دراسة:
هذا الكتاب من أخطر الكتب التى تناولت الاستبداد السياسى دراسة واقعية معاصرة جريئة امتزجت بالأسانيد الشرعية والمرويات التاريخية.. وليست قوة الكتاب فيما احتوى من معلومات فهذه ليست غريبة أو بعيدة عن مقدرة الشيخ الغزالى وإنما مكمن قوته فى جرأته البالغة فى توجيه صفعة شديدة للطغيان فى وقت كان السجن والتنكيل مصير رائدى الأقلام الحرة والضمائر الصاحية.. وكانت الرقابة على الصحف والكتب توءد بحياة الأحرار والشرفاء وتقصف بأقلامهم. وقد يصيبنا العجز فى التأريخ لتلك الفترة التى ظهر فيها الكتاب لأننا لم نعاصرها، ولكن جدير بنا أن نقرأ ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوى عن تلك المرحلة الصعبة وما عاصرها من أحداث جسام. ".. جاءت محنة ديسمبر 1948 م، حين صدر قرار حل جماعة الإخوان، ومصادرة ممتلكاتها، والتنكيل بأعضائها، واعتقال عدد كبير منهم، وانتهى الأمر باغتيال الحكومة جهرة لمؤسس الجماعة ومرشدها الأول الإمام حسن البنا. وكان مما قدر الله لى أن أكون من المعتقلين فى تلك المحنة التى أحالها الله منحة، وأنا طالب فى السنة الخامسة الثانوية بمعهد طنطا الدينى، وقد حجزت أكثر من شهر فى (سجن) القسم الأول للشرطة فى مدينة طنطا، مع مجموعة من الإخوة الزملاء، ثم رحلنا إلى معتقل (الهايكستب) فترة قصيرة، ومنه إلى معتقل (الطور) فى سيناء، حيث ركبنا الباخرة (عايدة) من السويس مجتازين خليج السويس إلى مقامنا الجديد فى الطور. ولا زلت أذكر تلك اللحظة التى هاج فيها ركاب الباخرة لسبب ما، وحدث شىء من الهرج والمرج، وكاد يفلت الزمام، فإذا شاب قصير القامة، مشرق الوجه، يلبس ثوبا أبيض، حاسر الرأس، يتوقد ذكاء وحيوية، يخاطب الركاب فى حزم: أيها الإخوة، يجب أن نضبط أنفسنا، حتى نصل إلى مستقرنا الجديد، فى أرض انطلقت منها شرارة الوحى المقدس، لتحرير أمة مستعبدة، من طغيان المتألهين فى الأرض.....
004(1/1)
وقد لاحظت أنه حين بدأ كلامه، صمت الجميع كأن على رءوسهم الطير، ولم يكد يتم كلمته الموجزة، حتى ساد الهدوء، وسار المركب فى أمان، وكأن شيئا لم يكن ! قلت لبعض الإخوة من أهل القاهرة: من هذا المتكلم؟ قالوا: ألا تعرفه؟ إنه الشيخ محمد الغزالى!. كم كانت فرحتى غامرة بتلك اللحظة السعيدة. لقد لقيت الرجل الذى أحببته عن بعد، فها هو اليوم منى غير بعيد. وشاء الله أن نوزع على أقسام معتقل الطور، فأكون من القسم الذى فيه الغزالى، وكان يسمى (الحذا). وكان حذانا رقم (1). فها أنذا ألتقى به صباح مساء. كان الشيخ الغزالى إمامنا فى الصلوات، وخطيبنا فى الجمعة، ومدرسنا فى الحلقات، مع أخيه ورفيقه العالم الفقيه الشيخ سيد سابق، كان يصلى بنا الصلوات الخمس، ويقنت بنا قنوت النوازل، وكان من دعائه فى هذا القنوت: " اللهم أفكك بقوتك أسرنا، وأجبر برحمتك كسرنا، وتول بعنايتك أمرنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم عليك بالظالمين "!. وكان الشيخ يلقى علينا محاضرات فى موقف الإسلام من استبداد الحكام، كانت نواة الكتاب الذى أصدره بعد الخروج من المعتقل، وهو: (الإسلام والاستبداد السياسى). ومما لا ينسى: أن الإخوان كانوا قد اختاروا مسئولا عنهم، كما هى سنة الإسلام:" إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم "، وكان هو أستاذنا الداعية الكبير البهى الخولى، صاحب (تذكرة الدعاة)، وغيرها من الكتب الأصيلة ـ رحمه الله ـ وجزاه عن الدعوة خيرًا. ولكن الأستاذ البهى قد استدعى إلى القاهرة، حيث وجه إليه اتهام فى قضية تتعلق بالنظام الخاص. فاجتمعت كلمة الإخوان على اختيار الشيخ الغزالى قائدا لهم داخل المعتقل، برغم أن فى المعتقلين من هو أكبر منه سنًا. وفى تلك الآونة، كان العسكريون الذين يحكمون المعتقل يأكلون حق المعتقلين، من الأطعمة الجافة و(المعلبات) التى تصرف لهم وباسمهم من الدولة. 005(1/2)
وكان هولاء يحسبون أن المعتقلين أسرى تحت أيديهم ولا يملكون أن يقولوا: لِمَ؟ بَلْه أن يقولوا: لا. ولكن الشيخ الغزالى خطب الجمعة، فألهب العواطف، وفجر بركان الثورة على هذا الظلم البين، وهذه السرقة العلنية، متحديا أولئك الطغاة المتمردين على عدل الله، معلنا الحرب على ذلك الثنائى الدنس، المتمثل فى الفرعونية الحاكمة بأمرها فى بلاد الله، والقارونية الكانزة لمال الله عن عباد الله. وما إن قضيت الصلاة، حتى قاد الشيخ مظاهرة تندد بالظلم وتعلن العصيان وتملأ هتافاتها الفضاء: تسقط اللصوصية المنظمة! تسقط سياسة التجويع!!. وكانت مفاجأة للعسكر حكام المعتقل، فلم يملكوا إلا أن يرضخوا لمطالب المعتقلين فى تسليمهم المقررات الجافة من الأطعمة ليتولوا هم طبخها وتوزيعها بمعرفتهم. وظللنا مدة لم تطل بمعتقل الطور، ثم فوجئنا بأن نودى علينا نحن طلاب المرحلة الثانوية، لينقلونا إلى معتقل (هايكستب)، قريبا من القاهرة، وقد قيل: إن ذلك تمهيد للإفراج عنا. وما كان هذا بالشىء الذى سررنا به أو هششنا له، فقد كنا لا نريد فراق إخواننا بالطور، وعلى رأسهم الشيخ الغزالى.. .. وفى أواخر شهر رمضان، أذن الله بسقوط وزارة الطاغية الأثيم إبراهيم عبد الهادى، وبدأت الإفراجات، وكنت فى أوائل من أفرج عنهم، ولم يشب فرحة الإفراج عندى إلا البعد عن الشيخ الغزالى..!.. وبعد الإفراج عنهم تقابل الدكتور القرضاوى مع الشيخ الغزالى عن قرب، فقال: ".. وقد وجدنا الشيخ الذى يشتد ويحتد فى نزاله الفكرى، فيهدر كالموج، ويقصف كالرعد، ويزأر كالليث، حتى إنك لتحسبه فى بعض ما يكتب مقاتلا فى معركة، لا مجادلا فى قضية، وتحسب القلم الذى فى يده، السيف أو الرمح فى يد ابن الوليد! وجدناه- عن كثب- إنسانا رقيق القلب، قريب الدمعة، نقى السريرة، صافى الروح، حلو المعشر، رضى الخلق، باسم الثغر، موطأ الأكناف، عذب الحديث، سريع النكتة، بسيطا متواضعا، هينا لينا، بعيدا عن 006(1/3)
التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفا إنسانيا، ويهتز خشوعا وتأثرا إذا ذكر الله والدار الآخرة، ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذى موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد، يكره الظلم والتسلط على عباد الله، يقول بصراحة: لا أحب أن أتسلط على أحد، ولا أن يتسلط على أحد. كان الغزالى بعد خروجنا من المعتقل أواخر سنة 1949 م، هو اللسان الأول الناطق باسم الدعوة إلى الإسلام، والمحامى الأول عن حرماته ومفاهيمه... وهو يقف بالمرصاد لكل متطاول على قيم الإسلام وأحكامه، ليرسل عليه شواظا من نار، مسلحا بقلم لا يصدأ، ولا يفل، ولا يستكين" ا.هـ. نموذج من إحدى الرحلات القاسية فى حياة الشيخ رواها الدكتور يوسف القرضاوى.. يضاف إليها ثمة أمر آخر وهو مظالم الحكم وقسوته على الطبقات الفقيرة وسطوته على الكادحين من أبناء الشعب العظيم.. وضياع الحقوق ومسرحية البرلمان وصورية مجالس الشيوخ.. إلخ والشيخ لم يقصد نظاما بعينه، بل خلد كتابه بما احتوى من آراء، ويعد كتاب " الإسلام والاستبداد السياسى " أول كتاب يحدث ضجيجا وزلزالا فى عرش الطغيان- إذا استثنينا كتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبى لاختلاف الظروف والدوافع- ومع تقديرنا لمؤلف طبائع الاستبداد إلا أن الشيخ صرح وواجه وأعلن بصراحة أنه يعادى الاستبداد بشتى صوره وألوانه. سئل يوما عن كتابه هذا فقال: " أشهر كتبى عندما هاجمت فيها الطغيان وفساد الحكم وأسميته " الإسلام والاستبداد السياسى " وكان ذلك فى أواخر الأربعينيات وكان هذا اليوم من أهم أيام حياتى واعتبره نقطة انطلاق لى... بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب. وأحسست أن القصر الملكى اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض 007(1/4)
علىّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة.. وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت على شىء ". وعندما سئل عن قصده من الكتاب قال:" ليس الكتاب لفئة دون فئة أو نظام دون آخر إنه لكل العصور وكل الأنظمة.. لقد طالبنى رجال المباحث فى العصر الجمهورى بتغيرات معينة وتحديدات خاصة فرفضت ونالنى ما نالنى..). إذًا كان النظام المستبد يؤلمه ويؤرقه ويرى مع ضياع الأمة الإسلامية لذلك رد يوما على أحد الصحافيين قائلا : " الشورى ركيزة الحكم الصالح.. والمسلمون أحوج أهل الأرض إلى أن يعيشوا فى ظلها.. ومن الضرورى وضع القواعد التى تكفلها وتحميها من طغيان النظام الفردى.. ". وكان يكره مدح الحكام ووصفهم بالإلهام والسداد والشعوب دونهم فكرا وتصنيفا..! كتب الدكتور يوسف القرضاوى تحت عنوان " الحرية ومقاومة الاستبداد السياسى " والشيخ الغزالى من عشاق الحرية ودعاتها، وهى من العناصر الأساسية فى برنامجه الإصلاحى، وهو عدو الاستبداد أيا كانت صورته ولا يقبله بحال، ولو تسربل باسم الدين، بل يرى أن الاستبداد باسم الدين أشد خطر من غيره. من أجل ذلك قسا على بعض مراحل التاريخ الإسلامى، حين رأى الشورى معطلة والخلافة تنتقل بحكم الوراثة إلى سفيه أو صبى لم يبلغ الحلم. وحين قرأ فى كتاب " العواصم من القواصم " للإمام أبى بكر بن العربى أن البيعة تنعقد باثنين أو بواحد، لم يطق صبرا على هذا الكلام الذى اعتبره فارغا لا وزن له، ولا دليل عليه. وهو ما جعل العلامة محب الدين الخطيب يعقب عليه فى مجلة " الإخوان المسلمين " تحت عنوان: " هل الحكم الشرعى كلام فارغ؟ ". ورد عليه الشيخ الغزالى بمقال: " هل هو حكم شرعى؟ " والمقالان يمثلان نموذجا يحتذى فى حوار العلماء، الذى يقدر بعضهم بعضا، وإن كان الخطيب
008(1/5)
يمثل هدوء الشيوخ، والغزالى يمثل ثورة الشباب " ا هـ. والشيخ الغزالى لم يفرد للاستبداد السياسى هذا الكتاب فحسب، بل تناوله فى كثير من كتبه وخصص له فصولا وأبوابا فى كتبه " هموم داعية " و " فى موكب الدعوة " و " الغزو الثقافى يمتد فى فراغنا " و " علل وأدوية " ومقالات عديدة من كتابه الجامع " الحق المر " وكتابه القيم " نحو تفسير موضوعى لسور القرآن الكريم ". وقد تناول الشيخ كل ما يتعلق بأنظمة الحكم والديمقراطية والفرق بينها وبين الشورى والحياة البرلمانية والانتخابات وكل ما يتعلق بأسباب الأنظمة المستبدة. والشيخ فى قضية سلوك المستبدين لا يراعى إلا الله ولا يخشى نظامًا ولا يمالق نظامًا آخر.. وكثيرا ما جر عليه غضب المسئولين فى كثير من الأحيان، لكنه لم يرض إلا الله وحده. وهذا هو الشيخ الغزالى. والشيخ الغزالى كان حريصا على تسجيل معاصى السياسيين ويتناولها بالتوبيخ فى أى بقعة من بقاع الأرض. واستشاط غضبا عندما سمع بعض العلماء يقول: إن الشورى مندوبة وليست واجبة، وهى مُعلِمة لا مُلزِمة! فكان يشعر أن هؤلاء أشد خطرا على الإسلام من المتطرفين. وأخذ على عاتقه تسجيل جل المخازى التى تحدث فى العالم الإسلامى من أولى الأمر. يذكر الشيخ الغزالى يوما حينما كان يعمل فى المساجد بوزارة الأوقاف المصرية فى السيتنيات: أن أحد خدام المساجد جاءه يصرخ: أدرك يا فضيلة الشيخ إن الزبانية دفنوا بعض الناس وأمرونى بفتح المقابر ليلا.. وحينما سعى الشيخ لبيان الأمر تبين أن بعض المعتقلين قد ماتوا فى سجنهم من شدة التعذيب وتعمد النظام وقتئذ تعتم الأمر وإنكاره ولم يكن ذلك غريبا فقد دأب زبانية السجون على زهق أرواح الأبرياء.. ويعد كتاب الإسلام والاستبداد السياسى بداية الصدام مع النظام، كتبه فور الخروج من المعتقل 1949 وأخذ على عاتقه الجهاد مع هؤلاء قدر المستطاع. 009(1/6)
وفى العهد المعاصر أكمل تلك الدراسة بكتاب " نظرة على واقعنا الإسلامى مع مطلع القرن الخامس عشر الهجرى " والمسمى بأزمة الشورى. ويعد هذا الكتاب رؤية علمية دقيقة لمفهوم الشورى والزاميتها وضرورتها لوقف جماح المستبدين. ولا ينسى الشيخ أن ينصف حكومات اتهمت بالاستبداد فيصحح الأوضاع ويبرئ المظلوم.. وكان حريصا على تصحيح الخطأ فحينما يجد نفسه قد حكم على غير صواب يرد نفسه ويسعى لإظهار الحقائق جلية وهو سلوك قل أن يوجد عند أحد من الناس. قال الشيخ الغزالى: ".. وكان الانتقال إلى المملكة العربية السعودية مباغتة لى، وكنت قد نقلت فى أول كتاب ألفته كلامًا عن الملك عبد العزيز يصف صرامته فى تأديب البدو والقبائل التى مردت على إيذاء الحجيج.. ويظهر أن الكاتب الذى نقلت عنه جار فى حكمه واشتط فى اتهامه، وأنا على كل حال مسئول عن الكلام الذى نقلته وإن وُصف خطأ بأنى قلته... وقد سافرت إلى مكة وبدأت العمل فى الجامعة وبدأت كذلك أدرس تاريخ الملك عبد العزيز أدرسه سرًا، وأتعرف على معالمه وحدى... وكان أول ما استوقفنى كتيب فى الأدعية المأثورة التى كان الملك يتلوها تقربًا إلى الله وتطلعًا إلى فضله..!! قلت: ملك عابد؟؟ هذا غريب!! وبدأت أجمع المعلومات، وأنا بعيد عن أى حاكم فى المملكة فعلمت ما لم أكن أعلم. عرفت أن الرجل كان صوَّامًا قؤامًا مقبلًا على ربه، راكبًا فى نصرة دينه، يتحرى الحق ويسأل عنه أهل الذكر.. ويريد أن يُقيم دولة للإسلام تجمع ما تفرق من أمره، وتحميه من الخرافات والأباطيل... وعرفت أنه كان متواضعًا للناس، يبعثر فيهم ما يجيئه من مال، وكان المال يومئذ قليلًا، لما يستكشف النفط بعد وتغزر موارده. وتأملت فى مؤسسى الأسر المالكة التى ظهرت خلال القرنين الأخيرين فوجدت محمد على باشا أقام ملكا عريضًا بمساعدة فرنسا، وأنه حيث دخل بلدا كان ينقل القوانين الوضعية الفرنسية ويستبدلها بالقوانين الإسلامية. 010(1/7)
أما عبد العزيز فكان الهدف الأول والنداء الأول له إقامة حكم إسلامى، تطبق فيه تعاليم الكتاب والسنة. وقد استطاع أن يجمع تحت هذه الراية أقطارًا فيحاء من جنوبى سوريا شمالا إلى شمال اليمن جنوبا واصلة بين البحر الأحمر والخليج الفارسى شرقا وغربًا، ولم تتوحد البلاد على هذا النحو إلا على عصر ازدهار الإسلام. وقد هاجمه بعض المتدينين وطعنوا فيه لأنهم رغبوا إليه أن يعلن الحرب على إنجلترا ويأذن لهم بفتح العراق، ولكن الرجل أبى أن يتعرض لمغامرة هى فى عقباها مقامرة خاسرة. وعند التأمل نجد الحق معه ولا ريب أنه كان سياسيًا ماهرًا بعيد النظر. إننى أكتب هذه الكلمات إنصافًا للحقيقة العلمية، لا رغبة ولا رهبة، أكتبها بعد خمس سنين قضيتها فى السعودية كأى أستاذ يشتغل بالتعليم والتربية ، ما قال لى مسئول: لماذا كتبت عن كذا..؟ أو لعلك تستدرك ما ذكرت قديما عنا، لا.. إنه العدل مع رجل عظيم أفضى إلى ربه ولا نزكى على الله أحدًا.. " ا هـ. وبقيت كلمة من باب الأمانة العلمية. فقد لزم الأمر والتنويه أن الشيخ الغزالى رحمه الله قد أوصى بحذف كلمات لاتكوِّن جملا.. يراها ـ رحمه الله ـ بعيدة عن الصواب. وثمة أمر أخير: أن هذا الكتاب يعد أحد الوثائق الهامة وورقة من مذكرات الإمام الراحل وتأريخا دقيقا لمرحلة مستبدة ماتت فيها الحرية مرارا. وصيحة مدوية يخشاها المستبدون دوما. "المحقق" 011(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
كتبت هذه الصحائف من بضع عشرة سنة، وكان دويها بعيد المدى فى إقلاق الظلمة، وكانت استجابة القدر لها أسرع مما يتصور الكثيرون. فدكت عروش طالما عنت لها من دون الله الوجوه، وزالت مآس كاد الإياس من زوالها يستولى على الأفئدة. لكن آفاق العالم الإسلامى لما يعمها الصفاء المنشود. فبعد مضى هذه السنين الحافلة نرنو بأبصارنا إلى أقطار شتى، فإذا هى لا تزال ترسف فى قيودها. بل إن أعراس الحرية كثيرا ما تحولت إلى مأتم يحفها السواد الكئيب. وتلهث فيها الجماهير الشقية، وتستباح فيها الدماء والأعراض.. "! والمسلمون أحوج أهل الأرض إلى الرواد الذين يمهدون لهم سبل الكرامة ويدفعون عنهم مكايد العسف. ونحن لن نتوانى عن أداء واجبنا الذى يسرنا الله له، وأعاننا عليه. وسنظل نساند قضايا الحق، ونناصر أهله حتى نلقى الحق- جل شأنه- صادقين أوفياء.
محمد الغزالى(1/9)
حصاد مرير:
هذه خلاصة بحث ألقيته دروسا على فريق من الذين اعتقلوا معى فى منفى الطور منذ سنوات، وقد أحرقت أصوله الأولى فى الهجمات التى كان يشنها علينا قائد المعسكر للإرهاب والإذلال، وحسبت أن الأحوال التى أوحت بخوض هذا البحث قد انتهت بالإفراج عنا، وأنى إذا عدت إلى تحريره فسيكون بحثا علميا مجردا من الملابسات الأسيفة التى بدأ فيها. وكنت فى هذا الزعم واهما! كانت ذكريات المنفى أعمق من أن تمحى وعودة الغيوم إلى آفاقنا أسرع مما نتصور!. وهل انجلت يوما حتى يقال: إنها عادت؟. إن بلاد الإسلام فى هذا العصر ـ وفى العصور القريبة السابقة ـ تحمل كفلين من العذاب: أحدهما من وطأة الغرب المعسكر بقواته الكثيفة من المحيط إلى المحيط، والآخر من غدر الحكام المشايعين له، ومن أوضاعهم الملفقة وفسادهم العريض. احتلال مزدوج ضاقت الأمة به ذرعا، وأضناها أنها ما تنتهى من صراع أحدهما حتى يأخذ الآخر بخناقها، والغريب أنه فى الأقطار الإسلامية التى لم يسفر الاحتلال الغربى فيها، أو التى رابط على حدودها وحبس المسلمين داخلها ـ كجزيرة العرب ـ تضاعف فيها فساد الحكم وازدادت أغلاله، كأنما كتب على المسلمين البائسين أن يحملوا قيدين حتما، فإذا لم يكن ثمة قيد أجنبى فإن الولاة الأخيار (!) كفلاء بصنع قيد.. وقيد..!!. أما المشاهد التى عرضت لنا فى السجون والمنافى فقد علمتنا ما لم نكن نعلم! وفقهنا على ضوئها معانى آيات كثيرة من الكتاب الكريم. 015(1/10)
كنت أمر بقول الله ممتنا على أهل بدر بالنصر الذى نالوه: " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ..". فما كنت أدرى إلا أن قوما قووا بعد ضعف وعزوا بعد هوان!.. حتى ضمنا جوف الصحراء الموحشة، ووقعنا فى قبضة ثلة من العبيد، يتزلفون لسادتهم بإجاعتنا وإرهاقنا وهم آمنون من أن صريخا لن يهب لنجدتنا. وكنت أرسل الطرف فأقرأ فى الوجوه معانى شتى.. إنهم جميعا مختطفون. هذا تاجر مختطف من ماله، فهو لا يدرى عنه شيئا، وهذا موظف مختطف من عمله وأوقف مرتبه كذلك، وكلاهما محزون الفؤاد، لأنه لا يعرف أين زوجته؟ وأين أولاده؟ فى المآقى عبرات منعها التجمل أن تسيل فهى جامدة لا ينتهى ما يبعثها ولا ينقضى ما يحبسها، و إذا شغلتهم أنفسهم عن أهليهم، وانحصروا فى مشاكل حاضرهم عن ماضيهم، عمرهم شعور المذلة بأنهم قلة، وأن ثمن حياة الواحد منهم بضعة مليمات، هى ثمن الرصاصة التى يقتل بها..! هكذا قيل لنا فى الطور..؟ ورأيت رجالا نبلاء يتخلفون عن صلاة الجماعة، لأن الخروق كثرت فى الأسمال التى يرتدونها، وشيوخا معذبين، حكى لى أحدهم أن أبناءه وأزواج بناته اعتقلوا جميعًا، كأن الخطة الموضوعة ألا يكون فى البيت رجل!. وتذكرت ليلة من سجن الدرب الأحمر وفى معصمى قيود الحديد ووضعت مع عشرات أمثالى فى سيارة بضاعة، وكعوب البنادق تدق بين أكتافنا حتى لا نحدث جلبة يستيقظ عليها أهل القاهرة النائمون.. لقد رفضت ليلتئذ أن أقاد صامتا إلى مصير مجهول.. فشققت الصمت السائد بالتكبير العالى، وأهبت بمن معى أن نزعج النيام بهتافنا.. مهما انهال علينا من 016(1/11)
ضرب وسب.. لكن القاهرة كانت يسوسها حفنة من الطغاة الفجرة الذين يسرقون الحكم من ذويه ثم يلعبون به كيف يشاءون فخرجت منها وأنا أهمس إلى نفسى: إذا أنكرتنى بلدة أو نكرتها خرجت مع البازى على سواد كنت أكره الاستبداد قبلا كرجل خلقه ربه حرًّا، فلما لعقت مرارة القلة والاستضعاف والاختطاف، ووجدت زمامى يلعب به السفهاء كما كان صبية مكة يلعبون قديما بالحبل الذى ربط فيه بلال بن رباح رسبت مشاعر الحقد فى أعماق قلبى، وفهمت كيف أن اندحار الأعداء يشفى صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم. * وفى حلول المصائب يرهف الإحساس، ويتساءل المرء عن قيمة أعماله ومبلغ سدادها، وقد عرانا من ذلك شىء كثير.. قلت: هل أخطأنا؟ وأجلت الطرف فيمن حولى، فرأيت شبابا مقبلين على العلم والعبادة يحتشدون فى الصلوات، ويتضرعون فى الدعاء ثم يرددون آمالهم فى الإصلاح الذى طوردوا من أجله، فإذا بهم معلقو الأفئدة بالكتاب والسنة. إنهم لا ريب يحبون الله ورسوله. أما خصومهم.. فقد ضجت من آثامهم الأرض والسماء، إنهم عراة من تعاليم الدين وفضائل الرجولة، أيديهم ملوثة بالدم الحرام، وبطونهم متخمة بالطعام الحرام، وهاهم أولاء قد رموا بنا فى هذا الوادى السحيق لنهلك فيه انقطاعا وضياعًا.. أشهد ما علمت أن دعاء المظلوم من أسباب الكون الفعالة، ومن قواه المسخرة إلا فى هذه الأوقات العصيبة.. طالما دعونا ورجونا، ووقفنا فى ساحة الله مبتهلين، فإذا به يملى للظالم فى الاستكثار من الأوزار التى يحملها حتى بهظته الأثقال، فما زال ينوء تحتها حتى انقصم ظهره فأخلد إلى الأرض. ونجونا.. وما كدنا.. 017(1/12)
ولما كان النسيان طبيعة فى شعبنا يستغلها خصومه فى المكر به ومعاودة إذلاله، فإنى رأيت من واجبى أن أقض مضاجع البغاة، وأبعث فى وجوههم بصيحة تحذير ترد كيدهم فى نحورهم، وتبصر الضحايا الغافلين بعواقب تراخيهم وكسلهم.. وحزمت أمرى على إخراج هذا الكتاب للناس.. الدين والاستبداد:
وسترى أن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهى بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء. وقد راعنى أن أجد كثرة كبرى من الرجال العاملين فى الجبهة الإسلامية مذهولين عن إدراك هذه الحقيقة الخطيرة، وهم حين يدعون إلى الإسلام ينسون ما أفاده العالم من تجارب فى صراعه للحكام الظلمة الذين أساءوا إليه، وعلموه أن يحدد علائقه بهم فى دساتير مضبوطة وقوانين محكمة. حقا إن الدساتير والقوانين تأتى فى المحل الثانى بعد تهذيب النفس وترقية الضمير، غير أن مجيئها فى المحل الثانى لا يعنى إلغاءها أو الغض من أثرها فإن القيمة الذاتية لهذه الدساتير، ونبل الفكرة التى أوحت بوضعها، وخبث المؤامرات التى حيكت لتعطيلها، وعظم الفائدة التى تتحقق من رعايتها لدين الله ولدنيا الناس معًا.. ذلك كله كان يوجب على العاملين للإسلام أن يحددوا موقفهم بإزائها - وهو موقف يستحيل أن يكون فى مصلحة المستبدين، الذين يؤسسون أمجادهم على امتهان الجماهير والعبث بمصالحها، وإذا لم يسمع صوت الدين فى معركة الحرية فمتى يسمع؟ وإذا لم ينطلق سهمه إلى صدور الطغاة فلمن أعده إذن؟!. لقد تتبعت أقوال طائفة من المتحدثين عن الإسلام فوجدت تصورهم لأسلوبه فى الحكم غامضا، وآذانى أشد من ذلك أنهم وقفوا مكتوفى الأيدى أمام الافتيات 018(1/13)
المستمر على سلطان الأمة كأن ما يحدث تحت سمعهم وبصرهم خارج عن الدائرة التى يختص الدين بالفتوى فيها.. ولقد فهم أحد الظرفاء هذا الموقف فأرسل إلى لجنة الفتوى هذا السؤال: رجل حلف بالطلاق أن الانتخابات التى حدثت سنة كذا مزورة، فهل تطلق امرأته؟. ولم تقع لجنة الفتوى فى هذا الشرك.. ولن تقع ولو بقيت المرأة معلقة أبد الدهر. * إن هذا الموقف مسىء إلى الإسلام إساءة بالغة، يطمع الدعوات الملحدة أن تمتد حيث انكمش هو، بل إنه يرفع الثقة بهؤلاء العاملين للدين، ويعرضهم لأقسى التهم. وقد قرأنا أخيرا أن تركيا رأت- نزولا على رغبة الأمة- أن تعيد حصص الدين إلى المدارس.. فانظر إلى القيود التى وضعتها لهذه الإعادة، وإلى الزاوية التى تطل منها على الرجال الذين وكلت إليهم هذه المهمة. يقول الأستاذ محمد فريد وجدى: " مما يجب أن نلفت النظر إليه فى هذا الشأن أن الأمة التركية الممثلة فى مجلسها النيابى لم تجعل لرجال الدين القوامة المطلقة على ضمائر الناس، ولا الاستبداد بحق التوجيه الروحى لهم، كما هى الحالة لدى الأمم الشرقية، بل جعلت لنفسها القوامة عليهم واشترطت النظر فى البرنامج الذى يضعه رجال الدين للتعليم الدينى، والكتب التى يؤلفونها لنشر الدين وتعميمه. واشترطت ما هو أخص من ذلك فى الحد من حرية رجال الدين مبالغة فى المحافظة على حرية الضمائر، وذلك بأن حظرت أن تفتح مدرسة للتعليم الدينى حيث لا توجد مدرسة للتعليم العلمانى، أى التعليم الخالى من التأثير الدينى، وهى ترمى بذلك إلى درء خطر العدوان على حرية الضمائر، والذى يلوح لنا أن الأتراك لا يخشون من سيادة الروح الإسلامية على جماعتهم، لأنهم يعرفون ما للإسلام من فضل فى تنوير العقول، وتقرير الحقوق الطبيعية 019(1/14)
للإنسان، وعنايته بنشر العلوم والفنون، وحكمته فى قيادة الجماعات فى معترك المزاحمات العالمية، كل هذا يعرفه الأتراك ويقدرونه حق قدره، وقد وضعوا فيه كتبًا، ولكنهم بتقريرهم هذه التحفظات يسيئون الظن بالذين يتولون أمره: فلا يعرفون مدى إدراكهم لروح الإسلام السامية ومبلغ فهمهم لحكمته العالية، بل يعلمون أن ممن التحفوا شعار الدين أفرادا لا يقدرون تبعة قيادة النفوس قدرها، فيضطرب سيرهم فى توجيهها ويحيدون بها عن الصراط السوى إلى سبل من الجمود العقلى، أو الانحلال الخلقى، وليس هذا مما رمى إليه الأتراك من ثورتهم التى ضربت بها الأمثال، وسجلت لهم صفحة خاصة فى تاريخ الوطنية الصحيحة ". ونحن نعرف أن الثوار الأتراك كفروا بالإسلام وخلافته عقيب هزيمتهم فى الحرب العظمى الأولى. والحق أنهم جمحوا فى تحديد المصدر الذى تسرب منه الخطر على كيانهم فضلوا ضلالا بعيدا، ولو عقلوا لكفروا بالرجال الذين أذلوهم أو سكتوا على إذلالهم، ولقدموا إلى محكمة من صميم الشعب تسمع فيها شهادة عدلين لا ترتقى إلى نزاهتهما شبهة أولهما كتاب الله، والآخر سنة رسوله، ثم يقول القضاء بعدئذ كلمته، وهى كلمة يسود لها وجه الخليفة المستبد ومن حوله من مشايخ الإسلام... إننى ـ فى هذا الكتاب ـ أنصف الإسلام، وأدمغ الرجال المفرطين فى حقه وإن انتموا له، وأريد أن يدرك العاملون فى مختلف الجماعات والهيئات الإسلامية أن خدمتهم لدينهم لن تتم ولن تخرج ولن تسير فى صراط مستقيم إلا إذا نضج فى أذهانهم الفهم السليم لحقوق الإنسان، واكتمل فى صفوفهم الدفاع العنيف عنها.. ** قبل أن نستفيق من دوار المحنة التى نزلت بنا وقبل أن نلم شتاتنا من حرب الإبادة التى سلطت علينا، دوى النفير لإجلاء الإنجليز عن ضفاف القناة.. حسنا.. 020(1/15)
إن الرجال ذوى الحساسية القوية برسالتهم وتبعات الإصلاح الملقاة على كواهلهم، يشعرون كأنهم المعنيون عند كل نداء، المطلوبون عند كل نجدة. لو كان فى الألف منا واحد فدعوا من فارس؟ خالهم إياه يعنونا.. وطرد اللصوص الحمر من كل بلد مسلم فريضة محتومة، ونحن نعرف أن للاستعمار فكين حادين يتركب منهما فمه الضليع، الفساد الكامن فى الداخل.. والعدوان الوافد من الخارج، وبين الفكين تدور الرحى وتتهشم الضحايا.. وضربة قاصمة لأحد الفكين تنقذ ألوف المعذبين، وقد كرسنا حياتنا لهذا المسعى الجليل. وما يستطيع واحد منا أن يتعامى عن الفساد المنتشر هنا وهناك، وقد حاول آباؤنا من سبعين سنة أن يمنعوه وأن يردعوا مرتكبيه، ولو تركنا اللصوص الحمر نسوى أمورنا وحدنا لكانت مصر اليوم من أعظم دول العالم، ولكنهم أقحموا أنفسهم فى شئوننا ليزيدوها خبالا، وكلما حاولنا سلوك طريق لتصحيح أوضاعنا أقاموا فى وجوهنا العراقيل لنعجز ونكف. وعندما اندلعت الثورة المصرية الأولى وظفرت البلاد بدستور سنة 1923 أبت السلطات المحتلة إلا الإخلال بسير الحياة النيابية، وإيقاع الخلل فى دورانها وإنتاجها، حتى لا تحكم الأمة نفسها بنفسها- كما هو الواجب-. فكانت " البرلمانات " فى عهود كثيرة غطاء لسرقة الحكم وإذلال العامة و إضاعة الحقوق، وفشت الرشوة والاحتيالات والاغتيالات. كتب الأستاذ أحمد الصاوى فى يوم الاحتفال بذكرى الدستور يقول: " كان قلبى يريد أن يفرح بيوم الدستور، لكن أين الفرح من قلبى؟ إنه بعيد.. بعيد.. دلونى كيف أفرح والصحف مخضبة بدماء الشرف، ودماء الشهامة، ودماء المروءة، ودماء الفضيلة، ودماء الذمة والأمانة، أى مخضبة بدماء الوطن.. ماذا نقرأ فى الجريدة فى يوم واحد.. 021(1/16)
نقرأ عن قضية الجيش الكبرى التى تنتظر المحاكمة، والتى تمثل مأساة فلسطين.. نقرأ قضية انفجار الذخائر فى القلعة التى كادت تودى بحياة سكان القاهرة جميعًا وكانت كارثة كبرى. نقرأ قضية استيراد الأسلحة من الصحراء الغربية خلال حرب فلسطين وما فيها من اختلاسات.. نقرأ قضية التموين التى بلغت فيها التهم 12 تهمة خاصة بصفقات الذرة السودانية والشاى، والصفيح، وأغنام برقة، والصودا الكاوية، وأخشاب باسيلى.. إلخ. وصيحة النيابة التى هزت جوانب العدالة إذ تنبه إلى النقص فى القانون وتطلب علاجه بسن تشريع.. نقرأ قضية الاختلاسات الكبرى فى وزارة المعارف التى بلغت ربع مليون جنيه. نقرأ تحقيقات نيابة الشئون المالية بالإسكندرية فى تهريب سيارات إلى إسرائيل عن طريق بور سودان.. نقرأ تحقيقات نيابة المنشية فى السرقة والاختلاس فى مخازن تفتيش مبانى الغرب. نقرأ الفضيحة الكبرى فى اختلاسات مخازن وزارة الصحة.. نقرأ المحاكمة فى قضية الاعتداء والأوكار ونسمع ما تقشعر له الأبدان.. نقرأ.. ثم نقرأ ويا ليتنا لا نعرف القراءة والكتابة.. رحماك يا رب.. هل هذا كله فى يوم الدستور؟. لقد جف ريقنا من الأسى، ولكن وصيتنا إلى أبنائنا أن يذهبوا يوما ما إلى حيث يرقد الخونة أيًّا كانوا فيبصقوا على قبورهم ". لكن رجال الكتائب لم يذهبوا إلى قبور الهلكى ليبصقوا عليها، بل ذهبوا إلى الميدان ليحفروا قبورا أخرى للإنجليز الذين جلبوا هذا الشر كله. *022(1/17)
بنفسى أولئك الأبطال الذين ذهبوا بأسلحتهم الصغيرة ليقاتلوا " إمبراطورية " هزمت جل العالم فى حربين كبيرتين. بنفسى أولئك الأسود الذين طلعوا بالردى على أعدائنا فأذلوا كبرياءهم ونكسوا ألويتهم.. بنفسى أولئك الأحرار الذين قاتلوا اليهود فى فلسطين وقاتلوا الخونة فى مصر، وقاتلوا الإنجليز أخيرا فى القناة. *صنعتهم المحاريب الخاشعة فعاشوا موصولى القلوب برب الأرض والسماء وطهرتهم مثلهم العالية من كل شائبة فازدانت بهم فضائل التجرد والعفة، والإيثار. وبرزوا فى الصفوف الأولى يوم تجاوب الصدى فى جنبات الوادى يهتف: حى على الكفاح. وتجدد شباب الإسلام من شبابهم، وتألقت آماله العذاب فى وميض عيونهم وقطوب جبينهم.. وعادت للأمة المهيضة ثقتها بعدما كادت تنهار.. وتراجع خصومها دهشين، وهم يتساءلون: أبقى هذا اللون من الرجولة الناضجة حيًّا فى بلاد حرمناها من دروس الرجولة، وردمنا أرضها بالمغريات، والمثبطات؟. أبقى الإسلام قادرا على خلق هذه الفئات التقية النقية تعيد فى عصر الشهوات المهتاجة ذكريات الصديقين والقديسين، وتنفخ من روحها فى معانى الفداء والنجدة فإذا بها حقائق تملأ أرجاء العالمين؟. أولئك: هم رجال الكتائب الذين يحاربون إنجلترا.. إنجلترا القوية ببأسها وحديدها ومن ورائها دول العالم تؤيدها فى عدوانها، أو تعتذر عن إجرامها، أو تصطنع الحياد الخسيس فى معركة بين الحق والباطل لا يجوز فيها حياد .. 023(1/18)
أما رجال الكتائب الذين يحاربون بأخف الأسلحة وأردئها.. فمن وراءهم؟. مستوزرون يرون الحكم مغنما، ويسعون إليه فى جنح الظلام، لا.. إنهم لا يحسنون السعى بشىء ما، إنهم ينتظرونه كما ينتظر المقامر مفاجآت الربح الوفير، من غير عمل تافه أو خطير.. أجل.. ومن وراءهم كذلك مواخير مفتحة الأبواب لكل طارق، مبذولة الأعراض لكل مراود، سادرة فى غمرتها تحيا على السرور والمتاع، وتسمع الألحان الطروب والموسيقى المرحة.. إنها فى عرس دائم حتى يخر عليهم السقف من فوقهم. ومن ورائهم أيضا مشاعر متقطعة ووجوه ساهمة، ربما استقبلت جثث الشهداء بحزن، وربما ودعتها بدمعة.. أما الثأر لهم، أما الإنفاق على أسرهم فشىء آخر. ولا عجب فهم لا يكترثون بأخبار القرآن فكيف يهتمون لأنباء الناس؟. أمس سمعت القارئ يتلو من مسجد الحسين، ودار الإذاعة تنقل إلى العالم قراءته، فإذا به يتلوى وهو يغنى بالآية الجليلة: " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " وذلك وصف يقف له شعر الرأس، ولكن المغفلين الملتفين بالقارئ يستقبلون هذا النبأ الخطير، بماذا؟ بهذه الكلمات: " يا صلاة النبى.. الله الله.. كده كده يا سى الشيخ ".. أفبعد ذلك عبث؟. لقد تبعت عينى هذا الشباب المهاجر بدينه وخلقه من الدنيا الصاخبة بالمجون، إلي منطقة الخطر حيث يعسكر اللصوص الحمر.. وقدرت أى تضحية نبذلها ونحن نرسل هذا الشباب.. كانت العواطف المتناقضة تتصادم فى فؤادى مقبلة مدبرة وأنا أسأل نفسى: أفلا 024(1/19)
نستبقى هذه البواكير الطاهرة لننظف بها هذه البيئات الملوثة؟ ونخمد بها أنفاس الشياطين التى زحمت البر والبحر بالإلحاد والفساد، والتحلل؟ لوددت ذلك، غير أن الضلال المقيم هنا يربطه بالاحتلال الوافد نسب قديم وسبب متين، ولئن أعلناها حربا شعواء على الأوضاع التى خلقها الاستعمار بيننا، فلن ننسى أن هذه الأوضاع ذنب الأفعى التى أهاجها الجاهدون بوخزاتهم، وآلوا على أنفسهم أن يدقوا رأسها على ضفاف القناة وفى صحراء التل الكبير. إننى أضن بهؤلاء على الموت، ولكن الله عندما يصطفى عبدا للشهادة يقذف فى قلبه ثورانا لا يهدأ حتى يأخذ أهبته ويلبس عدته وينطلق إلى المعركة الناشبة ليدمر الباطل ويسحق الظلم، ولن يعود منه إلا رفاته أما روحه فكانت الوهج الذى أذاب بأس الكافرين ثم صعد بعد إلى عليين. أضن بهم على الموت؟ لكن الله لا يضن بهم على الاستشهاد ولا يضن بالشهادة على أمثالهم وهو القائل: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين " وفى المعارك الضخمة النتائج يكون القطاف الأول من هذه الصفوة الممتازة، ألا ترى إلى حروب الردة؟ لقد تهاوى القراء على وردها حتى تفانوا.. وخشى على القرآن بعد فقدهم فجمع على عجل فى السطور الذى حفظته بعد أن ضرجت فى أكفانها الصدور التى طالما رددته : " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة " . وعلينا واجب- نحن القابعين، مع الأسف، فى مؤخرة الصف- علينا أن نطهر الجبهة الداخلية من وراء رجال الكتائب، فنمحق كل ركن يحاول الإنجليز أن يرتكزوا عليه فى بقائهم، ونحبط كل مؤامرة تفتح للإنجليز نافذة من الأمل فى سرقة بلادنا، ونهب خيراتنا وانتهاك أعراضنا مثلما أتيح لهم ذلك سنين عددا فى ظل معاهدة سنة 19 ص الملغاة. إن ذلك جهد، إن قمنا به مخلصين شاركنا المجاهدين فى تحقيق الغايات التى يبذلون النفس والنفيس للحصول عليها. 025(1/20)
الدم الغالى يكتب اليوم تاريخ أمتنا، وقطراته العزيزة تتساقط من الأبطال المجندلين فى أطراف الميدان البعيد، إننا لا نخشى وحشة الموت على الشهداء الذين يجودون بأرواحهم وهم يرفعون ألوية الحق، فما عند الله خير لهم وأبقى.. إنما نريد شيئا واحدا.. نريد أن نطمئن الجنود الذاهبين إلى ساحة الوغى أن الحق الذى يعتز بتضحياتهم لن يهتز بعد ذهابهم، وأن الغايات النبيلة التى يطلبونها لأمتهم سنسهر عليها حتى تمتد جذورها فى الأرض، وتعلو فروعها فى السماء. إنهم يقاتلون الإنجليز، لأن الإنجليز خرجوا من ديارهم بطرا ثم جاءوا إلى هذه البلاد ليذلوا من أعز الله، ويفقروا من أغنى الله، ويصرفوا الأمة عن دينها، ويعلقوها بالملاهى والصغائر، مستعينين على ذلك بمن سفه نفسه من المتحللين الذين ليس لهم خلق، والمتكبرين الذين ليس لهم دين، إنهم يقاتلون الإنجليز لأنهم يريدون لأنفسهم ولإخوانهم من ورائهم الحرية والعدالة والفضيلة فهم خصوم العبودية والظلم والرذيلة فى كل مكان تقع فيه ومن كل إنسان تصدر عنه.. ويجب أن تتوطد فى مجتمعنا هذه المعانى جميعا، وأن نحارب عليها كل من يجادلنا فيها ويباعدها عنا، من الإنجليز، أو ممن يخدم سياستهم السافلة، أيًّا كانت جلدته ونسبته.. *لنفصح عما فى ضمائرنا، ولنقلها كلمة صريحة حاسمة.. إننا نريد أن نستطعم مذاق الحرية التى نشتهيها، ونبعث أحب الناس إلينا ليدفعوا عنها العدوان.. وأن يعيش الوادى كله فى ظلال دستور محترم، وقوانين مرعية وحكام أمناء. عندما رأيت صورة جندى إنجليزى يضع قدمه على صدر عامل مصرى ويهوى بالكرباج على جسده الطريح، عرتنى رعشة غضب وقلت: سننتقم من الأوغاد فى يوم قريب. ثم سبحت بى الذكريات الأسيفة، وتراقصت أمام عينى صور التعذيب التى نزلت بنا فى العهد البائد، يوم عطل الدستور وساد الإرهاب، واستبدت بوطننا المسكين عصابة من الفراعنة الأفاكين.. 026(1/21)
فهتفت: لن نسمح بهذا أبدا.. إن الأهداف التى يقاتل لها رجال الكتائب يجب أن تبقى وأن تصان.. إننا نحارب الإذلال الذى ينزل بنا من الأجانب ونحارب كذلك أية محاولة لإذلالنا من أذنابهم وأشياعهم، لقد أشمأززنا من صورة المصرى الجاثى تحت أقدام الإنجليزى يتلقى السياط الموجعة، ولنحن أشد اشمئزازا من مثل هذه الصورة يوم تكون لمواطن مضطهد يضربه حاكم غاشم، وقد حدث يوما ما أن علق المتهمون فى قضايا الأوكار والسيارة الجيب فى كلاليب الحديد كما يعلق الجزار ذبيحته التى سيقطعها للآكلين، ثم انهالت على أبدانهم الجلدات الكاوية.. ودولة الحاكم العسكرى إبراهيم عبدالهادى " باشا " واقف ينظر ويبتسم. * * وقرأنا ما صنع الإنجليز بأسرانا لديهم، وكيف منعوا المنام عن أجفانهم، والطعام عن بطونهم، وتركوا تيارات الهواء فى برد الشتاء تخترق عظامهم، وسلطوا الماء البارد من تحت الأبواب الموصدة ليحرمهم نعمة الجلوس على الأرض.. وتحدث الناس عن هذه النذالة التى يقترفها اللصوص الحمر مع الجنود المأسورين.. والحديث ذو شجون.. فقد نكأ جروحا قديمة، وأعاد على الألسنة قصص التنكيل والويل التى وقعت للمسجونين والمعتقلين أيام " الباشا " عبد الهادى وحكمه العفّ النظيف!!.. فإذا الأسلوب واحد، والمجرمون سواء.. وانعقد الإجماع على أن الأهداف التى يقاتل لها رجال الكتائب يجب أن تقرر وتحمى.. وأنه لا بد من حرب الاحتلال، والأوضاع التى تمهد له أو تقوم فى ظله. ذلك وما تزال الحروف التى كتبها الطيار الشهيد " أحمد عصمت " محفورة فى ذاكرتى.. إن هذا الشاب الحر ذهب ليقاتل الأنذال المعتدين، تاركا لنا بيتا كان ربا له، وأسرة كان قوّاما عليها، وها هى ذى رسالته إلى أخيه: أخى حسين... " إن حبى لوطنى هو الذى حبب إلى سفك دماء الغاصب المستعمر البغيض.. 027(1/22)
فذهبت إليهم غير منتمٍ إلى هيئة أو جماعة.. ذهبت إليهم بدافع إلهى وإيمان قوى.. ذهبت إليهم مسرورا فرحا، وكأنى ذاهب إلى رحلة صيد، مثل الرحلات التى كنا نقوم بها.. فإن مت فأعلن إلى كل مصرى أنى شاب متزوج ولى ثلاثة أطفال، ولى أمى وأخواتى، ومع هذا فقد ضحيت بنفسى ليعيشوا هم أحرارا فى بلدهم، فالحرية لا تمنح، ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات.. فإلى اللقاء فى كلتا الحالتين.. إن مت أو عدت ". أخوك: أحمد * فى الجماعة المتكافلة لا يمكن أن تضيع هذه الأسرة أو يهون ذلك البيت، يجب ألا يفقد الأولاد والأخوة من رجلهم الراحل إلا وجهه فحسب، أما بره بهم وحنوه عليهم، أما نفقاته التى كان يبذلها، أما كفالته لأطفاله الصغار ورعايته لأخواته البنات، فحتم أن تقوم به الأمة نيابة عنه.. أريد أن يغمض الشهيد عينيه وهو يوقن أن من ورائه ضمائر يقظة وأفئدة حانية.. إن الرجال الذين يزحفون على الصخور، وتنفجر من تحتهم ومن فوقهم صواعق الموت ويستهلكون آخر ما يملكون فى سبيل إخراج الإنجليز إنما يفعلون ذلك- بداهة- ليحيوا هم أنفسهم أو لتحيا ذراريهم من بعدهم فى مجتمع يتحرك بروح العدالة، ويتعاون على البر والتقوى، ولا يتصور أن يضيع فيه عاجز بله أن يهون فيه مُضحٍّ نبيل جاد بنفسه لكيما تسعد أمته.. وهل حاربنا الإنجليز إلا لأنهم لما سرقوا حرياتنا سرقوا معها مقومات حياتنا، فكادت وجوههم تنبثق منها دماء العافية على حين ننظر إلى جمهورنا التاعس فنرى أقواما: صُفر الوجوه عليهمو خلع المذلَّة باديهْ!! ألا إنه من حق أولئك المقاتلين أن يطمئنوا إلى استقرار الأهداف التى يتفانون لإقرارها، وأن تسير الأمور عندنا فى هذا المجرى العتيد.. *028(1/23)
