الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
الإسلام والبيئة
إعداد
أ.د/ محمد فتح الله الزيادي
عميد كلية الدعوة الإسلامية
طرابلس / ليبيا
تمهيد
أصبح موضوع البيئة منذ مطلع الستينات من القرن الماضي يشغل بال العالم أجمع بمختلف اتجاهاته الفكرية والقومية والدينية وذلك لما برز من مخاطر متعددة أصبحت تهدد الحياة البشرية جراء التعامل غير الطبيعي مع مكونات البيئة المختلفة، وقد تشكلت إثر ذلك جمعيات علمية وحركات سياسية ، ومنظمات اجتماعية ، للاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها من الفساد والتلوث، ونظمت العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية التي نبهت إلى خطورة التعامل المعاصر مع البيئة وضرورة الإسراع في معالجة التصدعات الكبرى للمكونات البيئية ونتج عن ذلك ظهور مواثيق دولية وتشريعات إقليمية تحد من مخاطر الإهمال العالمي للمحافظة على البيئة، ولا نكاد نجد بلدا في العالم إلا وأصبح يشارك في هذه الحملة العالمية للمحافظة على البيئة التي استدعى لها المفكرون والعلماء ورجال الأديان وأصحاب القرار السياسي وكافة الشرائح الفاعلة في المجتمعات المتحضرة وكل ذلك إنما كان بسبب الشعور العالمي بخطورة مستقبل الحياة على هذه الأرض وما يمكن أن ينتج من تداعيات تسبب سرعة فناء هذا الكوكب بفعل ما يقوم به الإنسان من تصرفات لا يقدر عواقبها .(1/1)
ولعل أقوى الأسباب في هذه المخاطر هو طمع الإنسان وأنانيته وعدم قدرته على ضبط غرائزه ومحاولته الدائمة للسيطرة على الموارد البشرية واستغلالها لصالحه فرداً كان أو مجتمعاً دون مراعاة لحقوق الآخرين ودون وعي لمحدودية الموارد أحيانا، ومن هنا ندرك أن النظام الأخلاقي في المجتمع البشري يعتبر الضامن الأول للمحافظة على مكونات الحياة البشرية ، فمتى ما سما هذا النظام واستمد مقوماته من مصادر إيمانية عليا كان ذلك عاملاً في رقي الحياة الإنسانية وسموها، ومتى ما انفلت الإنسان من سيطرة العوامل الروحية كان ذلك سبباً في دخوله في أزمات متعددة من شأنها أن تساهم في إنهاء دوره على هذه الأرض .
إن الإسلام وهو الدين الخاتم الذي ارتضاه الله دستوراً نهائياً للبشرية عامة قد اهتم بموضوع البيئة وأكد على المحافظة على كل مكوناتها ذلك أن نهائية هذه الرسالة وعموميتها صفتان ضمنتا للإسلام شموليته لكل مناحي الحياة مادية ومعنوية، وشموليته لكل ما يؤدي به إلى السعادة الأخروية، ولا شك أن البيئة بكل جوانبها تقع ضمن هذه الشمولية إن لم نقل إنها المرتكز فيها، وذلك لأن البيئة هي مسرح تحقيق الخلافة التي خلق الله الإنسان من أجلها، فمالم تتحقق شروط السلامة الكاملة للبيئة لا تتحقق الخلافة التي دعي الإنسان لتحقيقها .
إن المتمعن في آيات القرآن الكريم يجد أن موضوع البيئة يتردد صداه فيما يقترب من مائتي آية في سور كثيرة تتناول عناصر البيئة المختلفة من أرض وما تضمه من مكونات حية وغير حية وما يحيط بها من غلاف غازي وغيره، وبحار وما تحتويه من عوالم يصعب إدراك عظمتها، وكلها تدل على قدرة الله وعظيم صنعه " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " (1) ، وعلى اهتمام هذه الرسالة الخاتمة بتبيان كل ما له صلة بتحقيق السعادة للإنسان وتسهيل مهمته التي أوكلها الله إليه وهي إعمار الأرض وتسخير كل ما فيها لخدمته .
__________
(1) ... سورة النمل الآية 88.(1/2)
إن اهتمام الإسلام بالبيئة من حيث ذكر مكوناتها ودقة صنعها وتنوعها وبيان سحرها وروعتها يرتقي إلى أعلى الدرجات حتى يصل إلى أن يستخدمها القرآن كأحد الوسائل الموصلة إلى متانة البناء العقدي للإنسان المسلم وذلك حين طالب الإنسان بالنظر فيها والتفكر في صنعها والوصول من خلال ذلك إلى إدراك عظمة الخالق سبحانه وتعالى ومن ثم الإيمان به والتسليم بقدرته وتفرده في صنع هذا الكون " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ " (1)
"أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)" (2) " فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) (3) .
مفهوم البيئة (INVIORONMENT)
__________
(1) ... سورة يونس الآية 106.
(2) ... سورة ق الآية 6-11.
(3) ... سورة عبس الآية 24-32.(1/3)
بعيداً عن الغوص في جدلية المصطلحات وما ينتج عنها من تفريعات متنوعة تتعدد بتنوع الإضافات واختلاف المفاهيم، ودون حاجة إلى إيراد الاجتهادات الكثيرة في تعريف مصطلح البيئة أقول إنها عرفت بتعريفات كثيرة تأخذ مناحي متنوعة غير أن ما يربطها جميعاً هو أنها تدور حول محور واحد هو الكائن الحي وما يحيط به ، ولذلك عرفها البعض بأنها المجال الذي تحدث فيه الإثارة والتفاعل لكل وحدة حية ، أوهي كل ما يحيط بالإنسان من موارد طبيعية ومجتمعات بشرية ونظم اجتماعية (1) ، وقد عرف مؤتمر البيئة الذي عقد تحت رعاية الأمم المتحدة في استكهولم بالسويد سنة 1972 ، البيئة بأنها : " رصيد الموارد المادية و الاجتماعية المتاحة في وقت ما وفي مكان ما لإشباع حاجات الإنسان وتطلعاته " (2) ، وقد حاول بعض الباحثين أن يحدد مفهوما إسلامياً للبيئة غير أنه في تصوري لا يخرج عن التعاريف الأخرى التي ذكرت لمفهوم البيئة .
إن دراسة مفهوم البيئة وتصوراتها المختلفة قد يقود حتما إلى ذكر نقطتين أساسيتين :
الأولى : أن مفهوم البيئة قد يضيق ليحدد نشاطاً خاصاً يتعلق بمجال واحد دون غيره وذلك حين نقول مثلاً : البيئة الصحية، البيئة الزراعية، البيئة الثقافية، البيئة السياسية الخ ونعني بذلك النشاط البشري والصناعي الذي يتعلق بمجال محدد لا يتعداه لغيره .
الثانية : أن البيئة تقسم في معظم المصادر إلى قسمين رئيسيين:
البيئة الطبيعية: ويقصد بها المكونات البيئية التي لا دخل للإنسان في إيجادها كالبحار والأنهار والصحاري والجبال والمناخ .... الخ .
البيئة الصناعية : ويقصد بها المظاهر الحياتية التي شيدها الإنسان وأنتجها لصالحه وتشمل مظاهر البناء والتشييد واستغلال الموارد المائية والنباتية والنظم الاجتماعية والحضارية... الخ.
الأصول الإسلامية للبيئة
__________
(1) ... مصطفى العلواني /التلوث جريمة الجشعين /مجلة.
(2) ... محمد الفقي /البيئة /مكتبة ابن سينا / مصر 1993/ ص18.(1/4)
يمكن حوصلة موضوع البيئة في الإسلام في ثلاثة أصول رئيسة هي:
الإنسان : الماء : الهواء
الأصل الأول : الإنسان
فالإنسان الذي هو محور الرسالة الإسلامية قد وضح القرآن أموراً كثيرة تتعلق به يمكن أن تصاغ كلها في أمرين رئيسيين هما:
? أنه مستخلف في الأرض .
? أن الكون كله مسخر له.
وناتج الربط بين هاتين الحقيقتين هو إعمار الكون وصلاحيته للحياة واستمراريتها فوق هذا الكوكب ، ولتوضيح هذه القضية المحورية في موضوع البيئة نذكر نظرة القرآن إلى هذين العنصرين وهما :
خلافة الإنسان في الأرض :(1/5)
استخلف الله الإنسان في الكون ليدير موارده ويعمره ويظهر أسرار الله وقدرته في خلقه، وهي مهمة عظيمة أرادت الملائكة أن تختص بها وأرادها الله للإنسان تكريماً له " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " (1) "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ " (2) ، وقد ذكر صاحب التحرير والتنوير أن :" المراد من الخليفة المعني المجازى وهو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حالاً في الأرض ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطة على موجودات الأرض، ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقه أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان " (3)
__________
(1) ... سورة البقرة الآية 30.
(2) ... سورة الأنعام الآية 165.
(3) ... محمد الطاهر بن عاشور / التحرير والتنوير / ج1/ص 398/ الدار التونسية للنشر / 1984..(1/6)
ومن هنا فإن الخلافة هي تكليف بمهمة الانتفاع بموجودات الكون يكون الإنسان فيها سيدا في الكون لا سيدا للكون فسيد الكون وحاكمه ومالك أمره هو الله سبحانه وتعالي، ولأن الإنسان هو أحد مخلوقاته قد تميز بالعقل فقد كرمه الله وأنعم عليه بنعمة الاستخلاف تمييزاً له عن غيره من المخلوقات :" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (1) فالاستخلاف معناه أن الإنسان وصى على هذه الأرض بكل ما فيها وليس مالكاً لها فهو مدبر لمواردها ومستغل لخيراتها " هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " (2) .
