تمهيد :
سرنى أن تظهر طبعة جديدة من هذا الكتاب. ذلك أنه أول كتاب ألّفته فله فى النفس مكانة ... ثم لأنه يمثل مرحلة من كفاح الإيمان الحر فى سبيل الوصول إلى غاية أرشد. وهذا الضرب من الكفاح يجب أن يعرف ويذكر، لماذا؟ لأن أمتنا لم تكسب خيرا قط من عناصر الإلحاد والتحلل التى لا ينقطع لها لغو وادعاء... إن هذه العناصر الشريرة استطاعت أن تمكر بالمؤمنين، وأن تنزل بهم ضربات موجعة، وأن تضع يدها على جهودهم المادية والأدبية لإصلاح العوج وإقامة الميل... ثم خرجت على الناس تدعى الإصلاح والعبقرية، فرأينا أن ننشر الصحائف المطوية لكى يعلم الناس أن رجال الإسلام لم يصمتوا.. ولكى يخجل الذين ورثوا جهود الآخرين من طول التبجح. فقد تكلمنا يوم كانت الأفواه مكممة؟ ثم تقدموا يوم الطمع، وهم الذين خسروا يوم الفزع.. (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) . وقد كانت فى هذا الكتاب لمحات وجب إعادة النظر فيها لأننا طلاب حق وإنصاف.. وقد فعلنا ذلك فى هذه الطبعة الجديدة- من وحى ضميرنا- لأنا ندور مع الحق... وقد فعلنا ذلك فى بقية كتبنا... ولنا الأجر فى كلا الحالين إن شاء الله.
محمد الغزالى(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية :
هذا كتاب ألّفته سنة ست وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة (1947م). وقد صدرت طبعته الأولى فى السنة نفسها.. وصدرت منه ست طبعات آخرها سنة 1 ص 3 هـ (1963 م).. وتوقف صدوره- عن عمد منى- منذ ذلك الوقت.. أى منذ ثلاث وعشرين سنة. لقد ألفت هذا الكتاب إصلاحا لاعوجاج كان قائما.. واعتمادا على أفكار كانت مطروحة.. وقد كان هذا الكتاب أول ما كتبت من كتب.. وقد كانت لنا- فى مصر وفى الحركة الإسلامية- ظروف وجهتنا- ابتغاء وجه الله- أن نقول ما قلنا فى هذا الكتاب.. وفى هذه الظروف- ودعونا نعود إلى سنة 1366 هـ (1947م)- لم يكن فى منظورنا القريب- والغيب بيد الله- أن يسير التاريخ على هذا النحو.. وأن يقضى على الإسلاميين- أو تبذل محاولات القضاء عليهم- بهذه الحدة والشراسة.. وفى الكفة الأخرى.. تقوم إسرائيل على أنقاض فلسطين والعرب بهذه الصورة.. وكأن الأمرين وجهان لعملة واحدة.. خنق الإسلام وتحطيم العاملين.. وتشويه كل ما يمت إليه، ورصد كل بذرة إسلامية على أرض المسلمين ومعاملتها بكل غلظة.. بل بغلظة لم تعرف عصور الهمجية لها مثيلا.. وللأسف بأيد محسوبة على الإسلام..!! وفى الناحية الأخرى : صمت مريب.. وتواطؤ سرى.. وأدب وعقل.. وكلام عال صارخ يصحبه فعل حذر مستكين.. مع بنى إسرائيل والصهيونية العالمية والصليبية الدولية.. وكان (الحصاد المر) تشتيت العاملين للإسلام، وبعثرة الطاقات الصادقة فى الأمة.. وقيام إسرائيل قوية مرهوبة مستعلية..! استئساد هنا.. واستنواق هناك.. وشدة على المؤمنين.. ورحمة مع الكافرين.. وبطولة مزيفة خادعة.. رصيدها الكلام.. واستسلام ومغامرات فاشلة.. فى جانب الفعل المتصل بقضايا الأمة المصيرية. ودخلت أمتنا مرحلة نكدة من التيه والضياع.. وضاعت فلسطين.. وأجزاء أخرى من بلاد عربية.. وضاعت أجزاء كثيرة إسلامية، وسُكِتَ- بتواطؤ آثم- عن قضايا إسلامية كثيرة.. وحقوق إسلامية مهدرة. 005(1/2)
وفى سنة 1961م .. وبعد انكشاف الضياع المقنع بشعارات لا تحمل أدنى رصيد من الشرف والحقيقة.. بدأت مرحلة الضياع الاجتماعى والاقتصادى والفكرى.. تحت راية ما سمى بالقوانين الاشتراكية.. وكان شيوعية مغلفة زاحفة!! وظهر أن ما كنا نظنه إصلاحا.. إنما هو داء جديد أسوأ خطرا من الداء القديم الذى كنا نحاربه فى هذا الكتاب.. وكما دخلنا المعركة فى سنة 1947م .. ضد الإقطاع والاستبداد.. دخلناها سنة (1961م) ضد الأخطار الجديدة، وأوذينا فى الله.. ونحمده على ذلك.. وأصدرنا فى هذه الظروف كتابنا (معركة المصحف فى العالم الإسلامى) وتابعنا المعركة حتى أوصدت فى وجوهنا كل أبواب العمل للإسلام من خطابة وتربية وكتابة. إن تجربة العقود الثلاثة الماضية كانت- بحق- تجربة مرة.. وقد أصيبت الأمة فى هذه العقود الصعبة بما لم تصب به فى كثير من فترات تاريخها.. وقد ظهر فيها دجالون كثيرون.. وارتفعت فيها رايات، وخفضت- أو توارت- رايات.. واختلطت المفاهيم الزاحفة على حقائق ديننا ومنهج ربنا.. وكنا نغزى من الشرق ومن الغرب.. ونُحْرَم من حق الدفاع عن ديننا.. وتفرض المفاهيم المنحرفة- بقوة القانون الوضعى وحماته- على جماهير الأمة المسلمة المسكينة. وقد تبين لى- وأنا باحث أنشد الحق ولا أبتغى إلا وجه ربى- أن كثيرا من مواطئ أقدامنا تحتاج إلى تبيين.. وأن بعض الآراء والاجتهادات ربما تحتاج إلى تمحيص، مع ظهور حقائق جديدة، ومع ما أفدته من تجربة العقود الثلاثة الماضية. لقد كنت- فى كتابى هذا : (الإسلام والأوضاع الاقتصادية)- قد استخدمت مصطلح (الدين فى خدمة الشعوب) وكان لهذا الاستخدام ومازال عندى ما يبرره.. فقد كان استخدام هذا المصطلح فى مواجهة ذلك المصطلح الذى روج له الشيوعيون فى تلك الفترة (الدين أفيون الشعوب).. واستخدامى لهذا المصطلح (الدين فى خدمة الشعوب) ينبع من قوله تعالى : "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ومن حديث رسول الله صلى الله عليه(1/3)
وسلم (أبغونى فَى ضعفائكم هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) .. 006
ولكن الشيوعيين- والحمد لله- قد تواروا خجلا من شعارهم ذاك.. وفرض عليهم الفكر الإسلامى أن يعودوا إلى الجحور، بل إنهم ليحاولون تملق الإسلام الآن.. والدخول من باب آخر.. ونحن لهم ولكل ملاحدة الشرق والغرب بالمرصاد إن شاء الله. وقد كنا قد كتبنا هذه الفصول (فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) كى نقلب المائدة فى دحرجة ملاحدة الشرق والغرب الذين حاولوا تصوير الإسلام وكأنه ضد المستضعفين، أو كأنه يقف موقف الكنيسة التى تواطأت مع الإقطاع ضد الشعب.. وتقاسمت معه الغنائم على حساب المقهورين حتى كان شعار الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر إقطاعى بأمعاء آخر قسيس) فالموقف فى الإسلام.. وموقف الدعاة المسلمين.. موقف مناقض لهذا الموقف الكنسى.. وقد كان الإسلام ورجاله المخلصون ضد كل حركات الظلم والاضطهاد فى التاريخ الإسلامى.. وتاريخ رجال الدعوة والفكر، فضلا عن مبادئ الإسلام فى العدالة الاجتماعية خير دليل على ذلك.. والحق أننا- بعد مرورنا بتجربة العقود الثلاثة الماضية، وانهيار الفكر الشيوعى فى النظر والتطبيق.. نرى أن القضاء على الملكية الخاصة- وليس تهذيبها وتوجيهها- أمر لا يمت إلى التصور الإسلامى الصحيح بشىء.. وأن تحويل العامل إلى كائن غير منتج حسبه أن يطالب بالحقوق والعلاوات والأرباح.. هو عمل مدمر ليس من الإسلام فى شىء كذلك. ونرى أنه لابد من توازن بين الواجبات والحقوق.. وأن الواجبات تسبق الحقوق.. وأنه لابد من موازنة عادلة بين الملكيتين الخاصة والعامة.. وأن ترك الأثرياء يطغون ويعبثون بأموال الأمة أمر ينكره الإسلام، وكذلك فإن ترك العمالى والفلاحين يستأسدون ويدمرون – ولا يعملون- وتدليلهم تحت شعارات مختلفة أمر ينكره الإسلام كذلك.. وإذا كان العامل- فى البلاد الرأسمالية- يعمل بجد وإخلاص ثمانى ساعات كاملة أو أكثر.. فبأى شىء تسمى(1/4)
البطالة المقنعة للعمالة فى البلاد والتى تزعم أنها تقوم على العمال ولصالح العمال، ولاسيما فى عالمنا الإسلامى.؟! إنه لا كرامة فى ديننا لمن يخالف الإسلام ويتخطى سنن الله الكونية مهما رفع من رايات.. أو زعم أنه يتجه إلى الشرق أو الغرب.. فالشعارات- مهما كانت براقة- لن تغنى عن الحقائق فتيلا . وفى كتابنا هذا خلال طبعاته السابقة كنا قد عرضنا لبعض القضايا.. وقد جد 007
من الحقائق ما يدعونا إلى أن نعود إليها بشئ من التمحيص.. وكما يقول المثل : (رب يوم بكيت منه.. فلما جاء غيره بكيت عليه).. فقد كنا قد وقفنا من بعض الصور الاجتماعية والاقتصادية التى كانت قد وصَّلَّتْ إلينا الموقف الإسلامى الذى أملاه علينا ضميرنا الإسلامى.. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كما وصلنا.. فقد كان هناك شطط فى المصادر التى نقلت هذه الصور وبالغت فى تشويهها..!! وقد أيقنت بعد تجارب كثيرة أن الحركات الإصلاحية السليمة تخضع لتشويه كبير من قبل أجهزة راصدة مشبوهة، ومن هذه الحركات حركة جمعية العلماء فى الجزائر، وحركة السنوسية فى ليبيا، وحركة الإخوان المسلمين فى مصر، والحركة السلفية فى الجزيرة على يد المجتهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة توحيد الجزيرة العربية بقيادة الملك عبد العزيز.. السلفى العاقل والسياسى المحنك.. رحمه الله. وأحب أن أنتهز فرصة إعادتى لطبع هذا الكتاب بعد هذا المدى المتطاول من الزمان ... فأقول- بصفة عامة حول بعض ما ورد فى هذا الكتاب- إن بعض ما ورد مما قد يقرؤه الناس فلا يحسون بصداه كما كنا نحس به يوم كتبنا ما كتبنا يرجع إلى أن الكاتب المسئول يكتب بإحساسه وباجتهاده وفق ما يصله من معلومات.. ولقد كنا فى الأربعينات والخمسينات نتلقى المعلومات عن ظاهرة الإقطاع تلقيا مشوها مضخما.. وليس يعنى هذا أن الإقطاع لم تكن له سيئات، ولكن الحقيقة أن الذين صوروا الإقطاع لم يكونوا دعاة إصلاح وإلا لكان موقفهم من الإقطاع(1/5)
ورجاله ليس القتل والتشريد والمصادرة الكاملة وإبادة الكفايات النادرة، وإنما كان الإلزام بالقانون وبخدمة المجتمع وبتطوير الاقتصاد وبرفع الظلم وبمصادرة ما كان أصله حراما من غش أو وساطة أو احتكار.. لكن هؤلاء الذين صوروا الإقطاع كانوا يريدون وراثة الإقطاع وقد ورثوه بالفعل وأصبحوا إقطاعيين يحملون أسماء ثورية بل صار شرهم أكثر كثيرا من الإقطاعيين إ! وهكذا كانت الرؤية خاضعة لظروف وقتية فلما تكشفت الحقائق لزم تغيير الآراء (وهذا باب من أبواب الاجتهاد التى تتغير فيها الرؤى والأحكام).. ومثل هذا يقال فيما كنت قد ذكرته من آراء حول المملكة السعودية والملك عبد العزيز.. فبعد دخولى المملكة وزوال حواجز المعرفة ورجوعى إلى المصادر، وتعرفى خلال سبع سنوات أمضيتها فى المملكة على نواحى التطور، أدركت أن الملك عبد العزيز من خيرة الرجال الذين بذلوا الكثير، وكان رجل توحيد ووحدة.. وقد حقق الأمن فى المملكة، وأسدى خدمة جلى للمسلمين بتأمين طرق الحجاج.. كما أنه استن سننا حميدة- 008(1/6)
كمساعدة المسلمين فى كل بقاع العالم وعقد المؤتمرات الإسلامية- مما كان له أثره فى ترسيخ هذه السياسة فى أبنائه من بعده- أعانهم الله للسير على خطاه-!! لقد ذكرت فى كتابى " المسلمون يستقبلون القرن الخامس عشر " أنه قد تبين لى أن الملك عبد العزيز " ملك عابد صوَّام قوَّام ".. وأحمد الله أنى قلت هذا الكلام لوجه الحق.. بعد أن أمضيت سنوات عملى فى المملكة وتركت عملى الرسمى بها فقلت ما قلت خالصا لوجه الله.. لا إرضاء لأحد، ولا خشية من أحد.. فأنا لا أريد أن ألقى الله ظالما لأحد، ولا مجاملا لأحد على حساب الحق الذى علمنا إياه ديننا.. دين الحق. وإحقاقا للحق فإننى أذكر أن الأسرة السعودية فى العشرين سنة الأخيرة قد حققت أكثر ما كنت قد تمنيته فى هذا الكتاب قبل ثلاثين سنة.. لقد كنا قد تمنينا أن يكون استعداد مكة لإيواء الحجاج والعمار أرحم وأجمل من استعداد روما للقاء أبناء البابا. وتمنينا أن تبنى بدل القصور الخاصة الفنادق العامة التى تأوى الحجيج، وتمنينا ألا يوكل وفود الحجاج إلى متعهدين ومطوفين كل همهم الكسب وليس راحة الحجاج!. وتمنينا أن تمهد الطرق ويستبدل بالطرق الوعرة طرق ممهدة... وتمنينا أن تزدهر فى مهبط الوحى دراسات الدين والعلم، وأن يرتقى السلوك والخلق بحيث يحس الحجيج والقادمون أنهم فى جو روحى منعش وأن صلتهم بالله تربو فى هذه البقاع الطاهرة. والحقيقة أن الأسرة السعودية فى العشرين سنة الأخيرة التى لم يطبع فيها كتابنا هذا لم تقصِّرْ فى تحقيق هذه الآمال.. وقد شهد القاصى والدانى بأنها تكدس الجهود فى سبيل راحة الحجيج، وقد ألغت ضرائب الحج، وأنفقت مئات الملايين فى توسعة الحرمين الشريفين وأنفقت المليارات فى تعبيد الطرق وقامت بمراقبة المطوفين والمتعهدين، كما أقامت فى مكة المكرمة مهبط الوحى (جامعة أم القرى) منارة لدراسات الدين والعلم، وهى منارة شامخة يقوم عليها رجال مخلصون لدينهم ووطنهم . ونحن مازلنا(1/7)
نأمل المزيد من الجهد من رجال الحكومة السعودية الذين قدَّر الله لنا أن نعيش بين ظهرانيهم سبع سنين، فرأينا فى كثير من رجالهم أخلاقا لم تفتنها النعمة، وخشوعا وتواضعاً وغيرة حميدة على الإسلام، ومازلنا نؤمن بأن الحكومة السعودية " بخاصة " أمل كبير للمسلمين، وبالتالى يجب أن تبذل فوق ما تبذل فى 009
سبيل التضامن الإسلامى ورفع المعاناة عن المسلمين ومقاومة الغزو الفكرى، وفى سبيل تقديم النموذج الذى يقترب بالمسلمين من أيام الخلافة الأولى مع مراعاة الظروف والأحوال.. أعانها الله ومكنها من تحقيق آمال المسلمين فيها. بقيت نقطة أرى من الضرورى العروج عليها، لأنها من جملة ما كان قد ورد فى هذا الكتاب " الإسلام والأوضاع الاقتصادية " وقد تبين لنا وجه الحق فى حقيقتها.. فقد كنا قد تحدثنا عن النزعة الطائفية الموجودة لدى بعض الدول الإسلامية، كما تحدثنا عن استخدام بعض الدول للقوة والبطش فى سبيل تحقيق الأمن..!! والحق أنه فيما يتعلق بالملك عبد العزيز.. فقد كان الرجل محبا للعدل، بعيدا عن التعصب، يجمع فى حاشيته بين الحجازى والنجدى والمصرى والشامى والعراقى وكل من يستطيعون تقديم الشورى والعون له.. وقد حكم مملكة- بعد أن وحدها- تبلغ مساحتها أكثر من مليون وخمسمائة ألف كيلو متر مربع، وتتوزع مدنها وقراها بين مراكز متباعدة، وتمثل الصحراء ورمالها الجزء الأكبر فى هذه المملكة.. وقد كانت الأمور قبله وقبل توحيد الجزيرة فوضى يعتدى الأقوياء على الضعفاء، ويبغى أهل البادية على أهل الحضارة ويتقاتل أهل البادية فيما بينهم قتالا مستمرا يشبه قتال الجاهليين.. والأسوأ من ذلك أنهم كانوا يستبيحون هذه الغارات ويسمونها (غزوا) ويعتبرونها مصدر رزق حلال، ومظهر رجولة وعروبة.. ويتملقهم حكام الأقاليم- قبل الملك عبد العزيز كسباً لطاعتهم أو خوفاً من جنوحهم- إن طبقوا عليهم الشريعة- إلى صفوف خصومهم.. وفى هذا المناخ كانت تفرض على الحجاج(1/8)
المارين الإتاوات.. فكلما مر الحجاج من جزء تسيطر عليه قبيلة دفعوا لها ما يسمى (الخوة)- أى الإتاوة- ومع ذلك فقلما كانوا يسلمون من السلب والنهب أو القتل!!. لقد قتل الملك عبد العزيز ستة عشر قاطع طريق من عتاة المحاربين لله خلال نصف قرن.. وقد حقق هذا أمنا عظيما تمتعت به المملكة والوافدون إليها، وهو أمن لم تصل إليه دولة- تقريبا- فى العصر الحديث، مع سعة المملكة وقلة سكانها وتباعد عمرانها- كما ذكرنا- وقد التزم الملك بتطبيق الشريعة- وهو يحاكم المجرمين قطاع الطرق.. وأين هذا- وسيلة وغاية- مما ارتكبه الثوريون الذين اعتدوا على أبسط حقوق الإنسان.. دون أن يحققوا أمنا أو يطبقوا شرعا.. بل زرعوا الرعب والخوف وحب الهروب من الأوطان فى كل قلب آمن، وعقل معطاء ؟!! إننا نقف ضد كل ظلم، وضد كل جريمة تعالج بجريمة، ونحن كذلك ضد كل 010(1/9)
طائفية يستعلى بها الناس على بعضهم.. فلا استعلاء فى الإسلام- أصلا- وما يشيع بين بعض المسلمين الآن من صور العنصرية والاستعلاء الوطنى أو القبلى وبقية من بقايا الجاهلية يجب أن يتكاتف المخلصون على تحطيمها.. فالمسلم- الحق- أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله.. والجنسية الإسلامية فوق كل الجنسيات الوطنية.. وبلاد المسلمين هى لكل المسلمين، ويجب أن تسن القوانين التى تكفل للمسلم الحياة الكريمة، والعمل الشريف، فى كل بلد إسلامى يستطيع أن يجد عملا فيه وأن يخدمه، وذلك فى إطار التشريعات الإسلامية الخاصة بالعمل والعمال. وأنا والله لا أدرى : لماذا يستعلى بعضنا- نحن المسلمين والعرب- على بعض.. وكلنا فى الهم شرق- كما يقول الشاعر- وما مصدر هذا الاستعلاء والشرع الإسلامى يحرم تحريما قاطعا هذا التنابذ البغيض.. وهذه الجاهلية المدمرة.؟ وكيف يصبح المسلم غريبا فى بلد إسلامى بينما يكرم- فى كثير من الأحايين- الصليبى واليهودى والملحد؟!! إن أوضاعاً كثيرة قد تغيرت خلال العقود الثلاثة الماضية.. وإن معدلات كثيرة قد انقلبت، ومفاهيم قد تحولت من النقيض إلى النقيض. كل هذا صحيح.. لكن من المؤكد أن صوراً كثيرة من الخلل مازالت تجتاح عالمنا الإسلامى.. فى أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وللأسف فإن كثيرا من الحلول المطروحة- لأنها لا تنبع من الفقه الصحيح بالإسلام- تجنح تارة إلى اليسار، وتجنح تارة إلى اليمين وقد تعالج (صداعاً) فتجلب بعلاجها سرطاناً..! ولا سبيل إلا أن يصح فقهنا بالإسلام، وتحسن عودتنا إليه، ونفهم الدنيا المحيطة بنا.. "ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" 1407 هـ 1986 م محمد الغزالى 011(1/10)
مقدمة الطبعة الأولى :
هذا بحث مجمل فى موقف الدين من الأوضاع الاقتصادية ، اعتمدت فى موضوعه على الدراسة المجردة لنصوص الدين، والفهم المستقل لأثاره الثابتة. ولم أجنح من هذه الدراسة إلى المقارنة بين نظام ونظام، أو المفاضلة بين مذهب ومذهب من هذه الأنظمة والمذاهب التى تمخض عنها تطور الفكر الإنسانى فى العصر الأخير، فليس هذا ما يعنينى، ولست أملك العُدَّة اللازمة لاستقصاء البحث فيه. !! وإنما ألفت هذه الرسالة، ورتبت فصولها المحددة، لغاية واحدة : هى إعطاء القارئ صورة صادقة عن الفكرة الذاتية للدين، والروح العامة لمبادئه، والموقف الذى يقفه بإزاء الأفكار الاقتصادية المختلفة. وللقارئ بعدئذ أن يقارن ويفاضل، ويستخلص من النتائج ما يشاء، وحاشاى بهذا الكلام أن أقحم الدين فيما ليس له، أو أن أحمله من الآراء مالا شأن له به، فما إلى هذا قصدت... كل ما أبغيه أن أنصف الدين من سوء الفهم، وسوء الاستغلال. فقد أنكرت الشيوعية الدين، لأنها حسبته مُخَدِّراً للشعوب، ومسكِّناً لآلام الطبقات المظلومة، وصارفاً لِهمم أبنائها عن المطالبة بحقوقهم المضيعة.! واحتقرت الرأسمالية الدين، إذ توسلت به إلى إشباع المطامع الجشعة، وإقرار الفوارق الجائرة، وتعويض النهضات الحرة.! والدين مظلوم بين من كفروا به، ومن جحدوه! بين الشيوعية المتطرفة والرأسمالية المتعجرفة! ولابد من أن نكشف عن حقائقه، وأن نبين عن معالمه، لنرد عنه سوء الفهم، وسوء الاستغلال جميعاً. والسبيل العادلة إلى ذلك، هى تحديد موقفه من نصوصه نفسها.. *** وقلَّما تنصرف النفوس عن الدين، لو عُرض عليها عرضاً صحيحاً نقيا، فإن أسباب الكفر مفتعلة عند أغلب المتبرمين بالتدين. 012(1/11)
وأكثر هؤلاء كافر بما لا معنى للإيمان به.. مرتاب فيما تجب الريبة فيه. ولو أتيحت لهم الفرصة، وكشف عن أعينهم الغطاء، ودرسوا الدين كما أنزل من عند الله، لا كما أخذ من الناس لعاذوا من أرسخ الناس دينا وأعمقهم يقيناً! ذلك أن الدين- مع الأسف الشديد- مصاب منذ القدم بإضافات زائدة، وأفكار فاسدة، شابت جوهره، وعكرت حقيقته، ولبست تراث النبيين الهداة بأضاليل الشياطين الغواة. وعلينا أن نفصل الحق من الباطل، وأن نميز الخبيث عن الطيب، حتى لا تختلط أمام النظرات السطحية أسباب الهدى بأسباب الضلال. فإذا تميز الخير من الشر، وانفصل كذب الأرض عن وحى السماء، لم يبق ثمة موضوع لسوء الفهم، أو سوء الاستغلال!! ولم يبق على التنكر للدين إلا أقوام من المتنطعين والمتعنتين. وإلى هؤلاء لا يساق حديث، ومنهم لا ينتظر اقتناع. وقد قرر القرآن هذه الحقيقة- بشأن الدين، وما يطرأ عليه من أوهام وما يضاف إلى حقيقته من بدع وخرافات- فقال : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم* ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم." أجل فإن حقائق الدين من منابعه الفريدة الأولى ما إن أخذت تسرى فى مجراها من هذه الحياة حتى علق بها من رواسب البيئات، ومخلفات القرون، وجهالات العامة، وشهوات الخاصة، ونزوات الحكام، ما ذهب بالكثير من صفائها ونقائها، 013(1/12)