والأمة فى نظر الإسلام جسد واحد.. فما يجوز أن يفجع بعضها ويفرح بعضها.، وما يمكن أن تتجاور هذه المتناقضات فى جسد واحد أبدا، ولقد رأينا أمما تخوض حروبا كثيرة، فما رأينا أمة واحدة ترسل جنودها إلى الميدان ليموتوا وتدع من ورائهم طلاب المتع الحرام يكرعون منها حتى يخرج الرى من أظافرهم. ما سر هذا الخلل؟.. ما علة هذه النقائض؟. إن الأمر واضح.. أشيعوا الحرية والعدالة والفضيلة، أقيموا فرائض الإسلام على أنقاض الوثنية السياسية والاجتماعية، تظفروا بوضع متناسق فى الداخل وكرامة موفورة فى الخارج. وإلا.. فلا إسلام.. ولا سلام. ***(1/24)
مكمن الداء:
مكمن الداء هنالك مشاكل تبدو للنظرة الأولى شديدة التعقيد، وقد يبدو للمرء أن التماس حلولها يتطلب عبقرية نفاذة. وقد تترك هذه المشاكل على غموضها فلا يزيدها مر الزمن إلا تعسرا و إبهاما.. ثم يتواضع الناس بعدئذ على اعتبارها مشاكل مزمنة، يدورون فيها ولا يخرجون منها، لأنهم لا يجدون من حلقتها المفرغة مخرجا. وأشد هذه المشاكل تعقيدا ما كانت حلوله قائمة على البداهة وما كانت مفاتحه فى متناول اليد.. ذلك أن الذهن أول ما تصادفه معضلة يذهب بعيدا ليكشف سرها، فإذا لم يكتنهه أبعد فى المذهب، وكلما عز عليه فقدانه وأوغل فى نشدانه كلما ازداد حيرة وضلالا. ولو عاد حيث كان لوجد الحل قريبا منه.. وعندما تحدى " خريستوف كولمبس " حساده أن يوقفوا بيضة على طرفها حاولوا كثيرا فعجزوا.. فلما ضغطها على طرفها قامت مستوية، فصاح منافسوه: كنا جميعًا نستطيع ذلك.. قال: ولكنكم لم تفعلوا.. وهل كان كشف أمريكا إلا كذلك؟. إن النظريات الهندسية المقررة تعتمد على طائفة من البدهيات التى لا ريب فيها، والتمارين الهندسية التى تظهر للطالب وكأنها ألغاز معماة ليست إلا بناء يعتمد فى دعائمه وجوانبه على هذه النظريات المسلمة، وقد يعمل الطالب فكره للوصول إلى سرها ويتصبب فى ذلك عرقًا.. بيْد أنه لن يوفق إلى ذلك إلا إذا كان على معرفة جيدة بالنظريات المقررة وما تستند إليه من بدهيات.. وعلاج الدين لشئون الناس يقوم على هذه المبادئ جميعًا. 031(1/25)
إن بعض الواهمين عندما يروعهم فساد الحكم وشرور المجتمع فيذهبون إلى الدين يطلبون الحل لما يعانون من أزمات معنتة، ربما توقعوا أن يمدهم الدين ببرامج مفصلة وشروح دقيقة لما يقع ولما يتوقع من طغيان، وما دروا أن الظلام الضارب فى كل أفق يرجع إلى تجاهل وصية بدهية من وصايا الدين، أو الخروج على تعليم واضح من تعاليمه. وإن الأمر لا يتطلب فلسفة، ولا بسط لآراء، ولا ترديدا لمذاهب، مقدار ما يتطلب التقيد التام بما فرضه الدين فى ناحية ما من النواحى التى طرقها. بعد الحرب العالمية الأولى قامت عصبة الأمم ثم انهدمت، وبعد الحرب العالمية الثانية أسس المنتصرون هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. ثم كشفت الأيام عما فى هذه المؤسسات من عوار، وما اقترفته فى حق البشر كافة من خزى وعار.. وقد يجىء من النقاد من يبين فى أسفار طوال علة ما أصاب هذه المؤسسات من فشل. ومهما أسهب فى البحث والدرس فلن يخرج فى بيان عللها إلا بأنها قامت على الطمع والكذب والنفاق، وأنها قلما استهدفت إحقاق حق، و إبطال باطل.. حفنة من الدول القوية تبعث بطائفة من الساسة الدجالين يسترون مخالبهم وراء قفازات من الحرير، ويضعون أيديهم قسرا على حقوق الآخرين، ثم يعتلون المنابر ليتكلموا فى العدل الدولى والسلام العالمى!!. وهم يطيلون الكلام فى هذه الموضوعات المختلفة، ريثما يكملون استعدادهم لحرب أخرى، تدور بينهم أنفسهم لإعادة تقسيم الدول المسروقة على نحو يشبع نهم المنتصر، ويثير حفيظة المنكسر، فهو يتربص الدوائر بخصمه حتى إذا سنحت له أشعلها حربا طاحنة وهكذا دواليك!!. الطمع، والكذب، والنفاق!! ما هذه الخصال؟!. إنها جملة من الرذائل حرمها الدين ودرس تحريمها فى كتب الأطفال.. أجل فى كتب الأطفال.. فهى بدهيات خلقية واضحة، ولكن شدة وضوحها أبهمتها، 032(1/26)
وطال على غموضها الزمن، وشب الرجال عن الطوق وهم يحسبون هذه الفضائل ذكريات قديمة، ثم خاضوا فى شئون الدنيا وهم بعيدون عنها، فلما صدمتهم عوائق الضلال الذى صنعوه بحثوا عن الخلاص من مأزقهم.. بحثوا عنه فى مظانه القصية، وافترضوا الفروض، وابتدعوا الآراء، ولم يزدادوا بذلك كله إلا بعدا عن الحق، وشرودا عن النهج.. ذلك أن سر الإنقاذ أقرب إليهم مما يتوهمون، إنه فى طائفة من الفضائل التى جحدوها.. وفى هذا الدواء الساذج الذى يقدمه الدين علاج أى علاج لما استعصى من مشاكل، ولما استوطن من أوبئة جرت على العالم كله الخراب والدمار.. *والاستبداد السياسى الذى وقعت الشعوب المسلمة فريسة له من أمد طويل، وظلت إلى اليوم ترسف فى قيوده، ليس مرده إلى أن الإسلام نقصته عناصر معينة، فأصيب معتنقوه بضعف فى كيانهم كما يصاب المحرومون من بعض الأطعمة بلين فى عظامهم أو فقر فى دمائهم. كلا.. ففى تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها وضمان مطمئن لما تشتهى وفوق ما تشتهى من حريات وحقوق، إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا وصبغت وجوهنا بالسواد، لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار، طرحت أرضا البدهيات الأولى من تعاليمه، وقام فى بلاد الإسلام حكام تسرى فى دمائهم جراثيم الإلحاد والفسوق والمنكرات فخرجوا سافرين عن أخلاقه وحدوده. ومع ذلك فقد فرضوا أنفسهم على الإسلام إلى يوم الناس هذا.. ولو أن الإسلام ظفر يوما بحريته، وأمكنته الأقدار أن ينتصف لنفسه، لكان جمهور هؤلاء الحكام بين مشنوق ومسجون. والمخالفات التى وقعت للإسلام فى بلاده من شتى الحكومات لا تفتقر إلى ذكاء حاد فى إحصائها و إثباتها- فهى كما قلنا تتعلق بالبدهيات الأولى- ولكن المشكلة ليست فى معرفة الحق.. بل فى قول الحق مهما كانت النتائج. 033(1/27)
والفاسقون عن أمر الله من ولاة الأمر لما استبدوا بالحكم واستعبدوا الشعوب عرفت الرعية عنهم الكثير من المناكر، ثم ابتلعت ما عرفت أو تناجت به فى خفوت!. فإذا أردنا أن نعلن على هذا الفساد حربا شعواء فلن نستجلب له الدواء من بعيد، بل سنتمسك بالحقائق التى رسمتها الفطرة الصادقة. إن تنظيف العالم الإسلامى من الغرور والغش والادعاء، ومن السرقة والنهب والاستعلاء، كفيل باجتثاث جذور إلاستبداد، وإراحة الدين والدنيا من ويلاته. 034(1/28)
طبيعة الحكم المطلق:
قبل أن نذكر أصول الحرية التى قرر الإسلام بها حقوق الشعوب، وقيد بها سلطان الحاكمين، نريد أن نشرح بعض الخصائص الخلقية التى تكتنف الحكم المطلق وتجعل من الفرد المتسلط جبارا لا دين له. فكيف يرشح للحكم أو يبقى الحكم معه فى دار الإسلام، ووظيفة الحاكم حراسة الإيمان فى القلوب وحراسة الفضائل فى المجتمع وحراسة المصالح العامة فى حياة الأمة؟!. وإذا كان فاقد الشىء لا يعطيه، فهل عدو الشىء هو الذى يصونه ويحميه؟!!.
1ـ كبرياء فرد:
أول خصائص الحكم الفردى- كما لاحظنا من تتبع تاريخ الاستبداد- كبرياء الحاكم وتعاليه. وليس الكبر عقدة الصنعة التى تجعل شابًا طائشا يسير فى الطريق متبخترا تعجبه نفسه وتزدهيه ملابسه، أو التى تجعل الموظف فى ديوانه يجحد حق العمل الذى استأجرته الدولة لإتمامه فيتشاغل عنه ويتغطرس على الجمهور المحتاج إليه!!. إن هذه رذائل حقًّا، وسواء دفع إليها النقص المركب أو الغرور اللاحق فهى جرائم محدودة الأثر إلى جانب سورات الكبر التى تجيش فى نفس صاحب السلطة العامة فتحمله من مكانه حيث يعيش مع الناس على ظهر الأرض، إلى سماء يتخيلها وينظر إلى الناس من عليائها، فإذا هو يرى العمالقة أقزاما، ومن دونهم هباء، ويحسب الخير الذى يعيش الناس فيه فيض السحاب الهامى من يده المباركة. ولذلك تسمعه يقول ما قال الخديوى توفيق للقائد أحمد عرابى عندما طالبه باسم الأمة أن يمنح الشعب دستورا: هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا؟؟. إن الكبر فى هذه الحالات لا يزال يتضخم حتى يتحول إلى جبروت!! وتلك 035(1/29)
حالات معهودة فى أمراض النفوس ولذلك جاء فى الحديث عن الله- عز وجل-: "الكبرياء ردائى والعز إزارى فمن نازعنى شيئا منهما عذبته ".. ألا ما أكثر الذين نازعوا الله هذه الصفات من حكام الشرق البائس!!. والكبر كالشرك يبدأ عوجًا فى تصرف صغير فلا تكون له فداحة الكفر بالله، ولا يزال ينمو حتى يتحول بطرا على كل حق وغمطًا لكل فرد، وعندئذ يكون الكبر والكفر قرينين. ولا يتعاظمن القارئ هذا، ففى كتاب الله مصداقه من آيات كثيرات: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ". " ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ". " إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ". " فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ". وتأكيدا لهذه المعانى يقول النبى صلَّى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من كبر". 0 ص(1/30)
إنه كبر الرؤساء الفجرة والأمراء الظلمة والمستبدين المتألهين. والتخليد فى النار والحرمان من الجنة اللذان نطق بهما الكتاب والسنة جزاء عدل لهؤلاء المتألهين، ولعل أشد الناس شعورا بعدالته من وقعوا تحت وطأة أولئك الكبراء المعتوهين. وللكبر إذا حكم تقاليد تحتضنه.. كما أن للعهر إذا شاع أسرا ترتزق به!!. وكبرياء الحكام ترمز إلى ضرب من الوثنية السياسية له طقوس ومراسيم يتقنها الأشياع، ويتلقفها الرعاع على أنها بعض من نظام الحياة الخالد مع السموات والأرض، وحيث يسود الحكم المطلق تنتقص الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها.. وذلك أن الله قد خلق البشر آحادا صحيحة وجعل لكل واحد منهم مدى معينا يمتد فيه طولا وعرضا، فإذا عنَّ لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتما. ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر!! أصبحوا كسورا لا رجالا سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زورا إلى الكبير المغرور، فأصبح به فرعونا مالكا بعدما كان فردا كغيره من عباد الله.. ولما كان الإسلام إنقاذا للناس من جهالاتهم المتوارثة، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد- وهى عنوانه وحقيقته- نفيًا للوثنيات كلها ورفضا لأية عبودية فى الأرض وتدعيما للحرية التى ذرأ الله الناس عليها والكمال الذى رشحهم له.. ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة " لا إله إلا الله ".. وهى الكلمة التى يرددها الألوف دون وعى.. بل لعلهم يعيشون فى ظلها عبيد أوهام. وقد بعث محمد صلَّى الله عليه وسلم للناس وفى قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جىء بأعرابى يوما فى حضرته أخذته رعدة- يحسب نفسه قريبا من أحد الجبابرة- فقال له الرسول صلَّى الله عليه وسلم : "هون عليك.. إنى لست بملك.. أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ". كان قد وقر فى الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين، فإن الأبراج التى ص(1/31)
_037
يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض ووصلتها بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم.. فأراد محمد صلَّى الله عليه وسلم أن يعرفه العرب على أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم ثم انتسسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعا ومن الناس قربا... وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا فى إثره وربطوا سببهم بالجماهير التى نبتوا منها، فما تنكروا لها ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى. واسمع إلى أبى بكر بعدما ولى الخلافة يقول: " أمَّا بعد.. فإنى قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتمونى على حق فأعينونى، وإن رأيتمونى على باطل فسددونى، أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لى عليكم. ألا إن أقواكم عندى الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندى القوى حتى آخذ الحق منه.. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم " أ. هـ. وجاء فى خطبة لعمر بن الخطاب:" اعلموا أن شدتى التى كنتم ترونها ازدادت أضعافا على الظالم والمعتدى، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم.. فاتقوا الله وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم. أيها الناس: إنه لم يبلغ ذو حق فى حقه أن يطاع فى معصية الله ". هذا هو وضع الحاكم المسلم فى الدولة المسلمة. رجل من صميم الأمة يطلب أن يُعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجًا للمصالح العامة لا مصيدة للمنافع الخاصة ولا بابًا إلى البطر والطغيان. وذلك هو أدب الإسلام الذى خط مصارع الجبابرة فى الدنيا وحط منازلهم فى الآخرة. (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) 038(1/32)
2ـ الرياء بين السادة والأتباع:
كما ينبت الشرك فى أحضان الوثنية ينبت الرياء فى ظلال الكبر، وحيث يوجد السادة المستكبرون يوجد الأتباع المتملقون والأشياع المراءون. وجو الحكم المطلق أحفل الأجواء بجماهير العبيد الراضخين للهون عن طواعية أو كراهية، وفى الحرب التى شنها القرآن الكريم على هذه المجتمعات المظلمة ترى الهجوم يتتابع على مبدأ " السيادة والتبعية " وعلى ما يلحق هذا الجو إلغاء للعقول والضمائر. كان فرعون يشير إلى هذا المبدأ عندما استنكر إيمان السحرة قبل أن يأخذوا الإذن منه.( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ). فى هذه القصة ثار العبيد على السيد المتأله واستردوا حرية عقولهم وضمائرهم التى يريد الحاكم المستبد أن يحجر عليها. إنه لا يريد أن يتصرف فرد بوحى خالص من فكره المجرد، ولا يقتنع أحد بفكرة انشرح لها صدره، بل يريد أن يفعل الفعل أو يترك لوجهه لا لوجه الحق. كذلك يطلب السادة وكذلك يصنع العبيد!!. وقد نعى القرآن على أقوام هذه السيادة والتبعية فى مواضع شتى: 039(1/33)
(وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد). (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا..).
عقبى الرياء:
وطبيعة المستضعفين أن يسارعوا إلى مرضاة رؤسائهم، وإجابة رغائبهم ولو داسوا فى ذلك مقدسات الأديان والأخلاق. والحاكم المستبد يبارك هذه الطبيعة الدنسة ويغدق عليها، ولو راجعنا الصحائف السود لتاريخ الاستبداد السياسى فى الأرض لوجدنا مراءاة الحكام وقد وطأت أكتاف المنكر، وأقامت للأكاذيب سوقًا رائجة، وقلبت الحقائق وصنعت الدواهى. قتل الخليفة " المنتصر بالله " أباه "المتوكل على الله " وتولى الحكم بعده!! وإلى هذه المأساة يشير البحترى فى قصيدة مطلعها: أكان ولى العهد أظهرت غدره فمن عجب أن ولى العهد غادره! والخليفة الذى سماه الدجل السياسى " منتصر بالله " تولى على العرش بدل أن يذهب إلى السجن، ووضع على رأسه التاج بدل أن يجتز بالسكين. 040(1/34)
وإلى هنا لا تعنى القصة أكثر من أن مجرمًا تولى الحكم، وليس هذا بدعا فى تاريخ الاستبداد السياسى، ولكن الشىء الذى تتقزز له النفس أن يأتى شاعر مداح إلى هذا المنتصر بالله واسمه " محمد بن جعفر " ليقول له: لقد طال عهدى بالإمام محمد وما كنت أخشى أن يطول به عهدى فأصبحت ذا بعد ودارى قريبة فيا عجبا من قرب دارى ومن بعدى رأيتك فى برد النبى محمد كبدر الدجى بين العمامة والبرد رجل قاتل، يرتدى برد النبوة، ويعتبر أمير المؤمنين، ويقال فيه: بدر الدجى!!. وبدر الدجى هذا مظلوم، فما أكثر تشبيه الدُّمى به، وقديما تولى مُلك مصرَ عبدٌ قال فيه المتنبى: وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا بها نبطى من أهل السواد يدرس أنساب الفلا وأسود مشفرة نصفه يقال له: أنت بدر الدجى! ومن يدرى لعل هذا الأسود أشرف من كثير من البيض الذين سفكوا وأفكوا. ثم ساس لهم الأمر ودانت لهم الأمة فسودوا وتملقوا. وفى دواوين الشعر العربى مطولات أجاد الشعر سبكها فى مدح الملوك الأقدمين يدور جلها على الكذب الصراح، والجرأة على الله، والخيانة للإسلام.
أنماط من الرياء:
قد يكون الرياء من الصغار للكبار ابتغاء عرض الدنيا. وقد يكون من الكبار للصغار ابتغاء تأليف الأتباع، إذ يحب هؤلاء السادة أن يمهدوا لزعاماتهم ورياساتهم بأعمال تزرع فى القلوب هيبتهم، وتجعل لجاههم فى الأرض دعائم مكينة، فيفعلون الخير لا لوجه الله ولا لحب الخير، بل ليلفوا بهم الجماهير المعجبة، وتلتف نحوهم الأعناق المشرئبة، فيكون رياؤهم امتدادا لكبريائهم.. 041(1/35)
وتصحيح النية- فى نظر الإسلام- هو معيار ما فى العمل من كمال وفضيلة، فلا يعتبر العطاء نبلا، ولا الجهاد فضلا، إلا إذا صدر عن صاحبه خالصًا لوجه ربه، والوعيد الذى يسوقه الإسلام للفضائل التى خالطها الرياء يكرهنا أن نقف طويلا عنده، فهو وعيد يتطاير منه الشرر، ويتفجر منه المقت، بل إن هذا الوعيد على الفضائل المدخولة أنكى مما سبق من عقاب على كثير من الرذائل المحضة، وهنا وجه من الغرابة. عن أبى هريرة: " حدثنى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا كان يوم القيامة، ينزل إلى العباد ليقضى بينهم ـ وكل أمة جاثية ـ فأول من يدعى به رجل جمع القرآن، ورجل قتل فى سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله ـ عز وجل ـ للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولى؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار.. فيقول الله ـ عز وجل ـ له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت!! ويقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ـ عز وجل ـ: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال: بلى يا رب . قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق.فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك. ويؤتى بالذى قتل فى سبيل الله، فيقول الله له: فى ماذا قتلت؟ فيقول: إى وربى ، أمرت بالجهاد فى سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جرىء، وقد قيل ذلك.. قال أبوهريرة: ثم ضرب رسول الله ! على ركبتى فقال: يا أبا هريرة.. أولئك الثلاثة، أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة . . . " 042(1/36)
هذا وجه الغرابة. وهنا كذلك موطن الاستشهاد بهذا الحديث الخطير: هؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار.. إن هذا العقاب فوق ما أعد للزناة والقتلة.. وأولئك قوم مهما فسدت نواياهم فالأعمال التى أدوها صالحة فى ظاهرها وربما كان فيها نفع للناس فكيف يرمون بهذا الجزاء؟. إن الذى يدرس المجتمعات الفاسدة ويتغلغل فى بحث عللها، والذى يتبع أعمال الأدعياء وطلاب الزعامة ويستقصى وسائلهم الملتوية فى تسخير الجماهير للوصول إلى القمة، والذى يلحظ النهضات الكبرى وكيف يدركها الفشل فجأة لأنها أصيبت برجال يحبون الظهور فلا يرحبون بالنصر إلا إذا جاء عن طريقهم وحدهم أما إذا جاء عن طريق غيرهم فهو البلاء المبين. الذى يلحظ هذه الآفات القتالة يدرك أن هناك رجالا كأنما يعيشون فى غرف من المرايا فأينما ولوا وجوههم لا يرون إلا أنفسهم.. إنهم يعبدون أنفسهم من دون الله ويريدون أن تعنو وجوه الناس لهم. وقد يقرءون القرآن، لا قربى إلى الله ولكن لينتفعوا به فى تدعيم أثرتهم، وقد يتصدقون لا عطفا على محروم، ولكن ليراهم الناس وأيديهم هى العليا، فلو خلوا برجل يموت جوعا ما أطعموه. وقد يقاتلون عن وطنهم أو عن مبدئهم، لا ليفتدوا الوطن أو المبدأ، فإن ما تركز فى طباعهم أن الأوطان والمبادئ فدى لهم أنفسهم. *وقد لمحنا من ثلاثين عاما على ثورتنا ضد الإنجليز، نفر من هذا النوع الذى سيكون طليعة المجرمين إلى النار، اصطنعوا المكارم والتضحيات فما استفادت البلاد شيئا من تضحياتهم ومكارمهم، وظللنا نقاتل فى مواضعنا لا ننتقل عنها خطوة إلى الأمام. وذلك أنه لا يوجد فيهم من يريد أن يكون جنديًا مجهولا، أو من يعمل للحق فى غير ما جلبة ولا ضوضاء. 043(1/37)
بل على العكس تعلم العامة أن يسيحوا فى الطريق هاتفين بحياة بعض الأشخاص وتمجيد بعض الأسماء، كأننا سنستبدل احتلالا خارجيًا باحتلال داخلى...!!. والوثنية السياسية حين تقترف بعض الفضائل لا تنظر إلى ما فيها من خير، فإن معنى الشر والخير غامض لديها، وحسن الأمر أو قبحه بمدى ما يعود عليها، وقد رووا أن " نابليون " كان يؤمن بأن الثورة الفرنسية مثلبة فى تاريخ فرنسا ولكنه مع هذا كان يعدها نعمة كبرى لأنها جلبت له عرشًا، وخولته سلطانًا مكن له فى الأرض. ** عندما تفسد الدولة بالاستبداد، وعندما تفسد الأمة بالاستعباد، يعتبر الرياء هو " العملة " السائدة، وقاعدة تقرير الأمجاد لطلاب المجد الكاذب، وتقريب المنفعة لطلاب المنفعة الزائلة، وهو حينئذ خلق السادة والعبيد، لكن الإسلام جعل صلة الدولة بالأمة أكرم من ذلك وأنقى، فالحاكم إمام والمحكوم مقتد، والكل يبتغى وجه الله وينخلع من أغراضه الخاصة. والذى يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، لا يشغله أمر إلا أداء الواجب الموقوت، فإن صلى إماما أو مأموما فهو وضع عارض له، أما عمله الأصيل فأداء حق الله. كذلك الحاكم المسلم، إنه ليس سيدا ليستعلى ويستعلن، وإنما ليؤدى عملا موكولا به، وذلك سر قول أبى بكر وعمر: " وليت عليكم ولست بخيركم.. ". وكذلك المحكوم المسلم إنه ليس تابعا ليتملق ويرائى ويعطى الدنية من نفسه.. بل ليعين على الخير ويحجز عن الشر ويشارك فى حمل العبء. وهذا سر قول عمر للناس: " إن أحسنت فأعينونى و إن أسأت فقومونى " فقال له رجل من أخريات المسجد: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا، فاستراح عمر لذلك وسُرَّ.. بهذه السياسة وحدها يستقيم أمر الناس وترشد طريقة الحكم. فلما جاء عبد الملك بن مروان ونهى الناس أن تقول له: اتق الله، هدم ركنًا فى الإسلام غير الذى هدمه أسلافه من أصحاب الملك العضوض. ثم كانت الرزايا التى جرت على دين الله أفدح الأخطار.. * 044(1/38)
3ـ تبذير.. من أقوات الشعوب!!
ومن خصائص الحكم المطلق السرف الشديد على شخص الفرد الحاكم وعلى كل من يمت إليه بنسب أو يواليه بنصر، فترى شهوات الغى- فى البطون والفروج- مشبعة، ومضلات الهوى مسيطرة على المشاعر والنهى، وعبء هذه النزوات يقع على عاتق الخزانة العامة وحدها، فإن الاستبداد السياسى لا يبالى من أين يأخذ المال ولا أين يضعه. وقد نكب المسلمون- من قديم- بنفر من القطاع، وقعت فى أيديهم غنيمة الحكم فتقاسموها نهمين، ولم يعرفوا من المناصب التى سقطت فى أيديهم إلا أنها منابع ثروة للشباب الجامح والنزق والإفراط، أما مصالح الأمة فلا وزن لها . لما حمل معاوية المسلمين على تمليك " يزيد " من بعده، فأصبح " يزيد " ملكا مهيبًا نافذ الكلمة فى ميراث الخلافة الراشدة، قال عبد الله بن هشام السلولى: فإن تأتوا برملة أو بهند نبايعها أميرة مؤمنينا.. إذا ما مات كسرى قام كسرى نعد ثلاثة متناسقينا.. لقد ضاعت رعيتكم وأنتم تصيدون الأرانب غافلينا. ولا تحسبن المسلمين برئوا من هذه الأدواء الخبيثة، ففى هذا العصر الذى فقه فيه المجوس معنى الحكم، ووظيفة الحاكم، وطبيعة الصلة بين الشعب وأولى الأمر فيه، فى هذا الوقت ترى رجالا من الحاكمين بأمرهم لا يزالون يعتبرون المال العام ملكا خالصا لهم.. وكانت بعض الدول البترولية تعتبر أن منابع البترول ليست للشعب، وأن إنتاجها الهائل يباع لحساب حكامها.. وموقف الحاكم من المال وضع أساسه الرسول نفسه، فعن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما صلى أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: " لا يحل لى من مغانمكم مثل هذه، إلا الخُمس والخمس مردود فيكم ". ونتيجة هذا التورع الجليل عن مال الأمة أن الرسول وآل بيته عاشوا على الكفاف. 045(1/39)
روى مسروق قال: دخلت على عائشة- رضى الله عنها- فدعت لى بطعام، ثم قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكى إلا بكيت، قلت: لِمَ؟ قالت: أذكر الحالة التى فارق رسول الله عليها الدنيا، والله ما شبع من خبز ولحم مرتين فى يوم، وفى رواية قالت: ما شبع رسول الله ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا ولكنه كان يؤثر على نفسه. ومن خطبة لعتبة بن غزوان: ".. وقد رأيتنى سابع سبعة مع رسول الله، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بينى وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصرٍ من الأمصار، وإنى أعوذ بالله من أن أكون فى نفسى عظيما وعند الله صغيرا ". هذه كلمات أمير تخرّج فى مدرسة محمد، وأخلص لتعاليمها لما واتته الدنيا فهو فى قوته يذكر أيام فاقته، وينأى بنفسه عن الفتنة بالإمارة والسلطان، فلما تحولت الدنيا إلى ملك عضوض استمعنا إلى معاوية يقول: " الأرض لله وأنا خليفة لله، فما آخذ من الله فهو لى، وما تركته منه كان جائزا لى... ". وهذا كلام باطل كل البطلان، ولكن السياسة التى لا دين لها حملت وزره، ولا تزال إلى يوم الناس هذا تنفذه فى كثير من البلدان المسروقة أرضا وشعبا. ونتيجة هذا التوسع الشنيع فى انتهاب المال العام، أن عرفت للأسر الحاكمة فى الشرق والغرب- منذ قرون- تصرفات تطيش لها الأحلام.. فهذا قصر واسع الردهات منيف الشرفات يبنيه رجل لنفسه فحسب. يقف أمامه الشاعر القديم هاتفا؟ لست أدرى أصنع إنس لجن سكنوه أم صنع جن لإنس؟ مشمخر تعلو له شـ،رفات رفعت فى رءوس رضوى وقدس 046(1/40)
هذا البناء الرائع ليس مدرسة لتعليم الشعب، ولا مستشفى لتمريضه، مع أنه حجرا حجرا من مال الشعب. أما ولائمهم وملابسهم وأعراسهم وأحفالهم وسائر شئونهم، فإن وصف ما يلابسها من بذخ وسعة يتطلب من الأسفار حمل حمار.. ولا تزعم أن هذا البلاء كان حكرا على بلد بعينه فإن أقطار الدنيا الأخرى ظلت تحت وطأته زمنا، حتى تخلصت عدة منها من قيوده.. ولا تزال الأخرى تجاهد فى طريق الخلاص. وحكم الإسلام على هذا الضرب من اللصوصية لا يحتاج إلى فقه عميق أو فلسفة معقدة إلا إذا احتاج ضوء النهار إلى دليل. إن الحاكم المطلق يتشهى ما يشاء فلا ينقطع شىء دون أمانيه الحرام، والحلال عنده ما حل فى اليد، أما الدين وتعاليمه ففكاهة النهار وسمر الليل. والمعروف أن الشعوب إذا حكمت نفسها بنفسها، وانتدبت لمهام القيادة من تراهم أهلا لها منحتهم أجورا مجزية لجهودهم، ولم تبخل عليهم بمستوى كريم من العيش الآمن الكريم. ونحن اليوم نرى نظما شتى تتفق على هذا المبدأ، فعلى ما بين أساليب الحكم فى إنجلترا وفرنسا وروسيا وأمريكا من فروق، نرى الحاكمين هنالك قد قررت لهم رواتب لا وكس فيها ولا شطط، ثم رسمت لهم حدودا لا يعتدونها.. وهذا حسن معقول، لكن الحكم المطلق لا يعترف بهذه المعانى جميعا، فلا الحاكم يرى نفسه منتدبا من الشعب، ولا هو يرى المال الذى يصل إليه أجرا لعمله- إن كان له عمل- ومن ثم فليست هنالك إطلاقا حدود يقف لديها فى النفقة، إلا فراغ شهواته، وشهوات آله، وهى لا تفرغ حتى الممات.. ونظرة الإسلام إلى حق الحاكم فى المال العام معروفة. وقد كان عمر يرى نفسه على أموال المسلمين كولى اليتيم، إن احتاج أخذ قدر حاجته، وإن استغنى استعف " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ". 047(1/41)
وقد كان الفراعنة والأكاسرة والقياصرة فى القرون الأولى يستهلكون أقوات الأمم فى مباذلهم وملاهيهم، فلما أسس محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية الأولى كان مسلكه يناقض أتم المناقضة مسلك أولئك الجبارين من لصوص الشعوب. عن عمر قال: " دخلت على النبى صلَّى الله عليه وسلم وهو على حصير قال: فجلست، فإذا عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر فى جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرظ فى ناحية من الغرفة، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناى.. فقال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ فقلت: يا نبى الله.. وما لى لا أبكى؟ وهذا الحصير قد أثر فى جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى؟ وذاك كسرى وقيصر فى الثمار والأنهار- وفى رواية: على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير- فقال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم، وهى وشيكة الانقطاع، وإنا قوم أخرت لنا طيباتنا فى آخرتنا ". ونحن لا نطمع أن يكون الحكام على هذا النحو الرفيع من الطاقة على حمل أعباء الحياة العامة، وأعباء التقشف والزهادة فى طيبات الحياة. وما نكلفهم أن يناموا على حصير تنطبع تعاريجه الخشنة فى الجلود الغضة. ولكننا نتساءل: إذا عز المثل الأعلى على امرئ تحول عنه إلى مثل السوء؟. وإذا لم يقدر الحاكم أن يسير سيرة الأمجاد قرر أن يسير سيرة الأنذال؟. لماذا لا نسدد ونقارب كما علمنا الرسول صلَّى الله عليه وسلم نفسه؟. لكن المؤسف أن حكام المسلمين فى كثير من الأزمنة رأوا أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ترفعوا عن بعض المباحات، فحسبوا- لهممهم الساقطة-، أن تلك تقاليد زمن ولى وعهد فات، وأن طبيعة الحياة أقهر لطبيعة الدين ورجاله الأولين، وعلى ذلك قرروا أن يتوسعوا فى المباحات- لا-.. بل أن يملئوا البطون سحتا.. وصدق فيهم قول النبى صلَّى الله عليه وسلم :" سيخرج فى أمتى أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل(1/42)
إلا دخله ". 048
واتباعا لوساوس هذا الهوى ضاعت تقاليد النبوة فى الحكم، ولم تقم بدلها تقاليد تدانيها وتتشبه بها، بل حلت مكانها تقاليد الحكم فى بلاد كسرى وقيصر وفرعون، وخرست الألسنة التى تشير إلى هذه السنن الدارسة، فإذا تسلى بها القصاص يوما، سلكت مع الخرافات البعيدة فى سياق واحد، فما يفكر أحد أن يؤدب بها حكام العرب والعجم والترك. وظل الأمر كذلك حتى طلع من المغرب شعاع يلقى ضوءًا عليها، ويذكر الناس بنفاستها، وبدأ ذلك من يوم هاجت الشعوب على جلاديها وأخمدت أنفاسهم ووضعت دساتير الحرية والإخاء والمساواة. أما قبل ذلك فى بلادنا، فإن تقاليد الحكم كانت تنتسب- كما أسلفنا- إلى سياسة كسرى وقيصر وفرعون ، ولم يكن عليها بتة طابع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فى التقوى والورع والعفاف.
الأمم.. وما ملكت:
وقد أجمع أئمة المسلمين على أن تقاليد الإسلام فى الحكم قد تحولت عن مجراها الرشيد على عهد معاوية وأسرته ثم التاث أمر الدين واضطربت مصالح الناس ووجد من حكام المسلمين من سبق ملوك الكفر فى سكرتهم وعمايتهم، وذلك من سوء حظ البشر قبل أن يكون من سوء حظ المسلمين أنفسهم. وحكم الإسلام فى دفع أولئك الجبارين لا يحتاج إلى مزيد من البيان والتكرار. وإن المؤرخ المسلم لتدركه الحيرة فى بعد الشقة بين تعاليم وتقاليد حكامه فى القرون الأولى. فى سنة 248 هـ خلع المنتصر بالله أخويه المعتز وإبراهيم من ولاية العهد من بعده، وقد كان أبوهم المتوكل على الله قد أخذ لهم العهد فى كتب كتبها وشروط 049(1/43)
شرطها، وأفرد لكل واحد منهم جزءًا من الأعمال رسمه له، وجعل ولى عهده والتالى لملكه محمدا المنتصر، وقال: المنتصر وولى عهده المعتز، وتالى المعتز وولى عهده إبراهيم المؤيد، وأخذت البيعة على الناس كما ذكرنا.. ما هذا السخف؟ وكيف يتحكم رجل فى ثلاثة أجيال من بعده على هذا النحو الشائن؟ أهو يورث أبناءه قطعانا من البقر و إقطاعا من الكلأ المباح؟. إن الله ـ عز وجل ـ حرم الإنسان حق تقسيم تركته على ذريته وتولى- سبحانه ـ توزيع أنصبتها على الورثة. فإذا كان هذا حكم الله فى تقسيم المال الخاص فكيف ساغ لهذا المتوكل أن يقسم المسلمين على أولاده هذا التقسيم الشنيع؟ وبدلا من أن يسمع رأى الدين فى هذا الخبط يجىء شاعر مرتزق لينوه بهذا الصنيع فيقول- لا بارك الله له:- ثلاثة أسلاك، فأما محمد فنور هدى يهدى به الله من يهدى وأما أبو عبد الإله فإنه شبيهك فى التقوى ويجدى كما تجدى وذو الفضل إبراهيم للناس عصمة تقى وفىّ بالوعيد وبالوعد فأولهم نور، وثانيهم هدى وثالثهم رشد، وكلهم مهدى!! وهذا الشاعر كذاب، وما أنطقه بالبهتان إلا دريهمات يجتديها. وما أكثر المرتزقين بالمدح الباطلة فى هذه الدنيا، وما أخطر ذلك كله فى تضليل الرأى العام وإضاعة حقوق الله والناس. هذه القصة تدل على الزاوية التى ينظر الاستبداد السياسى من خلالها إلى الجماهير، فهم رق يتداول بالبيع والخلع والتوريث والغصب. وما دامت ذواتهم ملكا فكسبهم حق السيد الحاكم، يضع يده عليه كيف يشاء وينفقه كيف يشاء. 050(1/44)
وقد تدخل بعض تعاليم الدين فى نفوس الحاكمين فتخفف من سواد هذه النظرة كما تضيف قدرا من الماء على السائل المركز فتغير لونه، وتكسر حدته، وهذا ما حاول العلماء المخلصون أن يصنعوه فى الشرق الإسلامى، ليقللوا من أخطار الاستبداد على مصاير البلاد والعباد.. ومحاولات هؤلاء العلماء مدونة فى كتب الأدب والمواعظ. يطالع المرء فيها حوارا طريفا بين النصح من جانب الدين، والتوقير المفتعل من جانب الدنيا. ويقال: إن هذا النوع من العلماء والحكام قد انقرض، ونحن نرجو أن يوفق العالم إلى حضارة تختفى من جوانبها مظاهر الإسراف على النفس والافتيات على الناس، وأن توفق بلاد الإسلام خاصة إلى التزام معالم دينها فى أدب الحكم، وتثبيت حدود الشريعة فيما يقع بين الشعوب والرعاة. 051(1/45)
بين الشورى والاستبداد:
لا قداسة لرأى:
ليس لمخلوق أن يفرض على أمة رأيه، وأن يصدر فى أحكامه واتجاهاته عن فكرته الخاصة غير آبه لمن وراءه من أولى الفهم وذوى البصيرة والحزم. ومهما أوتى رجل من زيادة فى مواهبه، وسعة فى تجاربه، وسداد فى نظره، فلا يجوز أن يتجهم للآراء المقابلة، ولا أن يلجأ لغير المناقشة الحرة والإقناع المجرد، فى ترجيح حكم على حكم، وتغليب رأى على رأى. وقد ظهر فى الغرب زعماء مستبدون، كانوا على جانب كبير من العبقرية والإقدام، وكانوا يحترقون إخلاصا لأوطانهم، وحمية لإعلاء شأنها، ولكن هذه الميزات العظيمة ذهبت سدى، وراحت بددا، ضحية الاعتداد الأخرق بالرأى، وفهم الزعيم أنه هدية القدر للشعب، فيجب أن يصير كل شىء إلى تقديره، وأن تزدرى الخطط كلها إلا خطته. فكانت نتيجة هذا الاستبداد أن سقطت ألمانيا وإيطاليا، وأن فشل " هتلر " و" موسولينى " وهما من أقدر الرجال الذين ظهروا فى العصر الحديث. والحكام الذين يستبدون بالأمور فى الشرق يعتبرون أطفالا عابثين إذا قيسوا إلى أقدار هؤلاء الزعماء المهزومين، فإذا كان الاستبداد قد قتل الذكاء ونكب شعوبا مثقفة بارعة، فكيف الحال مع " الزعماء الصور " فى أمم واهنة متهالكة؟؟. وما كان يجوز للأمم الإسلامية أن تضع مقاليدها فى أيدى الحاكمين بأمرهم، مهما ادعوا من مقدرة وذكاء، ذلك أنهم لن يكونوا أذكى عقولا وأنقى قلوبا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلم . وقد كان سيد الزعماء يستشير من معه، وينزل عن رأيه إذا رأى الصواب مع غيره. فبأى حق يجىء كائن من الإنس والجن لينفذ رغباته المجنونة على أمة يجب أن تدين له بالخضوع، وإلا حاقت بها اللعنات!!. 053(1/46)
لما أحدق المشركون واليهود بالمدينة وحوصر المسلمون فى دورها وأزقتها على النحو الذى قال الله فيه : (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). فى هذه الأزمة العصيبة أراد النبى صلَّى الله عليه وسلم إغراء بعض القبائل بفك الحصار لقاء جُعل من ثمار يثرب، فبعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث عمارة المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله.. أشىء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم أمر تحبه فنصنعه؟ أم شىء تصنعه لنا؟ قال: بلى، شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أنى قد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله.. قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام، لا نعبد الله ولا نعرفه، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة، فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟؟ ما لنا بهذا من حاجة، ووالله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : أنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة، ثم قال: ليجهدوا علينا. وفى غزوة أحد كان الرسول صلَّى الله عليه وسلم معجبا بالرأى الذى يشير على المسلمين أن يستدرجوا قريشا إلى المدينة ليقاتلوهم فيها، وعرض على الناس أن يأخذوا به، لكن الشباب المتحمس قالوا للرسول صلَّى الله عليه وسلم : اخرج بنا إلى أعدائنا، ولم يزالوا به.. من حبهم للقاء القوم حتى دخل منزله ولبس لأمته، وخرج مستعدا للنزال. 054(1/47)
فلما رأوه قد لبس سلاحه وأحسوا بأنهم غيروا رغبته وأنزلوه على رأيهم ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، نشير عليه والوحى يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: يا رسول الله، اصنع ما شئت، فقال: " لا ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل". وكان الخير لو نزل الشباب عند رأيه، ولكنه كره أن يفتات عليهم، أو أن يتراجع عن ملاقاة الموت بعدما تهيأ له معهم. وفى موقعة بدر نزل الرسول صلى الله عليه وسلم فى مكان ارتآه، فجاءه رجل خبير بمواقع الصحراء وأشار عليه أن يتحول إلى غيره، ففعل. وفى اختياره العفو عن أسرى بدر ـ مع أنهم مجرمو حرب ـ نزل تصويب الوحى له:" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ". وفى سماحه لبعض المترددين أن يتخلفوا عن القتال نزل عتاب لطيف على هذا الإذن السريع: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ". ولما كانت هذه التصرفات تتعلق بالناحية البشرية المحضة فى حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلم ، وهى ناحية تتعرض بطبيعتها للنسيان والتفاوت فى تقدير الأمور والعواقب، فقد نبه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المسلمين إلى ذلك حتى يتعاونوا معه على تعرف الحق وعلى التزامه أيا كان المهتدى إليه. ومن ثم جاء حديثه المشهور فى القضاء " إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له بنحو ما أسمع.. فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار " . هذا هو مسلك أعظم رجل مشت قدمه على ظهر الأرض. 055(1/48)
ليس فى السنة افتيات على حق الجماعة!
