، و إنفاذ وصاياه المحددة.. وهذا يقضى محو نظام منحرف وإثبات نظام مستقيم. ولن يبدأ المحو إلا عندما يستطاع الإثبات.. أى أننا لا نهدم الحرام إلا عندما نكون أعددنا البديل الحلال الذى يسد سده.. ص_159(1/119)
أما حرمان المضطر من أكل الخنزير دون تقديم أى طعام آخر يبقى حياته، فهذا حمق.. لكن طبيعة الضرورة التوقيت، حتى يزول ما دفع إليها ويجب أن يزول هذا الدافع لا أن تبذل الجهود لاستدامته!!. فليس معني تحليل الخمر لعطشان بفقد الماء أن تنشأ لها معاصر وتفتح لها حانات..! وإذا كان المسلمون قد تركوا أحكام دينهم، واستطاع المستعمرون أن يلزموهم بقوانين موضوعة تهدم الحدود المقررة وتبيح المحرمات المحظورة، فهذا الارتداد لابد من وقفه، وحسم آثاره.. إن الرضا بحل الربا والزنا وغيرهما من الكبائر هو كفر بواح... وأعرف أن هناك أفرادا، أو جماعات، على جانب كبير من البلادة والفسوق لا تهتم بضياع الكتاب والسنة، ولا يعنيها أن تقوم صلاة أو تؤتى زكاة... وهؤلاء ناس مرتدون يقينا عن الإسلام. والمستغرب أن يكون بين هؤلاء نفر من العلماء الشيوخ!!. إن الوظيفة الأولى لعلماء الدين اليوم إعداد البديل التشريعى والتجارى للقوانين والمعاملات الباقية من الاستعمار الأوروبى. وهذا البديل ميسور لو أردنا أن نعود إلى الإسلام..!! لكن يبدو أن دون العودة إلى الإسلام الحق عقبات وعقبات. وقد كانت هذه العقبات قديما من صنع المحتلين الغرباء. وهى اليوم من صنع الذين تأثروا بهم، وتعلقوا بهم، وتعلقوا بعقائدهم وأفكارهم وكانوا أوقح منهم فى نبذ الدين وإطراح تعاليمه. شركات التأمين: الدلائل منعقدة على أن المعاملات المالية السائدة أصبحت لا تعتمد فى إنقاذ المنكوب و إسعاف المحرج إلا على الطرق الآلية. ويبدو أنها نفضت يديها تماما- بل لعلها تسخر- من فكرة انتظار العون والإنقاذ من جهات البر والخير. ص_160(1/120)
وما الداعى لهذا الهوان؟. إن التاجر يخرج مبلغا محدودا يحتسبه من نفقاته المستهلكة، ويؤمن به على موارد رزقه، فإذا فجأته كارثة وصل إليه العوض السريع وهو مطمئن النفس مرفوع الجبهة. وذاك أجدى على حياته وأصون لكرامته من انتظار الصدقات التى قد تأتى أو لا تأتى على حسب أريحية المتطوعين والمتبرعين!!. ومن ثم أصبحت فكرة التأمين عالمية، تستمسك بها دول شتى وتقوم لها شركات هائلة. وقد جعلت حكومتنا التأمين إجباريا على كثير من الأشخاص والمرافق والدعايات النشيطة دائبة على توسيع دائرته فى كل ناحية. والإقبال عليه يتزايد يوما بعد يوم، والعلة واضحة، فحيث ينعدم التأمين الاجتماعى الكريم يروج هذا اللون من التأمينات المحدثة، مهما اكتنفها من ريبة أو حرمة. ونظام التأمين يقوم فى جوهره على أعمال ربوية. والضرورات التى أوحت به هى الضرورات التى أوحت بإقامة أحفال الرقص لإعانة مشروعات الخير. أى هى خراب المجتمع من العاطفة الإنسانية النبيلة التى تندفع إلى الإحسان من تلقاء نفسها. وفقدان الأنظمة الدينية والخلقية أو بعبارة أصرح: فقدان الأنظمة التعاونية والاشتراكية التى تضع منهاجا شاملا لعلاج الطوارئ الفاجعة و التى تمد رواق التأمين الاجتماعى على حاضر الناس ومستقبلهم فلا يتوجسون فى أنفسهم ريبة، والتى تفترض الرحمة قارة فى القلوب- فإن لم تكن مستقرة بها غرستها غرسا- ثم سنت من التشريعات المالية الصحيحة، ما يجعل المجتمع كله يضطرب إذا أصبت أحد أفراده بسوء حتى يندفع عنه!! مصداق قول الرسول صلوات الله عليه وسلامه: "مثل المسلمين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " . ص_161(1/121)
ورأى الإسلام فى هذا أن " الضعيف أمير الركب " .. يعنى أن القافلة الحافلة بالأقوياء والأصحاء تكيف مسيرها ونزولها بما لا يجشم الضعيف مشقة ولا يكلفه عنتا. وأن المجتمع إذا بلى بعاجز توفرت القوى على خدمته و إعانته، بل على تكريمه ومواساته. وقد لقنت الأمة الإسلامية درس الرفق بالضعفاء عندما فهمت أنها لا يمهد لها فى الأرض إلا إذا مهدت حياة الراحة لمن يضعفون فيها وأمنت معايشهم. وفى ذلك يقول الرسول : " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها ". سيقول السفهاء من الناس: إن تحقيق هذا خيال. وكذبوا، فلو أن الجهود التى بذلت فى نشر التأمين الربوى بذل مثلها فى إقرار التأمين الاجتماعى لتغيرت الحال وبدلت الأرض غير الأرض. ولقد لجأت الحكومة إلى التأمين على بعض العمال وبعض المرافق لدى شركات الربا، فهل أعيت الحكومة الحلول الصحيحة حتى لجأت إلى هذا الحل المريب، أم هو الفرار الخجل من مبادئ الشريعة الإسلامية ونظراتها الصائبة فى علاج المشاكل؟!. إننا ننشر هذه الكلمة المبينة للسيد " محب الدين الخطيب " عن المسلك الإسلامى الصحيح بإزاء التأمين وشركاته، نرجو أن يستبين القارئ من سطورها حكم الإسلام فى هذه القضية: " لأوقاف المسلمين المرصدة على جهات البر فى مصر ـ ومنها أوقاف الحرمين الشريفين ـ عمارات سكنية للاستغلال فى القاهرة والإسكندرية وسائر أنحاء الوطن المصرى، بعضها عظيم الجسم من ناطحات السحاب، وبعضها متوسط ومنها ما هو دون ذلك . ص_162(1/122)
ومن ربع قرن إلى الآن كانت وزارة الأوقاف تدفع لشركات التأمين نحو ألفين وخمسمائة جنيه فى السنة تأمينا على بعض هذه العمارات من الحريق، على اعتقاد أن ذلك فى مصلحة الأوقاف الإسلامية، وأن الضرورة قد حملت عليه حتى إذا وقع حريق فى بعض هذه العمارات الموقوفة على جهات البر كانت شركات التأمين ملزمة بأن تعوض للأوقاف عما التهمته النيران منها. وقد بلغ مجموع ما خرج من ريع هذه العمارات المرصودة لجهات البر الإسلامية ودخل فى صناديق شركات التأمين ما يكفى لبناء عمارتين من ناطحات السحاب فى خلال نحو ربع قرن، فما بالك بما كان يدفع قبل ذلك. ومنذ سنة 1347 هـ (928ام) لم ترزأ شركات التأمين من عشرات ألوف الجنيهات التى ابتزتها من أموال الأوقاف إلا بنحو خمسمائة جنيه فقط، وخسرت الأوقاف ما كان يكفى لأن تقيم به- كما قلنا- ناطحتى سحاب أو أكثر. إنها مقامرة، وكان الرزء فيها دائما على أوقاف المسلمين. ولعل الرزء الأدبى فى الإقدام على المقامرة وتحمل وبالها وتقديم القدوة السيئة للناس، أفدح من الرزء المادى بعشرات كثيرة من ألوف الجنيهات صرفت فى مصرف لم يكن يسمع به الواقفون، وما كانوا ليسمحوا به لو أنهم سمعوا به. ومنذ نحو عشرين سنة أو أكثر كتبت مقالا فى صحيفة الفتح أشرت فيه إلى هذه المعانى ، واقترحت على أهل كل حرفة- كالناشرين وأصحاب المكتبات مثلا ـ أن يكونوا من بينهم لجنة خاصة بحرفتهم يختارون أعضاءها من أهل الأمانة والديانة والأخلاق النبيلة، فيضعوا تحت يدها صندوقا يجمعون فيه ما كانوا يدفعونه عادة لشركات التأمين من رسوم سنوية وينوون به أن يكون إعانة منهم لمن ينكب بالحريق من رجال مهنتهم الداخلين فى هذا الاتفاق، وأن يتخذوا جميع أسباب الرقابة القانونية والحيطة لحفظ هذا المال، حتى إذا وقع حريق- لا قدر الله- عوضوا على من نكب به من مال هذا الصندوق ويكون فى ذلك مثوبة لكل من ساهم فى هذا العمل الذى تحول من مقامرة تحرمها(1/123)
الأديان، إلى تعاون على البر ينال به صاحبه رضا الرحمن الرحيم. ص_163
ولكن خلق التعاون لا يزال عندنا ضئيلا، ولا نزال فى حاجة إلى بثه فى النفوس، إلى أن تعتاده وتذوق حلاوة ثمراته لذلك بقى هذا الاقتراح فى عالم الخيال، إلى أن امتلأ قلبى سرورا فى الأسبوعين الماضيين بإقدام أخى الأستاذ الباقورى على تحقيقه فى وزارة الأوقاف على أكمل الوجوه وأنفعها، فتعاون مع مجلس الدولة على صياغة مشروع تقوم به وزارة الأوقاف نفسها بمهمة التأمين- منها ولها- بالنقود التى كانت تدفع حراما لشركات التأمين على المقامرة. ومما جاء فى مشروع وزارة الأوقاف: "ينشأ صندوق تأمين بوزارة الأوقات للتأمين على العمارات الاستغلالية التابعة للأوقات التى تحت نظر الوزارة و مرصدة على جهات بر. ويعتبر الصندوق شخصا معنويا من أشخاص القانون العام، ويمثله وزير الأوقاف أمام الغير وعلى الأخص أمام السلطات القضائية والإدارية. وتكون للصندوق ميزانية خاصة مستقلة عن ميزانية وزارة الأوقاف ولكن ملحقة بها، وتباشر أعمال الصندوق مراقبة الحسابات- كأى عمل من أعمال الوزارة- ولكن تشرف على ذلك لجنة للرقابة من وكيل الوزارة، والمدير العام لقسم القضايا، والمراقب العام لقسم الحسابات، والمدير العام لقسم الهندسة، والمدير العام لقسم الأملاك. ويتكون مال الصندوق من الرسوم التى تحصل من ريع العمارات التى يؤمن عليها لدى الصندوق، وتحدد النسبة التى تقدر على كل عمارة بحيث لا تزيد على 5% من قيمة العمارة، و يحتفظ الصندوق بجزء من الحصيلة لمواجهة الحوادث الطارئة وما يزيد على ذلك يستغل فيما يدر ربحا للصندوق وبضم لرأس المال. وتقتصر التزامات الصندوق على حوادث الحريق الناجمة فى الظروف العادية (أما الحوادث الناجمة عن حوادث الحرب، أو فى مثل حوادث 26 يناير سنة 1952، فالتعويض يكون من الحكومة بالنسبة للسياسة العامة). ويقضى هذا المشروع بأن تعد استمارة لكل مبنى يطلب التأمين عليه(1/124)
ضد الحريق مبينا فيه قيمة العمارة وتاريخ إنشائها والمدة المحددة لاستهلاكها " ص_164
وإذا كانت الوزارة ـ أو مجلس الدولة ـ استثنى من الاشتراك فى هذا الصندوق العمارات التابعة للأوقاف الأهلية لأنها أصبحت ملكا خاصا لأصحابها، ولئلا يختلط حساب الأوقاف الأهلية بحساب أوقاف البر، فأى مانع يمنع أن يكون صندوق آخر لعمارات الأوقاف الأهلية ما دامت لا تزال تحت يد وزارة الأوقاف، ولماذا لا يقتطع منها رسم التأمين كما يقتطع رسم عوائد الحكومة على المبانى إلى أن تخرج هذه العمارات عن نظارة الوزارة وإدارتها، وحينئذ تسلم لمن تئول إليهم مع نصيبهم من الرسوم الموجودة فى الصندوق الخاص، فذلك خير للأوقاف الأهلية من الاستمرار فى التأمين عليها لدى الشركات، مع ملاحظة الحكم الشرعى فى الحالتين. ولقد توسعنا فى الحديث عن هذا الضرب الجديد من التأمين الموافق لروح الإسلام، لأننا نرى هذا العمل الطيب من وزارة الأوقاف قدوة صالحة لا يبعد أن نسمع عن آثارها وأمثالها فى البلاد الإسلامية الأخرى كباكستان و أندونيسيا ، ويكون الفضل التاريخى فيها لمصر، لأن هذه الفكرة صدرت عنها. ومن حيث المبدأ نتمنى لو فكرت فى مثل هذا المشروع كل وزارة مصرية ـ كوزارة التربية والتعليم ـ فيما تحت أيديها من مبان جرت العادة بأن يؤمن عليها لدى شركات التأمين، وإذا لم تكن المبانى التى تحت يد كل منها متعددة بحيث تستحق أن يكون لها صندوق مستقل، فإن فى إمكان وزارة المالية، أو وزارة الأشغال أو وزارة البلديات أن تتولى هذا الأمر عن جميع الوزارات فتجعل لها كلها صندوقا واحدا ترصد فيه الأموال التى تدفع لشركات التأمين، فتبقى أموال الدولة تحت يد الدولة، وتتضامن الوزارات كلها فى هذا التعاون الجميل. أما التأمين لدى الشركات ـ بجميع أنواعه ـ فلا ريب أنه نوع من أنواع المقامرة، وكل مقامرة فى الدنيا ركزت أنظمتها على أن يكون الربح المضمون للإدارة التى اتخذت ذلك مهنة لها.(1/125)
وفى المقامرة على النقود فى الأندية مهما خسر المتقامرون أو كسبوا فكلهم فى الجملة خاسرون إلا نادى المقامرة، فإنه يربح دائما من جيوبهم نفقاته وأرباحه التى يسميها رسوما. والمقامرة التى زعموا أن لها وجها من المصلحة ص_165
كالتأمين من الحريق، أو على السفن من الغرق، أو على الحياة.. إلخ. فإن الذين تجمعهم المصلحة الواحدة من دافعى رسوم التأمين إذا عرفوا كيف يتعاونون على إنشاء صندوق تأمين بإشرافهم ولمصلحتهم كما فعلت وزارة الأوقاف، وكما سبق لى اقتراحه قبل نحو عشرين سنة، فإن معني المقامرة يتحول فيه إلى معنى آخر نبيل من معانى الإحسان والتعاون، بل والاقتصاد. الحلال بين والحرام بين، ولكل منهما أنصار تهش نفوسهم وتبتهج قلوبهم لاتساع دائرة ما يقع منها موقع الرضا. وقد قرأت- وأنا أكتب هذه الكلمة- فقرة فى يوميات إحدى صحف القاهرة يدعو كاتبها إلى عمل تأمين جماعى لدى إحدى (شركات) التأمين لأصحاب جزائر النيل الزراعية التى تغرق فى مواسم الفيضان، وإلى أن تفرض الدولة تأمينا إجباريا ضد دودة القطن. ترى هل هذا إعلان تجارى لمصلحة شركات التأمين كسائر إعلانات الصحف؟ لست أدرى، ولكن الذى لا يشك فيه أحد أن شركات التأمين لم تؤسس وتنفق على إدارتها النفقات الطائلة لأجل أن تتصدق على المنكوبين أو لتمثل معهم دور العون الإنسانى، بل هى تدفع فى مثل هذه الحوادث (بعض) ما كانت أخذته وتبسط يدها ببعضه لنفقاتها وموظفيها وإعلاناتها، ثم هى تربح بعد ذلك كله. أما الذى نقترحه نحن ففيه اقتصاد النفقات والإعلانات، والربح فيه ثواب من الله على العمل الحلال، ونكون فى تصرفنا هذا إسلاميين. ولمناسبة الخوض فى هذا الموضوع الاجتماعى المهم نلفت أنظار الوزارات والمصالح التى يعنيها الأمر " إلى ما يقع فيه المسلمون من الحرج بتحتم التأمين على عمال المصانع فى مختلف الصناعات، وإلى تحتيم التأمين على ما سيقرضه بنك التسليف الزراعى التعاونى للجمعيات(1/126)
التعاونية التى تألفت أخيرا لبناء المساكن، زد على ذلك تحتيم التأمين الذى أقحم على نظام الادخار ليحل محل نظام المعاش، ومادامت وزارة الأوقاف قد وجدت لنفسها مخرجا من إثم المقامرة بما ابتكره أخى الأستاذ الباقورى للتأمين على مباني الأوقاف الاستغلالية من الحريق، فهل يعجز ص_166
مجلس الدولة ووزارة العدل وجميع رجال القانون والاقتصاد والمالى فى الدولة عن أن يبتكروا طريقة يرفعون بها الحرج عمن لا يحب أن يأثم من مسلمى مصر؟. فى اعتقادنا أن دائرة الحلال أوسع وأوثق وآمن من دائرة الحرام ولا يحول بيننا وبينها إلا أن نفكر تفكيرا إسلاميا سليما، والله الموفق " أ. هـ. ولما كان بعض علماء الدين قد خدع عن حقيقة نظام التأمين فأفتى بإباحته إذ عرضت عليه بعض صوره عرضا سليما بل مغريا، فلزم أن نصحح الحكم المشروع وأن نكشف حقيقة الموضوع... أساس الفتوى: الذين يقولون بإباحة هذا النوع من المعاملات بين الأفراد والشركات يعتمدون على أنه فكرة تعاونية سليمة لا ضرر فيها على أحد، بل فيها ضمان لمستقبل بعض الناس يؤخذ من أرباح الجماعة المتعاونة، ومما تدخره من مالها لمستقبلها المجهول. ولكى تعرف خبيئة هذا الكلام نبين لك معنى التعاون الصحيح الذى يقره الإسلام بل يرغب فيه ويدعو إليه. وسترى هل التأمين تعاون اجتماعى سليم أم استغلال اقتصادى بحت ينبغى أن يخضع لنظام المعاملات التى قال الشارع فيها حكمه، وأوضح فيها رأيه. إنه لكى يكون هناك تعاون سليم بين أية جماعة لتساعد أحد أفرادها إذا نزل به مكروه، يشترط فيما يجمع من مال لتحقيق هذه الغاية أمور: 1ـ أن يدفع الفرد النصيب المفروض عليه فى ماله على وجه التبرع قياما بحق الأخوة. ومن هذا المال المجموع تؤخذ المساعدات المطلوبة للمحتاجين. 2ـ إذا أريد استغلال هذا المال المدخر فبالوسائل المشروعة وحدها. ص_167(1/127)
3 ـ لا يجوز لفرد أن يتبرع بشئ ما على أساس أن يعوض بمبلغ معين إذا حل به حادث، ولكن يعطى من مال الجماعة بقدر ما يعوض خسارته أو بعضها على حسب ما تسمح به حال الجماعة. 4 ـ التبرع هبة، والرجوع فيها حرام، فإذا حدث فليراع حكم الشرع فى ذلك. ونحن نلاحظ فى المعاملة السائدة بين شركات التأمين وعملائها أن كلمة التعاون هنا مزيفة، تذكر كما يذكر التاجر لزبائنه كلمة التضحية فيما يبيعه لهم من سلع. والأمر لا يزيد عن كونه محاولة للربح، ومتاجرة بالكلمات، واستغلالا لتهيب الناس من غدهم المبهم. ونلاحظ على هذه المعاملات مأخذ خطيرة: ا ـ فما يدفعه الشخص للشركة يدخر له بالفعل، ويدور فى وجوه النشاط التى تعمل فيها الشركة، فإذا انقضت المدة أخذ مبلغه كاملا، وإذا لم تمض المدة، وأراد فسخ العقد انتقص منه نصف ما يدفعه تقريبا وهذا لا يجوز. 2 ـ المبلغ الذى يؤخذ حال الوفاة أو الإصابة ليست له صورة مقبولة وفقا للمعاملات الإسلامية، بل هو استيلاء على أموال الغير، وليس العميل هنا شريكا فى الربح والخسارة حتى يقتطع من أرباح الشركة هذا المبلغ إن احتاج إليه، وليس غيره من العملاء المؤمنين متبرعا بما يدفع حتى يسوغ أخذ مالهم. 3 ـ هذه الشركات مقطوع بأنها توظف كثيرا من أموالها فى أعمال ربوية صريحة. 4 ـ الخير الذى يصيب بعض الطوائف الفقيرة من هذه الشركات قريب من الخير الناشئ عن مشروعات اليانصيب وأشباهها، والواجب تغليب روح التدين وتمحيض الخير لأربابه ابتغاء وجه الله. 5 ـ التأمين بهذا المعنى ذريعة لجرائم احتيال كثيرة ترتكب لاقتناص المبالغ الكبيرة المرصودة للحوادث المفاجئة. ص_168(1/128)