وقد أثارت مسألة الخلافة قضية مهمة تتعلق بملكية الإنسان للموارد الطبيعية هل هي ملكية رقبة أم ملكية انتفاع ودارت مناقشات كثيرة مال فيها الكثير من الباحثين إلى أنها ملكية انتفاع وذلك للأسباب التالية :
1- ... أن كثيراً من نصوص القرآن الكريم تضيف الملكية إلى الله سبحانه وتعالى :" آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ " (3) "وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ " (4) " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى " (5) " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ " (6) .
__________
(1) ... سورة الإسراء الآية 70.
(2) ... سورة هود الآية 61.
(3) ... سورة الحديد الآية 7.
(4) ... سورة النور الآية 33.
(5) ... سورة طه الآية 6.
(6) ... سورة المائدة الآية 120.(1/7)
يقول الشيخ شلتوت :" إذا كان المال مال الله، وكان الناس جميعاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله وهي لله، كان من الضروري أن يكون المال – وإن ربط باسم شخص معين – لجميع عباد الله، يحافظ عليه الجميع وينتفع به المجتمع" (1) .
2- أن وجود الإنسان في هذه الحياة مؤقت واستخلافه فيها مؤقت أيضاً ولذلك كان انتفاعه بمواردها مؤقت " وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " (2) وهذا التحديد الزمني للبقاء يترتب عليه تحديد للاستخلاف والانتفاع ومن هنا تبرز أحقية الأجيال المتعددة في الانتفاع بالموارد الطبيعية وضرورة أن يعي الإنسان هذه الحقيقة لكي يحفظ للأجيال التي بعده حقها في الانتفاع بما خلق الله في هذا الكون .
3- أن شعور الإنسان بملكيته الدائمة للموارد يثير فيه نوازع الأنانية ويدفعه إلى الفساد المؤدي إلى نضوب الموارد البيئية أو تدميرها وهو ما تشهده بيئتنا المعاصرة، ولذلك كانت تعاليم القرآن واضحة في النهي عن الفساد في الأرض" وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " (3) " وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا " (4) " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ " (5) .
__________
(1) ... محمود شلتوت/الإسلام عقيدة وشريعة/ص257.
(2) ... سورة البقرة الآية 36.
(3) ... سورة القصص الآية 77.
(4) ... سورة الأعراف الآية 56.
(5) ... سورة الأعراف الآية74.(1/8)
من أجل ذلك عبر أحد الباحثين بقوله :" ولا نتجاوز روح التشريع الإسلامي إذا قلنا : إن القواعد والمبادئ الإسلامية المنظمة لاستخلاف الإنسان في الأرض ومضمونها، تنزل " حق الإنسان " على موارد الطبيعة من " حق الملكية" " إلى مرتبة" حق الانتفاع" فقط، والذي تقل فيه سلطات صاحبه عن سلطات المالك، ولا يبدو هذا القول غريباً إذا عرفنا أن بعض فقهاء المذهب المالكي يرون أن الملكية بوجه عام لا ترد إلا على المنافع فقط، أما الأعيان، أي موارد وثروات البيئة والكون الذي خلقه الله فملكيتها لله سبحانه وتعالي ولا ملك للإنسان فيها في الحقيقة والواقع فهم يقولون أن سلطان الإنسان لا يكون على المادة، وإنما محله منافعها فقط وفكرة حق الانتفاع تبدو أكثر ملاءمة إذا روعيت القواعد الشرعية في أعماله، حيث تؤكد من ناحية أن موارد البيئة وثرواتها هي عطاء من الله للبشر وفضل، وبالتالي لن يكون الانتفاع قاصراً على شخص دون آخر ومن ناحية أن المنتفع لا يجوز له إهدار أو تدمير أصل أو عين المال الذي ينتفع به، لأن سلطة التصرف الشرعي في المادة لا تكون للمنتفع بل لمالك العين أو الرقبة " (1) .
تسخير الكون للإنسان
__________
(1) ... أحمد سلامة / حماية البيئة في الفقه الإسلامي / مجلة الاحمدية / مايو 1998 / دبي / ص 295.(1/9)
تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى أن الكون قد سخره الله سبحانه للإنسان أي طوعه وذلله ليستطيع الانتفاع به والتصرف فيه والسيطرة على موارده ليحقق من خلاله الخلافة التي خلقه الله من أجلها، يقول الله تعالى:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (1) . "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ " (2)
__________
(1) ... سورة النحل الآية 10- 14.
(2) ... سورة الحج الآية 65..(1/10)
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (1) وهكذا تتوالى آيات القرآن الكريم في ذكر ما سخره الله للإنسان في الكون حتى تكاد تذكر كل شئ فيه عدا ما اختص الله به مخلوقات أخرى ليس للإنسان سيطرة عليها، وهذا التسخير نعمة من نعم الله على الإنسان إذ لولاه لما استطاع أن يستفيد من كثير مما خلقه الله على هذه الأرض، يقول صاحب الظلال " إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئاً إلى جوارها ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه وتكريمه له على كثير من خلقه هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب ، وأن يهيئ الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه ومن ذخائره وخيراته وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية (2) .
__________
(1) ... سورة البقرة الآية 164.
(2) ... سيد قطب : في ظلال القرآن / ط 6 / مج 5 / ص 223.(1/11)
ولبيان كيفية التسخير التي هيأها الله للإنسان يذكر الإمام الرازي أنه لكي يستطيع الإنسان استعمال البحر واستغلاله لابد له من ثلاثة أشياء لم تكن لتحصل لولا تسخير الله سبحانه وتعالى لها : الأولى الرياح التي تجري على وفق المراد، والثانية : خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك والثالثة : خلق الخشبة على وجه تبقي طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه، وهذه الأحوال الثلاثة ليس لها من موجد إلا الله سبحانه وتعالى (1)
إن نظرة في آيات التسخير الواردة في القرآن الكريم عامة كانت أو مفصلة تنبؤنا بأمور عدة منها :
__________
(1) ... تفسير الفخر الرازي : محمد بن عمر الرازي / دار إحياء التراث العربى / ج 1 / ص 4023 .(1/12)
1- أن هذا التسخير المذكور في الآيات محدود بإرادة الله ولا يستطيع الإنسان مهما أوتى من قوة مادية أو علمية وتقنية أن يصل إلى الاستفادة منها إلا إذا أراد الله له ذلك:" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ " (1) " اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ " (2) . وإدراك هذا المعنى يحد من أنانية الإنسان واستكباره في الأرض وادعائه التأله فيها، وكثير من أمور الحياة يقف الإنسان عاجزاً عن حل معضلاتها ومن ذلك الماء مثلا الذي أصبح مشكلة العالم المستقبلية نظراً لنضوب موارده وعدم قدرة الإنسان على صنعه، ولذلك يستخدمه الله سبحانه وتعالى في تحدى الإنسان إذا أمعن في كفره وعناده :" أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ " (3) ، وذلك بعد أن جعل الله الماء نعمة مسخرة للإنسان " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ " (4) .
__________
(1) ... سورة الرحمن الآية 33.
(2) ... سورة الجاثية الآية 12.
(3) ... سورة الواقعة الآية 68-70.
(4) ... سورة ق الآية 9-10.(1/13)
2- أنه على الرغم من التسخير الذي حفلت به آيات القرآن الكريم إلا أن الإنسان يجب أن يدرك أن هناك عوالم في هذا الكون ليس له سبيل إلى معرفتها وتظل مخفية عنه وخارجة عن سيطرته كالجن وغيرها من المخلوقات التي لا يستطيع الإنسان إدراكها وكذلك بعض الفيروسات والظواهر الطبيعية التي لم يسخر الله للإنسان طريقاً للتعامل معها ، وهنا نشير إلى أن مسألة التسخير فضل من الله سبحانه وتعالى على الإنسان فما سخره له استطاع أن يستفيد منه وأن يعمر الكون من خلاله وما لم يسخر له كان عليه أن يقف أمامه مؤمناً بقدرة الله وعظيم صنعه .(1/14)
3- إذا كان التسخير الإلهي لمظاهر الكون للإنسان نعمة فهي إذا حق من حقوقه التي منحه الله إياها يستطيع من خلاله الانتفاع بكل ما فيها لصالح بناء مجتمعه ويعمر من خلالها الكون الذي يعيش فيه ويفيد الإنسان والمخلوقات التي تعيش معه على هذا الكون، كما أن هذا الحق يمتد ليشمل البحث العلمي عن خواصها وأسرارها وكل ما يستطيعه لتطوير مواردها لخدمة الإنسان ولعل النظر في آيات التسخير التفصيلية توضح هذه الحقوق بجلاء إذ يقول الحق تبارك وتعالى :" فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ " (1) "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ " (2) " وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " (3) " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ " (4) .
الأصل الثاني : الماء
__________
(1) ... سورة عبس الآية 24-30.
(2) ... سورة ق الآية 8-9 .
(3) ... سورة البقرة الآية 164.