من الخلط أن يستشهد بالأحداث التى وقعت فى عمرة الحديبية على أى عمل مما يقع فى دائرة الاجتهاد العام. وتفصيل الحوادث فى هذا الفصل الكريم من فصول السيرة ينطق بهذه الحقيقة، فقد خرج النبى صلَّى الله عليه وسلم مع صحابته يريدون زيارة البيت العتيق، وكان أمل الصحابة كبيرا فى أداء هذه الشعيرة لأن الرسول صلَّى الله عليه وسلم قص عليهم رؤيا تبشرهم بدخول المسجد الحرام. ومع أن قصد القتال كان مستبعدا أول الأمر إلا أن المسلمين ـ وكانوا نحو 1400 ـ أخذوا للأمر عدته حتى لا يغدر بهم، قال البخارى فى صحيحه وأبو داود فى سننه: فلما وصل النبى صلَّى الله عليه وسلم إلى غدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عتبة الخزاعى وقال: إن قريشا جمعوا لك الجموع وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبى صلَّى الله عليه وسلم : " أشيروا على أيها الناس.. أترون أن أميل على ذرارى هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله.. أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه "؟ فقال أصحابه ـ بلسان أبى بكر ـ : إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتالا ولا حربا، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه : ـ قال : " امضوا على اسم الله ". ونحن نستنتج من هذا أمورا : ا- أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم إلى هذه المرحلة كان يستشير أصحابه. 2- وأنه اقترح عليهم القتال وتأديب الأحلاف الذين انضموا إلى قريش، وبرر وجهة نظره فى استعمال العنف معهم. 3- أن الصحابة هم الذين آثروا السلم وأرجئوا القتال إلى أن يصدوا عن البيت فعلا. غير أن الذى حدث بعد ذلك قلب النيات والأوضاع، فبينما النبى صلَّى الله عليه وسلم على 056(1/49)
ناقته القصواء يتقدم الركب ويستعد لما يتكشف عنه الغيب ـ ولو كان قتالا داميا فى الحرم ـ إذا بالناقة تبرك وحاول الصحابة إرغامها على استئناف السير فأبت وتوقفت، فقالوا: خلأت القصواء ـ أى حرثت وعجزت ـ فقال النبى:" ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل... والذى نفسى بيده لا تدعونى قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها "، ثم زجرها فوثبت تسعى، هذه الحالة كانت بداية التحول وبها خرج الأمر من حدود الشورى العامة ورأى الناس، وبدأ الرسول صلَّى الله عليه وسلم يتصرف مستفتيا قلبه الملهم وحده مصيخا لتوجيه الله.. ولو كان ذلك مخالفا للنية التى اقترح على أصحابه تنفيذها أول الأمر أو مخالفا لرغبات هؤلاء الصحاب وآمالهم التى خرجوا بها، فإذا كلم فى ذلك قال : " إنى رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصرى". * لقد خرج الأمر إذن عن ميدان الشورى وحدود الاجتهاد، ومع أن الرسول كان يقول لأبى بكر وعمر قبلا: " لو اتفقتما على أمر ما خالفتكما "، فإنه هنا خالف جمهور الصحابة لأن المجال قد قطع فيه الوحى، وأصبح لا رأى فيه لبشر.. فإذا جاء حاكم مستبد وافتات على رأى الأمة مستشهدا بما حدث فى الحديبية فيجب أن يصفع بحد السيف لا بباطن اليد، فإن الاستبداد لا يستشهد له دليل من دين الله. وإذا وقع قارئ محدود الفقه على هذا الفصل من السيرة فاتخذه ذريعة لإهدار رأى الجماعة فينبغى أن يكشف له قصوره وأن يعرف الناس سيرة نبيهم من منابع الحق لا من مجارى الشهوات. الرجل الذى تكلؤه السماء، ويؤيده الملأ الأعلى، وتصلى عليه الملائكة ويبلغ رسالته بعين الله، ويصحبه من آى القرآن قول الله له : " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ..". 057(1/50)
لم يمنعه هذا أن يلتقط الحكمة من أى إناء، وأن يبحث عن الحق مع أولى الفطنة والفقه من صحابته، والذى يقرأ سيرة هذا الرسول الجليل يعلم أى أفق من آفاق المجد والحصافة والكياسة كان يحيا فيه ويلقى الناس به. والرجل العظيم يلقى الناس بآرائه فلا يبالى أن يناقشوه ويناقشهم حتى يستبين وجه الحق. شتان بين هذه القمم الشم وبين الأغمار الذين ظهروا فى الشرق أيام عاره وانهياره فأسسوا بأسمائهم دولا، وأصبحت لذويهم إرثا، وتكلموا بغبائهم ممن وراءهم فأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. هذا.. وقد قال علماء التفسير فى شرح قوله ـ تعالى ـ: " وشاورهم في الأمر.. " ما سر هذه المشاورة مع كمال عقله، وجزالة رأيه، ونزول الوحى عليه، ووجوب طاعته على كافة الخلق فيما أحبوا وكرهوا؟. ثم أجابوا بأن القصد شاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، من شئون الدنيا وسياسة الحرب والسلم، لتستظهر برأيهم وتستعين بخبرتهم، فيتمخض لك الحق الخالص، ثم إن هذا تطبيقا لقلوبهم وتدعيما لأشخاصهم مما يجعلهم عليه أعطف وأحب.. ولتستن به من بعده الحكام فلا يهملوا الرعية وينفردوا بالنظر فى تدبيرها، قالت عائشة:" ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله.. " واتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه من الله وحى لم تقع فيه مشورة، فهو حكم لا معقب له.
طبيعة الشورى:
الشورى فضيلة تطابق العقل والنقل على حمدها، وصدقت الأيام عظم جدواها وحسن عقباها. قال بشار: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن برأى نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافى قوة للقوادم 058(1/51)
فما خير كف أمسك الغل أختها؟ ومنا خير سيف لم يؤيد بقائم وأدن على القربى المقرب نفسه ولا تشهد الشورى امرءًا غير كاتم وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشير، وكان ينزل عن رأيه إلى رأى أصحابه ما دام الصواب قد ظهر إلى جانبهم. وطبيعة الشورى أن تكون فى أمور تتفاوت العقول فى إدراكها ووزن ما يرتبط بها من نفع أو ضرر، وما يتمخض عنها من نتائج دقيقة أو جليلة. وفى الشئون التى يصح للجماعة أن تختار ما تميل إليه من أطرافها المتقابلة تقرر الكثرة أو القلة الرأى الأخير، وميدان هذه الشئون فسيح. غير أن هناك أمورا أخرى لا صلة لها بهذا الميدان، ولا مكان فيها للشورى. فحقائق العلوم ليست موضع جدل تغلب فيه الكثرة وتتأخر القلة، وقديما رأى أحد علماء الفلك أن الأرض كروية الشكل فنازعه الجمهور من رجال الكنيسة وحكم بقتله. وقواعد الدين ليست موضع أخذ ورد كذلك، فما قال فيه الوحى كلمته وجب قبوله من غير توقف، وجميع المواقف التى استشار فيها الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته كانت مما يتناوله الاجتهاد العام. وأصحاب الرسالات الذين يريدون تغيير أوضاع ضالة ومحو خرافات قائمة و إصلاح عقول معوجة، كالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وكقادة الفكر من الأئمة المصلحين، هؤلاء جميعا لا يعنيهم فى أداء رسالاتهم الفاضلة تألب الجهال وتعصب السفهاء، بل لقد صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه ـ وحيدا ـ فى وجه مقاومة عنيفة من أمة مسخها الشرك، وكان الوحى يلاحقه بالتأييد كلما أنهكه ضلال هذه الكثرة المنحرفة عن الجادة، والطريق السوى :" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ". 059(1/52)
ومعروف أن تقليد الآباء، ومتابعة العرف، ومسايرة العوام، هى أشد العقبات التى قامت فى وجوه المصلحين، حتى قال أبو تمام: إن شئت أن يسود ظنك كله فأجله فى هذا السواد الأعظم! *لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد فى أمة ما جريمة غليظة، وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع، ولا يستحق ذرة من التأييد، إلا إذا كان معبرا عن روح الجماعة ومستقيما مع أهدافها. ومن ثَم فالأمة وحدها هى مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة، والخروج على رأيها تمرد.. ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك. ولئن فهم المسلمون هذه الحقيقة من دينهم مرة، فهم يفهمونها من الكوارث التى نزلت بهم ألف مرة، والمحنة الأخيرة التى حلت بنا فروعت حريمنا، وخربت ديارنا، وقتلت مرشدنا، وحشدتنا فى المنافى لنجوع، وفى السجون لنعذب ـ هذه المحنة التى أريد بها استئصال شأفتنا، لولا أن القدر وحده حمانا وآوانا، لم تقع بنا إلا فى غيبة الدستور، وتكميم الأفواه وتقييد الحريات، وانطلاق الفرد الحاكم بأمره يطغى ويبغى لا يردعه شىء. فمن المستحيل أن ينسى المسلمون منطق دينهم، وعبر تاريخهم، وأن يرضوا ساعة من نهار بانقلاب الأوضاع الدستورية وعودة لون من الحكم البغيض، إذا لم يكن عنوانه القوانين العرفية والأوامر العسكرية، فإن حقيقته هى هى سواء بسواء. ***وأخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة، فما جدواها إذن؟ وما غناؤها فى تقويم عوج الفرد إذا كان من حقه ألا يتقيد بها؟ وأين فى حياة الرسول وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأى مستشارية ومضى فى طريقه وحده ؟. 060(1/53)
ربما استشهد بعضهم بموقف أبى بكر فى حرب الردة واعتراض بعض الصحابة له فى قتاله من نطق بالشهادتين ـ ومن بينهم عمر بن الخطاب ـ وإصرار أبى بكر على موقفه، ويمينه التى أقسمها على قتالهم إلى النهاية. وهذا استشهاد يرد فى غير موضعه، فقصة أبى بكر مع المرتدين ومانعى الزكاة لا تعنى إلا أنه عرف الحق قبل عمر ثم ما لبث أن أقنع به صاحبه فأيد وجهة نظره، واتفقا جميعا على تنفيذها، وخطأ عمر فى موقفه ابتداء مع المرتدين كخطئه بعد وفاة الرسول حين أنكر موته وتوعد من يقول به، ثم ثاب إلى الحقيقة التى قررها أبو بكر فى يقين وتؤدة. والديمقراطية الحديثة تخضع الحاكم لرأى الكثرة وتمنع السلطة التشريعية من التدخل فى شئون السلطة التنفيذية المحضة، فإن كان الذين يريدون إطلاق سلطة الحاكم عن دائرة الشورى يعنون ذلك فلا حرج عليهم وإلا فكلامهم لغو لا يعتد به. وهذا بحث نظرى مبتوت الصلة بالحياة الواقعة فى بلاد الإسلام اليوم، فإن الحكم المطلق الذى ظهر فى الغرب كان يستند إلى جمهور ضخم من المؤيدين والأ نصار المتحمسين. إن " هتلر " وصل إلى الحكم عن طريق الشعب نفسه ثم تحول بعد ذلك إلى " ديكتاتور"، وكذلك فعل كثيرون من الحكام المستبدين هناك. أما عندنا فالحكام يظهرون فجأة " كالنبات الشيطانى " لا تعرف كيف ظهر ولا من تعهده؟. وتنام الشعوب ليلها، وتصحو نهارها، وهى ترمق حكامها كما يرمق المحزون القدر الغالب، أو كما يحمل المفجوع المصيبة الفادحة. وقلما تألفت حكومة ينظر إليها الشعب كما ينظر الإنسان إلى المرآة فيجد فيها صورته، حتى أصبح الشذوذ قاعدة، وحتى أصبح العامة يستغربون العدالة؟ ويهفون المظالم. 061(1/54)
وطالما كنت فى طفولتى أستمع إلى الخطباء أيام الجمع وهم يدعون الله أن يولى أمورنا خيارنا، ولا يوليها شرارنا، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يحسن خلاص المسجونين!!ـ يعنون ضحايا الاستبداد لا معتادى الإجرام ـ. كانت هذه الدعوات تقارن الدعاء بالمغفرة والتطلع إلى الرحمة العليا كأنما أصبحت مصائب الحكم تساوى خطايا الأفراد كلاهما فى حياة الناس ضربة لازب.
ضمانات الحرية:
يمتاز هذا العصر بأن الصلة بين الحكام والشعوب قد ضبطتها دساتير محددة وقوانين مفصلة، وأن المظالم التى كانت تقع قديما دون تخوف والتى كان المتفردون بالسلطان يأتونها من غير مبالاة، خفت كثيرا، فبعد أن كانت سيلا جارفا أصبحت رشاشا متناثرا، وأصبحت تقع مكروهة مستنكرة. وقد يفلت مرتكبوها من العقوبة، وقد يقعون تحت طائلة القانون.. ولسنا نزعم أن هذه الدساتير الموضوعة والقوانين المرسومة هى التى ضمنت للجماهير حياة العزة والعافية، وأنهم كانوا قبلها نهب التسلط والعدوان، فقد يقع الظلم مع قيامة القانون، وقد تتحقق العدالة فى مجتمع يعتمد على التقاليد الفاضلة. يوم كان الأنبياء.. والحواريون، والقديسون، والخلفاء الراشدون، يحكمون الأمم!، توفر للناس جو من العدل والمساواة وحماية الحقوق والانتصار للضعاف لا يوجد له إلى يوم الناس هذا شبيه، مع قلة الدساتير التى كانت تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على النحو المفصل المعروف الآن بيننا. وربما لا يوجد هذا الصنف الكريم من الحكام الملهمين إلا أن تسوق الأقدار الطيبة إلى الأمم ملوكا من ذوى القلوب الكبيرة والأفئدة الرحيمة يحكمون رعاياهم بالقسط ويجهدون فى سبيل نفعهم وإنصافهم.. إلا أن هؤلاء وأولئك كانوا فى تاريخ الإنسانية كالواحات الظليلة فى الصحراء المحرقة، وذهبت أيامهم القليلة بما حوت من خير وبر، ثم تطاولت العصور على الأمم وهى ناصبة لاغبة، تخرج من ظلمة لتدخل فى أخرى، وتقوم من كبوة لتسقط فى 062(1/55)
هوة.. حتى كمن فى صدور الأخلاف بعد الأسلاف غل أسود تمده بالنار مظالم متوارثة، فلما انفجر الوعى الشعبى فى بقاع كثيرة، وقتل الثوار ملوك فرنسا وإنجلترا وروسيا، وبدأت الجماهير الهائجة تكسر قيودها وتسترد حرياتها، تعلمت أن تسجل فى نصوص حاسمة ووثائق صريحة ما حصلت عليه من حقوق حتى لا تلتهمها مطامع الحكام كرة أخرى.. وقد جاء الإسلام من أربعة عشر قرنا، والدنيا من قبل مجيئه مقسمة بين نفر من الملوك المتألهين فكانت موجة الفتح الإسلامى تستهدف فى مدها المنساب تحطيم أولئك الملوك وكسر شوكتهم، بعدما تبين أنهم حريصون على تكفير الشعوب وإذلالها. فلما قتل ملك فارس، ودخل سعد بن مالك إيوانه الأبيض، تذكر كيف نصر الله موسى وقومه، وقتل فرعون وجنده، فتلا فى حق كسرى ما نزل فى حق فرعون:" كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " . وبداهة أن الإسلام لم يقتل كسرى ليستبدل به كسرى آخر، ولكنه دك أطواد الاستبداد ليمهد الطريق أمام الشعوب العانية كى تعبد رب العالمين فى أمان وحرية وسكينة. فإذا لم تضمن هذه المعانى مواد وبنود مفصلة، ففى كتاب الله وسنة رسوله حواجز هائلة دون الاستعباد والاستبداد. بيد أن المسلمين مع الأسف العميق أفلت من أيديهم الزمام على عجل، فبعد أن كان حكامهم رجالا من طراز " عمر " أصبح أمرهم إلى شباب خلعاء من أمثال " يزيد " وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلاك أمتى على يد أغيلمة من قريش.. " وقبل أن نذكر موقف الإسلام من الملوك المستبدين على عهده، يجب أن نقف قليلا لنشرح ما تعنيه كلمة " ملك " حتى لا يقع فى الأوهام ما ليس نعنيه. 063(1/56)
ملوك:
قد تطلق كلمة ملك على الرجل الحر الآمن من المظالم، وقد تطلق على من يملك الضرورات المغنية الكافلة. وقد جرى هذا الإطلاق فى لسان الشارع.. قال الضحاك: من كان مسكنه واسعا، فيه ماء جار فهو ملك.. وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوى إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: أنت من الأغنياء. قال: فإن لى خادما قال: فأنت من الملوك.. وقد امتن الله على بنى إسرائيل بالحرية بعدما لاقوا فى مصر من استعباد، وبالأمنة بعدما عانوا من مخاوف، فاعتبرهم بالحال التى انتقلوا إليها ملوكا :" وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ". وأفراد الشعب جميعا لا يكونون ملوكا إلا بهذا المعنى. وقد تطلق صفة الملك على سعة السلطة وبسطة القوة وكثرة الأتباع مهما كان منصب المرء. فعندما رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة الفتح وحوله كتائب الأنصار يلمع فوق رءوسها البيض، وبين يديها جيش ضخم من المؤمنين المجاهدين، قال للعباس ابن عبد المطلب: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. وقد كان يوسف وزيرا للمال أو للتموين ومع ذلك قال :" رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث "!. وربما قصد بالملوك الجبابرة الذين ينصبون أنفسهم أصناما ويطلبون لها قداسة كاذبة وينتحلون الألوهية الزائفة، ويفرضون ألا يعصى لهم أمر، ويعتقدون أنهم أسمى من أن يوجه لهم نصح. 064(1/57)
من هؤلاء فرعون موسى الذى باهى مفتخرا فقال :" أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " فلما جاءه موسى يعرض عليه أن يتزكى، وأن يدع هذا الدجل، وأن يدين لإله يملك العالمين : " قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ". فانظر كيف يستنكف أن يجعل خطاب موسى له فيحوله إلى جلسائه، كأنه جاء إليهم لا إليه: "قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم" ثم يرفض فى كبر أن يقبل الهدى، ويقول لرسول رب العالمين:" لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ". وقد يراد بالملوك رؤساء الدول سواء أطلق عليهم لقب الملك أم لم يطلق. والاصطلاح الحديث يرفض هذا التعميم، فإن الدول قد تكون جمهورية وقد تكون ملكية. لكننا إذا نظرنا إلى الملابسات التى تحيط بأولئك الرؤساء وجدنا من النقائض ما يستحق النظر. فرئيس الدولة في إنجلترا مثلا ملك، ولكن القيود التى يحاط بها تحبس سلطته فى نطاق ضيق جدا، والحاكم المسئول هو رئيس الوزراء، وصاحب التاج يملك ولا يحكم، ويتوارث تاجه فى أعقابه. أما رئيس الدولة فى روسيا فله من اتساع النفوذ ونفاذ الكلمة ورهبة الاسم وتلاشى الشخصيات الأخرى أمامه ما لا يقاس به ملك إنجلترا العريق..! وإن كان لا يورث أولاده شيئا من ملك روسيا المترامى.. ونحن فى أحكامنا ننظر إلى الحقائق لا إلى العناوين. ولا نستطيع أن نتجاهل الوصف الصحيح لأى رجل 065(1/58)
تلتقى عند يديه مصاير الألوف المؤلفة وتتوقف على كلمة من شفتيه سعادة أقوام وشقاوة آخرين والحاكم المطلق أيا كانت صفته وأيا كانت الأستار التى يختفى وراءها والشارات التى يبدو فيها، ما دام يبت فى شئون الناس، ويوجه الأمور إلى الخصام أو الوئام، والحرب أو السلام، وما دام يملك إقصاء هذا وتقريب ذاك ويستطيع أن يمحو ويثبت ويرفع ويخفض ـ فهو أمام الله يحمل تبعات أعماله وتطبق عليه نصوص الكتاب والسنة، ويواجه بها رضى أم كره.. وقد بين لنا الله فى كتابه أن جبروت الفرد الحاكم إذا انساح فلم توقفه حدود الشريعة ولم تحتبسه ضوابط القانون فسدت الأحوال واختفى الرجال وهانت الحقوق وضاعت الكرامات : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ". كما بين أن للسلطة المطلقة إغواء يوسوس لمالكها بالتجبر، واحتقار المسلمين والاستهانة بدماء العامة " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك " أى أن هذا الذى يجادل فى الله لم يجرؤ على جدله السقيم إلا لأنه أوتى الملك، فلما بدأ النقاش :" إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت " أى أنا كذلك أملك حق الإماتة لمن أحكم عليه بالإعدام وقد أعفو عنه فأحييه. وهذه فى عرفه سمات التأله فى الأرض وإنكار رب السماء والأرض !! والله ـ عز وجل ـ لم يعط هؤلاء الملك ليستعلوا به. عن أبى ذر، قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال:" كانت أمثالا كلها.. أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكنى بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم، فإنى لا أردها ولو كانت من كافر ". *066(1/59)
حرب شعواء!
وقر فى أذهان القدامى أن الحكم أيسر سبيل إلى المغانم الجمة، والمنافع الجسيمة، وأن تملك الشعوب وسيلة فعالة يتمكن بها الرجال المغامرون من إجابة النزوات التى تضطرم فى دمائهم. ومن كالحاكم تجبى له الأموال، ويزدحم حوله العبيد، وتربط مصالح العباد بسدته، وترتفع حظوظهم أو تنخفض بإشارته. إن الإمارة كسب مادى، وجاه أدبى، يناله الإنسان من غير عوض طائل، والجماهير المسحورة حسبها أن تلتف حول أميرها لتنطق لسانه مفاخرا متعاظما بما قال الشاعر: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا لا ريب أن هذه المناصب تغرى النفوس الطامعة، وتجعل الكثيرين يتوقون إلى اعتلائها، فلما جاء الإسلام وبدأت هداياته تشرح الصدور بالحق وأحست الشعوب بأنها كانت ضحايا لصوصيات كبيرة، وعرف أنه ما من حق إلا بإزائه واجب، وأن الحاكم فرد يختاره الجمهور ليأخذ منه أكثر مما يعطيه، وأن الحاكم يجب أن يحس بأثقال المصالح العامة التى نيطت بعنقه، وأنه لو عقل لتهيب أعباء منصبه فإنها أمانة سوف يسأل عنها، لا لذة عاجلة يراد انتهازها. لما جاء الإسلام بدأ يتكلم بدقة ووضوح، فمحا ما يفهمه الناس عن الحكم من أنه متعة ومجد. إنه مسئولية فادحة لا يتعرض لها فيفرط فيها إلا أحمق سيئ الظن بالله، وفى ذلك يقول النبى صلى الله عليه وسلم :" إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة!! فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ". ويقول صلى الله عليه وسلم: "ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا يدنون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا". 067(1/60)
وعن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة، وما هى"؟ فناديت بأعلى صوتى: وما هى يا رسول الله؟ قال: " أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل .. وكيف يعدل مع قريبه"؟! وهذه النصائح النبوية تقصد إلى قطع أطماع المتطلعين إلى المناصب الكبرى، يريدون منها تدعيم أثرتهم، وتضخيم ثروتهم، والاستعلاء على مواطنيهم وإخوتهم، وطلاب الحكم لهذه الأغراض الدنيئة كثرة هائلة! بل لعلهم لا يفرحون بالحكم إلا لهذه المأرب، وإن خدعوا الشعوب والجماهير بظواهر أخرى. والحياة لا بد فيها من أعمال رئيسية ومناصب كبرى، فالناس لا يصلحون فوضى، لكن الفوضى التى نحاربها لا تمحى إلا برياسات تحقق العدالة وتقر الفضائل وتحارب الآثام. أما أن يكون الأمراء أنفسهم مثار الفتن ومصدر الرذائل ونواة الفوضى فهذه هى الطامة التى يستأصل الإسلام جذورها. وقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم وعيد عنيف لكل من ولى عملا ـ كبر أم صغر ـ فخان فيه، قال:" ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولا يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور، وإن كان مسيئا زيد غلا إلى غله " وفى رواية: " ما من رجل ولى أمر عشرة إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، حتى يقضى بينه وبينهم" . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه.. حفظ أم ضيع". وإنك لترى أركان الفساد الاجتماعى مقترنة يزجى بعضها بعضا إلى جهنم فيما رواه النبى صلى الله عليه وسلم : " عرض على أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدى حقه، وفقير فخور" . 068(1/61)
الأول يمثل الاستبداد السياسى، والثانى يمثل الطغيان الرأسمالى، والثالث ـ وهو الفقير الفخور ـ يمثل خدم النظامين من الأتباع الذين يمشون فى ركاب الكبراء والأغنياء، إنهم صعاليك، ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم. فإذا انضم إلى هذا الفساد الاجتماعى تأييد المحترفين من رجال الدين فقد تمت سوأته وطاشت رميته. عن عوف بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنى أخاف على أمتى من أعمال ثلاثة " قالوا : ما هى يا رسول الله؟ قال : " زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبع ". وليس هذا التحذير من الولاية العامة فحسب، بل إن كل رئيس لعمل ـ دق أو جل ـ ينبغى أن يستعظم حق الناس فى رعايته وحسن القيام عليه، حتى لو كان رئيس ثلاثة كتبة فى ديوان أو رئيس ثلاثة عساكر فى قرية، أو أقل أو أكثر من ذلك، فإن توفر العدالة فى أمة من الأمم لا يبلغ تمامه إلا إذا حسن الإشراف على شئونها كلها وصينت حقوق الناس فى نواحى الحياة جميعا. عن عمر بن مرة الجهنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ". وعن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ولى أمرا من أمتى ـ قلت أو كثرت ـ فلم يعدل فيهم كبه الله على وجهه فى النار ". وفى رواية: " ما من أحد يكون على شىء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله فى النار ". وعن أبو الدرداء سمعت رسول الله ! يقول : " ما من والى ثلاثة إلا لقى الله مغلولة يمينه، فكه عدله أو غله جوره ". وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يسترعيه الله، يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرّم الله عليه الجنة ". 069(1/62)
ويستطيع القارئ أن يرى مصير حكام المسلمين اليوم ومنزلتهم عند الله فيما رواه ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم : " من ولى عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو بما كرهوا جىء به مغلولة يده، فإن عدل، ولم يرتش، ولم يحف فك الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى، شدت يساره إلى يمينه، ثم رمى به فى جهنم فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام "!. *إنى لا أعرف دينا صب على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم، والانتفاض عليهم كالإسلام. ولا أعرف مصلحا أدب رؤساء الدول، وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء فى نفوسهم، كما فعل ذلك نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم . لقد كسر القيود وحرر العبيد، ووضع التعاليم التى تجعل الحاكم يتحرى العدل والمحكوم يكره الضيم. أجل.. لقد فعل ذلك كله، وليس يغض من حقيقته عمق الفجوة بين الحاكم والمحكوم فى بلادنا المريضة المهيضة! البلاد التى لا تعرف الدنيا اليوم أترف من أمرائها وأتفه من فقرائها..!!. 071(1/63)
الأديان والحريات :
الحرية صدى الفطرة ومعنى الحياة، يشب المرء من نعومته وهو يحس بأن كل ذرة من كيانه تنشدها وتهفو إليها، وكما خلقت العين للبصر، والأذن للسمع، وكما خلق لكل جارحة أو حاسة وظيفتها التى تعتبر امتدادا لوجودها واعترافا بعملها!.. كذلك خلق الإنسان ليعز لا ليذل، وليكرم لا ليهون، وليفكر بعقله، ويهوى بقلبه، ويسعى بقدمه، ويكدح بيده. لا يشعر وهو يباشر ذلك كله بسلطان أعلى يتحكم فى حركاته وسكناته إلا الله الفرد الصمد، ربه، ورب الناس أجمعين!. بيد أن الناس تظالموا فيما بينهم، وطغى كبارهم على ضعافهم، ومال الميزان دائما مع ذوى القوة والبطش، فحيثما وجدوا حجَّروا ما أراد الله له أن يتسع. وتاريخ العالم من أعصار سحيقة سلسلة من المعارك الداهية، والأحداث القاسية، حملت أوزارها الوثنيات السياسية السائدة، تلك الوثنيات التى ملكت نواصى الشعوب، وسخرتها فى أهوائها العابثة، وفرشت طريقها بالأشواك والأقذار. ومنذ آماد بعيدة والجماهير المهضومة تتطلع إلى حقوقها، وتسعى حثيثا لاسترجاع المغصوب منها، وقد تحملت فى سبيل ذلك أفدح المغارم. وعندما يرجع الإنسان بصره إلى وراء يجد معالم الكفاح إلى الحرية مضرجة بالدماء مزدحمة بالخرائب والأشلاء!. ولماذا يرجع الإنسان إلى ذكريات الماضى وهذه صفحة الحاضر الكئيب لعالمنا المرهق المكدود؟ إننا لا نزال نسمع إلى أنات الشاكين، وصرخات المخنوقين من ضحايا الاستعمار الخارجى والاستبداد الداخلى. وفى جنبات الشرق الأوسط بقايا من ظلمات الجاهلية الأولى ترين على القلوب 073(1/64)
والعقول، حتى ليحسب المرء أن هذه الظلمات تتقشع من آفاق الدنيا كلها لتتجمع فى بلادنا وحدها؟. وفى الوقت الذى تتحطم فيه الوثنيات السياسية فى أنحاء شتى من العالم يخلق الإنجليز لها طقوسا جديدة. وها هى ذى سياستهم فى طرابلس التى قيل: إن هيئة الأمم قد منحتها استقلالها التام. لقد أقاموا لهم فيها ملكا جديدا، وهم يلعبون اللعبة نفسها فى السودان ولا يخجلون من مزاولتها فى كل مكان.. وفى الحرب التى شملت العالم أخيرا.. وانضمت فيها الولايات المتحدة إلى إنجلترا، قام ساسة الدولتين الكبيرتين بالترويج لخدعة بارعة أوهموا بها شعوب الأرض طرأ أن الحلفاء الجدد ـ من أركان الجبهة الغربية ـ يحاربون لتحقيق أهداف إنسانية سامية فوجه الرئيس " فرنكلين روزفلت " إلى " الكونجرس الأمريكى " رسالة فى 6 يناير سنة 1946 قال فيها: " وفى الأيام المقبلة التى ننوى أن نحيطها بكل ضمان.. نتوقع أن يقوم العالم على أربع حريات أساسية : أولا: حرية الكلام والتعبير، فى كل بقعة من بقاع الأرض. ثانيا: حرية كل فرد فى عبادة الله على طريقته الخاصة، فى كل بقعة من بقاع الأرض.ثالثا: التحرر من ربقة العوز.وهو إذا أفرغ فى عبارات السياسة الدولية، كان معناه عقد اتفاقات اقتصادية تضمن لأبناء كل أمة عيشة راضية، فى كل بقعة من بقاع الأرض. رابعا: التحرر من الخوف. وهو إذا أفرغ فى عبارات السياسة الدولية كان معناه خفض السلاح خفضا عاما واسع النطاق حتى يستحيل على أمة أن تعتدى على جارة لها فى أية بقعة من بقاع الأرض " 074(1/65)
هذه هى الأمانى المعسولة التى لوحت بها دجاجلة السياسة. وأقرتها إنجلترا التى تسترق نصف العالم. وسمع الناس الآمال الحلوة للأمم المستضعفة من فم " تشرشل " كما لو أنهم يسمعون إلى عبارات الإيمان من فم " إبليس ". ثم جاء طور " هيئة الأم المتحدة " وحسب الواهمون أن الخرافة الكبرى قد تتحول إلى حقيقة! ولكن السراب لم يتحول فى أفواه الظامئين إلى ماء فرات.. وكذلك دارت الرحى المجنونة على الأكباد مرة أخرى، وعادت الصليبية الغربية إلى أساليبها العتيقة فى استغلال بلادنا واستنزاف دمائنا واصطناع نفر من الحكام السفلة يعملون لحسابها!. وانضمت أمريكا كحليف جديد إلى فرنسا وإنجلترا.. وبدأت الحلقات تضيق حول المسلمين الأحرار لشل نشاطهم فى كفاح الأجانب المحتلين ومن يحيا فى كنفهم من الإقطاعيين والمستغلين.
التحرر من العوز:
إننا نطالب بتحقيق هذه الحريات جميعا. وسنرى موقف الإسلام، بل أديان الله كلها منها، وكيف سعت إليها ورسمت أصول التربية الصحيحة لإقرارها وإشاعتها.. وقد أشبعنا الكلام فى البند الثالث من هذه الحريات الأربعة، وهو المتعلق بتأمين الشعوب ضد العوز، ورفع مستواها المادى حتى يحظى بعيشة كريمة.. وأبنا فى بحوثنا الاقتصادية المنشورة مبادىء الإسلام فى هذه الناحية الهامة، وما دام الرئيس الأمريكى قد تعرض لها وظاهره فى التبشير بها دهاقين الاستعمار الغربى، فلنذكر بصراحة أنه منذ استولت " أوروبا " على قارتى " إفريقيا، وآسيا " وضع الفاتحون الأقوياء سياسة فاجرة لإبقاء هاتين القارتين فى ظلام دامس، بل إنهم بنوا غناهم على فقرنا، وتقدمهم على تأخرنا، وحياتهم على موتنا. 075(1/66)
وشاع بين الفاتحين احتقار الأجناس الملونة، ورسمت الحياة الاقتصادية على أن يكون الشرق مورد المواد الخام، وعلى أن يكون أهلوه وأرضوه أبدا فى منزلة التابع المهين للسيد القوى. ولما كانت " أوروبا " تعبد المال من دون الله فقد أصرت على أن يتوفر لها وحدها!. وقد حدث أن دار بين ساستها كلام لرفع المستوى المادى فى الشرق، ثم استبان القصد المبيت من ورائه. إنها ليست نازعة رحمة جاشت بنفوس أولئك الخصوم الشرفاء. كلا.. إنهم يسمنونا لنكون علفا دسما لمدافع أعدائهم مثلما يعنى الراكب بتقوية دابته لتطوى له الأبعاد وتعينه على وعثاء السفر!! والإنجليز والفرنسيون والأمريكان يقيمون العوائق الكثيفة لعرقلة النمو العمرانى فى الشرق. ولا يسمحون به إلا إذا دسوا أصابعهم الخبيثة فيه لينالوا من ثماره النصيب الأكبر. وهم يظاهرون الحكومات التى تعينهم على ذلك التوغل، والتى تقاتل لحسابهم الأجيال الجديدة الساعية إلى الحرية، المنطلقة إلى النور، ومن السفاهة أن يحسب هذا التهجم لمصلحة " روسيا ". إن القاصرين عن إدراك الإسلام وطبيعته هم الذين يتوهمون ذلك!. عندما أصدر " آية الله كاشانى " فتواه بقتل رئيس وزراء إيران، وعندما رفض علماء الدين الصلاة على الوزير القتيل لم يصنعوا ذلك إلا لحساب الإسلام الذى يبغض خيانة الشعب وبيع مصالحه لأعدائه!. أراد هذا الوزير ليمكن الإنجليز من التهام بترول " إيران "، أى أراد أن يعين الإنجليز على إفقار أمة بأسرها وإبقائها فى الحضيض. لماذا؟. لكى يبقى الوحش البريطانى عارم القوة منتفخ الأوداج ينطلق حيث يشاء ليعربد ويفسد. ويختال ويغتال!!. ذلكم حكم الله العدل لتأمين حرية الشعب الاقتصادية ضد مؤامرات الاستعمار. وأما سائر الحريات الأخرى، التى يزعم الغربيون أنهم سدنتها ـ وهم فى الحقيقة قتلتها ـ فإن سعى الشرق إليها، وعدوان الغرب عليها، ليس مما يدور عليه جدلى. وسنشرح هنا رأى الإسلام فى ضمان هذه الحريات. ص(1/67)
عدو منذ الأزل!