ماذا نصنع...؟ موقف الدين تجاه الأزمات العارضة يقوم على عملين كريمين. يطلب أولا إلى الرجل المحزون ألا يفقد رباطة جأشه، وألا تقفه العقبات الطارئة عن مواصلة سيره، فإن كانت لديه طاقة شخصية على استئناف نشاطه مضى معتمدا على ربه، واثقا من نفسه، موقنا بنجاحه، واضعا نصب عينه قول رسول الله صلي الله عليه و سلم : " من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل ". وهذا التوجيه الرشيد من أهم بواعث التوفيق للأشخاص الذين تهبط قواهم المعنوية إثر ما ينتابهم من آلام ثقال!. والعمل الآخر يناط بالمجتمع نفسه، إذا أنه مسئول عن سلامة أعضائه، فإن إماطة الأذى عن الطريق- حتى لا يصاب أحد بسوء- بعض تعاليم الإسلام. وقد قرر الفقهاء أن هناك واجبا عينيا فى مال الفرد، وواجبا كفائيا فى مال الجماعة، يرصدان كلاهما لتلافى العيلة ومحاربة النوائب. والأمة المؤمنة العادلة هى التى تمشى فى ضياء من إيمان بنيها وعدالة نظمها، فلا يهون فيها رجل، ولا تظلم كفاية، ولا يغيم فيها مستقبل. ومثل هذه الأمة هى التى تحظى بأقساط وافرة من التأمين الشامل لكل صغير أو كبير من رجالها، وكل دقيق أو جليل من شئونها : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) أما تجفيف الأفئدة من حنان الإيمان، وتجفيف المجتمع من تراحم الطبقات، وتجفيف القوانين من الكفالة ودقة الرقابة وانتظار المعونة الآثمة من بنود الربا الحرام، وشركات الاستغلال الجشعة، فتلك حماقة كبرى لن تعقب إلا حرب الغل بين الطبقات، وحرب المطامع فى أنحاء الأرض و السموات. ص_169(1/129)
الاحتكار..! خلق الله هذه الأرض مباركة التربة، موفورة الخيرات، وقدر لها أقواتها، وأوح فيها أرزاقها، وهيأ لمن فيها رغد الحياة. ودبر لكل نسمة عوامل طمأنينتها، ثم ساقها إليها وهو يعلم مستقرها ومستودعها. فالناس جميعا يستطيعون العيش الرخى ، ويقدرون على أخذ أنصبتهم اللازمة لهم من موارد الحياة الدافقة أبدا، و التى لا تغيض قط كما يأخذون أنصبتهم من الماء والهواء والضياء سواء بسواء. ولكن الدنيا بليت بأقوام اعترضوا مجرى الحياة المعتاد فعاقوه عن مضيه وحبسوه عن انطلاقه. كما تعترض الجنادل الصلدة مسايل الأنهار الكبرى، فتحجز الماء وراءها لججا صاخبة وتترك أمامها بقاعا جرداء ترتقب الرى فلا يصلها، وتتطلع إلى الخير فلا يأتيها!!. ذلك عمل المحتكرين فى العالم، وأثر قلوبهم الخربة وأيديهم الملوثة. يتلقفون السحب الهامية فيبيعونها للناس قطرة قطرة بالسعر الذى يشاءون. ويستولون على مناكب الأرض ثم يوزعونها على الشعوب ذرة ذرة كما يشتهون!!. وقد حرم الإسلام الاحتكار، فإن المحتكر مناع للخير معتد أثيم. وهو مضيق لفضل الله على الناس، يقول الله له يوم القيامة: " اليوم أمنعك فضلى، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ". وهو مسخر لإشقاء الجماهير وتعريض حياتهم لمظان التلف. وهل أدل على ذلك من أن وباء " الكوليرا " لما انتشر أخيرا ونشر بعض الأطباء أسماء العقاقير التى تقى منه، اختفت هذه العقاقير من محالها على عجل- وكانت قبلا مبعثرة فى السوق- ليتحكم تجار الموت والحياة من اليهود المحتكرين فى طريقة بيعها وتقدير ثمنها!. وقد اختار النبى- صلوات الله عليه وسلامه- لهؤلاء الصفة التى اختارها القرآن لدمغ جبابرة الأرض بالخزى والهوان فقال فيهم: " لا يحتكر إلا خاطئ " كما ص_170(1/130)
قال القرآن فى وصف الجبارين من مستعبدى الشعوب : (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) ثم بين موقف الدين منهم، وموقفهم من الدين فقال: " من احتكر طعاما ـ أربعين يوما ـ فقد برئ من الله وبرئ الله منه "!! بلى: وانه لمن الخير للإنسانية أن تستأصل هذه الطوائف التى لا تبنى راحتها النفسية إلا على حساب الانتقاص من راحة الناس، ولا تبنى سعادتها الشخصية إلا على الاختلاس اللئيم لحقوق الناس. ونحن نرى القرآن يعتبر الأعمال الناشئة عن الأنانية الخبيثة فجورا، وإن كان مظهرها هينا كالتطفيف فى الكيل والوزن الذى يجعل صاحبه يحب أن يأخذ كثيرا وأن يعطى قليلا : (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين * كلآ إن كتاب الفجار لفي سجين) فكيف بهؤلاء المحتكرين الذين يريدون أن يأخذوا من الشعوب كل شىء، ولا يودون أن تأخذ الشعوب منهم شيئا قط؟؟. وإذا كانت تلك غضبة الإسلام العارمة لحبة تغتال من كفة ميزان أو من جوف مكيال.. فكم يكون غضبه قاسيا وعقابه حاسما لحقوق بأسرها تغتال، وخيرات أقطار واسعة تحتكرها حفنة رجال. الشركات المحتكرة.. تستولى هذه الشركات على مصادر الإنتاج، وعلى المرافق العامة، وتتولى معاملة المستهلكين بطرائقها الخاصة فتظلم المنتجين والمستهلكين جميعا، إذ تشترى السلع من الأولين بأسعار زهيدة، وتبيعها للآخرين بأثمان فاحشة. وبهذا تصل أرباحها إلى حدود تتجاوز الحقائق إلى الأحلام!. ص_171(1/131)
وتبرز مساوئ هذا النظام على أقبح وجوهها فى البلاد المستعمرة سياسيا أو اقتصاديا. فزراع القصب فقراء، وشركات السكر والكحول متخمة الخزائن. وزراع القطن يرتدون الأسمال، وشركات الغزل والنسيج تخب فى الحرير. ومياه النيل تذهب هدرا فى جوف البحر وتباع مكررة لسكان المدن بما جعل أرباح شركاتها تزيد أضعافا مضاعفة على رأس المال. ومن هذا القبيل شركات البترول والنقل وسائر المؤسسات الاحتكارية. ولا ريب أن هذه الشركات تؤدى أعمالا عامة نافعة، وتستخدم كفايات ذكية، وقوى كثيرة. ولكن هل هذه هى الطرق الفذة لخدمة الأمم ونفع الجماهير؟ كلا. لقد جاء النظام الشيوعى ـ بأساليبه الغالية فى معالجة الأمور ـ فمحا كافة الوساطات بين المنتج والمستهلك، ووضع أصابع الحكومة على منابع الإنتاج الزراعى والصناعى، وتولى وحدة معاملة المستهلك وحمايته من هذه الشركات المحتكرة!. ورأت الاشتراكية أن الضرورات لا تحتم هذا المسلك فاستولت على المرافق العامة، "وأممتها " وسنت من التشريعات ما رأته كفيلا بإنقاذ المنتج والمستهلك من براثن الاحتكار. ونحن إذا رجعنا للسوابق الإسلامية فى هذا الشأن وجدنا أن الإسلام يعلن حربا شعواء على شركات الاحتكار كما رأينا بل ينص على أن هناك مواد معينة لا تجوز أن يمتلك حق التصرف فيها الأفراد!. ويظهر أن البيئة البدائية التى كان يعيش فيها العرب هى التى حددت هذه المواد. وإلا فلا وجه لتحديدها على الدوام. روى عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله ما الشىء الذى لا يحل منعه؟ قال : "الماء والملح والنار " . كما روى كذلك: " إن المسلمين شركاء فى ثلاثة: الماء والنار والكلأ ". حتى روى أن ثمنها حرام!!. والمهم أن هناك أشياء كثيرة يجب أن تبقى شعبية، وأن يكون تدخل الحكومة فيها لتنظيم توزيعها فقط . ص_172(1/132)
ومن المفيد أن تعرف أن التيار الكهربائى يوزع بالمجان فى بعض بلاد أمريكا !! كما كان يوزع الكلأ فى صحراء الجزيرة قديما. هل الاحتكار يدخل فى نطاق التجارة الحرة؟ على أن هذه المواد غير المحدودة التى يرى الدين مبدأ إشاعتها أو التى يبيعها للناس بما لا يزيد عن تكاليف إنتاجها لأن الحاجة العامة ماسة إليها ـ كما اعترفت روسيا وأمريكا عمليا بذلك ـ هذه المواد ليست كل شىء فى نواحى الحياة الشعبية. فثمة غيرها أشياء يصح أن تكون موضعا للتبادل التجارى وأن يباشر العمل فيها أفراد أو شركات، لكن تدخل الحكومة فى تحديد الأرباح والأسعار يبدو أمرا محتوما فى أوقات الحرب والسلم معا. ولا عبرة بما يقال من ترك ذلك للتنافس الحر. فما أيسر تكاتف أولئك المحتكرين فى التحكم فى السوق تكاتفا شائنا لا وزن معه لمصلحة الجمهور!. ولقد لدغت أكثر الشعوب من هذا الجحر فأصبحت تحاذر الآن من فتح بابه والتعرض لعذابه. والإسلام يقرر أن محاولة إغلاء الأسعار على المسلمين جريمة منكرة. وجاء فى حديث النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : " من دخل فى شىء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة " . فلا جرم أن على الدولة عبء الرقابة اليقظة والتوجيه النافذ فى النشاط الاقتصادى كله لتدفع الأمور دفعا إلى طريق السماحة والتيسير. وإلا فإن إصرار المحتكرين على موقفهم النابى سيمهد الطريق للعالم أن يأخذ بنظرية " الشيوعية " فى منع كل واسطة بين مواطن الإنتاج ومواطن الاستهلاك حتى يجتث جذور الاحتكار الخبيثة من أصولها. * * * روى عن فروخ خادم عثمان بن عفان أن طعاما ألقى بباب المسجد ـ لبيعه ـ فخرج عمر ـ وهو أمير المؤمنين يومئذ ـ فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعاما جلب إلينا . ص_173(1/133)
فقال: بارك الله فيه و فيمن جلبه. فقال له بعض من معه: يا أمير المؤمنين قد احتكر. فقال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ خادم عثمان وفلان خادم عمر، فأرسل إليهما فأتياه. فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نشترى بأموالنا ونبيع!! فقال عمر: سمعت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس " . فعند ذلك قال خادم عثمان: فإنى أعاهد الله وأعاهدك على ألا أعود إلى احتكار طعام أبدا، وتحول إلى مصر. أما خادم عمر ـ فقد أصر على مبدأ حرية التجارة ـ قال: نشترى بأموالنا ونبيع !!. قال أبو يحيى ـ راوى الحادث ـ : فرأيت خادم عمر هذا " مجذوما مشدوخا وعمر لم يكن الحاكم الذى يحارب الاحتكار بانتظار الجذام لمقترفيه. فسيرته حافلة بالشدة فى انتهاج السياسة المالية الملائمة لمصلحة المسلمين. ولعله وجد فى هذه الحالة تفاهة لا تستحق النكير أو شبهة اعتمد عليها هؤلاء الخدم، فاكتفى ببيان خطئها. منهج الدين الإسلام ـ من حيث إنه دين ـ له تعبيرات وتوجيهات خاصة، تمتاز بطابعها الذى يقرن التجارة بالخلق، والأعمال بالعقيدة، والعقوبات الزاجرة فى الدنيا بالأجزية المعدة فى الآخرة. ولا يستغرب منه أن يلجأ إلى وسائل التربية النفسية أولا ثم إلى الأحكام التشريعية ثانيا، ليصل إلى أغراضه الواضحة. فإن كان فى أحكامه إجمال، فعلى الحاكم أن يضع لها من التفاصيل ما يصل بها إلى الأغراض المرسومة المعلومة!!. ومنهج الدين فى محاربة الربا والاحتكار والاستغلال بين . ص_174(1/134)
فإذا لجأ إلى مكافحة هذه الآفات بالوعيد واللعن فليست هذه وسائله الأولى والأخيرة!. إن الإسلام يبغي أن ينقى المجتمع من هذه الشوائب، وقد ظهر أن الإملاق إلى جانب الترف يولدان الربا. وأن موارد الإنتاج المهملة إلى جانب الطبقات المستهلكة المضيعة تلد حتما شركات الاحتكار المستغلة، وضنك المعايش المذلة. ومن رعى غنما فى أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد وهذه وتلك لا تعيش إلا فى ظلال الاقتصاد الرأسمالى والتقسيم الإقطاعى والاستعمار الداخلى و الخارجى. وهل تنشب الحروب فى العالم إلا لهذه الأسباب وما ينشأ من أطماع؟ وهل يشيع الاضطراب و الاحتراب إلا من تقاتل الرأسماليين على استغلال الضعفاء و إنتهاب ما بأيديهما من خيرات؟ أفتبقى الدوافع إلى الحروب بهذه الشدة لو وقر فى الأذهان أن كل إنسان على ظهر الأرض يجب أن تكفل حقوقه المادية والمعنوية؟ ثم ينتهى من تاريخ البشرية إلى غير رجعة طور الربا والاحتكار والاستغلال. إن الإسلام من هذه الناحية قد قال كلمته، وأعلن دعوته، وأنصف الناس من أنفسهم، ومن البرامج التى توضع لهم، وذكر تاريخ الأولين- لما ارتكبوا هذه المظالم- لتكون منه عظة للآخرين: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما) *** ص_175
الفصل السادس الطبقات الكادحة ص_176(1/135)
إنها أحب الطبقات إلى الله، وأحقها بالحياة الكريمة، و أجدرها بالمستقبل الباسم، وأقربها ـ فى هذه الأعصار ـ إلى أماكن الصدارة فى الأمم، ومواضع القيادة الناجحة فى مختلف الشعوب. احتفى بها الإسلام، وعمل على توسيع دائرتها حتى تشمل الناس قاطبة فلا يبقى فيهم عاطل. واعتبر الأنبياء ـ وهم أصحاب الهدايات الصحيحة ـ عمالا يأكلون من كسب أيديهم. وجعل شرار الناس أولئك القاعدين من غير عمل، الطاعمين من غير جهد، الناعمين من غير حق، المشتغلين بالثرثرة لتضييع الفراغ. " أشرار أمتى الذين ولدوا فى النعيم و غذوا به، يأكلون من الطعام ألوانا، ويتشدقون فى الكلام " . كما جعل أخيار الأمة، وأعز بنيها عليها، هؤلاء الذين يعرفون رسالة الحياة، ويؤدون ضريبة الصحة والعافية، ويقضون أعمارهم فى العمل و السعى. " ما كسب رجل كسبا أطيب من عمل يده " وقد روى أن الرسول أمسك يدا ورمت من كثرة العمل، وقال " تلك يد يحبها الله ورسوله ". كما ورد عنه كذلك:" من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له " . وكان بيت النبوة مثلا عاليا للبيوت التى تعيش لتعمل، وتؤدى للمجتمع أضعاف ما تأخذ منه. ولم يأذن الرسول لشارة من شارات الترف أو أمارة من أمارة القعود والراحة أن تدخل هذا البيت قط! ولم يحك تاريخ الاشتراكية ـ ولن يحكى ـ عن معالم الحياة الداخلية لبيت من بيوت القادة الشعبيين، مثل ما حكى عن البيت للنبوى الخشن المكافح الذى يعمل كل فرد فيه حتى يقعده التعب، ويشتغل حتى يجهده النصب . ص_177(1/136)
ولسنا الآن بصدد سرد الآثار الناطقة بذلك من الكتاب والسنة فهى فوق العد! ولكن أعجب ما فى التاريخ الإسلامى من نقائض أن هذا النبى العظيم، أفنى عمره فى الدعوة إلى تأليه رب واحد، وجمع الناس على التآخى فى دينة، والتعاون على حمل أعباء الحياة الكثيرة، وهو لم ينل من حظوظ الدنيا أكثر مما يناله عامل يشتغل " باليومية " فى بعض الحرف المضنية. ثم جاء أناس باسمه.. وباسم الدين المشرق الذى أبلغ رسالته كاملة،. فتألهوا على الناس فى الأرض! سخروا الشعوب للعمل، وبقوا قاعدين. وملئوا أفناء بيوتهم بفنون المرح والبطر، على حين كلفوا الجماهير الشقية أن تدمى أظافرها فى التنقيب عن صبابة تمسك عليهم الرمق. فلما جاعت الأجساد للخبز. وجاعت الأرواح للحرية. وجاعت الشعوب للكرامة المادية والمعنوية. وجاءت الحضارة الأوروبية تستغل هذه التعاسة، وتريد إنقاذ ذوى الجلابيب الزرق. استفاق أخيرا المتكلمون باسم الدين، وقرروا العمل!! أتراهم وصلوا متأخرين؟ أحسب أنه لم تزل فى الوقت فسحة لإقناع الدنيا بأن أصول الدين المجردة تضمن لهم ما يلائم العقول ويريح الأفئدة!! حركات العمال.. ومما يلفت الأنظار أنه قلما يمر يوم دون أن نسمع عن مطالب للعمال تقدم وإضراب يقع أو يهدد به. وتوطدت مراكز النقابات فى البلاد المتحضرة حتى أصبحت تملى شروطها على أصحاب العمل. وأصبحت اتحادات العمال تحسب الدولة حسابها فيما تضع أو تدع من قوانين! وقد يتخوف المتشائمون من عواقب هذه اليقظة، ومن تأثيرها على أداة الإنتاج. وهذا إن صح فى بلاد أخرى لم نعرف حقيقة أحوالها فلا محل له فى بلادنا. ص_178(1/137)
إن العمال هنا ـ زراعيين وصناعيين ـ يسعون لاستكمال ضرورات الحياة. أما هناك فيسعون لاستكمال زينتها وبهجتها. وقد ألف العمال فى الغرب أحزابا تولت الحكم، وأبدت فى إدارته كفاية رائعة. أما فى مصر وغيرها من شعوب الشرق فقد كفت أحزاب هزيلة للعمال، وتولى رياستها نفر درجوا منذ نعومة أظفارهم على وضع أيديهم فى قفازات الحرير!. فما لهؤلاء ومشاكل العمل وحقوق العمال؟؟. عزة بالإثم!! لقد زادت نسبة الحساسية وذاك مما يبشر بالخير، لكن الشقة لما تزل طويلة أمامهم لكى يصلوا إلى الحال السعيدة التى وصل إليها إخوانهم فى الغرب. والنقمة شديدة عليهم من جهات عديدة حتى من الرجال الذين وظفوا لخدمتهم والسهر على مصالحهم. وفى مصر كثيرا ما يسلب الرجل حقه؟ فإذا حدث بينه وبين خصمه جدال كان صوت السالب عنيفا قويا. وصوت المسلوب خفيضا محرجا. ومن ثم تستباح حقوق وتغلق مصانع، أو تؤكل أجور، ويطرد فلاحون. ويولد الاحتجاج على ذلك ضعيفا أو ميتا، لأن العزة بالإثم شائعة فينا. إن الاعتزاز بالنفس قد يكون أمرا مفهوما ومقبولا عندما يؤدى الرجل واجبه، ويفرغ ذمته، ويستوى سره وعلنه فى الإخلاص لعمله، والقيام بحقه وحقوق الناس عنده. أما التاجر الذى يغشك ثم تحمر عينه غضبا بدل أن يحمر وجهه خجلا إذا كشفت أمره. وأما الموظف الذى يخونك ثم تنتفخ أوداجه كبرا بدل أن يتوارى شخصه خزنا إذا فضحت خبيئته. فهؤلاء جميعا معتزون بالإثم مستكبرون بالباطل. وينبغى ألا تأخذنا هوادة فى رغم أنوفهم وكسر نفوسهم. ص_179(1/138)