حتى لتشبه "ماء النيل " في مجراه الأدنى، لا يصلح للشراب إلا بعد مجهودات متعاقبة من الترشيح والتنقية ترده "سماوياً" كما كان. وقد خضع موقف الدين من الأوضاع الاقتصادية لهذه الصبغة العامة، والسُّنَة المُطَّرِدة، فظن الناس فيه الظنون، وتولدت من ذلك رأسمالية جائرة، وشيوعية كافرة. ومن حسن الحظ أن الاضطراب الذى أصاب الناس فى أعمالهم وأحكامهم لم يؤثر تأثيراً خطراً على المقياس الذى نتناول به هذه الأعمال والأحكام بالنقد والتخطئة و التصويب... فمعرفة الحقيقة لا تزال فى مقدورنا، ورسم حدود للدين تنفى ما وراءها عن حظيرته المقدسة، أمر سهل. وقد كافح كثير من أئمة الفقه والتشريع والإصلاح على مر القرون، لنيل هذه الغاية فنالوها. على أن الإنسانية لم تزل بحاجة إلى من يوضح هذه الخطوط، إذا درست بفعل العوامل المختلفة، وتَعَهُّدُ ذلك ضرورة، لابد منها لمصلحة الدين، ولمصلحة الناس أجمعين. وأقصد بالدين، الخلاصة التى اشتركت كافة الديانات فى تقريرها، وعملت الرسالات المتعاقبة على إبلاغها. ثم جاء القرآن الكريم فأفرغها فى صيغتها الأخيرة، وأعطاها صبغتها النهائية، وربطها بفطرة النفس السليمة، والعقل الرشيد، ووجَّه قلب الإنسان ولُبَّه إليها، عندما قال : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وعلى نصوص هذا القرآن، أعتمد فى الاستدلال والاستنتاج، مسترشداً بما قد يرد فى السُنَّة فى شرح وتفصيل. وأكرر مرة أخرى أن البحث فى هذه الرسالة دينى محض، أضعه تحت أنظار معتنقى المذاهب الاقتصادية ليحكموا بعده للدين أو على الدين.. 014(1/13)
وطريقتنا تقوم على احترام ظواهر النصوص، والتمشى مع قواعد الدين العامة، فإن ضروب التأويل التى تعلق بها الكثيرون ليست إلا لونا من تحريف الكلم عن مواضعه، خدمة لبعض الأغراض الصغيرة، أو تحاشيا للاصطدام مع بعض السلطات القائمة، أو تحكيماً للعرف السائد والتقاليد المتوارثة فى الدين نفسه، لِيلين معها، وينجرف فى تيارها. لقد ورد فى الحديث مثلا : " من جدع عبداً جدعناه، ومن خصى عبداً خصيناه " . فجاء قوم وقالوا : إنما قصد الشارع عبداً تحرر!! والغرض من هذا التأويل أن يجر الدين إلى جواز خصى العبيد!! وقد التصقت هذه السبة بالدين، حتى جاءت الحضارة الحديثة فحرمت النخاسة وما يتبعها من خصى ونحوه، وهى وما تبعها لم تُحَل فى دين من الأديان. بل قد وردت نصوص تحرم اختطاف الأحرار. وتحرم إيذاء الرقيق بالكلمة- بَلْهَ قتل الرجولة فيهم. ولكن سوء الفهم- هنا- فرض على الدين فرضاً، فتجنَّى الناس على الدين.! وجاء الدين- مثلاً- يقرر الشورى فى الحكم، فجاء بعض المفسرين يقول : إن الحاكم يستشير ثم يمضى على رأيه، لا على الشورى !! وبذلك أصبح معنى النص يتحمَّل الشىء وضده! فإذا قال القرآن : "وشاورهم في الأمر " كان معنى الآية يبيح للحاكم أن يكون ديمقراطيا وأن يكون مستبدا !! مادام له حق القبول وحق الرفض.!! ومثل هذه التأويلات ترحب بها الحكومات المستبدة فى الشرق الإسلامى ولعلها نبتت فى ظلها وبإيعاز منها . . 015(1/14)
ومن ثم قال الشيخ محمد عبده- فى هذه التمحلات البعيدة- "إنها نزعات شياطين، وشهوات سلاطين ". وقد هونت هذه التأويلات من قداسة الدين وغضت من كرامته، ولذلك نريد أن نجليها عنه. "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" ثم يجب أن نعرف أن هناك أهدافاً كبرى للدين ، يعمل للوصول إليها ولا يتخلى أبدا عن المطالبة بها، وله مطالب أخرى ثانوية، تدور مع الأهداف الكبرى، كما يدور عقرب الثوانى فى الساعة، يتجه كل ناحية، ولكنه- فى حساب الزمن- خاضع للعقربين الكبيرين، لا يضطرب أبداً معهما. وكثير من المتدينين، وقفوا عند هذه المطالب الصغرى، فلم يفقهوا من الدين إلا قشوراً، لا تُغنى عن اللُّبَاب، وقيوداً تنبو عنها روح الكتاب. وموقف الدين من الأوضاع الاقتصادية، يتطلب منا أن نحترم النصوص الجزئية، وأن نحترم- كذلك- الدلائل العامة. فنحن نريد أن ننصف الدين.. نريد أن نداوى بالإيمان ما يراد له أن يُداوى بالكفر والعصيان!! وسيجد القارئ فى هذه الرسالة طائفة من الأفكار الإسلامية، أرجو أن تكون بداية موفقة للكلام فى هذا الموضوع الخطير. محمدالغزالى 016(1/15)
الطبقات المترفة والطبقات البائسة :
الترف والبؤس :
للترف تاريخ يضرب فى أغوار القدم. ولمظاهره المادية والأدبية آثار عرفها المتقدمون والمتأخرون من سكان هذه الأرض على اختلاف أقطارهم. وللبؤس- كذلك- تاريخ تمتد جذوره فى ماضي الإنسانية البعيد- ولصوره المادية الكئيبة، معالم عرفها الأسلاف والأخلاف جميعا. وكلا الأمرين- من ترف وبؤس- تواردا تواراداً عاماً على أجيال البشر، لا كما يختلف الليل والنهار اختلافا منتظما، يستوى الأحياء كافة فى الانتفاع بضيائه والهدوء فى ظلامه. بل هو توارد آخر، جعل ظلام البؤس قسمة لبعض الناس، يعيشون فيه أبداً، ويفقدون فيه أبصارهم- إذ إنها لا ترى فيه شيئا. وجعل شعاع النعمة مشرقا على بعض آخر، فهم يعيشون فيه أبداً، وهم يَعْمَوْنَ فيه كذلك، من طول ما يَبْهُرهُم رونقه، ويأخذ أبصارهم تألُّقه!. وفى ظهور الترف والبؤس، توجد الطبقات المترفة، والطبقات البائسة، ويولد نظام الطبقات، ويحدث التظالم الفردى والاجتماعى والسياسى. وتنشأ معانى السيادة والرق، والقداسة والضعة. وتقرر شتى التقاليد المرتبطة بهذه الأمور ارتباطا يقترب ابن المقفع من وصفه إذ يقول : "إذا افتقر الرجل اتَّهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن به حسناً. فإذا أذنب غيره ظنُّوه، وكان للتهمة وسوء الظن موضعاً. وليس من خلَّة هى للغنى مدح، إلا وهى للفقير عيب : فإذا كان شجاعاً سُمِّىَ أهوج، وإن كان جواداً سُمِّىَ مُفسدا، وإن كان حليما سمى ضعيفا، وإن كان وقورا سُمِّىَ بليدًا، وإن كان لسنًا سُمِّىَ مهذارًا، وإن كان صموتًا سُمِّىَ عييّا". 017(1/16)
سر هذا التقسيم :
وقر في النفوس أن تفاوت الناس في اقتسام الأرزاق سُنة إلهية، وأن انقسام الأمم- تبعا لذلك- إلى طبقات، تتفاضل بحسب ما تملك من متاع الحياة وخيراتها ، أمر طبيعيٌ. قصَد إليه الدين بل صرح به القرآن الكريم، وفي تسويغ ذلك تُساق آيات شتى. "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم" "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون" "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم* أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" ونحن نقول : بأن الدين منذ- فجر الخليقة- حارب فكرة انقسام الناس إلى طبقات، على أساس ما يمتلكون من أنصبة مادية، جليلة أو قليلة. والآيات السابقة لا تخدم الغرض الذي تساق من أجله، ولا يجوز أن يبقى في ظلها نظام الطبقات المعروف بمآثمه ومغارمه ومظالمه. فالآية الأولى، إنما تدل على أن الله استخلف الناس في الأرض ليعمروها وليكدحوا فيها، وفاوت بينهم فيما منح من الوسائل الأدبية والمادية التي تعين على ذلك. والتفاوت في المواهب الإنسانية والجهود الإرادية حقيقة لا ريب فيها. فالناس ليسوا سواء في الذكاء والغباء، وليسوا سواء في العمل والكسل. ومن ثمّ يجب ألاّ يتساووا في الأجر المادي والأدبي الذي يأخذونه بإزاء طاقتهم 018(1/17)
وجهدهم. وذلك معنى الابتلاء الذى تضمنته الآية والتهديد الذى ختمت به. إذ أن الله سائل كل امرئ حتما على قدر ما آتاه من خصائص، ومنحه من ملكات.. والآية الثانية صريحة فى أن التفاضل فى الرزق- إن جاء من أسبابه المشروعة- لا يسوغ أن يكون مُثار جشع وحرص، يجعل الفاضل بخيلا به على المفضول، بل ينبغى أن يرد الممتازون بالمال بعض ما معهم على من تحت أيديهم، من الخدم والأتباع وغيرهم، شكرًا لله على ما ميزهم به من مواهب وسلطان. وأما الضن بالخير على الفقراء إليه فجريمة لا يقرها دين. وليس فى الآية ما ينفى جعل التفاضل فى الرزق تابعاً للتفاضل فى العلم والفن وخدمة الوطن والمجتمع، بل ذلك مفهوم من الآية الأولى ومن غيرها. وأما الآية الأخيرة فهى تشبر إلى أن جسم الأمة كجسم الإنسان، لابد فيه من رأس مُدبِّر، وعقل مُفكِّر، ومن أطراف تُسخَّر للتنفيذ، وأعضاء يُستعان بها على بلوغ الغايات المقصودة.. وهذه حقيقة مقررة فى كل نظام إنسانى، فإن الناس لا يصلحون فوضى. والمصالح العامة لأية أمة لابد فيها من تنوع الوظائف إلى علمية وعملية، وإلى مدنية وعسكرية، وإلى زراعية وصناعية. ومن هذه وتلك يوجد التافه والخطير، والدقيق والجليل. ولكى تصلح الأوضاع يختار لكل وظيفة من يستطيع القيام بأعبائها، ومن ترشحه مواهبه للعمل فيها، وملكات الناس فى ذلك متباينة أشد التباين. فهذا مهندس للمصنع يعمل فيه بعقله، وهذا عامل مجرد يشتغل فيه بيده، وهذا يتبع ذاك فيما يشير به، لأن هذا يضع التصميم، وذاك يقوم بالتنفيذ. والخضوع الواجب فى مثل هذه الحالات، هو خضوع الجند لأوامر القيادة فليس هو البتة تسخير إذلال وقهر، ولكنه تسخير نظام وعمل. هو ترتيب يشبه ترتيب الأعداد صعوداً أو نزولاً، فالأول قبل الثانى، والثانى بعد الأول. وأساس هذا الترتيب أو هذا التسخير، هو الكفاية الذاتية وحدها. على أن الملاحظ فى البيئات التى يظهر فيها الترف والبؤس، ويوجد فيها(1/18)
نظام الطبقات، غير ذلك. 019
إذ يقوم التفاوت المالى مقام التفاوت العقلى. ويستنكر بروز النابغين من الطبقات الفقيرة، أو توضع العوائق الكثيرة لعرقلة نموهم، وإخماد نارهم. وهذا ما سَجَّلَته آية القرآن الكريم حين حكت الاعتراض على نزول الوحى فى بيت فقير : " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وحين ردت الأمور إلي نصابها، جاعلة التفاوت العقلى وحده أساس انقسام الناس إلى حقيرأو عظيم "الله أعلم حيث يجعل رسالته" . وهكذا تتخير الرحمة العليا مَحلَّها الذى تهبط إليه، غير معترفة بالأساس الجائر للتفاوت المادى بين الناس، فهو مقياس باطل لعظمة مُزيَّفة. ومن ثمّ تختم الآية بهذا التذييل "ورحمة ربك خير مما يجمعون" إن الكلام فى "النظام الطبقى" يحتاج إلى مزيد من البيان. فإن بعض الناس فوضوى الفكر يحسب أن كل امرئ من الناس ككل امرئ آخر لا فروق ولا خلافات.!! ومن الناس من يتصور أن البشر خلق بعضهم ليسود والآخر ليضام.!. ولا ريب أن هذه الأخيلة بعيدة عن الصواب الذى يقرره الدين، وعن المنفعة التى تقوم عليها الدنيا. إن المساواة المطلقة خرافة، والتفاوت المفتعل لغير سبب معقول مرفوض من أساسه.. الناس سواء فى الحقوق العامة، فحق الحياة مثلا لا ريب فيه لكل إنسان ولا يقبل إهداره لعذر مفتعل، فلو أن فيلسوفا قتل حمَّالا لقُتل فيه، ولو أن عملاقا قتل طفلة لقُتل فيها.. ويمكن إحصاء الحقوق العامة وإقامة الشرائع المحترمة لحمايتها وصد العدوان عليها. لكن هناك حقوقا خاصة لابد من تقريرها ويستحيل قبول المساواة فيها، وهذه الحقوق تتبع التفاوت الطبيعى الموجود فى الأشخاص والأشياء!! 020(1/19)
إن الحجارة منها ما هو كريم يباع بأغلى الأثمان، ومنها ما هو خسيس يترك مكانه لأنه لا يساوى عناء حمله! والاختلاف فى مواد الأرض صورة للاختلاف بين طبائع البشر ومواهبهم.. هناك البليد الذى لا يحس القريب من أنفه. وهناك الألمعى الذى يظن بك الظن كأنه قد رأى وقد سمعا.!! وهذا التفاوت قدر أعلى، ويبدو أن الحياة لا تقوم إلا به، وقد تبدو له صورة عجيبة، فهذان أخوان شقيقان رزق أحدهما رقة فى حباله الصوتية، فإذا هو "فنان" وإذا فنه يُورثه الضياع والقصور ورزق الآخر حنجرة عادية، لم تجد عليه قليلاً ولا كثيراً، فعاش فى غمار الناس، لا سمعة ولا ثروة. وإذا تركنا ميدان المال إلى ميدان النبوة العالى وجدنا هذا التفاوت بارزاً، "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات" إن هذا التفاوت بين الناس حقيقة لا يمكن إنكارها، ولا يُمكن لنظام بشرى أن يلغيها أو يغض من نتائجها.. وهذا- وحده- هو المقصود بقول الله "ورفع بعضكم فوق بعض درجات". ربما كان هذا الرفع بأصل الخلقة، وهو كثير، وربما كان بتوفير الظروف المعينة على الارتقاء، وهو أيضا كثير.. وهنا نسأل : هل معنى رفع الدرجة قرب المنزلة من الله، وكسب اختبار الحياة المفروض على الناس أجمعين.؟ والجواب السريع : لا، إن المواهب الرفيعة تتعرض لتجارب أشق، وامتحانات أصعب، بقدر ما تميزت به طاقة، والحصيات التى تتحرك على ظهر الأرض فى نطاق محدود غير الكواكب التى تقطع أجواز الفضاء فى سرعة لاهثة . 021(1/20)
وقد فسر القرآن الكريم هذا الاختلاف في الدرجات بأنه أساس للاختلاف في التكليف والابتلاء، فقال :"ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم" وظاهر مما أوضحنا أن "الدرجة " غير "الطبقة ". الدرجة صفة نفسية خاصة، أما الطبقة فمجموعة من الناس ادعت لنفسها صفات وحقوقا معينة.. قد تقول : من حق المتفوقين من الناس أن يجمعهم عقد خاص بهم، ويتميزون به على غيرهم!! ونقول : لو حدث ذلك لفرض هذا العقد على الدنيا نفسه، ولما نهض منطق يرفضه. لكن تصور ذلك يناقض واقع التاريخ، وسير الجماعات البشرية !! ولننظر إلى الأمر بإنصاف وروية.. هل هناك طبقات من الناس جمع بينها الذكاء والإنتاج والتفوق والإقدام وانتظام صفوفها طولا وعرضا؟! وهل نظام الطبقات الذى شقيت به الإنسانية من قبل الطوفان إلى الآن قام على هذا الأساس ؟؟ إننا نقول بملء أفواهنا : لا..! إن للناس عيوبا فى هذا المجال يجب أن تذكر، ولنبدأ بأتفه هذه العيوب وأشيعها!! هل بياض الجلد منقبة تجمع بين أصحابها؟ هل الانتساب إلى ملك ما، أو أحد الأنبياء، أو إحدى الأسر ذوات العزوة والمنعة، مناقب تعرف لذويها.؟ إن الطبقية فى كثير من بقاع الأرض تقوم على هذا الأساس الخرافى، وتعطى مجموعات من الناس حقوقا خاصة.!! لقد اعترفنا بحقوق الكفاية العظيمة المادية والأدبية، فكيف نعترف بهذا الوهم..؟! ولكن يبدو أن بعض الناس يسره أن يكسب مجداً بدون جهد، وتقدمًا بدون تعب، ولا عليه أن يغالى بالنسب العريق والجنس الراقى، فذلك يعود عليه بفوائد ذات بال..!! 022(1/21)
هل يمكن سوق آيات رفعة الدرجة فى هذا المجال؟! كلا، وسوقها فى هذا المجال تحريف للكلم عن مواضعه، وعبث بالوحى الإلهى يدور بين الجهل والكفر.!! والغريب أن النظر الى الأنساب والألوان يعصف بالعقول قديما وحديثا عرفته الجاهلية العربية، وتعرفه المجتمعات الأمريكية والأوروبية سواء بسواء. وربما قام نظام الطبقات على إبراز بعض الحقائق وإغفال بعض آخر، فإن قوانين الوراثة قد تنقل الخصائص الرفيعة من الوالد إلى الولد، وقد يمكن إلى جانب ذلك تطويع البيثة لخدمته، ودعم قواه وتنمية ملكاته! ومن هنا يلد الكبراء كبراء، وينسل العظماء عظماء.. وهذا الكلام تصوير جانبى يصدق ويكذب، فإن قوانين الوراثة غامضة النتاج، وهى تنقل الوضاعة والرفعة، كما أن السيطرة على البيئة قد تميت فسادا، وتحيى فسادا من لون آخر.. وقد استطاع فقراء أن يثبوا إلى الملك، وجاء من أعقابهم المباشرين من عجز عن البقاء فى دَسْتِهِ.. إن تحويل الامتياز الفردى إلى تفوق عنصرى واستعلاء طبقى غيرصحيح. ونحن- مرة أخرى- نؤكد أن الدرجة غير الطبقة، وأن اختلاف الناس درجات غير انقسامهم طبقات. فالقوانين الطبيعية شىء، والأمراض الاجتماعية شىء آخر.. وتوجد محاولات عنيدة من قديم الزمان لتقسيم الناس طبقات على أسس شتى، دون نظر إلى القيمة الإنسانية الخاصة، ودون احترام لكفاح آحاد الناس نحو السمو والاكتمال. وبديهى أن تكون الثروة، أو السلطة محاور لهذه الطبقية المتمردة! فتجد من بعض الناس استطالة لامعنى لها، واستهانة بالأخرين لا إنصاف فيها، وتجد شعوراً عارمًا بحقوق خاصة، وذهولا عن أى واجب مطلوب، فى الوقت الذى يفرض فيه هؤلاء على الآخرين واجبات لا حصر لها دون مقابل معروف. وقد عمل الإسلام على هدم هذه الطبقية وإعلاء القيم الإنسانية وحدها، وأخذ ذلك الهدم المقصود صوراً شتى تلمحها فى الأحاديث التى نسوق إليك طرفا منها.. عن أبى ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا أبا ذر(1/22)
أترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب.!! 023
ثم سألنى عن رجل من قريش قال : هل تعرف فلانا؟ قلت : نعم يا رسول الله قال : فكيف تراه؟ قلت : إذا سال أعطى، وإذا حضر أدخل!! قال : ثم سألنى عن رجل من أهل الصفة فقال : هل تعرف فلانا؟ قلت : لا والله ما أعرفه يا رسول الله.. فما زال يحليه وينعته حتى عرفته، فقلت : قد عرفته يارسول الله!! قال : فكيف تراه؟ قلت : هو رجل مسكين من أهل الصفة. قال : فهو خير من طلاع الأرض من الآخر! قلت : يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما أعطى الآخر؟ قال : إذا أعطى خيراً فهو أهله. وإذا صرف عنه فقد أعطى حسنة.. وعن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلّم قال : احتجت الجنة والنار- أى نوه كل منهما بشأنه وذكر حجته- فقالت النار : فى الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة : فىَّ ضعفاء المسلمين ومساكينهم! فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتى أرحم بك من أشاء! وإنك النار أعذب بك من أشاء! ولكليكما علىَّ ملؤها. وعن أبى ذر قال لى رسول الله صلىالله عليه وسلّم : انظر أرفع رجل فى المسجد.. قال : فنظرت فإذا رجل عليه حلة، قلت : هذا. قال : فانظر أوضع رجل فى المسجد! فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق- ثياب رثة- قلت : هذا. قال أبو ذر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لهذا عنه الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا..! إن تلك الأحاديث ما يصح معناها إلا حيث سقناها فإن الإسلام لا يخاصم الغنى بل يعدُّه فضل الله على عباده، ولا يخاصم الجمال والزينة بل يستحبها للناس، ويؤثرهم للمؤمنين خاصة، وإنما يرفض احتقار النفس الإنسانية لطوارئ القلة والقيلة، ويرفض انتقاحها لظروف الثراء والسلطان. وقد ترى ناسا من المشتغلين بالعلوم الدينية يرسلون فتاوى منكرة فيما يتراءى لهم من أحوال الناس، فإذا رأوا رجلا تمكن من رياسة أو سلطة(1/23)
وسألتهم عن شأنه، هزوا رءوسهم ثم غمغموا : 024
"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء". وهذا استشهاد جهول، وفهم مستنكر، فإن الاحتجاج بالمشيئة الإلهية لا يجوز فى تسويغ غصب لمنصب، أو سرقة لعمل عام أو خاص. وقد ترى هؤلاء يسكتون سكوت القبر لعامل بُخس حقه وظُلم أجره، وينظرون إلى مَنْ أوقع به هذا الحيف ثم يقولون : "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا".!! إن هذا موقف بالغ الشر فادح الضرر، جرىء الكذب على الله ورسوله! فإن الإسلام يستحيل أن يسيغ ظلما أو يقبل ضيما. وإذا كان الله قد جعل بعض الحيوان قويا والآخر ضعيفا، فهو لم يجعل ذلك ليعتدى قوى على ضعيف..، وإنما خالف بين أنواع الموجودات لتستقيم الحياة ويصح العمران.. على أن علماء الإسلام فى شتى القرون كانوا أوفياء للحقيقة، أسانيد للعدالة، ولم يحطب منهم فى حبال الحكام الفجرة إلا النزر اليسير. وجمهور الأئمة ومن تبعهم بإحسان كانوا مع الجماهير ضد المتسلطين والمعتدين..، غاية ما يؤخذ عليهم أنهم لم يترجموا تعاليم الإسلام ضد المظالم السياسية والاقتصادية إلى قوانين محدودة، ودساتير مضبوطة .. وبعض العلماء المعاصرين من أهل الخير يمشى فى هذا الخط، ويتجاهل ما حققته الإنسانية فى سيرها العانى من تجارب ومقررات تحقق الخير للناس، وترسى رغبات الدين على قواعد متينة! فإذا سألتهم : ماذا يصنع الإسلام لوقف الاستبداد السياسى والميل الاقتصادى؟ أجابوا : إن أهل الحل والعقد يستطيعون باسمه أن يفعلوا كذا وكذا..!! والواقع أن أهل الحل والعقد يمكن أن ينتظموا فى سلك الأمور الثلاثة المشهورة، الغول، والعنقاء، والخل الوفى . ! 025(1/24)
إنهم فى واقعنا المديد أمنية حالمين، ويجب أن نستفيد من الدساتير الحديثة التى قلمت أظافر الطغاة، وأتاحت لكتل الشعوب أن تتنفس فى هدوء! أوضاع معكوسة :
شتان بين ماهو كائن ومايجب أن يكون فى بلاد الإسلام البائسة المنكوبة بأفانين من الاستعمار الداخلى والخارجى. إن الغنى والفقر وحدهما- ميزان الطبقات هنا وهناك.!! الغنى الذى لا ئعرف من أين جاء، والفقر الذى لانعفف كيف حَلَّ. فى مصر شعب تضطرب به سهول الوادى الفسيحة، يكدح وينصَب ليرتاح على ثمار جهوده نفر من الأعيان والوجهاء.! شعب أقعده الشقاء، وأضره الحرمان، وقلّةٌ أبطرها النعيم، وأغواها الطغيان. وما هذه الفوضى الشاملة؟ وكيف تستقر هذه الحماقة باسم الدين؟!! أهذا هو الإسلام الذى يجعل العلم وحده مناط رفعة الدرجة، ويجعل التقوى وحدها أساس امتياز الأفراد؟! أفتعطى الأعمال فى مصر على أساس الكفاية فى العلم والدين؟!.. إذا فما أسعد الوظائف بأصحابها!. أفينقسم الناس طبقات شتى على هذا الأساس عينه؟! إذا فما أشقى الفقراء بغباوتهم!. أم هى الأوضاع المنقلبة والحقوق المسروقة؟! أجل إنها لكذلك ، ولو استقام كل شئ على وجهه الذى يرضى الله لارتقت جماهير هائلة من الحضيض الذى تقلب فيه، إلى مستوى آخر تسعد به ويسعد بها. ما أحوج الشرق الى أن تعمر العدالة الاجتماعية ربوعه الخربة، وأن تنقل إلى الحياة الصحيحة شعوبا أعياها اللغوب، وأضناها طول الغِلاَب. . 026(1/25)
أما استغلال الدّين لتجريم الشعوب ماتغص به من مرارة الظلم وهضم الحقوق، فهو ضرب قبيح من ضروب الإلحاد، إن لم يكن أقبحها على الإطلاق.