فى القرآن الكريم تفصيل لحقيقة الدعوة إلى الله تعالى، وتأريخ لسير هذه الدعوة، وبيان لما أصاب حملتها عندما قاموا بحق الله عليهم فى إبلاغ رسالتها إلى الناس.. واستقراء أحوال الأنبياء مع أقوامهم يؤكد حقيقة واحدة، لم تزدها الأيام إلا صدقا، وهو أن الاستبداد الأعمى عدو الله، وعدو رسله، وعدو الشعوب، وأنه لا قيام لحق فى هذه الحياة إلا إذا طمست صور هذا الاستبداد، وسويت به الأرض، ومشت عليها الأقدام. وقد ظهر أن تفكير المستبدين واحد على اختلاف العصور، وأنهم لا يتركون غرورهم مهما تلطف المصلحون معهم. ولو أمكن تقليم أظافرهم لوقاية الأمم من شرهم ثم تركهم أحياء بعد ذلك يفعلون ما يشاءون لأشرنا بذلك!! ولكن الآيات التى سنتلوها تتضافر على اتهام الاستبداد السياسى بأن الشر ذاتى فيه فلا أمان لحضارة إلا إذا خلت منه. فى إحدى القرى الفاسدة أراد الله أن يبعث إليها من يصلح شئونها، ووكل ذلك إلى نفر من المسلمين الأخيار، فما إن بدأ عملهم الفاضل حتى منعتهم القوة الغاشمة: " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون * إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين ". إلى هنا كشف المرسلون عن حقيقة ما كلفوا به، وهو لا يعدو: " البلاغ المبين". 077(1/68)
ولكن جواب المستبدين منع هذا البلاغ وألا يمكن رسل الله منه: " قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ". فإذا عوقب المستبدون الأولون وسيق قصصهم لمن خلفهم حتى يزدجروا، فلم يرهبوا هاديا ولا يؤذوا مصلحا، لم يزدهم هذا التذكير بمصارع المعتدين إلا صلفا وعتوًّا. " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ". وليس الشك فيما جاء به المرسلون جريمة، فإن الشك أول مراتب اليقين ولو أن هؤلاء أعملوا عقولهم فى وزن ما يعرض عليهم لما ترددوا فى تصديق هداتهم، وتركوهم وشأنهم يبلغون ما يعتقدون أنه الحق لهان الأمر قليلا. لكنهم اتهموا أنبياءهم بأنهم يخرجون على التقاليد المتوارثة، وأردفوا هذه التهمة بطلب السكوت عن إبلاغ الدعوة، و إلا... وترى القلة المؤمنة أن تفوز بإيمانها وحدها وحسبها البلاغ! غير أنهم لا يظفرون بهذا الأمل العزيز ويبدأ البلاء ينزل بهم، والاضطهاد لا يقتل العقائد، ومن ثَم يقول أولئك المستضعفون: " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ". ثم يمضى البلاء صعدا لطرد المؤمنين من ديارهم بعد ما فشل فى حملهم على الكفر بربهم. 078(1/69)
" وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ". على هذا النحو عولجت قضايا الإصلاح السماوى، وما أن يبدأ عرضها حتى يسارع الطغاة إلى وأدها. " كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ". فى قصة موسى مع فرعون تلمح مطالب هذا النبى الكريم واضحة، فهو يرجو أولا تحرير المستعبدين من قومه، فهم عباد الله وحده وليسوا عبادا لأحد من خلقه، وما يجوز لبشر أن يتعالى فى الأرض ويستذل أهلها هكذا: " أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين ". ثم يقول: إذا كفرتم بالله فعليكم كفركم، وإذا لم أحملكم على الإيمان بالله فلا تحملونى على الكفر!! دعونى ومن معى. " وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ". فماذا يصنع فرعون بإزاء هذا المنطق الوادع المسالم؟. يمضى على سنة الفجور الذى ورثه عن آبائه الصيد، والذى ورثه من بعده كل مستكبر عتيد، فيجمع حاشيته ليشير عليها بقتل هذا الرسول المرشد. 079(1/70)
" وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ". والمستبدون لا يعوزهم اختلاق الحجج لتبرير جرائمهم، وليس قلب الحقائق بالأمر العسير على من يريد سفك الدم الحرام!. ومن ثَم اتهم فرعون موسى بأنه مظنة تغيير الدين ونشر الفساد!! أى دين؟ إنه الحكم المطلق الذى يبيح لبشر مغرور أن يستذل العامة ويستغل الخاصة. قوى هؤلاء وذكاء أولئك طوع بنانه. وأى فساد يحذره فرعون على الناس بعد ما أمر بقتل بنيهم واستبقاء بناتهم؟. إن الفساد- فى منطقه السقيم- هو إيقاف هذا البغى!. والحق لا يعدم وسط أولئك رجلا سليم القلب ينطقه الإنصاف باستنكار قتل موسى. ما جدوى قتله؟ إن كان كاذبا فلن يضر إلا نفسه، وإن كان صادقا وقعت الطامة، فإن رب العالمين لن يهمل قتلة رسله " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب * يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ". 080(1/71)
وصاهم الرجل الراشد ألا يغتروا بملكهم وامتداد نفوذهم وأن يتخوفوا بأس الله، بيد أن فرعون اصطنع هو الآخر الحكمة وسداد الرأى! وأعلن أنه لا يغش قومه، وأنه لا ينصحهم إلا بما اقتنع هو نفسه بأنه الصواب والرشاد!!. ونحن نتساءل: أكان فرعون يعتقد أنه إله، وأن الشعب عبيده، وأن موسى مبطل وأن نصيحة الرجل المؤمن- فى حاشيته- خطل، وأنه صدق فى تعبيره عن خبيئة نفسه عندما قال:" مَا أُرِيكُم إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُم إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ "؟؟. الحق أن هذا إخلاص مفتعل، وأن الرجل كاذب يستخف من حوله وأن هذا التغرير الظاهر تغطية للغرور الكامن فى نفسه. وأنه يأنس من نفسه الافتراء ويواريه بهذا الادعاء... * وقد تكرر هذا المنظر الخداع فى الكفاح الطويل بين الحق والباطل وبين الهداة والطغاة، فقبل اشتراك الفريقين فى غزوة بدر استمعنا إلى أبى جهل الجبار يناجى الله- عز وجل- فى صلاة حارة، أن يجعل النصر قرين الحق!!. روى أنه قال: " اللهم أينا كان أفجر- يعنى نفسه ومحمدا صلى الله عليه وسلم - قاطعا للرحم، فأحنه اليوم "! وقيل: دعا: " اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفريقين، وأفضل الجمعين، اللهم من كان أفجر وأقطع لرحمه، فأحنه اليوم "!. ترى هل نسى أبو جهل ما صنع وصنع قومه بالمسلمين حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم بعد ما أوقعوا بهم ألوان النكال؟. إنه لا يجهل ذلك بل يجحده، وإنه ليدعو ربًّا ما اتقاه يوما ولا رجا له وقارا، وها قد احتكم إليه وقالت السماء كلمتها ، وكتب النصر لأولى الطائفتين به. " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ". 081(1/72)
قد يكون هؤلاء الطغاة جاحدين، يعرفون الحق ويستكبرون النزول على حكمه، وقد يكون الباطل مكينا فى أنفسهم، ضارب الجذور فى أعماقها فهم يضلون ويوقنون بأنهم مهتدون، ويفجرون ويعلمون أنهم يحسنون، ويتألهون ويحسبون أن هذا حقهم لا يمارى فيه إلا مكابر! ويسرقون أقوات الجماهير وهم يزعمون أنهم ينالون بعض ما سخره الحظ لهم. الجهل المركب شاع بين ألوف مؤلفة من الناس، ويعتبر خاصة من خواص الطبقات النابتة فى الحكم والسلطان. إن عقولهم تشبه العدسات المقعرة، تثبت فيها صور ممسوخة للأشخاص والأشياء، فلا يرون الحياة إلا من خلالها. غير أن هذه الأنظار المريضة لا تغير من واقع الأمر شيئا ولا ينبغى أن يحترم المصلحون جهلها وفى أولئك المطبوعين على الضلال يقول الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ". وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنيين بهذه الآية، وأنهم هم طوائف المتكبرين المنتفخين، قال: " إنه ليأتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ". وقال: اقرءوا إن شئتم : " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ". إنه لا بد فى كل إيمان صحيح من ركيزتين يمدانه بالحياة والقوة: استنارة القلب 082(1/73)
ويقظة الوعى، والله- سبحانه- ينشئ رسله مزودين بطاقات ضخمة فى كلتا الناحيتين ليكونوا ينابيع ثرة تستقى منها الشعوب والأمم. وفى أبى الأنبياء إبراهيم نجد هذه المعانى سهلة موفورة! قد يكون الفلاسفة الإنسانيون وصلوا إلى طائفة من حقائق الإيمان الذى لا ريب فيه، غير أنك تشعر بأن عليها طابعا من الجهد العقلى الذى يصحب دائما تفكير البشر وهم يحلون الألغاز!!. أما إبراهيم- صلوات الله عليه- فهو يعرض الإيمان كأنما يعرض شعاعا من أشعة الشمس، تحس بعناصر البداهة السمحة تنساب معه، وآيات الفطرة الخالصة تخاطب النفس خطابا لا تملك معه إلا التصديق. وإلا شهدت على نفسها بالحماقة!!. إن الله قذف الهدى فى بصيرته والعمق فى بصره. " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ". وفتق أمام ذهنه الآفاق فهو يجول فى رحاب السماء والأرض " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ". فلما أراد هداية قومه إلى الله سلك معهم هذا النهج اللاحب، وأراد أن يرتفع بهممهم من حضيض الوثنية إلى مستوى أرقى.. إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، والأنبياء لا يصنعون هذا الإيمان إلا بأسلوب واحد هو " ترقية اللب وتزكية القلب " وكيف يتم هذا؟ وكيف يرضى به المستبدون؟. إن الحكام المستبدين كالحشرات القذرة لا تعيش أبدا فى جو نظيف، ولا تنصب شباكها للصيد والنهب إلا حيث الغفلة السائدة والجهالة القاتمة. وقد اتسع المجتمع فى عهد إبراهيم لملك مجرم يزعم أنه يحيى ويميت، وهب ينازع ربه سلطته فى كونه. 083(1/74)
ولم يشأ إبراهيم أن يمضى فى جدل طويل مع هذا المتسلط الغبى فقال له: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ". والعجب أن إبراهيم تعرض للأذى، أما هذا الملك فلم يصبه من عبيده شىء!! جاء إبراهيم يقول للناس: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ". وتتابعت الدلائل أمام الأعين المغلقة تلفتهم إلى بداية الوجود ونهايته وتزيح الغشاوات المضروبة ليتعلم الناس كيف يعرفون ربهم ويولونه وحده وجوههم: " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ". من الذى ينظر؟ ومن الذى يسير؟. إن الشعوب المهضومة لا تنظر إلا بإذن ولا تسير إلا بأمر، وطواغيتها يكرهون أن يفتح مصراع واحد من نوافذ المعرفة. أو لست ترى كيف بقيت إلى اليوم شعوب الجزيرة العربية متأخرة عن قافلة الحضارة نحو عشرين قرنا، وأنها تعيش فى مثل جاهليتها الأولى؟؟ إن هذا صنع الاستبداد الأعمى فهو عدو العلم والتفكير. ولذلك ذهبت دعوة إبراهيم صرخة فى واد.. وكانت الإجابة العاجلة لمناشدته إياهم، أمرا بإهلاكه: 084(1/75)
"فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه..". فلما نجاه الله من بطشهم شيعهم بهذه الكلمة: " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ". وفى شعيب مع مدين تفجؤك ألفاظ التهكم والسخرية. "قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد". فإذا قال لهم: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ". قالوا له : " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ". وما لبثوا أن اطمأنوا إلى أن رهطه لن يقف عائقا دون إزاحته وإسكات دعوته، فطلبوا إليه أن يدخل فى شركهم وفسادهم أو يخرج من القرية!. " قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها... ". 085(1/76)
إن عقول المستبدين لا تعرف مبدأ التفاهم ولا تطيق الأخذ والرد للوصول إلى الحق! ويكاد لا ينبعث صوت للخير حتى يلاحقه سوط من الإرهاب يطلب إما إخراسه وإما قتله !!. وعندما فرض هذا الاستبداد نفسه على الأديان- فيما بعد- وضع مبدأ: من قال لشيخه: لِمَ؟.. فقد حرم بركته!!. وإذن فكيف تسير الأمور؟!. تسير بالأوامر العسكرية الجافة تصدر من شخص خلقه الوهم إلى أشخاص لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا لغيرهم نقدا ولا ردا!!. إن قضية الإيمان نفسه وهى قضية العمر بل هى قضية الخلود إما فى نعيم أو جحيم، هذه القضية الجليلة أبى الله لها أن تأخذ هذا المسلك الذليل، فجعل الإيمان عملا عقليا لا عملا آليا،- وارتضاه ثمرة تفكير ناضج لا ثمرة تقليد أعمى. وعلماء الإسلام لم يقبلوا إيمان المقلد، ما دام يستطيع التفكير الحر، أما البله والمغفلون والأذيال، فأولئك قد يقبل تقييدهم لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. ومطاردة الرأى الناصح يتبعها فساد المجتمع، حتى إذا انفرد الطغيان بالحكم قال لمن لا ينسجم معه: اخرج من هنا، كما حدث لشعيب وكما حدث للوط والأطهار الداعين معه إلى العفاف ما إن استنكروا الفاحشة حتى طولبوا بترك البلد. " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ". وقد يقال: إن هؤلاء الرسل ووجهوا بتكذيب عام وإن قومهم تآلبوا عليهم جميعا، سادة وعبيدا، حكاما وشعوبا، فلم يحمل الكبار وحدهم وزر الكفر؟ وهذا خطأ، فالحق أن الدعوة تبدأ عامة، يتردد صداها فى أذهان الحاكم والمحكوم، الغنى 086(1/77)
والفقير، السراة والأتباع، ولكن بذرة العناد والتحدى تولد أولا فى بيئة أصحاب السلطة، ثم يلتحق بهم أذنابهم وسفهاؤهم.. ولئن كان الوزر الأكبر يقع على طغاة الحاكمين، إن بعضه مصيب حتما من ساروا على غير هدى وراء أئمة يدعون إلى النار. ومن ثم يقول الله فى أولئك المستبدين: " وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ". ويبين أن الضلال عدوى، وأن جرثومته تسرى فى دماء ملاك السلطة. " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ". وقد اطرد هذا الجحود لرسالات الله وحرمت أمم شتى من الانتفاع بها لوقوفها عند رغبات حكامها، وتلاشت الحريات الفردية تقريبا، وأصبح الجمهور يؤمن أو يكفر بإيمان رئيسه أو بكفره! ولعل هذا هو سر اتصال رسول الله- محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم - بملوك عصره يعرض عليهم الإيمان بالله ويحملهم آثام من وراءهم إذا هم أبوا إلا الكفران!. إن فساد أولئك الرؤساء أساس فساد كبير يعترى الأمم، وإن صلاحهم يغلق أبوابا جمة من الشرور، فلما كفروا، لم يبق بد من تحطيم السلطان الذى يتدرعون به لنشر الجهالة و إقرار الفوضى. وفى رسالة صالح لثمود تبدو لك هذه الحقائق نفسها، فقد طالب صالح الجمهور 087(1/78)
أن يخلع عن عنقه طاعة المستبدين، وخوفهم عقبى ركونهم إليهم. " فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ". غير أن هذا النصح ذهب سدى، ولما اتهموه بالسحر وطلبوا منه معجزة تشهد له وآتاهم الله الناقة، عدا عليها كبير ذو منعة من رؤساء القبيلة فعقرها!!. ** أما هود مع عاد فقد ووجه بأقبح رد، دعاهم إلى الله فقالوا: " إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ". وماذا يجدى النصح الأمين مع قوم أغرتهم قوتهم بالتطاول والبذاءة؟. كانت عاد تضم صنفا من العمالقة ذوى الجبروت والبأس الشديد، إذا خاصموا قصموا الظهور، وإذا سالموا استرخى لهم عنان الدعة فعبثوا وأفسدوا، فقال لهم هود :" أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين ". بل احتاج الأمر فى إرشادهم إلى تذكيرهم بأن قوتهم التى يعتدون بها لن تبلغ قوة خالقهم. " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ". 088(1/79)
وأناة المرسلين فى مقابلة شتائم المكذبين لها حكمة ملحوظة، فقليل من الناس من ينكشف لهم خطؤهم القديم على عجل، وقليل ممن تعرفوا أخطاءهم يسارع إلى النزوع عنها والتزام سبيل الرشاد. والمصلحون فى علاجهم لأمراض الأمم يعطون فرصا طويلة لشعوبهم حتى يتعلم الجاهل ويثوب الشارد، فالزمن جزء من العلاج، والصبر على لأواء الناس ضرورة لإنجاح الرسالات، ولذلك لم يجزع هود- عليه السلام- من تسفيه قومه له وغلظتهم معه. وكذلك رأينا النبى محمدا صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة العظمى يسمع ألفاظ السخرية " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " فلا يرى هذه الأساليب إلا حماقة صبية، ويمضى فى طريق دعوته لا يثنى عزيمته شىء. ومن رحمة الله بالناس أن يطيل الأمد على هؤلاء الكافرين حتى يعذروا من أنفسهم، فالأمم لا تعاقب بعد كفر ساعة أو كفر شهر، وإنما بعد أن يتبين أن بقاءهم سبة للحياة وفساد للأحياء ! . وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحمل تبعات ذلك مهما تتابعت السنون. " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * إن ربك هو الخلاق العليم ". وكذلك أمر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ممن يحملون معه أعباء الدعوة ويكافحون لنصرها: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ". *089(1/80)
من لدن نوح إلى محمد- عليهما السلام- ترك للعقل الحر مجال فسيح يناقش فيه الرسالات التى أتته، لم تحمل ديانة ما فى طياتها عنصر الإكراه والقسر على الإيمان. يقول نوح للناس: " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ". ويقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ". ويقول نوح للناس: " ... إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ". ويقول محمد صلى الله عليه وسلم للناس: " ... لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ". وبين نوح ومحمد- عليهما السلام- عصور بعيدة كان السفرة الكرام البررة يحملون للناس صحائف بيضاء من وحى الله- عز وجل- وهداه، تترقرق فيها السماحة الرائعة، فهل استحيا الطغاة وتركوا المرسلين يسلكون طريقهم فى سلام؟ كلا!.. إن الاستبداد الأعمى عدو منذ الأزل لدعوات الخير والبر والاستقامة والإصلاح. *فى أيام كالحة من وطأة الاستبداد بالناس أرسل الله عيسى بن مريم رسولا رقيق القلب نبيل العاطفة، وكانت السمة البارزة فى رسالته مواساة الضعفاء، ورد اعتبار المضطهدين والفقراء، والرفق بالعصاة حتى يهتدوا، وبالقساة حتى يلينوا، وكانت 090(1/81)
اليهودية قد فسدت بين أيدى أتباعها، بل كان أحبارها لا يقلون قسوة قلوب عن حكام الرومان الأشداء!!. فلما جاء عيسى- صلوات الله عليه- ترك رجال الدين ورجال الدنيا جميعا ولزم الحياة مع الضعفاء والمرضى والأرامل والبائسين وبدأ جانب الطبقات الفقيرة ينتعش، وأحس حراس المظالم بالنيام يستيقظون وبالمشردين يتجمعون، وأن الأرض توشك أن تميد تحت أقدامهم، فقرروا قتل عيسى وتشريد تلامذته ومصادرة تعاليمه!!. ووكل المستبدون العميان تنفيذ خطتهم إلى فرقة من الجند، ولكن عيسى نجا، وفر أكثر تلامذته إلى أقطار نائية. بيد أن ذلك لم يوقف الحرب الفاجرة على الديانة الجديدة، فقد تتبع الرومان كل ما يدل عليها بالإحراق، وكل من ينتمى إليها بالقتل أو النفى، ولم يلم المسيحيون شعثهم إلى بعد قرن من اختفاء عيسى. وإذا كانت محنة سنتين وقعت بإحدى الجماعات فى مصر قد أودت بعشرات الألوف من صحفهم- إذ كان العثور بورقة منها عند شخص ما كافيا لجلده أو نفيه- فكيف بمحنة ظلت قرنا من الزمن؟ تضافر فيها مقت الدولة المستبدة، وكراهية اليهود أنفسهم لهذا الدين، ونيلهم من صاحبه، الذى كانوا يرمونه ويرمون أمه معه بالإفك؟. لقد أثر ذلك كله فى تاريخ المسيحية ، فإشاعة قتل عيسى تحولت عقيدة جازمة، والصحائف التى كتب فيها الإنجيل اختفت كلها، ثم جاء نفر من الناس ألفوا سيرا لعيسى من ذاكرتهم تضمنت ما ترامى إليهم من أخبار، وما وصل إليهم من تعاليم! وهذه السير المؤلفة هى ما يسمى بالأناجيل!!. ولكن هل استطاعت المسيحية أن تستأنف سيرها حقا؟. كلا!.. إن المسيحية الأولى ذابت فى حريق العسف والجبروت الذى اشتعل زمنا، فلما عاد هذا العنوان إلى الحياة لم يكن يرمز إلى حقائق دين نزل من السماء 091(1/82)
قدر ما كان يرمز إلى جملة من تعاليم الفلاسفة وكهان مصر والهند، فالتوحيد السهل أضحى تثليثا معقدا. والله الواحد، رب العالمين، أضحى مجموعة أقانيم يختلط فيها الأب بالابن بالأم. ولعل هذا التطور الطارئ هو الذى جعل الوثنية الرومانية تغضى عن الديانة التى خاصمتها. ثم جاء بعد ذلك الإمبراطور " قسطنطين " فاعتبر المسيحية الجديدة دين الدولة الرسمى. *هذه لمحات عاجلة لعمل الاستبداد السياسى فى الأديان. حاربها على لسان كل نبى جاء بها، وأضل الجماهير المستضعفة عن الانتفاع بها والتسليم لها، وأبقى طابع الفساد والغطرسة على القرى التى امتلكها، وأخفت الإصلاح أو أكرهه على الهرب من وجهه. فلما ظن أن الأمر استتب له وزين لهم الشيطان أعمالهم، وقال :" لا غالب لكم اليوم من الناس " حلت به النقمة الجائحة. " فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ". واستوى فى العذاب السادة والأذناب، وتلك شرعة الله العادلة فى العقاب. وعندما يستقر الطغاة فى سقر يرمى إليهم بفوج من أتباعهم ويقال: 092(1/83)
"هذا فوج مقتحم معكم..." فيردون: "هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار".
الحرية العقلية:
الحرية العقلية كما رأيت من استقراء قصص المرسلين ركن فى الدعوة إلى الله.. بل هى ركن فى صحة العمل الإنسانى ليستحق الثواب أو العقاب. وقد جاء الإسلام فتمشى مع هذا المبدأ وجعل اليقين الصحيح ثمرة النظر العميق فى كتاب الكون المفتوح، وقراءة آيات الله المبثوثة فى الآفاق. والقرآن الكريم دعوة ملحة إلى معرفة الله عن طريق التدبر فى ملكوته والتفكر فى صنوف خلقه. بل إنه ليعتبر الكفار دواب لأنهم عطلوا حواسهم وأهملوا مشاعرهم وأهدروا نعمة العقل التى أكرمهم الله بها، وزاد القرآن فى تقدير الحرية العقلية عنصرا لم يكن موجودا فى الديانات الأولى، هو ما أشار إليه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله:" ما من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيت وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ". يعنى أن معجزات الأنبياء السابقين كانت خوارق للعادات، يسلمها العقل عن قهر، لأنه لا مدخل له فيها. أما المعجزة التى تميزت بها الرسالة الخاتمة فأساسها كتاب يخاطب العقل خطابا مباشرا، فما بقى على الأرض عقل بقى أمل فى الإيمان بهذا الدين، ومن هنا رجا النبى صلى الله عليه وسلم أن يكون أكثر الأنبياء أتباعا. 093(1/84)
وقد يحدث أن يكره المرء ولده على الذهاب إلى المدرسة، أو يكره مريضه على الذهاب إلى المستشفى، ويجد نبل الغاية مسوغا لهذا الإكراه، ويعتبر قصور الطفل عن فهم مصلحته وتوجس المريض من مرارة الدواء الذى يتجرعه أو الجراحة التى تجرى له- يعتبر ذلك مبررا لفرض إرادته تحقيقا لنفع محض. ربما حاول بعض المؤمنين بدافع من الثقة فى صدق دينهم أن يحملوا الآخرين على الدخول فيه، يقصدون بذلك إدخالهم فى الجنة وإنقاذهم من النار، وخصوصا إذا كان هؤلاء أولادهم أو أقاربهم. حدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان لرجل من الأنصار ابنان تنصرا قبل البعثة، ثم قدما المدينة فى نفر من النصارى يتاجرون فى الزيت، فلزمهما أبوهما، وقال: لا أدعكما حتى تسلما فأبوا، واختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال الوالد: يا رسول الله، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟! فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم حملهما على الإسلام! وأمر بتخلية سبيلهما ونزل قول الله: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ". إن الإكراه لا يكون العقائد، إنه على العكس ينفر منها ويسىء بها الظنون، وطبائع الأشياء ترسم للعقائد طريقا يبدأ حتما من الحرية العقلية المطلقة. تتزاحم الأفكار والمبادئ أمام الإنسان فيؤثر منها ما يراه أولى بالاعتناق وأجدر بالاتباع، فإذا اختار فكرة ما خلطها بشعوره، ورأى على توالى الأيام أنها أصبحت شطر نفسه، ثم تمتزج بعقله وعاطفته فيصدر عنها فى تصرفاته ويحب ويكره على أساسها، وتزداد الفكرة تغلغلا فى وعى المرء، فبعد أن كان يدفع عنها كما يدفع عن نفسه، يفتديها بنفسه وأولاده وما يملك، والناس ليسوا سواء فى هذا المنطق، لأن منهم من لا يحسن التفكير والموازنة!. 094(1/85)
ومنهم من يعرف الحق ويصدف عنه!. ومنهم من يعرفه ويعتنقه.. ثم ينزل عنه تحت عوامل الترغيب!. ومنهم المرتزقة الذين يؤمنون بالمال ويكفرون من أجل المال يذكرون أنفسهم كثيرا ولا يذكرون الله إلا قليلا. ومهما اختلفت مشارب الناس وكشفت عن معادنهم تجارب الحياة فإن الدعامة الأولى للتدين حرية العقل والإرادة، والمنهج الأول للنبيين تربية الأمم بالإقناع والمحبة، وإثارة مشاعر الإعجاب والإقدام فى نفوسهم، وقد فعل ذلك صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ماذا كان يملك من القوة حتى يكره الناس على الإيمان؟. لقد جمع الناس على الله وسط عواصف عاتية من الغضب والمطاردة والعدوان وأشعل مصابيح الفكر بعد ما أطفأها التقليد وأخمدها الركود. وساق الدلائل البينة على صدق دينه فاحتشدت من حوله الألباب النيرة والقلوب الموقنة، وظل حياته يكافح فتن القبائل المغيرة، ويكلف صحبه أن يغرموا من أنفسهم وأموالهم للذود عن دينهم فكانوا يسارعون إلى ذلك فى سرور وترحيب، وجاءت أيام كان النطق فيها بكلمة التوحيد إشارة للهجوم واستباحة الحقوق. ومع ذلك قالها من انشرحت بها صدورهم وطابت بالبذل فى سبيلها أنفسهم. وبين الفينة والأخرى من مراحل العسف يجىء المشركون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه يحسبون أن التعذيب نال من يقينهم وأن ظلام المستقبل سيرجعهم إلى جاهليتهم فإذا بهم يسمعون إجابة القرآن: " قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين * قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ". 095(1/86)
كان المشركون يتوقعون أن يكبح الرسول صلى الله عليه وسلم عدوانهم بقوة تأتيه من السماء! فهم لفرط تكذيبهم يستعجلونها، وفى استعجالها لون من السخرية والتحدى يكيدون به المستضعفين من المؤمنين. غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه مكلفون بالصبر على هذا الكيد وإن حز فيهم. " قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ". فهل هذا المجتمع الذى- تربى فيه المؤمنون الأولون- يحمل أثارة من إكراه على دين؟. وصف " أرفنج " مواكب الحجيج تسير حاسرة فى شمس الصحراء المحرقة يجف منها الريق ويتصبب العرق، ولكن القلب ينضج بنور الإيمان فإذا بهم يجتمعون من مشارق الأرض ومغاربها ليقفوا خاشعين أمام مبعث النور ومهبط الوحى، أية قوة جمعتهم وآخت بينهم؟!. الفقير المعدم من وسط " أفريقيا " إلى جانب مهراجا " الهند " الذى يساوى وزنه ذهبا. الملك المسيطر فى أقصى الشرق ومعه الصعلوك الذى لا يجد قوت يومه !! أية اشتراكية؟ أية مساواة؟ أى سحر؟ هذا الذى نفذ إلى القلوب فمحا كل الفروق التى يسيل من أجلها الدم، وتقوم الحروب، وتفنى الحضارات! إنها معجزة.. هل تمت بقوة السلاح؟!!. كلا.. كان " هانيبال " و " الإسكندر " و " جنكيز خان " و " شارلمان " و " نابليون "، وعشرات من آلهة الحرب يدكون المدن والدول، ويسرى الرعب والخوف فى ركابهم ومع ذلك ذهبوا، وذرت الرياح ما شيدوا وأسسوا. 096
ولكن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمى الفقير الذى مات وهو يخصف نعله بيديه! ذهب جسده، وبقى روحه ودينه! وظلت رايته عبر القرون مرفوعة فى المحنة والنعمة على السواء لا تسقط، ولن تسقط أبدا.
منذ مائتى سنة وقف بريطانى كبير فى نافذة قصره، فى ضواحى " لندن " وأرسل بصره بعيدا إلى الشرق وسأل صديقه: أتظن الشرق يموت؟ فأجابه: كلا.. إن روحه تحميه!.(1/87)
أجل إنها روح محمد صلى الله عليه وسلم لا سفيه، ولن يغض من ذلك إرجات المستشرقين المزورين وخصوم الإسلام الأفاكين.
القتال:
ليس محمد صلى الله عليه وسلم أول نبى حارب، ولا آخر مصلح اضطر أن يحمل السلاح. وقد رأيت من استعراض الرسالات الأولى أن أكثرها ذهب ضحية الكيد الخبيث والمكر السيئ، وما دامت طبيعة الحياة لا تخلو من مبغضين للحق ومعوقين لسيره، فإنه لا يستغرب من أصحاب الحق أن يضعوا تجارب الماضى الطويل نصب أعينهم، وأن يتأهبوا لكفاح مر ضد أعدائه. وليس العيب أن تكون مدججا بالسلاح، وإنما العيب أن تسطو بسلاحك على الوادعين، أو تروع به الآمنين!. إن البشر لما كانوا بضعة إخوة، وقف أحدهما فى طريق الآخر مبارزا بالعداوة مستحلا للدم. " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ". وما لبث هذا التهديد أن استحال إلى جريمة نكراء. " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ... " فإذا نسل الأخ القاتل ألوفا من السفاحين المتعطشين إلى الجريمة، فهل ينتظر العباد الذين تقبل الله قربانهم، وزكى أفئدتهم أن يقادوا إلى المجازر قود الخراف الطيعة، لا يدفعون بأسا، ولا يردون عدوا!!. هذه هى الحماقة، والاستمساك بالسلم فى هذه الحال خطوة إلى الفناء، ورضا بالذبح. 099(1/88)
ذلك منطق الواقع، وقد تمشى معه فرض القتال على المسلمين، ومن قبلهم على النصارى وعلى اليهود، فليس القتال فريضة انفرد الإسلام بتقريرها.. بل سبقت الأديان الأخرى إليها، ونهضت بتبعاتها، والآية التى شرعت القتال فى الإسلام تشير إلى هذا التاريخ القديم. " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ..". هذا الجزء من الآية ناطق بأن المؤمنين هم الذين قوتلوا وظلموا وأخرجوا من بيوتهم، وأن هذا الهجوم الواقع بهم لا علة له إلا أنهم مؤمنون. فهل يسكتون على الضيم؟. إن نهاية هذا السكوت تدميرهم وتدمير رسالتهم معهم. لا بد من دفاع يحفظ به أتباع موسى وعيسى ومحمد- عليهم السلام- جميعا معابدهم التى يؤدون فيها حق الله عليهم. " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ". إنها حرب حقا، أذن الله بها سياجا للهدى وصيانة لمعالمه.. لم تشعلها مآرب النفوس ولكن فرضتها دواعى الغضب لله. لم أكن من جناتها علم الله وإنى بحرها اليوم صالى وتمحيصا لنفوس من خاضوها بذل الوعد بالنصر فيها لمن لا يستغل نتائجها لشخصه ومفاتن دنياه بل لمن يوجه ثمراتها إلى تمكين دينه وتوطيد عقباه. " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. ". 100(1/89)
فأى مطعن قد يتصيد لهذا القتال؟. وليست الحكاية فيه عن المسلمين فحسب، وإنما عن كنائس النصارى وبيع اليهود وصوامع العباد من كل لون. قد بين الله أن هذا القتال ضرورة لحفظ كل دين سبق ونصره أنبياء الله جميعا، ومن ثم ذكر أن الجزاء الموعود من نعيم الخلود، لم يسجل فى القرآن وحده، بل زفت بشرياته فى الكتب الأولى. " وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ". ومع ذلك فإن فريقا من الملحدين الحانقين على الإسلام يظاهرهم فريق آخر من أهل الكتاب الفاشلين، حلا لهم أن يتحدثوا عن القتال فى الإسلام كأنه بدعة انفرد بها فى الأولين والآخرين. *
بحث علمى أم دعاية استعمارية؟
إن الغرب المسلح من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. الغرب الذى يجر وراءه ألوفا من الأمم المأسورة، والدول المقهورة بعدما كسر شوكتها بقوته الباطشة. الغرب الذى رسم الصلبان ـ رمز التضحية ـ على رايات تظلل جيوشا طالما اشتغلت بالسلب والنهب، وانطلقت فى مشارق الأرض ومغاربها تثير الرعب والفزع. هذا الغرب العنيد هو الذى ينشر بحوثا علمية نزيهة (!) لإثبات أن الإسلام قام على السيف، ذلك جهد كثير من المستشرقين الذين أخضعوا العلم لنزعات الهوى والتعصب الذميم. 101(1/90)
ومتى يقال هذا؟ فى الوقت الذى جثم فيه الغرب المسلح على الشرق الأعزل يبغى هلاكه .. والقصد البين منه تسويغ منطق القوة العمياء الذى نعامل به ، وصرفنا عن إعداد العدة التى نسترد بها خسائرنا ، ونحامى بها عن مقدساتنا ، وقد وصل ساسة الغرب ومستشرقوه إلى هدفهم ، وتكون جيل من المسلمين يحسن الظن بمستقبل الحق العارى عن القوة فكان الفشل مصير قضايانا كلها ، وأصبح البغاث يستنسر بأرضنا !! ألسنا أهل رأى لا أهل قوة ؟ لو كنت من مازن لم تستبح إبلى بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا لكن قومى وإن كانوا ذوى نفر ليسوا من الشر فى شئ وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته ! سواهم من جميع الناس إنسانا فليت لى بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا من النقائض أن الإسلام دين عرف عنه العدل الحاسم فهو يقول : (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ابتع العدل الفضل فقرر الأول ورغب فى الثانى فاعترف بالعقوبة وأثاب على المغفرة. أما المسيحية فقررت السماحة رأسا ، وأوصت بأن : " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" فلما طبق أهل كل دين ما عندهم وأقاموا فى أرض الله دولتهم كان المسيحيون يبادرون إلى لطم من يلقاهم ، وكان المسلمون يقابلون السيئة بالحسنة. 102(1/91)
فعندما دخل الصليبيون بيت المقدس فى القرون الوسطى ذبحوا سبعين ألف مسلم، وكتب القائد المسيحى إلى البابا يبشره بأن سنابك خيله تخوض بحرا من دماء المسلمين. فلما استرجع المسلمون البيت بقيادة " صلاح الدين " أعلنوا عفوا عاما وسمحوا لأعدائهم بالهجرة موفورين.. وقد حفظت دول أوروبا هذا الصنيع وردته فى عصرنا الحديث إلى المسلمين مضاعفا حين استجلبت اليهود المشردين فى أنحاء العالم، وأسكنتهم دور العرب بفلسطين، وتركت ألوف الأسر فى العراء، لاجئين يعيشون على البرد والطوى، ويحصدهم الذل والهوان والمرض. نحن نعلم أن للمسلمين والنصارى أخطاء لا يسأل عنها الإسلام ولا المسيحية، بيد أنه إذا كان لا بد من الحديث عن السيف وانتشار المبادئ به، فآخر من يتكلم عن ذلك أهل أوروبا الذين لا ينتسبون فى أفعالهم إلى دين أو شرف.
رد العدوان:
علامة الجهاد فى الإسلام دفع البغى وكسر شرة المعتدين. " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ". فلا يجوز لمسلم أن يعتدى لأنه يتعرض لسخط الله، وإذا اقتص لعدوان وقع عليه فليرد اللطمة بمثلها لا يتزيد. " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ". 103(1/92)
هذه تعاليم من ناحية مظهرها تحمل طابع الدقة، ومن ناحية جوهرها تنضبط بقيود مشددة من تقوى الله، الذى حورب المؤمنون من أجله سابقا، ويحاربون باسمه لاحقا، ولا نعرف عفافا فى ردع الأشرار وحماية الذمار، والإمساك بزمام القوة حتى لا تطغى كهذا العفاف الذى أمر المسلمون به. وهناك نصوص أخرى سنسردها ونشرحها لأن النظر القاصر أو العابث قد يراها مخالفة لهذا المبدأ الأصيل. وقبل أن نفعل ذلك نريد أن نذكر بحقيقة لا معدى عن توكيدها وإن كانت بدهية، هى أن قطع النص عن السياق الذى جاء فيه والملابسات التى تكتنفه يؤدى بنا إلى إفساد النص ومسخ معناه: أى إلى تحريف الكلم عن مواضعه، ولعل من ذلك قول الشاعر المهذار: ما قال ربك ويل للأولى سكروا! بل قال ربك ويل للمصلينا! ومن الناس من يستدل على ميل الإسلام إلى العدوان وإيقاعه الفتن وتحريشه بين الناس بحجج لا تخرج فى نسقها عن طريقة هذا الشاعر المخمور. مثال ذلك أن يجىء أحدهم إلى آية من عرض السورة فيبترها عما قبلها وما بعدها مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ". فيفهم من الآية أن الإسلام ينهى نهيا جازما عن مصادقة اليهود والنصارى، ويوجب قطع علائقهم، ويهدد المسلم الذى يصادقهم بأنه انفصل عن الإسلام والتحق باليهودية والنصرانية، وهذا كما ترى، ما تشير إليه الآية مجردة، والمعنى بهذا التعميم باطل، والآيات اللاحقة بهذه الآية المرتبطة بها فى موضوعها تحدد الموضوع بجلاء لا يحتمل خلالا، فالحق أن الآيات نزلت تطهيرا للمجتمع الإسلامى 104(1/93)
من ألاعيب المنافقين ومن مؤامراتهم التى تدبر فى الخفاء لمساعدة فريق معين من أهل الكتاب أعلنوا على المسلمين حربا شعواء واشتبكوا مع الدين الجديد فى قتال هو ـ بالنسبة له ـ قتال حياة أو موت. فاليهود والنصارى فى هذه الآية قوم يحاربون المسلمين فعلا، وقد وصلوا فى حربهم إلى منزلة من القوة جعلت ضعاف الإيمان يفكرون فى التحبب إليهم والتجمل معهم، فنزلت الآية المذكورة ونزل عقيبها وفى نفسها ما يفضح نوايا المتخاذلين في الدفاع عن الدين الذى انتسبوا إليه " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " ثم تستطرد الآيات فى تعليق المؤمنين بدينهم وتوصيتهم بتدعيم صفوفهم وتذهب عنهم وحشة الغربة بعقائدهم وسط المتربصين والمتهجمين.. ثم تعود مرة أخرى لتؤكد مقاطعة المحاربين للإسلام من أهل الكتاب مسوغة هذه المقاطعة بأنها رد للعدوان " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون". فهل ثم ضير على دين ما إذا منع أتباعه من مصادقة السفهاء الذين يتهكمون بتعاليمه ويسخرون من شعائره؟. وهل يعتبر هذا تحديا أم بعدا عن أسباب الخصومة والتحدى؟. *105(1/94)
ومن هذا القبيل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ". فالآية مقولة، والخصومة بين المشركين فى مكة والمسلمين فى المدينة على أشدها، والحرب الدائرة بين الفريقين لما تستقر على نتيجة حاسمة، وقد أعلن المشركون هذه الحرب لأول مجاهرة بالدعوة، ثم زادوها حدة بطرد المسلمين من ديارهم وأموالهم، ولذلك مضت الآية تقول: " .. يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ..". والمودة التى نزلت الآية باستنكارها، يستنكرها كل نظام حربى فى الدنيا، وهى ـ كما روى ـ معلومات عسكرية أسر بها صحابى فى حالة ضعف نفسى إلى قادة الشرك بمكة، ولولا يقظة المسلمين والرقابة التى فرضوها على الطريق لوصلت هذه المعلومات إلى خصوم الإسلام فأضروا بمستقبله أبلغ الضرر، إن ولاية الكفار ـ والحالة هذه ـ خيانة عظمى. وقد هم عمر بقتل صاحبها، لولا أن للرجل ماضيا كريما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعفو عنه. وفى التعقيب على هذه الحادثة ما يدل على اتجاه الإسلام الحار إلى المسالمة والصفح.. لقد جاء فى شأنها قول الله ـ عز وجل ـ: " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ". وانظر كيف يترقب عهود الأمن والطمأنينة بشوق ورغبة؟. 106(1/95)
أجل إنه يترقبها ويكشف فى صراحة أن سيادة المودة والصفاء بين الناس أصل فى تقرير العلائق بينهم، وأن طوارئ الخصومة ومظاهر الجفوة يجرها الآخرون بتعديهم واستهتارهم، وأن الإسلام وأهله أبرياء من إثارتها، ولذلك يمضى النظم الإلهى الكريم فى التعليل لمنع الموالاة فيقول: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ". هل يستغرب من الإسلام أن يكره عرب فلسطين اليهود الذين طردوهم من مدنهم وقراهم واحتلوها؟!. أو هل يستغرب منه أن يبغض هؤلاء العرب المقهورين الإنجليز والروس والأمريكان الذين أعانوا اليهود على هذا السطو ومكنوهم من قتل الأبطال واستباحة النساء؟! أو هل يستغرب من الإسلام أن يثير حفائظ القاعدين، ويؤجج نيران المجاهدين حتى يسترجع المهزومون ما فقدوا، ويكتسحوا أعداءهم أو يستأصلوهم إذا بقوا مكابرين بباطلهم؟ وهل يستغرب من الإسلام أن يعد مصادق اليهود فى هذه الظروف المعنتة خائنا لدينه.. عدوا لربه ولنفسه؟. إن هذا ما صنعه الإسلام قديما ويصنعه اليوم!!. أما إذا اختفى العدوان وامتنع التحدى فالصداقة والتواصل والمودة والتراحم عواطف لا حرج عليها بين المسلمين وأهل الكتاب أجمعين. وحسبك أن الله أهدر اختلاف الدين فى اختيار الزوجة ويسر للمسلمين واليهود والنصارى أن تجمعهم مائدة وفراش واحد. 107(1/96)
" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ". والدين الذى يسمح باختلاف الدين فى بيت صغير تتلاقى فيه الوجوه، وتتقارب الأبدان وتشتبك المشاعر، ولا يضيق ألبتة باختلاف الدين فى وطن كبير تتسمع فيه المصالح، وتتعدد الحاجات والكفايات، ويستحب فيه التعاون على بلوغ الغايات. إن الإسلام لا يبسط يده بالأذى إلى أى من خلق الله، وقد بعث نبيه رحمة للعالمين، وبركة للناس أجمعين. بيد أن الإسلام و إن آثر السلام يبغض النية المدخولة، ويحذر الصدور المنطوية على الضغينة، وينبه أعداءه إلى أنه لا يجور، ولا يضام. " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم... ".