فليس من حق الضلال أن يظهر بله أن يعتز ويشمخ!!. وليس من حق الظلم أن يبقى بله أن يتغطرس. وقد ذكر القرآن فى معرض الازدراء والقمع هذا الصنف الفاسد المفسد لنتخذ معه الأساليب المجدية فى حسمه : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) كرامة العمل... نريد بالعمل كل ما يقى الإنسان شرور العطلة وآثام الفراغ، فإن القعود فى الحياة نقص يعترى الرجولة وشلل يصيب المواهب. ومهما توافرت لدى الإنسان دواعى الراحة فإن الركون إليها نكبة تمحق فضائله. وقديما قال الشاعر يهجو: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى لا زلنا نعانى طائفة من التقاليد التى آذت الشرق وأورثته الانحلال، تقاليد التعالى عن الحرف والأشغال ومصادر الكسب التى بثها الله- عز وجل- وراء الأسباب المعتادة!! فالرجل الذى جمل من فضل ثروته أوجه فى مجتمعنا من الذى جمل من عرق جبينه. والذى يجد القليل من طرق الكسب الشريف أهون جانبا من الذى يقع على الكثير فى ميادين التزوير والاحتيال. وإذا قيل: فلاح، أو عامل، وقرت فى الأذهان صورة لا تشرف أصحابها، أو قل: صورة تسم أصحابها بالضعة وخمول الشأن. لا ننكر أن المستويات العقلية والخلقية لهؤلاء الناس فيها ضعف كبير. غير أن هذا الضعف الشائن يرجع أكثره إلى تهويننا للحرف التى يتكسبون منها، وغض المجتمع الذى نعيش فيه من قيمتها وقيمة أصحابها. ص_180(1/139)
ولو أننا نغالى بها وبذويها لتقررت لهم فى النفوس مكانة أعلى وأرسخ. ذكر للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل كثير العبادة ـ لا يعمل ـ فقال: " من يقوم به؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه أعبد منه ". وقال: " إن الله يحب العبد المحترف ". وعن أنس قال: كنا مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى سفر فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا منزلا فى يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقى الشمس بيده! قال: فسقط الصوام ـ إعياء ـ وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب! فقال الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : "ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله " . فهذه كرامة العمل عند الله بالنسبة لطول العبادة والصيام. بل إن الإسلام عد الإقبال على العمل والتشمير عن ساعد الجد فيه، ضربا من الجهاد فى سبيل الله. مر على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل، فرأى أصحاب الرسول من جلده ونشاطه ـ فى الاكتساب والارتزاق ما حملهم على الكلام فيه ـ قالوا: يا رسول الله لو كان هذا فى سبيل الله!!. فقال الرسول: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو فى سبيل الله. و إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو فى سبيل الله. و إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو فى سبيل الله. و إن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو فى سبيل الشيطان ) . * * * ولقد أخذت الأمور مجراها الصحيح فى أقطار الغرب، فقدر العمل حق قدره، وكرم المجتمع هناك العمال انسياقا مع منطق العقل السديد وانصياعا لقوانين الحياة الجارفة. فكان من سعاة البريد من ارتقى حتى صار رئيسا خطيرا لدولة عظمى، ومن ص_181(1/140)
سواقى القطر من ارتفع حتى صار وزيرا كبيرا من دهاة السياسة لأعرق الأمم فى السياسة. ولو أن هذه الوقائع حدثت فى بلادنا لكانت مثار الدهشة، ولاتخذت منها الصحف الهازلة فكاهة العمر لصعاليك القراء!!. أذلك خير أم أن يصير الرجل ذا شأن هائل، لأنه انحدر من أسرة ذات شأن متوارث؟ إن رجالا من عامة الناس يسمو بكفايته أرضى لله من أى إنسان يملك ذرة من الجاه لأصالته ـ كما يقولون. وقانون الإسلام يبتر كل شبهة حول ذلك المبدأ: " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". ولكن الشرق الإسلامى وحده ـ من سائر بقاع الدنيا ـ هو المكان الذى تؤسس فيه دول بأسماء أشخاص هلكوا منذ قرون طوال، بل هلكوا فى الجاهلية!. لأن الانتساب لهؤلاء الأشخاص هو الذى رشح وحده للسؤدد والمجد فيقال: "الدولة الهاشمية " و " الدولة السعودية " و " الدولة الفلانية " ولعن الله هيان بن بيان الذى لم يمنح بنيه إلا الفقر والضعة!. إن كرامة العمل تضيع فى البيئة التى تشتد فيها وطأة النظم الإقطاعية، لأنها بيئة الأوهام المقدسة، والخرافات المبجلة. فلا غرو أن تهمل فيها الأوزان الحقة للحياة، وأن تضاع فيها القواعد الصادقة للتقديم والتأخير، وأن تتناول فيها المبادئ العالية بطريقة تدعو للسخرية. وتلمح ذلك فى نقاش الكفار المؤمنين، وكيف سجل القرآن وجهة نظر المبطلين فى الرد على الآيات بأغنى الاعتراضات وأتفهها: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا * وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورء يا). فما وجه المقابلة بين طيب المقام، وجلال الحق. ص_182(1/141)
وبين فخامة نادى الكفر وقلة ما لدى المؤمنين من أثاثات!! وما لهذه المظاهر تذكر فى معرض الجد، وليس هو مجال عرضها؟ لا شئ.. إلا أن الشبه قريب بين هذا الغباء وبين تقدير بعض الناس اليوم لوجاهة القعود ونظافة ملابسه واتصال أناقته، بينما يكلف العمل رجاله أن يعفروا جباههم ويلوثوا أيديهم ويخلطوا عروقهم بتراب الأرض. وما درى الحمقى أن هذا التراب الندى بجهود الأبطال هو منبت الخصب والعمران والحياة!! العلاقات بين العمال وأصحاب العمل: للصلات القائمة بين الناس جميعا حدود ينبغى أن نلتزمها، وأن تشرب قلوبنا احترامها، وأن نعلم الصغار والكبار الوقوف عندها. هذه الحدود تدور حول مبدأ تبادل الواجبات والحقوق! يؤدى المرء ما عليه من الواجبات ويأخذ ماله من حقوق، ومن العجز أن يؤدى ما عليه من واجبات دون أن يطلب ماله من حقوق! ويكاد الناس يطبقون على صحة هذا الكلام- ولو نظريا بين الطبقات المكافئة ماديا وأدبيا. فإذا تفاوت الأفراد وكانت المعاملة مثلا بين خادم ومخدوم أو رئيس ومرءوس صار الغبن كله فى ناحية والغرم كله فى ناحية أخرى. وأصبح قيام الصغير بما عليه فرضا لازما، وقيام الكبير بما عليه نافلة. يؤديها على سبيل التطوع إن شاء، ويجحدها- وهو السيد المطاع على أى حال ـ إن شاء!!. كأن القدر إذا فرض على إنسان منزلة غير رئيسية فى الحياة، فقد أهدر إنسانيته، وأباح لأى معتد انتهاب حقه. وهذا خطأ بعيد. فعن عائشة قالت: جاء رجل فقعد بين يدى الرسول وقال: إن لى مملوكين يكذبوننى ويخونوننى ويعصوننى. وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ ص_183(1/142)
فقال له الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: " إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم.فإن كان عقابك إياهم على قدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك. و إن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك للفضل! " فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكى فقال له الرسول: " أما تقرأ قول الله ـ عز وجل ـ (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين)؟ فقال الرجل يا رسول الله ما أجد لى و لهؤلاء بدا من مفارقتهم. أشهدك أنهم كلهم أحرار . وهذا تشريع حكيم يكف يد الأذى التى قد يبسطها أصحاب الجاه والسلطة على من تحتهم. ويقرر أن معانى الإنسانية المشتركة بين كافة البشر تكرم فى كل شخص، ولا تذكر لإنسان وتنسي لإنسان. وقد تجاوز الناس هذه الحدود فى عصور الظلام. حكى أن نبيلا فرنسيا قال لخادمه: هات كذا. فأومأ الخادم بالإيجاب وانصرف يلبى الطلب. فاستوقفه النبيل فى غضب وقال له: تقول: نعم؟ إن الذى يملك أن يقول: نعم يملك أن يقول: لا، يجب أن تصدع بالأمر فى صمت. حرص هذا النبيل أن يلبس حركات خادمه ثوب الذله. فلما اندلعت الثورة دفع ثمن هذه الغطرسة دق عنقه... أين هذا من روح العطف والسماحة التى تبدو فى جوانب نبى الإسلام لما جاءه سائل يقول له: كم أعفو عن الخادم؟ فقال له: " فى اليوم سبعين مرة ". فلنضع إذا نصب أعيننا أن العاملين يجب أن تقدر إنسانيتهم فلا تمتهن، وأن تقدر طبقتهم فلا ترتخص ، وأن تقدر طبقتهم فلا تترك لغوائل الحرمان و عوادى الزمان.. ص_184(1/143)
وسوق هذا الكلام فى أثناء التعرض لقضايا العمل فيه ضرب من التجوز فليس العمال خدما قط لأحد من الناس بخصوصه. إنما هم خدما لوظائفهم ومعايشهم وأمتهم وبلادهم. وفى هذا الميدان لا تخدش كرامة و لا يلحق عار. بل إن أصحاب العمل يشاركونهم هذه الصفقة ويعملون معهم فى هذا المضمار. بيد أن الرق الذى انقضى- ولله الحمد- أمده، وانحسر عن الإنسانية عهده، قد بقيت له آثار جعلتنا نستمع إلى أن هناك رقيقا أبيض ورقيق الأرض ورقيق الآلات. وأخيرا رقيق الكبرياء السمجة التى لا تزال تغرى أصحاب الإقطاعات ورجال الشركات بأن ينظروا إلى العمال نظرة الراعى إلى قطعانه الغبية لا نظرة الرجل إلى إخوانه المتساوين معه فى الحقوق والحريات. وربما لا يصدق الناس الآن أن التعاليم التى سنها الدين لرقيق القرون الأولى تجعل حالتهم أفضل كثيرا من رقيق الأرض فى العصور الحاضرة.. فقد وصفتهم هذه التعاليم بأنهم: " إخوانكم جعلهم الله فتية تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه. و لا يكلفه ما يغلبه فإذا كلفه ما يغلبه فليعنه! " . ويقول الرسول- صلوات الله عليه-: " للمملوك طعامه وشرابه وكسوته، و لا يكلف إلا ما يطيق. فإن كلفتموهم فأعينوهم. و لا تعذبوا عباد الله خلقا أمثالكم " . ويقول كذلك: " أكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون " . ثم يرغب تيسير أشغاله وتخفيف أعبائه " ما خففت عن خادمك من عمله كان أجرا لك فى موازينك " . ويهدد المتعنتين الميالين إلى الزهو والإذلال لمن تحت أيديهم من الناس " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " . ثم يطلب فصل الصلة بين السيد السفيه والعبد المظلوم فيقول" لا من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته أن يعتقه ". ص_185(1/144)
وروى سويد بن مقرن قال: كنا سبعة على عهد الرسول وليس لنا إلا خادم فلطمها رجل منا فقال الرسول: " أعتقوها " قالوا: إنه ليس لنا خادم غيرها، قال: " فلتخدمهم حتى يستغنوا فإذا استغنوا فليعتقوها " . لكن هذه التعاليم المثالية وكلت إلى الذمم والضمائر وأبعدت عن سلطة الدولة وقوانينها. فما هى إلا سنين حتى تبخرت من الرءوس وتسربت من المجتمع واقترن بهذا الرق من الأسى واللؤم ما حمل العالم على استئصال شأفته وقطع دابره. وتم هذا العمل بعيدا عن رجال الدين فكان أرضى عمل لرب الدين رب العالمين. والعبرة المستفادة من هذا الدرس الفريد أن العلاقات بين العمال ورؤسائهم لا يجوز أن تترك بعيدا عن هيمنة القانون الصارمة. بل لابد أن تخضع لرقابة الدولة وسلطتها، وعلى الدولة أن تجعل الصلة بين هؤلاء و أولئك صلة الزمالة بين رجال أحرار جمعتهم الحياة على عمل واحد، ومن العدالة أن يقتسموا مغارمه ومغانمه. ولا يسوغ أن يكون عامل جائع عار وصاحب عمل طاعم كاس. بل تعاون على الحالين، فإن لم يكن العمال ملاك الحقل أو المصنع فليكن صاحب الملك عاملا فيه معهم، حتى يجمعهم شعور واحد، ويلمهم شمل واحد. حقوق العمال: للعمال الزراعيين أو الصناعيين حقوق كثيرة تكافئ الواجبات المرتبطة بأعناقهم، وقد وصلت بعض طوائف العمال إلى تقرير مرتبات سخية لها وبقيت الجمهرة الكبرى تعانى كآبة الحاضر وقلق المستقبل وتنتظر ما يبت فى أمرها ويحسم من وجلها. والطبقات العاملة على اختلاف أفرادها وتنوع مهنهم بحاجة إلى ضمانات مادية وأدبية عديدة نذكر فى مقدمتها ما يتصل بجسم الإنسان، والمحافظة على صحته وحمايته من الآفات والعوادى . ص_186(1/145)
إن الجسم الإنسانى صناعة إلهية باهرة، أحكمت القدرة العليا تكوينه، وأبدعت تقويمه، وحبته من وساقة التركيب وجمال الملامح ودقة الحواس ما يستحق منا أجل العناية وأعظم الحياطة. وكأن نشوة من الإحساس بهذا الإبداع الأعلى كانت تغمر قلب الرسول وهو ساجد لربه يقول: " سجد وجهى للذى خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين " . فمن أفن الرأى وحمق الفكر أن نعرض هذا الجسم لما يسلبه جوهره من القوة، أو لما يسلبه من مظهره من الرواء. أو ندع هذا البناء الإلهى ينهدم ويتساقط تحت تأثير العلل المفتعلة والإهمال المقصود. بل أجدى بنا أن نتخذ من الوسائل الصحيحة ما يحفظ علينا سلامة مشاعرنا وأعضائنا، فإن ذلك كفيل بأن يبقى علينا سلامة عقولنا و أفهامنا. ويتقاضانا هذا الاتجاه ذكر بعض ما يؤدى إليه من أسباب. المسكن الصحيح.. الدور المهيأة للمعيشة الكريمة لها أثر عميق فى كيان الإنسان وعافية بدنه من الأمراض. ولها إيحاء يتغلغل فى تفكير الإنسان فيرسله طلقا نقيا، يستقبل الحياة من أفضل نواحيها نشاطا وأملا. وإشعار الناس بهذه الحقيقة لم يكن بحاجة إلى تنصيص دينى! فهو من شئون الدنيا التى يعرفونها بطبيعتهم ويسعون إليها بسجيتهم. ولكن الإسلام خشى أن يأتى قوم فيسكنوا الخرائب ـ باسم الدين. ويهملون تأسيس بيوتهم وتأثيثها ـ باسم الإقبال على الآخرة.. فقال النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ، فى ذلك " ثلاث من السعادة: المرأة تراها فتعجبك وتغيب عنها فتأمنها على نفسك ومالك. والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك. والدار تكون واسعة كثيرة المرافق. ص_187(1/146)
وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوءك ، وان غبت عنها لم تأمنها على نفسها و مالك. والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك، ديان تركتها لم تلحقك بأصحابك. والدار تكون ضيقة قليلة المرافق " . وقد وردت أحاديث شتى تكره المسكن الضيق وتصفه بأنه سوء وشؤم، وهذا حق، فإن كثيرا من الشرور المادية والعقلية تنبعث من الأزقة المتداعية والقرى الكابية التى يعيش فيها الإنسان والحيوان متجاورين، و يأوى أصحابها إليها كما تأوى الحشرات فى الجحور. إن الريف المصرى لا تصلح أموره بالترقيع، كيف؟ و نواحى حياته كلها بالية تتطلب حركة إفناء عاجل ثم بعث جديد ليقترب من المستوى النظيف الراح الذى وصل إليه الريف الأوروبى. وطالما نسمع عن تجميل العواصم وإعداد المشروعات الضخمة لتنسيق شوارعها وتحسين ميادينها. أما الريف فهو محروم من الماء والنور والمرافق اللازمة لصحة بنيه. ومن العجيب أن الإسلام حرم البول فى الماء الراكد و الجارى ، وفى الموارد والظلال والطرق. ومع ذلك لم توضع وسيلة عملية لإغناء الفلاحين عن التخلى فى هذه الأماكن ـ وهى مصادر المرض ومكامن الداء ـ فإني يجدى الإرشاد الصحى ؟ وما عناء المستشفيات مع بقاء هذه المباءات ؟ وقد نصح الإسلام بالبعد عن الأرض الموبوءة وترك السكن بها. قال فركة بن مسيك المرادى: يا رسول الله، عندنا أرض هى أرض ريفنا و ميرتنا وهى وبيئة! فقال له: " دعها عنك فإن من القرف التلف " . يعنى أن القرب من الريف الموبوء متلفة للصحة . فإذا لم يكن بد من العيش به والكدح فيه فيجب إمداده بما يحفظ حياة بنيه وعافيتهم، فلا تكون أحوالهم كما نرى ونعرف من ضعف وضعة . ص_188(1/147)