رأسمالية قديمة :
استوقفت نظرى هذه الأية الكريمة :"وإذا قيل لهم أنففوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا فى ضلال مبين" . فإنى شعرت بأن التساؤل الذى انطوت عليه الآية، يتضمن اعتراضاً رأسمالياً صادقًا فى تصوير حالة قائليه. وأدركت أن الفكرة التى يَصْدُرُ عنها الأغنياء، فى تصرفاتهم مع الفقراء تكاد تكون- قديمأ وحديثا- واحدة، لا تتغير ولا تتطور. وأساس هذه الفكرة الغائرة فى الماضى ، الممتدة مع الأيام، أن الله جعل الأغنياء أغنياء هكذا، لأن الله أحب لهم أن يستمتعوا بنعمة الغنى، وأن الفقراء، فقراء هكذا، لأنه شاء لهم أن يشْقوا بمصيبة الفقر. وأنه فاوت بين الناس، فخلق المكثرين والمقلين، قصدًا إلى إقامة فوارق مادية طبيعية بينهم، على أساس التفاوت فى ثرواتهم، وأنه لذلك فضل البعض على البعض فى الأرزاق والمعايش، فليس يجوز إيجاد أى نظام يصادم هذه الحقائق!!. وقد زيَّف القرآن هذا الكلام الذى لا يحمل مسحة من المنطق- ، وبين قيمة أصحابه عندما عقب على تساؤلهم " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه" بقولهم : "إن أنتم إلا فى ضلال مبين" وذلك أن الأغنياء- فى نظر الإسلام- لا يجوز أن يبقى لهم غناهم كاملا، وأن الفقراء لايجوزأن يبقى عليهم فقرهم كاملا. ولابد أن يشترك هؤلاء وأولئك، فى إقامة مجتمع، لا يوجد فيه الرجل المترف والرجل المحروم. ولو أن التفاوت فى الأرزاق كالتفاوت فى المواهب، ما صح أن يكون ذلك ذريعة لإهدار المصلحة العامة، بل وجب أن يكون وسيلة إلى إقامة هذه المصلحة وتكليف كل فرد بنصيبه الشخصى منها- على قدر كفايته الذاتية الخاصة . 027(1/26)
حقا إن الله فضل بعض الناس على بعض، فى الملكات والوظائف والحظوظ النفسية- ولا أظن الشيوعيين فى بلادهم يستطيعون هَدْمَ هذا المبدأ الطبيعى. فهم يعطون القائد أكثر مما يعطون الضابط أكثر مما يعطون الجندى، لكن هذا التفاضل فى الأرزاق لا يعنى التقاطع بين الناس والتظالم بين الطبقات، والتوقح على مقسم الأرزاق!. نقول له : مادمت قد أفقرت فلم تغنى؟! ومادمت قد أغنيت فلم تفقر؟! بل يجب أن نجعل من ذلك مبدأ تعاون تام واشتراك عام فى بناء مجتمع ينتفى منه الترف والبؤس؟ ويسوده العدل الاجتماعى الشامل. ومن الأقاويل التى سمعتها فى تبرير الحرمان والهوان، الذى تلقاه الجماهير الفقيرة، أن الدين لم يفرض الزكاة فى أموال الأغنياء، إلا على أساس اعترافه بالفقر والفقراء، ونظرته إلى ذلك نظرة لا غرابة فيها ولا إنكار!! وعلى هذه الطريقة فى الاستدلال يمكننا أن نقول : إن الدين لم يفرض الجهاد على المؤمنين، إلا على أساس اعترافه بالكفر والكافرين ونظرته إلى ذلك نظرة لا غرابة فيها ولا إنكار ! ثم لكى نضمن بقاء فريضتى الزكاة والجهاد، يجب أن نعمل على بقاء الفقر والكفر، وإلا لم يبق للأغنياء والمجاهدين، عمل يقومون به إيمانا واحتسابا.. أرأيت كيف تنتهى الحماقة بأصحابها؟!! إن الله عز وجل لا يحب من الناس، أن يشردوا أو يفسدوا وهو القائل : "إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر" ولا يحب لعباده كذلك، أن يشقوا أو أن يفتقروا، وهو القائل : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" فإذا كان اعوجاج الحياة الإنسانية على ظهر الأرض، وزيفها عن سواء السبيل، قد أدى إلى ظهور الفقر والكفر هنا وهناك، فإن رسالة الدين تقوم على علاج هذا الانحراف، وتستهدف رد الناس جميعا إلى الإيمان والأمان. 028(1/27)
كما تقوم رسالة الطب على علاج الأمراض وقتل جراثيمها، فهى لا تهادن المرض لحظة. وكما تقوم رسالة العلم على محاربة الجهل واكتساح ظلماته، لاتسكت عن ذلك فترة. فالقول بصداقة الدين للفقر، يشبه القول بصداقته للكفر، يشبه القول بصداقة العلم للجهل، والطب للمرض!! إن الخطأ قد يكون طبيعة فى البشر. وتاريخ الإنسانية لا يعدو أن يكون سعيًا نحو الكمال، وتخلصًا من الآفات العقلية، والأوزار الاجتماعية التى تعترض هذا السعى الحثيث. لكن بقاء الخطأ فى طبيعة الإنسان، لايرقى بالخطأ إلى اعتباره ضرورة من الضرورات المحتومة. فمن الخبل أن يُظَنَّ بالدين ميله إلى بقاء الفقر، لأنه أعد له- مثلا- فريضة الزكاة. أجل! سيبقى الناس متفاوتين فى أرزاقهم، بعضهم فوق بعض، أو بعض دون بعض، فتلك سنة الحياة. ومهما اجتهدنا فى تعميم العدالة وتوزيع الخبرات فسيبقى من يستحقون الرحمة والعطف، ممن يحيف عليهم الخطأ والنسيان، أو ممن تبطئ بهم قدراتهم فيتعرضون للعجز والعطل.. ثم إنه لن تعم الناس حالة يستغنون فيها لحظة عن رقابة الدِّين ويقظة الضمير. مادامت منابع الظلم فى شِيمهمْ، لا يدركها جفاف!! ومن هنا فلابد من توصية القادرين على الضعاف، والمتبوعين على الأتباع. وما يخلو مجتمع بشرى من هذه الصفات المتناقضة. لكن إرصاد الأدوية للعلل المرتقبة لايعنى تشجيع الأوبئة على الانتشار.. ونحن نلحظ فى بلاد الإسلام ميلا مجنونأ لدى بعض الناس كى يغتنى من ألف طريق دون اكتراث بحلال أو حرام. وميلا أشد إلى استبقاء جم غفير من الحلائق يحيون على الفتات. ويلازمون المسكنة. وهذا ماننكره باسم الله . 029(1/28)
الصراع بين الخير والشر:
تتضافر نصوص الدين الصريحة، وقواعده العامة، على تحقيق وحدة الأمة فى ظل الإيمان الصادق والعدالة الشاملة. ونستطيع أن نرى مصداق ذلك نصوصًا في آيات القرآن الكريم وتطبيقا فى عهد الخلافة الراشدة، التى يصح اعتبارها امتدادًا لعهد النبوة فى فترات متقطعة تومض خلال ليل طويل. أما مراحل التاريخ الإسلامى بعد ذلك، فإن بعض نظم الحكم لم تكن وفق مثل الإسلام العليا، قد تقترب منها قليلا فتستريح الأمم وتهدأ أنفاسها، وقد تبتعد فتصاب الجماهير بالعنت. وربما كان المسلمون فى ظل دينهم أحسن من غيرهم حالا إلا أن ابتعاد الدين الصحيح عن الحكم فى بعض الفترات ترك أثره فى الأمة فقد اكتنفتها فتن مزعجة ومظالم دامية. وعملت هذه السياسات الغاشمة عملها فى بعض الفترات. لكى تصرف المسلمين عن لباب دينهم، وتشغلهم بقشور خفيفة الوزن من تعاليمه. فأصبح علمهم بدينهم يكاد لايتعدى الزبد الذى يذهب جفاء. أما الحقيقة الخالدة التى تنفع الناس وتعمر بها أخلاقهم فقد فرطوا فيها. وإن كان القرآن نفسه بقى ناطقًا بالحق شاهدًا به على مَنْ هَجره من الناس!. وإذا كان التاريخ قد خط للنظام الطبقى سجلا حافلا بمهازل الشرف المزعوم، ومساخر النبل الموهوم، فقد جاء الكتاب الكريم بعرض مستفيض، لما ردد القوم من أكاذيب. وماكبر فى نفوسهم من أباطيل، ثم أخذ يكشف خبأها، ويفضح زيفها. حتى لتكاد تلمس فى ثنايا الآيات أنقاض ما انهدم من نظام الطبقات وتسمع عند تلاوتها آخر ما أرسلت النعرة الكاذبة من أنفاس قبل أن تفترسها قوى الخير- وهى فى طريقها إلى الأرض- حاملة نور السماء!. ولابد من كلمة تشرح جرثومة هذا النظام، السرف فى المعيشة تجاوز الحد فى النفقة وإجابة مطالب النفس كلها. 030(1/29)
والترف إلف هذه المعيشة الناعمة، واستدامة عناصرها ومظاهرها، والضجر لتخلف شىء منها لأن التنعم أصبح عادة مستحكمة.. ويبدو أن المرء عندما يألف مستوى خاصًا من الحياة الرضية يفقد لذة الإحساس بها، وقد نسخط مايعده الآخرون أملا لهم بعيد المنال.. وذاك سر قول الرافعى : إن الله أخذ اللذة من أفواه الأغنياء فوضعها فى عيون الفقراء. ويبدو كذلك أن هذا هو السر فى تقلب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الضراء والسراء، فقد روى أن المعيشة الرغدة عرضت عليه، وأنه خير بين امتلاك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وبين حياة الكفاف، فآثر أن يكابد الحياة على لونيها، وقال : يارب أجوع يومًا فأذكرك وأشبع يومًا فأشكرك!!. ولندع سيرة الأنبياء فى مستواها الأشم لنقول : إن الترف يفسد ذوق الفرد وحكمه، وإنه إذا شاع فى أمة أصابها ببلايا جمة.. فالمترفون يكاثرون غيرهم بالفضول التى يجمعونها، ويتنافسون بينهم فى اصطياد المتع، ويقبلون على الدنيا بنهمة لا تنتهى ، وهذا كله يقع على حساب الحق والخير، ومطالب الإيمان وحدود الله. وقد كشف القرآن عن طبيعة مجالسهم التى يشيع فيها اللغو والطعن وتناول الآخرين بما يسوء "ويل لكل همزة لمزة * الذى جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة" . والمترفون يزدرون نعم الله عندهم، وتغريهم كثرتها بابتذالها وقلة شكر الله عليها، وإراقتها فيما لا جدوى منه، والضن بها على من يحتاجون إليها، ولعل ذلك هو السبب فى جعلهم خلاصة أهل النار " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * فى سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين" 031(1/30)
والمتأمل فى حياة المترفين يجد أن حرصهم على ماهم فيه يغريهم بطلب المال من كل وجه، حل أو حرم، ذاك لايهم. المهم هو كيف تستدام هذه المتع وتيسر أسبابها ولو على أنقاض المغصوبين والمحرومين. ثم هم يعبدون هذه الدنيا التى انغمسوا فى فتنها وذاقوا حلاوتها، ومن هنا فقلما ينهضون إلى نصرة حق أو الدفاع عن عقيدة، أو التضحية من أجل مبدأ كريم. ولقد خشى النبى صلى الله عليه وسلّم أن تنغمس أمته فى الترف، فتصرفها شهوات الدنيا عن رسالتها وتتهاوى بها فى موارد الردى. وكان يحس أن الأزمات التى تمر بالمسلمين طارئة، وأن الدين الحق سيهزم العوائق التى تعترضه، وأن أتباعه المطاردين اليوم سيكونون رءوس الناس غدًا فخطب يحذر المسلمين أن يفتتنوا بسعة الغنى وكثرة المال. عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- قال : إن النبى صلى الله عليه وسلّم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال : إنما أخاف عليكم من بعدى ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها!! فقال رجل : يارسول الله أو يأتى الخير بالشر؟! فسكت النبى! فقيل له " للرجل" ماشأنك؟ تكلم النبى ولا يكلمك؟! فرأينا أنه ينزل عليه الوحى فمسح عنه الرحضاء فقال : أين السائل؟- وكأنه حمده- فقال : إنه لا يأتى الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت. وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل- أو كما قال النبى صلى الله عليه وسلّم " إنه من يأخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة" . 032(1/31)
وهذا الحديث يرشد إلى أن التصرف الحسن فى المال هو مناط النفع به، فالمال خير لأنه يصون بدن الإنسان وكرامته، ويحفظ عرضه ومروءته. وهو عندما يكتسب من حق، وينفق فى وجوهه الصحيحة لايذم أبداً، بل إن كسبه- والحالة هذه- جهاد، وإن إنفاقه لعبادة.. إن الأرض تزين بالربيع، وتضحى معه وارفة الظلال دانية الثمر.. والعاقل ينال من هذا الربيع مايكفى حاجته ويحسن هضمه، أما إذا أقبل مسعورا على ما أمامه يجرى وراء كل رغبة ويتناول كل ما يتيسرأخذه، فقد يصبح كالدابة التى تستحلى الأكل، فما تزال تقضم وتبلع حتى يكتظ جوفها بما لا تطيق، وكم فى الناس من أشباه لهذه الدواب ! يجمعون ما لا يتقون الله فى تحصيله، ويركمون من ثرواتهم حولهم مثلما تنسج دود القز حول نفسها، فماتزال تكثر الخيوط حتى يكون نسيجها مقبرتها..! ولو أن شرور المترفين تلحقهم وحدهم لجاز تركهم وما يصنعون بأنفسهم، ولكن الأمم يلحقها بلاء عظيم من ظهور هذه الطبقات واستقرارها، ومن تكون أوضاع عامة تسلط هذه الطبقات على سائر الأمة مهما كان نصيبها تافها من التقوى والذكاء. إن الأمم يجب أن تسير وفق ضوابط الإيمان والخلق، وأن تولى وجهها شطر أهداف رفيعة، وألا تسمح لنوازع الهوى والجورأن تميل بها وراء كبراء سفهاء. ولهؤلاء الأكابر المجرمين منطق خاص فى الحكم على الأمور فربما أبغضوا أحكم الرسالات وأجدرها بالاتباع لا لشىء إلا لأن الفقراء سارعوا إلى اعتناقها، وما دام الفقراء قد اقتربوا من الحق فقد شاه وجه الحق وساء طريقه! وقد حكى القرآن الكريم هذا المنطق : "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " . فإذا فرض الحق نفسه على الحياة والواقع قالوا : لا بأس به على شرط أن يجيئنا مثله فلا يكن أحد أفضل من أحد ! إن نظرتهم إلى المبادئ وأصحابها من خلال زاوية واحدة هى مكانتهم وعصبيتهم. 033(1/32)
سئل أبو جهل : ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه!! وحدث أن أبا جهل صافح النبى- عليه الصلاة والسلام- فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال أبو جهل : والله إنى لأعلم إنه لنبي ولكن متي كنا لبني عبد مناف تبعًا؟! إنه كفر جحود واستكبار فلا غرو إذا قال الله فى جزائهم "سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون" . عيب هؤلاء أن تفكيرهم مادى حيوانى. الأكثر مالا والأشد قوة هو الأجدر بالحياة والصدارة، ويستحيل أن يقوم على ذلك مجتمع أو تنهض حضارة.
القرآن والطبقات المترفة :
لذلك يرى القرآن وجود الطبقات المترفة، خطرًا داهمًا لا يفتأ يتهدد الحياة الإنسانية، ويملأ مستقبلها بالغيوم والرُّجُوم. ويرى أن تأمين الشعوب على سعادتها وحقها، يتطلب اتخاذ الوسائل الممكنة، للحيلولة دون الترف والمترفين. وقد ذكر القرآن عدة أسباب لتسويغ هذه الخطة الحاسمة : أولا : يقرر القرآن أن المترفين أعداء كل إصلاح، وأنهم خصوم الحق المتألبون ضده فى كل زمان ومكان، تكاد لا تنبت دعوة للحق والشرف حتى ينأوا عنها مُتَّخذين نحوها صفة أحزاب "المعارضة "... المعارضة الخسيسة التى تريد أن تكبت حديث الخير والعدل بحديث الثروة والمال، وتهجر مطالب العقل. المتطلع إلى الهدى. إلى مطالب الجوف المتكالب على الشهوات. وتهبط بطموح الروح إلى الحرية والكمال. إلى حضيض المادة المتعلقة بالرفاهية الناعمة. والجمود البليد . 034(1/33)
ومن هنا وَجَّه إليهم القرآن اتهامًا عاما. وألحق بهم وصفا ثابتا فقال : "وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين". وهكذا ندّد القرآن بموقف هذه الفئة المتعالية اعتدادها المنكر، بما تملك من متاع، واستحمق تفكيرها الذى يربط مجد الدنيا وسعادة الآخرة بكثرة الأموال والأولاد، ثم استتلى يرد عليهم شارحا الطريق الصحيح للعظمة الإنسانية، وهو العمل الصالح والخلق الرضى لا البطر بما أتيح للمرء من أسباب القوة. "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون". وقد فضل القرآن فى كثير من سُوَرِهِ، موقف الطبقات المترفة، تجاه كل كتاب منزل وكل نبى مرسل، فكان التكذيب واحدًا للدين الواحد الذى بعث الله به أنبياءه من لدن نوح- عليه السلام- إلى خاتم النبيين محمد- صلوات الله عليه وسلامه-. مما يثير العجب تشابه الرد الذى انتظم على ألسنتهم جميعا حتى لتكاد تجزم بأنهم يشعرون بعاطفة واحدة، ويدافعون عن مصلحة واحدة. فى نوح ورسالته وأتباعه يقص القرآن هذا الرد : "فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأيى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين" وفى رسالة هود : "وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون" . 035(1/34)
وفى رسالة صالح : (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) وفى رسالة شعيب : (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا). وفى رسالة موسى وهارون إلى فرعون وملئه : (إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين). وقد رأيت فى رسالة محمد- صلوات الله عليه وسلامه- كيف ضاق المشركون ذرعا بالقرآن، لأنه لم ينزل على رجل من القريتين عظيم !! وكيف استهانوا بمن آمن به حتى قالوا : (لو كان خيرا ما سبقونا إليه). وكيف أخرجوهم من قريتهم، وحاربوهم فى مهاجرهم : (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) . ورسالات الإيمان والإصلاح، التى حمل لواءها الأنبياء، تهدف إلى المساواة بين الناس، أمام إله واحد، يدين له الجميع بالطاعة، ويصدع الجميع بما يأمر به وينهى عنه ثم يساهم الجميع- على سواء- فى إقامة صروح العدالة والفضيلة والدفاع عنها. ولكن الذين ورثوا الجاه والتسلط والعدوان أو حصلوا على ذلك بالوسائل الملتوية التى ما يعرف الطغاة غيرها! لكن هؤلاء الذين ظنوا أنفسهم من دم آخر، ومردوا على 036(1/35)
الترف والغرور والانتفاخ. رفضوا أن يتقدموا خطوة فى هذه السبيل؛ حتى ذكر القرآن فى معرض الأسف والغضب هذه الحال المنكرة : (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). ولم يستثن القرآن من الرسالات التى لاقت هذا العنت، إلا رسالة يونس ولعل قريته خلت من هؤلاء المترفين المعوقين إلى حين . (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين). ثانيا : يقرر القرآن أن الطبقات المترفة، مصدر فساد عريض، ومثار فتن متجددة، وأنها- بجوار غيرها من طبقات الأمة- تشبه المستنقع الراكد، لا تزال تهيج منه جراثيم المرض، وتنبعث منه روائح الحمى.. فإما تدارك المصلحون الأمر فردموا المستنقع واستراحوا منه، وإما بقى على حاله فاسدا مفسدا حتى يعم الوباء، ويستشرى الخطر وتصاب الأمة بالفناء العاجل، يلحق كيانها، ويحطم أركانها. إن أساس التأخر وسبب الدمار الذى يصيب الأوطان والشعوب؟ هو من هذه الطبقات. (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا). ومرجع ذلك إلى أن حياة الترف، تحول دائما عن مشاغل العمل وأسباب الكفاح، ولا يتسع الميدان فيها إلا للبطالة واللهو. 037(1/36)
وطبيعة الشهوات الإنسانية أنها إذا لم تجد حدودًا تقف عندها، طغت بأصحابها، وسخرت قواهم للأغراض الدنيئة. فإذا كان الحكم يكاد لا يتجاوز حدود هذه البيئات، فماذا تكون حال الأمة التى تنكب به؟!. إن عدوى الفساد الخلقى والاجتماعى والسياسى، تهبط من أعلى إلى أسفل وتكون دائرة محكمة من التقاليد الباغية، والمظاهر الفارغة. فإذا استطاع فرد أو أفراد طبقة أخرى- بجهدهم وسعيهم- أن يكتسبوا من المال والجاه ما يخرجهم عن حدود الطبقات التى خرجوا منها، وينظمهم فى عداد المترفين السعداء، فإن مسلكهم العملى ينسجم أتمَّ الانجسام مع مقتضيات حياة الترف الجديدة وتقاليد المترفين، ذلك أنهم يتنكرون- على مر الأيام- لنشأتهم الأولى، فلا ينتظر منهم إلا أسوأ ما ينتظر دعوة من شركائهم المترفعين. ولهذه الشهوات الحمراء وَقُودها الذى تشتعل به، ولن يكون هذا الوقود إلا حطام الطبقات البائسة، بعد أن يراق دمها، ويستنزف جهدها، ويجف عودها، ثم يرمى بها فى أتون المطامع والمظالم، لكى ينعم مَنْ ينعم، ويستريح مَنْ يستريح. ومن ثمَّ فليس أبغض لدى كثير من الفاسقين الذين أهلكهم الترف من كل دعوة توقظ الغافلين، وتقيم القاعدين، وتوجه أصحاب الحق إلى حقهم. وليس أحب إلى قلوبهم من أن تبقى الشعوب جاهلة، لأن العلم ينير لها طريق النجاة. وليس أحب إلى قلوبهم من أن تبقى الأمة مريضة، لأن القوة تخلق روح النقد والتغيير، والصحة توحى بالأمل وتغرى بالنشاط. وليس أحب إلى قلوبهم من أن تبقى الأمة فقيرة، لأن ثمرة عملها- إن كان لها ثمرة عمل- لا يبقى منه فضل يتسع للبذخ والسرف، أو يسمح بالاطمئنان إلى الترف. وقد صدق من قال : " ما رأيت إسرافًا إلا وإلى جانبه حق مُضَيَّع ". وعندما تكون الشعوب بهذه المثابة، تسقط من أول ضربة يتناولها بها الاستعمار الخارجى ، وتلك هى علة العلل فيما أصاب الشرق أخيراً من انهيار وانحطاط. 0 ص(1/37)