منع الفتنة:
كما يحارب الإسلام دفعا للعدوان، يعبئ قواه كلها منعا للفتنة! والفتنة التى تكرر فى القرآن ذكرها على أن إطفاءها نهاية للحرب المعلنة من جانبه، تعنى استغلال السلطة لمصادرة الحق ومطاردة أهله، كما فعل ألوف الطغاة قديما وحديثا. وقد علمت أن الإسلام يبنى جهاده على أن الإكراه لا يؤسس عقيدة. فهو لا يضغط على أحد حتى يلجئه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وفى الوقت 108(1/97)
نفسه لا يقبل من قوة غاشمة أن تضطهد المؤمنين وترجعهم إلى الجاهلية التى طلقوها. والجو الذى ينشده الإسلام هو الجو الذى يتنفس فيه الإنسان هواء الحرية الطليق ملء رئتيه. يقبل المرء فيه على الرأى الذى يستصوبه، فلو ترك الإيمان بالله ورسوله لأنه يقتنع بذلك، فليس من سبيل لأحد على إرغامه أن يؤمن!. وهذا ما قرره القرآن الكريم فى مواضع شتى: " نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد". " ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ". " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر ". " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق... ". وقد خلط قوم من الباحثين فى فهم هذه الآيات خلطا شنيعا، وساروا فيها على نهجين متناقضين كلاهما شارد عن الصراط المستقيم، فمنهم من فهم من هذه الآيات أنه لا حكم فى الإسلام!! وأن نفى الإكراه يقتضى إسقاط الحكومة من تعاليم الكتاب والسنة. كأن ثوار فرنسا لما أعلنوا حقوق الإنسان وحرية الرأى المطلقة امتنعوا عن تكوين حكومة تمثل مبادئ الثورة!. 109(1/98)
إن الحكومة فى الإسلام حق لا يحتمل ريبة، وهى لا تعنى ـ إذا قامت ـ لتنفيذ أحكام الإسلام أن تقهر رجلا على دين يرفضه، فإن الحرية الدينية من أحكام الإسلام الذى تشرف الحكومة الإسلامية على تنفيذه. وهناك فريق فهم أن هذه الآيات نسخت بإقامة حكم يقاتل الكفار أبدا، ويعلن عليهم حربا شعواء ، لا تنتهى حتى يبيدوا ! كلا الفريقين مخطئ، بعيد عن إصابة الحق فى مقاصد القرآن، فإن الدولة التى يقيمها الإسلام ممثلة لدعوته لا يمكن ولا يجوز أن تخرج فى أساليب الدعوة عن الحدود التى رسمها الله ـ عز وجل ـ وإلا اعتبرت خارجة على نفسها، وأساس الدعوة الأول: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.. ". وأساس استخدام القوة المقاصة: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ... ". وأساس إعلان الحرب هدم السلطات الفاجرة لتتوطد أركان الحرية العقلية وتتراوح عوائق الاستبداد عن طريق الناس. والقتال شر! ولكن لا بد منه لإزالة شر أشد، وعلى ذلك قبله الإسلام ودفع جنوده لخوضه. لما استكثر المشركون القتال فى الشهر الحرام، وافتعلوا ضجة كاذبة للإرجاف بالمسلمين نزل قوله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل..". 110(1/99)
والفتنة هنا نشأت من تسلط الكفار على المؤمنين وإحراجهم بسبب دينهم الجديد حتى أخرجوهم من ديارهم، وحق على الدولة المسلمة أن تكافح هذه السلطة الجائرة، فلا تتركها إلا مقلمة الأظافر مهشمة الأنياب. وقد حض الله ـ سبحانه ـ على ذلك، وأمر بمتابعة الهجوم على ذوى السلطان الجائر ومصادر الاستبداد الأعمى حتى تطهر الأرض منهم. " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ". وهذا الأمر الواضح بالقتال، حتى تنتهى الفتنة، ذيل بمعان تشير إلى ملابساته التى فرضته، فإن ترك الفتانون جرائمهم فيها، فأمرهم إلى الله، ولا سبيل لنا عليهم، وإن رفضوا استعنا بالله على كف أذاهم.. واستعددنا لمعاودة قتالهم. ذلك ـ والغرض المتعين من هذه الحرب ـ تعبيد الطريق أمام الآراء كلها، ليتمحص الحق والباطل، وعندئذ تتخير النفوس ما تهواه. " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ". على أن هناك من يريد بالقوة إبطال الحق وإحقاق الباطل! والإسلام لا يترك أولئك أحرارا، وما ينبغى له ذلك بل يقاتل " ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ". 111(1/100)
معاملة خاصة:
غير أن مشركى الجزيرة العربية لم يمنحوا هذا القسط الكامل من الحرية العقلية التى تبيح لهم البقاء على عبادة الأحجار إذا شاءوا أو الدخول فى الإسلام إذا عقلوا!. وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم- إلا بحق الإسلام- وحسابهم على الله". والمراد بالناس فى الحديث عبدة الأوثان من العرب خاصة ـ وقد أجمع على ذلك العلماء ـ فلم هذه المعاملة؟ أوليست إكراها على الدين؟ ولماذا عدل الإسلام عن خطته الأصلية فى عرض دعوته؟ ألأن أولئك الجهال قد أسقطوا كرامة عقولهم بعبادتهم أحجارا صمّا لا تسمع ولا ترى فحسنت زحزحتهم بالقوة ـ وفى ذلك مصلحتهم كما لا يشك عاقل؟؟. لا.. فلو كان كذلك لعامل الإسلام عباد العجول والأشجار والأصنام بهذا الأسلوب فى كل بلد نزل به، ولكننا نلاحظ أنه عامل المجوس معاملة أوسع وأرق، وأعطاهم حق الاختيار بين دينهم والإسلام. أخرج مالك عن جعفر بن محمد أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدرى ما أصنع فى أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". وأخرج عن ابن شهاب قال: بلغنى أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عمر أخذها من مجوس فارس، وأن عثمان أخذها من البربر. الحق أن الإسلام أعطى مشركى الجزيرة حق البقاء على الوثنية ما طابت بها 112(1/101)
نفوسهم، على أن يتركوا الحرية لمن هجرها إلى الإيمان بالله وحده فلا يفتنوه أو يضطهدوه.. وظهر ذلك جليا أول الإسلام من قوله تعالى: " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم *ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين ". بيد أن هؤلاء المشركين الحمقى ركبوا رءوسهم وسيطرت عليهم فكرة القضاء على الدين الجديد واستئصال شأفته والمغامرة بكل شىء فى سبيل محوه، ومحق أتباعه فإما طاحوا به، وإما طاح بهم، وشاء القدر الأخير. فإن الرسول وصحابته ظلوا عشرين عاما يسمحون للمشركين بالبقاء على دينهم، راجين منهم أن يتركوهم وشأنهم، ثم اتضحت نوايا المشركين الخبيثة. " إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ". " وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ". وصدق فيهم ما قال نوح فى قومه بعدما يئس من رشدهم: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا ". فلم يبق بد بعد أن اختاروا لأنفسهم أن يبيدوا المسلمين أو يبادوا- أن يتخلص الإسلام من شرهم، وأن يضعهم بين أمرين لا ثالث لهما. وإذا صحت تسمية هذا المسلك عقوبة، فإن حكمته مفهومة، وتضييق الحرية على المجرم وقاية للمجتمع من آثامه أمر جائز. 113(1/102)
وهذا النظر فى إيقاع العقاب على مستحقيه ينطبق مع أحدث الأفكار النفسية والسياسية. * فإذا انتفى العدوان وأمنت الفتنة فلا مكان لقتال، وحمل السيف عندئذ جريمة وقد وضح القرآن الكريم ذلك: " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا". وأكد الدوافع التى تضطره إلى خوض المعمعة وتحمله على شهر السلاح: " فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ". وطريق الدعوة العتيد فى غرس الإيمان وتدعيم الحق هو البيان لا السنان والإرشاد المجرد لا الإكراه المقيت. " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ". *وهناك مسألة تحتاج إلى تمحيص وفقه، وهى علاقة الإسلام، بأهل الكتب الأولى من يهود ونصارى، أليست تخضع خضوعا تاما للمبادئ التى شرحناها ودعمناها بأدلتها؟ ونحن نجيب: بلى.. إنها تخضع لها خضوعا تاما ، وإذا لم تسر هذه المبادئ على اليهود والنصارى فعلى من تسرى إذن؟. 114(1/103)
وهنا يرد سؤال آخر: فما معنى قتالهم حتى يدفعوا الجزية؟ وذلك ما تشير إليه الآية: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ". والجواب أن الآية المذكورة ـ فى ضوء النصوص السابقة ـ لا تنطبق إلا على المعتدين الفتانين من اليهود والنصارى، الذين نزل فيهم قول الله من قبل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. ". وقد أبنا من هم المعنيون بهذه التوجيهات. يقول الشيخ محمود شلتوت شارحا هذه الآية: "إنها تأمر باستمرار مقاتلة طائفة هذه صفتها:" لَا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليوْمِ الآخِرِ "... إلخ، قد ارتكبت من قبل مع المسلمين ما كان سببا للقتال من نقض عهد، أو انقضاض على الدعوة ووضع للعراقيل فى سبيلها، فهى لا تجعل عدم الإيمان وما بعده سببا للقتال، ولكنها تذكر هذه الصفات التى صارت إليهم تبيينا للواقع وإغراء بهم بعدما تحقق العدوان منهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يحللون لهم بالهوى ويحرمون، غير مؤمنين بتحليل الله ولا تحريمه، وليس عندهم ما يردعهم عن نقض عهد ومصادرة حق ولا رجوع عن عدوان وبغى. هؤلاء هم الذين تأمر الآية باستمرار قتالهم حتى نأمن شرهم، ونثق بخضوعهم، وانخلاعهم من الفتنة التى يتقلبون فيها، وجعل القرآن على هذا الخضوع علامة، هى دفعهم الجزية التى ستنفق فى المصالح العامة للمسلمين وغير المسلمين. 115(1/104)
فليست الجزية كما يتصورها بعض الناس بدلا عن إسلامهم أو دمائهم، وإنما هى علامة كفهم عن القتال ومصادرة الدعوة. ثم هى مقابل لحماية أنفسهم وأموالهم. ذكر أبو يوسف فى كتاب الخراج أن أبا عبيدة بعدما صالح أهل الشام، وجبى منهم الجزية والخراج، بلغه أن الروم قد جمعوا له، واشتد الأمر عليه وعلى المسلمين، فكتب إلى أمراء المدن التى تم صلحها أن يردوا عليهم ما جبى منهم من الجزية والخراج، وأن يقولوا لهم: إنما رددنا لكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا لكم ما أخذنا منكم! ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم!!. وفى هذه الآية ما يدل على سبب القتال الذى أشرنا إليه وهو قوله تعالى: " وَهُمْ صَاغِرُنَ " وقوله :" عَنْ يَدٍ " فإنهما يقرران الحال التى يصيرون إليها عن أخذ الجزية منهم، وهى خضوعهم، وكونهم بحيث يشملهم سلطان المسلمين، وتنالهم أحكامهم، ولا ريب أن هذا يؤذن بسبق تمردهم وتحقق ما يدفع المسلمين إلى قتالهم. هذا هو المعنى الذى تفهم عليه الآية، ويساعد عليه سياقها، وتتفق به مع غيرها، ولو كان القصد منها أنهم يقاتلون لكفرهم، وأن الكفر هو السبب الوحيد لقتالهم، لجعلت غاية القتال إسلامهم، ولما قبلت منهم الجزية وأقروا على دينهم.. 116(1/105)
القتال قبل الإسلام:
جاء الإسلام والعرب وغير العرب يشتبكون فى حروب لا تحصى، ولأغراض لا طائل تحتها. فأما الدولتان الكبيرتان على عهد النبوة فقد كان القتال بينهما سجالا فنيت فيه جيوش ضخمة، وناءت بمغارمه الشعوب المسكينة، وإذا ذهبت تسأل عن سره لم تجد إلا مطامع الملوك الأقدمين، ورغبتهم المجنونة فى الفتوح والتوسع، تمكينا لعروشهم وزيادة فى أبهتها ومجدها. وأما العرب أنفسهم فقد أكلتهم الغارات المتبادلة، وكان الغزو والسطو مترادفين، وطالما اشتعلت بينهم الحروب لأسباب تافهة، حتى صار القتال عادة لهم، بل طبعا فيهم، فإذا لم يجدوا إلا الغارة على الأقارب شنوها: وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا وربما لا يرى الواحد منهم بأسا فى استياق ناقة يصادفها إذا شعر بحاجة إليها ثم يقول غير عابئ : ولا أسأل الحبس اللئيم بعيره! وبعران ربى فى البلاد كثير..! فلما تفجر ينبوع الإسلام فى هذه القلوب الصلدة، وانتعشت بتعاليمه هذه العصور الجافة، وأقبل العالم على حضارة تجعل الإيمان صنو الأمان والإسلام قرين السلام، وتقطع مطامع النفس ووساوس الشيطان، والعدوان على حقوق أى إنسان وتهتف بقول الحق: " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ". طلع على الناس فجر جديد فى تحديد العلاقات العامة وصيانتها من العبث 117(1/106)
والمظالم وأصبح قتل إنسان ظلما، أو مصادرة ماله غصبا جريمة من أقبح الجرائم وأحقها بسخط الله. *وأخذت الدعوة طريقها بين الناس فإذا بقطاع الطريق يمنعون سيرها ويؤذون أهلها فشرع الله القتال وحصره فى حدود الدائرة التى رسمنا خطها آنفا. وتضافرت توجيهات الكتاب والسنة على إخلاص النية فيه لله، وتمحيصه لنصرة الحق، والتسامى به عن أغراض النفس وأعراض الدنيا. عن أبى هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله.. رجل يريد الجهاد فى سبيل الله وهو يبتغى عرضا من الدنيا؟ فقال: " لا أجر له "!! فأعاد عليه ثلاثا. كل ذلك يقول: " لا أجر له ". وعن أبى موسى ـ رضى الله عنه ـ قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أى ذلك فى سبيل الله؟. قال: " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " . وقد سارت الكتل الكبرى من جيوش الإسلام الأولى، وهى مضرب المثل فى اقتحامها الغمرات الصعاب، ابتغاء وجه الله وأملا فى رضاه وتطلعا إلى جواره الكريم فى ديار النعيم. على أن فطام النفوس كافة عن مآرب الحياة الصغيرة أمر متعسر، وخاصة بين قوم كانت جاهليتهم لا تدير الحرب إلا للسلب والنهب. ولكن علاج الدين للحوادث التى وقعت على ندرة، وظهر أن القتال لم يدر فيها للأغراض التى اعترف بها الإسلام، هذا العلاج يدل على مبلغ تقديس الدين للمبادئ التى يحل القتال من أجلها فقط، وعلى إضاءة هذه المبادئ بألوان كاشفة كلما ضلت عنها الأنظار القصيرة . 118(1/107)
عن الحارث بن مسلم قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية، فلما بلغنا المغار استحثثت فرسى فسبقت أصحابى، فتلقانى أهل الحى بالرنين، فقلت لهم : قولوا: لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوها: فلامنى أصحابى! وقالوا: حرمتنا الغنيمة ! فلما قدمنا على رسول الله أخبروه بما صنعت، فدعانى، فحسن لى ما صنعت، ثم قال لى: " أما إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر "، وقال : " أما إنى سأكتب لك بالوصاة بعدى " ففعل، وختم عليه، ودفعه إلى. تأمل فرحة الرسول بهذا الرجل وإشادته بصنيعه وتنويهه بما اكتسب من ثواب وتوصية الخلفاء والأمراء من بعده أن ينتفعوا بسياسته فى الحرب، لأنها مبنية على التقوى وصدق الإيمان. إن فى ذلك دلالة على الرغبة فى حقن الدماء وسوق النفع المجرد إلى الناس ابتغاء ما عند الله. وحدثت فى قصة أخرى برز فيها التطلع إلى الدنيا، وغلبت فيها دسائس الطبع الإنسانى، فلم ينشب القتال فى الحدود التى رسمها الدين بل تعداها تعديا سيئا، وقد غضب رسول الله منها أشد الغضب، ونزل فى شأنها قول الله ـ عز وجل ـ : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ". ونحن نتكلم عن سلامة القانون المنظم لشن الحرب وإقرار السلم، ونتبع المخالفات التى طرأت عند تطبيقه لنتكشف طبيعة الدين فى حسمها، وبديهة العقل تشهد بأن المخالفة لقانون لا تطعن فى قيمته. ولا ننكر أن هناك ملوكا مسلمين خلطوا أقبح خلط فى حروب شتى أشعلوها باسم 119(1/108)
الدين ، والدين من سياستهم فى القتال والسلام برىء! فهل تحسب أن الأخطاء التى ارتكبها هؤلاء الملوك ضاق بها من لم يدن بالإسلام فحسب؟. الواقع أن المسلمين شقوا بها قبل غيرهم، ودفعوا ثمن هذه الأخطاء المحزنة من كرامتهم فى الدنيا وسعادتهم فى الآخرة. كان سلاطين الترك يقذفون بجيوشهم حيثما اتفق.. فتحوا مصر المسلمة كما فتحوا اليونان المسيحية! وفرضوا الجزية على كليهما، وخربوهما معا!!. أفكان ذلك نزولا على هدى الإسلام؟. كلا.. كلا.. إنما هى طبيعة الاستبداد والاستعلاء. وأولئك الملوك المجرمون لايهمهم من الدين إلا القدر الذى ينكسون به رءوس الرعايا ويجعل طاعتهم من طاعة الله.. فإذا اطمأنوا إلى ذلك سلكوا طرق الغواية، واستغلوا السلطة المخولة لهم فى تدعيم دين جديد من الوثنية السياسية الطائشة، لا يحترم كتابا ولا سنة. وهذا الصنف من الملوك لم ينكب به الإسلام وحده فى العصور الأولى، بل نكبت به الديانات الأخرى، وأصيبت من شره بأشد مما أصبنا به. وما نستطيع وصف الحروب التى دارت بين الفريقين بأنها حروب دينية نظيفة القصد والهدف، فإن جلها ـ إن لم يكن كلها ـ التبس بمآرب دنيوية خسيسة وأطماع شخصية تافهة، وبينها وبين حروب النبيين والصديقين الأولين بعد المشرقين!. 120(1/109)
الارتداد وحرية الرأى!
هل لمسلم أن يرتد عن دينه ويبقى مصون الدم؟. كان الارتداد عن الدين جزءا من حرية العقل والضمير التى أقام الإسلام عليها دعوته، فمن شرح الله صدره بالإسلام بقى عليه وعاش فيه، وإلا خرج وكفيت جماعة المسلمين شره!. وظل هذا الحكم قرابة عشرين سنة منذ بعثة النبى صلى الله عليه وسلم ، وكان شرطا مقررا فى معاهدة الحديبية. روى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبى فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا! فقالوا: يا رسول الله.. أنكتب هذا؟ قال:، نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ". وقد رأى المسلمون غضاضة شديدة فى قبول هذا النص من المعاهدة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم- بوحى من الله- أن ينزلوا عنده، فقبلوه مكرهين، وليس أبلغ من هذا المسلك فى الإبانة عن سماحة الإسلام ونزعته إلى إقرار الحرية العقلية والنفسية بين الناس أجمعين. غير أن كيد خصوم الإسلام له استغل هذه السماحة فى النيل منه، فتأمر اليهود فيما بينهم على أن يتظاهر فريق منهم بالدخول فى الإسلام، فيثبتوا استعدادهم لترك دينهم القديم، ويبرءوا من تهمة التعصب له، ثم يرتدوا بعد ذلك عن الإسلام ليشيع بين جماهير الأميين أن اليهود ما هجروا الدين الجديد إلا لما استبان لهم من بطلانه وتفاهته. " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم... ". 121(1/110)
فهل يسكت الإسلام على هذا التلاعب؟ وهل يداويه بمنع الدخول فيه، أم يحظر الخروج منه؟. وثم شىء آخر يتصل بمعنى الردة وأسلوب التمرد على الدين وجحد تعاليمه، قد يكفر البعض بالله فى سريرتهم، فلا يعلم أحد بكفرهم، وقد يبدو هذا الكفر فى تصرفات مستخفية ومواقف مائعة، وتكشف الأحداث المتتابعة عن نفاق أولئك القوم وخبث طويتهم، ومع ذلك فإن الإسلام لم يأمر بقتل هؤلاء، بل المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم رفضه الإذن بقتلهم. ولكن الارتداد الحاسم عن الإسلام ومعالنة المسلمين بالانفصال عن الدين معالنة تنطوى على النيل من قواعده والإنكار لأصوله تشبه فى أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمى وتستحق العقاب الذى تواضع الناس على رصده لهذه الجريمة المنكرة. فإن الإسلام كان يواجه حربا تستهدف اجتثاث جذوره، حربا تريد رد جمهور المسلمين عن الدين الذى ارتضوه. " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ". " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم…". وكان المرتد المعالن يترك هذه الجبهة لينحاز بسيفه إلى الجبهة المناوئة، وربما كان أشد خطرا على الدين ممن بقوا على شركهم فلم يدخلوا الإسلام لينسلخوا عنه بعد قليل!. فكيف يطلب من الإسلام أن يمنح هؤلاء المرتدين حق الحياة ليشاركوا فى قتله. إن المسألة هنا خرجت كل الخروج عن نطاق الحرية العقلية المنشودة، ودخلت فى 122(1/111)
تحديد الدائرة التى تدفع بها الجماعة عن مصلحتها ضد الحرية الشخصية الطائشة، ويوم يصل الأمر فى عصرنا هذا إلى حكم يبيح لامرئ أن يبيع وطنه، أو لفرد أن يعرض مستقبل أمة للخطر، فإننا سنبيح باسم الإسلام أن يرتد عن الإسلام من يشاء. والصحيح أن المرتد أحق الناس بوصف الكفر وأجدرهم بالعقاب عليه فالكفر الصراح هو جحد الحق بعد معرفته، أى أنه ينشأ عن فساد فى النفس لا عن قصور فى العقل وهنا مناط المؤاخذة، وهل أحق بها من قوم: " يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ". ويوم يتبين الهدى لرجل ثم تنزعه بواعث الهوى، ثم تسخره فى حربه فلا جرم أن يقطع عنقه. أما الشبه العارضة والوساوس التى يلتمس لها صاحبها علاجا من الفكر السديد والدلائل القوية فليست ردة، ودون ثبوت الردة على المتهم بها مراحل طوال، ولا يلتفت فيها إلى تسرع العامة، وأهواء الجهال. * 123
الرقيق 124(1/112)
الرقيق:
إذا ذكر الرقيق ارتسمت أمام العين صور شائهة لأسواق النخاسة التى أقامها قناصو البشر، وتاجروا فيها بأناس أطهار، أبرياء، نفوسهم لا شك أنظف وأنقى من نفوس الخطافة الذين اصطادوهم، ومن نفوس المترفين الذين اشتروهم ليسودوهم ويستغلوهم. وإن المرء ليشمئز من تصور إنسان كريم على الله، يجب أن تتوفر له أسباب التكريم بين الناس، ثم إذا هو يتحول فجأة إلى سلعة تتداولها الأيدى كما تتداول كلاب الحراسة أو أبقار الحرث!!. ولماذا؟.. لغير شىء، إلا لأن الدنيا سقطت فى أيد لا تعدل ولا ترق، وهيمن على تصريفها نفر من المستبدين ملئوها بالتقاليد المنحطة . إن الرقيق الذى قامت على كواهله حضارة الرومان والإغريق والفرس وظل يزحم الأسواق فى الشرق والغرب، وظل يتنقل من أوروبا إلى أمريكا حتى مطلع القرن السابق، هذا الرقيق لا يعرفه دين، ولا يقره عيسى ولا محمد - عليهما السلام- وإن عمرت به قصور السلاطين الذين حكموا باسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقصور البابوات والأباطرة الذين حكموا باسم عيسى عليه السلام. فإن الكثرة الساحقة من هؤلاء وأولئك ملوك مستبدون لا يربطهم بأديانهم نسب عريق، والمجتمعات التى عاشت بهم، وخاضوا فيها، أبعد ما تكون عن هدى الأديان ورضا الرحمن. *ومن المدهش أن فريقا من الشباب الذى احتكرت عقله ثقافة الغرب، يريد أن يحمل الإسلام ـ وحده ـ تبعات الاسترقاق الذى اجتاح وباؤه الدنيا كلها إلى عهد قريب!. 125(1/113)
ويريد أن ينسب الفضل فى تحرير العبيد إلى بعض الرجال النابهين فى أوروبا وأمريكا. ونحن لا ننكر أن المسلمين نزلوا بدينهم إلى الحضيض، ومرغوا سمعته فى التراب. ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق، وبالباطل!! ولكن من الإنصاف ألا ننسب الجريمة العامة إلى بعض الظالمين دون بعض، فإن المسلمين وغير المسلمين سواء فى هذه البلية، وأسواق النخاسة لم يعرفها الشرق ويجهلها الغرب! ولقد دار القتال الأهلى فى الولايات المتحدة بين الشمال والجنوب لإنهاء عهد الرقيق . فهل كان الإسلام مسئولا عن رقيق أمريكا؟!!. وقد يكون لحضارة أوروبا فضل القضاء على الرق الفردى، غير أنها لم تفعل ذلك تكريما للإنسان، واحتراما لحقوقه وتقديسا لحرياته. كلا.. فقد استبدلت الرق الجماعى بالرق الفردى وتحولت من استذلال فرد لفرد إلى استذلال جماعة لجماعة، ولعل ذلك لا يعود إلى ترقٍّ فى طبيعة الإنسان بل إلى تحوير فى أساليب الطغيان. جاء الإسلام والرق من دعائم الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى العالم كله، وأسباب الاسترقاق تتبع منازع الشهوات وعربدة القوى المتحكمة، فاتجه هذا الدين إلى استنقاذ أولئك البائسين من السجون التى يدورون داخل قضبانها أبدا، وكان من أوائل الوحى النازل بمكة فى صدر الإسلام قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة. 126(1/114)
وليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله نص يأمر بالاسترقاق، ولكن هناك مئات النصوص تدعو إلى العتق. ومن قواعد الفقهاء التى يرجعون إليها فى شتى الأحكام أن الشرع يتشوف إلى الحرية !. ولما كانت مساكة الأرقاء شديدة التعقيد وقتئذ، فقد تدرج الإسلام فى حلها كما تدرج تحريم الخمر. وجملة التعاليم التى بين أيدينا من الكتاب والسنة، تشهد بأن الإسلام عند ظهوره وجد منابع الرق كثيرة، ومصارفه قليلة أو معدومة، فكثر المصارف ونظمها ووسعها، وردم المنابع أو وضع لها من الوصايا ما يجعلها تجف من تلقاء نفسها. وقد تسأل: لماذا لم يتعجل الغاية المنشودة؟ وما الذى يضطره إلى التدرج فى علاج قضية لها خطرها فى حاضر الحياة ومستقبلها؟. ونحن نسرد الملابسات التى اكتنفت قصة الرقيق لنعرف مدى ما بذله الإسلام فى صيانة النفس البشرية، وتحريرها من إسار الذلة والمهانة، موقنين بأن الأمور لو سارت على ما يشتهى هذا الدين لبطل الرق من قرون. فإذا حدث أن قضية الرق تعقدت فمرد تعقدها إلى الاستبداد الأعمى الذى جار على حقوق الأحرار أنفسهم فاغتالها. والحكومات التى تبنى وجودها على استلاب الآخرين لا ينتظر أن تؤدى ما عليها من حقوق، ومن العبث أن تنتظر من مستعبدى الأحرار أن يحرروا العبيد!. أبطل الإسلام ما كان متعارفا من أسباب الاسترقاق، ورفض ما كان مشروعا لدى الرومان من أن اقتراف بعض الجرائم أو الإعسار فى سداد دين يهوى بالإنسان من مرتبة الحرية ويمسخه عبدا مهينا. ومضى الإسلام فى طريقه يحرر النفوس من آصار الشهوات وينقذ المستضعفين من قيود الذلة، حتى إن عظماء العرب اعتبروا هذا المسلك الإسلامى عائقا يحول 127(1/115)
بينهم وبين الدين الجديد، وهاجت فى دمائهم حمية الجاهلية فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم مستنكرين: كيف يسوى بينهم وبين هؤلاء العبيد؟ ومشى إليه أبو جهل يكلمه: أجئت ترفع ابن لسمية الذليل إلى منازل السادة؟ قال : نعم: " ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض... ". ثم تكالبت العرب على المسلمين تبغى فتنتهم، وأعلنت على النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه حربا شعواء، وكانت الأيام بين الفريقين دولا. والقتل والأسر طبيعة محتومة فى كل قتال، والعرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق، وأنهم بين أمرين أحلاهما مر، القتل أو الاسترقاق. فماذا فعل المسلمون بما لديهم من أسرى؟. إن التعاليم التى بين أيديهم توصى بهم خيرا، إنها تصف المؤمنين بأنهم: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ". والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يحض على مكارم الأخلاق يقول: "عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العانى " أى أطلقوا سراح الأسير. إنه لا حرج على المسلمين من ترك هؤلاء بعدما سقطوا فى أيديهم، غير أنه لا ينبغى لأصحاب الدعوة المضطهدة أن يجهلوا حقيقة وضعهم، فهم لم يحاربوا إلا ردا للعدوان، ومنعا للفتنة، وإقرارا لحرية الرأى. وهؤلاء الذين فقدوا اليوم حريتهم إنما جزاهم القدر بسوء صنيعهم، لقد سقطوا فى أيدى المسلمين كما سقط أشراف فرنسا فى يد ثوارها، وكما سقط قياصرة روسيا فى يد شعبها ، ومع أن أحدا من أولئك الكبراء لم ينج من المصير القاتم، ومع أن سادة العرب الذين سقطوا فى أيدى المسلمين الأولين، كانوا يستحقون النهاية نفسها، إلا أننا نجد القرآن ينصح أولئك الأسرى فى أول معركة بين المسلمين والمشركين: 128(1/116)
" يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ". ومن هذا الخطاب ندرك الروح التى يصدر الإسلام عنها فى معاملته لمن حشدوا الجموع لقتله، ولمن ظلوا بضعة عشر عاما يوقعون المظالم الفاجعة بجمهور المسلمين يريدون إفناءهم، أو إضلالهم. فهل من حسن السياسة أن يطلق سراح الأسرى فورا؟. ذلك أمر يتعلق بمصلحة الدولة العامة، وعلى الحكومة أن تواجه الظروف المتغايرة بمسالك مناسبة لها. فى بدر قبل المسلمون الفداء، وفى الفتح قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة:" اذهبوا فأنتم الطلقاء " وفى غزوة بنى المصطلق رأى النبى صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أسيرة من هذا الحى المغلوب ليرفع مكانته، وتم له ما أراد، وتحرج الناس من استرقاق الأصهار الجدد فأطلقوهم!. وكان من الممكن تحريم الاسترقاق أصلا، ولكن هذا التصرف من المسلمين يعتبر عبثا، لأن أعداءهم سيرفضون التقيد بهذا التحريم ثم ينشأ عن ذلك أن أسرى المسلمين يستعبدون، وأسرى المشركين لدينا يحررون!. وفى أى حرب يقع هذا التناقض؟. فى حرب نحن فيها المدافعون عن حرية العقل والضمير، الكابحون لجماح المعتدين والمتكبرين، وغيرنا فيها يطبق سياسة شاعر الجاهلية القائل: بغاة ظالمين، وما ظُلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا...!. لذلك اضطر الإسلام إلى السير على قاعدة المعاملة بالمثل حتى لا يضار من تعلقه المطلق بالحرية الكاملة. 129(1/117)
وفى الوقت الذى أذن فيه للحكومة أن تقابل بالاسترقاق من يستعبدون رعيتها، جعل النص فى معاملة الأسرى محددا لمثله العليا فحسسب: " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ..". إن هذا الأسير الكافر، فى حرب أوضحنا بواعثها، كان رجلا ظالما، أو كان أداة لتنفيذ ظلم. استغل الحرية المتاحة له فى الطغيان على حقوق الآخرين، فمن العدالة أن يسلب قسطا من حرية لم يحسن الانتفاع بها. كذلك من العدالة إذا عوقب على جرمه السابق أن يرفع عنه العقاب فور ظهور أمارة على توبته واستقامته، وأن تهيأ فرص كثيرة لإعادة حريته إليه، ولو لم يقض المدة الكافية لتطهره من آثامه الأولى! فلعل ما يتكشف لعينيه من فضائل القوم الذين حاربهم قبلا يرد إليه صوابه العازب، ويعيده إنسانا كاملا، ولا يجور ولا يجار عليه، وهذا ما صنعه الإسلام، والقواعد التى شرعها فى معاملة الرقيق تجمع بين العدالة والرحمة، وفى الوقت الذى يفك فيه عقدتهم ويستعد لإطلاق سراحهم- تمشيا مع مثله الفاضلة- يقدر أن ذلك قد يقتضى فترة ما، فهو يوصى بجعل هذه الفترة اللازمة، عهدا من البر والمواساة والإحسان يختم بالحرية التى ينشدها الشرع لكل إنسان. وفى سبيل هذه الحرية جعل ثمن الزكاة المفروضة يرصد سنويا لتحرير العبيد، كما جعل العتق كفارة فى عقوبات القتل الخطأ، والظهار، والأيمان وإفطار رمضان، ثم دعا دعوة عامة تحس فيها عواطف المناشدة والرجاء كيما يطلق سراح أولئك المناكيد ابتغاء وجه الله. وقبل أن يستمتع هؤلاء القوم بحرياتهم المفقودة، سنت لهم قوانين لا تعرف فى أرقى معسكرات الأسرى، لو سمع بها أسرى الحروب العامة فى " أوروبا " لسال لها لعابهم وحسدوا القدامى عليها: 130(1/118)
ا- كفل لهم غذاء وكساء كغذاء وكساء أوليائهم: روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبى ذر بالربذة، فإذا عليه برد، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر.. لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة وكسوته ثوبا غيره ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسى، ولا يكلفه مايغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه". 2- حفظت كرامتهم فلا يجوز خدشها بكلمة نابية: روى أبو هريرة قال: قال أبو القاسم نبى التوبة ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من قذف مملوكه بريئا مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " . وروى عمار بن ياسر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " من ضرب مملوكه ظلما قيد منه يوم القيامة " . وروى أبو داود أن ابن عمر أعتق مملوكا له، ثم أخذ من الأرض عودا أو شيئا، فقال: ما لى فيه من الأجر ما يساوى هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه " . وروى أحمد عن أم سلمة قالت: كان الرسول صلى الله عليه وسلم فى بيتى، كان بيده سواك فدعا وصيفة لها ـ فلم ترد ـ حتى استبان الغضب فى وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهى تلعب ببهيمة، فقالت: أراك تلعبين بهذه البهيمة ورسول الله يدعوك؟ فقالت : لا.. والذى بعثك بالحق ما سمعتك.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك " . 3- يتقدم العبد على الحر فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا: وقد صحت إمامته فى الصلاة، وكان للسيدة عائشة أم المؤمنين عبد يؤمها فى الصلاة. 131(1/119)
بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد ما دام أكفأ من غيره. وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "عبد أطاع الله وأطاع مواليه، أدخله الله الجنة قبل مواليه بسبعين خريفا، فيقول السيد: رب.. هذا كان عبدى فى الدنيا، قال: جازيته بعمله، وجازيتك بعملك.. " . وقد تسأل: لماذا لا توهب الحرية للأسير إذا أسلم؟. والجواب.. إنها حقه فى الحال، أما إذا تأخر إسلامه بعد أن يضرب عليه الرق، فمن حقه كذلك أن ينطلق كيف شاء ولكن الإسلام خشى ألاعيب المنافقين، يظهر أحدهم الإيمان حتى إذا نجا بنفسه عاد إلى قومه يحمل معهم السلاح ليسىء إلى من أحسنوا إليه. أما إذا كان الرجل صادقا فى إسلامه فلن تضيره مهلة يسترد بعدها حريته فى منفذ من المنافذ السابقة، وقد أمر الولى أن يتحرى حال صاحبه فإن وجده مخلصا سعى فى فكاكه: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ..". ونزعة الإسلام إلى التحرير العاجل فى هذه الحالة تلمسها فى قول النبى صلى الله عليه وسلم : "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار، حتى فرجه بفرجه ". وعن أبى نجيح السلمى قال: حاصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعته يقول: " أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله ـ عز وجل ـ جاعل وقاء كل عظم من عظامه، عظما من عظام محرره، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله ـ عز وجل ـ جاعل وقاء كل عظم من عظامها، عظما من عظام محررتها من النار ". 132(1/120)
وقد اعتبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن العتق فى ذروة أعمال الخير، وقدمه على مبرات أخرى جليلة الشأن. روى أحمد عن البراء بن عازب: جاء أعرابى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله.. علمنى عملا يدخلنى الجنة، قال: " إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة.. أعتق النسمة وفك الرقبة " قال الأعرابى: أليستا واحدة؟ قال:" لا.. عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها، والمنحة الوكوف، والفيئ على ذى الرحم القاطع. فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، وأسق الظمآن، وآمر بالمعروف، وانه عن المنكر.فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا عن خير " . وليست المصارف التى افتتحها الإسلام لتصفية الرق هينة الخطر، ولو تركت تؤدى رسالتها بعدما حوربت مصادر الاسترقاق التى شاعت فى الجاهلية الأولى للعرب والفرس والروم لما بقى رق!. ومع أن الرق يشبه فترة انتقال فى حياة رجل خرج من دياره بطرا ليحارب الحق ويقضى عليه، ويريد الدين له أن يتحول إلى امرئ مسالم موطأ الأكناف لرسالات الله، مع ذلك فقد تعهد الإسلام هذه الفترة بفنون من الرعاية والمرحمة جعلت الأحرار يرغبون فيها.. وما الذى يزعج منها؟. طعام مبذول، وهيئة حسنة، وجانب مرعى. إن ألوف الأحرار لا يتوفر لهم ذلك. ومن هنا قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للعبد المملوك المصلح أجران " والذى نفس أبى هريرة بيده، لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمى لأحببت أن أموت وأنا مملوك. وروى أحمد عن أبى بكر الصديق عن النبى صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة بخيل، 133(1/121)
ولا خب، ولا سيئ الملكة، وأول من يقرع باب الجنة المملوكون إذا أحسنوا فيما بينهم وبين الله ـ عز وجل ـ وفيما بينهم وبين مواليهم " . ونحن مكرهون على الاعتراف مرة أخرى بأن تعاليم الإسلام سارت فى اتجاه وأعمال المسلمين سارت فى اتجاه آخر، ووزر ذلك يقع على رأس الاستبداد السياسى وما ينتشر فى ظلاله الداكنة من جهالة وغباوة وفوضى. وإليك هذا المثل الصارخ من التناقض بين وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ومسالك الأتباع. روى كعب بن مالك قال: عهدى بنبيكم قبل وفاته بخمس ليال، فسمعتة يقول: ".. ألا وإن الأمم من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، وإنى أنهاكم عن ذلك، اللهم هل بلغت ـ ثلاث مرات ـ ثم قال: اللهم اشهد ـ ثلاث مرات ـ وأغمى عليه هنيهة.. ثم قال: الله الله فيما ملكت أيمانكم، أشبعوا بطونهم، واكسوا ظهورهم، وألينوا القول لهم " . فأما نهى الرسول عن اتخاذ القبور مساجد، فحسبك أن ترمى ببصرك حيث شئت من مدائن المسلمين وقراهم لترى أكثر من تسعة أعشار المساجد قد بنى على القبور، وأصبحت المساجد أضرحة تزار، وتساق إلى مقبوريها النذور. قال شوقى ساخرا من هذا العبث : لا يعجبنك ما ترى من قبة ضربوا على موتاهم، وطراف هجموا على الحق المبين بباطل! وعلى سبيل القصد بالإسراف يبنون دور اللهو كيف بدا لهم! غرفات مثر، أو سقيفة عاف ويزورن قبورهم، كقصورهم والأرض تضحك، والرفات السافى!! وأما أمر الرسول بتقوى الله فى الرقيق فتحدثك عنه طوائف الخصيان وأضرابهم من ضحايا العتو والسفاهة الذين تطاير الحديث عن وظائفهم فى القصور 134(1/122)
خلال القرون الوسطى .. وأثناء زيارتى للملكة العربية السعودية نظرت إلى الروضة التى تضم جثمان النبوة، وتذكرت ما رواه على بن أبى طالب حين قال : كان آخر كلام النبى : " الصلاة الصلاة.. واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ". إن تقوى الله فى الرقيق كانت حديث خرافة!! وما كان أكثر عبث المسلمين بما ورثوه من هذا الدين!! .
الإماء:
لم يكن هناك داع للكلام عن الإماء خاصة، فإن سبيلهن فى الحقوق المقررة للإنسان الكامل سبيل الذكور، بيد أننا نفند شبهات تعرض لأحوالهن خاصة ونحب أن ننصف الدين منها. من البدهيات أن النسوة اللاتى ملأن قصور الحريم، فى عصور الأتراك ومن قبلهم، كن حرائر جارت عليهن الليالى فقصرن فى الغرفات الفخمة، ليكن متعة فحل مترف من ملوك العصور الخالية، وقد أحصى فى قصر واحد بضعة آلاف جارية، وقفت جميعا على هذه الشهوات الشاذة. وقد بلغنى أن الفتيات الحسان من اللاجئات الفلسطينيات يبعن بأثمان مغرية لقصور ما يزال أمراؤها يستبيحون الاتجار فى الرقيق، ويقبل الآباء والأمهات هذه الصفقات الآثمة تحت وطأة الحاجة إلى القوت، وهم يحسبون أن بناتهم سيجدون على أية حال مستقبلا أفضل من حاضرهن الحزين. أعتقد أن أحدا لن يسفه نفسه فيطلب من الدين حسابا عن هذا التصرف!. *لندع حديث الحرائر المغتصبات إلى حديث الإماء. قلنا : إن موقف الإسلام من استرقاق الرجل كموقفه من استرقاق المرأة، وإن سعيه 135(1/123)
لتحرير هذا كسعيه لتحرير تلك، وقد كانت المرأة عنصزا هافا فى توجيه الحياة العامة قدئما، وفى إهاجة المشاعر ضد الإسلام عندما أعلنت الجاهلية حربها الشاملة ضده. والسورة التى نزلت تقرع أبا لهب على تهجمه لم تنس امرأته معه. وفى غزوة أحد كان نساء قريش ينشدن خلف الجيش الزاحف على المدينة: إن تقبلوا نعانق! ونفرش النمارق! أو تد بروا نفارق! فراق كير وامق! وقد رأينا فى حرب فلسطين الأخيرة كيف كانت الفتيات اليهوديات يقاتلن ببأس شديد ويفقن الرجال فى خوض الغمرات، وركوب الأخطار. فترك هؤلاء ليس مسلكا حربيا رشيدا!. والذى أريد بيانه الآن مدى ما قدمه الإسلام لهؤلاء الأسيرات من رعاية. ولنسأل أنفسنا: ما هى الرعاية التى تجب للمرأة خاصة؟ وما الذى يجب أن يسدى إليها أيام الحرب وأيام السلام؟. وقبل أن نجيب على هذا التساؤل لا بد من ذكر حقائق هامة. إن مركز المرأة الحساس يجعل مشاعرنا مرهفة تجاه المعاملة التى سوف تلقاها، ويجب أن نصرح هنا بأن أقطار الغرب كلها أقامت حضارتها الحديثة على ابتذال عرض المرأة فى شتى الأحوال، وأوروبا وأمريكا آخر من يتكلم عن قيمة الشرف بعد ما جعلتا البغاء شريعة مقررة أيام السلام، وفريضة مرفهة أيام القتال، وقد رأينا بأعيننا فرقا هائلة من المجندات الجميلات تستخدمهن الدول المحاربة لأغراض معروفة، كما أن الدول المهزومة والمغلوبة على أمرها كانت تقدم نسوتها للجيوش المقاتلة كما تقدم الطعام والشراب، لا يحزنها إلا أنها تقدم ذلك من غير عوض. والضمير الغربى لا يأبه لهذه الفضائح، فإن المسألة الجنسية فى حسابه تتصل بغرائز البدن لا بفضائل النفس، ومن ثم فهو يبت صلتها بالأخلاق، ويدعها تتبذل كيف تشاء . 1 ص(1/124)
أما الإسلام فيوجب على الرجل مسالما أو مخاصما أن يتصون ويستعف، وألا يتصل بامرأة أبدا إلا عن الطريق التى أحل الله، وكل اتصال وراءه فهو محظور سواء أكان بمسلمة، أو مسيحية، أو يهودية، أو وثنية، فى حرب أو فى سلم.. فإذا حدث ـ فى حدود الدوائر التى رسمناها آنفا ـ أن استرقت امرأة فلن تكون مجندة يغشاها ألف جندى كما يحدث فى أوروبا الآن، بل ستكون فى عصمة رجل وحده، فإذا اتصل بها اتصالا جنسيا وحملت منه أصبح الولد ابنه من صلبه، يرث منه وينسب إليه، لا لقيطا زنيما ـ كما اشترعت أوروبا ـ وأصبحت الأمة أم ولد فى مصاف الزوجة. ذلك وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على عتق المرأة الأسيرة وتزويجها بعد تعليمها وتهذيبها ورفع مستواها قال: ".. ورجل كانت عنده جارية وضيئة فأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها.. ثم تزوجها يبتغى بذلك وجه الله، فذلك يؤتى أجره مرتين " . ويهمنا أن نؤكد حقيقة قد يغفل عنها الكثيرون، وهى أن دينا ما لم يسقط قيمة الفتاة باعتبارها إنسانا محترما فى ذاته، محترما فى نسله، فإسماعيل وهو من أنبياء الله العظام كانت أمه أمة، والمأمون وهو من الخلفاء الضخام كانت أمه أمة. أما ما وقر فى الأذهان من أن الرقيق كانوا جنسًا بين الحيوان والإنسان فأمر لا يعود إلى تقاليد دين بل إلى لوثات المستبدين. ذلك.. وقد أباح الإسلام أن يتصل الرجل بأكثر من واحدة عن طريق عقد صحيح. والشغب على هذه الإباحة بفرض صور يخلقها الجدل المحض أمر ممكن كأن يقال مثلا: إن الإسلام أعطى الرجل الفرد حق الاتصال بمائة أمة. هذا كلام يفترضه الإسراف فى الجدل وإلا فلو طبقت تعاليم الدين التى سردناها، والتى تشدد الضغط على مصادر الاسترقاق حتى تحتبس ثم ترفع الأرقاء على عجل إلى مراتب الأحرار، فمن أين يتاح لرجل ما هذا العدد؟!. 137(1/125)
والآن نريد أن نسأل الدول التى اشتركت فى الحرب الأخيرة، ولا تزال أحداثها ماثلة أمام أبصارنا: ماذا فعل الألمان بأسرى اليهود لديهم؟. لقد اختفى خمسة ملايين يهودى ويهودية فجأة من وسط أوروبا، أبيدوا عن بكرة أبيهم، واخترعت لإبادتهم أفران خاصة!!. وأسرى الألمان فى روسيا،. ماذا صنع بهم؟. فنيت جحافلهم فلم يعثر لها على رفات!!. ونحب أن نسأل البيض عن الحرب التى أعلنوها ضد الأجناس الملونة، وعن مذابح الزنوج فى الولايات المتحدة، والهنود فى جنوب إفريقية، وعن القوانين التى سنها الإنجليز والأمريكان تحرم تجاور البيض والسود فى مسكن، بل التى تحرم حتى ظهورهم فى صورة واحدة!. أهى عاطفة الحب المكين للبشر أجمعين هى التى أوحت بهذه الحروب الفاجرة، والقوانين السفيهة؟!. قد يحلو لمغرض جهول أن يتحدث عن موقف الإسلام من الرقيق، يحسب أنه سيمس ناحية موجعة من هذا الدين، فها قد بدت لك الصحيفة النقية تتحدث عن نفسها. لقد قلنا: إن الإسلام يريد ليؤسس عقائده ومبادئه أن يستمتع الناس جميعا بأنصبة متساوية من الحريات المؤمنة والحقوق الموطدة، وعلمنا أنه يحرم ـ إلى حين ـ من هذه الأنصبة المتساوية من يعتدون على حريات الآخرين، ويجعل هذا الحرمان عقوبة تنتهى بالعفو. ولسنا نهدد الإنجليز شركاءهم بأن الإسلام سيدفع بنيه إلى استرقاقهم يوم يكسر القيود التى كبلوه بها والسجون التى قذفوه وراءها.. كلا.. فالإسلام لم يجعل استعباد الناس ركنا سادسا مع أركانه الخمس، ولكنه يريد أن يطهر الدنيا من أدران الاستبداد، وأن يدع تيارات الفكر الحر تقتحم كل مجال وتنساب فى كل ميدان. أجل... نحن نريد ذلك.. ونود من غيرنا أن يوافقنا، فهذه خطة لا غبن فيها ولا إجحاف. 139
أشعة الحرية
140(1/126)
أشعة الحرية طبيعة الخير الوضوح والتكشف، وطبيعة الشر الغموض والإبهام. الرجل الطيب لا يسوءه أن تظهر أعماله أو تستعلن أحواله، وهو يستطيع أن يقول للناس دائما: " هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ". فليس فيه ما يخشى مغبته ويحاذر عقوبته. والرجل الخبيث يحرص على أن يطوى جوانب حياته فلا تقع الأعين منه إلا على ظاهر خادع وطلاء كاذب، أما ما وراء ذلك من إثم فقد ضرب عليه ليل طويل. كذلك الحكم الصالح والحكم الفاسد، لا يرى الحاكم الراشد حرجا فى أن تنطلق الألسنة من عقالها تصف ما ترى، وتبحث عما غاب، فلن ترى فى الشهادة والغيب إلا ما يزهو صاحبه به ويهش له، من عفاف وعدالة واستقامة. أما الحاكم المجرم فيريد جوا يسوده الصمت الرهيب، لأنه يدرى أن الأفواه لو نطقت فستفضح خبأه وتكشف سره. وهنا الطامة الكبرى. ولذلك كان خصائص الاستبداد السياسى فى كل زمان ومكان كرهه الشديد لحرية النقد والتوجيه، وكان من خصائص الإسلام التى امتاز بها لتقويض أركان الاستبداد ـ أن أوجب على كل فرد أن ينقد الخطأ وأن يوجه إلى الخير. كان الثوار على المظالم فى كل بلد وقع فريسة الحكام المستبدين يطلبون حرية القول، وكان هؤلاء الحكام يخشون من الحرية على كيانهم فهم يحظرونها، ولا يجوز أن يذاع إلا ما كان مدحا لهم أو زلفى إليهم!. ثم تخرس الألسنة بعد هذا!!. لكن الإسلام جعل فى هذا النقد والتوجيه فريضة تتبع الإيمان، لا مباحا يتبع المشيئة، وبين الله ـ تبارك وتعالى ـ أن تقرير المعروف وأمر كل إنسان به وتغيير المنكر وزجر كل إنسان عنه، وتتبع الأعمال بالتصويب والتخطثة أيا كان مقترفها، هو سر تفضيل هذه الأمة على غيرها. 141(1/127)
" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..". وبين كذلك أن هذه الأمة لا تنال من الله نصرا، ولا تستحق فى الأرض تمكينا إلا إذا احتفظت بهذه الخصائص الجليلة، وأنبتت عليها- فى الداخل العلاقات بين الحكومة والشعب، وأنبتت عليها ـ فى الخارج ـ العلاقات بين الدولة المسلمة وسائر دول العالم. " ... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" . والحق أن أمتنا فرطت فى هذه الشعائر التى ناطها الله بها تفريطا شنيعا، فلا جرم أنها تحرم من رعاية الله، وتنالها هذه اللطمات القاسيات من يد القدر العدل!. ذلك أن صوت الخير لم يختنق عندنا فحسب، بل كشف الشر عن وجهه الكالح، وكشر عن أنيابه الزرق صارخا مهددا. كتب خالد محمد خالد يسأل: ".. ماذا كانت هيئاتنا النيابية تصنع لو أنها تمثل الشعب وآلام الشعب؟ كان سيحدث عندما نزل " شاهنشاه إيران " عن أطيانه جميعها للشعب هناك أن تسبق الحوادث التى قد تستجيش أحقاد الشعب هنا، فتطلب إلى آلهة الإقطاع فى مصر أن يتشبهوا بالرجال ويردوا للأمة أرضها!. كان سيحدث عندما أذاعت محطات العالم وكتبت صحفه " أن مكاسب كازينو إيفيان للقمار قد زادت سنة 1950: 70% عن الأعوام السابقة بفضل الباشوات المصريين الذين يذهبون إلى بحيرة إيفيان باحثين عن الأشياء المثيرة.. أن يصرخ "البرلمان " فى وجه الحكومة: من هؤلاء الباشوات؟ وكم من ملايين الجنيهات أخذوا معهم ليشتروا بها اللهو والعبث؟. 142(1/128)
أفنعجز هنا أن نحاسب أفرادا، وهناك فى " بريطانيا " يقف بعض أعضاء مجلس العموم يحذرون الحكومة من أن تتحمل نفقات رحلة ملكى إنجلترا إلى جنوب إفريقيا، ولم يسكتوا حتى وافاهم وعد من الملك بأن نفقات الرحلة من جيبه الخاص!. كان سيحدث عندما تقدمت الحكومة طالبة إقرار مشروع قانون يفصل بين الشعب والقصر، قانون يجعل القصر الملكى " منطقة حرام " ويحرم على الأمة أن تتحدث عن ملكها بغير تصريح من وزير.. أن ينتفض ويقول: كيف يتحكم الوزير وهو موظف فى شئون القصر وأخباره، فيجعل بعضها حلالا، وبعضها الآخر حراما؟. كان سيحدث أن يصرح برلمان الشعب: نحن مصر، ومصر ترفض أن تحاصر أخبار ملكها، مصر ترفض أى سور يقام بينها وبين عرشها!. مصر ترفض أن تلتقط أخبار الملك من أفواه الإذاعات الأجنبية المغرضة والصحف المنحرفة. إن الله ـ سبحانه ـ لم يجعل الحديث عنه حراما وإن أخبار الملك وتصرفاته السامية ليس فيها ما يخجل أو يريب... حتى نضعها تحت رقابة وزير!. وعندئذ كان هذا القانون سيلقى المصير نفسه الذى لقيه قانون الاشتباه السياسى." أ.هـ. وقد نؤيد الكاتب فى شكواه التى يصيح بها، ونعلم أن الحال فى جنبات الشرق الإسلامى أشد شناعة منها فى مصر، والعلة الدفينة لهذه الفوضى السائدة أن المسلمين فقدوا روح الدين بل فقدوا نصوص الدين فى أنفسهم وجماعتهم!. وإذا كان الإنجليز فى بلادهم أقدر على قول الحق وإنزال الملوك والصعاليك على حكمه! على حين يهيمن الجبن والنفاق عند غيرهم. أفترى القدر حاباهم وآذانا يوم أعطاهم وحرمنا؟! كلا.. لقد كان للمسلمين منذ قرون ملك عريض قامت دعائمه على الحق، ولحظته 143(1/129)
العناية العليا إذ كان أهلا لها، طحن الاستبداد، وأعلن الشورى، ومحا التعصب.. ونشر السماحة. وقد أعلم الله نبيه بما ستنال أمته من فتح وسعة بعد ما أصاب الدعوة أول أمرها من مطاردة وضيق، فقال النبى صلى الله عليه وسلم موصيا أمته بما يحفظ عليها كيانها:" إنكم منصورون، ومصيبون، ومفتوح عليكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وهذه الوصية نابعة من روح القرآن الكريم عندما امق الله على بنى إسرائيل بالكرامة بعد الهوان، ثم طالبهم أن يشكروا نعمائه. " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ". وقد كرر النبى صلى الله عليه وسلم هذه العظة لأمته محذرا إياها من سبل الانحلال والتحلل التى تسلكها الأمم البائدة فقال: " إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ـ على معصية ـ فيقول له : اتق الله، ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده "!! وكان يجب أن يقاطعه لله، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ". 144(1/130)
ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم : " كلا، والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا " أى لتقرنهم على اتباع الحق. والآية والحديث يوجبان المجاهرة بإصلاح الأوضاع الفاسدة ومخاصمة صانعيها وحارسيها أو مقاطعتهم ومجافاتهم. أما السير فى ركابهم والانتظام فى مجالسهم وموالاتهم على خبثهم فقد عدته الآية فسقا، فكيف بمن يتملقون المجرمين فى عصرنا هذا ويسترون مخازيهم ويأكلون من دنياهم على حساب دينهم؟!. إن أولئك لا دين لهم البتة، وإن كانوا أكثر فى حواشى الحكام والمترفين من الذباب على مباءات الأقذار ومجامع القمامة. ويوم تقوم سياسة أمة على كتمان الحق وهجران المعروف وإهمال المنكر وترك الأباطيل تستشرى وتستعلن، والسفاهات تطفو وتنمو، فأنى تفلح أو تنجو؟!. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها " قالوا: يا رسول الله.. ما الاستخفاف بحقها؟ قال:، يظهر العمل بمعاصى الله فلا ينكر ولا يغير " . وقال النبى صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم أمتى تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها " أى أصبحت لا غناء فيها، بعد أن جحدت رسالتها وفقدت خصيصتها. ونحن فى أيامنا هذه لا نشكو فحسب من الشياطين الخرس التى تعرف الحق وتكتمه، بل نشكو من أن الولاة الفجرة فى بلاد الإسلام يجدون من يعين على الشعوب معهم، ومن يصنعون الفتاوى المكذوبة لتسوفي مأثمهم، والدين وحده ضحية هذا الفجور من الظالمين والمظلومين والمسوغين والمقتنعين. وانظر إلى التناقض البعيد بين فتويين، صدرت إحداهما فى إيران من آية الله "كاشانى"، تنص على أن البترول ملك الأمة تستغله لمصالحها وحدها، والأخرى سمعتها وأنا فى إحدى الدول العربية، وهى تنص على أن البترول ملك الحاكم ينفقه كيف يشاء!!. 145(1/131)
ولما كنت أعلم أن آبار البترول ليست فيها ضفادع تنق باسم شخص معين!.. وأن الله ـ عز وجل ـ لم يكتب صكا لأحد بتملكها والانفراد بأكل غلتها!.. وأن جماعة المسلمين هم الذين يتمولونها ويستعينون بها على إبلاغ رسالتهم وإنماء قوتهم.. فقد سألت على أى نص أو قاعدة اعتمدت الفتوى وتم العمل بها؟. فأما العمل فقد بدأ غير منتظر فتوى أحد. ثم جاء المرتزقة باسم الإسلام من متملقة الحكام، جاءوا لتبرير الأمر الواقع فقالوا: إن الحكم فى بلادنا تولاه كثيرون قلم ييسر لهم هذا الرزق، حتى قيض الله فلانا فجاء الخير معه فهو له!. إى وربك.. هذه هى الفتوى ممن يرون القباب شركا تقطع فيه الأعناق، ثم يرون نهبا لا نظير له فى أرجاء العالم فيحنون له الأعناق!.