وعمال المدن لا يسكنون فى ميادينها الفسيحة، و لا يقطنون أحياءها الفخمة بل يختفون فى شقوق الأزقة ومجامع القمامة ومواطن الذباب. وكثير من دروب القاهرة و حارات العواصم الكبيرة لا يستحق إلا النسف بالديناميت ليعاد تعميرها على قواعد صحية جديدة، فإن الإسلام يكره الدور القذرة: " إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ـ بيوتكم ـ و لا تشبهوا باليهود " . ويبدو أن الآية انعكست فى هذا العصر. فقديما كان المسلمون يحذرون من إهمال بيوتهم وتركها نهبا للقذارة حتى لا يشبهوا باليهود. والآن يبنى اليهود مستعمراتهم فيتحول بها الريف إلى جنان ناضرة وقرى زاهرة بينما نحن على ما نعلم. لو كانت الأمور تجرى على منطق الدين عندنا لكانت أجسامنا وبيوتنا وقرانا ومدننا نسقا أعلى تحتذيه أمم الأرض لتقتبس من جماله وطهره و وضاءته. وهل ينتظر أقل من ذلك فى دين نصف تعاليمه فى الطهارة والوضوء وتجميل المظهر والخبر على سواء؟. ولكن للدنيا شئون والجنون فنون. ويقال: إن الحكومة ستبني للفلاحين قرى نموذجية، وهذه الرغبات الطيبة تبدو وتختفى كفقاعات الهواء فى البحر المائج لا نجد من يعين على تنفيذها. لأنها تولد فى محيط مصطخب الشهوات مضطرب التيارات من أهواء الرأسماليين والإقطاعيين، ومظهرى الحنان الكاذب من الدجالين والجلادين. الأجر الكافى: يوصى الإسلام بالمحافظة على حق العامل، ويحذر من انتقاصه و الافتيات عليه ويضرب الأمثال ـ على طريقته ـ ليدلل على أن إيفاء العامل حقه وسيلة للنجاة من المحن التى قد تترادف على الأمم! اجتماعيا وسياسيا لو ظلم فيها العاملون ويئسوا من نوال أجورهم كاملة . ص_189(1/148)
والمثل الذى ضربه الإسلام لذلك فيه بساطة يدركها الأطفال وتلين لأفهامهم. " فقد حكى أن رجالا أواهم المبيت إلى غار فانحدرت صخرة من الجبل فسدته عليهم. فدعا كل منهم ربه بأحسن عمل قدمه فى حياته كى ينقذه من ورطته... فكان الأول برا بوالديه. وكان الثاني حفيظا على الأعراض. وتوجه كلاهما إلى الله بصالح عمله، فانفرجت الصخرة قليلا عن فم الكهف. غير أن ذلك لم يمكنهم من الخروج، حتى قال الثالث: اللهم إنى استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذى له، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال. فجاءنى بعد حين فقال لى: يا عبد الله أد لى أجرى. فقلت له: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم فهو من أجرك. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بى، فقلت: إنى لا أستهزئ بك. فأخذه كله فاستاقه أمامه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون "!.. وهذه القصة الطريفة ترمز إلى معنى عظيم من معانى العدل والنبل والفضل التى يجب أن يسير عليها صاحب العمل ليأمن موارد التلف وفواجع القدر. وهى تشير إلى أن انتهاء العامل من أداء مهمته يجعل أجره أمانة فى عنق صاحبه يبقى وديعة لديه إلى آخر الدهر. فإن عزله على حدة بقى له على حالته، و إن أداره فى العمل واستغله فى جر أرباح زائدة فإن الأجر وأرباحه المضاعفة من حق العامل، وليس لصاحب العمل منه إلا أجر عمله هو فيه، إن شاء أخذه عدلا! و إن شاء تركه فضلا كما فعل بطل القصة السالفة. ص_190(1/149)
ولئن كانت هذه الحكاية الجميلة تشير إلى رأى الدين فى التعامل الفردى والأساس الذى ينبغى له، إنها تشير من قرب أو من بعد إلى أن الأمة التى يفشو فيها أكل أجور العامل، وغصب حقوقه الواضحة، ليست الأمة التى تعيش فى ضمان السماء، أو التى توقى نكبات الحياة، أو التى إذا أصابها حرج توقع لها الفرج. بل على العكس لا تكاد تتردى فى هاوية حتى تجد من يتقدم ليهيل عليها التراب لا لينجدها: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون). وذلك سر نجاح الثورات الكبرى فى هذه الحياة!. إنها تندلع فى نظم قد دب فيها البلى، وطال منها الظلم، وابتعد عنها التوفيق، وأدبر عنها النجاح. فما تكاد نذر التمرد على الطغيان والاستبداد تظهر فى الأفق حتى يفغر التاريخ فمه ليبتلع دولة شاخت ويسلكها فى عداد الذكريات المرة. و ليتأذن بميلاد دولة جديدة ونظام جديد تتعلق به آمال البشر كرة أخرى. *** وهناك حالة نفسية يهتم لها الإسلام، ويحتفل بها، ويرقب أطوارها فى عناية بالغة، حالة العامل المكدود فى شغله، فإن الإسلام يرفض أن يراه ساخطا متبرما، و يقرر له أن يعطى حتى يرضى، وحتى يشعر بأنه مجدود فى حظه على قدر ما هو مكدود فى عمله. وليس أخطر فى حقيقته وآثاره، من ترك العامل يشعر بأنه مغتصب الجهد منتقص الأجر. وأن تعب يمينه وعرق جبينه وتلوث إهابه وإضناء أعصابه يذهب سدى من غير مقابل معقول أو ثمن مقبول. ولذلك يوصى الرسول بحسم هذا الشعور المرير: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " . ص_191(1/150)
والمقصود أن يكون فى الأجر المبذول له تعويض كامل عما أدى من عمل وبذل فيه من قوة، حتى يتكون فى نفسه إحساس بأن عرقه الذى لم يجف بعد هو مصدر هذا الكسب الماثل فى يده، فلا ظلم ولا استغلال!. وهذه النتيجة هى المنشودة للدين سواء أخذ العامل أجره قبل جفاف عرقه أو بعده. وقد عد الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ من الرجال الذين يخاصمهم الله بنفسه يوم القيامة رجلا استأجر عاملا فاستوفى منه فى العمل ولم يوفه الأجر! فأية جريمة شنيعة يرتكبها المرء الظالم، والمجتمع المتواطئ، والدولة المهملة كهذه الجريمة التى تعرض مقترفيها لخصومة الله!. *** ومن الضرورات الملحة فى هذه الأيام وضع حد أدنى للأجور يراعى فيه أن يقوم بحاجات المرء الأولى ومطالبه المحتومة. فإن الناس لم يخلقوا على ظهر الأرض مستغنين عن ثمارها و طيباتها : (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين). فإعطاء الأجور الكفيلة بسداد هذه المطالب، وتوفيرها للفقراء إليها أبدا أمر لابد منه! وهل يستغنى عنها أحد؟، وبقى أن تعرف الأساس الذى تقوم به أجور العمل تقويما لا بخس فيه ولا جور.. أيترك ذلك لأريحية أصحاب العمل؟ لا!. أيترك ذلك للعامل نفسه؟ لا!. فتلك أسس تعمل الأثرة فيها عملها وتترك مجال النزاع قائما بين الفريقين لا تهدأ له حدة. وخير الحلول لهذه المشكلة أن يربط أجر العامل بحالة المعيشة العامة من غلاء أو رخص، وحالة الأرباح الأخيرة من قلة أو كثرة وحالة الفرد نفسه من نشاط وبلادة. ص_192(1/151)
فقد اتضح أن بعض الشركات تربح القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وتضن على موظفها بثمن بخس دراهم معدودة. كما اتضح أن أحد مديرى الشركات أنفق على تشييد حمام له عدة آلاف من الجنيهات مع أن العامل عنده يعييه شراء قطعة من الصابون!. والمفروض أنه إلى هذا العامل يرجع الفضل الأكبر فيما تستولى عليه الشركة من أموال طائلة. فمن المبادئ المعقولة بل التى يحتضنها الدين احتضانا، أن تراعى الأمور الثلاثة الآنفة فى تقدير الأجر الكافى للعامل. ومن ثم نحقق أهداف النصوص الشرعية السابقة. تحديد ساعات العمل: المأثور عن أخلاق الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه. والمعروف من وصاياه لأصحابه أنه كان يقول:( يسروا ولا تعسروا وبشروا و لا تنفروا) . والله سبحانه يبين للرسول العظيم منهاج حياته ـ ولنا فيه أسوة ـ فيقول له: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) . والرسول كذلك يزيد الأمور وضوحا للناس؟ " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت ". ونصوص الدين إذا استهديناها، وروحه إذا استوحيناها، تشير إلى أن الاستمرار فى الأعمال إلى حد الإرهاق أمر لا يأذن به الشرع و لا يرضى عنه الله سبحانه. ومن هنا نعرف حكمة المطالبة بتحديد ساعات العمل وسبب استمساك العمال بها ـ فى الأحوال المعتادة ـ فإن الطبقات الكادحة لا تتكون من مردة وشياطين بل من أناس لهم مشاعر وعواطف تستحق الاحترام. ص_193(1/152)
ولهم مطلق الحرية فى أن يستمتعوا بزينة الله التى أخرج لعباده، وأن يتركوا جو العمل الجاد ليتنفسوا فى جو الحياة المرحة ومواطن اللهو المباح. و ينبغى أن يلقن المسلمون دينهم على هذا النحو السمح. وحسب الدنيا ما أصابها من عناء وضيق عندما تلقت تعاليم الدين على غلاة المتصوفة، و محترفى التقوى، وأصحاب الأمزجة المسودة ممن ضرب الله الحياة بهم ضربة بلى وانحلال وتعفن. على أن تحديد ساعات العمل تشريع يناسب أوقات السلم خاصة. أما أزمنة الحرب وما يشبهها من الفترات التى تحتاج الأمة فيها إلى أن يضاعف! أبناؤها جهودهم، وأن ينتموا جميعا فى كتائب العمل المتواصل ليلا ونهارا فإن لها لا ريب قوانينها المؤقتة!. وفى الحرب ترخص الدماء، فلا جرم أن الجهود ترخص ولو استنزفت ما فى الإنسان من طاقة. لكن الواجب أن يوزع هذا التعب على طبقات الأمة بنسبة عادلة حتى لا تستريح طبقة على حساب أخرى!. فإذا عادت للسلم لم يبق مسوغ للإرهاق والحرج. ولقد كانت نقابات العمال فى أقطار الغرب تطالب بأن يكون أسبوع العمل أربعين ساعة. وبذلك يعطى العامل نفسا عميقا فى راحته الطيبة. أما لدينا فقد سمعت من أفواه العمال، ومن الفلاحين المحرومين أن هذا الدنيا (شغال شاقة وآخرها الإعدام) وهذا تعبير يقطر أسى وقنوطا!. وعلته أن العامل زراعيا كان أو صناعيا يعتبر آلة من آلات الإنتاج الصماء لا يزال يستغل حتي يستهلك. فإذا اعتصر خيره وجفف عوده وأصبح لا يصلح لشئ رمى به إلى الخارج ليتسول، بقية حياته، ثم ليموت على مهل أو على عجل!. أما التفكير فى إعطاء العامل قسما من يومه وأسبوعه ليروى ظمأ مشاعره من الحياة التى يعيش فيها فذاك أمر لا يخطر على بال. ص_194(1/153)
العلاقات بين الملاك والفلاحين: ومن النقائض التى تقع فى مصر وفى أشباهها من البلاد المنكوبة بالمظالم الاجتماعية والسياسية، أن هناك أقواما يعملون كثيرا و لا يملكون شيئا قط و أقواما يملكون كثيرا و لا يعملون شيئا قط. وربما وجدت الرجل يقضى العمر الطويل يحول الطين ورودا ورياحين، ويشقى هو وأولاده أجمعون ليخرجوا المخبوء من تربة هذه الأرض، فيمزجون دمهم ببقلها و فومها و عدسها وبصلها، ثم يحرمون منه!. والعلة فى هذه النقائض أن هذا ورث وهذا لم يرث. وقد علمت كيف بدأت هذه الموروثات وكيف آلت لأصحابها. أما رأى الشارع فى هذه المواريث فمعروف. جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فقال الحضرمى: يا رسول الله، إن هذا قد غلبنى على أرض كانت لأبى!. فقال الكندى: هى أرض فى يدى أزرعها، ليس له فيها حق!. ـ احتجاج بوضع اليد عليها والتصرف فيها. فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحضرمى: " ألك بينة "؟ قال: لا، قال: "فلك يمينه "! قال الحضرمى: إن الرجل فاجر! لا يبالى على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شئ. فقال : ليس لك منه إلا يمينه ـ إذ عجز عن الإدلاء ببينة. فانطلق ليحلف، وفى رواية قال الحضرمى: أحلفه والله يعلم أنها أرضى اغتصبنيها أبوه. فتهيأ الكندى لليمين... فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرى مسلم هو فيها فاجر لقى الله أجذم ) .. ص_195(1/154)
فخاف الرجل وقال: هى أرضه، وتركها له،. وهذه القصة لا تشبه من جميع وجوهها الحالة التى تحدث الآن فى بلادنا بيد أنها تمثل الأطراف المقيتة منها. وقصة الملكية فى مصر قد اكتنفها من التعقيد والالتواء ما يملأ الأفئدة ضجرا!! وخير ما تعالج به أن تقيد هذه الملكيات فى الحال. و إلى أن يتم هذا التحول نريد أن نبحث الآن الصلات القائمة بين ملاك الأرض والعاملين فيها. *** تستخدم الدوائر الزراعية طوائف الأحداث فى شتى المناسبات للعمل فيها، وأبرك هذه المناسبات وأحللها بالبر والخير تلك التى تهجم فيها أسراب الدود على الثمار والمحاصيل تحاول الفتك بها فتلجأ هذه الدوائر إلى استيراد الأولاد من القرى الفقيرة. ومن مواسم هذه الآفات يرتزق جمهور كبير من الفلاحين وأولادهم، بل هى أيام أفراحهم وأعيادهم!! والأجور التى تصرف لأولئك الصغار تافهة يباع فيها الجهد الإنسانى بأقل الأثمان. ومع ذلك لاتصل هذه الأجور إلى مستحقيها كاملة. فإن السماسرة يفرضون عليها ضرائبهم ويسرقون منها ما يمكن الاستيلاء عليه. وهذا حرام لاشك فيه، ونص الرسول على حرمته: " اياكم و القسامة " قلنا: وما القسامة؟ قال: " الرجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا ". فهل تدرى مكاتب العمل الحكومية شيئا عن هذه الأحوال؟. إن هؤلاء الأولاد يقضون أيام عملهم ولياليها يطعمون شر مطعم ويبيتون شر مبيت!. ص_196(1/155)
ثم يعودون إلى قراهم المتلهفة لمقدمهم وقد نال منهم الإعياء وأصبحوا فريسة سهلة للأمراض المتوطنة أو للعلل الوافدة ولولا إلحاح الحاجة وعض الفقر ما فرط الآباء فى فلذات أكبادهم بذلك الهوان. وقد كان الآباء يمنعون أولادهم من الانتظام فى سلك التعليم ليحملوهم ـ وهم صغار ـ أعباء البحث عن الرزق فى بيئة شحيحة به!. فلما كفل الطعام أخيرا لصغار التلامذة أقبل الممتنعون ثانية وازدحمت بهم الفصول حتى أصبح دخول المدارس يحتاج وساطات. أليس فيها الطعام العزيز؟. أليست هذه نقائض تستلفت نظر الأغبياء، أن يعيش أفقر شعب فى أخصب أرض، وأن تعيش أمة مريضة فى أصحى جو وأصفاه، وأن يعز القوت فى البلد الذى ينتج الأقوات ؟؟. على أن فى النفس أشياء من تكليف هؤلاء الأطفال مؤنة الكسب وتحميلهم مشاق العيش، وخصوصا فى جو يفيض بالنقائض، ويكتظ بأسباب الاحتيال و الضلال. وقد كان عثمان بن عفان يقول: ( لا تكلفوا الصبيان الكسب، فإنكم متى كلفتموهم الكسب سرقوا، و لا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها كسبت بعرضها، واعفوا إذا أعفكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها ). والكلمات الأخيرة من وصايا عثمان بالعفاف لو أحيطت بالضمانات المعقولة، لا طمأننا إلى أن ما يحذر لن يقع!!. لكن ما الحيلة إذا تلفت الناس فلم يجدوا مرتزقهم إلا أعشابا تنبت فى الصخور، وأقواتا من رجال مردوا على القسوة والفجور؟. و إلى جانب هؤلاء الأطفال المطالبين بالتكسب من نعومة أظفارهم، وما أظن أظفارهم إلا خشنة من ساعة الميلاد يوجد صنف آخر من الفلاحين هم سكان العزب والقرى التى سقطت بما فيها ومن فيها بين مخالب أصحاب الإقطاعيات الشاسعة كما تسقط البلاد المهزومة فى أيدى الجيوش الغازية!!. ص_197(1/156)
وهؤلاء الفلاحون يجدون معايشهم المحدودة منتظمة نوع انتظام ماداموا قادرين على خدمة الأرض وسادتها... فهم فى هدنة من حاضرهم ما بقيت صحتهم تعينهم على شق الأرض وبذر الحب. والويل لهم إن أصابهم مرض، لقد اضطرب مستقبلهم، وخيبت آمالهم فهم فى بيوت لا يملكونها، وفى زراعة لا يملكونها، ووراء حيوانات لا يملكونها. ومعنى عجزهم عن العمل أن يخرجوا هم وأولادهم ونساؤهم ويتركوا خلفهم هذا كله.. لرب الأرض المحظوظ. وقد ارتفعت صيحات شتى بأن (الملكية ) وظيفة اجتماعية تفرض على المالك أن يعني بمن عنده من طوائف الفلاحين يمدهم إذا احتاجوا أو يسعفهم إذا نكبوا أو يوفر لهم الغذاء والكساء والدواء، ولكن هيهات. إنها صرخات ذهبت فى واد، فما طاب بها مالك نفسا، ولا رفع بها فلاح رأسا، وما من ذى نعمة من هؤلاء الملاك البطرين إلا والفلاح التعس رب نعمته ومصدر ثروته ومتكأ وجاهته. غير أن الفلاح محروم من هذا الذى صنعت يداه ـ وهو منه قريب ـ كما تحرم الإبل فى الصحراء من الماء محمولا على ظهورها وهى تكاد تهلك عطشا. ومن العجائب، و العجائب جمة قرب " الطعام " وما إليه وصول كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ثم صنف آخر من الفلاحين، هم مستأجرو الأرض من ملاكها الصغار أو الكبار، والظاهرة الفذة أن هذه الإيجارات قلما تنتهى بخير إلى جانب الرجل المرهق فيها. فإما عاش المستأجر من غلتها كفافا لا له ولا عليه. وإما استدان للوفاء بحقوقها المربوطة بعنقه. وربما باع فيها بعض أملاكه الشخصية بعد مآسى تشهدها المحاكم ومحاضر الحجز، ويتوسط فيها أهل الخير والشر!!. ص_198(1/157)