(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) وقد أدرك المستعمرون هذه الحقيقة، فمَهدُوا لبقائهم فى البلاد التى احتلوها بإنماء نظام الطبقات، وضمنوا للمترفين ما تصبو إليه شهواتهم، من حياة رغدة وتركوا كتل الشعب الكبرى يموج بعضها فى بعض، تطلب الضرورات الأولى للجسم والنفس والعقل، فلا تجد من ذلك إلا جرعات، تسكن ثورانها أن ينفجر، أو تبقى للعبيد الرمق الذى يحيون به لخدمة السادة... فحسب!. ثالثا : ويقرر القرآن أن المترفين أعداء الشعوب، وأن على الشعوب التى تريد الحياة الكريمة فى الدنيا، والحياة السعيدة فى الآخرة، أَلاَّ تُوالِى هؤلاء الطغاة، وأن تأبى الدخول فى طاعتهم، والإذعان لأوامرهم، وإلاَّ كان مصيرهم مصير القائلين : (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا). ذلك أن عقلية هؤلاء المترفين، تقوم على زعم كاذب، بأن ميراث الأرض، وخيرات الدنيا، وتصريف الأمور كل أولئك ليس إلا احتكارا لهم ووقفا عليهم- اختصوا به لأمر يجهله الناس- وأنه ليس على الناس إلا أن يسمعوا ويطيعوا، وأن يقدموا لهم أنفسهم وأموالهم وحرياتهم وحقوقهم طائعين. فإذا حدثت أحدًا نفسه بغير ذلك، فهو حقيق أن ينفى من الأرض التى عصى أمر سادتها. (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد). 039(1/38)
بل إن هؤلاء القوم ليحسبون أن دعوات الإصلاح والعدالة، ليست إلا ستارًا، يختفى وراءه الطمع فى انتزاع ما يستمتعون به من سلطان. فكل صيحة تنادى بالإصلاح الاقتصادى، والعدالة الاجتماعية، وتتيح لأبناء الأمة أقساطاً متساوية من الحياة الصحيحة، وتجعل الناس لايذلون إلا لبارئهم وحده، تعتبر فى عرف هؤلاء الطغاة وفهمهم، صيحة لمنازعتهم السلطة، ومشاركتهم الدولة، ومقاسمتهم الثروة، يتذبذب فى صدورهم- بعد سماعها- منطق المستكبرين من آل فرعون عندما قال لموسى : (أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين). مثل هذه العقلية الجامدة على موروثاتها، المستهينة بحق غيرها فى الحياة الصحيحة، لا يجوز أن تلقى من الشعوب إلا النبذ والاحتقار. فإذا سول الشيطان لبعض الأذلاء المتملقين، أن يعيشوا لهؤلاء أتباعًا يأكلون على موائدهم، ويدفعون عن مبادئهم. فهم مع من ارتبطوا بهم فى الدنيا والآخرة لكل خزى يتبعه خزى، وعذاب يلحقه عذاب : (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) . هذه أسباب- أجملناها- لِرَأى القرآن فى الطبقات المترفة!. ونحن حين نرسل نظرات خاطفة إلى تاريخنا الطويل، نجزم بأن قوى الشر قد انتصرت فى كثير من الأعصار والأمصار. ونرى أن الطبقات المترفة (حتى لو اتسمت بالثورية والتقدمية) لم تلبث أن استعادت سلطانها، الذى أفقدها الإسلام إياه، يوم أن كان الوحى غضًا فتيًا، ويوم أن كان الحق عزيزًا بجنده وأنصاره.. 040(1/39)
فلما انتقلت مقاليد الأمور إلى عبيد الشهوات، وجلادى الشعوب من المترفين الثوريين وغيرهم، وقف سير الحضارة العادلة الرشيدة، بل تراجعت تراجعا آليا فى نواحٍ كثيرة. ولو اسْتَقْرَأنا أحوال أمتنا فى كثير من الأحقاب، لراعنا الصّراع الصّامت العنيف بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل. وبين الشورى والاستبداد ولرَاعَنا أن حساب الأرباح فى بعض العصور ضئيل، وأن حساب الخسائر سَيْلٌ لا آخر له ولرأينا أدلة واقعيّة تتزاحم أمامنا. شاهد عدل على أن الأمم التى تسلم زمامها للمترفين من أبنائها إنما تسلم عنقها لجزار أثيم. قصاراه- إزاء الشعب- أن يذكر الله وهو يذبح الناس. وعلى ضوء هذا الدرس المؤسف : يجب أن نفكر طويلا.. إذا أردنا الحياة الواعية الرشيدة، ويجب أن نعزم على اتخاذ كل الوسائل التى تقيم الموازين القسط بين طبقات الأمة، وأن نغلق الباب إلى الأبد، فى وجوه المتعطلين والمنتهزين. ذكر إن نفعت الذكرى تأتى على الأمم فترات تنسى فيها مُثلها العليا، وتعنى بخسائس الحياة، وتوافهها، ويتجه نشاطها العقلى والاجتماعى إلى اللغو واللهو. هذه الفترات كساعات الإغماء للإنسان الحى، أو كساعات الذهول للعقل المفكر!! إذا طالت كانت لها عواقبها الخطيرة، بل إن أخطر ما يعترى الأمم من انتكاسات وهزائم، إنما يبدأ فى هذه الفترات الطائشة. وقد أتى على الأمة الإسلامية عصر بل أعصار ، كان ساستها وقادتها لا شغل لهم إلا البحث عن اللذائذ ، والجرى خلف الشهوات، وإشباع النزوات الدنيئة، بفنون من العبث والمجون!. وولدت جراثيم الانحلال فى جسم الأمة يومئذ، ثم مشت فى دمها. ولم تزل بها حتى أوردتها سوء المصير. وكان الشعراء المرتزقون كالصحفيين المأجورين فى هذا العصر، يتملقون الطبقات المترفة. ويصفون حفلاتها الماجنة وصفا مغريا، ويسكتون سكوت المقابر عن وصف حالة الشعب، وتصوير بأسائه وضرائه، لأن الثمن كان يغدق عليهم إغداقا من دوائر المال الكبرى، ومن(1/40)
المصاريف السرية، ومن طوائف الكبراء المنتفخين!. 041
وبلغ فجور بعض الشعراء فى العصر الأندلسى. أنه ألف شعرا أنطق به الحمائم فى أغصانها وجعل أنغامه مشابهة لهديلها! فقال : إن الحمام بأيكها تشدو هل قد عُلم أو قد عُهد أو كان؟ كالمعتصم والمعتضد ملكان؟ وهكذا أنطقوا الحمام- وهو رسل السلام- بمدح أقوام كانوا حربا على مستقبلها. وعلة أصيلة فى الهزائم المتلاحقة الشنيعة.. التى سحقت دولة الأندلس. ومحت معالمها محوا لا نظير له فى التاريخ!. والمعتصم والمعتضد اللذان ورد ذكرهما فى هذا المدح الفريد. قد تناولهما شاعر آخر من حكماء الشعر البصراء بأقدار الرجال. وسياسات الدول. فذكرهما فى معرض السخرية والازدراء. وقال : مما يُزهدنى فى أرض أندلس ألقاب مُعتصم فيها ومُعتضدِ! ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد وما أحوجنا- والعظة حافلة فى ماضينا الحافل- أن نحشد الأقلام والألسنة لتعلن على المترفين حربا لا تنتهى حتى ينتهوا. فلن تقوم فى الشرق دولة عادلة، وفيها مترفون فاسقون غافلون! ولن تبقى آمنة من النكسات المحذورة ما بقى لهؤلاء المترفين أذناب مروجون. وصحفيون مأجورون. وشعراء مرتزقون. إن حرية التملك التى أباحها الإسلام تكتنفها قيود كثيرة، وهى قيود قوامها الأول ألا يصطاد المال من وجوه الريبة فضلا عن أبواب السحت.. وأغلب دعائم الترف التى رأيناها- إن لم تكن كلها- تقوم على هذه المصادر. ولو أن الحلال المحض أثل لأصحابه مجدا جعلهم يعيشون مترفين لكان من حق الأم أن تحرس كيانها بمنع هذه الحال.. فإن الطوائف المترفة خطر مرهوب العقبى على مستقبل الشعوب. 042(1/41)
هل للرذائل أسباب اقتصادية؟
العقائد الدافعة إلى العمل الصالح والخلق الفاضل، هى لُباب الدِّين، ومحور تعاليمه. وغاية ما يصبو إليه الدين، أن يجد الجو الملائم لغرس عقائده وظهور آثارها من خلق وعمل.. فإذا ضمنا هذا الجو الرَّحْب، فقد أمكن الدين أن يحقق رسالته. وإلا فالدين لا يعدُو أن يكون بضاعة ئباع للناس فى بطون الكتب، أو كلامًا تنقله طائفة من الرجال فى حلقات الوعظ، وخطب المنابر لا يثمر غير التوجيه النظرى. ويكون الدين حينئذ موجودًا على هامش الحياة فقط. وقد رأيت بعد تجارب عدة، أننى لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجوَّ الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة!!. إنه من العسير جدًا أن تملأ قلب إنسان بالهدى، إذا كانت معدَتُه خالية أو أن تكسوه بلباس التقوى، إذا كان بدنه عاريًا. إنه يجب أن يّؤَّمَن على ضروراته التى تقيم أؤده كإنسان، ثم يُنتظر بعدئذ، أن تستمسك فى نفسه مبادئ الإيمان. كثيرًا ما وَجَدتُنى أعالج وعْظ الناس فى بيئات صرعَها الفقر والمرض والجهل. فكنت أحار.. ماذا أقول لهم؟!!. هل أُقبِّح لهم الدنيا، كما يظن أنه مفروض على علماء الدين؟!. إن الدنيا لن تكون أقبح مما عليه فى أعين هؤلاء التعَسَاء. وحاجتهم إلى من يعرِّفهم أركان الحياة، أمسُّ من حاجتهم إلى من يعرَّفهم أركان الإسلام.. وجمهورهم لا يدرى الأساليب الصحيحة للزراعة والصناعة والتجارة.. فضلا عن أن يعرف كيف يعامل ربه وإخوانه و... حكامه!. أعرفهم بالله عز وجل؟.. إن معرفة الله لا سبيل إليها بعد معرفة النفس، فإن من عرف نفسه عرف ربه. 043(1/42)
وهؤلاء التعساء مذهولون عن أنفسهم ، تائهون عن حاضرهم : إن الشعور بالهوان والحرمان، قد شل تفكيرهم، فأنى يعرفون ربهم؟! أو يشعرون بما قد قدموا له. إنهم أعجز من أن يقدموا الحساب عن يومهم، فهيهات أن يأخذوا الأهبة الحقة للدار الآخرة؟. أنا لا أنكر أن وراء حناياهم الضامرة، قلوبا فيها إيمان ما، وتدين ما، لكن قيمة هذا كله تافهة، لا تجدى على أصحابها كثيرا، فى الدنيا أو الآخرة. والدين الحق لا يؤدى رسالته فى هذا الجو الخانق، ولا تثمر عقائده فى هذه البيئات العقيمة. فلابد من التمهيد الاقتصادى الواسع، والإصلاح العمرانى الشامل، إذا كنا مخلصين حقا، فى محاربة الرذائل والمعاصى والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقا فى هداية الناس لرب العالمين. أما أن نترك الظروف التى تلد الجريمة حتما، تنمو وتتكاثر، ثم نكتفى فى خدمة الدين بالنصائح المجردة، والعواطف المفتعلة، فهذا فى الحقيقة هو العبث المبين. ولست- هنا- أنكر قيمة الوازع الأدبى ، أو أحاول بخس الضمير الإنسانى حقه، فقد توجد أحوال شديدة تقف الإنسان على شفا جرف هار وتطلق فيه غرائزه الدنيا، ويتضافر الحرمان والإغراء معا على سوق المرء إلى الجريمة سوقا عنيفا، ومع ذلك يتراجع عنها، ويستنكف مقارفتها. وتنتصر مواهبه العليا آخر النزاع. غير أن هذه الأحوال لا يجوز انتظارها من كافة البشر، بل لا يجوز انتظارها أبداً على تطاول الأزمنة واختلاف الأحوال من إنسان يضىء الإيمان قلبه، مهما بلغ فضله. وربا علمه. وخير لنا أن نتعرف الأمور من وقائع الدنيا، وأن نقرر أن النسبة الكبرى من الرذائل تعود إلى واحد من الثالوث المتوطن فى أرجاء أمتنا من زمن بعيد، ثالوث الفقر والجهل والمرض، أو إلى اثنين من هذا الثالوث البغيض، أو إلى أفراده جميعا. وأن زوال هذه الآفات الإنسانية، يخفض نسبة الجرائم فى بلادنا 90%. ونحن نعرف أن فى مصر آلافا من العلماء الذين ينتمون إلى الدين وينبثون فى معاهده ومساجده،(1/43)
وينطلقون فى المدائن والقرى يبشرون ويخطبون . 044
فهل وصلنا ـ بعد هذا المجهود المادى والأدبى الواسع ـ إلى درجة من الرقى، والسلامة الاجتماعية، كالتى وصلت إليها بعض الدويلات الأوروبية مثل سويسرا مثلا؟ كلا..!. فشتان بين عدد الجرائم عندنا وعددها عندهم..! وما أضخم القضايا التى تنظرها المحاكم عندنا، من جنايات، وجنح، ومخالفات!. والعلة الأصلية فى هذا أن اختلال التوازن المادى والأدبى، مكن لشياطين الإجرام أن تعمل وتنجح. فكيف لا يتدخل الدين فى تغيير هذه الحال، إن أراد لنفسه البقاء، ولرسالته التحقيق؟! بل كيف يستغل الدين لإبقاء هذه الحال المنكرة؟!! وهل معنى ذلك إلا أنه ينكر نفسه ويخفض رأسه ويحفر رمسه؟؟!! ولنضرب مثلا ببعض الجرائم الشائعة لنرى مصداق ما قلنا.
السرقة :
جريمة خلقية واجتماعية كبيرة، رتب عليها الدين عقوبة دنيوية، تتراوح بين قطع اليد، وقطع العنق، عندما تكون السرقة فى الخفاء، أو عندما يكون صاحبها مدمن اختلاس أو عندما تكون السرقة غصبا بالإكراه كما يعبر القانون الحديث. وعقاب كهذا ليست به شائبة قسوة مادام القصد من تنفيذه تأمين الحقوق، وصيانة الجهود، وتوجيه الناس إلى العيش من كسبهم الحلال، لا السطو على كسب غيرهم، والعيش به من حرام. ولكن هذه الأغراض كلها تذوب فى مجتمعنا الذى يزخر بأسباب التملك الباطل، ووسائل الاستغلال المريب.. فإذا قامت حول الجريمة شبهات، تجعل العقاب لا يحقق هذه المصالح وجب وقفه. وامتنعت إقامته. ومن هنا أمر النبى- صلوات الله عليه وسلامه- أن ندرأ الحدود بالشبهات. وأمر عمر رضى الله عنه أن يعطل حد السرقة فى عام المجاعة! ورأى أئمة الفقه أن دعوى الملك فى المسروق، تمنع من الحد ـ مادامت شبهة الملك معتبرة!. 045(1/44)
وقصد الشارع من وراء هذا الاحتياط ألا تقطع إلا اليد الظالمة الآثمة. يد اللص المعتدى على حق غيره يسرقه، غير قانع بما عنده، وهو يكفيه ويغنيه. والمجرمون الذين يُعدُّون من هذا النوع قلائل.. بل إنهم يعدون على الأصابع من بين الالآف، التى تقدم إلى المحاكم.. روى مالك بن أنس فى الموطأ أن رقيقًا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مُزَيْنَة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كُثَيَّر بن الصلت بقطع أيديهم...!! ثم قال عمر : أراك تجيعهم؟! والله لأغرمنك غُرْمًا يشق عليك. ثم قال للمزنى : كم ثمن ناقتك؟ فقال : قد كنت- والله- أمنعها من أربعمائة درهم!. فقال عمر لحاطب : أعطه ثمانمائة درهم..!! قال ابن وهب : إن عمر- بعد أن أمر كُثَيِّر بن الصلت بقطع أيدى الذين سرقوا- أرسل وراءه من يأتيه بهم (ليرفع الحدَّ عنهم). فلما جىء بهم قال لعبد الرحمن بن حاطب : لولا أنى أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم. ولكن والله إذ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك،.. من هذا الأثر ترى أن عمر فهم تشريع القطع على حقيقته. فهم أنه عقوبة رادعة لمن يرتكب هذه الجريمة من غير حاجة تلجئه إلى مال الغير. وحين تبين له أن هؤلاء الغلمان اضطروا إلى السرقة- لما نالهم من جوع وحرمان- أبعد الحد عنهم. وإذا أسقط الحد عن هؤلاء المرهقين ضاعف العقوبة على رب المال الذى أساء الامتلاك، وكان بأثرته- علة هذا الاضطراب فى المجتمع...!! والاضطراب الاجتماعى الخطير فى هذا الوادى، هو الذى يصم باللصوصية أقوامًا، كان من الممكن ألا يوصموا بها قط، ويُبَرِّئ من اللصوصية أقوامًا، كان ينبغى ألا تنفك عنهم أبدًا. وما أكثر بلاد الإسلام التى يغلب عليها هذا الاضطراب والتناقض. 046(1/45)
ولعل أيسر الأمور إقامة مجتمع تقل فيه جرائم السرقة أو تختفى، لا بالإرهاب والقطع والقتل، ولكن بمنع الأسباب غير النفسية، أى بمنع الأسباب المادية، التى تُلجِئ إلى السرقة فى أغلب الأحيان. عندما تفتح أبواب العمل، وتضبط مصادر الكسب، وتحدد أسباب الملكية وقيمتها. وعندما يعرف نور الحياة ونورالعلم طريقه إلى المشردين من أبناء الأمة. وعندما يحول تعطل الطبقات المترفة إلى عمل، ونستثمر أموالها فى المشروعات التى يفيدون بها ويفيدون منها... عندئذ تقل جرائم السرقة حقًا! ويومئذ يستحق السارقون أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
الزنا :
جريمة خلقية واجتماعية بالغة الفحش، ولعل الاختلال الاقتصادى- بما يخلقه من بؤس وترف- أهم الأسباب المؤدية إلى انتشار هذه الجريمة، حتى نظم القانون العام وقوعها أوقات ارتكابها، ومع من ترتكب. واعتبرت أسواق البغاء العلنى وحفلات الليالى الساهرة، من الأمور المعتادة للطبقات الصغيرة وللطبقات الكبيرة، غير آبهين للصياح المختنق، الذى يرسله رجال الدين، بين الحين والحين. ومواجهة هذه المشكلة لا تكون بالاستنكار السلبى، فما أسهل هذا الاستنكار على متعودى الخطب الوعظية، وما أحقر أثره فى تغيير الواقع الأثيم. إن الشهوة الجنسية لابد أن تتحرك، فإذا لم تتح لها الحركة الطيبة، لم يبق أمامها غير الحركة الخبيثة. والعصمة المؤقتة أو الدائمة عند بعض الرجال الفضلاء، أو الرجال الهادئين لا يصح الالتفات إليها عند وضع تشريع عام يراد به حفظ عفاف الأمة، وصيانة قوى الشباب المادية والأدبية والعقلية. 047(1/46)
فإذا أردنا- باسم الدين- قمع الحركات الخبيثة الجنسية، فيجب أن نيسر وأن ننظم أسباب الاتصال الجنسى الحلال، وأن نفرغ من العمل على وضع الحلول الصحيحة لهذه المشكلة المعقدة، ولن يكون إلا بإعادة النظر فى فهم حقيقة الزواج، والأساليب العسيرة، التى يتم بها الآن. إن إتاحة الزواج للراغبين مسألة لا تقل عن ضمان الأقوات للشعوب، وعندى أن وزارة التموين لا تمثل إلا نصف المشكلة المادية وأن شئون الزواج والأسرة تحتاج إلى وزارة أخرى. والطبقات الفقيرة والمتوسطة، تواجه مع الزواج ثلاث مشكلات، فالمهر عقبة، وقد يسهل اجتيازها، فتبقى مشكلة الدخل الذى يصون البيت الجديد والأسرة الناشئة، ثم تبقى مشكلة الدخل الواسع، الذى يكفل حياة أولاد تجب تغذيتهم وتربيتهم على خير وجه.. هذه كلها عوائق اقتصادية، لا يقوى الدين بالكلام على حلها. وإنما يفرغ الدين منها عندما يبنى المجتمع، الذى لا يبقى فيه فقير ولا حقير، والذى يقدم للفرد الضمانات المعقولة، لكفالة أسرته، ورعاية مستقبلها والذى يسخر فيه إنتاج الأمة، لإسعاد الأمة كلها؛ لا لترف بضعة أفراد منها. فإذا تم ذلك، تم القضاء على نسبة ضخمة من جرائم الزنا، وإذا صودرت أسباب الترف لدى المترفين، تم القضاء كذلك على جزء آخر من مظاهر الفسق والخلاعة والتحلل. فمن أبى إلا ارتكاب الفاحشة بعد أن مهَّدْنَا له طريق الفضيلة، وَجَبَ جَلْدُهُ أو رَجْمُهُ. بل وجب قتله رميًا بالرصاص!. التعطل :
هو جريمة خلقية واجتماعية، تصاب الأمم من جرائها بشرِّ مستطير. وقد نهى الدين عنه، ووصى بأن يعمل المرء أى عمل يقيم أوده، ويحفظ حياته وكرامته. والتعطل نوعان : تعطل المترفين، أصحاب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وقد أشرنا إلى الأضرار الناجمة من ترك هؤلاء بلا عمل يشتغلون به، والنكبات التى تصيب الشعوب والأمم من وراء تبطلهم!.. 048(1/47)
ولما كان لابد من سد ذرائع للفساد، وجب الحجر على هؤلاء السفهاء وضغط حرياتهم الشخصية، حتى يتحولوا أفرادا منتجين، وحتى تكون ثرواتهم المدخرة، مصادر خير لهم ولغيرهم. وهناك تعطل آخر منتشر بين الطبقات الفقيرة، وينتظم الألوف المؤلفة من أبنائها، وتأوى إليه جرائم التسول والتشرد، والفساد والعدوان. وحاجة هؤلاء إلى العمل الشريف لا ريب فيها، وفائدة الدولة من استغلال هذه القوى المضيعة لا ريب فيها كذلك. وإنى لأظن تأخر الشرق الإسلامى يعود إلى التعطل الفاشى فى مختلف أقطاره، وإلى القوى المهدرة التى حبسها الشلل فى جلود أصحابها فهم أحياء أموات.!! المفروض أن الإنسان عنصر من عناصر الإنتاج، وأن ثمرة وجوده تبدو فى إثارة الأرض التى يعيش فوقها. لكننا نرى الألوف المؤلفة مخلدين إلى الكسل لأنه لا عمل لهم، ولا احتراف.. وقد يكون بعضهم محزونا حائزا لأنه يبحث عن مورد رزق فلا يجد... وقد يكون بعضهم قد تبلد لطول ما كف البطالة. وليس أعجز من مجتمع تراق فيه الثروة البشرية على هذا النحو الشائن، خصوصا إذا كانت أرضه حافلة بالدفائن النفيسة التى يجب استخراجها مهما تكلفت من جهد، وتطلبت من عون أو كانت الرقعة المزروعة يمكن زيادتها واستنبات الطيبات منها. ومن الحماقة التهوين من مصيبة البطالة، أو من آثارها المادية والمعنوية. إن العمل الكثير المنظم يدارى فتوقا كثيرة، وإنى لأعتقد أن عورات النظام الشيوعى ما يسترها إلا العمل الدءوب الموصول الذى جندت له الجماهير وسيق له الرجال والنساء والشيوخ والولدان. أما لدينا.. فجزء ضخم من الأمة لا يعمل!!، وجزء أضخم من صاحبه يعمل أقل مما يجب عليه ومما تطيقه قواه! وتلك حال لا يقبلها الإسلام بل ويستحيل أن تنهض معها أمته!. والحكومات فى هذا العصر هى المسئولة عن تمهيد ميادين العمل، وعن تقريب مناله لكل طالب، بل عن تحميل أعبائه لكل كاهل.. 049(1/48)
فليس التعطل مشكلة فردية، بل هو أزمة اجتماعية. ومن المستحيل قطع دابر هذا التعطل بالنصائح والتذكير، مهما ارتفعت فيها حرارة الإخلاص، ومهما سيق فيها من آيات الله والحكمة!! لأن الضوائق الاقتصادية الناشئة عن طغيان الاستعمار الداخلى فحكمة الحلقات، بل هى تخلق التعطل خلقا، وستظل السبل ملأى بالمتعطلين والمتسولين الأصحاء منهم، أو أصحاب العاهات، إلى أن تفض هذه الحلقات المضروبة، وإلى أن يصبح العمل ضريبة يلزم بها كل فرد، فإما دفعها واستحق الحياة، وإما دفع دونها دمه وأخلى الطريق للعاملين.. وقد سُنت أخيرا قوانين للعمل قاربت مثيلاتها فى أوروبا، وحددت أجور العمال فى مصالح الحكومة وأنواع الشركات. ولكن العمال الزراعيين يشتغلون شهرين من العام بأتفه الأجور، ثم يتعطلون سائر العام وهم يأكلون لقمتهم مغموسة بالسم ـ كما يقولون. وكثيرون من أبناء الأمة موارد رزقهم مبهمة، ونهاية حياتهم مظلمة. ولو وجد هؤلاء أبواب العمل لاقتحموها، ولكان إنتاجهم فيها مضرب الأمثال...!