(4) ... سورة الزمر الآية 21.(1/15)
وهو معجزة إلهية عجز البشر حتى هذه اللحظة عن الوصول إلى صنعها على الرغم من أنها أساس الحياة في كل شئ " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي " (1) ولأهميته في الحياة ودوره في كافة مكونات البيئة فقد استخدمه القرآن أداة في المحاورة العقدية فقال:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " (2) كما استخدمه القرآن في تحدى البشر وردعهم عن تجاوز قدرة الله وعدم الاعتراف بنعمته فقال :" قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ " (3) " أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ " (4) ولأنه أساس الحياة فقد منع الإسلام احتكاره وجعله مشاعاً بين الناس ففي السنة :" الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار " (5) كما نهى الإسلام عن تلويثه والأضرار بموارده ، روى ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال له : لا تسرف، فقال: أو في الماء إسراف ؟! قال : نعم وإن كنت على نهر جار " (6) ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن يبال في الماء الجاري " (7) .
وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من القضايا التي تتعلق بالماء والتي لها ارتباط بحياة الإنسان وخلافته في الأرض نذكر منها ما يلي :
__________
(1) ... سورة الأنبياء الآية 30.
(2) ... سورة البقرة الآية 22.
(3) ... سورة الملك الآية 30.
(4) ... سورة الواقعة الآية 68.
(5) ... رواه ابوداوود/ج2/ص53.
(6) ... رواه ابن ماجه.
(7) ... رواه الطبراني بإسناد حسن.(1/16)
1- أنه أساس في حياة كل كائن حي :" وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون " (1) تقول الدراسات " أن نسبته في أجسام الأحياء النشطة تصل إلى 90% فهو الذي يحمل الغذاء والهواء إلى هذه الأجسام وهو في ذات الوقت المخلص لها من النفايات الضارة " (2) .
2- أن نزوله إنما يكون بقدر بحيث يحدث التوازن الذي لا يضر الكائنات الحية فلو زاد نزوله لغرقت الأرض وأتلفت النباتات وصار مشهد الحياة مضطربا كما هو الحال في الفيضانات والأعاصير المدمرة التي يشهدها العالم الآن، ولو قل نزوله لشحب وجه الأرض وتشقق وماتت النباتات والحيوانات كما يحدث في المناطق التي تصاب بالجفاف والتصحر ولذلك فحكمة الله وإرادته اقتضت أن يكون نزوله بقدر حيث قال:" وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ " (3) " أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا " (4) " " وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا " (5) .
3- يشير القرآن إلى أن الماء قد يكون عقوبة لمن كفر بآيات الله وأعرض عن إيمانه وتحدى قدرته :" فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ " (6) وقد يكون مكافأة للإنسان إذا التزم بأوامر الله واتبع تعاليمه . " وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " (7) .
__________
(1) ... سورة الأنبياء الآية 30.
(2) ... د.محمد منير حجاب /قضايا البيئة من منظور اسلامي / دار الفجر/ القاهرة/ص57.
(3) ... سورة المؤمنون الآية 18.
(4) ... سورة الرعد الآية 17.
(5) ... سورة الزخرف الآية11 .
(6) ... سورة القمر الآية 12.
(7) ... سورة الجن 16.(1/17)
4- يذكر القرآن الماء كأحد المعجزات الكبرى التي خلقها الله سبحانه وتعالى ويقرنها مع دلائل أخرى تشير إلى عظيم صنعه فيقول :" خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " (1) .
الأصل الثالث : الهواء
لا نريد التعرض للتركيبة العلمية للهواء وما يتضح فيها من دقة في الخلق وتوازن في العناصر تدل على عظمة الخالق وعظيم صنعه، ولا نريد التحدث عن الغازات والعناصر والمركبات الكيميائية وكيفية تناغمها حتى تنتج هواء نقياً لا تستقيم الحياة ولا توجد بدونه في كل مكونات البيئة " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ " (2) ولكن الذي تجب الإشارة إليه هو أن المخلوط الغازي المسمى بالهواء عنصر أساس في حياة الكائن الحي كالماء لا يمكن أن يحيا الإنسان أو الحيوان أو النبات بدونه، وهو عرضة للتلوث بفعل التعامل البشري الخاطئ بما يستعمله الإنسان أو ينتجه من غازات وأبخرة تجعله غير صالح للحياة ومؤثر فيها سلباً وهو ما يهدد الحياة على وجه الأرض، ويشهد العالم المعاصر مشكلات كبرى ناتجة عن تلوث الهواء بسبب عدم قدرة الإنسان على ضبط تعامله مع محيطه وهو ما أشار إليه القرآن حين قال :" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (3) ولذلك وحماية من الإسلام للبيئة فقد أمر بالاعتدال في السلوك حين التعامل مع الطبيعة خاصة "كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ " (4) .
__________
(1) ... سورة لقمان الآية 10.
(2) ... سورة النمل الآية 88.
(3) ... سورة الروم الآية 41.
(4) ... سورة البقرة الآية 60.(1/18)
والناظر للتركيبة العلمية للغلاف الجوي المحيط بالأرض يدرك معنى قوله تعالى " وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ " (1) فالله سبحانه وتعالى خلق لهذا الكوكب ما يحفظه من المؤثرات التي لو أصابته لانتهت الحياة فوقه " خلق كل شئ فقدره تقديراً " (2) " رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ " (3) وما يشهده عالمنا من أخطار طبقة الأوزون دليل على ذلك، والتي يلعب الإنسان دوراً رئيساً فيها بما يحدثه من تدمير للبيئة وتلويث لمكوناتها مما يتسبب عن تصاعد أبخرة ودخان يدمر توازنات العناصر الهوائية، ولذلك جعل القرآن الدخان من العذاب الأليم حين قال :" فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ " (4) .
وهكذا نجد أن البيئة بأصولها ومكوناتها المختلفة حاضرة في القرآن الكريم للدلالة على قدرة الخالق وبديع صنعه ولإثبات ضعف المخلوق وعدم قدرته حتى على المحافظة عليها، وحاضرة في صون القرآن لها بالأوامر والنواهي التي تحفظها من أنانية الإنسان واستغلاله السيئ لها، ومن هنا يتبين أن الإسلام قد اهتم بالبيئة من خلال منظومة فكرية متكاملة تجمع مختلف الجوانب العقدية والاقتصادية والاجتماعية .
الديانات والبيئة
__________
(1) ... سورة الأنبياء الآية 32.
(2) ... سورة الفرقان الآية 2.
(3) ... سورة آل عمران الآية 191.
(4) ... سورة الدخان الآية 10-11.(1/19)
إذا كان ما قدمته سابقاً يؤكد على اهتمام الإسلام بالبيئة ونظرته إلى سلامتها والمحافظة عليها نظرته للحياة ذاتها، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو هل كل أصحاب الديانات الأخرى كانت لديهم هذه النظرة وهل كان لهم دور في المحافظة على البيئة انطلاقاً من عقائدهم وقيمهم كما هو الحال في الإسلام ؟ العالم المعاصر كله يمثل إجابة لهذا السؤال فمعظم ملوثات البيئة في عالمنا مصدرها العالم الغربي وهو الذي يمثل افتراضاً العالم المسيحي فهل انفصل المسيحيون عن ثقافتهم الدينية فلم يعد لديهم وازع ديني يحكم سلوكياتهم ؟ أم أن المسيحية ذاتها لم تتضمن ما يحد من تطلعات الإنسان النفعية والتي وصل مداها إلى دمار البشرية وأصبحت الكرة الأرضية كلها مهددة بأخطار التلوث الناتج عن الآلة الغربية التي أطلق العلم الحديث مداها حتى طالت قضايا لم تكن نتصور أنها ستخرج من عالم الخيال إلى عالم الواقع .
يدور جدل كبير حول هذه القضية في الأوساط الثقافية العالمية، فهناك من علماء البيئة العلمانيون من يقول :" إن مؤرخين وفلاسفة وعلماء بيئة يتجادلون في قضية أن المسيحية هي التي تتزعم جناية العالم المعاصر على البيئة بتسويغها خراب الأرض " (1) وهناك من يقول إن العلماء الغربيين تتبعوا" جذور أزمتنا البيئية وأرجعوها إلى الموقف اليهودي المسيحي من الطبيعة فإن هذا الموقف وما يصاحبه من ميراث تقليدي وثقافي هو المسئول عن الأخطار الموضوعية التي تهدد المستقبل الإنساني ألا وهي :
1) انطلاق التكنولوجيا الموجهة إنتاجياً والذي أدى بدوره إلى نضوب موارد الأرض الطبيعية.
2) الضغط الكلي والفردي على الأرض والبيئة .
3) الزيادة المستمرة في المخلفات .
4) المخزون من الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية الذي يكفي لتدمير الأرض بضع مرات .
__________
(1) Mennonite Central Committee Worldly Spirituality (Harper and Row.1984)(1/20)
إن كل اتجاه من تلك الاتجاهات يمثل خطراً رئيسياً يهدد رخاءنا الجماعي بل وبقاءنا، ويحاول علماء أمثال فرايزر دارلنج وثيودور روزال وجوفرى نيكرز ولين وايت الصغير أن يبرهنوا أن هذه المخاطر ما هي إلا نتاج النظام الأخلاقي الغربي، وجذور أزمتنا الأيكلوجية بديهية فهي تكمن في معتقداتنا وكياناتنا القيمية التي تشكل بدورها علاقاتنا بالطبيعة وعلاقة كل منا بالآخر وكذلك تشكل الأنماط الحياتية التي نعيشها " (1) .