بين العمال والشركات: وننقل تلخيصا للأستاذ راشد البراوى عن حالة طائفة أخرى من العمال الذين تحسن الرأسمالية استغلالهم إلى آخر رمق، ولا تفكر قط فى الإحسان إليهم والأخذ بيدهم. وهو تلخيص مستقى من مصدر حكومى قال: " جاء فى تقرير بعثة وزارة الصحة لدراسة الحالة العامة للعمال فى المنطقة الصحراوية بسواحل البحر الأحمر: " وقد ثبت للبعثة من اطلاعها على بيانات مراكز العلاج هناك على ضالتها أن أغلب العمال قد أصيبوا بالحمى والنزلات الشعبية وبالروماتزم علاوة على حالات التسمم بالمنجنيز الذى ينتهى بالشلل، ومما لفت نظر البعثة أن العمال الذين يشتغلون فى حفر الآبار كانوا يصعدون على سلالم حديدية على ارتفاع كبير يزيد على 35 قدما، وهم بملابس رقيقة لا تقيهم شر البرد القارس على هذا الارتفاع حيث يمكثون فى المرة الواحدة مدة تتراوح بين 60 و 90 دقيقة ليلا ونهارا. وقد لاحظت البعثة أن حالة العمال فى منجم الحويطات سيئة للغاية بالنسبة لزملائهم فى المناجم الأخرى. إذ نحلت جسومهم بشكل واضح علاوة على التهوية الضعيفة فى المنجم، وانخفاض سقفه مما يضطر العامل للعمل وهو منحن باستمرار. وفى منجم العطشانة وصل ضيق التنفس والاختناق داخل المنجم إلى حد كبير، علاوة على أمراض العيون التى تنتشر هناك. ومع كل ذلك فإن الأدوية والعقاقير التى تبعث بها وزارة الصحة لا تكاد تكفى لحاجات العشرات. ومن المؤلم أن منطقة مرسى علم وبها ستة مناجم تضم 742 عاملاً ، ليس بها سوى نقطة إسعاف واحدة صغيرة يعمل بها تومرجى حاصل على شهادة حلاق صحى. ومن الدلالة على جسامة إصابات العمل فى هذه المناطق أن البعثة قد حصرت وحدها فى خلال مدة قصيرة 117 إصابة بين عمال شركة رأس غارب و 130 إصابة بين عمال شركة الغردقة و 69 إصابة بين عمال شركة سفاجة و 319 إصابة بين عمال شركة القصير و 124 إصابة بين عمال شركة الدرية فيشيا و 203 إصابة بين عمال شركة سلنشيليو. ص_199(1/158)
وقد لجأت الشركات فى هذه المناطق إلى فصل العمال الذين يقعد بهم المرض دون تعويض، فكشفت البعثة فى رأس غارب عن فصل خمسة من العمال أخيرا، أولهم بسبب الضعف العام، وثانيهم بسبب ضعف النظر، وثالثهم بسبب التهاب الكلى، ورابعهم بسبب البول السكرى ، وخامسهم بسبب السل الرئوى. ثم جاء فيه أن البعثة لاحظت أن الشركات لا تعنى بشروط وقاية العمال، فعمال الشحن بشركة أبى زنيمة مثلا لا تصرف لهم القناعات التى فرضتها الحكومة أثناء مزاولة العمل، حتى لا يصابوا بالتسمم الذى يفضى إلى الشلل. وكذلك الأمر مثلا فيمن يعملون فى ضغط بعض الغازات كالبنزين إذ لا تصرف لهم المناظر والقفازات التى تقيهم من تأثير الهيدروجين المكبرت، مما سبب كثيرا من حالات التهابات الملتحمة، وكثيرا من حالات الالتهابات الجلدية بأيدى عمال الآبار. والأمر أشد هولا فى شركة سفاجة، إذ العمال معرضون هناك باستمرار لمسحوق الفوسفات دون وقاية لصدورهم وعيونهم. ولعلاج هذه الحالة يجب تهيئة جو صالح أثناء العمل، وذلك بإصدار قانون المصنع حتى يمكن تعديل النظم الحالية المعمول بها فى الوقت الحاضر، تنفيذا لقانون الرخص الصادر سنة 1904 وحتى يمكن عند الترخيص بإنشاء إدارة المحال الصناعية مراعاة توفر الأمكنة الصالحة لقضاء فترات الراحة وتناول الطعام، والتخلص من الغازات و الأبخرة والدخان والغبار والسوائل، علاوة على ما يوضع الآن من الاشتراطات الخاصة بالموقع والإضاءة والتهوية وموارد المياه وغير ذلك من الشروط الصحية الأولية. ومن مميزات هذا المشروع أن يتمكن أصحاب الأعمال من الوقوف مقدما، وقبل تنفيذ مشروعاتهم على الاشتراطات الواجب توافرها. " ا. هـ. *** وقد وقر فى أذهان هؤلاء العمال أن الكسب والخسارة أقدار قاهرة لا دخل فيها لتعب الإنسان وكفاحه. وذلك لطول ما عملوا وتعبوا وكافحوا ولم يجدوا ربحا يذكر أو نفعا يؤثر. ص_200(1/159)
ولطول ما رأوا الأعيان يروحون ويغدون ناعمى البال هادئى النفس مطمئنين إلى اليوم والغد. كأن الشاعر همس فى أذن كل واحد منهم ببيته الناعس الرخى: وإذا السعادة لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان ومثل هذه الفكرة شر مستطير على الشعب الذى يعتنقها. وأسوأ ما تبلى به أمة أن ينتشر هذا الفهم للقضاء والقدر بين أبنائها وأن تعامل على ضوئه كلا من أصدقائها وأعدائها. إنه منطق معكوس. لا نتيجة له إلا قلب الحقائق، و إلقاء اليأس فى النفوس. وقد نشبت الحرب الأخيرة، ورأت الحكومة أن الضرورات تقضى بتحديد إيجار المساكن فسنت لذلك قانونا لا يزال ساريا إلى اليوم. بيد أنها رفضت أن تضع أى تحديد لإيجارات الأرض مع تعطش الجمهور فى القرى والمدن جميعا إلى سن مثل هذا القانون. وهذا التصرف من غرائب التشريع فى العالم، وعلته هنا تغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة، وترك نفر من الكبراء والأغنياء يعيشون فى مستوى شاذ من الترف و السرف بعيدا عن الإحساس بأية تبعة فى أعناقهم نحو الأمة التى يعيشون على قلوب بنيها. أما الجمهور فقد عانى و ما يزال يعاني غلاء فاحشا فى الخضروات والفواكه والألبان و اللحوم. ولم يفلح تسعير هذه المواد فى وقف موجة الغلاء الكاسحة، إذ إن العلة الأولى باقية وهى ارتفاع إيجار الأرض ارتفاعا لا مبرر له. إلا أن يزداد الغنى غنى والفقير فقرا. *** ص_201
الفصل السابع دين واقعي لا خيالي ص_202(1/160)
قد يقال: ما للأديان وهذه المشاكل تتصدى لها؟. وجدير بها أن تقف عند خصائصها الأولى فتوضح المسائل الإلهية وتشرح التعاليم النفسية والخلقية. ولئن نجحت فى هذا الميدان لقد كسبت معركة الحياة حقا، وأدت رسالتها كاملة!. وهذا رأى له وجاهته لو أن الدين على ما فهمه القاصرون فيه، من أنه طقوس تقام، ورسوم تصان، وبخور يحرق، وأيد تقبل، وملامسة للنفس الإنسانية من أضيق جوانبها، ويعرض لقواعد الأخلاق من الناحية السلبية التى لا تعرف إلا الأمر المجرد والنهى المجرد. لو أن هذه الأشياء هى حقائق الدين وقصارى جهده فى توجيه الحياة الإنسانية والهيمنة عليها لوجب إقصاء الدين عن دنيا الناس فورا.. لكن الدين- كما أبدينا فى المقدمة- هو الفطرة السليمة والعقل الرشيد. والأنظمة العمرانية التى تتجه إليها الفطرة ويستريح إليها العقل مادامت تمشى فى حراسة الضمير اليقظ الموصول بالله- ملك الناس إله الناس- فهى دين لا غبار عليه.. أى أن الدين له مركز ثابت لا يتغير و لا يتنقل- كنقطة ارتكاز الدائرة- ذلكم هو الضمير الإنسانى. وله آفاق تمتد وتتسع وتترامى فى شتى الأمكنة والأزمنة لكنها ترتبط بهذا الضمير ارتباط محيط الدائرة بنقطة ارتكازها. وهذه الامتدادات ليست إلا عمل المواهب البشرية فى هذه الحياة. وهى لا حدود لها ولا تخوم، و إنما صنعت لها الحدود، وأقيمت فى وجهها السدود أيام التأخر العقلى الغابر... والإسلام دين يقوم على هذه الحقائق وحدها، ويبرأ من الأوهام التى اتصلت به لتجعله دين كهنوت وجبروت، كالأديان التى سبقته، و التى حال لونها على مر الزمن ففسدت وأفسدت على الناس حياتهم. وملكت نواصيهم لأصنام من الحجر أو أصنام من البشر. ص_203(1/161)
وما هكذا أنزلت من عند الله ولا هذا ما يحب الله للناس " وما الله يريد ظلما للعباد". ولقد كره نبى الإسلام أن يطلع دينه على الناس وهو يرتدى مسوح القساوسة، و خشى أن تضيع أركانه الحقة كما ضاعت الرسالات الأولى بين حملة القماقم ولبسة الطيالسة . وحذر أمته عواقب السير فى هذه الطريق فقال: " إنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين "!!. وكأنما رمق المستقبل وما يطرأ على الأمم من تطورات تهدد كيانها وتخدش رسالتها فقال: " ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل " . ولو أن الأديان تؤخذ من أحوال أصحابها وأعمالهم لسقط الإسلام فى هاوية لا يقام منها. ولكن قوة الإقناع والإيمان المنبثقة من التعاليم الأولى لهذا الدين لا تزال فى مستواها العالى تفهم الإنسان أن الدين قلب حر يعنو لله وحده، وعقل حر ينطلق فى آفاق الحياة انطلاق الشعاع؟ وإرادة حرة تعلو على الشهوات والأهواء و المباذل. فمن فقد ذلك فقد الدين، ولم تجده فتيلا شفاعات الأرض ولا وساطات السماء. ومن وجد ذلك وجد الدين، ولم يضره قليلا يهب الحمقى ولا استنكار الأغبياء. إن الإسلام أسقط الوسائط بين الخلق والخالق، وجعل التدين الصحيح صنوا للتفكير الصحيح ليس احتكارا لطائفة ولا خاصا بإنسان. ومن ثم فهو قائم على الحقائق المتغلغلة فى عروق التاريخ إلى الأزل الممتدة على وجه الحياة إلى الأبد. وبهذا أصبح الإسلام دينا إنسانيا عاما، يشرع للإنسان على أنه جسم وروح فلا يفرق بين جوانبه المادية والمعنوية لا فى التكليف ولا فى الجزاء. ويشرع للدنيا كما يشرع للأخرى على أساس أن الإنسان سيعيش فى " الآخرة " ـ حتما ـ كما عاش فى الدنيا ـ قطعا. ص_204(1/162)
فمن عمى عن الحقائق الصحية هنا لم يبصرها هناك. (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا). ثم حارب الإسلام فكرتين تتسلطان على أوهام الناس غالبا كلما ذكرت الأديان. 1- الغلو فى العبادات... وتلك هى الفكرة الأولى، وتصدق على أحوال طائفة من المتدينين الأقدمين الذين كانوا ينتمون إلى الفرق الصوفية، ولئن كان الغلو الآن ليس صفة شائعة عند جمهور المسلمين ـ لأن التفريط يغلب على تصرفاتهم ـ إلا أنه أمل العصاة منهم إذا ثابوا إلى رشادهم، وقرروا إصلاح أمرهم، و إقامة عوجهم. إذ تظن كثرتهم أنه أمارة الخير ودليل التقى، حتى ليقع فى عرف الناس أن طول العبادة وعرضها واستغراقها لأوقات أصحابها صفات لا تنفك عن العبادات العظيمة المتقبلة!. وربما وجد من طوائف المسلمين من يقضى نصف يومه فى الصلاة وحدها، وبزعم أن الدين لا يصلح إلا بهذا التغالى ، وذلك خطأ. فعن سهل بن أبى أمامة أنه دخل هو و أبوه على أنس بن مالك ـ صاحب الرسول ـ فإذا هو يصلى صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر!. فلما سلم قال له: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المفروضة؟ أو شئ تنفلته ـ تطوعت به ـ؟! قال: إنها الصلاة المفروضة، وإنها لصلاة الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه. ثم قال: إن الرسول قال: " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع و الأديار: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . ص_205(1/163)
ويشيع الآن بين بعض المسلمين استعمال السبحة مثلا كأنهم لم يكفهم ما شرع الله من أذكار، فزادوا فيها ما يبلغ به الدين تمامه!. وربما حرص بعضهم على نوافل الدين أكثر مما حرص عليها صاحب الرسالة نفسه. ونستطيع القول بأن هذا الإغراق يكاد يكون مظهرا عكسيا لانحلال عرا الإيمان فى النفس، والباحث عن جوهر الدين لا يجده فى أفئدة هؤلاء المغالين الدجالين. وإذا وجد منه شيئا فنسبته تافهة إلى جانب المظاهر الكثيفة التى يتظاهرون بها ويتطاولون فيها... ذلك أن هذا التغالى لا يقع إلا فى العبادات الشخصية القائمة على الإيمان بالغيب، و لا يقع فى العبادات الاجتماعية القائمة على التواصى بالحق والصبر والتعاون على الخير والبر، ولا فى العبادات السياسية المبنية على الجهاد الدموى و المالى لتحقيق الأهداف الإنسانية العليا، مع أن المسلم إذا فاته من هذه العبادات فقد فاته لباب الدين، فما يجديه التغالى بعدئذ فى مظاهر الصلاة والصيام؟. وإنما وقع الغلو المذموم فى النوع الأول من العبادات وحده وازدحم المتنطعون على موارده لأن التلبيس به ممكن على النفس وعلى الناس. ومقياس الصحة والفساد فيه، والقبول والرفض له غيب عند الله وحده.. والانفعالات النفسية التى تدفع أصحابها إلى الإغراق فى التعبد لا ميزان لها عند الله. إنما الميزان الراجح لما يتعوده الإنسان من أعمال صالحة يستقيم بها خلقه، وتزكو بها نفسه، ويسمو بها ضميره وسلوكه حتى الممات . ولقد روى عن الرسول ـ وقد أخبر عن مولاة له تقوم الليل وتصوم النهار ـ فقال: " إن لكل عامل شرة ، ولكل شرة فترة، فمن صارت فترته إلى سنتى فقد اهتدى ومن أخطأ فقد ضل " . 2- التزهد فى الدنيا: وتلك هى الشبهة الثانية الرائجة، فمن أقسى المطاعن التى وجهت إلى الدين فى صميمه و نالت منه فى هذا العصر شر منال، أنه عدو لدود للعمران البشرى، ص_206(1/164)
وعقبة كئود أمام النشاط الإنسانى ، وسجن مطبق السدود للغرائز المرحة المهتاجة، والعواطف المنطلقة الجياشة، والأفكار الحرة المحلقة فى طباق الأرض و السموات. مع أن هذه كلها وقود الحياة المنطلقة فى طريقها، والسائق الحادى للقافلة البشرية كيما تملأ البر والبحر زحاما و تجديدا وبناء وتعميرا. وهذه التهمة معرة تلتصق بتدين الرسوم و الطقوس وحده!. وبالتعبد الذى يبنى مبادئه الأولى على التجاهل للفطرة وتزييف اتجاهاتها وتزوير نزعاتها!!. ونحن نرى أن الديانات التى تأتى للإنسان فتمحو من حياته أخصب مشاعره وأمسها برسالته الدنيوية لا تستحق أن تبقى. وقد نفى الإسلام عن نفسه فى حرارة وحماسة هذه التكاليف الباطلة، وأهان من يتدخلون فى السلوك الإنسانى ليحلوا منه ما شاءوا، ويحرموا منه ما شاءوا: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم). بل اعترف الإسلام بالغرائز الإنسانية اعترافا كاملا، وواجه بها الحياة مواجهة سافرة. وقدر المدى الحيوى الذى يحتاجه كل فرد ثم منحه إياه، ولم يبتر من الطبيعة الأصيلة فى النفس عرفا. غاية ما صنع أنه تدخل فى " المظهر السلوكى " لهذه الغرائز فنهج به المنهج الذى أقره علم النفس الحديث، منهج التسامى بالنزعات الساذجة واستبدال ما هو خير بالذى هو أدنى. ومن هنا أحل الطيبات كلها يغرف الإنسان منها و يرتوى حتى يشبع نهمته. ووطأ للناس ما فى الأرض جميعا ينتفعون منه قدر طاقتهم. بل ورع الكواكب فى السماء توزيعا يستريح إليها طرف الإنسان إذا شاء المتعة: (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين). ص_207(1/165)
وجعل للجسد حقا وللعين حقا. وللأهل حقا، وللضيف حقا، وأوصى أن يعطى كل ذى حق حقه. ولم يجعل التمكين فى الدنيا والاستخلاف فى الأرض أمرا تافها تدركه الشعوب الهزيلة أو الأمم التى لا قدرة لها على التعمير ولا كفاية لديها للإجادة والتنظيم، كلا فليس يرشح للسيادة فى الأرض إلا الصالحون للوصول بالإنسان إلى مكانته العظمى فوقها: (و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين). ويدل على هذه الحقيقة أن الله ـ تعالى ـ امتن على يوسف الصديق بأن مكن له فى الأرض ـ بهذا المعنى ـ يدير شئونها ويشرف على أهلها، ويهيمن على خزائن المال فيها. (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين). وهذا فى الدنيا فقط ولذلك يقول بعدها: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون). ولما أصبحت شئون الدنيا لا تزن عند المسلمين جناح بعوضة أصبحوا هم ـ شعوبا وحكومات ـ لا يزنون فى نظر العالم جناح ذبابة. ولما فاتهم السبق فيها وأعجزهم النبوغ فى علومها وفنونها أفلت الزمام من أيديهم، وأضحت سياسة العالم تدور بعيدا عنهم بل تدور للمكر بهم والكيد لهم. إن الدين يكره أن تأتى الدنيا للإنسان من حرام. ويكره إذا جاءته أن يسخرها فى خسائس الأمور و محاقرها. لكنه يطلب طلبا حاسما أن يقبل الإنسان عليها من أبوابها المشروعة. ولأمر ما ارتفع الإسلام بالتجار الذين يكسون الحياة ويحوزون الدنيا من هذه الطريق حتى سلكهم مع النبيين والصديقين. ص_208(1/166)
كما ارتفع بالفلاحين الذين يشقون الأرض، فجعل ما يطعم الناس والدواب والطيور من زراعتهم صدقات ماضية الأجر إلى يوم القيامة. وهكذا يعمل المؤمن للحياة مادام حيا، فتتصل به وبغيره مواكب العمران، وتعتز به وبجهده حقائق الإيمان، فإذا جاءه جاء الموت لينقله من حياة كفاح إلى حياة فلاح، فهو يلقاه مقبلا لا مدبرا. ومتى جاء هذا الموت لم ألف حاجة لنفسى إلا قد قضيت قضاءها! فلسفة التصوف.. و المذهب المادى: من تزاوج الغلو فى الدين والزهد فى الدنيا، ولدت فلسفة التصوف فكان نتاجها العقلى أسوأ ما أصاب التفكير الدينى من شلل وانطفاء. إذ وجد رجال يركبون من أسماء الله وصور العبادات وشتى الأوراد، أدوية للنفوس، كما يركب الدجالون من أدعياء الطب أدوية الأجسام من العقاقير والحشائش المجهولة فتريح الناس لا من آلام المرض بل من تكاليف الحياة نفسها. وعلى هذا النمط شرع رجال التصوف من الدين ما لم يأذن به الله، ووصفوه للأعم على أنه العلاج الناجح فكان السم الناقع إذ دخل به على صميم الدين فساد كبير. وقد شعر أئمة الإسلام بما تنطوى عليه فكرة التصوف من أغلاط تمس جوهر الرسالة التى دعا إليها القرآن فأعلنوا عليه حربا شعواء. وخاصموا رجاله الذين انتموا إليه من ثقة به أو لإصلاح أمره، و إقامة عوجه. بيد أن المعركة انتهت بهزيمة التفكير السليم الناضج- للأسف العميق- واستطاع أغبياء المتصوفة أن يلووا عنان الإسلام عن نهجه العتيد إلى نهجه الجديد الزائف. وانبعثت مرة أخرى الرهبانية- التى كان الإسلام أول عهده قد قضى عليها- وأصبح هم العامة أن يترددوا بين بيوتهم والمسجد، وأن يأخذوا من الحياة ما يسد الرمق فحسب... وأصبحت كلمة التدين فى عرف هؤلاء تعنى كل شئ إلا تأسيس الحضارات وإقامة النهضات وبعث المدنيات. ثم ظل معني الكلمة يهوى حتى صار التدين سبة يأنف الأذكياء من الاتصاف بها. ص_209(1/167)