أمثلة وقاعدة :
هذه صورة سريعة لبعض الرذائل الخلقية والاجتماعية، التى يضطرب فيها مجتمعنا، والتى تمخضت عنها الأوضاع الاقتصادية المعوجة عندنا. ولو ذهبنا نستقصى أسباب الكثير من المعاصى الدينية، لوجدنا الضمير الإنسانى يُعانى محنا قاسية، ولوجدنا الفطرة الإنسانية لا تلبث ـ وهى فى سذاجة الطفولة ـ أن يدركها من الشقاء ما يطمسها. فإذا تخطت إلى دور الرجولة، خلقا آخر لا تنتفع به الدنيا ولا ينتفع به دين، خلفا يقارف الرذائل والمحاقر من الأمور، ويعيش لها عيشته المشوهة الناقصة حتى يوارى فى بطن الثرى، فلا تسمع له ركزا !. أحلال هذا أم حرام؟ إ! 050(1/49)
إن رجلين عاقلين لا يختلفان فى حرمة هذه الحالة وقد وضع أئمة الفقه الإسلامى قاعدة ثابتة هى أن : "كل ما أدَّى إلى الحرام فهو حرام" فلابد إذا من إعادة التوازن الاقتصادى، على أساس لا تبقى معه هذه الموبقات، ولا تتوطن فيه هذه المفاسد الشائنة. فإذا لم نفعل هذا،.. فأخوف ما أخافه أن يُنْكَبَ دينُ الله ودنيا الناس جميعًا نَكبةً ساحقة، إذ تُتَّهم الدنيا بالظلم والطغيان، ويُتَّهمُ الدين بالسكوت على الظلم والجمود أمام الظالمين. وينبغى أن لا ننسى- إذ نقرر هذه الحقيقة- صيحات رجال الثورة الفرنسية : " اشنقوا آخر ملك بأمعاء أخر قسيس "!. !نقد اعتبروا الدين متآمرًا مع الأرستقراطية، على قتل الشعب وإهدار حقوق الإنسان. ويقول القرآن الكريم- محذزا من عواقب هذا الاختلاط الاقتصادى :- "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) وأنت تسأل إذ نقرأ ذلك : ما السر فى أن يُناقش الظالمون الحساب فى مساكنهم، التى قضوا فيها حياتهم الآثمة! ثم لا تلبث أن تدرك الحكمة البالغة فى أن تكون ساحة المحكمة هى الديار التى شهدت المجرم باغيًا. وهل أدلُّ على إشعار الجانى بما اقترف، من أن يكون استجوابه أمام جسم الجريمة ومادتها؟ وإذا فَلْيكن حساب المترفين، أن تعرض أمام أعينهم. مظاهر من دنياهم المسرورة، وإلى جانبها مظاهر من دنيا البائسين المقهورة. ثم يؤخذ من المقارنة بين الحالتين. نصُّ الاتِّهام، ودليل الإجرام. وسوف يذوق الجانى عقابه آجلا، إن أُفْلِت منه عاجلا . والظلم- أبدًا- مرتعهُ وخيم . 051(1/50)
مساواة واهمة :
قد يقال : أين هى آثار نظام الطبقات، وما هذا الكلام عن الأوضاع الاقتصادية المختلة، مع أن الناس جميعًا يأخذون أنصبتهم من الحريات العامة بأقساط متساوية، وهم- مهما تفاوتوا- سواءٌ أمام القانون، كما نص على ذلك الدستور؟؟. وهذا كلام قد تبدو عليه مِسْحَةُ الصحة، ولكنه فى باطن الأمر عليل..! فليس القانون الموضوع- ليتحاكم الناس إليه- هو كل شئ، حتى يذكر هذا الاعتراض. لقد طفت أكثر البلاد العربية فلم أجد فى أحدها التفاوت بين الناس الذى وجدته فى مصر..! رأيت الإنسان العادى ينادى الوزير فمن دونه قائلا بصوت جهير : أبا فلان!! فيلتفت الموظف المنادى مهما كان منصبه ملبيا النداء دون تأفف ولا ضجر.. ورأيت الخادم فى بيوت الأغنياء مرعى الكرامة، ويغلب- إن لم يتحتم- أن يأكل من طعام رب البيت.. وحرمته المادية والمعنوية مصونة لا يفكر أحد فى إهانتها أو تجاهلها. ورأيت الضابط والجندى زميل عمل، ورفيق سلاح، تجمع بينهما عشرة حسنة، يوقر الصغير الكبير، ويرحم الكبير الصغير، ولا تجرى على ألسنتهما بذاءة، أو يسكن قلوبهما كره.. رأيت البشر هنالك يحيون على تفاوت الأرزاق حياة لا انكسار فيها ولا إذلال. فقلت لصديق لى : فما بالنا نحن نصنع مجتمعا حافلا بالنقائض والمنغصات؟!. فقال : لعلها آثار الحكم التركى فى بلادنا!! بقيت بعدما زال وانقضى عهده. فقلت : أعلم أن للأتراك فى هذا السفه ماضيًا معنتا، ولكن الأتراك حكموا البلاد العربية كلها، فلم بقيت هذه الرواسب لدينا وحدنا؟!. وفكرت فى الأمر فوجدت، أن بقايا الفرعونية الأولى، إلى جانب الغشم التركى، إلى جانب الفقر الرهيب والغنى الرحب، إلى جانب ضياع معنى الإيمان الحى.. إلى أمور أخرى كثيرة صنعت فى مصر ما نرى. 052(1/51)
فهناك تقاليد مقررة، ومبادئ قائمة، هى أعمق أثرا، وأشد نفاذًا فى بيئاتنا كلها، أقامت من الفوارق بين أبناء الأمة الواحدة، ما يتعذر معه أى إصلاح.!! ولقد أقمت سنوات فى المدن، وسنوات فى الريف، فرأيت أمراض هذا الداء متفشية فى كل مكان، وتأكدت من أن كرامة الفرد محدودة الثمن، يشتريها ويدوسها- إذا شاء- موظف صغير.. وأن طبقات الأمة لا تستمتع بالمساواة الحقة الكاملة فى العلم وفى الحكم. بل ولا فى الطعام واللباس والتمريض والتوجيه العام. والتفكير المستكبر الجهول، الذى شرَّد "جَبلةَ بن الأيهم"، لا يزال يملأ رؤوس الكثيرين من سادتنا الذين لم يشردوا بعد.! وهذا التفاوت العجيب يظهر حتى فى الثياب التى نرتديها! تلك الثياب التى جعلت من الأمة المصرية الواحدة "كرنفالا" لا تؤذن مهازله بانتهاء، فكأن الأزقة والميادين تأخذ أمداد المارة من عدة شعوب، أو كأنها تَعجُّ بخليط ضَلَّ منبته الأصيل، فليس يُدْرَى أعربىّ هو أم أعجمىّ.؟! ومع ذلك نزعم فى أنفسنا وَحْدَة الفكر والشعور والاتجاه! فأين ذلك من وصية النبى محمد- صلوات الله عليه وسلامه- لصاحبه أبى ذَر بشأن خادمه " أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس". ومن آثار هذا الاختلال، أن تَلوَّثتْ حقيقة الخير فى النفوس، حتى هبطت إلى مستوى لم تهبط إليه من قبل..! وأين- برب الناس- معنى الخير فى حفلات لاهية صاخبة، يرصد دَخْلُها لإعانة المنكوبين؟!. وكيف يأبى المترفون إلا الحرص على مُتعهم الحقيرة، حتى فى الساعات التى يصطرخ فيها الأشقياء، فيأبى هؤلاء أن يرسلوا إغاثتهم إلا وقد أخذوا فى مقابلها لذة وأطفأوا شهوة؟!!. أتراهم لو شعروا بالإخاء الصحيح، والمساواة الكاملة، التى تربطهم بجمهور الشعب، أكانوا يستسيغون ارتكاب هذه السفسافات الوضعية..؟!! وقد انتشر هذا الفساد- من أعلى إلى أسفل كما أشرنا سابقأ- فإذا ألقيت نظرة 053(1/52)
عجلى على المنشآت الخيرية، وجدتها لم تقم- غالبًا- على بِرٍ خالص أو سماحة مشكورة، بل وجدت الكثير منها تأسس على مال " اليانصيب " وهو المال الذى دفعه أصحابه طمعًا فى أن يرتد أضعافاً، ليست الأضعاف السبعمائة التى ينتظرها المؤمنون، بل هى الأضعاف المبهمة التى ينتظرها المقامرون!. ولست أعرف الخير ينترع انتزاعًا من مصادر الشر، كما أعرفه فى هذه المستشفيات، والمبرات التى تستميت فى أخذ المال من جيوب لا يبذل أصحابها شيئا فى سبيل الله، على حين يبذلون الكثير فى سبيل الشيطان! ومن آثار هذا الانحلال أن ظهرت هذه الأرستقراطية العلمية الشائعة فى كثير من الأوساط المثقفة!!. ففى الوقت الذى لا يزال جمهور الأمة يفكر فيه بعقلية الزنوج الهَمل، تحت وطأة الجهل المتراكم عليه من قرون، نرى البعض يفكر بعقلية اللاتين، أو السكسون، أو الأمريكان، ويحيط نفسه فى البيت وفى النادى، وفى الملهى بهذا الجو الغربى البهيج الألوان!!. والهدف الفذ لهذه الطائفة، أو لأغلب أفرادها، أن يُحَوِّلوا قوتهم العلمية إلى قوة مالية.. فهم يتكالبون على شراء الممتلكات المختلفة من عزب وعمارات!. وبذلك تتآمر شتى العوامل على إبقاء الطبقة الدنيا. فقيرة من العلم.. فقيرة من المال.. فقيرة من القوة والسلامة والعافية. ونشأ عن ذلك، أن معظم درجات التعليم، لا يطيق الانتظام فى سلكها إلا القليلون من أبناء الطبقات العليا، ونفر قليل من أبناء الطبقة الوسطى، التى تكافح- دائما- لحفظ مركزها وصيانة حقوقها فى الحياة.. ورءوس هذه الطبقة، كثيرًا ما يتكلمون عن الأمة الجاهلة، كما تراها عقولهم الكبيرة، والضعيفة، كما تحسها نفوسهم القوية، يتكلمون عنها، وهم لا يشاركونها حياتها، ولا يشاطرونها آلامها، لأن من خصائص طبقتهم الممتازة بالعلم والمال، ألا تخالط المواطنين إلا بحذر وقدر! . 054(1/53)
فالعلم والغطرسة على سواد الشعب متلازمان. ولا يكاد أحد هؤلاء السادة يحيى الجمهورإلا بهزة من ذراعه، ثم لا تلبث قوانين الجاذبية، أن توقف تذبذبها ثم تردها إلى وضعها السابق العتيد.!! ومن آثار ذلك أن الجندية يستطيع أن يفلت منها الأغنياء وأوساط الناس... أليس دفع (البدل) جائزًا؟ وما دام يمكننا دفع ضريبة الجيب(1) بدل ضريبة الدم فعلى المساواة العفاء!. ومن الغرائب أنهم لما عدَّوا هذا القانون، جعلوا البدل الشخصى يقوم أحيانا بدل البدل النقدى!. أليس هذا ذريعة ليتمكن المترفون من إبقاء أبنائهم معهم، وليأخذ الجيش حاجته من أبناء الفلاحين والعمال فقط!!. مع أن الأمر الذى لا ريب فيه أن الأمة أحوج إلى إبقاء الفلاح فى حقله والعامل فى مصنعه. وأشد حاجة إلى كف هؤلاء المترفين عن عبثهم الفارغ، وقيادتهم- رغم أنوفهم- إلى ميادين التدريب والتمرين. ولا نريد أن نمضى فى سرد المظاهر الدالة على صدق ما أثبتناه أول هذا الكلام، فهى كثيرة ملموسة، ولا أن نضرب الأمثلة، لما يحدثه تفاوت عناصر الأمة الشديد فى اقتسام أهم مقومات الحياة، فما نظن أحدًا يجهل ذلك. ولكن نريد أن نعرف، ما هى السبيل إلى تلافى هذه الأضرار والأوزار فنسلكها عاجلين مسارعين؟. ولعلنا نوفق إلى صنع معالم الطريق، بعد أن يصل بحثنا هذا إلى غايته إن شاء الله. 055(1/54)
هل للفضائل أسباب اقتصادية؟
أجدنى بحاجة إلى أن أؤكد مرة أخرى قيمة الفطرة الإنسانية، ومبلغ الكمال الذى تستطيع معنوياتها أن تصل إليه، مهما أحيطت بالعوامل المضادة لها. فقد تحتفظ الجذوة بحرارتها واشتعالها أمدا طويلا بين أكوام التراب البارد!!. وقد تنمو فى جوف الصحراء، أشجار تختزن فى أوراقها الماء والخضرة والرى!. وإقرار هذه الحقائق لا ينكر حقائق أخرى، تعلن أن الفضائل الإنسانية والقومية تفتقر فى نموها إلى موارد دافقة، من أمواج الحياة الغنية الكريمة العزيزة، وأن هذه الفضائل قد تذوى وتنتهى إذا لم تجد هذه الأمداد المتتابعة التى تمدها بالغذاء والنماء. ومما هو جدير بالذكر : أن النبى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ كان يستعيذ بالله كثيرا من الديون وشرورها، وقد سمع ذلك منه مرارا، حتى سئل فى ذلك فأجاب بأن المدين قد تُلجئه قلة الوفاء إلى الكذب. فإذا كانت بعض أحوال الدنيا توحى بالكذب والبخل، فبعضها الآخر يوحى بالصدق والكرم ـ لا مراء ـ ونريد نحن أن ننظر إلى بيئتنا لنرى، أتوحى بالفضائل وتنشئ النفوس عليها، أم أن لها إيحاء آخر؟؟ وليس فيما شرحناه فى الفصل السابق غناء عن متابعة النظر فى هذا المعنى فنحن نقصد ـ هنا بالفضائل المستوحاة من البيئة، تلك الفضائل الإيجابية الجليلة، من إنسانية عامة، أو من قومية خاصة!. تلك التى لا تقوم على ظهر الأرض حضارة عظيمة إلا فى ظلها. *** وفقدان العدالة الاجتماعية فى أنحاء هذا الوادى جعل الناس يخرجون من ظلام الأرحام إلى ظلام الدنيا المليئة بالفاقة والجهالة، لا عمل لهم إلا ما توارثوه من بذر الحب وانتظار الثمار من الرب كما يقولون. فإذا طلعت الشمس عليهم طلعت على قوم، لم يجعل الفقر لهم من دونها سترا، بل طلعت على قوم لا يكادون يفقهون قولا!. 056(1/55)
وكان لزاما- فى هذه الحياة الراكدة الجامدة- أن يصاب جمهور الشعب بنقص عقلى، هبط بقواهم الأدبية، هبوطه بقواهم المادية. ومن المفيد أن نعلم أن عقل الإنسان كجسمه، يحتاج إلى غذاء دسم منظم، لكى يستمر نماؤه ويتم كماله، ذلك أنه ـ كثيرا ـ ما نجد الرجل فى سن الخمسين وعقله دون هذه السن بكثير!، فنجد له تفكير الأطفال، وقصور فهمهم لشئون الحياة العامة. والسر فى ذلك بين، ففى حين وجد هذا الرجل حاجاته الضرورية لجسمه من طعام وشراب، فقد حاجاته الضرورية لعقله، من علوم وثقافات وآداب!. وقد يكون المعدن العقلى لهذا الرجل نفيسا، ولكنه كالأرض الطيبة التربة، لم تجد ماء ولا بذرا فلم تجد فيها حياة ولا ازدهارا. ومن المحزن أن ننظر إلى كثيرين من أبناء أمتنا، فنراهم قد أصيبوا بهذا الشلل العقلى، والعقم الفكرى، والهوان الأليم فى إنسانيته، لأنهم حرموا فى طفولتهم، وفى رجولتهم، هذا الغذاء العقلى، الذى لابد منه. والنقص الأدبى لا يحس به صاحبه إحساسه بالنقص المادى.. بل ربما أحاطت به أحوال تشعره بالكمال والعظمة، وتهون فى ناظريه القيم المعنوية. ولو أن كل محروم من وسائل المعرقة والفضيلة، يتألم لذلك ألم الجوعان لفقدان ما يرحم معدته من وقود، لاستراح الناس واسترحنا من لوثات الأغبياء والأدعياء!!. لكن المجتمع العام- بعكس الفرد- شديد التأثر والإحساس بمدى الكمال المعنوى لمن ينتمون إليه ويعيشون فيه. فمن الناحية الدينية، يحتاج الإيمان إلى الكمال العقلى. والله عز وجل يقول : (واتقون يا أولي الألباب) ومن الناحية الدنيوية، تقل الفوارق كثيرا بين الإنسان والحيوان، كلما قل عقله، فيهبط السلوك الإنسانى إلى الحضيض بهبوط التفكير. ونحن أمة أحوج ما تكون إلى العلم الواسع، لتنتفع به فى دينها وفى نياها. وكيف الطريق إلى ذلك إذا لم تتلاش فوارق الطبقات، ولم يتلاش معها التظالم الاجتماعى. 057(1/56)
ثم يُبنى المجتمع على أسس من احترام الإنسان، وتقرير حقوقه. وتنمية ملكاته وتدعيم فضائله؟. ذلك من الناحية الإنسانية. أما من الناحية القومية، فإن فضائل الشعوب الحية ينقصنا- مع الأسف- الكثير منها. إذ لابد للشعب الحر من توافر الحمية والأنفة والشجاعة والتضحية، فأنى ذلك؟! وللأمية الغالبة على بلادنا أثر بالغ السوء فى تبلد المشاعر وضعف الفهم لقضايا الوطن، وقلة الحماسة العامة لها، وعدم انعقاد الإجماع على نصرتها ورواج النفاق السياسى بين المحترفين القدامى من الساسة الشيوخ، الذين تصدروا الصفوف- لأن الغاصبين أرادوا لهم أن يتقدموها. وبين الهواة الجدد ممن أغرتهم المنافع، وظنوا أن فى الاشتغال بالسياسة كسبا لأشخاصهم، وليس واجبا يفرضه عليهم هذا الوطن المغلوب على أمره!. ولقد كانت الحوادث الأخيرة عبرة، لمن يرقبون أطوار اليقظة القومية فى بلدنا. فقد دلت على أن هناك بقايا كثيرة من التخدير الذى أمات الإحساس الصحيح فى جسم الأمة، فهى تحاول النهوض، فيطاوعها بعض أطرافها؟ ويستعصى البعض الأخر !. وهى تنظر بعين، فيها بوادر الغضب، وفيها فتور النوم!. وهى تفتح فمها فلا تدرى : ألتقول الكلمة الفاصلة؟! أم لتتثاءب، أم لتخلط بين الأمرين؟!. وعندما أعلن الطلبة غضبتهم الأخيرة لمستقبل بلادهم الغائم، كان على (القهوات) رجال يطالعون أنباء الطلبة كما يطالعون أنباء الصين، ورجال يخرجون من الأزقة القذرة إلى أعمالهم المعتادة وهم يضحكون أو يتضاحكون، ورجال آخرون فى صميم الريف يمسكون بأذيال البقر وينطلقون خفافا أو ثقالا إلى الحقول، ليقضوا سحابة النهار، ثم يعودون مع الليل الهادئ، إلى القرية النائمة أبدا!!. 058(1/57)
ذلك كله... لأن الوعى الاجتماعى ضعيف عندنا، والفضائل القومية- تبعًا لذلك- فاترة مريضة. ولكيما تقوى وتصح، يجب أن نبحث لها عن الدواء، ولن نعرف الدواء إلا إذا عرفنا أن للفضائل العامة والخاصة دعائم اقتصادية، يجب تعرفها وتقريبها. وَلِنَضْرِبِ المثل ببعض الفضائل المطلوبة، لنرى مصداق ما نقول .
عزة النفس :
فضيلة يطلبها الدين، ويجعلها من خصائص المؤمنين، وينكرها على الفاسدين، فى أقوالهم وأعمالهم. قال الله تعالى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ولكن مجتمعات البشر، لم تقم على هذا الأساس، وحاولت أن تجعل للقلة والكثرة دخلا فى العزة والذلة. وقديمًا قال الشاعر : ولست بالأكثر منهم حصا وإنما العزة للكاثر والقرآن الكريم نفسه، يصف المؤمنين قبل موقعة "بدر" بأنهم كانوا أذلة إذ يقول : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) ويمتن عليهم بأنهم بهذا النصر انتقلوا من حال إلى حال، وأنهم اشتدوا به ماديًا وأدبيًا، معنويًا واقتصاديًا : (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات ) ويمكنك أن تنظر إلى أحوال رقيق الأرض من الفلاحين. وإلى أشباههم من الطبقات البائسة. أتجد لديهم عزة نفسية؟!.. وإذا وجدت شيئا من ذلك، أتستطيع القول : بأن ذلك يشبه عزة الموظفين والتجار والملاك وغيرهم، من أصحاب الأوضاع الاقتصادية الكريمة؟ ! لا.. 059(1/58)
فحاجة النفس الإنسانية إلى سناد مادى، لتقوى به وتعتز، أمر لابد منه وإلا فسيدركها ذل الاحتياج وهوان الشأن فى البيئة الفقيرة الحقيرة! ولولا الكفاح المتتابع الجاد، الذى قام ـ ولم يزل يقوم به العلم والإيمان ـ لاستبد فى الأرض سلطان الكثرة فى المال والجاه، ولأنكر على الطبقات الفقيرة كل شرف وتقدم. فلنغرس العزة فى النفوس ـ إذا شئنا ـ بالدعايات الواسعة والهتافات المدوية. ولكن لن يبقى بعد ذلك، إلا أثر المكان الذى ينبت العزة، والمجتمع الذى يمنح كل الطبقات نصيبها المفروض لها، من الإباء والتطلع والاعتزاز. وقد يعقل الفقر الفتى دون همه وقد كان لولا الفقر طلاع أنجد ومن المؤلم أن الذل اختلط بالدين الآن اختلاطا سمجا، فكثيرا ما كنت أستمع إلى كلمات الرضا " بما قسم الله لى " من أفواه الفلاحين الكسالى المنكوبين فى أرزاقهم، ومن أفواه العمال المضيعين فى أجورهم. ومن أمثال هؤلاء، وأولئك، ممن حظهم فى الحياة ضئيل، ونصيبهم من الدنيا قليل! ولا يسعون إلى تغيير وضعهم بالعمل والعلم والوعى والإيمان... فكنت ـ أول الأمر ـ مخدوعا بما تشير إليه الكلمة من إيمان وتسليم، حتى تبينت أخيرا أن للكلمة الشائعة دلالة أخرى، قد تكون أقرب إلى الواقع!. فرجعت أتساءل.. ترى هل هذا رضاء بالقدر فى أشد أحواله؟. أم هو حرص على الحياة فى أحط صورها؟! ولم يطل تساؤلى كثيرا، فقد عرفت وجه الحق. إن المسألة لا تعدو الاستمساك بأهداب الحياة، ولو كانت فى الدرك الأسفل من الشقاء. والاستنامة فى مهاد الذل، ولو كان مليئا بالأشواك والأقذار!. ترى هذا كله ثاويا فى قرارات النفوس المريضة، تمكن له التعاليم الضالة والفكر الخاطئة، فإذا هو يظهر على الألسنة كأنه تسبيح وتحميد ، ولكنه فى الحقيقة الركون إلى معيشة العبيد! وقد عاب القرآن قوما، لأنهم يرضون بالحياة على أى صورها فقال : 060(1/59)
(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) إن عدم الفرار من الحياة القذرة ـ ولو إلى الموت ـ مهانة نفسية، لفت فى سوادها أكثر أقطار الشرق الإسلامى. والغريب أن يكون هذا باسم الإيمان بالله، والتسليم للقدر، مع أن التجارب علمتنا : أن الجرأة على الموت فضيلة لا تظهر إلا فى الشعوب الحية والأمم القوية. وضريبة الدم التى نسمع عنها؟ لن يدفعها إلا أبناء هذه الأعم العظيمة. وقد كان العرب الأوائل يحرصون على الموت، أكثر مما يحرص أعداؤهم على الحياة.. أما الحياة السقيمة، فهم أبعد الناس عن الرضا بها، أو الهدوء فى كنفها. فأين من هذا أقوام يطوون بطونهم على خشاش الأرض ثم لا يرضون بهذا فحسب، بل يقولون : " اللهم أدمها نعمة، واحفظها من الزوال ". أليس زوال هؤلاء نعمة تستريح بها الحياة!. إن استحال إصلاحهم؟ قال ابن المقفع على لسان "كليلة ودمنة" : " إن من الناس من لا مروءة له، وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون!؟ كالكلب الذى يُصيب عظما يابسا فيفرح به!. وأما أهل الفضل والمروءة، فلا يُقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسمو به نفوسهم إلى ما هم أهل له، وهو أيضا لهم أهل، كالأسد الذى يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير. ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه، حتى ترمى له الكسرة. إن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلف حتى يمسح ويتملق له. فمن عاش ذا مال وكان ذا فضل وإفضال على أهله وإخوانه، فهو- وإن قل عمره- طويل العمر. ومن كان فى عيشة ضيق وقلة وإمساك على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه، ومن عمل لبطنه وقنع، وترك ما سوى ذلك عد من البهائم. قال كليلة : قد فهمت ما قلت، فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسان منزلة وقدرا . 061(1/60)
فإن كان فى منزلته التى هو فيها متماسكا كان حقيقًا أن يقنع. وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التى نحن عليها. قال دمنة : إن المنازل متنازعة مشتركة على قدر المروءة. فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة، ومن لا مروءة له، يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضعية!. وإن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديد، والانحطاط منها هين، كالحجر الثقيل : رفعه من الأرض إلى العاتق عسر، ووضعه إلى الأرض هين.. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ". التعلم : فضيلة طالما أطنب الدين فى مدحها، حتى جعل منزلة العالم بين العباد كمنزلة البدر بين سائر الكواكب! وحتى جعل فضل العالم، تشهد به الطيور فى الجو، والحيتان فى البحر! ولكن بمقدار ما مدح الدين العلم، بمقدار ما تهاوى المسلمون فى الجهل!!. فما حولتهم نصائحه بدورًا ولا شموعًا، ولا شهد لهم بالفضل طير ولا دابة، بل قَلَّتْ نسبة المتعلمين، وفحشت نسبة الجهال، وأضحى مستوانا العلمى لا يشرف أبدًا!!. ومنذ عشرين عاما، والمصلحون فى مصر يحاربون هذه الروح المنكرة، حتى استطاعوا أن يرفعوا نسبة المتعلمين إلى 25%، من بينهم من يحسن كتابة اسمه فقط، ومن يحسن قراءة الصحف بعد إعلان الحرب على علماء اللغة جميعًا. وقد تعلو نسبة التعليم مع هذه الجهود الدائبة، بيد أن نسبة المثقفين لا تزال ضئيلة، ومستوى التربية العامة لا يزال أدنى من أقطار أخرى. وبديهى أن تعميم التعليم بالنصح والإرشاد والترغيب، أمر لا طائل تحته فإن الأمر يحتاج إلى إلزام عام، تُسَخَّر فيه قوى الدولة ومواردها! ويجب أن تلين أنظمة الأمة الاقتصادية والاجتماعية، تبعًا لذلك، حتى لا يبقى فى البلاد جاهل واحد. وإلا فلا قيمة مع الجهل لدين يبقى لنا، أو لدنيا نحيا فيها. إن احتكار العلم كان- قديمًا- إحدى الدعائم التى يقوم عليها نظام الطبقات.. فكان الكهان والرهبان، ومن على شاكلتهم(1/61)
يمنعون المعارف القليلة التى بين أيديهم أن تصل إلى غيرهم، حتى لا يشاركوا فى القداسة والكبرياء المفروضتين لطبقتهم!. 062
وقد أشرنا آنفا إلى أن هناك أرستقراطية علمية، تتمم زميلتها المادية، ويعانى الشعب الأمرين فى ظلهما. ولا فكاك من هذه القيود المظلمة إلا بإشاعة العلم، وتحطيم الحواجز القائمة، التى تحرم الجمهور أن يعب منه حتى يرتوى ويكتفى، إن كان من العلم ارتواء أو اكتفاء. وينبغى أن نجزم بأن العلة الأولى فى فساد التدين وتأخر أصحابه، هى الجهل الثقيل، الذى ضيق آفاق الحياة فى أعينهم، وأفسد الذوق الإنسانى فى فطرتهم، ووقفهم أمام نصوص الدين وهم لا يفقهون. ذلك لأن القرآن نفسه يقول : (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). فكيف بعد ذلك يوجد مع الجهل دين؟ وكيف يعم الدين القلوب، إذا لم يعم العلم العقول؟ وكيف يتم هذا أو ذاك، إلا فى حراسة العدل الاجتماعى الصحيح؟
حسن الخلق :
فضيلة إنسانية، حض عليها الدين. وجعلها ثمرة لكثير من العبادات التى أمر بها، واعتبرها أمارة الكمال البشرى. فى أرقي مراتبه، حتى لم يوصف النبى- صلوات الله وسلامه عليه- إلا بها (وإنك لعلى خلق عظيم).. فى معرض مدحه وبيان فضله. والمجتمع الذى يتوفر حسن الخلق فى معاملاته، هو هدف الرسالات العظيمة، من دينية ودنيوية. ونحن إذا حللنا سوء الخلق، ورجعناه إلى عناصره التى يتكون منها كما يتكون الماء من عنصريه المعروفين، لوجدناه مزيجا من جهل وفقر، أو جهل ومرض، أو جهل وترف. والحق أن خلو المجتمع من هذه العناصر، يتبعه ـ غالبا ـ خلوه من شراسة الأخلاق وضعة السلوك ! 063(1/62)
وأن المجتمعات التى يروقك شرف معاملاتها، وجمال آدابها، وصدق اتجاهاتها، هى هذه المجتمعات، التى تأصّل فيها العلم، وسادتها العافية، وتقاربت فيها العقول، وتساوت فيها الحقوق، وأمكن فيها التفاهم والتعارف وتجاوبت فيها العواطف. حتى لتكاد التحية العابرة فى الطريق أو فى الترام تؤسس حُبا مَكِينًا بين أصحابها.. أما هنا، فالحرمان ملأ النفوس بالبغضاء، والتفاوت البالغ بين الثقافات والمشارب والمنافع، جعل الناس يتنفسون فى جوِ من الشراسة والتناكر. وفى البيت أو فى الشارع فى القرية، أو فى المدينة. يكون من أيسر الأمور، أن تتحول المناقشات التافهة، إلى معارك حامية!!. ثم نبحث عن حسن الخلق، فلا نجد إلا قشرة خفيفة، وراءها جفاء غليظ!. ولا عجب، فهذه النتيجة هى آخر ما يمكن للدين أن يصل إليه بالكلام أما إذا أردنا النتائج العملية العظيمة، فلها طرق أخرى. وسنجد فى هذه الطرق أن حسن الخلق ثمرة دانية القطوف، فى كل مجتمع ذكى غنى قوى. يصل الدين إلى تحقيق أغراضه فية، بحسن توزيع العلم، وحسن توزيع المال. أما قبل ذلك، فلا موضع لأمل، ولا جدوى فى عمل. ذلك لأن الخلق ليس شيئا يقول له الخطيب المجيد : كن فيكون! بل هو أثر تفاعل النفس مع البيئة فى البيت والشارع والعمل والمدرسة وغير ذلك... فيجب تكييف هذه الأشياء كلها، لتعين على تحقيق ما نريد.