وفي المقابل فإن هناك من رجال الدين اليهود والمسيحيين من يرى أن الأديان جميعاً قد احتوت ما يوجه الإنسان إلى المحافظة على البيئة وأن دور الأديان في حماية البيئة المعاصرة مهم جداً كما جاء في ورقة الحاخام دانيال برنير المقدمة إلى مؤتمر الدوحة الرابع لحوار الأديان والتي طالب فيها بالتصدي الفوري للمخاطر البيئية التي تحيط بالأرض وضرورة استخدام التكنولوجيا من أجل خير البشر مشيراً أن الله قد دعا المؤمنين إلى الاهتمام بالأرض، وأن الزعماء الدينيين مطالبون بالضغط على الحكومات لدرء الحروب التي تدمر البيئة وفي نفس السياق وفي ذات المؤتمر أشار الدكتور/ مرون عازار أمين سر كلية اللاهوت الحبرية في جامعة روح القدس بلبنان إلى أهمية بناء الإنسان لحماية البيئة مذكرا بما قاله البابا بولس السادس سنة 1972 مسيحي، من ضرورة احترام الطبيعية والتشديد على المسئولية الجماعية في حماية البيئة " (2) .
__________
(1) ... ضياء الدين سردار /نحو نظرية إسلامية عن البيئة /ترجمة سمية البطراوي /مجلة المسلم المعاصر /س15/ع59/1991/ص77-78.
(2) ... مؤتمر الدوحة الرابع لحوارالاديان /25-27/ابريل/ /2006 قطر.(1/21)
وإذا كانت الإشارات السابقة قد انطلقت من الواقع رابطة بينه وبين القيم الدينية للإنسان الغربي، فإن هناك تحليلاً أعمق يحاول فيه العلامة ( محمد باقر الصدر ) أن يقارن بين الإنسان الشرقي والأوروبي من حيث تغلغل القيم الدينية في كل منهما وأثر ذلك في تعاملهما مع المكونات الحياتية المختلفة فيقول :" يختلف الإنسان الأوروبي عن الإنسان الشرقي اختلافاً كبيراً فالإنسان الأوروبي بطبيعته ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى المساء وحتى المسيحية – بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين – لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي بل بدلا عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي " "ولقد استطاعت النظرة إلى الأرض لدى الإنسان الأوروبي أن تفجر طاقاته في البناء وأدت أيضاً إلى ألوان التنافس المحموم على الأرض وخيراتها ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان لأن تعلق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يضحي بأخيه ويحوله من شريك إلى أداة ، وأما الشرقيون فأخلاقياتهم تختلف عن أخلاقيات الإنسان الأوروبي نتيجة لتاريخهم الديني فإن الإنسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومر بتربية دينية على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ويأخذ بعالم الغيب قبل أن يأخذ بالمادة والمحسوس وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان الشرقي المسلم حدت من قوة إغراء المادة وقابليتها لإثارته " (1) .
__________
(1) ... محمد باقر الصر / منابع القدرة في الدولة الإسلامية / دار التعارف .(1/22)
إن ما قدمته سابقاً لا يعنى على الإطلاق خلو الأديان الأخرى غير الإسلام من قيم ونصوص تحترم البيئة وتدعو إلى المحافظة عليها، فالعهدين الجديد والقديم يحتويان الكثير مما يشير إلى ضرورة المحافظة على مكونات البيئة ودور الإنسان في حمايتها، والأدعية الزرادشتية مشحونة بالثناء على الجبال والأنهار والمحيطات وجميع الأرض ومخلوقاتها، ومن بين تعاليم الزرادشتيين المعاصرين أن كل بذرة وردة تختص بملاك، كما أن الطبيعة في الديانتين الهندوسية والزرادشتية تأخذ شكل الاحترام الكامل الذي يتحول في النهاية إلى تطرف ليصل إلى العبادة (1) .
إن الإشكالية البيئية المعاصرة ليست في النصوص الدينية عند مختلف الأديان وإنما الإشكالية مرتبطة بانفصال الإنسان الغربي – المتهم الأول بتدمير البيئة – عن ثقافته الدينية وعدم التزامه بعقائد وأخلاق المسيحية واليهودية، وهذا ما تناوله المؤتمر الكبير الذي نظمه الصندوق العالمي لحماية البيئة في مدينة ( باكتابور ) القديمة في نيبال والذي حضره ممثلون لإحدى عشرة ديانة كبيرة في العالم، وقد أكد الأمين العام لمنظمة تحالف الدين والحفاظ على البيئة أن جميع الديانات بها تعاليم بيئية أبرزها المؤتمر وقد تعهد ممثلوا الديانات المشاركة باتخاذ إجراءات مناسبة من أجل حماية الكرة الأرضية (2) .
__________
(1) ... د.مصطفى المحقق/مسؤلية الحاكم المسلم ازاء المحافظة على البيئة.
(2) ... رجال الدين يتعهدون بالحفاظ على البيئة / بي بي سي أونلاين(1/23)
إننا ونحن نعرض هذه الصورة عن نظرة الديانات إلى البيئة نشعر بأن الإسلام من خلال عقائده وقيمه ومثله وثقافته المأخوذة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أكثر احتراما للبيئة وأكثر محافظة عليها وذلك لأن الإسلام دين إنساني يحترم الإنسان ويقدسه ويسهل له كل ما يؤدي إلى استغلال الموارد البيئية دون تفريط أو إهدار لهذه الموارد، وهذا يرتب علينا مهمة كبيرة في التبشير به وبدوره في حل مشكلات البشرية المعاصرة .
صدي البيئة في الحضارة الإسلامية
أولاً : البيئة في منظور السنة النبوية
اهتمت السنة النبوية كثيراً بموضوع البيئة، وتردد صداها في كثير من الأحاديث التي حثت المسلمين على احترام الكائن الحي وما يحيط به من نبات وأشجار ومصادر مياه متنوعة، ويمكن تقسيم موضوعات البيئة في السنة النبوية إلى القضايا التالية :
1- المسئولية الجماعية والمشتركة في المحافظة على التوازن البيئي وعدم العبث بالموارد الطبيعية وحفظ حق الأجيال في استغلالها واعتبار أن الحياة مسئولية عامة إذا أخل بها نفر سار ضرره على الباقين، فعن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً (1) " .
__________
(1) ... رواه البخاري في كتاب الشركة تحت رقم 2493.(1/24)
وهذا الحديث يوضح مبدأ مهما في الشريعة الإسلامية وهو أن حرية الفرد مرهونة بما يلحق الآخرين من ممارستها فمتى ما لحق بالآخرين ضرر منع الفرد من مزاولة ما يريده وانعكاسات ذلك في مجال البيئة كثيرة فالمزارع ممنوع من أن يستعمل الأدوية والمبيدات الضارة بصحة الإنسان والحيوان حتى ولو كانت هذه تمكنه من زيادة إنتاجيته ودخله، وكذلك الصانع وغيره من الحرف التي تستغل الموارد الطبيعية، وهذا التوجيه النبوي يشرع أخلاقيات سامية في التعامل مع الطبيعية ومواردها وفي الحفاظ عليها ومنع أنانية الأفراد من تملكها والعبث بها .
2- الحث على الغرس واستغلال الأرض:
أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين في أحاديث كثيرة بالاهتمام بغرس الأشجار واستغلال الأرض وجعل ذلك من القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، فعن أنس ابن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة " (1) .
وفي الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:" من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر فإن له في كل شئ يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل " (2) .
وتعتبر السنة النبوية أن مهمة الغرس والزرع واستغلال الأرض من المهام المستديمة للإنسان حتى ولو أشرفت هذه الدنيا على النهاية، فعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها" (3) وهذا الحديث وغيره من الأحاديث التي وردت في ذات الموضوع توضح أن غراسة الأرض وزراعتها واستغلال الموارد الطبيعية مبدأ من مبادئ التشريع الإسلامي المؤدية إلى المحافظة على البيئة إذ كما نعلم أن اخضرار الأرض بأشجارها وزروعها مصدر من مصادر المحافظة على بيئة صحية ونظيفة .
__________
(1) ... رواه البخاري في كتاب الأدب ح 5666 .
(2) ... رواه أحمد.
(3) ... رواه ابن حميد في مسنده ج1 / ص366 / ح 6216 .(1/25)
3- الاهتمام بموارد المياه:
من الموضوعات البارزة في السنة النبوية المحافظة على مصادر المياه خاصة من التلوث، وعدم الإسراف في استعمال المياه، فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تلويث المياه في الحديث الذي رواه أبو هريرة أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول :" لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " (1) ، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمحافظة على مياه الشرب في أوانيها حتى لا يصيبها ما يلوثها، فعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء " (2) .
4- المحافظة على الحيوان:
__________
(1) ... أخرجه البخاري في كتاب الوضوء .
(2) ... رواه مسلم في باب الاشربة ح53742.(1/26)
للحيوان حرمة في التشريع الإسلامي باعتباره كائناً حياً خلقه الله وسخره لخدمة الإنسان فلا يجوز أن يعبث به أو أن يسئ معاملته إلا في أحوال نادرة كما إذا مثل الحيوان ضرراً على حياة الإنسان، وقد تناولت السنة النبوية موضوع حماية الحيوان في أحاديث كثيرة نذكر منها الحديث الذي رواه المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على نفر من الأنصار يرمون حمامة فقال:" لا تتخذوا الروح غرضاً " (1) .وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" من قتل عصفور عبثاً عج إلى الله يوم القيامة يقول يارب إن فلانا قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعة " (2) ، وترسم السنة النبوية صورتين للتعامل البشري مع الحيوان في جانبين أحدهما سلبي والآخر إيجابي وتوضح جزاء كلا الصورتين عند الله سبحانه وتعالى حثاً على اتباع الصورة الإيجابية ونهيا عن الوقوع في الصورة السلبية، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثري من العطش فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له . قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً ؟ قال في كل كبد رطبة أجر " (3) ، وفي الصورة المعاكسة يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار. قال:" فقال والله أعلم لا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض" (4) ، وهكذا تبين السنة النبوية أن التعامل مع الحيوان يمكن أن يفتح طريقاً إلى الجنة ويمكن أن يوقع صاحبه في النار .