ودين الله برئ من هذا المجون أو ذلك الجنون. وهو فى حقيقته الناصعة أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى!. وقد أبنا لك نواحى صادقة من جوهوه الأصيل. وكان رد الفعل لهذه الرهبانية المتصوفة التى صبغت الدين أن اتسع نطاق المذهب المادى الملحد، وغلبت نظرته للحياة غيرها من سائر النظرات. واتجه العالم اتجاها آليا بحتا فى تصويره للإنسان وتقديره لجهوده، كما اتجه الاتجاه نفسه فى فهمه للطبيعة وتحليله لعناصرها وفى وضعه للعلوم وسيره بمناهجها!. وانطلق الناس فى هذه السبيل لا يلوون على شراء.. يدوسون تحت أقدامهم المخلفات الدينية التى قد تصادفهم، أو يركلونها لتختفى من أمامهم فى جانب مهجور من جوانب الطريق، حتى لا تعوق تيار الحياة الذى تحرك ولايريد الوقوف! وقد اعتنقت الرأسمالية والشيوعية كلتاهما المذهب المادى واستراحتا إلى فكرته. إلا أن الرأسمالية كانت الأم فى معاملتها للدين فضمته إلى معسكرها، ولكن بعد أن شوهت وجهه، ومسخت ملامحه، واطمأنت إلى أنه سيقبل الهوان فى كنفها وأنه لن يقف يوما ما فى طريق أطماعها. وأما الشيوعية فلم تجد ما يلجئها إلى تمثيل هذه الأدوار الهاؤلة... فأعلنت كفرها الصراح!!. ونحن نتساءل: أتلك نهاية المطاف؟. أتثوى الفطرة الإنسانية الحرة الذكية فى هذه المقبرة المظلمة؟. وهل يقف الضمير الإنسانى هذه الوقفة الذليلة الجاحدة متنكرا لربه ودينه وخلقه معتذرا بأن بعض الرجال الذين يمثلون الأديان هم الذين أكرهوه على هذا الموقف؟. إن الإسلام النابع من الفطرة الصحيحة، المنبثق من الطبيعة السليمة، الذاهب مع مسارح الفكر اليقظ كل مذهب، المغتبط بنتاج العقل الرشيد أيما اغتباط، يأبى على الناس هذا الشرود و التبلبل ، ويقر معهم مادية الحياة ثم يذكرهم بمعنوياتها التى لا يليق أن تنسي. أو يقر معهم حاضر الدنيا ولكنه يذكرهم بمستقبلهم فى الآخرة. ص_2 ص(1/168)
فما أحقر الوجود الإنسانى لو كان نصيبه الأول والأخير هذه السنوات التى يحياها المرء ثم يختفى بعدها تحت الثرى إلى غير معاد. جسد وروح، مادية ومعنوية، ذاك هو الإسلام، ودعونا من فلسفة التصوف الغبى ومن فلسفة المادية الصغيرة...!!!. مقياس دقيق! لم يجعل الإسلام كثرة العبادة دليل التقى والعفاف، فإن القلب وحده موضع التقوى. واستقامة الضمير الإنسانى وارتقاؤه هما الكمال الحق والخير المنشود. وقد حذرنا النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ من أقوام عبادتهم كثيرة و ظواهرهم مغرية: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم... ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، من قاتلهم كان أولى بالله منهم " . وفى عوة الإسلام إلى منابذة هؤلاء المتعبدين الدجالين تنطق بمقته للمظاهر المكذوبة ، وتدل على أن كل بناء لا يقوم على الضمير الذكى المستنير فهو بناء مشيد على دعائم من رمال. وكذلك لم يجعل الإسلام الإقبال على الدنيا دليل رقة فى الدين أو ضعف فى اليقين. كيف وهو يعتبر التاجر ـ الذى يكسب ماله بالوسائل الشريفة ـ مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين. ويرى أن الناس من يستمتع بالحياة فى أنعم صورها فلا يحول ذلك بينهم وبين أن يكونوا أهلا لرضوان الله وحسن مثوبته. وفى الحديث: " ليذكرن الله أقوام فى الدنيا على الفرش الممهدة فيدخلهم الدرجات العلى ". أفبعد هذا يبقى للتصوف بشقيه ـ الغلو فى الدين والزهد فى الدنيا ـ موضع يعترف الإسلام به؟. ص_211(1/169)
أو يبقى لهذا اللون من الجنون الدينى أساس يرجع إليه أو سناد يعتمد عليه؟. لكن المتشائمين من أصحاب الأمزجة السوداء، والمعلولين من أصحاب الأجسام السقيمة، والفاشلين فى ميادين الحياة النشطة، والمنتفعين من نوم الشعوب الحذرين من بوادر اليقظة فيها، هؤلاء جميعا حريصون على إلباس الدين أسمالا مزقتها الليالى ، و على إنطاقه بتعاليم مجتها الطباع. ولا نتيجة لها إلا جعل المتدينين فى هذه الحياة أخلاطا من الصعاليك والرعاع. الصراع بين الشيوعية والإسلام: تكلمت الصحف أخيرا عن الفجوة العميقة التى تفصل بين المسلمين فى روسيا وبين تعاليم " ماركس " وفلسفة الشيوعية المادية التى يشرف اليوم على تنفيذها الرفيق "ستالين " والتى تسود أرضا مساحتها خمس العالم وتطوى فى غمارها قرابة 200 مليون من السكان فيهم ما يربو على الى 40 مليونا من المسلمين. وأول ما يلفت النظر فى الأخبار الواردة من روسيا أن الإيمان فى صفوف المسلمين لا يزال يستعصي على كل موجات الإلحاد ومغريات الفساد. وأن هناك أقباسا من أنوار المعرفة بالله لا تزال تتألق فى الصدور النقية برغم ما اقترنت به الثورة الحمراء، في إنكار على الدين وتنكيل بأهله، وبرغم أن المسلمين فى روسيا معزولون ماديا و فكريا عن إخوانهم فى أنحاء العالم. و إنه لمما يثير الإعجاب أن يبقى إخواننا من المسلمين الروس ثابتين راسخين كالبحيرة التى انقطعت عن المحيط العام، ثم لم يدركها جفاف، ولم يظهر لها قاع، بل ظلت جارفة التيار بعيدة القرار. وقد ذكرت جريدة المصرى أن هناك معركة تدور فى الخفاء بين رجال الدين الإسلامى وبين رجال الحزب الشيوعى. وأن هناك إصرارا من أولياء أمور الطلاب المسلمين ألا يلقنوا أولادهم العلم فى مدارس لا تحترم الإسلام ولا تشيد به. وأن السلطات الدينية فى أواسط آسيا تستنكر من الدستور السوفييتي المادة التى تمكن كل فرد من الدعوة للآراء التى يراها حتى ولو كانت معادية للدين(1/170)
وللتقاليد القديمة، إذ إن هذه المادة قد استغلها المتطرفون ضد الإسلام فى البلاد التى تخرج منها ابن سينا وغيره من فلاسفة الإسلام. ص_212
الحملة ضد الإسلام: وكان ميسور الدعاة الإلحاد أن ينشروا المقالات المطولة فى الصحف لمحاربة الخرافات الدينية!. هكذا يصفون الإيمان بالله واليوم الآخر. ونحن ننقل نبذا من عبارات الكتاب الذين ترجمت لنا أقوالهم على طرائق تفكيرهم، وعلى قيمة الأسلحة التى يحاربون بها الدين. قال كاتب فى جريدة " سوفييت كرجيزيا ": " إن الدين ألعوبة فى أيدى الرأسماليين، و إنه فكرة تسعي لإقناع الطبقة العاملة بحب الذين يستغلونهم استغلالا لا رحمة فيه. و إنه ليس ضد العلم فقط بل إن مظاهره الخارجية من صلاة وصيام، تقلل ساعات العمل فى المزارع التعاونية بالجمهوريات السوفيتية وتخفض إنتاجها وتقضى على النظام الدقيق الذى وضع للعمال.. وهذا ما يدركه كثيرون من رجال الدولة المسلمين حتى زعماء الحزب الشيوعى منهم. وهذا خطر يهدد النظام السوفييتى فى بلاد آسيا الوسطى بوجه خاص ". هذا الكاتب يصور بدقة التهم التى توجه للإسلام.. وهى تهم موغلة فى الافتراء، ولو وجدت لها ظلا من الحق ما كابرت فى الرد عليها، فإن تعاليم الإسلام لا تجعله دينا يخدم الرأسمالية أبدا، كيف وهو دين يخذلها ويناصر الطبقات الكادحة، ويصون حقوقها، ويدفع عنها كل عادية ويحضها على مقاتلة أي من الناس تحدثه نفسه بالافتيات عليها ونهب مالها. والإسلام يجعل القتيل فى معركة الحقوق شهيدا، والقاتل مجرما يخلد فى النار. والاشتراكية الإسلامية التى تستبعد انطبقات المترفة، وتأبى وجود أى أثر للجوع والجهل والهوان، لا يمكن البتة أن توصف بأنها تقنع العمال بحب ظالميهم والخنوع لمستغليهم كما يزعم هذا الكاتب الجاهل بالإسلام. ص_213(1/171)
واجب الأزهر: على أن طبيعة الإسلام الصافية ربما عكرتها طبيعة بعض الرجال الذين ينتمون له فى هذا العصر. وعلى الأزهر أن ينعطف نحو الشعب ونحو الفقراء وأن يهتم بدراسة مشاكل الجمهور الاقتصادية دراسة تحرج الطبقات التى أقامت كيانها على إذلال الطوائف العاملة وتجويعها وأكل حقوقها وغصب أراضيها. وإنه ليحزننا أن نقول: إن التصريحات و الإفتاءات التى نشرت أخيرا لم يكن لها أثر ترتاح إليه نفوس المتتبعين للحركات الإسلامية. وقد قمت بواجبى فى الرد عليها حين صدورها، والمهم أن نعلم بأن الإسلام متهم فى نظر البعض بأنه ألعوبة فى أيدى الرأسماليين، وأن هذه التهمة بعيدة عن جوهره، ولكنها تلتصق به إذا سكت رجاله عن محاربة الطبقات المستغلة ومجاهرة أصحابها بالعداء. أما قول الكاتب الروسى بعد ذلك: " إن العبادات تعوق عن العمل والإنتاج، مما يؤثر فى مقدرة روسيا المادية " فهو هراء كسابقه. فإن الصلوات التى فرضها الإسلام لا يستغرق أداؤها ثلث ساعة من الأربع والعشرين ساعة. وساعات العمل فى اليوم كله تبلغ ثمانى ساعات. بل إن أسبوع العمل فى كثير من الدول لا يزيد عن أربعين ساعة. بيد أن هذا الكاتب ربما يطعن على الإسلام من تصرفات بعض الصوفية وأشباههم من الفرق التى قد تزهد فى العمل و تغالى فى العبادات، وتشتغل فقط بالأحزاب والأوراد، وتسئ بمسلكها الخاطئ إلى سمعة الدين وأهله!!. وواجب الأزهر إخضاع هذه الفرق الشاردة له، و إلزامها طوعا أو كرها مبادئ الإسلام ومناهجه. فإن أفكار العامة قد بلبلها طول الاختلاف وقلة المراجع الحاسمة. ونحن لا نحب أن يظن بالعبادات الإسلامية أنها عائق عن الإنتاج المادى والأدبى، أو أنها قيود مفروضة على الإنسان. ص_214(1/172)
فإذا كان مسلك بعض المسلمين سيكون ذريعة إلى إلصاق هذه الظنون بالإسلام فليس على الأزهر حرج قط إذا احتاط لهذا الأمر، وحارب تلك المسالك. قد أتصور فى الفاتيكان أن يحارب الشيوعية بالعظات يوم الأحد وأن يبحث القساوسة فى البيوت والأندية لهذا الغرض. أما الأزهر- وهو ممثل الإسلام- فسبيله إلى محاربة الشيوعية، معالجة الأمراض الاجتماعية، ووصف الدواء الناجح لها من تعاليم الدين، والقيام بحملة جهيرة الصوت على الخلل الخلقى و الاقتصادى الذى يجعل فى بلادنا حفزا عميقة يملؤها السيل الشيوعى فى أول مد له!!. فالفيضان العالى يكافح بتعلية الشواطئ. والشيوعية تكافح بتعلية المستوى الاجتماعى. ولهذا ما يحب أن يصرخ به علماء الدين فى آذان الغافلين..!! وجود الله: ونشرت جريدة " تركمنسايا " التى تصدر فى جمهورية التركمان الإسلامية مقالا لمدير بيت الثقافة تساءل فيه: هل الله موجود فعلا ؟ ثم رد على سؤال نفسه فقال: لا أستطيع أن أقول: إن كان الله موجودا أم أنه ليس بموجود!!!. ولكننى مقتنع اقتناعا تاما بأن هناك قوة عليا تدير العالم!. وما كاد الكاتب ينشر هذا المقال حتى هاج عليه الشيوعيون وحملوا عليه حملة شعواء. وقالوا: إن مقاله يتنافى مع التعاليم الماركسية... يا عجبا. إن هذا الكلام اعتبر تدينا فى البيئة الملحدة! وهو يعتبر كذلك إلحادا فى البيئة المتدينة. وهو إن دل على شىء فعلى الأزمة العصيبة التى يمر بها الفكر الإنسانى، لا فى روسيا وحدها بل فى سائر أقطاب الغرب والشرق. ص_215(1/173)
وقد قرأت أخيرا، فى صحفنا نحن، أنباء الإلحاد فى كتاب الله والتهجم على مقدسات الإسلام ، و إننا لنعلم أن من الموظفين فى وزارة المعارف من أخذوا أجازاتهم العلمية من جامعات باريس على أساس الطعن فى القرآن والنبوة. وهذه الحالة المنكرة يجب أن يواجهها الأزهر بأساليب جديدة من التوسع فى الدراسات النظرية والعلمية معا. ولقد حدث انقلاب فى برامج الدراسة بالأزهر على عهد الشيخ المراغى- رحمه الله- بتر كثيرا من علوم الرياضة والطبيعة والأحياء فى القسم الثانوى. وهذا لعمرى خطأ بالغ ، فالعالم الأزهرى أحوج إلى التعمق فى هذه النواحى منه فى حواشى الفقه واللغة التى أساءت أكثر مما أحسنت إلى الفقه واللغة. وقد أضيفت بعض المواد إلى كلية أصول الدين لتدعيم مستواها الثقافى. وعندى أن من الضرورى إعادة دراسة سنن الله الكونية، ونقد المذاهب الحديثة والتوسع فى دراسة علوم النفس والتربية، وفلسفة التاريخ القديم والحديث حتى نستطيع مواجهة تيار الإلحاد بتيارات أخرى تربو عليها علما بالحياة والأحياء وعجائب الكون فى الأرض والسماء . إن الإلحاد يزحف فى بطء أو على عجل. ونحن أمام الله مسئولون عن مواجهته. وليس يفيد فى ذلك الإنكار والعويل، بل يفيد فى ذلك أن نواجه التجديد بتجديد، ولا يفل الحديد إلا الحديد أخوة فى الدين واشتراكية فى الدنيا: خلق الله الناس من نفس واحدة، وجعلهم فى الحياة سواسية، وحملهم أعباء المعايش جميعا كيما يكابدوا السعى لها. ص_216(1/174)
وعرضهم للفشل أو النجاح فى الحصول عليها عندما وضعهم على قدم المساواة أمام فرصها المتكافئة بالنسبة لهم كلهم ، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة ) !!. غير أن الإنسانية فى أغلب عصورها لم تحفل بهذه الحقائق جملة. فلا أخوة البشر العامة، ولا حقوق المساواة العادلة، ولا الفرص المتكافئة لشتى الأفراد، ولا المعايش الكافلة لحياة الناس. لا شئ من ذلك استطاع أن يسود العالم سيادة القوانين الطبيعية المنظمة فى وقوعها انتظام الليل والنهار. بل كان العدل يظهر حينا والظلم يفلت أحيانا. وكانت الحقائق الآنفة تطل على العالم بوجهها الجميل قليلا، ثم تختفى لتحل مكانها أشباح مجرمة للطغيان والفوضى والاستهتار. وسجل تاريخ الإنسانية أن بعض البشر تطاول كثيرا جدا فوق مكانه فزعم أنه إله. ونسى ـ أنه وغيره من الناس إخوة ـ وحكى القرآن عن فرعون هذا الطغيان الفردى ، وقد كان منطويا فى الوقت نفسه على طغيان اجتماعى وسياسي عندما قال لجمهور المصريين : (ما علمت لكم من إله غيري).. (فقال أنا ربكم الأعلى) ثم تقدمت الإنسانية قليلا واستحيى الطغاة أن يزعموا لأنفسهم الألوهية ورفضوا كذلك أن تتكافأ دماؤهم مع سواهم من الناس فوصفوا ذواتهم بأنهم ظلال الله فى الأرض. وقرروا أن لهم حقوقا مقدسة لا يجوز التطاول عليها، وكونوا طبقات نازعت الله صفات الكبرياء والجلال والعظمة. وكلفت الشعوب المهضومة أن تدفع تكاليف هذه الأوهام بالدم والمال. ثم تقدمت الإنسانية قليلا وبدأت تطرح عن عاتقها الأثقال التى بهظتها واستمعت إلى صوت " القرآن " وهو يقصم ظهور الجبارين، ويدمدم بأن السيادة لله وحده وأن البشر كافة عبيد أذلة. ص_217(1/175)
(إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم و عدهم عدا * و كلهم آتيه يوم القيامة فردا). ثم استمعوا إلى صوت نبيه: " الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى " . فبدأت الدنيا تنتعش من رقود، وتتخلص من قيود، وتتبرأ من سيد ومسود. غير أن شهوات الاستعلاء والجبروت القديم ما فتئت تنبعث من جحرها لتلدغ العالم ثم تأوى إلى وكرها. وما وكرها إلا ما علمت من طوائف المستغلين والمستذلين، تارة باسم الدنيا وتارة باسم الدين. فلنصرخ فى وجوههم بالحق المر: إن الإسلام أخوة فى الدين، واشتراكية فى الدنيا. ***
ص_005(1/176)
" دراسة " من أول وهلة يتسرب للأذهان ما يرحل بهذا الكتاب لأزمنة سالفة مضت عليها سنون عددا.. لقد ألف الشيخ الغزالى هذا الكتاب سنة 1947 تكملة لكتابه الأول " الإسلام والأوضاع الاقتصادية "، ومن ثم فهو امتداد للمؤلف السابق عليه. والكتاب صورة حية رائعة لموقف الإسلام من أوضاع أعلنها الملحدون حلا للفقر وقلة الحاجة.. حلا لأحوال طبقة معينة خاضعة لبعض الأنظمة المستبدة.. الكتاب تعديل وضبط وتصحيح لتلك الآراء وبيان موقف الإسلام جليا بصورة كتب لها الخلود والاستمرار ولم يقدر على تخليد الآراء سوى الشيخ الغزالى. وفى الكتاب دراسة فقهية لكثير من الأسئلة تضج بها لجان وصفحات الفتوى فى المؤسسات الدينية. والشيخ بهذه الدراسة يسبق علماء عصره والسابقين فى طريق هذا المجال الصعب، وإن كتب بعده الشهيد سيد قطب والدكتور " مصطفى السباعى " واستعان الدكتور القرضاوى بآراء الشيخ الجديرة بالتسجيل فى كتابه الشهير " فقه الزكاة " وغيرهم من أساتذة الجيل ورواد الاقتصاد والفكر الحر. ومن الصعب أن نوجه للكتاب نقدا يستحق التسجيل إلا أن الشيخ نقد نفسه بمنتهى الشجاعة ورفض تسمية " الاشتراكية " وسجل ندم الدكتور مصطفى السباعى رحمه الله على استخدامه لفظ الاشتراكية، والسبب أن الاشتراكيين الشيوعيين تركوا رأى الإسلام ومنهجه الاعتدالى واعتبروه دليل مشروعية لمناهجهم الاشتراكية!! فقد قال الشيخ الغزالى- رحمه الله- ".. أذكر أن صديقى الأستاذ مصطفى