شرق جديد :
من الكلمات التى كنت أستمع إليها وأظنها من الحقاثق المسلمة، أن الشرق موطن الروحانيات، وملهم العالم مُثُله العليا، وموئل الفضائل الجليلة إن نبَتْ بها دار أو تنكرت لها أقطار!! وأن ربوع الشرق أتخمت بهذه النظرات الإنسانية العليا. حتى صاح "أمين الريحانى" صيحة الوجل من كثرتها، يريد أن يستبدل بها بعض الإنتاج المادى زخر به الغرب فهو يقول : "أنا الشرق عندى فلسفات! من يبيعنى بها دبابات وطائرات". هذه الكلمات الناطقة بأن الشرق وطن الفلسفات الروحية المجردة! وخصم الأفكار المادية المحضة هى-(1/63)
عندى- موضع نظر الآن، ويجب أن نعرضها على ميزان النقد، لنعرف حقيقة ما تنطوى عليه، ولنعرف- كذلك- قيمة ما لدينا وقيمة ما لدى غيرنا : فلا نضل ولا نخزى!! 064
لقد بحثت عن هذه الروحانية المزعومة فى مظانها المختلفة، فلم أجد لها أثرًا يذكر. أتجدها فى حياة الكبراء الشرقيين؟ ! لا. إن باشوات هذا الوادى الخصب، وبعض أشياخ العرب المترفين، ومهراجات الهند، فى أرضهم المبهمة، لا يدرون شيئًا فى معايشهم المفعمة بالنعمة والثراء.. عن الروحانية وفلسفتها إ!. بل إن مقابح المادية المغرقة ومساوئ الانحباس فى بهيمية الحياة الدنيا، لا تجد لها مجالا أوسع، مما تجده فى هذه الطبقات المتكبرة. أين تجد هذه الروحانية؟ أبين طوائف الفقراء المحرومين؟؟!! أحسبك لن تتصور السجن الذى ضم هؤلاء البائسين برجًا عاجيًا، أو تتخيل ابتعادهم عن الطيبات والمباهج، زهدًا مقصودًا، وتعاليًا محمودًا. إنما هى فوضى الأوضاع وفلسفة الحرمان، وهذه لا تساوى فى "سوق النقد" شيئًا نشترى به من الغرب دبابات ولا هراوات، وما تقدم الغرب إلا يوم مشى فى طريق بعض تربه الموطوء بالأقدام، هذه الفلسفات البائسة!!. وقد مرت الروحانية الشرقية بتجربة قاسية، يوم خرس لسان كاهنها الأكبر "غاندى" عن استنكار المذابح الطائفية، التى التهمت ألوف الأطفال والنساء والرجال، غداة استقر الأمر على تقسيم الهند إلى شطرين. وكان ذلك على غير رغبة المهاتما صاحب فلسفة السلام العام والبعد عن أسباب الخصام! خرست هذه الفلسفة، بعد أن ثرثرت قليلاً، لتتقن تمثيل دورها، فما أجداها هذا الخداع إلا أن كشف نيتها، وفضح طويتها، فلا روحانية، ولا روحانيين. إن نزوات الأجسام إلى الطعام والشراب والنساء، أخذت صورتها الحالمة، فى ألف ليلة وليلة! وأخذت صورتها الواقعة فى قصور الواجدين الفاسدين، وتميز الشرق ، بأن بعض كبرائه يوزن بالذهب والماس، ويبعثرهما من غير حسيب! نعم قد يوصف الشرق بالروحانية، لأنه مهبط(1/64)
الديانات، ومطلع أشعتها، ومورث صحائفها المطهرة للعالمين. بيد أن حالة الديانات الآن فى الشرق، أو فى الغرب، لا تسر. وعاطفة التدين تواجه- فى هذه الآونة- أزمات خانقة، والروحانية التى تدعو إليها الأديان. تحتاج إلى بيان ينفى عنها ما لازمها، من تشويه وتحريف على مر العصور . 065
والإسلام- وهو الدين الجامع لما قبله ، المانع لما بعده- واقع تحت سلطان حفنة من الفراعنة والقوارين ، جعلوا انتفاع الناس منه محدودًا جدًا. فأية روحانية تبقى فى الشرق بعد ذلك؟ لا شئ! الحقيقة، إن الإنسان فى الشرق، هو نفسه إنسان الغرب، إن الروحية والمادية هنا أو هناك، تخضع لعناصر البيئة وأحوال المجتمع، وهى عناصر وأحوال يمكن الهيمنة عليها، والتصرف فيها، وتكوين معادلات "جبرية " تنتج المادية فى الشرق، أو الروحانية فى الغرب، إن شئت..!
ليس تفكيرًا مادياً :
يتوهم ذوو الآفاق المغلقة، أن إدخال العوامل الاقتصادية فى الرذائل والفضائل، جنوح إلى التفكير الشيوعى القائم على النظرة المادية المحضة للحياة! واستهانة بالقوى الروحية السامية، التى يجب التعويل عليها فى عصمة الإنسان من السقوط فى مهاوى الإثم والعصيان. وهذا التوهم خاطئ. فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحانى، فى تدعيم معنويات الإنسان، وحفظ كيان الأمم. بَيْدَ أن ذلك لا يعنى إغفال المشاهد الملموس، من تولد الرذائل الخطيرة فى المجتمعات، المصابة بالعوز والاحتياج!! بل إن الاضطراب الاقتصادى، فى أحوال كثيرة جدًا قد يكون السبب الأوحد فى نشوء الرذيلة وشيوعها. وقد بَيَّن ذلك نبى الإسلام- صلوات الله عليه وسلامه- فى قصة رمزية صغيرة. فعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال :قال رجل : لأتصدقن بصدقة! فخرج بصدقته فوضعها فى يد سارق فاصبحوا يتحدثون : تصدَّق على سارق، فقال : اللهم لك الحمد على سارق ! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها فى يد زانية! فأصبحوا يتحدثون : تصدَّق الليلة على(1/65)
زانية، فقال : اللهم لك الحمد على زانية ! لأتصدقن بصدقة، فخرج فوضعها فى يد غنى، فأصبحوا يتحدثون : تصدََّق الليلة على غنى . 066
فقال الرجل : اللهم لك الحمد على سارق، وزانية، وغنى ! فقيل له : أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته. وآما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها. وأما الغنى فلعله يعتبر، فينفق مما أعطاه الله. . هذه القصة تشير إلى أن الفقر قد يُلْجئ إلى السرقة والزنا. وأن علاج هذه الجرائم، يكون بمحو العلل التى تمخضت عنها. وليس القول بهذا شيوعية فى التفكير، ولا مادية فى الحياة. وقد ينشأ الاضطراب الخلقى عن الاضطراب الاقتصادى، ثم تبقى النفس صريعة له أمدًا طويلا، حتى يتغلغل فيها وتغور جذوره فى طبيعتها. فإذا انزاحت الأسباب الاقتصادية المحرجة، بقيت النفس على الحال الأثيمة التى اكتسبتها، فلا تتخلى عنها، إلا بعد جهاد طويل !! وهذا إن دل على شىء فعلى ضرورة اليقظة الكاملة للعوامل المستقرة فى البيئة، حتى لا تفقد النفس طهارتها إلى الأبد بسببها، وتصبح النصائح والإرشادات عديمة الجدوى، أو قليلة الغناء. إن الاضطراب الاقتصادى، يورث الأخلاق اضطراباً شنيعًا. بل يجعل الأجيال المتعاقبة تتوارث أنواعًا شتى ، من أخبث الأمراض النفسية، والآفات العقلية الوخيمة النتائج، البعيدة الأخطار. وكم تظن عمق الْفَجْوةِ بين بيوت العبادة، ونواحى المجتمع، إذا كانت هذه توحى إلى الخير بأقوالها، وهذه توحى إلى الشر بأحوالها؟ إن العلاقة بين الاثنين، هى علاقة بالخيال !! فبينما القول البليغ يهتف فى المساجد : أنْ فِرُّوا إلى الله! إذا الناس مثقلون فى المجتمع بقيود من الحاجة المُلِحَّة، تحسبهم فى سجون الضرورات المذلة، والعذاب الأليم.، فلا يستطيعون عنها فراَرًا. وَوَدُّوا لو يستطيعون !! والحديث الذى يلمح فيه نبي الإسلام : إلى أن المعاصى قد توقع فيها الضوائقُ المالية، حديث يضع أيدينا على طرف الحقيقة، التى بدأ الناس(1/66)
يفهمونها الآن كاملة. 067
الاستعمار الداخلى يُمهِّد للاستعمار الخارجى:
كان الشرق الأوسط مستعمرات مقسمة بين الروم والفرس قبل انبثاق فجر الرسالة الإسلامية فلما ظهر الإسلام بدأ حرب تحرير شاملة ضد المغيرين على أهل هذه البلاد.. وكان عهد عمر بن الخطاب نقلة حاسمة فى سير التاريخ البشرى فقد تلاشت دولة الفرس، وزالت معالمها، وتزلزلت أركان دولة الروم، وتقلصت رقعتها، وظلت الضربات تنهال عليها- بعد- حتى لحقت بأختها بعد أيام طوال... والفاروق القائد الذى صنع هذا الصنيع الخارق جدير بأن تدرس نواحيه المختلفة، وأن تعى الأجيال المعاصرة أصول عبقريته الفذة. ونحب أن نلقى نظرة على الحالة الداخلية التى ساندت حروب التحرير أو فى نطاق أخص نحب أن نعرف معالم العدل الاجتماعى لأيام عمر- رضى الله عنه- وصلة المسلمين بعضهم ببعض، وصلة الدولة بجماهير الناس، وكيف كفلت حاجاتهم وسدت ثغراتهم وقوت ضعيفهم وأسعفت محتاجهم، وطاردت البأساء والضراء فى كل مكان، على أساس أن ذلك صميم رسالتها، وجوهر وظيفتها. وكان عمر بن الخطاب أخبر الناس بأثر الأوضاع الاقتصادية فى الأخلاق، وضغطها المباشر وغير المباشر على سلوك الأفراد والجماعات، وتدبر هذه الوصية التى وجهها إلى ولاته : " ألا تضربوهم فتذلوهم ولا تجتمروهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الفيافى فتضيعوهم ". ومعنى التجمير إطالة غربة الجيش بعيدًا عن الزوجات والأولاد، فقد يؤدى ذلك إلى الانحراف الجنسى، واعتياد المعصية. وهذا إرشاد خليفة يعرف الواقع، ويعترف بما ينشأ عنه. والناس يحبون أن تصان حقوقهم، وأن يحيوا موفورى الكرامة، فإذا وجدوا أنهم- فى ظل نظام ما- يحاصرهم الضيم والهوان، ويفقدون العزة والاستقرار هان عليهم أمر الإيمان، وبرد حماسهم له، بل سهل عليهم تركه. والإلحاد غالبًا ما نشأ فى البيئات التى عجز الإيمان عن الوفاء فيها بالتزاماته المادية وأهمل الوصاية على حقوق(1/67)
الأفراد والجماعات. 068
وهذا ما يرفضه عمر كل الرفض.. قدم الأحنف بن قيس فى وفد من أهل العراق، فى يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر بعباءة يداوى بعيرًا من إبل الصدقة، فقال :" يا أحنف، ضع ثيابك وهلم فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه لمن إبل الصدقة، وفيه حق اليتيم والمسكين والأرملة. فقال رجل من القوم يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا أمرت عبدًا من العبيد فيكفيك هذا؟! فقال عمر : وأى عبد هو أعبد منى ومن الأحنف؟! إنه من ولى أمر المسلمين فهو عبد المسلمين يجب عليه لهم مثل ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة ". وبهذه السيرة الوضاحة شرح أمير المؤمنين وظيفة الدولة مع الشعب، وسهرها الواجب على رعايته وضمان مصالحه وتوفير ضروراته. ولقد كان- رضى الله عنه- مثالا فريدًا فى هذا المجال؛ ولا بأس أن ننقل من تاريخه هذه النماذج!. روى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : "خرجنا مع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه – إلى "حرة واقم " حتى إذا كنا بـ "صرار" إذ نار توقد. فقال : يا أسلم! إنى لأرى ههنا ركبا قد ضربهم الليل والبرد. انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا امرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال : السلام عليكم يا أصحاب الضوء؟ وكره أن يقول : يا أصحاب النار. فقالت : وعليك السلام. فقال أأدنو؟ فقالت أدن بخير أو دع. فدنا وقال : ما بالكم؟ فقالت : قد ضربنا البرد والليل! فقال : وما بال الصبية يتضاغون؟ قالت : الجوع. فقال " فأى شىء فى هذا القدر؟ قالت : ما أسكتهم به حتى يناموا، والفه بيننا وبين عمر. قال : أى رحمك الله، وما يدرى عمر بكم؟! قالت : يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟!.. 069(1/68)
فأقبل عمر على أسلم فقال : انطلق بنا، فانطلقنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم، فقال : احمله علىَّ!! فقلت : أنا أحمله عنك. فقال : أنت تحمل وزرى يوم القيامة، لا أم لك!. فحملته عليه وانطلقت معه إليها نهرول، فالقى ذلك عندها. وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول : ذرى علىّ وأنا أحرك لك. وجعل ينفخ تحت القدر ئم أنزلها. فقال : أبغنى شيئا، فأتته بصفحة فأفرغها فيها ثم جعل يقول لها. أعطيهم وأنا أسطح لهم. فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك. وقام وقمت معه. فجعلت تقول جزاك الله خيرا... كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين. فيقول : قولى خيرًا!. إذا جئت أمير المؤمنين وجدتنى هناك إن شاء الله. ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضًا. فقلت له : لك شأن غير هذا... فما كلمنى حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا. فقال : يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت !. وذات ليلة كان يعس، فإذا هو ببيت مبنى من شعر لم يكن بالأمس. فدنا منه فسمع أنين امرأة ورأى رجلا قاعدًا، فدنا منه فسلم عليه ثم قال : من الرجل؟. فقال : رجل من أهل البادية أتيت أمير المؤمنين أصيب من فضله. فقال : فما هذا الصوت الذى أسمع فى البيت؟ . 070(1/69)
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك. فقال : على ذلك ما هو؟، فقال : امرأة تمخض. فقال؟ هل عندها أحد؟ فقال : لا. وانطلق عمر حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت على بن أبى طالب : هل لك فى أجر ساقه الله إليك؟. قالت : وما هو؟، فقال : امرأة غريبة وليس عندها أحد. فقالت " نعم إن شئت. قال : فخذى ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئينى ببرمة شحم وحبوب. فجاءت بكل ذلك، فقال : انطلقى!. وحمل البرمة ومشت خلفه حتى انتهى إلى الباب، فقال لها : ادخلى إلى المرأة وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له : أوقد لى نارًا، وأوقد تحت البرمة نارًا حتى أنضجها وولدت المرأة فقالت أم كلثوم : يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام. فلما سمع الرجل بأمير المؤمنين... هابه فجعل يتنحى عنه. فقال : مكانك كما أنت. فحمل عمر البرمة ووضعهما على الباب ثم قال لامرته : شبعيها. ففعلت ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب، فقام عمر فوضعها بين يدى الرجل، فقال : كل ويحك، فإنك قد سهرت من الليل. وقال له : إذا كان غد فأتنا نأمر لك بما يصلحك. تلك صورة الحاكم الأمين عندما يتحسس كل ثغرة فى المجتمع فيسدها، وكل محنة فيزيلها، فالأفراد فى ظله يحسون أن الحاكم ساعدهم الأيمن فى تحقيق الخير ودفع الغير وصون الشرف. هذا اللون من الحكم هو الذى يقيمه الإسلام، ويجعل حمل عبئه عبادة وتوقير صاحبه تقوى... أما أن يسطو ناس على مقاليد الأمور ليجعلوا من ذواتهم أصناما مرهوبة ومن حقوق الناس لبانات مرغوبة فهذا هو الكفر.. 071(1/70)
ولسنا نقول ذلك مبالغة ولا مجازفة، فإن المذاهب الاجتماعية الملحدة لم تشق طريقها فى هذه الحياة إلا عند شلل الدين عن حماية الحقوق وصيانة الإنسانية!! عندما وقعت هذه المحنة النفسية المذلة جاء من يقول : ما دمت محترمًا حقى فأنت أخى آمنت بالله أم آمنت بالحجرإ! هكذا يذوب الإيمان وتسقط رايته!! وذلك ما كان عمر بن الخطاب يحذره عندما جاهد لتكون الدولة مسئولة عن إطعام الناس من جوع وتأمينهم من خوف وعندما قال كلمته الكبيرة : لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم إ! ويروى عنه كذلك هذا القول " والله ما أحدٌ أحق بهذا المال من أحد، والله لئن عشت لهم لَيَصِلَنَّ الراعِيَ فى صنعاء حظه من هذا المال". وهذا الكلام الذى قاله عمر، إن كان من عند نفسه، فَنَعمّا هو! وجدير به أن يكون دينا للناس، إذ لا قيام لدين، أو خلق، إلا فى ظله كما أوضحنا. وإن كان من وحى الدين الذى يعتنقه- وهو ما نعتقده- فلا موضع لخلاف فى فهم دلالته، وتحقيق أغراضه. فهو يتضمن دستورًا خطيرًا من أهم دساتير الحرية الاجتماعية والاقتصادية وحصانة قوية من الحصانات التى تتوفر للشعوب، فتقيها أوزار الظلم الاجتماعى وظلماء الاستعمار الداخلى.. ونحن أحوج الناس إلى فهم هذه الحقائق، جملة وتفصيلا. نحن الذين نسينا ذلك دهرًا، فوقعنا فى مخالب المستعمرين الباطشة. إن الاستعمار يُبقى للناس صورَ العبادات الميتة، إذ لا غناء لهم فيها، ولا خطر عليه منها، ويساعد على جعل الدين مقطوع الصلة بكرامة الإنسان الفردية والاجتماعية والسياسية. فالدين- فى نظره- يجب أن يعادى هذه الحقوق المقررة بالفطرة، أو أن يكون عونا لمن ينتهكونها! أو على الأقل، يجب أن يكون محايدًا بإزائهم وإزائها. أما أن يؤيد الدين هذه الحقوق، وأن يحض على النداء بها، وأن يجعل فى مقدمة الشهداء من يموتون فداء لها، فلا..! 072(1/71)
وعلى هذا المبدأ المجرم، قام الاستعمار الداخلى فى الشرق، فأسلم الشعوب لقمة سائغة، وغنيمة باردة، للغزاة الأوربيين الذى استولَوْا على كل شىء واستغلوه لمصلحتهم قبل أى شىء. ونعنى بالاستعمار الداخلى فقدان الأمم القدرة على حكم نفسها بمن تختار من أبنائها، وسقوط أزمة الحكم فى أكثر الأحايين بين أناس تمقتهم الجماهير، وتتمنى زوالهم لأنهم يؤثرون شهواتهم على مصالحها، ولا يملكون كفاية حقيقية للبقاء فى مناصبهم، ومن ثمّ فهم يستديمون حكمهم بالإرهاب والاحتيال وغير ذلك، ونجاح الاستعمار الغربى فى أقطار الشرق مهدت له هذه الأحوال. ثم جاء دور الأحرار فى الكفاح. واسترداد ما ضاع، فمن الغفلة أن ننسى دروس الماضى وعبره : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " . ولقد لدغتنا المظالم فى الداخل فسمَّمَت دماءنا، وهدَّت قوانا، وسبَّبَت لنا هزائم مريرة، فيجب ألا نمكن لها من العودة أبدًا. "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا".