__________
(1) ... رواه الطبراني في معجمه الكبير ج20 ص386ح905.
(2) ... رواه النسائي وابن حبان.
(3) ... رواه البخاري في باب المساقاة.
(4) ... رواه البخاري في باب المساقاة /ح2236.(1/27)
5- العناية بالنظافة العامة:
حثت السنة النبوية المؤمن على أن يكون نظيفاً طاهراً وأن يهتم بنظافة محيطه مسكناً كان أو شارعاً وربطت ذلك كله بالأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى : ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" الأيمان بضع وستون – أو سبعون – شعبة، أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله" (1) ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - " إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامي فإنه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار " (2) ويقول - صلى الله عليه وسلم - :" البصاق على المسجد خطيئة وكفارتها دفنها " (3) ويقول - صلى الله عليه وسلم - :" السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " (4) .
6- الوقاية من الأمراض :
__________
(1) ... متفق عليه.
(2) ... صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري / دار إحياء التراث العربي – بيروت / تحق: محمد فؤاد عبد الباقي/ ج 2 / ص 698 / ح 1007.
(3) ... صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان : محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي / تحق: شعيب الأرنؤوط / مؤسسة الرسالة – بيروت / الطبعة الثانية / 1414 – 1993 / ج 4 / ص 516 / ح 1637.
(4) ... رواه احمد في مسنده.(1/28)
على الرغم من أن الأمراض والأوبئة هي قضاء وقدر يصيب المجتمعات والأفراد إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نبه المؤمنين إلى ضرورة المحافظة على وقاية أنفسهم من خطورة الأمراض وخاصة المعدية منها، وأن سياسة العزل واجبة الاتباع في المجتمعات الإسلامية إذا تعرضت لأخطار الأوبئة وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - :" لا يورد ممرض على مصح" (1) ، ويقول أيضاً :" إذا سمعتم بالوباء بأرض فلا تقدموا إليه فإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه " (2) .
هذه نماذج فقط من التوجيهات النبوية الكثيرة التي تمتلئ بتفصيلاتها كتب الحديث والتي تناولت أموراً غاية في الدقة مما له علاقة بتوجيه المسلم إلى العناية بنفسه ومحيطه وإرشاده إلى أن المحافظة على نعم الله التي أنعم بها على خلقه هي جزء من مرضاة الله سبحانه وتعالى ولذلك فإن الماء والهواء والأشجار والحيوان هي مصادر مهمة للحياة يستخدمها الإنسان في حياته وينفذ من خلالها إلى مرضاة ربه إن هو حافظ عليها وحافظ على حقوق الآخرين فيها، وينال سخط الله وغضبه إن عبث بها ومنع الآخرين من الاستفادة منها .
الاجتهاد الفقهي في مجال البيئة
__________
(1) ... صحيح البخاري ح 5437.
(2) ... صحيح البخاري ح 5397.(1/29)
أولى فقهاؤنا القدامى البيئة اهتماماً كبيراً ترجم ما أمر به القرآن الكريم في نصوص تشريعية تناولت قضايا متعددة ذات صلة بالأرض واستغلالها والحيوانات وحمايتها وغير ذلك من الأمور التي تحقق كل نفع للإنسان وتمنع عنه كل ضرر، وإذا جاز لنا أن نذكر أمثلة لذلك فإننا نذكر ما صاغه الإمام مالك والإمام أبو حنيفة من مبادئ حول عدم شرعية ممارسة الحق المؤدي إلى ضرر وخاصة فيما يتعلق بملاك الأراضي واستعمالاتهم لها المؤدية إلى الإضرار بالآخرين، وكذلك ما وضعه أبو يوسف من قيود على حقوق الأفراد والسلطات في زراعة الأرض البكر حين تسفر عن ضرر بالغ، ومثل ذلك ما وضعه ابن قدامة من قيود على استخراج المياه الجوفية إذ ليس للإنسان الحق في أن يؤثر على بئر جاره تأثيراً سيئاً عن طريق خفض النطاق المائي أو تلويث الطبقة الصخرية المائية " (1) ،وتحدث الفقهاء بتفصيلات دقيقة عن المياه والطهارة بجميع أنواعها شخصية كانت أو بيئية، كما تحدثوا عن النباتات والزروع وما يتعلق بها من أحكام تحميها من القطع والإفساد، وتحدثوا عن إحياء الأرض الموات وما يؤدي إلى ذلك من حماية للنظام البيئي وتوازنه، وتناولوا أيضاً الكثير من القضايا التي تعالج مسألة التلوث وآثارها الضارة بالإنسان والمجتمع ومن ذلك مثلاً التلوث السمعي الذي عالجه الفقهاء كأحد الأضرار التي يجب أن تدفع عن الإنسان حيث يقول أحد الباحثين في ذلك :" وقد قسم الفقهاء الضرر الناتج عن الأصوات إلى قسمين : ضرر يجب درؤه، وضرر يمكن احتماله ، ومثال القسم الأول: الأصوات والذبذبات الناتجة عن حركة البوابات إذ إنها تؤثر على سلامة المباني المجاورة لها.
__________
(1) ... ضياء الدين سيدار / نحو نظرية إسلامية عن البيئة / تزكية البطراوي / مج المسلم المعاصر / س 15 / ع59 1994 / ص 87 وما بعدها .(1/30)
يروى ابن الرامي ( توفي عام 179 هـ ) في كتابه ( الإعلان بأحكام البنيان ) أن مجموعة من الناس أقاموا بوابة لحارتهم، يفتح بابها على حائط جار لهم، فقاضاهم هذا الرجل بدعوى أن فتح الباب وغلقه المستمرين قد أضرا به وأقلقا راحته، فتحري ابن الرامي الأمر ووجد الحائط يتذبذب من جراء فتح الباب وغلقه فأمر القاضي بهدم البوابة وإزالة بابها. أما القسم الثاني: من الضرر فينتج عن الأصوات التي تسبب الضيق دون الضرر. وقد اختلف الفقهاء في حكمهم عليه . فلم يعتبره الفقهاء الأوائل ضرراً يجب درؤه. فالمطرف وابن الماجيشون والأصبغ رأوا عدم إيقاف الغسال والضراب لمجرد أن ضوضاء عملهما تقلق الجيران، بل ذهب ابن القطان إلى عدم جواز منع أحد من ضرب الحديد في منزله وإن كان يفعله ليل نهار بشرط أن يعتمد معاشه على ذلك، أما من لحقهم من الفقهاء فقد كان لهم رأي مغاير، فاعتبروا الصوت والصدى ضوضاء ومصدراً للضرر يجب درؤه. فقد وضع قضاة طليطلة – حسب رواية ابن الرامي – قواعد صارمة لمنع وجود الكمادين لمايسببون من ضرر وضيق للجيران بما يصدر عنهم من أصوات. كما أعرب القاضي ابن عبد الرافع في تونس عن تفضيله منع بناء حظائر الحيوانات متاخمة للمباني لما تسببه حركة الحيوانات الدائمة أثناء الليل والنهار من إزعاج قد يمنع الجيران من النوم (1) ".
لقد تأسس الاجتهاد الفقهي في مجمله وفي موضوع البيئة بصورة خاصة على جملة من القواعد التي احتواها علم أصول الفقه والذي بين فيه الأصوليون أن أحكام الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في الحياة وبعد الممات وذلك انطلاقاً مما قررته آيات القرآن الكريم وبينته سنة الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، ويمكن أن نشير هنا إلى قضيتين أساسيتين لهما صلة بموضوع البيئة:
__________
(1) م. ... محمد عبد القادر الفقهي مكتبة ابن سينا القاهرة /البيئة مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث ( رؤية إسلامية ) / ص 86 .(1/31)
الأول : بين الأصوليون أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق الضروريات الخمس: حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ المال، حفظ العقل ، حفظ الدين، وتحقيق هذه الضروريات يحدث أثرا مهما في خلق بيئة سليمة تحقق الخلافة التي خلق الله الإنسان لأجلها، فمن اختلت عقيدته لا يستطيع كبح جماح شهواته في الاستئثار بالموارد الطبيعية واستغلالها لصالحه ومنع الآخرين من استغلالها، وكذلك سيكون أداة إفساد في الأرض لعدم وجود الوازع الديني الذي يوقف سيطرته وأنانيته كما هو حاصل في عالمنا المعاصر الذي يمتلئ بالشواهد الحية على ذلك، ومثل ذلك المحافظة على النفس التي حرم الله قتلها وجعله قتل للبشرية كلها فالشريعة الإسلامية تأمر باحترام النفس الإنسانية وتكرمها وتجعل المحافظة عليها قاعدة أساسية في التشريع الإسلامي، على عكس ما نرى في عالمنا المعاصر من استهانة بالنفس حيث تقذف المصانع كل يوم آلاف الأطنان من المواد التي تجلب الكوارث على النفس البشرية في مجالات الزراعة والصناعة وغيرها من المجالات الخدمية المختلفة، ومثل ما قيل في المحافظة على النفس يقال في المحافظة على النسل الذي بينت نصوص كثيرة أن المحافظة على الأجيال القادمة هو محافظة على النوع الإنساني، وأن حق هذه الأجيال في الموارد الطبيعية ثابت لا يحق لأحد العبث به، ولكننا نرى في عالم اليوم أن الآخرين الذين افتقدوا الوازع الديني قد اعتدوا على الأجيال القادمة إما بصب أطنان من القنابل مختلفة الأنواع والأحجام على عدد من بلدان العالم في حروب مدمرة سيكون أحد نتائجها وجود أجيال مشوهة ومصابة بالعديد من الأمراض الفتاكة، وإما بتدمير الموارد الطبيعية واستنزافها بما يحرم الأجيال القادمة منها ويجعلها في أزمات لا مخرج منها .(1/32)
ويصدق كل ذلك على حفظ العقل الذي أمرت الشريعة الإسلامية بالمحافظة عليه ليحقق للإنسان السعادة بما ينتجه من منافع لصالح البشرية حين يحلق في أجواء العلم والمعرفة بأخلاقيات تبعده عن أن يكون أداة فساد وعبث بمقدرات البشرية ولسنا نعدم شواهد لما تنتجه عقول معاصرة من مخترعات أضرت بالجنس البشري لأنها افتقدت التوجيه الديني السليم، وتتكامل منظومة الضروريات الخمس هذه بالمحافظة على المال الذي جعله الله وسيلة للحياة ينتقل بين الأفراد تنقل انتفاع بما يجعله مشاعا بين مختلف الأجيال، ويشمل المال كل ما خلق الله من موارد سخرها الله للإنسان للانتفاع بها وقد حددت الشريعة الإسلامية كافة الضوابط التي تمكن الإنسان من المحافظة على المال وتسخيره لمصلحة الإنسان .