ص_006(1/177)
السباعى ألف كتابا عن اشتراكية الإسلام ضمنه حقائق كثيرة لصرف الشباب عن الشيوعية، وقد ندم على العنوان الذى اختاره لكتابه.. وأنا أعلم سر ندمه لأننى خضت مثله هذه المحنة.. لقد ظهر لنا أن هؤلاء الاشتراكيين العرب يريدون كلمة الاشتراكية وحدها.. ولا يهتمون بعد ذلك للعقائد والعبادات التى هى لباب الإسلام. وعندما كنا نبرز لهم من تعاليم الإسلام ما يغنى عن المبادئ والتطبيقات التى سحرتهم من ثقافة الغرب والشرق. كانوا يأخذون هذا البدل المعروض ويجردونه من صبغة الإسلام، ثم يمضون فى طريقهم دون إسلام أو آخرة أو خلق. ومن هنا وضع الله الشؤم فى سياستهم الاقتصادية فما دسوا أصابعهم فى خضراء إلا جفت، ولا دخلوا بلدا إلا نعق بين أيديهم البوم، وعم القشف الأسر والأفراد.. إنهم- كما قيل- أفقروا الأغنياء ولم يغنوا الفقراء، وتلك هى حدود اشتراكيتهم، ومبعث كراهية الجماهير لها .. وقد أظهرت الأيام أن النظام الشيوعى ليس منهاجا اقتصاديا ناجحا، بل هو أسلوب قاس لمساندة حكم فردى شديد الاستبداد.. ومع هذا كله، فإن الاشتراكية حلم طبقات كثيرة من الناس.. لماذا؟ ألأنهم لا يعرفون مقابحها؟ ربما.. لكن الذى أرجحه أن الرأسمالية الاستعمارية فى الغرب من وراء هذه الأمانى الباطنة، فهى رأسمالية تأكل السحت.. وتهوى الاحتكار.. لهذا كانت رؤية الشيخ فى خطأ التسمية بكلمة الاشتراكية.. أما سعيه الحثيث لبيان موقف الإسلام فقد ذكر عن ذلك قائلا: ".. والإسلام الذى شرفنا الله به احتوى ثروة هائلة من النصوص والتوجيهات التى تحترم رأس المال، ص_007(1/178)
وتصون حق صاحبه فيه، وفى الوقت نفسه تدفع الغنى إلى جعل ماله مصدر بركة للجماعة، وتقيم من الجماعة رقيبا يمنع الغنى المطغى، والفقر المنسى سواء بسواء... لا. وأخيرا يؤلف فى كتابه مجموعة من الأفكار والآراء ربطها جميعا.. فيناقش قضايا التمليك ونظام الملكية ويلمز الفساد السياسي ويجرى أدق بحوث الربا ويسجل رأيه فى ما يسمي بالخصخصة الآن والتأمين.. والعلاقة بين العامل وصاحب العمل والمسكن الصحيح.. وغير ذلك من الأراء التى خلدها بقوة حجته وبراعة استدلاله. وقد استدعت الأمانة العلمية أن نورد ما رآه الشيخ جديرا بالتسجيل وأوردناه طبعة هذه الكتاب. وتبقى كلمة.. ألا وهى صعوبة التكيف فى تلك الفترة التى كانت فيها الرقابة على الصحف والمؤلفات صارمة والتنكيل بأصحاب الرؤى الفكرية والأقلام الحرة، لكن شيخنا لم يخشى ذلك وسلك طريقه المستقيم وصراط ربه السوى.. تعلق بالله وكتب ما كتب.. ولم يبال. "المحقق" ص_009
بداءة المدى واسع بين الظروف التى ألف فيها هذا الكتاب، ونشرت فيها طبعاته الأولى، وبين الأيام التى نحيا فيها الآن، والتى تفتقت فيها الغيوب عن أمور لم تكن فى الحسبان! لقد زال ملك أسرة! وجلت جيوش غزو! ووضعت بذور وحدة ! وأخذت تتضح معالم أمة حاولت الليالى طمسها! وطلائع حضارة تريد أن تنمو فى مغارسها الأولى، وأن تمتد مع منهاجها القديم... ومن حق القراء الذين يحتفون بما أكتب أن يستيقنوا من الخطة التى لا نحسن غيرها. وهى أننا ـ من الناحية العلمية ـ نجتهد فى ذكر الحقيقة كاملة غير منقوصة، ونقية غير مشوبة. ومن الناحية الخلقية نصارح بذكرها كل إنسان ونعتدها شهادة يجب أداؤها لله دون إيهام أو إشفاق... وأملى أن أوفق لخدمة دينى، وأن يقبل منى هذا الجهد!! وأحمد الله أن قمت بهذا الواجب حين نكص آخرون " وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى ". وأسأل الله هدى يضىء السبيل، وعونا يذلل الصعاب. محمد الغزالى ص_011(1/179)
مقدمة الطبعة الثانية الإسلام فى أوطانه جرت هذه الكلمة على لسان كثير من الساسة والرؤساء فى بلادنا: " إن الإسلام يعصمنا من الشيوعية ، وفى مبادئه المثلى غناء عن الأفكار التى غزت أقطارا أخرى من العالم ". ونحن أعرف الناس بصدق هذه الكلمة.. وأعرف الناس ـ كذلك ـ بأن الذين قالوها رجال كذبة، لا يتعصبون للإسلام ولا يسعون لنفع الأمة البائسة بتعاليمه الحانية الرشيدة . ويذكرنا موقف هؤلاء الزعماء من الإسلام بموقف المنافقين القدامى من رسوله العظيم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) إن الإسلام حصانة ضد المبادئ المتطرفة حقا، ولكن ما هو هذا الإسلام الذى يعصم بلاده ضد الفلسفات الهدامة؟ أهو هذه الآيات المكتوبة بين دفتى المصحف حبرا على ورق، لا يسمع لها أمر، ولا يجاب لها نصح؟! أهو هذه الأحاديث المهملة من سنة رسوله الكريم، لاتخذ منها أسوة، ولا يقترب نحوها خطوة؟! ومن هم أولئك الأوصياء على هذا الإسلام؟! الذين يملأون أفواههم باسمه ورطوبة الخمر لا تزال تدور فى أشداقهم؟ أو الذين يقضون أعمارهم فى الملاهى، ولايعرفون الطريق أبدا إلى بيوت الله؟! ص_012(1/180)
فإذا عرفت لأحدهم صلاة فهى ضريبة أداها مرغما ليمسك بها صلته المزورة بهذا الدين المزعوم. إن الإسلام حقا سياج لأتباعه، يحميهم من كل ما يرزؤهم فى معاشهم ومعادهم، لكن متى تتم هذه الحماية ويحكم أمرها؟ إذا قبلت توصيات الإسلام فى نواحى الإصلاح العام، ونفذت بأمانة ودقة. أما أن تقصى التربية الدينية من برامج التعليم. أما أن تقصى التشريعات الإسلامية من ميدان القانون. أما أن تقصى القواعد والمبادئ المالية الإسلامية عن شئون المجتمع. أما أن يعزل الإسلام عن الحكم والتوجيه والقيادة.. ثم يقال: إن الإسلام سوف يحصننا من الشيوعية.. فهذا هو النفاق البارد!! إن الإصلاحات التى يقترحها الإسلام لمحاربة الفساد المنتشر فى جنبات الأمة الإسلامية، تحارب مثلما تحارب الشيوعية الآثمة أو أشد!! ومع ذلك فإن انسلاخ الوجوه من قشرة الحياء يسول للساسة الكذبة أن يقولوا: إن الإسلام سيحمى أتباعه من الشيوعية. ولن تقر عين الشيوعية بشىء كأن يكون خطنا الدفاعى بإزائها على هذا الضعف والاضطراب. شرف الدعاة إلى الإسلام مهدد: يوجد فئات من الناس يعملون لخدمة الإسلام هنا وهناك، فى مقدمتهم أو من بينهم العلماء المختصون بالثقافة الإسلامية والعبادات الشخصية. والعبء الذى يقع على رجال الأزهر فى هذا المضمار كبير وحسابهم عليه عسير. والمعروف من نصوص الإسلام أنه يحارب المنكرات كلها، وأنه يحارب صدورها من أفراد الأمة جميعا. ص_013(1/181)
فإذا حدث أن علماء الدين هاجموا منكرا بعينه وسكتوا عن منكر بعينه، أو ثاروا لصدور هذه المنكرات من شخص، وسكتوا إذا صدرت هى نفسها من شخص آخر، فهم ـ بلا ريب ـ مؤاخذون على هذا التفريق والتمزيق لتعاليم الإسلام!! فضلا عن أن هذا الموقف المتناقض سيهبط بقيمة الحق فى كلامهم يوم تستدعى الأحوال أن يقولوا للجماهير أى كلام...! ولعل هذا سر انصراف الطوائف المختلفة عن الدروس والمواعظ التى تبذل لهم كل يوم بالمجان مع كثرتها وقوتها. *** إننا نتساءل عن سر هذه الهدنة القائمة بين كبار الشيوخ فى الأزهر، وبين طبقة الكبراء فى الشرق الإسلامى المعذب؟! إن الأولين مكلفون ببذل النصح وسوق الأنذار ، والآخرين تنوء كواهلهم تحت أثقال فادحة من التفريط فى الواجبات واغتيال الحقوق والحرمات. ومع ذلك فليست بين الفريقين حرب معلنة بل صداقة نامية على مر الأيام! آه.. لو أمسك أحد أولئك الشيوخ الفضلاء بتلابيب واحد من هؤلاء الكبراء، وهو يسرق من أرض الشعب أفدنة أو من مال الدولة قروشا ثم فضحه ـ باسم الإسلام ـ على رءوس الأشهاد. إذن لتأخرت الشيوعية ألف ميل إلى الخلف، وقفز الإسلام ألف ميل إلى الأمام. ولكننا لما عجزنا عن النهوض بذلك الواجب، واحتبست الكلمات فى حلوقنا، انقلبنا إلى العامة والدهماء نعظهم بالخطب الفياضة والمقالات البليغة. يحكى أن المعرى مرض ـ وكان رحمه الله نباتيا ـ فلما رأى الطبيب هزاله أمر أن يذبحوا له ديكا لعله يقوى بأكل اللحم!!. وجئ بالديك مطهوا إلى أبى العلاء، فتحسسه فى أسف، ثم قال: استضعفوك فوصفوك! هلا وصفوا شبل الأسد..؟ وامتنع عنه. ص_014(1/182)
وبرغم قصة أبو العلاء هذه، فسيترك الخاصة بغير نكير ، ويتوجه إلى العامة النذير تلو النذير، ألا يغضبوا الله العلى الكبير!! *** وفى الفترة الأخيرة وقعت أحداث عميقة الدلالة بين أصحاب الإقطاع ورقيق الأرض انتهت بقتل عدد من الفلاحين فى " كفور نجم "و " بهوت " و" كفر البرامون " كما هوجمت بعض القصور والمخازن وأشعلت فيها الحرائق. ولاشك أن النيابة العامة " هى المختصة بتحقيق الناحية الجنائية فى الموضوع، ثم إحالتها إلى القضاء. بيد أن هناك ناحية إنسانية حية لها وزنها الأكبر فى هذه الأحداث المتشابهة، وأعتقد أنه كان على كبار الشيوخ ـ باسم الإسلام ـ أن يتحركوا لها، ولو برسائل تعزية لمن سقطوا صرعى. فإن الناس يحصون على كبار الشيوخ رسائلهم إلى الكبراء فى أتفه المناسبات. إنني أقترح ذلك لأسد الطريق أمام المبادئ الهدامة وأنتزع الثقة من ذويها، ولن يتم شئ من ذلك بالضغط والكبت. *** هب أن معتديا لطم ضعيفا وأخذ منه شيئا ما.. وتطلع المسكين يمنة ويسرة.. فوجد رجلين " أحدهما شيوعى كافر، والآخر مسلم من هؤلاء الدهاقين الذين يقولون ولا يفعلون، أو على الأصح لا يقولون شيئا. فأما الشيوعى فقد احتج على ما وقع وبدأ يعرض عونه.. وأما الكاهن الآخر فقد أسرع مسيره، وهو يقول: يضيق صدرى ولا ينطق لساني ! أليس هذا هو الشيطان الأخرس ـ كما سماه نبي الإسلام ؟! أليس هذا الجبان الفار فى معركة الشرف هو أول من يمد الشيوعية ويغرى الجهلة باعتناقها؟! ص_015(1/183)
إننا نصرح فى وجوه الكبار من علماء الأزهر بأن الإسلام فى خطر! وأن شرف الدعاة إليه مهدد! وأن سكوتهم حيث يجب الحركة وحركتهم حيث يجب السكون خبال يحملون وزره آخر الدهر.. الإصلاح الداخلى أولا: لقد تأكد لى أن مصر هى حجر الزاوية فى نهضة العالم الإسلامى، وأن القوة التى تسرى فى أوصالها تنضح على جاراتها الأخرى بالحياة والنشاط. وهذا هو السبب الأصيل فى عناد الصليبية الغربية، وضنها على بلادنا بحقوقها المقررة. وعندى أننا نتعلق بالوهم إذا كنا سنربط الإصلاحات الكبرى بجلاء الإنجليز ـ من تلقاء أنفسهم ـ عن وادينا العظيم. فإن الإنجليز لن يخرجوا إلا مكرهين، أى يوم يجدون تكاليف بقائهم فى مصر أفدح من أن يحتملوها. وهذه لن تتم إلا إذا دعمنا نهضتنا الداخلية، ورفعنا مستواها المادى الأدبى أضعاف ما هو عليه الآن. وقبل أن نفاوض الإنجليز على قضيتنا نريد أن نفاوض أنفسنا: هل نحن مستعدون لإجراء هذه الإصلاحات المنشودة أم لا؟ * * * إن تدبير المال والأعمال والرجال هو قوام مجدنا وركيزة بنائنا. فأين تذهب أموالنا؟ إن المصطافين من كبرائنا ينفقون فى مواخير فرنسا نحو عشرين مليونا من الجنيهات كل عام. ص_016(1/184)
فهل سنضع الحواجز أمام هذا السيل الدافق من ثروتنا القومية بعد الجلاء؟ ولماذا لا نضعها الساعة؟ ثم أين الأعمال التى تستغرق أوقاتنا؟ إن الفراغ يلتهم أوقات الفقراء والأغنياء عندنا حتى لنحسب الزمن أهون ما لدينا من متاع. وفى القاهرة مئات ومئات من الأندية التى تؤوى المتسكعين سحابة النهار وقطعا من الليل. وأساليبنا فى الحياة لا تكون شعبا يسود فى هذه الحياة... كنت أزور إحدى القبائل فى فلسطين، فرأيت بضعة عشر رجلا يتوافرون على صنع القهوة بالطريقة الفريدة التى لا يستجيد البدو سواها! فعرفت واحدا من عشرات الأسباب التى أضاعت فلسطين من العرب. هذا الجهد الإنسانى الضائع عندنا سدى يقابله من الناحية الأخرى قوم يشحون بالدقيقة على اللهو، وينطلقون كادحين كأنهم جن سليمان لاستعادة ملك سليمان؟ .. ملك إسرائيل..! وأين الرجال الذين نعدهم لما نبغى ؟ لقد كنت أقرأ أنباء البترول فى إيران، وأنا أتميز من الغيظ. لا لأن إنجلترا تحق الباطل وتبطل الحق بجبروتها فى البر والبحر والجو، فإن الأمة المستقلة تحتقر قوى العالم لو تجمعت ضدها تريد أن تكيد لها وتعتدى عليها. ولكن الذى غاظنى أن إيران كانت تستجدى الأخصائيين فى صناعات البترول من أوروبا وأمريكا!!.،. لماذا؟ لأن الأخصائيين فى هذه الأمور لايوجدون فى مصر أو العراق أو إيران. إن لدينا أخصائيين فى الاستمتاع بالحريم! ومد الولائم! وتعذيب العمال فقط. ص_017(1/185)
أين الرجال الذين نعدهم لمستقبل مجيد بدل هذا الحاضر المنكود؟! ألا فلنعد إلى أنفسنا نفاوضها قبل كل شئ لتحقيق هذه الأهداف، فإذا ماطلتنا نفوسنا فلنقصر ملامنا لمن يستبيحون هضمنا... * * * سيقول البعض: إن الاستعمار الأجنبى مصدر هذا البلاء كله، فإذا طردنا عصاباته تحررنا مما نشكو. أما أن طرد هذه العصابات المحتلة سيكون يوم فرحتنا الكبرى، فذلك ما لا يختلف فيه اثنان. كذلك لا يختلف عاقلان فى أننا مقصرون تقصيرا واضحا فى الإعداد لهذا اليوم وتقريب أجله... وفى مقدورنا أن نخطو خطوات حاسمة إلى غايتنا المرجوة، بيد أننا نقدم رجلا ونؤخر أخرى، بل إننا بعد الأزمات الدستورية والأوامر العسكرية والقوانين الرجعية الأخيرة سراعا إلى الوراء. وهذا وذاك جعل شهية الإنجليز تنفتح لاستئناف القضم والهضم مرة أخرى.. من حقوقنا وحرياتنا... مصارحة!! إن الإسلام ـ ولا شراء غير الإسلام ـ هو الأمل الفذ لنجاتنا من التحالف الذى انعقد أخيرا بين الصهيونية والصليبية الغربية، وكشف النقاب عن وجهه الوقاح فإذا هو وجه شيطان مريد! والإسلام الذى ندعو إليه، هو إسلام "محمد بن عبد الله "، أعظم مقرر للاشتراكية الاجتماعية والديمقراطية السياسية فى الأرض. ص_018(1/186)
وليس هو ما تدجل به الوثنيات السياسية فى الشرق على قطعان العبيد المغفلة. نحن نعلم أن بيننا من لا يدين بالإسلام. وهؤلاء لا حرج عليهم مادمنا وإياهم على هذه القاعدة المنصفة : " لكم ما لنا وعليكم ما علينا ". وماذا يضيرهم إذا سدنا فى بلادنا فسادوا معنا؟ يعجبنى قول الأستاذ " أمين بك نخلة " ـ وهو مسيحى كريم العاطفة صائب الحكم ـ : " وفى هوى محمد لا حرج فى التمسك بالقومية والكلف باللغة، كما أنه لا حرج فى التمسك بالدين... فى هواه تتلاقى ملتا العرب: ملة القرآن وملة الإنجيل، حتى كأنما الإسلام إسلامان ، واحد بالديانة وواحد بالقومية واللغة. أو كأنما العرب ـ على اختلاف أديانهم ـ مسلمون جميعا حين يكون الإسلام هكذا هوى بمحمد، وتمسكا بقوميته، وكلفا بلغته! ومحمد لا تستطيع طائفة فى العرب التباهى به ـ وحدها ـ فهو فضلا عن كونه للخلق كلهم حيث يتشبهون بأكرم الناس، فى حفظ النفس وحفظ الجار، وحفظ الله. لبالأجدر أن يكون للعرب كلهم حيث نتشبه ـ فوق ذلك ـ بأبلغنا فى الفصحى. وأنهضنا فى الجلى ، وأرفعنا لشأن قومه يوم حطت الكفة بعرب وشالت بأعجام... و إن لغير المسلم فى أرض العرب ألا يدين بدين " ابن عبد الله ". وأن يخلب لبه مثلا كتاب " لابن مريم " كل حرف منه يقطر رفقا وصليب قعدت به دنيا وقامت به دنيا. أما أن يكون فينا عربى من لحمنا ومن دمنا... ثم يغدو، لا يمت إلى محمد بعصبية ولا إلى لغة محمد وقومية محمد... فهو ضيف ثقيل علينا غريب الوجه بين بيوتنا..." أ. هـ. ص_019(1/187)
إننا نترك هذا الدرس يأخذ طريقه إلى قلوب يغلى فيها الحقد على محمد وتعاليمه وتملأ الدنيا ضجيجا على النهضة الإسلامية التى ظهرت بواكيرها فى ربوعنا. وأيا ما كان الأمر فلن نحيد عن شرعة العدالة التى تعلمناها من كتاب محمد، ومن سنة محمد. * * * ومرة أخرى نسوق القول إلى الحكام والمرشحين للحكم: دعوا مواكب الإسلام تمر بألويتها إلى ما تريد...! لا تحرصوا على كل شئ فتفقدوا كل شراء... اقبلوا حكم الدين فى دنياكم... قبل أن تسلبكم الثورات الحاقدة كل رحمة فى الدين وكل متعة فى الدنيا... محمد الغزالى ص_021(1/188)