الدين والاستعمار :
للدين مع الاستعمار العالمى ، موقف حاسم، لا تجد فيه إلا الخصومة الظاهرة والاستنكار البالغ. فقد وضع الدين معالم ثابتة، للإخاء الإنسانى، الذى يجب أن يسود بين شعوب الأرض، إذ رفع من شأن أبناء آدم جميعًا، وصان لهم كرامتهم، ونَوَّه بأن بداية خلقهم انبثقت من الله- جل شأنه-، وأن الله- عز وجل-، أسْجَدَ ملائكته لأبيهم، ثم خصهم بفنون من المواهب والملكات، أعلَت شأنهم بين سائر الموجودات : "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضلا". ولا شك أن الناس يختلفون فيما أوتوا من خصائص نفسية وعقلية. 073(1/72)
ولكن لا يسوغ أن يكون هذا الاختلاف بابًا إلى التعادى والتناكر، بل يجب أن يكون أساسًا لتعاون بعيد المدى، يقف القوىًّ فيه بجانب الضعيف ويأخذ العالم فيه بيد الجاهل، ويفيض المكثر فيه على المقل. أما أن يأكل القوى الضعيف، ويستعلى العالم على الجاهل،، يستعبد الغنى الفقير؛ أما أن يشعر كل ذى فضل من جاه أو مال أو سلطان، بأن له حق البغى فى الأرض، وجعل أهلها شيعًا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيى نساءهم.. فهذا فساد عريض، وانتكاس بقيمة الإنسان ومنزلته، وردها إلى قوانين الغابات وطبائع الوحوش!! وقد انطبع الاستعمار العالمى بهذا الطابع الأسود من قديم العصور، واحمَرَّت جوانب التاريخ البشرى بدماء الضحايا المسفوكة، إشباعًا للغرائز الخسيسة، والمظالم الفادحة. ولم تتورع الحضارة الغربية الأخيرة- برغم تقدمها العلمى الهائل- عن الانزلاق فى هذا المنحدر الدنىء، بل لعلها فاقت من قبلها فى هذا المضمار. فهى تقاتل الشعوب المتطلعة إلى حريتها، وتجتهد فى حرمانها، من أسباب العلم والقوة والنهوض. وقد أبادت أجناسًا فى كثير من البلاد المنكودة الحظ التى سقطت فى يدها... وهى لا تريد إلا جعل المستعمرات الشاسعة، التى تضم أكثر من نصف البشر، حقول استغلال، ثم اتخاذ أهلها خدما، يعملون لغيرهم، ويكدحون لسادتهم المتطفلين الدخلاء. ويعتقد لفيف من المفكرين أن نهاية الاستعمار موشكة، وأنه سوف يضطر لترك الأمم التى بليت به ، رادًا إليها حريتها التى سلبها إياها من قبل. ونحن لا نؤيد هذه النظرة المتفائلة، ولا نحسب ضمائر الأقوياء تثوب إلى رشدها من تلقاء نفسها. نعم قد تنسحب جيوش الاحتلال، وتختفى السيادة المباشرة، غير أن أوضاعا أخرى ستحل محلها فورًا، وتبقى الأمم الضعيفة مقودة بخيوط خفية إلى السادة الأولين أنفسهم أو إلى بديل لا يقل عنهم لؤما وضراوة. إن الاستعمار قد يتطور ويبدل أزياءه وفق الأحوال التى تلائمه، ولكنه باق ما بقى حق ضعيف(1/73)
وباطل قوى . 074
ومن المهم أن نعرف التغير الذى يطرأ على أشكال الاستعمار، إنه ليس صحوة ضمير..! ولا رجعة تائب؟.. إنه تنارع الأقوياء على السيطرة وحذر بعضهم من البعض الآخر ونشوء فلسفات إنسانية ومذاهب اجتماعية أكثرت اللغط حول الإنسان وكرامات الشعوب، ثم نشأة قوى متحررة داخل الأقطار المفتوحة نفسها... ذلك كله جعل المستعمرين يلجأون إلى الحيلة، يفكرون أن يحتلوا الشعوب بأسلوب بعد أن انكشف أسلوب!. أما الإصرار على استنزاف الأقطار المتخلفة لمصلحة الجنس الغالب، فذاك مالا شك فيه. ودول أوروبا وأمريكا كقطيع من الذئاب يعدو هنا وهنالك بحثا عن الفرائس، وربما كان من مصلحة الشعوب الوادعة أن يشتغل هؤلاء بأنفسهم حروب المطامع التى تدور بينهم حينا بعد حين. وقد أتت الحضارة الأوروبية من هذه الناحية، فلم يزل التنافس الاستعمارى مَثارَ قتال متواصل، وحروب نرجو أن تكون كما قيل : (تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين)
وقاية :
غير أن الدين الذى يعرف غوائل المرض لا يكتفى بالتحذير منه فقط بل يُحَصِّن أبناءه ضده، ليكونوا بأمن من فتكه وبطشه. والحقيقة أن التدين الصحيح عدو الاستعمار الأول، لا يجد الاستعمار عدوًا أمضى منه سلاحًا فى محاربته، واستئصال شأفته. حَصَّن الدين أبناءه ضد هذا الوباء وجعلهم- لو آمنوا بالله حقًا- أقرب الناس إلى التمتع بحرياتهم المطلقة، وحقوقهم الكاملة، وأشد الناس رفضا للضَّيْم، وثورانا عليه!! وأول ما يؤسسه الدين لضمان ذلك المسلك، تكوين البيئة الحرة فى الأمة تكوينًا بَيِّن المعالم، واضح الخطوط. ولإيجاد هذه البيئة، يجب توفر عناصر ثلاثة هامة : 075(1/74)
1- الكرامة الفردية :
وتقوم على حفظ حقوق الإنسان، وتحريم دمه وماله وعرضه؛ والارتفاع بها إلى مرتبة القداسة، حتى إن النبى اعتبر حرمة المؤمن أقدس من حرمة الكعبة، التى يتَّجه إليها المسلمون فى صلواتهم، وفسَّر حرمته، بأنها حرمة دمه وماله وعرضه. ثم حفظ للفرد شخصيته المعنوية بعد المحافظة على شخصيته المادية فطالبه بعزة النفس، وأوصاه أن يستمسك بها، وشرع من العقائد والتعاليم ما يؤكدها، واستنكر أن تكون القلة المادية سبيلا للنيل من كرامة إنسان أو إذلال جانبه : وفى ذلك يسوق القرآن قصة أقوام ارتكبوا هذه المحاولة : (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون). وقد استقصى الدين أسباب هذه الكرامة الفردية، حتى إنه لينصح المؤمن ألاَّ يُعَرِّض نفسه لنوع من الانكسار والغضاضة ، إذا هو أخذ على نفسه تنفيذ أمر لا يقدر عليه، ثم ظهر عجزه عنه. فينصح النبى- صلوات الله عليه وسلامه- : " لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه قالوا : وكيف يذل نفسه؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يُطيق" !. وهذه شدة إحساس بالكرامة الفردية، ضرورة تدعيمها بالسلوك القويم : "إيَّاك وما يُعْتَذَرُ مِنْهُ"
2- الكرامة الاجتماعية :
وتقوم على المساواة بين الطبقات، إقامة الموازين القسط بينها، وجعل التكافل المادى والأدبى ، هو الرِّباط الذى يجمع شتاتها، ويركز قُوَاهَا، فلا تكون النعمة احتكارًا لطائفة، ويكون الحرمان نصيب أخرى. إذ إن هذه التَّعاسة مصدرُ ضعف عام، ومثار سخط مكتوم، تجعل أبناء الوطن الواحد لا يتحمسون للدفاع عنه، ماداموا ليسوا سواءً فى الانتفاع بخيره.. 076(1/75)
ولأن الأشقياء فى بلادهم، المتبرمين بأوضاعهم، سيتركون مؤنة الدفاع عنه، لمن يأكل خيره. وقديمًا قال شاعر : لا أَذُودُ الطَّيْرَعَنْ شَجرٍ قد بَلَوْتُ المُرَّ من ثَمَرهْ وهذه الحقيقة، هى سرُّ الفتور والبرود ، الذى يسود الجماهير فى الأمم المستعمرة أو الشبيهة بالمستعمرة، فلابد من محاربة الاستعمار الداخلى، حتى لا يكون هناك مجالٌ لأىِّ تدخل خارجىّ. وحتى تهب الشعوب على قلب رجل واحد بإزاء أى هجوم يُوَجَّه إليها من أعدائها الآخرين!. وقد جعل الدين الموازنة بين طبقات الأمة، وعدم استرقاق واحدة لأخرى، من حقيقة الإيمان، وقَرَنَهَا بواجب العبودية لله وحده. (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) ومعنى الربوبية لغير الله هو ما قدَّمنا. فقد كان رجال الدين طبقة تتقدّم طبقة المترفين، وتقاسمها بَذْخها، تفتات على جمهور الشعب فى ذلك. (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) فوصف القرآن هذه الحال وصفًا صحيحًا مُجرَّدًا، ناعيًا على الناس وقوعه منهم وفيهم : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). 3- الكرامة السياسية :
وتقوم على إيجاد الحكومة المعقولة المعتدلة، التى يشعر أفرادها، بأنهم أجراء الشعب وخدامه، لا سادته وجلادوه. 077(1/76)
فإن الحاكم المستبد، الذى تنتهى تصرفاته بإذلال الشعب، واحتقار رأيه، وكبت رغائبه، هو الحاكم الذى يمهد تمهيدًا واسع النطاق للاستعمار، ويفتح أبواب البلاد على مصراعيها، للعداون الأجنبى. ومما لاريب فيه، أن سياط الحكومة فى الداخل توطئ ظهور لقبول السياط من الخارج ! ومتى انحنت القامات مَرَّةً لمن يريد ذلك من الحكام المجرمين، انحنت مرة ومرة، لمن يشتهى ذلك من طغاة المستعمرين! ومن ثمَّ وضع الدين مبدأ القصاص من الحاكم، حتى لا يجرؤ على ضرب الناس كلما بدا له! وقد بدأ النبى- صلوات الله عليه وسلامه- فطبَّق المبدأ على نفسه، حتى تكون منه الأسوة الحسنة. بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم شيئًا إذ أكبَّ عليه رجل- زاحمه وضايقه- فطعنه الرسول بعُرْجُون كان معه، فتألم الرجل، فقال له الرسول : تعالَ فاسْتَقِدْ منى- اقتص- فقال : بل عفوت يا رسول الله. ولما كان ظلم الحاكم واستباحته للرعية خطيراً فى نتائجه، ويعتبر تهديداً لسلامة الدولة أرشد عمر بن الخطاب جمهور المسلمين على عهده إلى حقوقهم كاملة فقال "إنى لم أبعث عمالى ليضربوا جلودكم، ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فلْيَرْفَعهُ إلىّ ليقتص منه ". فقال عمرو بن العاص معترضا :" لو أن رجلا أدَّب بعض رعيته أتقصَّهُ منه "؟! فقال عمر : " إى والذى نفسى بيده، أقصُّهُ منه. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقص من نفسه ". وقد طبق عمر- رضى الله عنه- هذه القاعدة فى حزم يدل على بالغ اهتمامه بها، عندما أراد لذلك المصرى الأبى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص حاكم مصر، أن يقتص من عمرو نفسه. وقال كلمته الخالدة التى يزهى بها التاريخ : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمها تهم أحرارًا ". وكتب عدِّىُّ بن أرْطأة إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامل له : 078(1/77)
.. أما بعد فإن أناسًا قِبَلَنا لا يُؤدُّون ما عليهم من الخراج، حتى يمسهم شىء من العذاب. فكتب إليه عمر : أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياى في عذاب البشر، كأنى جُنَّةٌ لك من عذاب الله، وكأن رضاى ينجيك من سخط الله!- إذا أتاك كتابى هذا، فمن أعطاك ما قِبَلُهُ عَفْوًا وإلا فأحلفه فوالله لأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلىّ من ألقاه بعذابهم والسلام.. وبهذه الوصاة رفض الخليفة الراشد مبدأ الضغط على الجمهور، وإهانته حتى يدفع الضرائب المستحقة عليه!. فهل تعرف ذلك حكومات شرقية كثيرة؟!.. وروى أن قومًا من الكلاعيين، سُرق لهم متاع، فاتهموا أناسًا من الحاكة فأتوا بهم النعمان بن بشير ـ رضى الله عنه ـ، فحبسهم أياما، ثم خلى سبيلهم. فأتوا النعمان وقالوا له : خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال النعمان ما شئتم؟ إن شئتم ضربتهم، فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذت لهم من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم. فقالوا : هذا حكمك؟!، فقال : هذا حكم الله ورسوله. وبهذا رفض الصحابى الجليل مبدأ تعذيب المتهمين، لحملهم على الاعتراف. فهل تجد من هذه الأمثلة وغيرها شيئا يعين الأمراء والولاة على الاستهانة بحقوق الناس وحرياتهم. ومع هذا الهدى الواضح، فى تقرير الكرامة السياسية، فقد نُكبَ الشرق بحكومات قصمتْ ظهره من طول ما أهانَتْه وأذاقته الهوان ومن طول ما ادَّعَى أصحابها زورًا، وانتفخوا غرورًا، فضاعوا وأضاعوا، وضلوا وأَضلوا. لقد أبى عثمان بن عفان ـ وهو خليفة صحيح البيعة راشد السيرة ـ أن يصدر الأوامر بضرب الجماهير التى تأَلَّبت ضده وأحاطت بقصره. كأنه ـ رضى الله عنه ـ كره أن يُسْتَنَّ إعمال السوط فى ظهور الناس، أو يلجأ إلى استدامة سلطانه بالسيف، ومات الخليفة الراشد مستمسكا بهذه السياسة. 079(1/78)
ومع ذلك فإن عشرات الحكومات ظهرت فى الشرق الإسلامى لا تعتمد فى بقائها على أثارة من حب، أو رائحة من إعزاز، إنها ما تعتمد إلا على السيف وحده فى بقائها. وما تتوسل بالحكم إلا لضمان مصالحها الخاصة!!. وكم تظن عمق الفجوة بين هؤلاء الحكام وبين أممهم المقهورة؟ لذلك قلنا : إن أمثال هذه السلطات استعمار داخلى، وإن ما يتولد فى ظلها من ذل وقطيعة وبغضاء هو المهاد الطبيعى للاستعمار الخارجى. ضرورات : شرحنا آنفا معالم البيئة الحرة كما رسمها الدين، أتراه نسى منها عنصرًا، أو أهمل منها مظهرًا؟ كلا. غاية ما هنالك أنا نجدها مطمورة فى بطون الكتب، لاتطفربمن يعمل لها. وأنه وجد من رجال الدين- أعنى الرجال الذين مثلوا الأديان كلها، فى كل عصر ومصر- من خرج عن هذه الحدود، مثل ما خرج- تماما- الرجال المدنيون عن مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التى نادوا بها، ثم كفروا بتطبيقها، فى أكثر بلاد الدنيا، التى استمعت لهم، وخدعت بقولهم!. فالآفة ليست فى الدين. ولا فى المبادئ العظيمة القريبة من حقيقته. إنما الآفة فى النفاق السياسى، الذى ضلل الإنسانية عن غايتها، والذى أدار رحى المطامع، على أكباد الأمم المسكينة فمزقتها! وهذا يوجب على الجماهير، أن تستيقظ لتضع حدًا لهذا الافتيات الحقير وهذا الاستهتار الكبير !!. وفى العدالة الاجتماعية، والديمقراطية السياسية، ضمان لتكوين البيئة الحرة، وتنشئة الأفراد على الاستقلال الذاتى، وتعشق الحرية الكاملة، ورفض العبودية، إلا لله وحده!. وحاجة الدين إلى هذه المعانى- ليبقى- كحاجة الإنسان إلى الهواء ليحيا، وكحاجة السمك إلى الماء ليعيش. فإذا ضاعت الكرامة الفردية والاجتماعية والسياسية، لأمة من الأمم ، ثم قيل : إن الدين باق فيها، فاعلم أن ما بقى ليس إلا جثمانه الهامد، وملامحه الميتة! 080(1/79)
وعندما يشيع الغدر بالأمم، واسترقاق الأحرار، وأكل أجور الكادحين من العمال والفلاحين، فلا موضع بعدئذ إلا لسخط الله وبطشه. ومن هنا جاء فى الحديث القدسى عن الله عز وجل : "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة- ومن كنت خصمه خصمته- رجل أعطى بى ثم غدر- أعطى عهدا أو حكما أو مالا- ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى حقه من العمل، ولم يوفه أجره " . بلى، فتلك أمور يبرأ منها الدين. ولا جرم أنه يقر كل نظام يحول دون وقوعها، ويقى الناس غوائلها! إنه لا يقره فحسب، بل يدعو إليه ويناصره. *** إنه لا شئ ينال من مناعة البلاد وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مضيع منهوك، وأقلها يمرح فى نعيم الملوك..!! ومثل هذه البلاد تكاد لا تنهال على أبوابها مطارق الفتح الخارجى والعدوان الأجنبى حتى تنهار الأبواب وتذل الرقاب. وكأنما يجعل الله ذلك عقابًا لها على تفريطها فى أمرها، وعدم تنظيمها لشئونها الداخلية. وقد ذكر القرآن أن بنى إسرائيل سلط عليهم أعداؤهم، واستعمرت بلادهم لهذا السبب : (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا). وهكذا نرى التعالى الباطل والنظام الأثيم يجر على البلاد ويلات الاحتلال ويعتبر ذريعة لوقوعها فى براثنه. ثم يذكر القرآن بعدئذ المرة الثانية لسقوط البلاد فى يد أعدائها وتعرضها لغزوهم.. 081(1/80)
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا). وهذا التحذير الرادع، والتخويف الواضح، ليس قسوة من القدر على الأمم التى تَخْتَلُّ فَتُحْتَلُّ، والتى يسهل الظلم فيها فيسهل الظلم عليها.. فإن هذه الأمم أعضاء مريضة، فى جسم العالم الإنسانى الحى. ولابد من علاجها لتصح حالة العالم كله. وقد تكفل القدر بهذا : ! (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ومما يتصل بالكرامة الاجتماعية للأمة، أن يتقرر فيها مبدأ تكافؤ الفرص وإتاحة العلم والعمل والمغانم للجميع، على سواء... وهذا من أوليات العدالة، التى شرع الله لعباده. ومما يذكر أن عمر بن الخطاب أقر هذا المبدأ على أولاده، ورفض أن يتميز أولاد أمير المؤمنين على سائر المؤمنين. فقد أرسل أبو موسى الأشعرى ـ لما كان واليا للكوفة ـ بعض الأموال الحكومية إلى عمر، مع ابنين له، كانا مجندين فى الجيش القافل من الكوفة إلى المدينة، وأراد أبو موسى أن ينفع ابنى عمر من هذا المال المرسل إلى أبيهما، فدلهما على شراء بعض المحاصيل الرخيصة فى الكوفة، ليبيعاها بثمن أغلى فى المدينة، ويأخذا لنفسيهما الفرق! ولكن عمر استولى على المال المرسل، وقاسمهما الربح الزائد، لأن هذه الفرصة ما كانت لتتاح لرجال الجيش على سواء، ولا لابنيه بصفتهما الشخصية!. إنما أتيحت لهما، لأنهما من بيت الحكم، والربح من هذا الطريق لا يجوز!! وهذا التصرف من عمر شدة إحساس منه بضرورة تكافؤ الفرص بين المسلمين، وضرورة قطع الطريق، على الوسائل المريبة فى الاستغلال، وجر المنافع الشخصية، وتسليط الوساطات المغرضة، لاقتناص الفرص السانحة، من أية سبيل، وبأى ثمن. 082(1/81)
أوضاعنا القلقة:
مقارنات:
لا ندرى ، هل سيظل العمران على وجه الأرض قرنا آخر أم لا؟ ولا ندرى ما سوف تكون عليه أحوال الشرق الإسلامى ، وأحوال غيره، من أمم الأرض الأخرى. ولكننا نكتب وصفًا مقارنًا للأحوال العامة، التى نعيش اليوم فيها، حتى يدرك أخلافنا بُعْدَ الشُّقَّة بين مُثُلِناَ العُلْيا، التى ورثناها من ديننا، والواقع البشع فى حياتنا المريبة!. وليدركوا- كذلك- بُعْدَ الشُّقَّة بين مجتمعنا الزاخر بالمظالم وهو- كما يقال- مجتمع إسلامى- ومجتمعات الغرب الحافلة بآثار العدالة والاستقامة وهى- كما يقال- لا إسلام فيها ولا إيمان!. وسيتوارى الدُّعاة إلى الإسلام خجلاً، عندما يجدون أنه باسم النبى العظيم "محمد" صلى الله عليه وسلّم الذى عاش متواضعًا، لين الجانب، قد حكم جبابرة، وقام قياصرة وأكاسرة ، وأنه باسم هذا النبى الكريم، الذى عاش فقيرًا، ومات فقيرًا، قد جمعت ثروات، وخزنت كنوز، واستمتع أفراد وجاعت شعوب!!. ولن نَعْدُوَ فى وصف ذكر المشاهد القائمة، والمقالات المنشورة، وسنعرف ما الذى عرا الخصائص التى جعلت الإسلام يُسَيْطر قديما على القلوب والأقطار ويمثل فى تاريخ الإنسانية دور التجديد والنشاط والابتكار. ثم ما الذى أقعده فى هذه العصور، عن أداء رسالته، بل جعل بلاده نفسها فريسة الهوان والإذلال؟!. ولما كان كتابنا هذا خاصًا بالناحية الاقتصادية، فهاك صورًا من نقائض الحياة فى بلاد وبلاد... ولنبدأ بالدولة العجوز "انجلترا" عدو الشيوعية اللدود، هى ورضيعتها الولايات المتحدة ولننظر روابط الطبقات فيها.. ذكرت مجلة "آخر ساعة " تحت عنوان. "الملكية ". و "الاشتراكية " مايلى : " ثم تعجب- وأنت فى "لندن"- عندما ترى التوافق العجيب بين الاشتراكية والملكية... " 083(1/82)
إن شعب بريطانيا، أصبح يقدس تعاليم الاشتراكية... وهو فى الوقت نفسه يحترم النظام الملكى ويقدس الأسرة المالكة. أجل إن الأسرة المالكة فى بريطانيا، موضع حب، واحترام، وإجلال كل فرد. وقد استحقت الأسرة المالكة الحب الذى تتمتع به... إذ نزل الملك "جورج " عن جميع ممتلكاته للدولة، مقابل مبلغ ما يتقاضاه كل عام... وفتحت أبواب القصور الملكية- ما عدا قصر "بكنجهام "- لتدخلها الجماهير وتتمتع بمشاهدتها. ولقد أهدت الملكة "مارى" أخيرًا إلى الدولة سجادة، صنعتها بيدها، فى ثمانى سنوات، وطلبت الملكة أن تعرض هذه السجادة، فى مزاد بين دول العملة الصعبة... ويضاف الثمن إلى رصيد بريطانيا، من هذه العملة. ... ويتمتع أفراد الأسرة المالكة بالحقوق نفسها، التى يتمتع بها كل مواطن فى انجلترا. وعليهم ما عليه، من واجبات. فإنهم يدفعون الضرائب- كغيرهم- على ممتلكاتهم الخاصة... وحدث فى عدة مرات، أن طولب بعضهم بضرائب باهظة، فاضطروا أن يفتحوا قصورهم الريفية للراغبين فى زيارتها، نظير أجر... حتى يستطيعوا أن يدفعوا الضرائب ". ويقولون لك فى لندن : إنهم لن ينسوا فرحة الأميرة "اليزابيث " بزوج من "جوارب النايلون " أرسله أحد أفراد الشعب هدية لها فى زفافها. " ولقد بلغ من الدلال فى الاستمتاع بالحرية هناك، أن هذا التصرف النبيل من الملكة "مارى" كان موضع نقد لاخ، من الشيوعيين الذين لم يقنعهم هذا الجهد الكريم المشكور، إن اشتغال الملكة بنسج سجادة تباع لمصلحة الشعب الإنكليزى كان موضع سخرية المعارضين لنظام الحكم القائم إذ إن هؤلاء المعارضين لا يكتفون أن يكون أفراد الأسرة المالكة خدامًا لأمتهم على هذا النحو الرائع بل يطلبون- ما هو فى نظرهم حق الشعوب ومنطق المساواة- يطلبون انقضاء هذا النظام العتيق وهاك ما نشرته صحيفة "المصرى" تتمة لهذا الموضوع : استغلت اليوم جريدة "الديلى ووركر" الشيوعية، العاطفة النبيلة التى أبدتها الملكة "مارى" والدة(1/83)
جلالة ملك بريطانيا أسوأ استغلال، واتخذت منها مادة يبث دعايتها ضد الأسرة المالكة البريطانية . 084
ويذكر القراء أن الملكة الوالدة، قد قامت بصنع سجاد جميل ثمين؟ قضت فى نسجه أعوامًا طوالا، ثم قدمته هدية إلى الأمة البريطانية، كى يباع فى أمريكا، وتنفق الدولارات التى ستدفع قيمة له، فيما يعود بالخير على بريطانيا الفقيرة إلى الدولارات. وقد تحدثت صحف العالم بأسرها- ومن بينها الصحف المصرية- عن ذلك الشعور الجميل، الذى دفع الملكة الوالدة إلى التفكير فى خير بلدها فى هذه الظروف الاقتصادية القاسية، التى تمر بها بريطانيا : وقد شاءت الجريدة الشيوعية، أن تسْخر من هذه العاطفة الكريمة فاقترحت فى مقال نشرته اليوم، أن يُحوَّل جناح كامل، من أجنحة قصر "بكنجهام" إلى مصنع ملكى لصنع السجاجيد، يعمل فيه الملك والملكة والأميرات، ونبلاء ونبيلات المملكة المتحدة.! وذلك كى تكسب بريطانيا من بيعها فى الولايات المتحدة ما هى بحاجة إليه من دولارات. وقالت "الديلى ووركر" : إنه إذا ارتفع الإنتاج إلى عشرة آلاف سجادة فى الأسبوع، فإن أثمانها ستعود إلى بريطانيا بدولارات، تبلغ قيمتها أضعاف الدولارات التى ستتلقاها بريطانيا فى العام المقبل، وفقًا لمشروع مارشال. وهذه هى المرة الثانية فى خلال هذا الأسبوع، التى عمدت فيها الجريدة الشيوعية إلى النيل من الأسرة المالكة البريطانية. فقد نشرت منذ أيام قليلة صورة "كاريكاتورية" تقارن فيها بين مركز الملك والملكة، ومركز "سبترزخاما" الزعيم الأفريقى ، الذى قررت الحكومة البريطانية نفيه من بلاده، لأنه تزوج من فتاة بريطانية بيضاء.