الثاني : أن كثيراً من الأحكام الفقهية في مجال البيئة خاصة وفي معظم القضايا الحياتية بصورة عامة قد أسست على قاعدة " لاضرر ولاضرار" وهي مأخوذة من نص حديث مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عنه أبو داود إنه أحد خمسة أحاديث يدور عليها الفقه، ومعنى الحديث : أن تستعمل حقك بحيث لا تضر بالآخرين، وهو ما يمكن أن ينعكس في أحكام كثيرة تتعلق بالبيئة، وقد تفرعت عن هذه القاعدة قواعد أخرى ذكرها العلماء ومنها :
? الضرر يزال بقدر الإمكان.
? الضرر لا يزال بضرر مثله.
? يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى .
? درء المفاسد أولى من جلب المنافع .
? إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما (1) .
__________
(1) ... د. يوسف القرضاوي / رعاية البيئة في شريعة الإسلام / دار الشروق / ط 2 / 2006 / ص 40 .(1/33)
وهذه القواعد كلها قد أسست عليها أحكام كثيرة في مجالات الحياة المختلفة منعت المسلم من الإساءة إلى الآخرين وقيدت أنانيته في استغلال الموارد وفي التمتع بالخيرات، والمتتبع لهذه القضايا في الفقه الإسلامي يمكن أن يكون منها موسوعة فقهية بيئية تشمل الكثير من المعالجات للقضايا البيئية المعاصرة .
إن الباحث في الموسوعة الفقهية الإسلامية على مختلف مدارسها سوف يجد إسهاماً كبيراً لفقهائنا ينظم العلائق بين الإنسان ومحيطه البيئي بما يتناسب وبساطة البيئة التي عاشها هؤلاء الفقهاء ولذلك فإن بيئة التدوين الفقهي التي لم تشهد معاناة بيئة اليوم من التلوث والفساد البيئي المتنوع الذي خلفته أنانية الإنسان قد شهدت اجتهاداً فقهياً يلبي حاجة تلك البيئة مما يجعلنا نؤكد أن الاجتهاد في مجال البيئة كان سمة بارزة من سمات الثقافة الإسلامية، وأن فقهائنا قد أولوا البيئة اهتمامهم مما انعكس في صورة أحكام تأخذ في اعتبارها حتى الافتراضي الذي يتوقع أن يمارسه الإنسان جراء أنانيته وسيطرة الحياة المادية عليه .
أما إذا نظرنا إلى عالم اليوم وما فيه من تعقيدات الحياة وأثر ذلك في الإضرار بالبيئة فإننا لا نجد ما يلبي حاجتنا من اجتهادات فقهية تحرم أو تحلل الكثير من الممارسات الإنسانية الضارة بالبيئة حتى تلك التي يعتقد أنها لصالح الإنسان ذاته، أي بمعنى أن الاجتهاد المعاصر لم يرق إلى مستوى تطور الحياة وتنوعها وتعقيداتها في معظم المجالات والبيئة واحدة منها، ولذلك صارت الكثير من القضايا المعاصرة تمثل تحدياً لفقهائنا الذين لم يستطيعوا تقديم الحلول الناجحة لها لأسباب متعددة نذكر منها:(1/34)
1- الموقف من الاجتهاد ذاته بفتحه أو غلقه كما يعبر الكثيرون مما أثر سلباً على كثير من العلماء الذين ألجموا عن الولوج في ميدان الاجتهاد بمبررات متعددة الأمر الذي ضيق التفكير الفقهي وجعله لا ينفك عن المسائل التي تناولها أئمة المدارس الفقهية مما عطل الكثير من القضايا التي ينتظر الشارع المسلم رأيا شرعياً فيها .
2- عدم تجدد منهجية الاجتهاد عند أولئك الذين شعروا بأهمية الاجتهاد ولم يهتموا بمن يمارس الوصاية عليه ويقول بغلقه، فالمنهجية التي اتبعوها لا تخرج عن قياس المسائل المعاصرة على أقرب صورها المذكورة في كتب الفقه مما يعني أن النوازل المعاصرة التي لا يتوافر لها مقاربات تقاس عليها ستظل مشكلات فقهية معاصرة تنبئ عن مشكلات اجتماعية وتنبئ عن قصور فقهي لا نرتضيه لشريعتنا التي نفاخر بأنها تملك أعظم موسوعة فقهية شهدها التاريخ البشري، ولسنا نعدم أمثلة لهذه المشكلات فمجتمع الأقليات المسلمة يعاني الكثير، والظواهر العلمية الجديدة تغرقنا في بحر من الجدليات التي تظهر بوضوح مدى الحاجة إلى تحديد منهجية الاجتهاد المعاصر بما يلائم تحديات العصر .(1/35)
3- الاجتهاد في مجال البيئة – وخاصة المعاصرة – يحتاج إلى ثقافة علمية تشمل علوماً تقنية متعددة وذلك حتى يستطيع المجتهد أن يدرك حقيقة الواقعات أو النوازل التي يريد أن يفتي فيها، ولا أعتقد أن كليات الشريعة في عالمنا الإسلامي قد أدرجت في مناهجها ما يؤهل المتخرج منها لأن يؤدي دوره في مجال الاجتهاد المعاصر، وحتى المؤلفات التي بينت شروط المجتهد لم تجعل من بينها ( معرفة الواقع ) وقد تنبه إلى ذلك عدد من فقهائنا القدامى والمعاصرين الذين أشاروا إلى خطورة جهل المجتهد بالواقع ومعرفة أحوال الناس، ومن هنا نقول إننا لا نتوقع لمجتهد معاصر أن يدرك أخطار التلوث الذي ينشأ في الهواء الخارجي نتيجة غازات تصدر من مصنع لمسلم يظن أنه يرتزق حلالا من خلال هذا المصنع، ولا يمكن لمجتهد معاصر أن يدرك أخطاراً تترتب على أسمدة يضعها فلاح مسلم يظن أنه يصل بها إلى مستوى من الإنتاج يخدم به مجتمعه، وذلك لأن هذا المجتهد لم يدرس هذه القضايا وتقييمه لها لا يزيد على تقييم مثقف عادي .
4- عدم شيوع مؤسسات للاجتهاد الفقهي الجماعي – كمجمع الفقه الإسلامي مثلاً والتي تغطي العجز الناتج في إعداد الكوادر الفقهية وذلك بما تنتجه من انضمام مختصين في مجالات العلوم المختلفة، يوضحون حقائق القضايا المعروضة للاجتهاد وبصورة علمية دقيقة، وتتحقق من خلالهم ومن الفقهاء معهم شوري الاجتهاد الفقهي التي نحن في أمس الحاجة إليها في عالمنا المعاصر.