الفرد يحرس الإيمان فى نفسه وفى بيئته:
لا يمكن تجاهل العلاقات الوطيدة بين الإنسان والجماعة التى يحيا فيها، ولا إنكار التفاعل المتبادل بين الفرد وبيئته، ولو كان مألوفاً فى نظام الحياة أن المرء يعيش منطويا على نفسه مقطوعا عن غيره، لا يتأثر بأحد ولا يؤثر فيه أحد، لجاء الدين يوصى الإنسان بالإقبال على خاصة نفسه والاهتمام بما يعينه من شئون، غير آبه بعدئذ لما كان أو يكون. لكن الإنسان لبنة فى بناء متماسك، أو فرع من شجرة متصلة، وهو ـ طوعا أو كرها ـ لا بد أن يعترف بهذه الصلات العامة، وأن يحدد بدقة موقفه من هذا الاختلاط المفروض، وقد جاء الإسلام فأقر هذا الترابط القائم، وهل يسعه إلا هذا؟ ثم بنى تعاليمه على هذا الأساس فجعل المسلم رقيبا على دينه فى مجتمعه كما هو رقيب عليه فى نفسه، وزوده بأخلاق من الصراحة والشجاعة توجب عليه أن يفعل 146(1/132)
الخير ويدعو إليه، ويحب المعروف ويأمر به ويعمل على إشاعته، ويكره المنكر وينهى عنه ويسعى إلى تغييره . ولم ير ذلك نافلة هينة يتطوع الإنسان بأدائها، أو يكسل ولا عليه! كلا.. فالتواصى بالحق والصبر على مشتقاته من أركان الفلاح: " إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". وإسداء النصح لكل من يحتاجه هو صميم الدين. "الدين النصيحة " قالها النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثا، قلنا لمن؟ قال: " لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وعن جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقننى: " فيما استطعت.. والنصح لكل مسلم ". وعن أبى ذر: أوصانى خليلى صلى الله عليه وسلم بخلال من الخير.. أوصانى، أن لا أخاف فى الله لومة لائم، وأن أقول الحق ولو كان مرا ". ومرارة الحق تنشأ من كراهية المبطلين له، وحرصهم على إسكات دعاته مما يجعل الثائرين على الفساد يتعرضون لمكاره شتى، ومن هنا تتفاوت المراتب ويمحص الإيمان، فالمسلم البصير بما هو عليه من حق، الواثق بما عند الله من خير، لا يبالى أن يقذف بالكلمة الصادقة يزلزل بها كيان الظلم غير ناظر لبطش مخلوق. والإسلام يربى بنيه على هذه الجرأة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه" قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن لله عليه مقالا ـ فلا يقوم به ـ فيقول الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة: ما منعك أن تقول فى كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس! فيقول: فإياى كنت أحق أن تخشى " . 147(1/133)
ومهما كانت عظمة مرتكب المنكر، فإن المؤمن العظيم يستهين بملوك الدنيا أجمعين إذا نظر إلى جلال الله وواسع فضله على من يرمى بالحق فى وجوههم : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان ـ أو أمير ـ جائر " فإذا سفك دمه فى هذه السبيل فقد فاز بأعلى الدرجات : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ". *المسلم إذن مكلف بترك الشر، وتنظيف المجتمع من لوثاته، مطالب أمام الله بنبذ المعصية، ومحو آثارها من حوله، فرسالته تتجاوز الحدود الضيقة لشخصيته إلى نطاق أرحب، يشمل أمته كلها، بل يشمل العالم أجمع. هل معنى ذلك: أن الإسلام يأمر بالتدخل فى تصرفات الآخرين أو التعرض للحريات الشخصية؟ كما يتصور بعض الناس حين ينهون ويأمرون. ونقول: نعم إن الحرية مكفولة لمحاربة الظلم، لا لإيقاعه والجور على المصلحة الكبرى للبشر، والإسلام يعتبر الفساد داء خبيثا، لا يقصر شره على صاحبه بل يتعداه إلى كيان الأمة كلها، وكما أن المصاب بمرض معد تصادر حرية انتقاله من مكان إلى مكان ويحجز فى مستشفى خاص حتى لا تنتشر جراثيم علته بين الناس فكذلك الشخص الفاسد!! إن لم يضرب على يده ويستنكر ما بدا منه، شاع فساده ووجد فى القلوب المريضة قبولا حسنا، وفى البيئات الضعيفة مرتعا خصبا والويل لشعب تتبجح فيه المعصية، وتسير مستعلنة من غير نكير، إنه يسير حثيثا إلى الهاوية! والحق أن المجتمع يدفع عن نفسه حين يحبس أولئك الحمقى، ويمنعهم عن غوايتهم، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا رائعا لتبعة الفرد نحو الجماعة وحق الجماعة على الفرد فقال:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. 148(1/134)
فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا!. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". هذا المثل أدق تصوير للمسئولية الفردية والجماعية، ولعقبى التفريط فيها. إن الشخص الأخرق لو ترك يصنع ما يحلو له فسيقود المجتمع كله خطوة فى طريق البوار، فإذا كثر هؤلاء الخرقى، وتعددت الخروق التى يصنعونها فالمجتمع غارق لا محالة. وقد تكون هناك قلة صالحة تكره هذه المعاصى!، بيد أنها فى الهرج السائد لا تنجو. روى ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يا عائشة.. إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته، وفيهم الصالحون فيصيرون معهم، ثم يبعثون على نياتهم "، وفى رواية لزينب بنت جحش:" أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.. إذا كثر الخبث " . هذه الأحاديث نذر صارخة بأن ترك الأمور تمشى فى أعنتها، يجمح بها الهوى ولا يقمعها الهدى، حتى تفرد بالزمام الأيدى الملوثة، يورد الأمة أوخم العواقب. وواجب الصالحين المصلحين أن يتعقبوا الشرور فى مظانها، وأن يقتلوها فى مهادها، ولأن يستأصلوها وهى جنين ضعيف، أفضل من أن تفترسهم وهى وحش عنيف. وعن أبى بكر الصديق قال: يا أيها الناس،. إنكم تقرءون هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم…"وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ". 149(1/135)
وفى رواية : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصى، ثم يقدرون أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب " . والآية المذكورة وَهَلَ الناس فى معناها وحسبوه مصادما لما تقرر فى الدين من ضرورة النصح والتذكير والنقد والتوجيه، وذلك غلط بين، نبه إليه أبو بكر فى الصدر الأول، إذ معنى الآية متصل بموقف الناس من العظات والنصائح التى تساق إليهم، فإن الداعية المخلص يجب أن يكون شديد الرغبة فى نفع الناس بما عنده وذلك يتقاضاه الإصرار على التبليغ والحرص على التنفيذ، فإذا قام بما عليه من بلاغ ولم يقم الآخرون بما عليهم من انصياع فهل تنتهى رسالته؟. كلا.. فالمسلم يجب أن يكون قواما شهيدا بالقسط مقررا للحق ولو لم يغير جهده المبذول شيئا من الواقع المريض، وحسبه أنه لم يترك الفجور يسير هادئا، بل أثار عليه ما استطاع من شغب، وهذا ما تقصده الآية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ". فالخطاب للمؤمنين فى هذه الآية كالخطاب للرسول فى قول الله له: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ". ولم يقل أحد بأن هذا الخطاب إجازة للنبى صلى الله عليه وسلم بترك الدعوة إلى الله ووصية له بأن يعدل عن محاولاته فى تعليم الجهال وإيقاظ الغافلين. كلتا الآيتين تعزية للناصح الأمين إذا أحزنه شرود الكثيرين عن الحق ومضيهم فى طريق الزلل والغى، وكلتاهما لا تعنى إبطال القاعدة الماضية فى الإسلام إلى قيام الساعة . * 150(1/136)
قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
إن هذا العنوان بلى على ألسنة المشتغلين بالدين حتى لم يعد واضح الدلالة على الحقيقة التى يرمز إليها، ولو يعلم الناس ما قصد إليه الإسلام من إقامة هذا المبدأ الخطير لأيقنوا أنه وضع به أسس التمرد على المظالم والثورة على الفسوق، وتجرئ العامة فردا فردا على أن يصدعوا بالحق، وأن يصدعوا به رأس كل جبار عنيد!!. ولن تتمثل الحرية فى أوسع مداها وأنبل غاياتها كما تتمثل فى هذه القاعدة الركينة من قواعد الإسلام!!. وقد تسأل: ما قيمة الأمر والنهى بين من يئسنا من ائتمارهم وانتهائهم؟ أليس السكوت أجدى؟. والجواب.. بل السكوت خطر بالغ!. إن استنكار الفظائع- ولو لم يغير من وقوعها- يعتبر فى نظر الإسلام ملاحقة للإثم، وإيقافا لسيره وقتلا لجرثومته فى المراحل الأولى لحياتها قبل أن يتم نماؤها وقبل أن تستتبع من صور الإثم ما هو أشد وأنكى. ومما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " كيف بكم إذا فسد شبابكم، وطغى نساؤكم وتركتم جهادكم "؟ قالوا: أوكل ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: " بلى والله، وأشد من ذلك سيكون، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر "؟ قالوا: أوكل ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: " بلى والله، وأشد من ذلك سيكون! كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا "؟ قالوا: أوكل ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: " بلى والله وأشد من ذلك سيكون! كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف "؟! انظر إلى هذا الترتيب الدقيق فى وصف أطوار التحلل التى تعترى الأمم!!. وكيف يستحيل العصيان من سيئ إلى أسوأ؟ وكيف تسلم كل مرحلة إلى ما هو أشد منها بلاء؟.. والعلة الأولى هى التفريط فى الأمر والنهى. 151(1/137)
فلا غرو أن يقدر الدين هذه الآثار فيوصى بنيه كافة بوجوب الإنكار:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " ، وقيمة التغيير بالقلب تبدو فى مقاطعة المجرمين والنفور من أحوالهم، فإذا لم يكن المرء حربا معلنة عليهم فلن يكون أبدا عونا لهم!. *وفى كل مجتمع يصطرع فيه الحق والباطل تجد فى محاربة المبطلين فريقا شديد الحماسة للخير، شديد الحماسة على الشر، يصارح بعداوته للمجرمين ويكر عليهم بحملات كموج البحر، تلاحق أولاها أخراها، فما تنداح واحدة إلا تبعتها أختها مرغية مزبدة!. وربما وجدت فريقا يسأم هذا الجهاد ويقنط من فائدته ويقول كما حكى القرآن الكريم: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ". غير أن هذا التساؤل بين ممثلى الخير من أهل الحق لا يطول أمده، فإن مر الأيام على الحرب الدائرة بين المعروف والمنكر يزيد الهاوية بين الفريقين العاملين لهما عمقا وسعة، حتى يتميز المعسكران وينكشف تنازعهما على البقاء فلا تقع العين إلا على أبرار يدعون إلى الخير، وأنصار يؤازرونهم، أو فجار يدعون إلى الشر وأشياع يتبعونهم وحتى تصير القلوب كما روت السنة:" على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ". وعندئذ تكتب النجاة لمحاربى المناكر وأعداء الشر فحسب. " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ". *152(1/138)
وكما شرع الله قاعدة الأمر والنهى صيانة للجماعة من تطرق العبث والفوضى إلى نواحيها، شرعها كذلك قيادة لها إلى الكمال، ودفعا إلى الأمام وإثباتا لمشاعر التراحم والحنان بين الإنسان والإنسان!. فأنت إذا رأيت مكفوف البصر يمشى فى طريق خطرة، يوشك أن تدهمه فيها عربة أو قاطرة، سارعت ـ بمحض الرحمة ـ إلى الأخذ بيده وتجنيبه الأخطار التى قد يتعرض لها.. والشخص الذى أغواه الشيطان، وأطارت لبه الأهواء، إنما يسير فى طريق مهلكة ستقتله دواهيها إن عاجلا أو آجلا. فمن أمارات الرحمة العامة، وآيات الإخاء الصحيح أن ترشده إلى الخير وتوضح له أسباب النجاة، إنك ستنطق وحدك بصيحة التحذير إذا رأيت امرءا يمشى بخطا ثابتة إلى الهاوية! ولن تسكت إلا لواحدة من اثنتين، إما أنك لا تؤمن بأن هناك خطرا أمامه، وإما أنك لا تبالى بدق عنقه!. وكلتا الحالتين لا توصف أبدا بأنها إيمان. ولما كان الله ـ سبحانه ـ يعتبر الإيمان بين أصحابه علاقة تناصر وتحاب فقد اعتبر ائتمارهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر من لوازم هذه العلاقة وقدمه فى الذكر على أركان الدين نفسه. " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ". وإنك لتحس حرمة هذه العلاقة وعظيم حقها فيما يروى عن أبى هريرة: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة ـ وهو لا يعرفه ـ فيقول له: " ما لك إلىّ وما بينى وبينك معرفة؟ فيقول: كنت ترانى على الخطأ وعلى المنكر ولا تنهانى". إن الإسلام لا يرضى بشىء دون ارتفاع المستوى العام لبنيه جميعا فى كل ناحية 153(1/139)
من نواحى الحياة، والرقى العقلى والخلقى فى طليعة هذا السمو المنشود، الرجل العالم مسئول عن الجاهل، والقرية العالمة مسئولة عن الجاهلة والأمة العالمة كذلك مسئولة عن الجاهلة. وإليك طرفا من الأسلوب الذى كون به الرسول الكريم أمته، لترى كيف جاهد هذا النبى لإشاعة التربية بين من حوله أجمعين. روى الطبرانى عن علقمة بن سعيد عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال:" ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم، ولا يعظونهم، ولا يآمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون.. أو لأعاجلنهم العقوبة،، ثم نزل، فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: الأشعريين. هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب. فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله.. ذكرت قوما بخير! وذكرتنا بشر! فما بالنا؟ فقال: ليعلمن قوم جيرانهم وليعظنهم ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة فى الدنيا، فقالوا: يا رسول الله.. أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم! فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا، فقالوا: أمهلنا سنة! فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ....." هذا لون الكفاح الذى شنه الإسلام ضد الأمية العقلية والنفسية التى تسود البدو وأضرابهم من الفلاحين، يريد ليفتق أفكارهم ويكسر أغلالهم. 154(1/140)
أما المسلمون اليوم فإن كبراءهم يخشون طلائع العلم بين الجماهير كما يخشى اللصوص مطلع الشمس وهم يلتفون بالظلام لسرقة الأنام!. التناصر فى وجه الظلم:
وذلك من أقوى الدعائم التى وطد الإسلام بها الحريات وأقر العدالة وحسم لوثات المستبدين. إن الغاشم ربما لا تردعه العقوبة المرجأة فى الآخرة، وربما لا تصده الزواجر والحدود التى يقيمها القانون، ولكنه ينقمع ويتردد إذا أدرك أن ضحيته عزيزة المنال، وأنه دون الافتيات عليها قد يهلك هو نفسه، أو تهلك رجال ورجال. ومن ثم شرع الإسلام مبدأ التناصر بين بنيه، فإذا رأيت رجلا وقع فى حرج وأوشك أن يهوى أو يصاب فحق عليك أن تهرع لنجدته، وأن تسارع لمعونته وأن تشعره بأنه لن يكافح جور المعتدين وحده بل إنك إلى جانبه تشاطره الحلو والمر حتى ينتصف لنفسه ويخرج من ورطته موفور المال والعرض والدم والكرامة والإباء. تلك هى سنة الإسلام.. لا يجوز أبدا أن يبقى المظلوم فريدا يلتفت إلى الأعوان فلا يلقى صريخا. وأمر الله الواضح وإرشاد رسوله البين أن جماعة المسلمين مسئولة عن حماية الحق بعملها وتأييدها كما هى مسئولة عن حمايته بالقول والبيان. " المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله " ، وعبارة النبى صلى الله عليه وسلم فى التعريف بمبدأ التناصر تستوقف النظر طويلا، فهو يقول: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال:" تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره " . كان من الممكن أن يندفع هذا الإيهام ابتداء بصوغ المعنى فى عبارة أخرى، انصر 155(1/141)
أخاك مظلوما وانصحه ظالما مثلا.. بيد أن أى تعبير آخر سيفوت حتما ما يقصد النبى إلى توكيده من معنى التناصر الكامل، وإفهام كل مسلم أنه ملزم بمظاهرة أخيه وشد أزره، فإن كان مظلوما قاتل معه جنبا إلى جنب، وهذا انتصار له، وإن كان ظالما لم يدعه يلقى عاقبة عدوانه من قصاص، وإساءة بل جنبه هذا الهوان!! فمنعه من أسبابه!! وهو فى كلتا الحالتين قد أعز المظلوم كأخ فلم يدعه يذل، وأرشد الظالم كأخ فلم يدعه يضل، وحفظ لهما جميعا ما ينبغى من تأييد ونصرة، وأذهب عنهما ما يكرهه الإسلام لكل مسلم من مشاعر العزلة والوحشة والضعة.. * احتاط الإسلام لضمان الحقوق الخاصة والعامة بتقرير ثلاثة مبادئ يكمل بعضها بعضا: ا- كف يد الظالم. 2- استنهاض المظلوم ليدفع عن نفسه. 3- مطالبة الغير بالتدخل لصد العدوان ورفع الغبن. وليس يتصور فرض آخر يضم إلى هذه المبادئ حتى يتم تأديب الأقوياء وتدعيم الضعفاء. ولو جمعنا هذه الأطراف فى بلادنا ما شكونا حيفا، ولو تواصى أهل الأرض بهذه المبادئ ما قامت ثورة ولا سفكت قطرة دم، ولو أنصف الناس لاستراح القاضى!!. ولكن الذى حدث من أجيال أن الظلم وقع، وأن المظلوم رضخ له، وأن الآخرين نفضوا أيديهم من النصرة والنصيحة فسارت القافلة سيرها الأعمى على غير هدى. وإنى أمد بصرى اليوم فى بعض بلاد الإسلام أو فى كثير منها فأرى هذا السوء المضاعف، أسمع عواء الذئاب البشمة من لحوم الضحايا، وأنينا خافئا للمظلومين المأكولين، وتعليقا محايدا للجبناء الذين نجوا بجلودهم من المخالب الباطشة!!. 156(1/142)
ولولا أن الله يتبع الدنيا بقوم لهم فطر سليمة وأفكار مستقيمة يحاربون الظالمين، ويستثيرون المظلومين، ويؤلبون القريب والبعيد لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لولا ذلك لمادت الأرض وهلك الحرث والنسل، وحارب الإسلام الظلم، روى النبى صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك اسمه: " يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما " فلا تظالموا .."، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صنفان من أمتى لن تنالهما شفاعتى : إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق "، وقال: " الظلم ظلمات يوم القيامة " . فإذا وقع على امرئ ظلم فهل يسلم به ويستكين له؟ أم يقاتل دون حقه ويثأر لنفسه؟ يقول الله تعالى: " فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ". ثم سرد أولئك الذين يستحقون الخير الباقى عند الله فعد فيهم: " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ". والآيات وإن استحبت العفو إلا أنها لم تندب إليه إلا بعد ثبوت الحق لصاحبه، فيجب أن يعرف المخطئ جريرته، ويجب أن يعترف بأنه أهل للعقوبة، ويجب أن يدرك المظلوم بأنه يستطيع الثأر لنفسه، وأنه ـ إذا نزل عن حقه ـ فسماحة مشكورة وتطول بالفضل. والواقع أنه لا يجرح الإنسان كأن يرى مهدرا لا وزن له، أما إذا أقر له بحقه ثم 157(1/143)
سئل النزول عنه فقلما يتمسك به، وهذه جميعا انفعالات يحترمها الدين وينفخ فيها من روحه لتنمو وتقوى. والذين يشهدون المعركة بين القوى والضعيف، هل يدعونها تنتهى حسب قوانين الغابة فلا معونة ولا نكير؟. كلا كلا! لا بد من التدخل باسم الإسلام لإسعاف المستضعف ونجدته. قال النبى صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يخذل امرأ مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما فى موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله فى موطن يحب فيه نصرته ". ومما يروى فى تدعيم مبدأ التناصر ما حكاه النبى صلى الله عليه وسلم عن ربه جل شأنه: " وعزتى وجلالى لأنتقمن من الظالم فى عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما، يقدر أن ينصره فلم يفعل ". وروى كذلك: "أمر بعبد من عباد الله أن يضرب فى قبره مائة جلدة! فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة! فلما ارتفع عنه وأفاق! قال: علام جلدتمونى؟! قال: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " . وهذه الآثار تبين روح الدين فيما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الناس، وإنك لتمر الآن بالطريق فتجد شرطيا يصفع بائعا جائلا أمام جمهور ضخم من النظارة الذين يرون هذا العمل الآثم ثم يمضى أكثرهم غير آبه، ويقف الباقون ليزجوا الرجاء إلى الجندى كى يعفو ويصفح.. عن عدوانه!!. لو أن سوط الظلم إذا مس جسد مسكين تأوه له ألوف، وسرى الألم إلى جلودهم فلسعها، فبدلا من أن يصرخ للعدوان صوت فذ، تجاوبت بالوجع والغضب أصوات جمهور غفير، إذن لفكر الظالم ألف مرة ومرة قبل أن يفكر فى الانفراد بمخلوق لينهشه. 158(1/144)
ولكن تقطع الأواصر، وضعف الثقة، ورقة الإيمان، جعلت كل أحد يعيش فى نطاقه الخاص، ويقول معلقا على أحزان الآخرين: " وما لى أنا " ثم يجىء دوره فى تجرع الكأس الذى شربه غيره قبلا، فيزدرده فى صمت! ولو حدثته نفسه بالصدق لقال: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.. لقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة الوقوف إلى صف المظلوم حتى يندفع الضر عنه فقال: " لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما، فإن اللعنة تنزل على كل من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه " .
خيانات عامة:
روى أن "عمر" رأى رجلا وامرأة على فاحشة فخطب الناس وذكر لهم ما رأى فقال له على: لا بد من أربعة شهداء، لا يقبل رجل وحده، ولو كان أمير المؤمنين، فطوى "عمر" الخبر فى نفسه وسكت، إنه وإن كان حاكم المسلمين فليس يزيد عنهم في شيء، وما يستطيع أن يستغل سلطانه فى إيذاء رجل أو امرأة يوقن فى نفسه أنهما فسقا عن أمر الله. ولقد ثبت من تعاليم الإسلام قول النبى صلى الله عليه وسلم : " ظهر المؤمن حمى إلا بحقه " أى لا يجوز ضرب مسلم ولا إيذاؤه إلا إذا استحق ذلك بجرم ارتكبه وقضى عليه فيه بعقاب. والقضاء فى القصة التى حكيت عن "عمر" لا يتم إلا بنصاب كامل من الشهود، وما دام ذلك لم يتحقق فلا سبيل لعمر إلى جلدهما والنيل من ظهورهما.. و "عمر" وقّاف عند حدود الله. لكن انظروا إلى عمل رجال الأمن عندنا.. فى الوقت الذى لا يدين الإسلام فيه متهما إلا بعد بينات حاسمة، لا تشم بعدها رائحة ظلم، ترى الواحد من المسلطين 159(1/145)
على الناس بالجبروت يلقى بالأبرياء فى السجون ويقلبهم ظهرا لبطن فى العذاب الأليم ويحسب أنه فى حماية قوة مبهمة يستطيع أن يفعل معها ما يشاء دون أدنى عقاب، أسمعت ما حدث فى " كفور نجم "؟ أرأيت السطو على الأعراض والاستهانة بقيم الأنفس؟ وممن؟. من الرجال الذين وظفوا لحماية الأعراض وصيانة الأنفس!. هذه ليست جريمة معتادة!. إنها أولا إيذاء بغير حق، وهى ثانيا خيانة للواجب، فالعمل الذى يأخذ عليه هؤلاء الموظفون رواتبهم هو منع ذلك لا إيقاعه، وهى ثالثا استغلال للسلطة المخولة فى التكبر والغطرسة، والأمة إنما تشغل الموظف خادما لها لا سيدا عليها، وهى رابعا بث لروح الدعة والذلة والهوان بين أفراد الشعب، وهى خامسا دليل تأخذه الدولة المحتلة على أن أصحاب الجلابيب الزرق فى خطر، مع أننا نكافح من سبعين سنة لقطع دابر الإنجليز من هنا ونكذب ادعاءاتهم التى يختلقونها وفى مقدمتها أن منا من يهين الفلاحين!. وعندى أن هؤلاء الذين ارتكبوا حوادث " كفور نجم " لو أن الدولة حكمت عليهم بتهمة الخيانة العظمى للشعب.. وأسلمت رءوسهم إلى المشانق كى تقطعها واحدا واحدا ما عدت بذلك الحق، فإن هؤلاء الأوغاد أعطوا الإنجليز حجة وأخروا قضية الاستقلال أميالا إلى الوراء، وأثاروا الذعر فى قلوب الجماهير، ولوثوا سمعة الحكم الوطنى. * 160(1/146)
الحكم إذا فسق عن أمر الله:
وظيفة حاكم ما فى أى بلد مسلم، أن يحرس الإيمان ويقيم العدالة ويصون المصالح، فإذا فرط فى أداء هذه الواجبات فقد قصر فى أعمال وظيفته، ووجب تنبيهه وإرشاده، أما إذا هدم الإيمان بالإلحاد، وأضاع العدالة بالجور، وأهمل المصالح باللهو، فقد خرج عن طبيعة وظيفته ووجب إسقاطه. وإسقاط حكومة ما فى البلاد التى تسودها النظم الديمقراطية عمل معتاد، وفى الغرب شواهد متجددة على أن استبدال وزارة بأخرى أمر هين، وسحب الثقة من أية وزارة هناك يرجع إلى رغبة الشعب فى تحقيق مطالب معينة أو رؤية لون جديد من النظم والأفكار.. وقلما تسقط حكومة هناك لخروجها عن طبيعة وظيفتها، فإن يقظة الأمم هناك، وأمانة الحكام لا تسمحان بتطور الأمور على هذا النحو القاتم! وليت الأمور فى الشرق تجرى على هذا النسق الرتيب فيستريح الحاكم والمحكوم من اضطراب الأجواء وعصف الأنواء. ويبدو أن دول الغرب نظمت أحوالها كذلك على ضوء ما أفادت من تجارب ماضيها، فإن الثورات الطائشة والانقلابات المفاجئة كلفت الأمم تضحيات ثقيلة. فلما جاء واضعو الدساتير الحديثة ليحكموا العلائق بين الشعوب وحاكميها أقاموا فى صلب النظم الدستورية أعمدة ثابتة تشبه مانعات الصواعق لتفرغ الجماهير فيها غضبها إذا رأت حاكمها أخطأ فى حقها دون أن يتعرض جوهر الحكم لزلزال يدك بنيانه. وهذا حسن! وما يمنع المسلمين من الإفادة منه إلا أنهم مغلوبون على أمورهم من قديم والمرء لا ينظم بيته إلا إذا كان سيدا فيه، وقديما قال المتنبى: سادات كل أناس من نفوسهم وسادة المسلمين الأعبد القزم!! وربما كانت أم الغرب غير محكومة بما أنزل الله، فهى على كل محكومة بما أرادت لنفسها. 161(1/147)
أما الشرق الإسلامى من عصور خلت فالأمر فيه على النقيض، لا هو يحكم بما أنزل الله ولا هو يحكم بما أراد لنفسه، وإنما تستبد بشئونه عصابات من المرتزقة احترفت أكل الناس كما يحترف الفلاحون حراثة الأرض ورعاية السائمة. * جاء الإسلام فاعتبر الحكم تكليفا لا تشريفا، وحمل الحاكم من الأمانات ما تنوء به الجبال، انظر إلى وظيفة الحاكم كما جاءت على لسان الرجال الذين رباهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا حكاما على المسلمين من بعده. عن الأغر أبى مالك قال: لما أراد أبو بكر أن يستخلف عمر بعث إليه، فدعاه، فأتاه، فقال أبو بكر: " إنى أدعوك لأمر متعب لمن وليه! فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن التقى آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروض لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر، يوشك أن تنقطع أمنيته وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم، فإن استطعت أن تجف يدك من دمائهم، وأن تضمر بطنك من أموالهم، وأن تكف لسانك عن أعراضهم فافعل، ولا قوة إلا بالله.. ". فلما ولى عمر أمور المسلمين كان من فقهه العميق لهذه النصيحة، وإدراكه الصحيح لعمل الحاكم أن قال: " لوددت أنى وإياكم فى سفينة فى لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه!! فقال طلحة: وما عليك لو قلت:" وإن تعوج عزلوه "؟! فقال عمر: " لا.. القتل أنكر لمن بعده "!. إن التلاعب بأمر الجماعة مصيبة نكراء، وعمر يريد أن ينكل بالحاكم الطائش ليكون لمن بعده عبرة. وعمر.. وفقهاء الأمة لا يفتون بقتل الحاكم جزافا! فإن قتل نفس- أى نفس- يعتبر كبيرة شنعاء، يعتبر خرقا فى نظام الوجود : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لزوال الدنيا 162(1/148)
أهون على الله من قتل رجل مسلم " ! إنما يتجرأ على الحاكم ويستباح، يوم يتجرأ هو نفسه على الأمة ويستبيحها ويسقط هيبتها وينتهك حرمتها. وقد احتاط الإسلام احتياطا شديدا فى إثبات هذه القضية، فلم يدع لأحد تصيد مقدماتها من أعمال متشابهة تضطرب فيها وجهات النظر، ولا من أخطاء يمكن الرجوع عنها أو يمكن تحمل العنت الخفيف فيها. وللإسلام عذره فى هذه الأناة، وهى لمصلحة الأمة لا لمنفعة الحاكم، فإن عواقب الفتن وخيمة على مستقبلها، ومن ثم نفهم ما رواه عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم ". والأمة فى حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات.. لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد !! والله يقول: " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ". وقد أوجب الله طاعة أولى الأمر علينا، ما داموا منا، فقال : " وأولي الأمر منكم ". ولن يكونوا مسلمين إلا إذا خضعوا لأحكام الدين، ولن يكونوا كذلك إلا إذا أحلوا حلاله وحرموا حرامه!. نعم.. إن المسلم قد يلم بسيئة، أو يفرط فى واجب، ولا يكون بذلك مرتدا، هذا حق، لكن البون بعيد بين اقتراف محظور، تعقبه توبة من قريب أو من بعيد، ورجل 163(1/149)
يصرف شئون الدولة على أسس تجعل الحرام متداولا كالنقد، مستساغا كالطعام والشراب!. إن الجريمة خروج على القانون، فإذا جاء حاكم ليجعل الجريمة نفسها قانونا يحتكم الناس إليه فمن العبث وصف هذا العمل بأنه (إسلام )!!. فما تكون الردة إذن عن الإسلام؟ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشى، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل". وقال: " السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " . وللحكم إغراء يزين لمتوليه أن يتخفف رويدا رويدا من تبعات الفضيلة والعفاف، وما أكثر ما يذكر الحاكم شخصه وينسى أمته، وما أسرع أن ينسى مثله العليا ويهبط عنها قليلا قليلا، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع فى غير ما منح له!!. بيد أن دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون فيجب أن ينتصب له فى كل زمان ومكان من يذودون عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا فى ذلك الويل والثبور، وقد بين الرسول الكريم أن الحكم من بعده ستعتريه أطوار شتى وسيدخل من أهواء الحكام فى مثل ما يدخل البدر عندما تغطى صفحته الغيوم والسحب فقال: " ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار "!!. " ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب "!. " ألا إنه سيكون عليكم أمراء مضلون، يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم "!. قالوا: وما نصنع يا رسول الله؟ قال:" كما صنع أصحاب عيسى، نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب والذى نفسى بيده لموت فى طاعة الله، خير من حياة فى معصية الله ". 164(1/150)
على أن لقول الحق وغرسه فى المجتمع سياسة لا ينبغى أن تغيب عن أذهان الدعاة والمصلحين، فليس الهدف المقصود أن يستقتل المرشدون من غير جدوى وأن يضحوا بغير ثمرة فذلك ما لا ينتفع به الحق ولا يضار به الباطل. وقد رأى الفقهاء أن إزالة المنكر إذا استتبعت مفسدة أعظم، فمن الخير التربص بها وارتقاب الفرص السانحة لها ـ والسكوت حينئذ ليس سكوت مجبنة وتخوف، ولكنه ترسم سياسة أفضل فى حرب المنكر كما قال الله تعالى: " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ". كما أن الحماسة للخير لا تعنى السفاهة على الناس وسوء الأدب فى عشرتهم والمتاجرة بأخطائهم، بغية فضحهم والتشهير بهم، فذلك كله ليس خلق المسلم ولا منهجه فى تدعيم الجماعة ورفع شأنها، فالحرية المطلوبة حدها الأعلى أن نتمكن من قول الحق، لا أن نتمكن من التطاول والبذاء!. " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما" 165(1/151)
عبر من الماضي :
عبر من الماضى الإسلام عقيدة ونظام.. عقيدة تعمر القلوب، ونظام يسود الجماعة ويقودها، وعمل العقيدة، ليس إصلاح النفس، وتكوين الفرد الكامل فحسب، بل العقيدة الراسخة دعامة يتماسك عليها كذلك نظام المجتمع، وتستقيم بها شئون الحكم كلها. فى فن الرسم تتكون الزخارف الجميلة من شكل معين يكرر وينسق مرات كثيرة لتخرج منه صور شتى. والفرد الصالح ـ فى نظر الإسلام ـ الوحدة التى تتكرر، فتكون المجتمع، وتكون الدولة، ومن ثم فالإشراف على تربية الفرد تربية إسلامية حقة عمل ذو نتائج واسعة، لأنه يحقق أهدافا جمة، إنه يقدم للفرد صلاحه الشخصى، وللمجتمع ضميره اليقظ الحى، وللدولة روح الإخلاص فى حياطتها وتلبية أمرها، وعنصر التفانى فى حمايتها وإبلاغ رسالتها. والحكومة لا تكون مسلمة إلا إذا أقامت النظام الذى يدعو إليه الإسلام وغرست العقيدة التى تمد هذا النظام بالحياة والحرارة والنماء، وعلى قدر انشغال الحكومة بذلك يكون قربها أو بعدها من هذا الدين، فلو أن رجلا تسمى خليفة المؤمنين واصطنع نوعا من الحكم لا يقوم على هذين الأساسين، فهو رجل كاذب فى دعواه، ولا يسلم له أبدا بالصفة التى انتحلها مهما نودى بها، أو دعى له من فوق المنابر. وليس الإسلام بدعا فى هذا المنطق، فلو أن أمة ما اعتنقت المذهب الشيوعى ثم جاء من حكمها بمنهاج رأسمالى، فهل تعتبر الصلة قائمة بين الأمة والحكومة على نحو من توافق الفكرة؟. إن الحكومات التى قامت فى روسيا التزمت الأصول التى اندلعت من أجلها الثورة الحمراء، والحكومات التى قامت فى فرنسا التزمت المبادئ التى هتف بها الثوار. فإذا انحرفت حكومة عن الحدود التى رسمت لها اعتبرت خائنة لمبادئها ومتمردة 167(1/152)
على شعبها، وقد اعتبر " نابليون " خائنا لنظام الثورة الفرنسية لما جعل نظام وراثة الملك فى بيته. ونحن ننظر إلى الشرائع التى جاء الإسلام بها، وقررت فى قرآنه الكريم وسنة نبيه، ونزن الحكومات التى تولت أمور المسلمين على ضوئها، فمن رجحت كفته فهو مثل صالح للحكم المسلم، وإلا.. فهو مقصر، أو مفرط، أو خائن، أو مرتد، على حسب موقفه من التعاليم والتشاريع التى لا ريب فيها من دين الله. ولسنا هنا نبكى على أطلال الماضى البعيد أو القريب، فما يجدى بكاء على فائت! ولا نرتب الناس على منازلهم من دين الله، فما أوتينا علم الغيب ولا معرفة السرائر. كما أننا لا نحب أن نشغل المعاصرين بتبعات السابقين، فالأمر كما قال الله ـ عز وجل ـ : " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ". إنما نقصد إلى تجنيب أمتنا العثار على فقه من تجارب الأمس وعظات التاريخ، ولا نهتم أبدا لتعديل شخص أو تجريحه إلا بمقدار ما يفيدنا فى يومنا وغدنا، ونعتبر ما وراء ذلك فضولا لا وزن له. بعد هذه النظرة المجملة إلى طبيعة الإسلام نلقى نظرات عجلى على طبيعة الحكومات التى قامت باسمه. أول حكومة أنشئت للإسلام هى حكومة النبى صلى الله عليه وسلم ثم حكومة الخلفاء الراشدين، وتشبه أن تكون امتدادا لحكم النبوة. فالرجال الأربعة الذين وطدوا أركان الدولة كانوا فى الذروة من تقوى الله وشرف الطبع ونصاعة الصفحة، وقد عاشوا مع النبى صلى الله عليه وسلم من بدء الوحى إلى أن اختار 168(1/153)
الرفيق الأعلى، فأشربوا حبه وغرست فى نفوسهم اتجاهاته وأقضيته، وتأسوا به فى تجرده منه، وتكريس حياتة كلها لإبلاغ الدين، والرحمة بالمسلمين، ونية الخير للناس أجمعين، ولمنزلة هؤلاء الرجال الأربعة واطمئنان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى علو سيرتهم وصدق ما يصدر عنهم قال : " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " والحديث فيه إيذان بما وقع من فتن وكراهية للمشاركة فيها، وفيه إشعار بأن سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده شىء واحد، ولم نجد هذا التوافق إلا فى حكم الرجال الأربعة، وفيه تحذير من استحداث أشكال فى الحكم وفى غيره من شئون الدين ينكرها الإسلام، واعتبار ذلك ضلالة وهو ما وقع ـ بعد ـ وأصاب الدين وأهله منه شر وبيل!! كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم منزلة قريش فى العرب، ويحس بأن الحكم قد لا يعدوها، وتوجس من الاستهتار بهذه الأمانة الثقيلة فاستنزل لعنة السماء والأرض على من يفرط فيها. عن أبى موسى الأشعرى قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب بيت فيه نفر من قريش وأخذ بعضادتى الباب، فقال:" هل فى البيت إلا قرشى؟ "قيل : يا رسول الله.. غير فلان ابن أختنا فقال: ابن أخت القوم منهم، ثم قال: إن هذا الأمر فى قريش، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا وإذا قسموا أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل " . أسمعت هذا الوعيد العنيف وهذا الدعاء الحار؟ فاسمع كذلك ما رواه البخارى عن سعيد بن العاص قال: أخبرنى جدى، قال: كنت جالسا مع أبى هريرة فى مسجد المدينة ـ ومعنا مروان ـ فقال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول: " هلكة أمتى على يد أغيلمة من قريش " قال مروان:(1/154)
لعنة الله عليهم، فقال 169
أبو هريرة: لو شئت أن أقول فلان وفلان لفعلت! قال سعيد: فخرجت مع جدى إلى الشام حين ملكه بنو مروان، فإذا من رآهم غلمانا أحداثا قال: عسى أن يكون هؤلاء الذين عنى أبو هريرة؟ فقلت: أنت أعلم !! . وقد كان مروان والى المدينة ، وتسمى ـ بعد أمير المؤمنين، وابنه عبد الملك، هو الذى نهى أن يقال له: اتق الله!! وهو ـ كما يزعم ـ خليفة رسول الله!!. إن الخلفاء الأربعة من قريش، لكنهم ما كانوا قط دعاة عصبية ولا ذكروا نسبهم القبلى أو الجنسى فى عمل لم أدوه، وحياتهم فى بيوتهم ومع الناس نهج فاضل للعفاف والتواضع، وقد كان بينهم تفاوت واسع، لا فى صلتهم بالإسلام، بل فى المزاج النفسى، وتقدير الأشخاص والأشياء وتلك طبيعة البشر التى لا معدى عنها. كان أبو بكر طويل الأناة بادى الرفق، وكان عمر شديدا حاسما، وطالما اختلفا، يرى أبو بكر العفو عن الأسرى فى بدر، ويرى عمر قتلهم، يرى عمر الاقتصاص من خالد بن الوليد، ويرى أبو بكر تركه. وكان عثمان رجلا خجولا رقيقا يحب الاستمتاع بما آتاه الله من طيبات على عكس عمر الذى يعاقب التوسع فيما أبيح له من زينة الدنيا، وكان عثمان لينا مع أهله وقرابته حتى فى أيام رسول الله، صدر حكم بقتل عبد الله بن أبى السرح لجريمة ارتكبها فى حق الوحى فجاء عثمان به إلى رسول الله مستشفعا لأنه أخوه من الرضاع، وما زال به حتى عفا عنه. وكان " على بن أبى طالب " شبيها بعمر فى مضائه وقضائه مباينا لعثمان فى رقته وليونته، ولكن الطابع العام لدولة الخلافة ـ بالرغم من أمزجة رجالها ـ كان إسلاميا نظيفا، وكانت الدولة حقا تمثل الإسلام كعقيدة ونظام خير تمثيل. 1- كان الحاكم يختار من صميم الأمة، ترشحه كفايته وثقة الجمهور به فحسب. 170(1/155)
2- كان جمهور المسلمين يعرف أنه مصدر السلطة، وأن الحاكم أجير عنده لعمل معين، وقواعد الإسلام توجب على الحاكم أن يستشير، وتوجب على كل فرد فى الأمة أن ينصح، ويعلن ما يرى أنه الحق، وعلى الحاكم أن يقرع الحجة بالحجة، وأن يؤيد وجهة نظره بالعقل، لا بالسوط. 3- كان الحاكم ـ من الناحية الشخصية ـ رجلا عابدا، بل إن فضل عبادته هو ما يجعله فى نظر الناس أهلا لإمامتهم وولاية أمورهم، وكان ـ من الناحية العامة ـ فقيها فى الإسلام، خبيرا بروحه وقوانينه، كأنه عالم أخصائى. 4- كان المال العام ملكا للأمة لا يرى للحاكم فيه أكثر من مرتبه المقرر له، وبيت المال مرصود من قبل ومن بعد لمصالح المسلمين فقط. 5- كان سواد الناس يرون الحاكم مسئولا عن إطعام الجائع وإسعاف الضعيف فلم يعرف على عهد الدولة الإسلامية الأولى ضياع أو عيلة، إن من حق كل محتاج أن يجد ضروراته، والدولة مسئولة عن ذلك. 6- الفوارق بين الأجناس لا وزن لها أبدا، فالرومى والحبشى والفارسى والعربى سواء تجمعهم أخوة الدين، ويتفاضلون بأعمالهم وحدها والنزعات القبلية ديست فى الرغام. 7- المساواة فى الحقوق والواجبات والمغارم والمغانم مقررة، يخضع لها الرجل الغامض فى قومه، والنابه بينهم، وشارات السيادة المفتعلة لم يكن لها وجود. هذه هى التقاليد التى اصطبغ بها الحكم إبان دولة الخلافة الراشدة، وهى مستمدة كما رأيت من شرائع الإسلام وأهداف رسالته العظمى. وددنا لو أن الأمد طال على هذا اللون الكريم من الحكم العادل، بيد أن حظ العالم عاثر، ونزوات الشر قدر لها أن تسبق وتغلب. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا فتحت 171(1/156)