مقدمة الطبعة الأولى المسلمون والتطورات العالمية كان للقدر الذى يخط مصاير الأمور أثره الفريد فى إخراج هذا الكتاب للناس. فعندما تناولت القلم لأكتب لم أكن أبغى إلا زيادة فصول قلائل على الطبعة الثانية من كتاب " الإسلام والأوضاع الاقتصادية " فإذا منادح النظر تتسع وآفاق الفكر تمتد، ورأيت من الوفاء بحق الفكرة التى أعمل لها أن أمشى مع الموضوع حتى يستجمع حقائقه وتستكمل عناصره. ثم عمدت هنا إلى شئ من التفصيل والمقارنة على غير ما صنعت فى كتابى الأول، إذ كان غرضى هناك أن أرسم " الخطط العامة " لإنقاذ الشعوب من سوء استغلال الدين فى نهب حقوقها، ثم وجدت أن ذلك لا يغني عن ذكر " الطرق الواضحة " لهذا الإنقاذ الذى أصبحت الأمة الإسلامية فى حاجة ماسة إليه. فمضيت قدما فى إتمام هذه الرسالة، وقصارى ما أرجوه أن تكون طليعة موفقة لغزو المظالم المتوطنة فى بلادنا. ولعل أقلام الأحرار من الكتاب تساهم بنصيبها فى هذا الكفاح النبيل، حتى تشتد على الطغاة وطأته، وتخلع قلوب المتكبرين رهبته. الحق المر...! لعلك تدرى أن النعامة تدفن رأسها فى الرمال حاسبة أنها ـ وقد حجبت عينيها عن الصياد ـ فقد اختفت عنه، وأنها ما دامت لا تراه فإنه لا يراها ! إن بعض الناس يقفون من حقائق الحياة الثابتة هذا الموقف الأحمق، فيحسبون أنهم ما داموا يجهلون الحقائق فستجهلهم هى الأخرى، ولن تفرض عليهم قوانينها ولن تنزلهم على حكمها! ص_022(1/189)
وهذا ضلال بعيد، فإن السائر فى طريق يجهل أن بها هاوية محفورة سيظل يمشى حتى تصل قدمه إلى حافة الهاوية فينزلق لا محالة. ولو أجمع الناس على خطإ ينافى الواقع فإن الواقع لن يتغير قيد أنملة جبرا لخاطر الغافلين عنه. بل سيظل الواقع على حاله حتى يصل الناس إلى معرفته. ولقد كان العالم يوما يجهل أن هناك قارات ـ لما تكتشف ـ فهل اختفت هذه القارات المجهولة أم بقيت فى مكانها العتيد حتى رست على شطآنها سفائن الملاحين المكتشفين؟ إن الحق لا يغلب على أمره قط، ولكنه يغلب الناس على أوهامهم حتما. ولو نزل الحق على أوهام الناس لحظة لاختلت نظم العالم، ولانقلبت قوانينه الدقيقة إلى فوضى شاملة (أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ..) والقرآن الكريم يذكر عن نفسه أنه جاء للفت أنظار الناس إلى الحق وربط قلوبهم به. وأن آية من آياته لم ترع فى معناها ولا فى غرضها عن هذا الحق المبين. (و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا) تجاهل الحق: وقد ألف الناس تنشئة أولادهم على الحقائق التى يعرفونها قلت أو كثرت. فالأستاذ يشرح لتلامذته الصواب والخطأ ويمسكهم بالأول ويجنبهم الثاني. فمن لم يجد من الناشئين من يعرفه ذلك شب جاهلا بجملة من الحقائق. والصغير يعلمه أبواه شيئا من دروس الدنيا فإذا لم يتعلم شب عن الطوق ليواجه الدنيا بعقل صفر من حقائق كثيرة . ص_023(1/190)
والعامة تقول: من لم يربه أبواه ربته الأيام و الليالى ، فإن حقائق الحياة لا تلين للميوعة والدلال. بل ستظل تصفع المعوج إلى أن يستقيم عوجه وينتظم سلوكه مع قوانين الدنيا الصارمة. وما يقال عن الأفراد يقال عن الأمم. فالأمة التى تعرف الحق وتمشى على سننه وتقف عند حدوده، أمة تنجو من النار وتوفى المزالق الخطرة. والأمة التى تشب كالطفل المدلل لا تجد من يعرفها الخطأ والصواب، والخير والشر لابد أن تؤدبها الأيام و الليالى ، و لابد أن تلقى من اللطمات والمخازى ما يعلمها الحق الذى جهلته، ويلزمها السبيل التى شردت عنها..! والتجارب القاسية التى يلقاها المرء فى عمره القصير، ليعرف بعدها الحق ويفتح عليه عينيه هى الهزائم المريرة التى تلقاها الأمم فى عصورها المتطاولة فتصحح على ضوئها أغلاطها وتثوب إلى رشدها. وربما كان هذا سر حلف القرآن بالعصور، على أنه لا فلاح للإنسانية إلا إذا استمسكت بأسباب الحق وتعلقت بأهدابه من إيمان وإصلاح و مصابرة : (و العصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر) ومهما زعمت أمة لنفسها من كرامة، ونسبت لنفسها من مكانة، فلن تصيب من رعاية الله حظا، ولن تدرك من تأييده سهما، إلا إذا أقامت نظامها على الحق، وحكمت بين بنيها بالحق، وقسمت بينهم المغانم والمغارم بالحق. فإذا لم تفعل ذلك رفع الله يده عنها، وأباح لذئاب الأرض أن تنهش جثتها وأن تسقط هيبتها . وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ولا يأخذ الضعيف حقه من القوى غير متعتع " . ص_024(1/191)
عقاب..! وأينما رجعت بصرك فى أحوال هذه الأمة ومناحى حياتها الحاضرة وآماد تاريخها القريب، فإنك لا ترى إلا تجاوزا عن الحق وغضا من قيمته وإهمالا لشأنه. وكم من حقوق ألف الناس ضياعها. ومعالم توارثوا طمسها، وأباطيل أطبقوا على احترامها، ومساخر تهيبوا مسها، بل تعلموا إجلالها. فهل كان ينتظر لأمة ـ ذاك سير الأمور فيها ـ أن يحابيها القدر وتستثنى من قوانينه الغالبة؟ كلا. (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب) إن المسلمين تنكبوا عن الحق الذى هداهم الله إليه فلا جرم أن يسلبوا الحصانة التى استمتعوا بها دهرا طويلا. وعليهم أن يستفيدوا من الدرس الذى تلقنوه. فإذا وجدت راية العدالة والإنصاف جوا تخفق فيه، وإذا داعبت أطرافها نسائم الحرية الطلقة المتاحة لكل فرد. وإذا مشت فى ظلالها الجماهير الغفيرة والطبقات الكادحة لا تشكو ضيفا ولا عنتا ولا افتياتا. فإن هذه الراية تسود مشارق الأرض ومغاربها، وترمقها الأبصار فى أى مكان بنظرات الرعاية والحب. أما الآن فإن العالم كله يدرك من أحوال الشرق الإسلامى ما لا يسر قط، ويعرف أن هذا الجانب من الأرض ـ الذى يسكنه حملة القرآن وأتباع محمد ـ إنما هو جانب مريض فى دنيا أفعمت بالعافية. جانب غبى فى حياة أفعمت بالعلم. ص_025(1/192)
جانب بثت فى نواحيه السدود والقيود، وقلت فى آفاقه الحريات والمثل العليا، على حين اهتزت الأرض من حوله بحركات الأحرار، ونتائج عقولهم الخصبة، وآثار أيديهم العاملة، وإقدام نفوسهم الكبيرة. وصحيح أن للحق فى بلادنا آيات تتلى وكلمات تتردد وهتافات تشق أجواز الفضاء. ونحن نقول: نعم! وعلام يدل هذا؟ هل الحانث الذى يذكر اسم الله ليحلف به زورا، يعتبر لله ذاكرا وبه عارفا؟! لكأنما تليت آيات الله ليكفر بها ويستهزأ بها!! لقد كانت وظيفة الدين الأولى أن يمهد الطريق أمام الأمم المتعبة المستذلة لتنال الحرية والأمن والكرامة : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ..) أما فى الشرق الإسلامى الآن فالدين ذريعة للصمت عما يجب الصراخ فى وجهه، ووسيلة للركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه، ودعامة لأنظمة هى منذ قرون علة التأخر والانحلال. والدين أبعد ما نتصور عن هذا الاحتيال والاستغلال. وسنرى أن صلته بهذه المهازل هى صلة العدو اللدود بالعدو اللدود. ما هو الدين....؟ كلمة الدين ـ فى حقيقته المجردة ـ تساوى كلمة (الإنسانية) فى نسقها الأعلى، وقد سلح الله الإنسانية بجناحين تحلق بهما أو تهبط: هما (الفطرة والعقل). فإذا استكملت طبيعة الإنسان سلامة الفطرة وحصافة العقل، فقد استكملت من الدين جوهره، واستوعبت أصوله. والرجل الذى تتم فيه معالم الإنسانية تتم فيه معانى الدين. ص_026(1/193)
والنظام الاجتماعى أو السياسى المعتمد فى وسائله وأهدافه على احترام الإنسان وصيانة قلبه ولبه، هو نظام دينى وإن فقد هذا العنوان. وعلى العكس من ذلك كل نظام تطمس فيه الفطرة، ويهمل فيه العقل، وتداس فيه الحقوق.. مهما زعم هذا النظام لنفسه من تدين وتلا من تعاويذ وعلق من تمائم!! وما الصراع القديم الجديد بين" التدين " وبين تطورات الفكر الإنسانى إلا صراع بين الفطرة الإنسانية التى تشق طريقها إلى الكمال شقا، وتفرض نفسها على الحياة فرضا، وبين " أديان " خرجت على نفسها يوم خرجت عن حقيقتها الإلهية، وانسلخت عن جوهرها يوم انسلخت عن معانيها الإنسانية. ولذلك جاء الإسلام يصف نفسه بأنه " الفطرة " التى ذرأ الله الناس عليها، واستقبلتهم الحياة يوم ولدوا بها، ويعيشون، لو تركوا لأنفسهم فى هديها. ويضرب الرسول لذلك المثل القريب من عقول الأعراب فى بيئتهم الساذجة الأولى فيقول : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة.. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء "؟ يعنى أن التغييرات الطارئة على هذه الطبيعة التى ولدت كاملة هى من صنع الناس لا من خلق الله. وقد أضفى الله من لدنه الكمال على هذه الفطرة، فهى دين الحق لمن شاء الحق. وقد انطلقت هذه الفطرة تتلمس طريقها فى الحياة، وتحارب العوائق التى وضعت أمامها، ووجدت من رجال الإسلام الأولين أعظم الأعوان لمد أشعتها، فانتصرت بهم وانتصروا بها، وحطموا كهانات التدين المكذوب التى اعترضت زحفها. ثم بدأ المسلمون ـ لا الإسلام ـ يتخلون عن هذا المعنى الإنسانى، فوقفوا حيث انتهوا؟ بل تراجعوا تراجعا عاما فى كل ميدان. وأخذ غيرهم هذه الفطرة الإنسانية العاقلة وبدأ يسير على منهجها المستقيم؟ فتحرر العقل من قيوده، وانطلق يعمل ونحن نشاهد! وأخذ الإنسان حقوقه؟ كما أخذت الطبقات المختلفة تنتصف وترتقى، ونحن نشاور أنفسنا: ما العمل وكيف السير؟ ص_027(1/194)
والإجابة على الشفاه قريبة! إن مناخ! التقدم العالمى بدأت من الإنسان الحر فى فطرته وفكرته، فحرروا الطباخ والأفكار تفقهوا معنى الدين وتذوقوا معنى الدنيا. بين تفكير الإنسان وهدى الأديان: وللمقارنة بين الأمرين أساس مكين كما رأيت؟ فمرد الدين إلى الفطرة السليمة وعلى ضوء الفطرة السليمة يستهدى العقل فى سيره. وقد تنحرف نصوص الدين عن موضعها لأسباب لا محل لذكرها. وقد يضطرب العقل فى تفكيره وتجمع الفطرة فى مذاهبها. ومن هنا يثور النزاع بين تفكير الإنسان وهدى الأديان. بيد أن ثمة قاعدة يجب أن تكون نصب أعيننا: أن كل أمر قطع العقل الإنسانى بصحته، وأيقن بصوابه فلن يوجد فى الدين ما يقف ضده. وإذا وجد شئ ما يعارض هذه المقررات العقلية الثابتة فلنجزم بأنه ليس من دين الله، وإنما هو من أهواء الناس، وخرافات الأجيال ألصقوها بالدين إلصاقا. ويصدق الأمر كذلك بالنسبة إلى حقائق الدين، فإن ما ثبت منها عن تمحيص ودقة وبصر، يستحيل أن يصطدم به العقل، أو تنفر منه الفطرة. ولا عبرة بمرضى القلوب والعقول فيما يرسلونه من آراء وظنون.. لقد كان صوت الوحى يرشد البشرية فى أطوارها الأولى، ويلقى عليها من النصائح والآداب والتوجيهات ما يجنبها الخطل ، ويقيها الزلل. ثم.. انقطع الوحى بعد أن قالت السماء كلمتها الأخيرة إلى الأرض، وضمنتها صحائف القرآن المطهرة. وأهمل أبناء القرآن ما لديهم، وأحالوا آى كتابهم مصادر كسب خسيس بجوار المقابر وفى ساحات المعابد. ص_028(1/195)
واضطرت الإنسانية أن تواجه مستقبلها بتجاربها الخاصة، وأن تستفيد من هذه التجارب فى زيادة معارفها وثقافتها. ووقفنا نحن نسجل ملاحظاتنا على ما يحدث كالرجل الذى أدبه أبوه وهو طفل ثم مات عنه وهو طفل أيضا، فكلما سمع بعظة حكيمة قال: لقد أوصانى بها أبى قبلا ـ رحمه الله ـ. وكلما ترامت إليه خطة مستقيمة هز رأسه أسفا وهو يقول: لقد شرح لى أبى أصول هذه الخطة، وأكد على ضرورة التمسك بها! وهكذا صنعنا نحن المسلمين، لا تكاد الإنسانية الصاعدة فى مراقى التقدم تضع لنفسها نظاما دقيقا حتى نسارع إلى النصوص الخاصة والقواعد العامة من تراثنا الجليل مؤكدين أن دعائم هذا النظام لدينا من زمان طويل. بلى أيها الناس، إن آيات الفطرة نطقت بالحق منذ قرون، ولكن الفطرة عملت عملها الحاسم عند غيرنا. لقد حكم على الآيات هنا بوقف التنفيذ، ووضعت أمامها العقبات النفسية والاجتماعية والسياسية الشديدة. غير أن الله كان أبر بعباده مما يظن الغافلون، واستطاع وهج الطبيعة الإنسانية الحار، أن يحرق ما يعلوه ثم يذروه رمادا، وكان الإنتاج الإنسانى كثيرا ورائعا من الناحية المادية و الأدبية. و لا تزعم أنه خلا من الأخطاء، فهذا لا يمكن، على أنه فى جملته جيد مقبول ويكفيه من النجاح أنه أكره رجال الأديان على إعادة النظر فى موقفهم المريب من المواهب الإنسانية الخالدة. وأكره المسلمين خاصة أن يدركوا مدى تفريطهم فى حقائق دينهم، ومدى تمشيهم مع الرجعية السياسية والاجتماعية التى حولت بلادهم ـ قرى ومدائن ـ إلى إقطاعات لا خير فيها لدنيا أو دين. ص_029(1/196)
عداء.... متى ينقضى؟ توترت العلائق بين الإنتاج الإنسانى العقلى وبين الأديان عموما. ولهذا التوتر أسباب لا يحسن التغاضى عنها، وعلى الباحث المسلم ـ إحقاقا للحق ـ أن يتعرض لها. إن العلم المادى المتصل بشئون الحياة، وقوى الكون، علم ممتاز جدا، أدى للعالم فى عصرنا الحاضر خدمات جليلة فضلا عما كشفت عنه بحوثه العميقة من عظمة الطبيعة وروعة أسرارها. غير أن هذا العلم لا يهتم بالدين و لا يتحمس لربط الناس بربهم وسوقهم إلى خالقهم. والاقتصاد العالمى الآن اقتصاد باهر فى وسائل استغلاله لخيرات الأرض، وفى محاولته تعميمها على الناس، وفى نظره للشئون الاجتماعية نظرة استقراء وتدقيق. ولكنه كالعلم لا يلتفت لتعاليم الدين، و لا يكترث كثيرا أو قليلا لما جاء بها.. فما السر فى ذلك؟ السر فى ذلك واضح، فقد مر العلم والاقتصاد بأطوار شتي، وعندما كانت الأمة الإسلامية سيدة الأرض كانت الثقافة الإنسانية تلقى فى كنفها ترحيبا وإكراما. فلما انتقلت هذه الثقافة إلى أوروبا فى عصورها الوسطى لقيت عنتا أليما، ولقى أهلها اضطهادا وقسوة. وواجه العلم عصرا من الصراع الملئ بالمآسى قام فيه رجال الدين بدور من الإرهاب المنظم لم يلبث أن انتهى بالفشل. إلا أن هذا الترويع الذى وقع على العلم وذويه ترك أثره. فألحد العلم! وكره العلماء الدين! وساء ظنهم بالعقائد كلها على الإطلاق..!! وكذلك كان رجال الدين فريفا يتمم القسم الثانى من الطبقية المتعالية التى أذلت الشعوب واحتضنت الرأسمالية الطاغية. ص_030(1/197)
ولم يبال هؤلاء الرجال أن يتركوا الطبقات الدنيا تموت بؤسا وضياعا. فلما تطور الاقتصاد العالمى واتجهت الحياة العامة نحو الاشتراكية، كفر الاشتراكيون بالدين، وبنوا مذهبهم على هدمه، وبيتوا العداء الشديد للأديان كلها. وهذا المسلك ينطوى ـ لا ريب ـ على غلو ظالم، فإن مسلك الإسلام ـ وهو دين إنسانى بحت ـ بإزاء العلم والسياسة والاقتصاد لا يبيح لواحد من هذه الثلاثة أن يكفر به، ولا أن يجحد قدره. وسنرى فى هذه الرسالة دلائل متضافرة على هذه الحقيقة الثابتة. وما دام الإسلام هو الخلاصة الصحيحة لرسالات السماء. وما دام مدلوله الصادق القريب هو الفطرة الإنسانية النقية التى تشع العلم والاقتصاد والسياسة فى أسمى صورها، فهل هناك من سبب معقول لبقاء أية عداوة بين الدين وبين نتائج الفكر الإنسانى فى هذه الميادين؟ آفة الشرق: وأخطر مطعن يوجه إلى الإسلام، وشر معرة تلحق بمبادئه نفسها بقاء الحالة الاجتماعية والسياسية فى بلاده، تثير الأقاويل منه، وتعرضه على العالم فى أسوأ لباس. ذلك أن جماهير المسلمين تضطرب فى مستوى دنىء من المعيشة المادية والتفكير العقلى. ولا أحسب أن نظاما ما من نظم الغرب يرضى أن ينحدر أبناؤه إلى الحضيض الذى وصلنا إليه. فهل يعقل أن يرضى الإسلام بهذه الحال بله أن يسخر لبقائها؟ ولقد كتب صحافى أمريكى يصف لأبناء العالم الجديد حالة الشعب المصرى ومقدار التعاسة التى تنصب على رأسه من نظام الطبقات المتغلغل فيه فقال: " إن الطبقة الحاكمة فى مصر لا يزيد عدد أفرادها على 5% من مجموع السكان. ص_031(1/198)
وأفراد هذه الطبقة يملكون نحو 95% من خيرات البلاد. أما الفلاح فيعيش هو وأسرته وجاموسته وحماره فى بيت واحد من اللبن. وقد يترك الباشا من باشوات مصر طعاما لم يمس على مائدته يكفى لإشباع فلاح مع أسرته الكبيرة عدة أسابيع " . ثم يصف أفراد هذه الطبقة بالتضليل واستغلال سذاجة الشعب، وعدم مواجهة المشاكل الحقيقية فى مصر. قال: "وليس هناك من شك فى أن الحركات التى يقوم بها العمال فى الوقت الحاضر لتحسين أحوالهم ستوصف بأنها حركات شيوعية غير أن هذه الأوصاف ستتلاشى من تلقاء نفسها قريبا". وهذه الأحوال نحن أعرف الناس بها، لأننا نعيش فيها! و الذى نريد أن نقوله: إن الإسلام لن يذكر بخير قط، ولن يؤثر عنه خير أبدا إذا بقيت أمور المسلمين بهذه المثابة المحزنة، وبقى المتكلمون باسم الدين سكونا بإزائها. وأى حجة تقوم للدين إذا فشل فى تحديد موقفه عمليا من هذه المأسى الفاجعة؟ محمد الغزالى(1/199)