5- نخلص من ذلك كله إلى أن الاجتهاد الفقهي المعاصر في مجال البيئة لا يتناسب مع حجم التحديات الكبرى التي تحتويها البيئة المعاصرة وأننا بحاجة إلى التأكيد على أننا قادرون على هذا الاجتهاد بما نملكه من قاعدة نصية واسعة يحتويها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتراثنا الحضاري، والحاجة فقط إلى تطوير مناهجنا بما يمكننا من النظر في المشكلات المعاصرة بعلمية وسعة أفق .(1/36)
ولعله من المناسب أن أشير هنا إلى أمرين مهمين يكملان جهود الفقهاء في معالجة قضايا البيئة وهما :
الأمر الأول: أن هناك جهوداً كبيرة قام بها عدد من الأطباء والعلماء المسلمين لإيضاح كثير من المشكلات البيئية خاصة من حيث التلوث البيئي وأسبابه ونتائجه ، والأوبئة وما تحتاجه من معالجات وقائية وعلاجية، ونذكر على سبيل المثال الكندي ورسالته في الأدوية المشفية من الروائح المؤذية ، وابن سينا وحديثه عن تلوث المياه بشكل عام ، والرازي وحديثه عن عدد من الأوبئة ، وابن مروان الأندلسي وبيانه لموضوع فساد الهواء ، والمطران الدمشقي وتأكيده على ضرورة مراعاة تأثير البيئة في المرض ، ومحمد بن احمد التميمي وكتابه الكامل عن التلوث ، ونذكر أيضاً الزهراوي وبيانه للعلاقة بين المستنقعات وانتشار الأوبئة ، وابن خلدون واعتباره إفساد الهواء من أسباب كثرة الوفاة ، وأختم هذه الأمثلة بابن القيم والفصل الذي عقده عن الطاعون وكيفية التعامل معه وفق الهدي النبوي ودور تلوث الهواء في وجوده حيث يقول : "إن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون وأن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء ، وفساده يكون لاستمالة جوهره إلى الرداءة ، لغلبة إحدى الكيفيات عليه ، كالعفونة ، والنتن ، والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة وإن كان أكثر حدوثه في أواخر فصل الصيف وفي الخريف غالباً ، لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف وعدم تحللها في آخره ، وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف فتنحصر، فتسخن، وتعفن، فتحدث الأمراض العفنة، ولا سيما إذا صادفت البدن مستعداً، قابلاً، رهِلاً، قليل الحركة، كثيرَ المواد، فهذا لا يكاد يُفْلِت مِن العطب" (1) .
__________
(1) ... ابن القيم /الطب النبوي تحقيق/ د.عبد المعطي قلعجي/ دار الوعي حلب/ط14/محرم/141.(1/37)
وهكذا نجد أن التراث الإسلامي احتوى مساهمات كبيرة لعلماء المسلمين فقهاء وأطباء ومفكرين قدموا من خلالها الكثير من المعالجات الفقهية في كتب ورسائل وأبواب نذكر منها على سبيل المثال : الأدوية للكندي، والتيسير في المداواة والتدبير لأبي مروان الأندلسي ، والذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهاني ، والأبخرة المصلحة للجو من الأوبئة للكندي ، والأشباه والنظائر للسيوطي ، والحيوان للجاحظ ، والمقدمة لاين خلدون ، والقانون في الطب لابن سينا ، والحيلة في دفع مضار الأبدان لابن رضوان ، ..الخ تلك القائمة الطويلة من المؤلفات المتخصصة في هذا الموضوع أو تلك التي احتوت إشارات عارضة في مسائل ذات علاقة بموضوعات عامة .
الأمر الثاني :ـ نظام الحسبة في الإسلام ودوره في معالجة القضايا البيئية .
الحسبة نظام إسلامي رقابي يعتمد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصح لمختلف شرائح المجتمع في كل القضايا التي لها علاقة بسلامة المجتمع وأمنه ، والمحتسب هو الرقيب الذي يتابع سير التعامل بين الناس في أسواقهم ومصانعهم ودور عبادتهم ومساكنهم وطرقاتهم ، وهو عارف بأحكام الشريعة قاصداً في حسبته وجه الله تعالى ، ملتزم بما يأمر به ، متواضع متودد ومتقرب من الناس لين القول ، طلق الوجه ، حسن الخلق ، وقد عرفت للمحتسب تدخلات كثيرة في شؤون المجتمع منها الكثير مما يتعلق بالبيئة ، نذكر منه التالي :ـ(1/38)
ففي الطرقات يتدخل المحتسب لمنع السكان من إضرار السالكين بمياه الأمطار الساقطة من الحيطان ، ومنع مجاري الأوساخ الخارجة من الدور في زمن الصيف ، ويتدخل المحتسب في مراقبة صانعي الدقيق بأمرهم بغربلة الغلة من التراب وتنظيفها من الغبار قبل طحنها ، ويأمر الخبازين بفتح منافذ في سقوف الأفران لئلا يضر الناس ببقائه في الخبز ، وأن يهتم الخباز بتنظيف الفرن قبل استعماله ، ويدقق على الخبازين في نظافة الأوعية وتغطية الخبز ، ويهتم بنظافة الخباز ويمنعه من ممارسة مهنته إذا لم يقم بتغطية شعره وتنظيف جسمه ، ويمارس المحتسب دوره في منع محلات الأطعمة والصيادلة والعطارين وغيرهم من ممارسة الغش في صنائعهم وما يترتب على ذلك من ضرر بأجسام الناس ، كما أنه يتدخل في توجيه أصحاب الحمامات إلى تنظيف المياه والأحواض والأواني كل مساء لمنع ما يلحقها من تلوث قد يؤدى إلى انتقال العدوى بين الناس .
وهكذا عمل نظام الحسبة في الإسلام على وقاية المجتمع من كثير من مظاهر الفساد التي تنتج عن أنانية الأفراد أو جهلهم وتسبب في تلويث البيئة أو نشر الأمراض ، وقد أدى هذا النظام دوراً مهماً في توجيه المجتمع وضبط سلوكياته بمنطق الشرع والأخلاق أولا ثم بمنطق القانون ثانياً حيث كان هذا النظام مدعوما من السلطة الحاكمة في المجتمع (1) .
الإسلام في مواجهة مشكلة العصر:
التلوث
__________
(1) ... الشيرزي/نهاية الرتبة في طلب الحسبة /دار الثقافة /بيروت / تحقيق د. السيد العريني /ط2/1981.(1/39)
لعلني قد أشرت في ثنايا هذا البحث إلى نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بتكريمه له وجعله خليفته في الأرض وتسخير الله كل ما في هذا الكون ليستغله ويستفيد منه في تحقيق خلافته وفي العمل على ضمان حياة أخروية سعيدة ، وقد تناولت آيات القرآن الكريم شرحاً مفصلاً لمخلوقات الله الكثيرة والعظيمة التي سخرها لخدمة الإنسان وتكفلت سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرح وتفصيل الكثير من هذه النعم ، ونبه القرآن الكريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن هذا الاستغلال الإنساني لمصادر الطبيعة ومكوناتها قد يتحول الى تدمير لهذه المصادر وإفساد لها إن لم يراع الإنسان فيها أوامر الله ونواهيه وذلك حين تتحكم فيه الغرائز والشهوات ويضعف الإيمان في قلبه وتهتز المعايير الأخلاقية والإنسانية التي أمر الإنسان بمراعاتها : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (1) ولقد تنبأت الملائكة بإمكانية إفساد الإنسان حين قالت " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ " (2) ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى اقتضت ذلك لحكمة يعلمها حيث قال تعالى " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " (3) .
__________
(1) ... سورة الروم الآية 41.
(2) ... سورة البقرة الآية 30.
(3) ... سورة البقرة الآية 30.(1/40)
لقد بدأ الإنسان في استغلال المصادر الطبيعية منذ بدء الخليقة وحاول أن يسخرها لمعيشته بدرجات تتناسب وطبيعة الظروف التي عاش فيها ، وتوسعت طموحاته في اكتشاف هذا الكون براً وبحراً وجواً بمرور الزمن وبتقدم العلم لديه حتى وصلنا إلى عالم اليوم الذي استطاع فيه الإنسان استغلال كل شيء في أعماق البحار أو في مجاهل الفضاء أو في باطن الأرض ، ووصلنا إلى هذه الحالة والإنسان قد تحرر كثيراً من سيطرة النزعة الإنسانية واستسلم لنوازعه الفردية ، وتحرر من قيود الضوابط الأخلاقية وتحول إلى عبد للشهوات والمصالح الإنسانية ، وتحرر من كثير من الالتزام بالتوجيهات الإلهية في تمرد واضح على الرسالات وتوجيهاتها وأصبح عبداً للمذاهب المادية والإلحادية ، وظهر أثر ذلك واضحاً في مظاهر البيئة ومكوناتها مما جعل العالم المعاصر يواجه مشكلات التلوث التي تهدد مستقبل الحياة البشرية بأسرها .
لقد عرف التلوث بتعريفات كثيرة تشير معظمها إلى انه التغير الذي يحدثه الإنسان في المكونات البيئية فيحولها من مكونات مفيدة إلى أخرى ضارة مما يفقدها خاصيتها الطبيعية ويحرم الإنسان من الاستمتاع بها ويجعلها تهدد وجوده ، ويحدث ذلك في الماء والهواء والتربة والنبات وفي أعماق البحار وفي طبقات الجو العليا ......الخ ، ولقد تكفلت كتب وأبحاث كثيرة تناولت أنواع التلوث ونتائجه وأقيمت مؤتمرات محلية ودولية لمعالجة آثاره بل وتكونت جمعيات ومنظمات دولية لمحاربته وتحذير البشرية من خطورته .
ولعل سعة البحث في هذه المشكلة وشدة تعقيداتها وضخامة ما كتب حولها ، وكثرة المهتمين بها وتوزعهم في كل مكان من العالم ، يجعلني أقفز فوق كل ذلك لأبين أن التلوث نتج عن سببين رئيسيين كما أتصور :(1/41)
الأول : الأنانية الفردية للإنسان وجهله بما ينتج عن تصرفاته ، وهذه ربما تكون مضارها أقل خطورة من السبب الثاني ، فالإنسان في سبيل تحقيق معاشه اليومي اضطر أحيانا إلى قطع الأشجار وحرقها ، والى صيد الحيوانات والاستمتاع بها ، والى استغلال مصادر المياه سقاية ونظافة له ولحيواناته إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت سبباً في إهدار الكثير من الموارد الطبيعية ولكنه كان جزئياً وبسيطاً لم يصل إلى مستوى التلوث الحقيقي الذي أحدثته مجتمعات بكاملها في عصور متأخرة.