عليكم خزائن فارس والروم، أى قوم أنتم "؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله ـ تعالى ـ فقال صلى الله عليه وسلم : " بل تتنافسون وتتحاسدون، ثم تتدابرون وتتباغضون، ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض " . وأخرج الترمذى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مشت أمتى المطيطا، وخدمتها أبناء الملوك فارس والروم سلط شرارها على خيارها " . وذلك ما حدث، فقد أفلت الزمام من أيدى المؤمنين الصالحين، وطاحت الخلافة الراشدة بعد ثلاثين عاما من قيامها، وبعد أن كان حكام الإسلام أعرف الناس به وأفقههم فيه وأحناهم على أهله أصبح أكثرهم حثالة تافهة تضر ولا تنفع، وتفسد ولا تصلح. والرسالات الكبرى فى الأرض، دينية أو مدنية، لا يحسن القيام عليها إلا عباقرتها وفلاسفتها، وفى عصرنا هذا شاهدنا الشيوعية الملحدة، لا يموت لها زعيم إلا خلفه زعيم مثله أو أكفأ منه، ولو وكل قياد هذا المذهب إلى أغيلمة سفهاء لباد بين عشية وضحاها، ولسقطت دولته من تلقاء نفسها. ولذلك كان انتقال الخلافة الإسلامية من أيدى الأكفاء النابهين من أولى السبق والكفاية إلى أيدى نفر مغمورين فى دينهم وعقلهم حدثا جللا فى تاريخ الإسلام، ولولا ملابسات صحبت هذا الانهيار فى الأداة الحاكمة لوقف سير الإسلام كرسالة عامة. ومن هذه الملابسات أن كثيرا من ذوى الفضل، رأوا أن يعترفوا بالأمر الواقع، وأن يخدموا الدين فى ظله قدر ما تواتيهم الفرص، فسلموا للولاة المتغلبين وتعهدوا المجتمع بما يمكنهم من إصلاح. عن ابن عمر قال: دخلت عليَّ حفصة ـ رضى الله عنها ـ فقلت: قد كان من الناس ما ترين، ولم يجعل لى من الأمر شىء، فقالت: إلحق الناس هم ينتظرونك، 172(1/157)
وأخشى أن يكون فى احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية وقال: من كان يريد أن يتكلم فى هذا الأمر فيطلع لنا قرنه! فلنحن أحق به منه ومن أبيه! قال حبيب بن مسلمة: فقلت لعبد الله: هلا أجبته؟! فقال: لقد هممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجميع، وتسفك الدم، ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله فى الجنان.. فسكت، قلت: حفظت وعصمت. (!) و" يزيد " هذا شاب خليع لا يصلح أن يلى أمر مدرسة ابتدائية بله أن يقف على منبر الرسول ويحل مكان أبى بكر وصحبه. ومع هذا المنكر الشائن فى استخلاف " يزيد"، فإن رجالا كثيرين أعجبهم فقه عبد الله بن عمر الذى يحتقر شخص الخليفة، ويرى أن يتركه وشأنه، محاولا خدمة الإسلام فى ميادين أخرى، ونحن لا نعلق على هذا الرأى ولكنا نرد إليه كثيرا من الأسباب التى حفظت الإسلام كتراث عقلى وبشرت به فى جبهات أخرى بعيدة. لقد تركت الجبهة الداخلية يموج بعضها فى بعض، وانصرف كثيرون إلى تدعيم الإسلام فى ساحات لا تزدحم عليها مطامع الحكم وأثرة رجاله المستبدين !! إننى أقدر هذا المسلك وأحترم بواعثه، فالرجل المخلص قد يكتنفه من دسائس الساسة وغفلة العوام وحيل الكبراء ما يصرفه عن التفكير فى الرياسة والنزاع الدائر حولها إلى عمل هو أهدى سبيلا وأقوم قيلا، بل إن الإخلاص قد يتقاضى المؤمن ذلك !!. على أن هذا المسلك يصلح علاجا للأغلاط العارضة والأخطار الموقوتة فحسب، ولو كانت تولية يزيد كبوة جواد حدثت من سوء اختيار المسلمين لأميرهم إثر خلل حدث فى الأساليب المشروعة لوجب اغتفارها، أما والأمر أخطر من ذلك، أما والأمر التواء برسالة جاءت رحمة للعالمين، واحتيال على تسويد أعراب من صعاليك الجزيرة ليكونوا باسم الإسلام ملوك العالمين.. فهذه قاصمة الظهر!. 173(1/158)
ولو أن المسلمين الفضلاء الذين عاصروا هذه الأحداث الهائلة قدروا فداحة النتائج التى تمخضت عنها، ولحقت بصميم الإسلام من جرائها، لسفكوا دماءهم فى الحيلولة دون وقوعها، ولكنهم ظنوها فلتة متداركة فتراخوا فى حلها، فلما عرفوا بعد فوات الوقت حقيقة ما حدث ندموا، ولات ساعة مندم. تبين أعقاب الأمور إذا مضت وتقبل أشباها عليك صدورها ولا نزعم أن الإسلام اختفى باختفاء دولة الخلافة، أو وقف مده العريض، فإن الملابسات التى أشرنا إليها آنفا عملت عملها العظيم، غير أن تغيرا طفيفا، بدأ يشتد على مر السنين، طرأ على الإسلام ودعوته الكبرى فإن فساد الحكم داخل البلاد ـ التى تصدر تعاليمه للناس ـ ليس بالأمر الهين. عن حذيفة رضى الله عنه قال: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى، فقلت: يا رسول الله إنا كنا فى جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن! فقلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتى ويهتدون بغير هديى، تعرف منهم وتنكر!! قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، فما تأمرنى إن أدركنى ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". والحديث يومئ إلى فساد التطبيق أو اعوجاجه، أما أصول الإسلام فلم يعرها انحراف قط. القرآن الكريم محفوظ حرفا حرفا: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ". والسنة المطهرة ثابتة الجوهر والمظهر، ولم يحك التاريخ عناية بآثار مصلح وتوجيهات زعيم، كما حكى عن اهتمام المسلمين بحياة رسولهم. 174(1/159)
وقد ازدهرت ثقافة الإسلام فى الأيام التى بدأ الحكم يخرج فيها عن منهجه المشروع. ومن ثم اشتد الصراع بين الأئمة والحكام على ما سنقص- بعد- ونتج عن ارتفاع المستوى العلمى لدى جمهور المسلمين فى الصدر الأول أن أضرار الحكم الفاسد احتبست فى دائرة محدودة، كادت معالمها تتضح فى أذهان العامة، هى دائرة " السلطان وحاشيته "، فقاطعوها ونأوا بجانبهم عنها، ولعل من آثار هذه النزعة مما يدور على ألسنة العامة، حتى اليوم: " السلطان من لا يعرف السلطان ". وأعان على نقصان الشر، وحصار مصدر الضر، أن الحكم قديما لم تكن له الهيمنة على الدقيق والجليل من شئون الحياة كما هو الآن بعد تحول الدولة إلى سلطة مركزية. ونتج كذلك عن ارتفاع المستوى العلمى فى الصدر الأول، شدة الإحساس بحقيقة الخير والشر، والمعروف والمنكر، فما تقع خطيئة من مستبد إلا لحقتها صيحات الناقدين بالشكاية والفضيحة، فكان المظلوم يحظى بالعطف والمواساة، وكان الظالم مزريا عليه باللسان إذا عز تأديبه بالسنان!. والليل الذى أطبق على الإسلام والمسلمين بأسدافه الحالكة يوم غاضت منابع العلم وخفتت أصوات النقدة، ودرست سبيل الدعوة إلى الله، ويوم أمست الصحائف التى تمثل الثقافة العامة لهذا الدين وأهله مزيجا من الأقوال الفارغة والآراء التافهة والتقليد الأعمى والألفاظ الجوفاء، حتى أشبهت كتب المسلمين فى العصور الأخيرة كتب السحر عند اليهود الأقدمين، تلك التى قال الله فى دروسها: " ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ". 175(1/160)
وعندى أن فساد العلم والأدب لدى المسلمين أخيرا يرجع إلى وطأة الحكم المستبد وزيادة توغله، ورغبته فى إقصاء كل ما يعوق ظلمه ويكفكف غلواءه. وقد تظاهر الأمران معا على تحطيم كيان الأمة التى ظلت تقاوم- بالإيمان المجرد- فساد قرون متطاولة حتى جاء القرن الرابع عشر للهجرة فإذا بها مزق مهلهلة فى أيدى الطامعين والغاصبين. وإليك بعض المأخذ على نظام الحكم فى العهد الأموى: ا- تحولت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، واحتكرت زعامة المسلمين أسر معينة. 2- ضعف إحساس الأمة بأنها مصدر السلطة، وأن أميرها نائب عنها أو أجير لديها، وأصبح الحاكم الفرد هو السيد المطلق النفوذ، والناس أتباع إشارته: ترى الناس إن سرنا يسيرون حولنا وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا 3- تولى الخلافة رجال ميتو الضمائر وشباب سفهاء، جريئون على معصية الله واقتراف الإثم، وليس لثقافتهم الإسلامية قيمة. 4- اتسع نطاق المصروفات الخاصة للحاكم وبطانته ومتملقيه، وتحمل هذه المغارم بيت مال المسلمين وأثر هذا السرف الحرام على حاجات الفقراء ومصالح الأمة. 5- عادت عصبية الجاهلية التى هدمها الإسلام، فانقسم العرب قبائل متفاخرة، ووقعت الضغائن بين العرب والفرص وغيرهم من الأجناس التى دخلت فى الإسلام قبلا، وكان الحكم المستبد يثير هذه النزعات الضالة، ضاربا بعضها بالبعض ومنتصرا بإحداها على الأخرى. 6- هانت قيم الخلق والتقوى، بعد ما تولى رئاسة الدولة غلمان ماجنون، وبعدما لعن السابقون الأولون على المنابر، حتى أن شاعرا مسيحيا مدح يزيد بن معاوية فقال: ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار! 176(1/161)
7ـ ابتذلت حقوق الأفراد وحرياتهم على أيدى الولاة المناصرين للملك العضوض، فاسترخص القتل والسجن! حتى ليروى الترمذى عن هشام بن حسان قال: " أحصى ما قتل الحجاج صبرا فوجد مائة ألف وعشرين ألفا "! وروى البخارى عن سعيد بن المسيب : لما وقعت الفتنة الأولى ـ يعنى مقتل عثمان ـ لم تبق من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعنى الحرة ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ. والواقع أن الهزة التى أصابت الإسلام من هذه الفتن المترادفة كانت من العنف بحيث لو أصابت دعوة أخرى لهدمتها، ولكن معدن الدين وتماسك العلماء والجماهير حوله أمكنه من اجتياز هذه الأزمات العصيبة وهو سالم معافى ثم يستأنف سيره فى العصور من جديد.
هل تورث الزعامة؟!
الخلافة فى الإسلام نيابة عن النبوة فى رعاية شئون الدين والدنيا، فهى زعامة روحية ومدنية لا تتوفر خصائصها إلا فى قلة من الرجال الموهوبين الممتازين، ولم يثبت عقلا ولا نقلا أن جنسا من الأجناس- بله أسرة من الأسر- قد احتكر فى أفراده هذه المواهب والميزات حتى تحبس زعامة لأمم فيه وتوقف عليه!. والنبوة نفسها وهى الأصل، لم تنقل بالميراث فكيف تتنقل الخلافة- وهى الفرع- بالمواريث؟. وقد لاحظ الأقدمون مظاهر شتى للوراثة، وبنوا عليها أحكاما صائبة فلم يغالوا ولم ينكروا. إذا طاب المرء طابت فروعه من عجب جادت يد الشوك بالورد وقد يخبث الفرع الذى طاب أصله ليظهر فعل الله فى العكس والطرد!! 177(1/162)
وهذا حق، فقد ذكر لنا القرآن الكريم أن النبوة منحت لنوح وإبراهيم أما ذراريهما فقد توزعهما الفسق والهدى، بل أغلبهم ضل السبيل. " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ". على أن المنحدرين من آباء عظام- وخصوصا الفاشلين- يرفضون هذا المنطق ويزعمون لأنفسهم حقوقا ما أنزل الله بها من سلطان!!. فلما جاء الإسلام، ورفع الله بكتابه أقواما ووضع آخرين، وتقدم أولو الفضل والنهى، وإن كانوا عبيدا!! وتأخر المفرطون والكسالى، وإن كانوا نسل بيوتات لها فى الجاهلية الأولى شأن يذكر، كان أبو سفيان وبنوه من هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم فى مؤخرة الصف إذ أنهم آخر من أسلم فى مكة. ومع أن النبى وخلفاءه أكرموا هذا البيت وعرفوا له مكانته السابقة فى الجاهلية، إلا أن نزعة السيطرة والاستعلاء، الكامنة فى دماء رجاله لا تشبعها الترضيات الخفيفة! إنهم يتطلعون إلى الكثير !! إنهم يبغون استعادة مجدهم الضائع. روى الحاكم عن يزيد بن أبى سفيان قال: قال لى أبو بكر الصديق حين بعثنى إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك، بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ولى من أمر المسلمين شيئا، فأمر عليه أحدا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم ". وخشية أبى بكر لها ما يبررها! وقد ولى معاوية الشام فرسم سياسة بعيدة المدى لجعلها قاعدة ملك وطيد، فلما حانت الفرصة وثب الداهية على الأمة فى محنتها ونصب نفسه ملكا عليها. مرت سنين عجاف ثم أعلن معاوية أن يزيد ولى عهده على أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك عادت الأيام سيرتها الأولى، ورجع ملك عبد شمس إليهم!!. وكما تحولت الثورة فى فرنسا بعد إعلان حقوق الإنسان إلى " إمبراطورية نابليونية " تحولت أمة الإسلام، دين الأزل والأبد، أمة القرآن، ختام وحى الله لهداية عباد الله تحولت(1/163)
إلى ملك لأسرة كان لها فى الجاهلية شأن!!. 178
إن هذا الملك الذى جنح إليه معاوية فسر أعماله السابقة تفسيرا سيئا، وكان يمكن تشبيه خلافه مع على بخلاف طلحة والزبير وغيرهما مع على، بيد أن الدلالة الصارخة لتمليك يزيد تجعل البون شاسعا بين معاوية والصحابة الأجلاء. إن الخلفاء السابقين- عدا عثمان رضى الله عنه - كان لهم بنون، فأما أبو بكر فلم يخطر بباله أن يرشح ابنه لخلافة، وأما عمر فقد نص على حرمان ابنه، وأما على فقد طلب الناس إليه أن يستخلف الحسن فأبى، وقال: لا آمركم ولا أنهاكم.. أنتم أعلم. تلك هى سنة الخلفاء الراشدين المهديين التى أمر النبى أن نعض عليها بالنواجذ، وحذرنا مما عداها قائلا: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " . ذلك مع أن يزيد شاب لا يقرن فى قياس أبدا مع واحد من أبناء الخلفاء السابقين. *قلت فى كتابى " الإسلام والمناهج الاشتراكية ": "... على أن الإسلام الذى أقر مبدأ التوارث المالى رفض بشدة مبدأ توارث الزعامات الروحية أو المدنية أو غيرها، فعندما اختار الله إبراهيم- عليه السلام- نبيا، طلب منه هذا النبى الكريم أن تتنقل نعمة الاختيار فى بنيه، فأبى الله عليه ذلك ". " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " وتعاليم الإسلام تقطع دابر هذا التوريث، ولا ترشح للزعامة إلا الذين يدركونها عن جدارة وكفاية. غير أن المسلمين لهم فى ذلك تقاليد جنونية فى منتهى السخف، بل أحسبها نزعة من نزعات الوثنية المخرفة تسرى إلى الأمم! فى إبان الضعف والسقم، وليس لأمتنا أى عذر فى هذا الخبط. 179(1/164)
إن المتصوفة فى بلادنا يتوارثون مشيخة الطريق ويكتبون أوراقا طولها عدة أذرع مملوءة بالأنساب التى تصلهم إلى فلان أو فلان. وفى مصر جمعية شرعية أسسها جد، وورثها ابن، وينتظر رئاستها حفيد. وقد كان شيخ الإسلام فى تركيا يورث شيخ الإسلام المرتقب، والقائد المظفر يلد القائد المظفر. والشرق الإسلامى ملىء بالأسر التى لا تنتمى إلى آدم أبى البشر المعروف فهو مخلوق من تراب، أما هم فسلالات من عنصر آخر لا يدرى كنهه،... لعله النار!! وتاريخ هذه الأسر يعرفه- من يطلبه- عند تمحيص الأسباب الحقيقية لتدهور الإسلام والمسلمين، منذ بدأ طور الانحلال إلى اليوم... ". إن النبى صلى الله عليه وسلم كان عربيا من قريش، وكانت مكانة قريش فى العرب تشبه مكانة " إنجلترا " فى دول " الدومنيون " أو مكانة " روسيا " فى الدول الشيوعية، وهذه المكانة للدول الكبيرة لا تعطى أفرادها امتيازا خاصا، ولكن إذا كان فى هذه الجماعة الكبيرة من ترشحهم عبقريتهم أولا للتقدم، ويؤهلهم نبوغهم للرياسة، فإن مكانة الشعب الذى ينتسبون إليه تعينهم على أخذ الولاية العامة، وذلك سر ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم : أن " الأئمة من قريش " فقد كانت قريش يومئذ أهل السبق إلى الدين والبلاء فى نصرته والتضحية الرائعة فى حمايته. وإن المنصف حين يقرأ سير المهاجرين الأولين، ويلمس الدرجة التى كانوا عليها من اليقين ويشهد أثر الصحبة، من بدء الوحى، والشركة فى حمل أعباء الرسالة الضخمة مع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ليوقن بأن هؤلاء الرجال- قبل أى مخلوق- أحق بإمامة المسلمين، فإذا انضم إلى هذه الكفاية الشخصية عامل آخر من منزلة القبيلة فى المجتمع كان معنى ذلك أن القوة المعنوية قد وجدت سلاحها المادى، وأن الإيمان قد دعم بالسلطان، وتلك هى أسس الحكم الناجح. فالمقياس الأول هو الجدارة الخاصة للفرد، والعامل المساعد هو المكانة العامة للأمة. 180(1/165)
فإذا فقد المرجع الأول. لاختيار الزعيم المطلوب فلا مكان لقريش، ولا لغيرها، والإسلام لا يكترث لأنساب ولا ألوان ولا أجناس، وعلى المسلمين أن يبحثوا عن أكفأ رجل فيهم ليضعوا بين يديه زمامهم، غير ناظرين فى تقويمه إلا إلى المبدأ الشامل الجامع المانع فى كتاب الله: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم ". أما الدعوة إلى أسرة ما، أو قبيلة ما فهى العصبية التى قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : " من قُتل على راية عمية، يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية " . وترك الكفء وانتخاب غيره، لأنه ينتسب إلى فلان أو فلان ظلم لصاحب الامتياز بإهدار حقه، وظلم للمحظوظ بتكليفه فوق طاقته، وظلم للأمة، إذ فوتنا عليها الانتفاع بخيرات بنيها، وعرضناها لشرور عجزتها وسفلتها، ولم ذلك؟ لإرضاء نزعة طائشة!. وعن واثلة بن الأسقع قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: " أن تعين قومك على الظلم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم ". ونحن نحترم أسرة النبى- صلوات الله وسلامه عليه- ونرى فى إكرامها قسطا من محبته والوفاء له، ونأسى لما أصاب هذه الأسرة النبيلة من تقتيل وتشريد على أيدى الحكام المستبدين، ومع ما نكن من مشاعر الإجلال والتوقير لها، فنحن لا نرضى أن نحبس زعامة المسلمين فيها ولا فى غيرها من الأسر الأخرى، وذلك حكم الله ورسوله، لا محيص عنه. ومن التجنى الممقوت على تاريخ العالم أن نحسب خصائص الإنسان الراقى احتكارا على جنس بعينه، أو بيت بعينه، وقد علم الله نبيه أن يقول: " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ". 181(1/166)
" قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ". وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة ابنته: " لا أغنى عنك من الله شيئا " ويحذر قومه أن يأتيه الناس بأعمالهم ويأتوه بأنسابهم. والواقع أن الصالحين أنسباء، ولو تباعدت وشائجهم، وأن اختلاف المسلك يقطع الصلات ولو كانت بين الوالد وما ولد. " رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ". إن الحمقى وحدهم هم الذين ينقلون ذكريات الماضى البعيد ليثيروا بها أحقاد الناس فى حاضرهم، ومعاذ الله أن نقصد إلى شيء من هذا. ولا أدرى سر الانفعال الذى يجعل العوام عندنا يعتبرون أنفسهم أبطالا وشركاء فى الروايات الدامية التى وقعت من أجيال سحيقة، فبدلا من أن يجتازوها، وقد استخلصوا منها العبرة، إذ هم يتصورون أنفسهم أصحاب حقوق فيها ثم يعيدون الخصومة جذعة، بعد أن يتشيع كل فريق منهم إلى ناحية يهواها! وقد كان العوام عندنا يستمعون قصة أبى زيد ثم يتحولون إلى معسكرين يتعصب أحدهما للزناتى، والآخر لقرنه، فإذا حميت أخبار النزال على لسان قارئ القصة حميت الدماء فى عروق المعسكرين المحتشدين المتربصين ثم انجلى السامر عن جراح وطعان! لا أستطيع تسمية هذا إلا سفها، وعجيب أن أمتنا غرقت فى هذا السفه دهرا.. وإلا فما شيعة وسنة؟. 182(1/167)
إن القرآن واحد، والرسول واحد، فما هذا الانقسام؟ هب الأولين اختلف بعضهم على بعض فما معنى نقل الفرقة من الأسلاف إلى الأخلاف؟. إن ألف معول نقضت بناء أمتنا حتى جعلته أطلالا، وإن نصف هذه المعاول كان بأيدينا نحن أنفسنا، لأننا نتعلم من الماضى ما يزيدنا خبالا، وما يزيد الهوة سعة، ولو أننا درسنا تاريخنا على حاليه، وفتشنا فى أسباب الهزائم كما يفتش القائد فى ملابسات المعارك السابقة ليستفيد منها فيما يستأنف من نشاط، لكان ذلك أجدى علينا. وما تعرضنا فى هذا الكتاب لأنباء الفتن الأولى إلا بالقدر الذى يعيننا على تجنب فتن أخرى، وقد عرفنا الرسول الكريم أن أول ما ينقض من عرا الإسلام هو الحكم، فإذا أردنا إعادة البناء فلا حرج علينا أن نتبين مزالق الأولين حتى لا نقع فيها. ونحن نأخذ ديننا أولا وآخرا من كتاب الله وسنة رسوله، ولا نبالى بمصاير من اختلفوا بعده، فما تكلفنا شيئا لا يدريه، ولا يدريه النبى نفسه؟. روى مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم :" ترد أمتى على الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله! قالوا: يا نبى الله.. تعرفنا؟ قال: نعم.. لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون على غرا محجلين عن آثار الوضوء وليصدن عنى طائفة منكم، فلا يصلون، فأقول.. يا رب هؤلاء من أصحابى، فيجيبنى ملك فيقول: وهل تدرى ما أحدثوا بعدك؟ " . وفى رواية البخارى: " بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بينى وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى، حتى إذا عرفتهم خرج رجل بينى وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم!! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ". أى أن الناجى قليل!!. 183(1/168)
فإذا عرفنا من دستورنا الأصيل أن الحكم أمانة لا يحملها إلا أكفأ مسلم، وأن الزعامة لا تورث، وأن التفكير فى توريثها جر على المسلمين قديما شرا مستطيرا، وأنه فى عصرنا هذا شغل الأغبياء القاعدين وأمل الأدعياء الفاشلين تعلمنا أن نضع زمامنا حيث يجب أن يوضع، أى فى أيدى المسلمين المشهورين بالنبوغ والذكاء لا بالآباء والأسماء. ذلك وما نحن بصدده شىء آخر، غير توريث الملك الذى أقرته الدساتير الحديثة فى الشرق والغرب، فإن هذه الدساتير فصلت بين الملك والحكم، وجعلت الرجل الذى يلام ويثاب خاضعا لمبدأ الاختيار المطلق الذى أوضحناه.
من هنا يجىء الخطر!
إن الطريق التى سلكها الحكام الفجرة قديما وحديثا متشابهة، لأن طبيعة الغشم التى يصدرون عنها واحدة وإن اختلفت الأعصار والأديان. إنهم يقسمون الأمة أحزابا، ثم يضربون حزبا بحزب، ويفرقونها شيعا ثم يسلطون شيعة على أخرى. كذلك فعل فرعون لما تأله فى مصر: " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ". والأمة التى تقع فى هذه المآسى لا تظفر بعهود طويلة من الحرية والأمان بل سرعان ما تقع فريسة غيرها، لأن مناعتها الخاصة ذابت فى أتون المظالم التي جاءتها من داخلها، أى من نفسها!. وانقسام الأمة شيعا على هذا النحو يساوى فى خطورته الصواعق التى تنقض من السماء أو الزلازل التى تندك بها الأرض فهو مصدر لتقويض العمران وضياع العزة 184(1/169)
وهوان الشأن، وقد قرن الله هذه الأخطار جميعا فى سياق واحد، عند تأديب الناس وتهديدهم لو شردوا: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ". ويبدو أن الهرج الذى عانته بلاد الإسلام جاء من الناحية الأخيرة، فلم يخسف بالأمة من فوق أو من تحت، وإنما حاق بها الضر من تفرق الكلمة، وعلة هذه الفرقة القاتلة من فساد الحكم على أيدى المستبدين الذين انفردوا به ليلا طويلا. ويستطيع الأخيار من المسلمين أن يرددوا فى عصور شتى ما قاله الطغرائى فى أيامه وهو ينال من حكامه، وينوه بخلقه وإقدامه : ما كنت أوثر أن يمتد بى زمنى حتى أرى دولة الأوغاد والسفل تقدمتنى أناس كان شأوهم وراء خطوى، لو امشى على مهل ولو حشدنا الشواهد على هذا المعنى لضاق بنا المقام. ونعتقد أننا وضعنا أيدينا على مصدر الخطر حين حصرنا الاستعمار الداخلى فى دائرة حمراء تومئ إلى شناعة أثره فى حاضر الناس ومستقبلهم. إنه دابة الأرض التى أكلت قوائم الملك الإسلامى فخر صريعا لليدين وللفم!. ومن عهد النبوة حذر صاحب الرسالة أمته من هذا المصير، لقد علم أن الإسلام سينساح فى الأرض لا يرده سلطان ولا تحجزه قوة، وأن المسلمين سيظلون آمادا طويلة أقوى وأغنى أمم الأرض، ولن تهدم ملكهم إلا معاولهم هم أنفسهم. حين تؤول أمورهم إلى الطغاة والبغاة. عن ثوبان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها 185(1/170)
ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربى ألا يهلك أمتى بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربى- تعالى- قال: يا محمد.. إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإنى أعطيتك لأمتك أنى لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا " . أرأيت هذا الوعد الإلهى القاعد وما فى ثناياه من وعيد وإنذار، لو اجتمع على هذه الأمة أهل الأرض أجمعون فرموا بنيانها بالزلازل التى تدك الجبال ما استطاعوا اقتحام أسواره، حتى إذا تحركت الأيدى الخائنة بمعاولها- من الداخل- ثم هوت على الحصون السامقة، بدأ الانهيار وحل العار!. ونستقرئ الأحداث السابقة فتلطمنا هذه الحقائق المرة، عندما انطلقت جحافل التتار تدمر كل شىء، وتطوف ممالك الأرض تحت أقدامها، وقف السيل الهمجى عند حدود المسلمين متهيبا يدور حول نفسه كما تدور اللجج أمام الجنادل الصلبة لا تجد منفذا. ولكن الجنادل الخشنة الظاهر كان الخلاف على الحكم قد نخرها، وملأ جوفها بالفجوات، كان النزاع بين وراث الحكم من السنة الشيعة قد أدى دوره الخبيث، فما هى إلا جولات قصار حتى تداعت السدود، وسقطت بغداد فى أيدى الهمج، ونكست أعلام السنة والشيعة معا. فعلام تنازعوا؟. على غنيمة الحكم، على استلاب أمة، على المال والوجاهة، لو كان الحكم تكليفا مضنيا، وتضحية بالنفس والنفيس فى سبيل الله، ما اكتنفته هذى المخازى، وهكذا أهلك بعض الأمة بعضا قبل أن يهلكها الأجانب. 186(1/171)
وما حدث عند زحف التتار حدث مثله عند انسياب " أوروبا " بقضها وقضيضها على الشرق الأوسط، واجتياح الصليبيين للدويلات الإسلامية المبعثرة فى رقعته، لو أن أمراء المسلمين طلقوا شهواتهم، وأخلصوا لله قلوبهم، ونصحوا للأمة التى امتلكوا قيادها، لارتد الصليبيون على أعقابهم خاسئين. غير أنهم تنازعوا على السلطة، تنازعوا على الرياسة، وصدارة الجماعة امتلاك الجماهير، كما تتنارع الأسر القوية فى قرانا المنهوكة على منصب " العمدة " فكان اعوجاج السلوك فى الداخل مجلبة الهزائم الساحقة التى أصابت المسلمين فى الخارج!!. وقد حدد النبى صلى الله عليه وسلم فى دائرة أدق مبعث الشر على جمهور الأمة فقال: " إنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين " . والأئمة المضلون هم الفراعنة الحاكمون، هم الذين قال الله فيهم: " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ". أولئك كانوا ـ وما زالوا ـ القرحة الموجعة الهابطة بقوى الشعوب، المستنزفة لدمها وحياتها، والمحطمة لكيانها ومقوماتها، بلى الإسلام بهم، وكلف ـ لأمر يعيينا فهمه ـ أن يحمل أثقالهم، فحملها، وما زال يطوف بها الآفاق حتى سقط بها. ويوم سقط بها صدعت دولته، وطردت خلافته، وأصبح آلة غثاء. فإذا أردنا أن ننهض من جديد فلنزح عن كاهله المتعب هذه الأوزار، ولنطلقه من قيود الاستبداد والاستعباد. لندع هذه الناحية المشحونة بصور النزاع الدامى بين سلالات تطلب السيادة على أمة كارهة، لندع العرب والمسلمين جانبا ـ وهذا موقفهم من الدين الذى ورثوه ـ 187(1/172)
ولنلتفت إلى الناحية المقابلة حيث الروم والمشاركون لهم فى عقائدهم، والروم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأولين هم صميم المسيحية، ولنذكر حديثا رواه الإمام مسلم وتعليقا عليه لداهية العرب عمرو بن العاص، وإنك لتقرأ الحديث والتعليق فلا تدرى أتعجب لصدق قائل الحديث، أم لذكاء صاحب التعليق. عن المستورد القرشى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس" فقال عمرو بن العاص: أبصر ما تقول!! فقال المستورد: أقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمرو: إن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعة، إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأجبرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك " . هذا الحديث لو قيل اليوم، ولم يقل من ألف سنة وأربعمائة سنة، ما شابته ذرة من باطل. ولنرسل الطرف إلى الغرب لنرى مصداق هذه النبوءة، وحصافة التعليل لها من رجل عربى بعيد الغور!. إن النزعة القبلية القديمة عندنا أشعرتنا خطأ أن الشرف يأتى من مناصب الحكم وحدها، ومن ثم دار الكفاح حولها فى مرارة وقسوة. ولو كان الفرد يدرك أنه يستطيع بلوغ القمم عن طرق أخرى غير رياسة العامة وإصدار الأوامر لاتجهت ملكاته إلى هذه الطرق الأخرى فبرز فيها ونبغ وساد، فقه الغربيون هذا المنطق السديد وبنوا عليه حياتهم وأقاموا حضارتهم، فلم يصابوا من داخلهم بهذه الآفات التى أصبنا بها فى حياتنا وحضارتنا، لقد اتجهوا إلى العلم والأدب والصناعة والتجارة والزراعة فكانوا فى هذه الميادين الرحيبة ملوكا، واتسعت هذه الميادين لخواصها على كثرتهم فقل بينهم الصدام، ولا غرو، فالقرية لن يكون لها إلا عمدة واحد، ولكن حاجتها لا تنتهى إلى الطبيب والحاسب والكاتب والعالم والأخصائيين فى شئون العمران المختلفة، فإذا سادت الجماعة فكرة أن الجاه فى منصب العمدة فحسب تفانت أسر كبيرة(1/173)
لنيله (!) أما إذا أدركت أن الشرف مقرون 188
عرفا وتقليدا بسائر الأعمال الأخرى توزعت عليها فى غير جلبة، وذاك سر من أسرار التفاوت بين الشرق والغرب، ولا دخل فيه لدين. آه لو انحلت هذه العقدة فى مجتمعاتنا، إذن خلقت خلقا جديدا، وما دامت قائمة فسوف تترادف الفتن وتتلاحق المصائب وتنفذ الجراح فما تلتئم إلا على دغل. يرى عمرو العربى خلالا بعينها فى الروم فيرد إليها أساليب بقائهم برغم ما ينالهم من كوارث، إن الفتن لا تطيش بأحلامهم لأنهم يتلمسون الخلاص منها بنفوس لا تنضح بحب السيطرة وعشق الرياسة، وقد رأينا دول أوروبا تدخل فى حربين طاحنتين وتستعد لخوض حرب أخرى، وقد فقدت فى هذه الحروب ألوفا مؤلفة من الرجال والأموال ومع هذه المغارم لم يفقدوا قدرتهم على الجلاد الطويل، لأنهم ـ كما يقول عمرو بن العاص ـ أسرع الناس إفاقة عند مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة. قد تستغرب أن يصفهم عمرو بأنهم أجبر الناس لمسكين ويتيم وضعيف ولكن مشروعات الضمان الاجتماعى وإعانة العاطلين التى نقتبس منها اليوم سطورا قليلة، أليست وليدة تفكيرهم وثمرة نظمهم؟. وإن أنس لا أنسى أن وزيرا فى إنجلترا يستقيل من منصبه لأن الحكومة كلفت المرضى أن يدفعوا نصف ثمن الأسنان والمناظير والأدوات والآلات التى تصرف فى تطبيبهم، وهو يريد أن تنفرد الحكومة بحملها دونهم!. إن ذلك يتم هناك على حين أن مرضانا يموتون بعاهاتهم تحت أنظار العامة والخاصة، ولا يجدون فؤادا يرق، ولا يدا تعطى. إن تقطع الأواصر فى مجتمعاتنا يعود إلى ما يسكن قلوب الحاكمين من تأله وغطرسة وإلى حسبان الوظيفة مظهر وجاهة لا وسيلة خدمة عامة. وسر هذا الفساد أن الدين عنوان لا موضوع له فى بلاد لا تقوم على الأخوة، بل على سيادة قلة وذلة أتباع، وعلى تنافس بين السادة لاستدامة هذا الوضع بحوك الدسائس وسفك الدماء!!. *189(1/174)
وخامسة ـ كما يقول عمرو بن العاص ـ فى التعليل لعظمة الروم، خامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ـ ألا ليت عمرا الذكى الأريب ذكر ذلك، وهو يقيم لمعاوية ملكا عظيما على أنقاض الخلافة الراشدة، إذن لحمى قومه من ذل كثير.
عهد العباسيين:
يستحب أن نكرر القول فى أصول الإسلام وشعائره لنحاكم الدولة إليها إذا أردنا أن نسجل وفاءها له أو خروجها عليه. وخير خلاصة للأصول التى قام عليها هذا الدين ذكرها الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا فى: ( أ ) الربانية. ( ب ) التسامى بالنفس الإنسانية. (جـ) تقرير عقيدة الجزاء. ( د ) إعلان الأخوة بين الناس. (هـ) النهوض بالرجل والمرأة جميعا، وإعلان التكافل والمساواة بينهما، وتحديد مهمة كل منهما تحديدا دقيقا. ( و ) تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملك والعمل والصحة والحرية والعلم والأمن لكل فرد، وتحديد موارد الكسب. ( ز ) ضبط الغريزتين: غريزة حفظ النفس، وغريزة حفظ النوع، وتنظيم مطالب الفم والفرج. ( ح ) الشدة فى محاربة الجرائم الأصلية. 190(1/175)
(ط) تأكيد وحدة الأمة والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها. (ى) إلزام الأمة الجهاد فى سبيل مبادئ الحق التى جاء بها هذا النظام. (ك) اعتبار الدولة ممثلة للفكرة وقائمة على حمايتها ومسئولة عن تحقيق أهدافها فى المجتمع الخاص وإبلاغها إلى الناس جميعا. ثم ذكر الإمام الشهيد أن هناك فرائض جعلها الإسلام سياجا لأصوله وربطا للناس بها حتى يخلصوا لها ويقوموا على تحقيقها أفرادا وجماعات. ولخص هذه الفرائض فيما يلى: ( ا ) الصلاة والذكر والتوبة والاستغفار. (ب) الصيام والعفة والتحذير من الترف. (جـ) الزكاة والصدقة والإنفاق فى سبيل الخير. ( د ) الحج والسياحة والرحلة والكشف والنظر فى ملكوت الله. (هـ) الكسب والعمل وتحريم السؤال. ( و ) الجهاد والقتال وتجهيز المقاتلين ورعاية أهليهم ومصالحهم من بعدهم. ( ز ) الأمر بالمعروف وبذل النصيحة. ( ح ) النهى عن المنكر ومقاطعة مواطنه وفاعليه. ( ط ) التزود بالعلم والمعرفة لكل مسلم ومسلمة فى فنون الحياة المختلفة كل فيما يليق به. (ى) حسن المعاملة وكمال الاتصاف بالأخلاق الفاضلة. (ك) الحرص على سلامة البدن والمحافظة على الحواس. (ل) التضامن الاجتماعى بين الحاكم والمحكوم بالرعاية والطاعة معا. *191(1/176)
فى حدود هذه التعاليم المستقاة من الكتاب والسنة نتعرف قرب الدولة أو بعدها من الإسلام. وهذا الكتاب ليس استقراء لأعمال الحكام واحدا واحدا ووضعها فى ميزان النقد، وإنما هو تسجيل لبعض مآخذ نشأت عن انحلال عروة الحكم، وأحدثت على مر الأيام فتوقا فى حقيقة الإسلام، ونريد تجنيب المسلمين غوائلها فى نهضتهم الحديثة. ومن الخطأ البعيد أن تحسب الحكم الذى قام فى هذه العهود شرا محضا، فالصفة الحقيقية بها ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم فى نعت رجاله: " يهدون بغير سنتى، تعرف منهم وتنكر" وما ننكره على العهد العباسى ما يلى: ا- بناء أصول الإسلام وإقامة شعائره يتطلب كفاية ممتازة، وقد أهدرت هذه الحقيقة وغض عنها الطرف إذ حصرت الخلافة- وهى حكم مباشر- فى بيت بنى هاشم، بعد هلاك بنى أمية، وتوريث الحكم- كما علمت- ينكره الإسلام، ولا يصحح بطلانه أنه مقصور على قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه القرابة لا تزن فى دين الله شيئا، وهى لا تشفع لمسىء، ولا تنقص قدر محسن عرى عنها. 2- ظهرت فى تاريخ الإسلام خرافة الحق الإلهى للسلاطين، فبعد أن كان الخليفة الراشد يقول للناس: وليت عليكم ولست بخيركم، جاء أبو جعفر المنصور يزعم أن العناية العليا قد تخيرته وأجداده وأحفاده، وأن من جحد حقهم يوشك أن تخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق. 3- شاع الملق وتمدح الخلفاء بالحق وبالباطل، ابتغاء ما لديهم من أعطيات، وما لديهم هو مال المسلمين، امتلكوه بالباطل وأنفقوه فى الباطل، ولفوا به حول أشخاصهم جيوشا من الأتباع أسرع إلى إرضائهم من سياطهم التى فى أيديهم. دخل معن بن زائدة على الرشيد، وقد كان وجد عليه، فمشى فقارب الخطو، فقال له هارون: كبرت والله يا معن. 192(1/177)
قال: فى طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإن فيك على ذلك لبقمة. قال. هى لك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك لجلد. قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. فرضى عنه وولاه. وعرض كلام معن هذا على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة فقال: هذا ما ترك لربه شيئا. 4- أغرق الخلفاء فى الترف، وامتلأت بيوتهم بالمعازف والقيان المغنيات ومطارف الحرير، وألوان الأطعمة، وحكى الكثير عن تناولهم الأشربة المحرمة، وتوسعهم المريب فى المال العام، يقذفونه كيف يشاءون على خاصتهم وحواشيهم فلم تكن حياتهم الخاصة متفقة أبدا مع ما يجب أن يكون عليه قادة الدعوات من يقظة وتجرد وتضحية، بل ما يجب أن يكون عليه عامة المسلمين من توقير لحدود الله وإعزاز لأمره ونهيه. ونحن ننكر أن يكون فى ظل حضارة إسلامية شعراء وصافون للخمر، أو فاحشون فى الغزل، أو مروجون للشذوذ الجنسى، والدرهم الذى يمنحه خليفة واحدا من هؤلاء هو كية نار تدمغ جبينه يوم القيامة. 5- قام الملك الأموى على نزعة عربية عنيفة! وقام الملك العباسى من بعده على إثارة العصبية الفارسية، وقد اعتز بها حينا وكاد لها حينا آخر، ثم استبدل بها عصبية تركية، ذاق منها الأمرين. وهذه النزعات جميعا بقايا من الجاهلية التى محاها الإسلام.. وإحياؤها أمارة على رقة الدين وفساد الضمائر. والحق أن الإسلام مبادئ عامة، ليس لها وطن معين وهى إن انتسبت إلى مكان 193(1/178)
ما فإلى السماء لا إلى الأرض، وليس هناك جنس أحق بها من آخر، وميزان الإسلام فى تقويم الرجال معروف، أساسه صلة المرء بالله، لا صلته بعدنان أو ساسان أو غيرهما. وقد يدخل العلم بالعربية فى تقدير كفاية الرجل لتولى الحكم ـ ضرورة معرفته بالكتاب والسنة ـ ولكن هذا الحكم باللغة التى اختارها الله لقرآنه وجعلها لسانا لنبيه، لا يعنى البتة أى تعصب جنسى، على النحو الأحمق الذى أشعل العداوات وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وظل إلى سنوات قريبة مثارا لدسائس حقيرة انتهت بتمزيق الكيان الإسلامى كله، وذهاب ريحه. إن نفخ النار فى النعرة العنصرية لا يلجأ إليه إلا واحد من ثلاثة: شخص تافه يعرف من نفسه فقدان الكفاية، فهو ينوه بنسبته ليستعيض بها عما فقد من رجولته ومروءته. أو رجل فاجر أعياه الارتفاع بالناس إلى المثل الفاضلة فرتع معهم فى شهواتهم وجاراهم فى أهوائهم ليجاروه فيما يهوى. أو رجل مغرور يحسب، عن ضلال فى الفهم، أن جنسا أفضل من جنس ولونا أكرم من لون، فهو يملأ فمه فخرا بقومه. والإسلام يكذب أولئك أجمعين!!. إن هذه الأخطاء التى ارتكبت فى حق الإسلام بدأت هينة الخطر، ثم استفحل بعد شرها، وقد بقيت الدولة العباسية معها أول الأمر ثم أدركها ما أدرك سابقتها فبادت. ذكر أبو جعفر المنصور دولة بنى أمية ورجالها وسبب ضياع ملكهم، فقال: أما عبد الملك فكان جبارا لا يبالى ما صنع، وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه، وأما عمر فكان أعور بين عميان، وكان رجل القوم هشام، ولم تزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه ويحفظونه، ويصرفون ما وهب الله لهم منه مع 194(1/179)
كسبهم معالى الأمور ورفض أدانيها، حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين، فكانت همتهم قصد الشهوات وركوب الملذات من معاصى الله ـ عز وجل ـ جهلا منهم باستدراجه، وأمنا منهم لمكره، مع اطراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة وضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز وألبسهم الذل ونفى عنهم النعمة!!. وهذا الكلام الذى قاله أبو جعفر المؤسس الكبير للملك العباسى، يقال كذلك فيه وفى أسرته، وما أشبه هذه بتلك، وما أشبه الليلة بالبارحة.. وكلام المنصور يتضمن بعض الصدق لا الصدق كله، فهو تعليق ملك داهية على سيرة ملوك مفرطين، لا تعليق خليفة راشد على أعمال حكام ظالمين! ويمتاز الملك العباسى عن الأموى بجحد المعروف ونكث العهود. فقد استخدم الأمويون صنفا من الجبابرة السفاكين، وطئوا لهم البلاد وأذلوا العباد، وكافئوهم على أعمالهم بتوسيع ولاياتهم والإغداق عليهم، كالحجاج وزياد. أما العباسيون، فما إن استتب الأمر لهم حتى أوقعوا بالداعية الأكبر لأسرتهم وذوى اليد الطولى عليهم، أبى مسلم الخراسانى، قتل فى حضرة المنصور، بأمره ومكره، فلما برد وطرح بين يديه، قال: زعمت أن الدين لا ينقضى فاستوف بالكيل أيا مجرم اشرب بكأس كنت تسقى بها أمر فى الحلق من العلقم ونكبة البرامكة على يد الرشيد معروفة. والفارسيون يرون فى هذه المآسى دلالة على نزعة العرب للاستئثار بالسلطة ورغبتهم ألا يروا فارسيا عظيم الشأن إلى جانبهم، ووقع فى أذهان الفرس أن ملوك بنى العباس يقربونهم بقدر ما يستفيدون منهم، حتى إذا استنزفوا خيرهم نكلوا بهم!. والواقع أن هذه السياسة ليست طبيعة العرب، ولا طبيعة غيرهم من الأجناس الأخرى،. إنها طبيعة الاستبداد السياسى، فالفرد الحاكم بأمره يكره أن تكون لأحد 195(1/180)
نعمة عليه، لأنه يريد أن يمتن على الناس أجمعين، لا أن يتطامن إلى صنيع ذى فضل!. وقد تحول الملوك العباسيون إلى الترك بعد أن نفر الفرس منهم ـ لأن صلتهم بالعرب واهية من قديم ـ بيد أن هذا التحول كان علاجا للمرض بمرض آخر، فلم تزدد الدولة إلا اضطرابا وانقساما. ولو عادوا إلى دائرة الإسلام الواسعة، حيث تذوب الأجناس والألوان لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. وكيف يعودون إليه وقد قاموا وقام سواهم على كره منه؟.