الثاني : ظهور النزعات التسلطية لدى بعض المجتمعات البشرية مما أدى بها إلى غزو مجتمعات أخرى بحروب مدمرة نتج عنها الكثير من الملوثات البيئية سواء كان بتدمير موارد بيئية أو استغلالها استغلالاً سيئاً ولعلي هنا سأركز على ظاهرة الحروب في تاريخ البشرية وما نتج عنها من مضار بيئية كان الإنسان فيها متحرراً من إنسانيته ومنفلتاً من كل القيود الدينية والأخلاقية فأضر بالبيئة والكون وما عليه من إنسان وحيوان ونبات ومن ذلك الأمثلة التالية :
1- في مواجهة الانجليز مع روسيا استخدموا طريقة إلقاء الجثث في الآبار لتتلوث وتتحول إلى مصادر فناء للجيش المضاد .
2- استخدم الفرنسيون في احتلالهم لأمريكا الشمالية وكندا وسيلة توزيع الأغطية الملوثة بداء الجدري لإفناء الهنود الجمر .
3- استخدم الألمان نشر حمى الكربون في الحرب العالمية الأولى في قطعان الماشية في الأرجنتين لتحويلها إلى مصادر لنشر داء الجمرة الخبيثة في الأعداء .
4- ألقت القاذفات البريطانية سنة 1943مسيحي 2417 طناً من القنابل المحرقة على مدينة هامبرغ بألمانيا مما سبب في حرائق غطت مساحات شاسعة وأدت إلى ارتفاع الحرارة إلى 1450 درجة فهرنهايت .
5- ألقت القاذفات الأمريكية قنابلها النووية على هيروشيما وناجازاكي فخلفت دماراً بشرياً وبيئياً لازالت آثاره حتى الآن .(1/42)
6- العدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني أدى إلى دمار بيئي لا مثيل له حيث يعمل الصهاينة ليل نهار على تلويث مصادر المياه وحقنها بأمراض فيروسية ذات أثر كبير في نمو الأجيال القادمة .
7- ما شهدته الساحتين العراقية والأفغانية من تدمير بشري وبيئي كبير في الحروب التي مارستها ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها والتي أدت إلى قطع ملايين الأشجار مما أدى إلى تدمير ثروة النخيل العراقية وتلويث مياه الأنهار وقذف البشر باليورانيوم المخصب والذي سيصيب الأجيال القادمة بتشوهات يصعب تصورها.
إن هذه الأمثلة وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي تعمدت عدم الخوض في تفصيلاتها خشية الإطالة إنما تدل على وجود انحراف في مسيرة البشرية أدى إلى طغيان وفساد كبير مارسته كثير من المجتمعات البشرية بحجج مختلفة أدت بها إلى التخلي عن إنسانيتها وأخلاقياتها في مقابل إرضاء النزعات السلطوية وتحقيق المصالح الاقتصادية من اجل سلب خيرات الشعوب والاعتداء على ثرواتها .(1/43)
وهنا يجب أن نذكر أن عظمة مبادئ الإسلام ، التي استطاعت أن تضبط سلوك المسلمين حتى في حالة الحرب التي مارسها المسلمون لأسباب تتعلق بالمحافظة على الإنسان والدفاع عن دينه وقيمه وحضارته ، فها هو ابوبكر الصديق - رضي الله عنه - يوجه جنده إلى أخلاقيات الحرب وهو يجهزهم الى مواجهة عدوهم في إحدى المعارك فيقول :" يأيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له " (1) هذه هي أخلاق الإسلام في الحرب نهى عن الإفساد في الأرض تطبيقاً لقوله تعالى : " وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " (2) .
أما في حالة السلم فلا ضرر ولا ضرار ، والضرر يزال ، والنهي عن الإيذاء للغير وإتباع الهوى ، والنهي عن الغلو والإسراف في استعمال الماء والنهي عن تلويثه ، والنهي عن إيذاء الحيوان إلا لمنفعة أحلها الله ، والنظافة مظهر يتجلى في كل يوم خمس مرات جسداً وثوباً ومسكناً وشارعاً ، وقد قدمت الدلائل الكثيرة من النصوص قرآناً وسنة ما يؤكد ذلك ، ومن هذا المنطلق فإني أقول باعتزاز إن الإسلام هو الرسالة التي تصلح أن تكون دواء لأمراض العصر المختلفة وفي مقدمتها المشكلات البيئية ، فمتى ما عرف العالم هذه المعالجات القرآنية استطاع أن يتعرف على حقيقة الإسلام وصلاحيته للحياة البشرية ديناً يخلصها من جميع أمراضها ومشكلاتها.
__________
(1) ... محمد بن جرير / تاريخ الطبري / تحقيق محمد أبو الفضل / ط2 ج2/ دار المعارف / ص 226-227.
(2) ... سورة القصص الآية 77.(1/44)
إن العالم المعاصر وهو يواجه خطر التلوث البيئي والتدمير المتعمد المعاصر للمصادر الطبيعية قد اتجه إلى سن القوانين والمعاهدات الإقليمية والدولية التي تجرم وتحرم الإضرار بالبيئة في شتى مكوناتها وتدعوا الدول إلى التكاتف من اجل حماية البيئة والموارد الطبيعية ، ولكن ذلك غير مفيد في كثير من الأحيان نظراً لاصطدامه بمصالح الدول والأفراد التي لا تقيم وزناً لهذه المعاهدات إما بتجاهلها أو الانسحاب منها كما فعلت أمريكا بمعاهدة كيوتو ، وهذا الأمر أدى إلى تفاقم وأخطار التلوث وتدمير المصادر الطبيعية ، فالإشعاع النووي وما يخلفه من آثار مدمرة لازال يهدد البشرية بفعل إصرار الدول الكبرى على امتلاك التقنية النووية واستعمالها بالصورة التي تتناسب مع مصالحها حتى ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالشعوب كما هو الحال في موضوع التخلص من النفايات الذرية ، وكذلك إحراق الغابات وتحويل الأراضي والمساحات الخضراء إلى مستوطنات متعددة الأغراض لازال خطراً يهدد الحياة على هذه الأرض لم تفلح القوانين في كبح جماحه ، أما الخطر الأكبر الذي يتمثل في تدمير طبقة الأوزون بفعل التلوث الجوي الناتج من تصاعد النفايات المختلفة وهذه المشكلة الأعقد التي بدأت البشرية تواجه أخطارها والذي يعتقد العلماء أنه يمثل نهاية الحياة على هذه الأرض ، وهذا الموضوع على الرغم من خطورته إلا أن القوانين الدولية لم تفلح في معالجة أسبابه نظراً لان ذلك يتطلب تضحيات كبيرة من الدول مجتمعة والكبرى منها بشكل خاص ، ولذلك فإني أقول إن الضوابط الدينية والأخلاقية هي الكفيل بتوجيه الشعوب إلى المحافظة على بيئتها ، ولذلك سارعت بعض المنظمات إلى دعوة القادة الدينيين للالتقاء والتباحث حول دور الديانات في معالجة أخطار التلوث والفساد البيئي ، وهذا يدل على خطورة العامل الديني في معالجة هذه المشكلة ، ولكن الدول الصناعية لا يروق لها ذلك فهي تهتم بمصالحها الاقتصادية فقط، ولذلك(1/45)
يضعف دور القيادات الدينية لعدم القدرة على مواجهة أصحاب القرار السياسي وهو الأمر الذي يعقد المشكلة ويزيدها تفاقماً.
إننا ندعوا رجال الأديان جميعاً وفي مقدمتهم علماء المسلمين أن يهتموا بالتوعية الدينية في هذا المجال في خطبهم ومواعظهم ومحاضراتهم ، وندعوا المسئولين عن التعليم في بلادنا وفي العالم أجمع أن يدخلوا الثقافة البيئية في مناهج التعليم من المراحل الدراسية الأولى ، وذلك حتى نضمن تكوين جيل يتشرب ثقافة المحافظة على البيئة منذ الصغر ، ويتفهم أخطار عدم المحافظة عليها ، فالتعويل على الأجيال القادمة هو صمام الأمان ، والوعي بالمشكلات البيئية منذ الصغر كفيل بتقويم السلوك البشري نحو البيئة .
وختاماً لهذه الورقة فإني اقترح التوصيات التالية :
1- تقديم الرؤية الإسلامية لمشكلات البيئية إلى العالم الآخر وذلك عن طريق ترجمة الأعمال الرائدة في هذا المجال إلى اللغات العالمية ليتعرف العالم على هذه الرؤية التي هي تعالج أساس المشكلات البيئية وتقدم حلولاً ناجحة لها .
2- نشر ثقافة المحافظة على البيئة لدى الناشئة وذلك عن طريق تضمين المناهج الدراسية في المدارس والجامعات موضوعات تعرف بالمشكلات البيئية وطرق الوقاية منها .
3- التأكيد على دور المنظمات والهيئات المدنية في رفع درجة الوعي البيئي ودفع الناس للمساهمة في المحافظة على البيئة .
4- تدريس مواد علمية في كليات الشريعة تساعد المتخرج منها في فهم الوقائع البيئية والحكم على قضاياها بصورة علمية .
5- المساهمة في تفعيل دور الاتفاقيات الدولية وحشد الجهود على كافة المستويات لتنفيذ بنودها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أ.د محمد فتح الله الزيادي
عميد كلية الدعوة الإسلامية(1/46)