بين العلم والحكم:
كان حظ الإسلام فى ميدان العلم أفضل منه فى ميدان الحكم، فقد وجد فى عصوره الأولى علماء كثيرين يستمسكون به ويخلصون له، ويصورون للناس عقائده ويشرحون مبادئه، ويورثون الأجيال المقبلة أسس الدين من كتاب وسنة. ومن هذا التعريف الجيد للإسلام والنقل الدقيق لأصوله والنشر الواسع لحقائقه، استمد الإسلام بقاءه ونماءه، فى بلاده نفسها، وفيما تجاوز إليه من مشارق الأرض ومغاربها، ولو وكلت حماية الإسلام لحكامه لضاع من أمد بعيد، إذ كان أكثرهم ولاة متغلبين، لم ترشحهم كفاياتهم للمناصب التى نالوها، بل رشحتهم القوى والأهواء، وهيهات أن يخدم مبدأ ما بإتقان وبراعة رجل ليست له قدم راسخة وعرق أصيل. وإنك لتلحظ فى ميدان العلم اختفاء النزعات العنصرية السمحة، فشراح القرآن وحفظة السنن، والباحثون فى اللغة، والمبرزون فى شتى الفنون تنميهم أجناس عديدة، وتذوب فى بيئتهم هذه الفوارق فلا يحس بها أحد!. وميدان العلم لا يسبق فيه إلا كفء، فلا مكان فيه لتوارث الزعامات وتخطف 196(1/181)
الرياسات، على النحو الشائن الذى شاع فى ميدان الحكم، وبلى المسلمون به دهرا طويلا، وقد انعطف سواد الأمة نحو العلماء يأخذ عنهم ويقتدى بهم، وشعر الخلفاء بهذا الاتجاه الشعبى ونفسوه على الأئمة الصالحين وأرادوا أن يستغلوه لصالحهم الخاص- شأنهم فى أحوالهم كلها- بيد أن أئمة العلم فوتوا عليهم هذا القصد، ! وكرهوا أن يصدر منهم أى تصرف يفهم منه الرضا باغتصاب الحكم والافتيات على جمهور المسلمين. أراد عبد الملك بن مروان أن يزوج ولى عهده من بنت سعيد بن المسيب- وهو من أئمة السنة- ليدرع بهذه المصاهرة ويكسب فضل وجاهة لدى العامة!. فأبى سعيد، ورفض ولى العهد! وآثر بابنته طالب علم فقيرا !! وتحمل فى ذلك عنت الخليفة المستبد وإهانته. ولما انتشر فقه أبى حنيفة وعلت فى الناس مكانته رغب إليه المنصور فى تولى القضاء- من قبل العهد العباسى الجديد- وشعر أبو حنيفة أن المراد ليس إسناد القضاء إليه، بل انتفاع الدولة باسمه واكتسابها تأييده، فأبى قبول المنصب المعروض، وزج به الخليفة فى السجن حتى مات فيه، وقيل: ضرب فيه حتى مات!. وكانت ولاية العهد- أيام مالك بن أنس- تؤخذ اغتصابا، ويستوثق الملوك لها ببيعة عاجلة تؤكد بالإيمان المغلظة، وبالطلاق والعتاق، وأفتى مالك رضى الله عنه بالحق فى هذه المساخر فطورد الفقيه الصالح!. ذكر الواقدى أن مالكا كان يأتى المسجد ويشهد الصلوات والجمع والجنائز ويعود المرضى ويقضى الحقوق، ثم ترك ذلك كله، ثم قيل له فيه، فقال: ليس كل إنسان يقدر أن يتكلم بعذره، وسعى به إلى جعفر بن سليمان وإلى الرشيد، وقيل له: إن مالكا لا يرى أيمان بيعتكم شيئا، فضربه بالسياط ومد لذلك حتى انخلع كتفاه!. 197(1/182)
وكذلك يموت أبو حنيفة فى سجنه مقهورا، ويجلد مالك حتى تنخلع عظامه، أما الشافعى فجىء به مقيدا من مكة إلى بغداد مع بضعة عشر متهما آخر، قتلوا كلهم لأنهم خارجون على الخلافة فلما قدم الشافعى ليلقى المصير نفسه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته، قال: أين رحمة الله؟ قال: عندك يا أمير المؤمنين، فعفا عنه، ولولا هذا العفو الطارئ لضاع الشافعى وفقهه ومذهبه، ومن يدرى؟ ربما كان فى أصحابه القتلى من يضارعه علما، لولا أن عاجلته المنية من سيف غاشم عنيد. * إن طبيعة الإسلام فرضت نفسها على الأمة فجعلتها تقبل على العلم وتوقر العلماء، وفرضت نفسها على الدولة فجعلتها تحذر جانب الأمة، وتحاول استرضاءهم بالرغبة أو استكراههم بالرهبة، ولم يستطع الاستبداد السياسى أن يضع العوائق فى مجرى الثقافة نفسها فاستبحرت وضربت بسهم وافر فى كل ناحية. إلا أن أثر الاستبداد ظهر فى تثبيط الهمم عن علاج المسائل المتعلقة بأصل الحكم، ومن ثم اشتغل المسلمون بألوان من الترف العقلى وعكفوا على البحوث الفلسفية والنظرية والفرعية مما لا يضير الحكام المجرمين أن تؤلف فيه المجلدات الضخام. واكتفى العلماء بدراسة آراء الإسلام فى الحكم والمال، وتلاوة الآيات والأحاديث التى تكشف عن خلل الأوضاع القائمة. ويبدو أن مصارع الخارجين على الدولة وذهاب محاولاتهم دون جدوى جعل جمهور العلماء يقبل " عمليا " الأمر الواقع ويرفض " نظريا " الاعتراف به، فهو يقاطع الحكام ويجالس العامة، ويقرر وجهة نظر الدين فى الفساد والمفسدين، ويؤلف عصبيات شعبية للكشف عن الحق وحمايته، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من الولاة المتغلبين، أى أن الدين كان فى صف المعارضة أما الحكم نفسه فقد سار على سياسة أخرى رسمتها طبيعة الاستبداد بالعباد والبلاد!!. *198(1/183)
وقد ظلت الفجوة بين العلم والحكم قائمة إلى أمد طويل، وكان العلماء يجتهدون فى إفراغ ذمتهم حيال الأمانة التى ألقيت عليهم، أمانة الإبانة عن حقيقة الدين والنصح للحكام والمحكومين، وجار العنت على كثير منهم فهلك، وخلا الجو للحكام المستبدين فضلوا وأضلوا!. ومع ذلك فإن طبيعة الإسلام تألقت فى أحلك العصور، ووجه الولاة الظلمة بمن يعترض طريقهم بعد أن رسخ فى الاستبداد قدمهم، وكرت الأيام والليالى على عهودهم فأضفت عليها مهابة وقرارا، ولن نسرد الشواهد لذلك من عصور ازدهار العلم، ونبوغ الأئمة فى الفقه والرواية والتفسير وشتى آفاق الشريعة، فإن المقام يطول ولا تنقضى آياتهم الرائعة، وإخلاصهم العميق، وحبهم المكين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم الآخرة واستكبارهم على الدنيا. بل سنتخير الشواهد من عصر المماليك! عندما أرخى الليل سدوله، وتقسمت الأمة الكبيرة أطماع الأمراء المتكالبين على سيادتها، وأحاطت بالدولة التركية المتداعية أطماع الروس والإنجليز والطليان، وبدا لأعداء الإسلام أن الإسلام قد جف عوده، وذهبت نضارته، وأضحى هشيما تذروه الرياح. نعم سنتخير الشواهد من هذا العصر. يقول الأستاذ محمد فريد أبو حديد: " إن بعض المتكلمين من الوعاظ الذين كانوا يتعاقبون فى تلك العصور كانوا بمثابة الصحفيين، يعقدون مجالسهم فى المساجد فيلقون فيها دروسا فى معانى العدل وواجبات الحكام وحقوق المحكومين، ويدرسون فى خلال تلك الدروس نقدات للحكام لا يخشون منهم غضبا ولا يتوجسون خوفا، وكان بعض الحكام يضيق بنقدهم ولكنهم كانوا فى أغلب الأحوال يتركونهم آمنين أحرارا لا يقيدون ولا يعاقبون على ما يصدر عنهم من النقد، ولعل أول من نبغ من هؤلاء الوعاظ هو الشيخ " الحفنى " الذى يعاصر " على بك الكبير ". كان زاهدا ورعا كريما كثير البذل للفقراء، وكان لا يتردد فى إبداء نصحه صريحا قويا، وإن كره أهل الحكم رأيه وصراحته. 199(1/184)
وكان الشيخ الحفنى عضوا فى ديوان الحكومة يمثل الشعب المصرى مع جماعة من إخوانه تمثيلا رائعا حتى كان " على بك الكبير " على شدته وقوة ملكه لا يستطيع مقاومته ولا معاداته وكان فى مناقشاته لا يتردد أن يهدد الحكام باسم الشعب إذا هم عمدوا إلى ما يسىء إليه أو يضر بمصلحته، فقد وقف مرة يناقش فى ضرورة إرسال حملة حربية لإخضاع بعض الأمراء الخارجين فى الصعيد، وكان رأيه أن تلك الحملات الحربية تضر بالناس وتعطل مصلحتهم، فلم يتردد فى آخر خطبته القومية أن يصيح قائلا: والله لن نسمح أن يسافر أحد وإن سافرت الحملة فلن يحدث خير أبدا. ولما توفى الشيخ " الحفنى " حل محله فى زعامة النقد واعظ آخر يسمى ابن النقيب. كان أهل مصر ينعتونه بالمحدث ومع أنه كان محبوبا عند الأمراء ورجال الدولة، لم يمتنع عن نقد ما يراه فيهم وفى أحكامهم من العيوب، وكان نقده أحيانا يبلغ حد المرارة والعنف ولكن صدر هؤلاء الحكام لم يضق به، أنه ذهب مرة إلى القسطنطينية فلم يسمحوا له بالبقاء طويلا فيها لما عرف عنه من الصراحة فى النقد. سأله الأمير محمد بك أبو الذهب: كيف وجد عاصمة الخلافة عند زيارته لها؟. فكان جوابه على ذلك؟ - لم يبق باسطمبول خير ولا بمصر كذلك خير، فلا يكرم بها إلا شرار الخلق. وقد عاصر هذا الواعظ الكبير شيخ آخر جليل، كان ينهج نهجه مع شىء من الاعتدال وهو الشيخ على الصعيدى، وقد عاصر ملكى مصر العظيمين على بك الكبير ومحمد بك أبا الذهب. وكان كثير الشفاعة عندهما لمصالح الناس، وكان الناس يلجئون إليه إذا مسهم ما يشكون منه فيكتب شكاواهم فى ثبت ويدخل بها على الأمير فلا يخالفه فى شىء ولا ينفض عنه. 200(1/185)
وكان يقول لمحمد أبى الذهب إذا وجد منه شيئا من التردد: - لا تضجر ولا تأسف على شىء يفوتك بغير حق فى الدنيا، فإن الدنيا فانية وكلنا يموت ويوم القيامة يسألنا الله عن تأخرنا فى نصحك، وها نحن أولاء قد نصحناك وخرجنا من العهدة. فإذا امتنع الأمير عن إجابة مطلب له صرخ وقال: - اتق النار وعذاب جهنم. ثم يمسك بيده ويقول له: أنا خائف على هذه اليد من النار " أ. هـ. * وفى الأمثلة التى ذكرناها نلمس شعور العلماء بما عليهم من تبعات النصح للحاكم والرعاية للعامة، وكثيرا ما تسوق الأقدار الطيبة أمراء أخيارا على الأقاليم التى تتكون منها دولة الخلافة العظمى، يصيحون لتوجيهات العلماء، ويسترشدون بآرائهم السديدة. وهذه العوامل- كما قلنا- خففت من فساد الأصل الذى قام عليه الحكم، ولكنها لا تغير من المصير الفاجع الذى يصيب الدولة كلها عند اضطراب قيادتها العامة. فالركاب قد ينظمون أنفسهم داخل السيارة أو الطائرة تنظيما حسنا، بيد أن هذا التنظيم لا جدوى له إذا أصيب السائق بخبال فهوى فى منحدر، وأودى بحياة الجميع !. وقد كانت الخلافة العظمى مصابة بآفات قاتلة، وعلى كثرة الجهود التى بذلها العلماء المحليون وصغار الرؤساء الطيبون، فقد كانت الدولة تهوى من منحدر إلى آخر، وتتدحرج على عجل.. إلى السفوح!. * 201(1/186)
ومما جعل لنصح العلماء وقعا حسنا، إحساس الحكام بصدق نيتهم وسلامة طويتهم ونزاهة مقصدهم، واسمع لعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة يعظ المنصور يقول له: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منها ببعضها، وإن هذا الذى فى يديك لو بقى فى يد غيرك لم يصل إليك، فاحذر ليلة تمخض بيوم لا ليل بعده!!. والحق أن هؤلاء الخلفاء يحسنون الاستماع إلى غاية قريبة تحد بأمنهم على ملكهم، واطمئنانهم إلى بقائه لهم ولأعقابهم، فإذا توجسوا خيفة وأحسوا بذرة من الانتقاض والتمرد طار إيمانهم من قلوبهم، ولم تنضبط أعمالهم بقانون يحكمها!!.
السياسة التى لا دين لها!
قال المؤرخون: كان يعاصر " المهدى " فى غرب أورربا " شارلمان " فصادقه " المهدى " واستمرت المودة بين الدولتين إلى زمن " الرشيد "، وذلك لأن العباسيين كانوا يريدون القضاء على الدولة الأموية بالأندلس، ويجدون فى " شارلمان " أكبر مساعد على الوصول إلى غرضهم هذا !. أما الدولة الرومانية الشرقية فكان العداء مستحكما بين المهدى وبينها بسبب النزاع القديم بين الطرفين، ثم بسبب مصادقة الخليفة " لشارلمان " وهو أكبر منافس لقياصرة الدولة الرومانية الشرقية، فقامت الحرب بينهما برا وبحرا، وانتهى الأمر بأن تقدم المهدى هو وابنه هارون وسار إلى البوسفور فصالحته الملكة " إرينى " القائمة بالأمر إذ ذاك على دفع جزية سنوية. هنا يجب أن يقف المؤرخ المسلم ليفكر مليا فى بواعث الصلح والخصام بين الخليفة" المهدى " الذى كان ينادى بابن عم رسول الله وبين الملك " شارلمان " زعيم المسيحيين فى غرب أوروبا. إن حقد الخليفة العباسى على الملك الأموى الذى نبت شرقا وامتد غربا جعله 202(1/187)
ينسى الفوارق بينه وبين " شارلمان " ويذكر شيئا واحدا وهو ضرورة القضاء على الملك الإسلامى فى الأندلس ولو استعان على ذلك بالصليبيين!. ليست هذه سياسة يمليها دين ولكنها سياسة لا دين لها، أملت بها أهواء الاستبداد فأعمت صاحبها عن طريق الرشاد. فإذا طويت هذه الصحيفة من تاريخ القرن الثانى للهجرة، وبدأت صحيفة أخرى من تاريخ مصر فى العصور الوسطى على أخريات الدولة الفاطمية وجدت من تنازع الوزراء العظام للسلطة هذه الصورة الكئيبة. قال المؤرخون: فر " شاور " إلى " نور الدين " واستنجد به وتعهد أن يقوم بجميع تكاليف الحملة اللازمة لعزل " ضرغام " من الوزارة ويدفع ثلث إيراد مصر جزية سنوية لنور الدين. أما " ضرغام " فقد استعان بأمورى الصليبى ملك بيت المقدس، فظهر طمع كل من الصليبيين والسلاجقة فى الاستيلاء على مصر. قد أرسل نور الدين حملة هزمت ضرغام وحلفاءه من الصليبيين ثم قتل ضرغام وانفرد شاور بالوزارة، ولكنه لم يوف نور الدين بالعهود التى قطعها على نفسه، بل على العكس عقد اتفاقا سريا مع الصليبيين، فلما علم بذلك نور الدين لم يجد بدا من غزو مصر. * ما هذا؟ ملوك مسلمون يحالفون ملوكا نصارى، ووزراء مسلمون يحالفون حكاما نصارى، ولم هذا التحالف؟ لأن هؤلاء الملوك والوزراء المسلمين يناوئون أو يناوئهم على مناصبهم المقدسة رجال آخرون على دينهم (!). الذى هو الإسلام.. 203(1/188)
الحق يقال،. إن لسياسة الحكم وأسلوب المحافظة عليه لمن ظفروا به، دينا آخر، صارح الوحى، صارم البطش، يئول القرآن على هواه، وينزل السنة على مشتهاه، ويحب ويبغض، ويعفو وينتقم لا لله ورسوله، بل لأثرته وعنجهيته فحسب، وتلك أولى بركات الاستبداد السياسى، منذ أفلت الأمر من رأى الأمة.. إلى رأى أفراد. ولقد هوت دولة الإسلام فى الأندلس فما وجدت من مسلمى المشرق عونا، لأن القطيعة بين الأسر الحاكمة أوهت الأواصر بين الفريقين. ويبقى على العقلاء من المؤمنين أن يسائلوا أنفسهم: وما صلة الإسلام بنزاع بدأ فى الجاهلية الأولى مثلا بين بنى هاشم وعبد شمس؟ ولماذا يقحم المسلمون عدة قرون فيه؟ وما لهذه الأسر تزعجنا بشئونها التافهة، وما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟. ويبقى على عقلاء المؤمنين مرة أخرى أن يسائلوا أنفسهم: متى تستيقظ الأمة إلى مصلحتها المجردة، وإلى مصلحة الإسلام المحضة، بعيدا عن هذه الأوهام التى فرضت نفسها ليلا طويلا؟. * إن على العلماء اليوم واجبا ثقيلا، وهما طويلا، ولن يبقى فساد الحكم يوما أو بعض يوم إذا نهض الدعاة إلى الله بأعباء الفريضة المنوطة بهم فأيقظوا النيام.. ولفتوهم إلى الأصنام. * 204(1/189)
من العرب إلى الترك!
ولى الأتراك أمور المسلمين بعد انهيار الخلافة العباسية وسقوط عاصمتها بغداد فى أيدى التتار الفاتحين . والأتراك كأى جنس من البشر له خصائصه التى ينفرد بها، وتتوازن فيها مزاياه وعيوبه، وهم كالعرب والفرس وغيرهم ممن دخل فى الإسلام فاستقام عليه حينا وشرد حينا آخر. ولا نحب القول بأن جنسنا بعينه أحسن إلى الإسلام وجنسنا بعينه أساء إليه، فإن هذا " أولا " زعم لا يثبت على التمحيص " وثانيا " فتح لباب المنافرة والمفاخرة، ثم هو جنوح إلى مذهب تفاضل الألوان والسلالات، وهو كلام فارغ! إننى أعرف فى الهنود والزنوج رجالا هم من آيات الله فى اليقين والذكاء، و إننى- كعربى- أحس السرور الجم عند لقياهم فى ظل الأخوة التى ربط الإسلام بها قلوبنا. ولما كانوا يعرفون اللغة العربية جيدا فقد استمعت إلى أحاديثهم وأفدت أعظم الإفادة من علمهم وحكمتهم. ولا أنكر أن الأجناس التى دخلت فى هذا الدين قد وقعت بينها حوادث محزنة، غير أن وزر هذه الحوادث يقع على أفراد مغرضين، أو على أحزاب من المتطلعين والمتصدين، ومن الافتراء على الواقع نسبة هذه الحوادث إلى عوج شائع فى عامة العرب أو الفرس، أو الترك أو الزنج أو الهند أو البربر أو غيرهم. ولو قطعنا دابر هذه الطوائف المنافقة فى الإسلام لصفا الجو بين جماهيره الغفيرة، وعاشوا بنعمة الله إخوانا. تلقى الأتراك السلاجقة والعثمانيون راية الإسلام بقوة، إلا أن عاطفة هؤلاء القوم نحو الإسلام كانت أقوى وأشد من فقههم فيه، وحماستهم له أشد من تفهمهم لروحه، وتشبعهم ببواعثه وأهدافه. 205(1/190)
وقد بدءوا حكمهم وأوروبا تسودها حالة منكرة من الجهل الفاضح بالإسلام والحقد العميق على أهله، وتكتسحها شرقا وغربا خيالات غريبة، وروايات مختلفة مكذوبة عن الإسلام وشعائره، وعن محمد وأصحابه، كان هناك نحو عشرين كتابا يشرف بابا روما وقساوسته وملوك المسيحية على نشرها فى كل فج تتضمن من الأقاصيص المخترعة والإفك الصراح ما يندهش المرء لمطالعته وإليك مثلا واحدا من هذه الأساطير التى كانت تهيمن على عقول الأوروبيين فى العصور الوسطى. ألف " فنسان دى بوفى " المتوفى سنة 1264 م كتابا اسمه " المرآة التاريخية " بناء على أمر صدر إليه من الملك سان لويس، وقد خصص الفصل الرابع والعشرين من الجزء الرابع لتاريخ محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه هى الموضوعات التى لخص فيها هذا الكاتب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم . ا- بدعة التوحيد والبرنسيس " يعنى السيدة خديجة " وهنا تناول الكاتب قصة الحمامة التى تعلمت أن تقف على كتف محمد!! لتلتقط الحب من أذنه !! وقصة الثور الذى استأنس!. 2- سرقات محمد وخداعه وفظائعه، وهنا يذكر الكاتب أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقتل ويخنق كل من رآه " كذا "!!. وإلى هذا الكلام يرجع ما شاع بين الغربيين أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نبيا فتاكا. 3- قذارة شريعة محمد وخرافتها، وكيف وجد القرآن، وهنا يذكر المؤلف حكاية راهب اسمه " سرجه "! وينسب إليه أنه علم النبى صلى الله عليه وسلم العهدين القديم والجديد!!. 4- حمق أتباعه وتعصبهم، وصيام المسلمين الكاذب وغسلهم، والحج إلى مكة، والأصنام التى أبادوها شارلمان والتى أقامها!!. ولا شك أن القارئ المسلم سيفغر فاه دهشة لهذه السخافات الشائنة وسيضرب كفا على كف لهذه الجراءة الوقحة، والافتراء والتضليل، ولن يفنى له عجب إذا علم أن 206(1/191)
هذه الثقافة الأوروبية فى الإسلام كانت تمدها عشرات الرسائل على مر القرون! وأنها كانت الغذاء المنظم الدائب على إثارة السخائم التى تمخضت عن الحروب الصليبية. أين كان المسلمون فى هذه الأيام؟ وأين حكومتهم التى يقع على عاتقها تعريف الناس بالإسلام؟ وإعطاء القريب والبعيد صورة صحيحة له؟ ولماذا تترك الجمهور فى " أوروبا " فريسة مخرفين من هذا الطراز الدنىء يكذبون على الله ورسوله، ويشيعون الأوهام الباطلة عن دينه وتعاليمه؟ إن الجواب الصريح على هذه الأسئلة يدمغ حكومات هذه الأزمان. اشتغل المترفون من الخلفاء والأمراء بمتعتهم الخاصة، يتنازعون السلطان بينهم وينسون أعباء الدولة والدعوة معا. وكان المسيحيون الوافدون للحج إلى بيت المقدس يصدرون ويردون فما يتصل بهم أحد ليتعرف ما لديهم، وتلك سماحة من العرب تذكر لهم! فلما جاء الترك أغلقوا الأبواب فى وجه الحجاج المسيحيين، ومن ثم انقطعت الصلة تماما بين الشرق الإسلامى والغرب المسيحى، واشتعلت الحروب الصليبية المعروفة. وانتصر المسلمون بعد مراحل طوال ونضال أى نضال. واستأنف الإسلام سيره، وما هى إلا أيام حتى كان الأتراك يقودون قافلته ويمسكون بزمامها، وورثت الدولة العثمانية ملك العباسيين، وبعد أن كان المسلمون ميراثا لبنى أمية ثم لبنى هاشم أصبحوا ميراثا لبنى عثمان. وقد امتاز الأتراك فى أول عهدهم بالصفات التى امتاز بها العرب الأولون من حماسة للعقيدة وعزوف عن اللهو وبعد عن الميوعة والترف، وإقبال على الله ورغبة فيما عنده، وهذا سر غلبهم وتفوقهم على الدويلات الإسلامية الأخرى وهو كذلك سر النجاح العسكرى الباهر الذى أحرزوه فى شرق أوروبا. إلا أن العرب كانوا أقدر على نشر الإسلام بالدعوة والتربية منهم، وصلتهم بلغة القرآن والسنة تعطيهم فى ذلك فضل مقدرة لا يجوز نكرانها. 207(1/192)
ولو تعاون الجنسان على البر والتقوى لاستفاد كلاهما من خصائص الآخر، وانتفع الإسلام بهم أجمعين، لكن المؤسف أن العنصر الذى ينبت منه الحكم تغريه القوة بالبطش، وبقاء الحكم فيه إلى الأبد يضفى عليه مهابة لا يستحقها ويلحق بالآخرين معرة يستنكفون من وصمتها وقد جر هذا وضع الباطل إلى باطل آخر، ظلت بذرته تنمو مع الزمن!. وخصوصا أن توارث الخلافة فى بيت واحد بدأ يؤتى ثماره الفجة، فتولى الملك رجال سفهاء، وتطرف الخيال إلى الدماغ الذى يدير شئون الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها! فترنح الجسم كله على شفا هاوية، وكان هذا يحدث فى بلادنا بينما كانت دول أوروبا تلم شعثها وتنظم شئونها وتهتز بنهضة علمية بعيدة المدى. قال المؤرخون فى أسباب انهيار الدولة العثمانية: " بعد أن كان ولى العهد يتدرب من صغره على حكم الولايات وقيادة الجيوش أصبح يحبس فى قصر بالعاصمة، ويمنع من الاتصال بأصدقائه، ويبث حوله الجواسيس، ولا يبرح مكانه إلا ليعتلى عرش السلطنة وهو لا يعلم من أمورها شيئا. ولا ينتظر من سلطان قضى شبابه فى قصر- هو إلى السجن أقرب- أن يشرف على الإدارة وينظر فى مصالح الرعية ويقود الجيش كما كان يفعل أسلافه. بل كانت النتيجة المنطقية أن أكثر السلاطين الذين جاءوا بعد سليمان القانونى كانوا يقتلون إخوتهم بمجرد اعتلائهم العرش، وكانوا يقضون حياتهم فى القصور بين حاشية كبيرة العدد من الجوارى والخصيان عاكفين على ملذاتهم من لهو وشراب، تاركين إدارة الشئون فى يد الحظية التى تتسلط على أفكارهم. ومن أمثلة ذلك أن جارية من أهل البندقية اتخذها " مراد الثالث " ضمن حريمه، وارتقت حتى صارت السلطانة، وما لبثت حتى أصبحت المسيطرة على سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وبقيت السلطة فى يدها ثمانية وعشرين عاما تعين من تشاء للصدارة العظمى وغيرها من الوظائف الكبرى. 208(1/193)
وانتقلت السلطة بعدها إلى غيرها من نساء القصر فبقين يدرن شئون الدولة فوق الثمانين عاما. ومما يدل على مقدار الفساد فى عهد سيادة النساء أن الوزير محمد كابريلى حين أتيحت له فرصة الإصلاح سنة 1656 فى عهد السلطان محمد الرابع، اضطر إلى إعدام عدد كثير من الموظفين ومن الجند الثائرين؟. وبهذا استتب النظام نوعا... " أ. هـ. واستتباب النظام كمسكن مؤقت لا يذهب العلة الدفينة، ولا يمحو آثارها المتجددة. وهب المسلمين دعوا على منابرهم فى البر والبحر لحاكم تدبر أمره امرأة، أكان ذلك بغير سنة الله فيهم؟ إن نبيهم هو القائل: " إذا كان أمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم، من ظهرها " ، فكيف إذا كان أمرهم إلى فئة من الحظيات قرنا، من الزمان؟ ومتى يحدث هذا؟ فى طلائع نهضة عقلية لم يشهد العالم من بدء الخلق أروع منها وأشمل، ولدت ونمت واكتملت بعيدا عن بلاد الإسلام التى يحكمها الاستبداد الأعمى، ويغل حريتها ويقظتها عبيد البطون والفروج!!. *إن العامة من الترك أنفسهم، ومن العرب والفرس، ضاقوا بهذا اللون من الحكم وحاولوا ترقيعه ليساير الزمن الوثاب. بيد أن الجهود ضاعت سدى... واستغل أعداء الإسلام هذا الاضطراب السائد فى أرجائه الواسعة، فاتصلت إنجلترا بالعرب تغريهم بالانتفاض على الترك وهم فى حرب حياة أو موت، وما ثمن هذا الانتفاض؟ إقامة ملك هاشمى بدل الملك العثمانى!!. ولو أخذ المشروع المقترح طريقه إلى الحياة لاستحال إلى خلافة تضارع الخلافة العباسية أو العثمانية.. فى عصور الانحلال والظلام. 209(1/194)
ولو حدث هذا ما كان حلا لمشاكلنا، على أنه كان من المستحيل أن يحدث، وما كان الإنجليز ليسمحوا به، فالصليبيون الجدد لا يتصور فى سياستهم أن يقيموا دولة فيها أية إشارة على إسلام، وهم الذين ورثوا فى دمائهم بغض الإسلام وأهله، ولكن نزوة السيادة عند السلطان حسين ملك العرب المقترح جعلته يحالف الإنجليز ضد الترك فى انتظار هذا الوهم المعسول. تصفو الحياة لجاهل أو عاقل عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع وقد خان الرجل بذلك دينه وأمته، وانجلت فتنة الأسرة المستولية على الخلافة من الترك، والأسرة الطامعة فيها من العرب: عن كفر تركيا بالخلافة وبالإسلام، وبالعرب، ولغة العرب..! وعن سقوط بلاد العرب نفسها فى أيدى الإنجليز والفرنسيين!!. ثم.. عن طرد العرب بعد ذلك من فلسطين وإعطائها لليهود!!. تلك هى بركات الاستبداد السياسى القائم على تجاهل الأمة ودينها، وعلى تمليك مقدراتها ومصالحها لأيدى رجال معينين، ليسوا مثلنا من ماء وطين. * 210(1/195)
خاتمة:
ليعذرنى القارئ إذا وجد فى سرد هذه العبر من ماضينا البعيد والقريب مرارة مشبوبة وغضبة مكشوفة، و إذا أحس قسوتى فى إحصاء السيئات وتضخيم بشاعتها أحيانا. فأنا فى هذا الكتاب أعاتب قومى، والمعاتب يذكر ما يؤلمه لا تنديدا به ولكن استنكارا للسيئة ممن ليس لها أهلا، وإزعاجا للذاهل حتى يستفيق.. ولما كنت شديد الإحساس بالمثل العليا التى جاء بها الإسلام، فإنى كذلك شديد الأسى للواقع السوء الذى وصلنا إليه. وقد حشدت أخطاء قرون متطاولة فى صحائف متجاورة، وطلبت من مسلمى اليوم أن يفكروا فيها ويتعظوا بها ويقلعوا عنها، وليس هذا بدعا فى التذكير والاعتبار فالله- سبحانه وتعالى- خاطب اليهود فى كتابه مذكرا إياهم بنعم ونقم أسلفها لآبائهم من آلاف السنين، ولم هذا الأسلوب؟. لأنه وجد فى قلوب الأبناء النيات نفسها التى كانت فى قلوب أسلافهم، ووجد على أيديهم الآثام نفسها التى كان آباؤهم يرتكبون. وقد غلغلت البصر فى أفكار الكثيرين وأعمالهم فرأيتهم يقفون والفلك دائر، ورأيتهم كالمتدحرج فى أسفل السلم لا يعرف شيئا عن المزالق التى هبطت به إلى الحضيض بعد أن قلبته رأسا على عقب، بل رأيت بعضهم يحسب الإسلام ما يطبق فى الحجاز واليمن، وآخرون يريدون ابتداع أشكال للشورى- التى جاء الإسلام بها- دون دراسة لتجارب البشر فى الشرق والغرب عدة قرون بل دون اعتراف بهذه التجارب الخطيرة. إن الإسلام صنع فى بلاده حدائق فيحاء شهية المنظر والمتنفس فجاء الاستبداد السياسى أشبه ما يكون بدخان من البترول المحترق، ترسله آلة خربة ملأت الجو بغيومه، وزكمت الأنوف برائحته. 211(1/196)
وما يبقى على هذه الآلة الفاسدة رجل يريد بقاء الناس فى الإسلام. لقد مر على مبعث النبى أربعة عشر قرنا، وأستطيع الجزم بأن مستوى المسلمين العقلى والمادى فى عشرة منها كان أعلى من مستوى غيرهم فى أوروبا. وهذا يرجع إلى طبيعة الدين، لا إلى طبيعة الحاكمين. إن طبيعة الدين أكسبت أهله مناعة ضد أمراض شتى من عوادى الاستبداد ولكن الاستبداد تضاعف حتى تحول إلى وباء جارف، فأخذ المسلمون يتساقطون، وأخذ بناؤهم يتداعى لبنة لبنة. واليوم لا توجد خلافة، لا صحيحة ولا مزورة عن النبى صلى الله عليه وسلم . واليوم لا توجد دولة واحدة ترجع فى أصول الحكم وفروعه إلى الإسلام. عادت الجاهلية إلى الدنيا مرة أخرى، وأظلمت الأرض بعد إشراق، وسيطر الغرب على ميراثنا الضخم، وسوانا فى رقه بعباد البقر ومن لا دين لهم، بل جعلنا دونهم. وبقى علينا أن نختار بين الخنوع المميت فى كنفه، أو الرجعة العزيزة إلى الله وإلى دينه النظيف من لوثات المستبدين والكبراء. *212(1/197)
دقت طبول الإسلام:
هل للغرب أهداف نبيلة يسعى لتحقيقها فى العالم؟ وهل فى حضارته السائدة الآن من النفع للناس ما يجعل الإبقاء عليها ضرورة إنسانية؟ لقد استطاع الغربيون فى ظروف مواتية أن يفرضوا سيطرتهم على أرجاء الدنيا، وكنا نحن المسلمين بين أجيال البشر التى دانت لهم وانجرفت فى تيارهم، بل قد نكون أشد الناس ابتلاء بما طلع الغرب به على الناس من أفكار وأهواء فماذا وجدنا؟ لقد وجدنا أن صلة الغرب بنا وبغيرنا تتحكم فيها جملة من غرائز السوء، وأن الغربيين فى علائقهم بالشرق وأهله يمثلون أحط أنواع النذالة والرجس، ولا يصدرون فى تصرفاتهم إلا عن أثرة باغية وحقد مشبوب. والاستعمار الذى تفتل فى حباله الآن أوروبا وأمريكا لكيما تضاعف قيودنا وتهدم حدودنا، هو فى ظاهره وباطنه مزيج من إلحاد فاجر وصهيونية طامعة وصليبية عمياء، وهو يسعى بكل ما لديه من قوة: 1- لإفقار الشعوب المغلوبة على أمرها، ونهب خيراتها منها، واختلاق أساليب مالية معقدة لجعل البلاد المهزومة عالة أبدا على الدول القوية التى هزمتها، فمهما زاد إنتاجها فهو لمصلحة الغاصب، ومهما كثر سكانها فهم لخدمته وحده. 2- حرمان الأمم من حقوقها فى الحرية والكرامة والعلم والارتقاء، وإبقائها معنويا تعانى شعور الضعة والتأخر، والدول الغربية تتعاون فى مناطق نفوذها على وأد حركات الاستقلال ومطاردة المجاهدين بأقسى الوسائل. وما من خطوة ظفرت بها هذه الأمم المكافحة إلى الأمام إلا دفعت ثمنها مضاعفا من دمها ومالها، وما تستطيع البقاء فيها ومتابعة الخطو منها إلا على مضض من المحتلين وبعد مقاومة عنيفة. 3- أوروبا وأمريكا معا يمقتان الإسلام وأهله ولغته أشد المقت، وقد تظاهر الإلحاد مع الصهيونية وحالفتها الصليبية على الكيد لهذا الدين وأبنائه فى كل مكان. 213(1/198)
ومن ثَم رأينا الحبشة تنال استقلالها فى صمت لأن القلة المسيحية فيها تتحكم فى الكثرة المسلمة، ورأت هيئة الأمم ضم أريتريا المسلمة إلى الحبشة وحرمتها استقلالها لهذا المعنى الخبيث . وتركيا لا تنال العون الأمريكى إلا لأنها أعلنت كفرها بالإسلام. - ومصر تقع بين شقى الرحى لأنها مازالت بعد وفية لدينها!. والتعبئة العامة ضد الإسلام معلنة فى الغرب من بدء الغزو الاستعمارى إلى اليوم ولا تزيدها الأيام إلا امتدادا وضراما. بعدما سقناه لك يمكنك أن تقرأ هذه المقتطفات لتتبين كيف ينظرون إلينا. كتبت مجلة " بارف- برس " مقالا بعنوان: " بعد بترول السويس يهدد هلال الإسلام أيضا قواعد الأطلنطى "، وقالت: إنهم يشبهون الإسلام بطبل كبير لا يكاد يدقه أحد، حتى يدوى صوته فى كل مكان، وقد ابتدأ "مصدق " فدق الطبل فتبعه النحاس باشا ثم الحبيب بورقيبة الزعيم التونسى وكذلك علال الفاسى الزعيم المراكشى. وتقول الصحيفة: إن الدفاع عن البحر الأبيض من قناة السويس إلى جبل طارق ضرورى تماما، ولكن إذا نحن تحدثنا إلى " الإسلام " وقلنا له: اصبر قليلا، ألست ترى أن أراضيك وبترولك لا غنى لنا عنها للدفاع ضد العدو المشترك؟ يرد علينا قائلا: اخرجوا فإننى من القوة بحيث أملك الدفاع عن نفسى، ونعود نقول للمسلمين: ماذا فى استطاعتكم أن تفعلوا دون الاستعانة بمهندسينا وخبرائنا وأطبائنا؟ وإنكم ستعودون إلى سباتكم من جديد وتستغرقون فى فوضى العصور الوسطى، وفى الفقر والمرض. ولكن المسلمين يحتقرون آلاتنا وأفكارنا وتعاليمنا الصحية، وقانوننا وطائراتنا والأسانسيرات التى نبعثها لهم، إننا نفكر فى مصالحهم، أما هم فلا.. ذلك أن الحمى تصيبهم. 214(1/199)
إن أوروبا لا ينبغى لها أن تتحدث مع العالم العربى إلا بلغة واحدة هى لغة القوة". إن أوروبا لم تحدثنا منذ عرفتنا إلا بلغة القوة، فاقتراح الصحفى الفرنسى لا موضع له، ولو كانت لفرنسا أو إنجلترا يد أسدتها لنا لشكرنا لهما صنيعهما، أما والدولتان الملعونتان سر ما حاق بالمسلمين من خراب فلن نكن لهما إلا كل بغضاء. ومَن هذا الذى يسمونه عدوا مشتركا؟ إن روسيا كانت حليفة إنجلترا وفرنسا فى حروبهما السابقة، فإذا وقعت الجفوة بينهما وتوقع القتال بين مستعمر ومستعمر، قيل للأمم المستعمرة: هذا عدو مشترك؟! لماذا يطلب من الضحايا أن تنصر جزارا على جزار، وهى تتمنى لو استراحت من الفريقين؟. أما العصور الوسطى التى يتحدث الصحافى الفرنسى عنها فهى تشرف آباءنا ولا تشرف آباءه، لقد كانت أوروبا فى هذه العصور مجموعة من البهائم السائمة، ولولا ما أفاض الإسلام عليهم من خير وبركة لظلوا إلى اليوم كالأنعام أو أضل سبيلا. إن الحضارة الإسلامية علمتكم من جهل، وأنقذتكم من فوضى، فماذا حدث لما مالت الريح إليكم وأصبحت الدولة لكم؟. أبيتم إلا أن تبنوا على أنقاضنا، وصبغتم أرجاء الدنيا بدمائنا، وهكذا يصدق فينا وفيكم قول القائل: ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح! فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذى فيه ينضح! إن الاستعمار المغتر الآن بقوته، المعتز بسطوته ستخبو بعد قليل ناره، ويومئذ تحاسب الإنسانية من دمروا عليها حاضرها ومستقبلها .(1/200)