العدالة الاجتماعية فى انجلترا :
والنظام الاشتراكى فى "انجلترا" مَثَلٌ سام لتعاون السلطات كلها، على رفاهية الشعب وتنفيذ القانون فى نطاق واسع. والملك فى هذه الجزائر خاضع خضوعًا مطلقا للشعب، إنه لا يستطيع لنفسه ولا لأحب الناس إليه ضرًا أو نفعًا. والحدود التى يحيا(1/84)
داخلها تجعله رمزًا يفيد أكثر مما يستفيد. وإنه ليذكرنا بالحكام الأوائل أيام الحضارة الإسلامية الزاهرة إنه ملك طيِّع لأمته وقوانينها لا يفكر فى النكال فيها قيد أنملة. ونثبت هنا ما نشرته مجلة "المصوَّر" تدليلا على هذا الاتجاه الدقيق، تحت عنوان : 085
ما حيلة الملك، والأمر للوزير؟…
يذكر القراء- ولا شك- تلك الضجة التى أئارها زواج ابن شقيقة ملك انجلترا "اللورد هاروود" من ابنة ملحق نمسوى ، وحضور الأسرة المالكة حفلة الزفاف. ولقد استقبل الملك العروسين أخيرًا، عقب عودتهما من الرحلة الطويلة التى قاما بها. وفى الحضرة الملكية، قال اللورد الشاب لخاله الملك : "إن زوجتى تشاطرنى الفرح يا مولاى ، إذ نراك معافى وقد استعدت صحتك..... " فرَبَتَ الملك على يده قائلا : الحمد لله، إذ لم يتجشَّم السير "جيمس ليرموث "- الجراح الملكى- عناء قطع ساقى فى هذه المرة... وعسى أن يعفى من هذا العناء دائمًا!. وسأل الملك اللورد الشاب عن أحواله، فقال : على ما يرام، يا مولاى.. على أننى سأتخلى عن الأراضى التى أملكها فى "ليدز"... فهتف الملك فى دهشة :"ولماذا؟... إنها من أقدم أملاككم، ولكم فيها ذكريات عزيزة". - هو ذلك يا مولاى... ولكن حكومة جلالتكم ترى أن توزيع الذكريات على أربعة آلاف فدان، ترف يجب أن تتقاضى عنه ضريبة باهظة!... وهز الملك رأسه وهو يقول : - أو تحدثنى عن هذا؟!... إننى لا أجهله ولكن..، ولكن ما حيلتى والأمر فى يد مستر "ستافورد كريبس "، وهو مخلص فى تطبيق القانون؟؟. " وليس بمستغرب فى بلاد هذه شئونها الدستورية، وأوضاعها الاقتصادية، أن تدور فيها انتخابات حرة 00ا% فتخفق فيها الشيوعية 00ا% ولاينجح فيها نائب واحد. فَلْنَترك انجلترا الكافرة (كذا) إلى بعض بلاد الخليج العربى ، وَلْنَمْسِك قلوبنا بأيدينا، قبل أن تذوب أسى وحسرة، أو قبل أن تتقطع حنقا وغضبا... ماذا نرى؟(1/85)
مثل واحد لقاعدة مطردة :
إن الاستيلاء على المرافق العامة، واستغلالها فى الملذات الخاصة قد سرت عدواه فى أكثر دول الخليج العربى وفى غيرها من دول البترول... 086
فبدلا من الإفادة من موارد البترول فى رفع مستوى الشعب، وسد خلته، وتدعيم ثروته، تكبر أملاك بعض الرجال المحظوظين! ويشتد عنفوان الاستعمار الداخلى! وقد مات أخيرا "الشيخ أحمد آل جابر الصباح" أمير الكويت، فذكرت الصحف : أنه يعتبر صاحب أكبر دخل فى العالم. إذ هو يكسب أربعة ملايين جنيه كل عام، أو ما يعادل 285 ألف جنيه كل شهر، أو 75 ألف جنيه فى الأسبوع، أو ستة جنيهات وستة عشر شلنًا فى كل دقيقة- حسب إحصاء الصحفى الإنجليزى الذى يقول : إن هذا الدخل خالص الضريبة، إلا ما يفرضه هو نفسه عليه ليجبيه إلى خزانته!. ومصدر هذه الثروة البترول. فانظر- رعاك الله- كيف تتبرع ملكة انجلترا بثمن سجادة من كد يديها وعينيها لوطنها. فيتحول الملك الخاص، إلى عام، إشارة إلى فناء الفرد فى الجماعة. على حين تنعكس الآية فى الشرق الإسلامى ، فيتحول الملك العام إلى خاص، إشارة إلى فناء الجماعة فى فرد... فى روسيا حيث لا إله والحياة مادة! وفى الهند حيث يقدسون البقر والقردة! وفى سائر أوربا وأمريكا حيث يعبد الثالوث! فى أرض الله الواسعة الأخرى، ينظر إلى المناجم وما تنتجه من حديد أو ذهب أو بترول على أنه ملك الشعوب الخالص، تنفقه فى مصالحها المشروعة وحسب.. أما فى بلاد الإسلام الأولى وما جاورها فإن الاستعمار الداخلى جعل ذلك ملكا خاصا لرجل، أو لأسرة... أى نكر هذا؟ وأى غرابة؟ ونحن نؤثر أن نكسر القلم قبل المضى فى سرد المقارنات والتعليقات المثيرة عندنا فى مصر!. ولنتحدث عن أثر هذه الأوضاع المقلوبة فى حقيقة الإسلام- من حيث إنه دين- وفى مصاير أتباعه- بوصفهم أمة- فهذا ما يعنينا قبل كل شيء. 087(1/86)
انتفاع الأمم بالإسلام:
سر دخولها فيه وبقائها عليه لقد استقبلت الإنسانية الإسلام، منذ أربعة عشر قرنًا، كما يستقبل المدلج المجهود مطالع الصبح الباسم، يرى فيه الهداية والرشد. أو كما يستقبل الرقيق المغلول المكدود، بشائر الحرية والعدالة، فهو يطفئ فيها ظمأ روحه إلى السيادة والسعادة. فإذا تركت المقياس الأدبى فى تقويم الإسلام- كدين- يحدد العلاقة بين الإنسان وربه على خير وجه، ويدفع هذه العلاقة فى طريق مستقيم، ونظرت إلى الإسلام بالقياس المادى المجرد- على ضوء انتفاع الناس منه- لكان ذلك كافيًا فى فهم انتشار الإسلام، وإقبال الأمم المختلفة على اعتناقه. (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ) لو كان هذا الدين "بضاعة" تصدر من الجزيرة- قديمًا لا حديثا- لأرسل أهل فارس والشام ومصر، يسعون إلى جلبها والإفادة منها، فى هدم السلطات التى عبثت طويلا بمصالحهم، وبنت كيانها على أنقاض كيانهم. إذ كان المفهوم : أن الإسلام ديمقراطية سياسية، واجتماعية، واقتصادية تواخى بين الناس، فيما لهم وما عليهم. ومن ثمَّ قامت حول الإسلام الأول، أجيال تتعصب له تعصب الخبراء الفاهمين، لا تعصب الحمقى الجامدين. أما الآن فأنت ترى وتلمس مبلغ فساد التطبيق العلمى ، بل الفقه العلمى للإسلام. ومبلغ إفادة الأمم الأخرى من الأنظمة التى تسودها... ثم نشأ عن ذلك أن الرأسمالية الغربية قامت فى بيئة تفهمها وتهضمها وتدفع عنها. وأن الشيوعية لها- كذلك- دولة تتعصب لها وتبشر بها. 088(1/87)
أما الإسلام الذى يجب أن يكون جبهة جديدة لا شرقية ولا غربية، فإن أحوال أهله خليط، من ديمقراطية واستبداد، ومن رجعية وتقدم، ومن رأسمالية وإقطاع.. وهذه الأسماء كلها رموز لأشكال من الحكم، ليس وراءها إلا الانهيار المعنوى، والتبلد النفسى. وعندما يكون بين جوهر الأمة وشكل الحكم فيها منطقة فراغ، فإن أمورها لا تؤذن بخير أبدًا..!! وإذا كانت الشيوعية- على ما بها من عورات وسوءات- قد استطاعت تكوين قوم يتعصبون لها، فكيف حالنا إذا اصطدمنا بها من غير أن نكون الجيل الذى يتعصب لنظمنا الخاصة؟ وأنى نقدر على ذلك، إذا لم يحس أفراد الشعب جميعًا باطمئنان، وارتياح إلى هذه النظم؟. إن الصراع الدائر الآن فى ربوع العالم صراع عقائد قبل أن يكون صراع أسلحة.. هناك جماهير كثيفة ألفت الشيوعية وانطبعت بتعاليمها وهى تقاتل بحرارة عنها. وهناك فى الجبهة المقابلة أمم تحترم كنائسها وتثاليثها وتقاليدها وتستميت دون أن ينال شئ من ذلك بسوء. فكيف نواجه هذه الكتل المتراصة بما لدينا من فراغ نفسى وخلخلة اجتماعية وفتور فى المشاعر وانكسار فى الآمال؟ هاك صورتين من صور التعصب للمبدأ، إحداهما من روسيا، والأخرى من أمريكا. ولعل المستقبل يجنب الشرق الإسلامى العثار، فيؤدى واجبه نحو تقاليده وأبنائه.. فنقدم له صورة ثالثة أصدق وأصح.
من وراء الحدود :
أما الصورة الأولى، فللكاتب الروسى " إيليا اهرنبورج " . ولقد رشح "اهرنبورج" نفسه لعضوية المجلس السوفيتى الأعلى. وهو يقول فى مقال- أذاعه راديو "موسكو"- : إن شعبنا لن يعيش مُؤْتَمِرًا بأمر الغير... 089(1/88)
وعبثا يحاول الرئيس "ترومان " أن يخدعنا، كعبث محاولة السناتور "ماكماهون " أن يعضنا بنواجذه. إننا فى غير حاجة إلى إرشاد الجبناء، من ملاك العبيد فى "كارولينا"، كما أننا لا نخشى بائعى "الخردوات " فى المدن الواقعة على المحيط الأطلسى. ولو كان هؤلاء يوزعون القنابل، بدلا من " الدنتللا ". ونحن مقتنعون بأن الاشتراكية أجدى من الرأسمالية، وأن الأخوة أسمى من قانون الغابة. وأن صداقة الشعوب أولى من كراهية الأجناس ". ثم تابع القول : " إننا لا نقترح تعليمهم وإرشادهم. بل نترك أمرهم ليحكم عليهم التاريخ.. غير أننا نقول لهم- فى بساطة- : إذا كنتم تظنون أنه لا يوجد ما هو أحسن من نظامكم الاقتصادى ، ومن غلاء المعيشة، ومن كساد الأسواق، ومن تقلبات الحالة المالية، ومن الإفلاسات. فلكم أن تحتفظوا بها وأن تسيروا سيرتكم التى ارتضيتموها. بل يمكنكم أن تنظموا الإنتاج وفق طريقتكم، وتعلموا أطفالكم وفق أهوائكم، وتكتبوا القصص الإجرامية، وتصنعوا أفلامًا سخيفة. بل لكم أن تضعوا أقدامكم على الموائد، بشرط أن تكون موائدكم التى تملكونها... إننا نعتقد اعتقادًا ثابتًا فى عدالة مبادئنا، وليست لدينا أية نية، فى تدعيم هذه المبادئ بالقنابل. ولقد دافعنا عن السلم منذ الأيام الأولى، لنشأة جمهوريتنا وسنظل ندافع عنه دائما ". ثم عاد يتحدث عن أمريكا فقال : "... إن الدولار أصبح معبودًا فى أمريكا. وقال : "إنه حينما كان يقيم فى أمريكا، سمع شابا يغازل آنسة بقوله : تبدين لى كمليون دولار، أى "ما أجملك" ولو أن مثل هذا القول وجه إلى آنسة سوفيتية لغضبت، ولها الحق كل الحق فى غضبها ". والصورة الثانية : تكشف عن وجهة النظر الأمريكية فى هذا التفكير الشيوعى الثائر. وأهل الولايات المتحدة مخلصون لحياتهم، راضون عن أسلوبها وليسوا مأجورين للدعاية ضد روسيا كبعض الطوائف عندنا. 090(1/89)
وقد نشر مستر "ليونارد شابيرو" الصحفى المعروف، مقالا هامًا عن روسيا، وهو من علماء القانون، وقد درس أنظمة الاتحاد السوفيتى بدقة، وقال : "إن هناك فرقًا كبيرًا بين العهود التى كانت الشيوعية المتطلعة إلى امتلاك ناصية الأمر تقطعها على نفسها، وبين الأعمال التى تحنث فيها البلشفية المنتصرة بوعودها السابقة. لقد وعد الشيوعيون سكان روسيا فى سنة 1917 "بالسلام والخبز والأرض، وإلغاء عقوبة الإعدام" . ولكن- بدلا من ذلك- استمرت الحرب الأهلية سنتين، وبدلا من الخبز، ما زال الجنود الروس يذهلون لمستوى المعيشة فى شرقى ألمانيا، برغم مرور أكثر من ثلاثين عامًا، على تأسيس النظام الشيوعى فى روسيا. وأما الأرض فقد أخذها الفلاحون لكى تنتزع منهم مرة أخرى. بواسطة نظام المزارع الجماعية الذى انتهى بخمسة ملايين، إلى معسكرات السخرة، لمعارضتهم له. وأما عقوبة الإعدام فقد عادت إلى روسيا بعد أشهر قلائل من إلغائها!!. ومن رأى هذا الكاتب : أنه لا أمل فى عقد أى اتفاق، أو أى تفاهم مع ساسة ا الكرملين!. وتحدث الكاتب عن الوعود التى وعدها الشيوعيون الشعب الروسى بشأن مصيره السياسى، وقولهم له : إن دكتاتورية الدولة ستزول من روسيا، ويخلفها نظام يكفل حرية الفرد الكاملة. ولكن حركات التطهير استمرت من عام 1928 إلى اليوم!. وأعلن "ستالين" أنه لابد أن تبقى الدولة، وأن يشتد ساعدها، مادامت الرأسمالية موجودة فى أى مكان فى العالم. ولم يكن من المصادفات أن أعدم "بوخارين" فى إحدى حركات التطهير المتتابعة. فقد كان أعظم مفكرى الحزب الشيوعى الروسى بعد "لينين" ومن أقوى دعاة اختفاء دكتاتورية الدولة، لتوفير الحرية للفرد !! 091(1/90)
والأمريكان طليعة الجبهة التى تكره الروس، وتحاربهم فكريَّا وسياسيَّا، وترى الشيوعية عدوا يجب استئصاله بالسلم أو بالحرب... والإسلام- بداهة- يمقت الشيوعية، ويراها من شر ضروب الكفر. وإن المرء ليعجب : كيف تطابق ألوف من الخلائق على أن الحياة مادة بحت، وأنه لا إله، ولا شرائع، ولا حساب؟ !! وكيف قامت للإلحاد هذه الدول الشامخة تستمسك به وتدعو إليه؟!. وفى رأينا أن هذه الفلسفة الزائغة وأمثالها- كالوجودية والفوضوية- ما نبتت واستغلظت إلا فى غيبة تعاليم الفطرة عن دنيا الناس، وشيوع ألوان من الإيمان الخرافى والظلم الاجتماعى مكنت لهذه النزعات أن تولد وتسير. ولسر ما لم تعرف هذه المذاهب الضالة إلا فى أقطار الغرب، ولم تفرخ إلا تحت جناح الصليبية الغربية الحاكمة القاهرة. والحق أن الأثرة الطائشة التى اتصف بها الأوروبيون، والمغارم التى تحملتها الطبقات الكادحة والأقطار المفتوحة فى العالم القديم كانتا السبب الفعال فى بروز الشيوعية واتساع دائرتها..! والإسلام يقوم فى ميدان العقيدة على الصلة بإله واحد يثبته العقل، ينسب إليه كل كمال ويحكمه فى كل شأن، وأغلب الذين كفروا بالألوهية كفروا بها على أنها أصنام أو أبقار أو تثاليث مبهمة، والكفر بالآلهة الخرافية جزء من حقيقة التوحيد. فإن كلمة التوحيد تتألَّف من جزء سالب "لا إله " وجزء موجب "إلا الله " فإنكار ألوهية البشر والحجر وما إلى ذلك نصف الحق. وكان يجب الاقتناع بالألوهية الصحيحة لتتم العقيدة الصادقة . وأنى يوجد ذلك فى بلاد لا تعرف دعوة الإسلام؟!. أما الثمرات الاقتصادية التى يهفو البشر للعيش فى ظلالها، فأساسها قد شرحه الإسلام فى موقفه من المال... 092(1/91)
إن الإسلام جعل الفرد حرًا فيما يكسب ويستثمر. ولكنه رفض أن يضر بالمال ويتعدى به مصلحة الجماعة. إن الإسلام أشد من الشيوعية حرصًا على تعاون الطبقات واستئصال شأفة الاستغلال والاستعلاء. وأشد من الديمقراطية حرصًا على كيان الفرد، وإطلاق خصائصه وكفالة حرياته. بيد أن الإسلام نكب خلال قرون متوالية بأقوام يعرفون ذواتهم قبل أن يعرفوا ربهم، ويقدرون شهواتهم على وحيه، ومصالحهم على أمره ونهيه. ومن هنا حفلت بلاد الإسلام بفنون من الفوضى الاجتماعية والسياسية يطيش لها الحليم.
بعض ما عندنا!
: ولعل هذا الاستعراض للمبادئ السائدة، وعواطف المتعلقين بها يدل على مبلغ ما أصاب حياتنا النفسية والعقلية، من اضطراب فى ظلال الأحوال الاقتصادية، التى نعيش فيها.. لقد سمعت رجلا يشكو من جودة هضمه، ويتساءل ماذا يفعل، ليجيب صيحات معدته التى تعلوا بين الحين والحين، وهو لايجد القوت؟!. وقرأت أخيرًا نبأ العثور على جثة محترقة بالإسكندرية، فلمَّا عرف صاحبها وانتقل المحققون إلى مسكنه، وجدوه يعيش مع امرأته فى غرفة حقيرة، كل ما فيها لحاف قديم مهلهل قذر، كان الزوجان يتغطيان به، ويضعان رأسيهما على قطعة صغيرة، من قضبان السكك الحديد.! وذكرت الزوجة أن رجلها، كان دائم الشكوى من الفقر.. فلما وجه إليها المحقق السؤال التقليدى : هل لزوجها أعداء؟ أجابت المرأة : نعم! وأشارت إلى بطنها صارخة : المعدة يابك! عدونا الأول والأخير، وهى أكبر عدو..! هذا القتيل فى الحقيقة صريع الفوضى الاقتصادية، وخواء المجتمع، من حقيقة الدين والعدالة والنظام . 093(1/92)
وإذا كانت روسيا ستجند المتعصبين لها، لكى يقاتلوا معها، وأمريكا ستحشد المؤمنين بنظامها، حتى يستميتوا من أجلها. فهل الذين تقتلهم نظمنا الاقتصادية البائدة والاجتماعية الخاوية هم الذين يدافعون عنها دفاع المتعصب المستقل؟!. إننا نوجه القول إلى حكام الشرق الإسلامى المسكين. لقد أفسدتم دينكم وأضعتم دنيانا، وبقى لكم من الدنيا ما تحرصون عليه، وبقى لنا من الدين ما نتمسك به. وهذه البقايا المتهافتة توشك أن تزول، فأمامنا الاستعمار الرأسمالى الغربى يتربص، والاستعمار الشيوعى يتهدد، والصهيونية العادية الفاجرة تتلمظ. وما هكذا تقتنص المصالح أو تساس الشعوب : أنا النذير لكم منى مجاهرة كى لا أُلامَ عَلَى نَهْى وإنذار فإن عصيتم مقالى اليوم فانتظروا أَنْ سوف تلقوْنَ خِزْيًا ظاهر العار وتصبحون أحاديثًا معلنة يَلْهُو المقيم بها والمدلج السَّارى 094(1/93)
سوء استغلال الدين فى حل المشاكل العامة:
المرض:
فى مصر أمراض متوطنة كثيرة، تنبعث من الديدان المنتشرة فى تربتها ومياهها، والغبار المنبعث فى جوها يرمد العيون. وثمَّ أمراض أخرى فتاكة تنشأ من قلة التغذية، وكثرة الإرهاق، وسوء توزيع الأعمال والأموال والعلوم المختلفة. والتقدير المادى لقيم النفوس والأجسام، يفرض على الحكومة العاقلة الراشدة، أن تحارب الأمراض، بكل الوسائل التى يملكها البشر. ذلك فضلا عن التقدير الأدبى لقيم الناس، وضرورة إنقاذهم من الغوائل التى تأتى على عقولهم وقلوبهم، فيما تأتى عليه من أجسامهم وقواهم المنتجة. والدين يحب العافية، ويعتبرها النبى- صلوات الله عليه وسلامه-، أفضل ما أوتيه إنسان بعد الإيمان بالله. ويوصى الناس بطلبها من الله- عز وجل- بعد كل أذان، واعتبر من الأدعية المأثورة التى يكررها المؤمن خمس مرات فى اليوم "اللهم إنى أسالك العفو والعافية فى الدنيا والآخرة ". وبديهى أن التماس العافية لا يكون بالتمنى على الله، بل باتخاذ الأسباب الممكنة الموصلة إلى استئصال المرض، وإشاعة الصحة العامة، وبناء المستشفيات لذلك وتزويدها بحاجتها، وبما هو فوق حاجتها من الأطباء والدواء. وهذا- بداهة- بعد رفع مستوى المعيشة، وتنظيم الأوضاع الاقتصادية، بحيث يستطيع كل فرد أن يأخذ نصيبه من الألبان واللحوم والفواكه وغيرها! تلك حقيقة يتضافر الدين مع الدنيا على تقريرها، ويعملان معًا على تحقيقها. ولكن الناص فهموا أن الدين إن لم يُرحِّب بالمرض فهو لا يبالى بدفعه! وإن اهتم بدفعه! فبالكلام القوى، أو بالكلام المريض. وذاك حسبه من واجب، يفرضه على الحكومات، ويوجه إليه الشعوب. 095(1/94)
وعندما كانت أوبئة الحمى تحصد الرجال والنساء والأطفال فى مصر العليا..، وعندما كان الموتى يحملون على الدواب كأنهم أكوام تراب، لانهيار المناكب التى تستطيع الحمل! استعانت الحكومة برجال الوعظ! فى أعمال المكافحة، لكى تستطيع إسماع القرى المنكوبة رأى الدين فى النظافة والوقاية. وهذا العمل خير فى ظاهره وباطنه، لو أن انعدام النظافة والوقاية، هو السبب الحق، فى انتشار هذه الأوبئة، أو لو كانت النصائح المجردة، هى الوسيلة الحقة لمنع هذا... ولكن الناس يعلمون علم اليقين، أن ثمةَ أسبابًا هائلة، وراء هذه القشور الظاهرة، وأن نصائح علماء الدين لم تقف من سير المرض شيئًا، لأن المرضى وذويهم، أحوج إلى المال والعون والغذاء والكساء والدواء، منهم إلى الخطب والنصائح والأحاديث والآيات... إن الجائع لا يحتاج إلى وحى من السماء يقال له : كل!. والمريض لا يحتاج إلى وحى كذلك يقول له : استشف!. بل الناس- بفطرتهم- تحت بؤرة الجوع والمرض، يتطلعون إلى الغذاء والدواء. فمن التمسح الباطل بالدين أن نقصر فى توفير الأغذية والأدوية... ثم نرسل- بدل ذلك- جملة من الوعاظ. لقد "أممت" مهنة الطب فى بلاد كثيرة. وأضحى لكل مريض حق واجب على الدولة أن تتعهده حتى يشفى، مهما بلغت نفقات دوائه. والتأمين الصحى على حياة الجمهور لا تستكثر فى سبيله الألوف. وإنها لجريمة أن تتاح فرصة التداوى للأغنياء، بل لكلابهم!!، فى مستشفيات خاصة، وأن يرمى بغيرهم فى الطريق!!. وأخشى أن تضطرب العلائق بين العمال وأصحاب العمل، فتستعين الحكومات برجال الوعظ لتسكين الخواطر وتهدئة الثوائر!!، بدلا من الجنوح إلى الحلول الصحيحة الواجبة، فى أمثال هذه المشكلات، لأن الأمر لا يعدو الاستغلال الصغير للدين مما تضيق به طبقات المنكوبين والمظلومين..! ورأى الدين الصحيح فى هذه المشكلات، يمكن فهمه من مصادره، وهو أقوم السبل لإراحة الواعظين والموعوظين على السواء. 096(1/95)
الفقر :
يعتبر الفقر سببًا ونتيجة معًا، فى سلسلة المشكلات التى نعانى ويلاتها. والفقر ـ فى نظر الدين ـ قد يكون معصية يسأل الفرد عن الوقوع فيها، وقد يكون نكبة تسأل الدولة عن ضرورة تلافيها. وعوام المسلمين يرون أن رقة الحال ضرب من التدين، وأن الفقر فى الدنيا أمارة على الغنى فى الآخرة!!. وهذا خطأ بعيد، يعمل الكثيرون على إشاعته!!. فالإسلام يعتبر الفقر مصيبة، ويعمل على تخليص الناس من آثارها، جهد المستطاع، وقد امتن القرآن على النبى صلى الله عليه وسلّم بنعمة النجاة من متاعب العَيْلَةِ والحيرة واليتم. فقال تعالى : (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى). وكان النبى صلى الله عليه وسلّم يسلك الفقر مع أحلك الأمور سوادًا، وأشدها على حياة الناس وقعًا. فكان عن أدعيته المأثورة "اللهم إنى أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت " . كذلك كان يقرن استدانة العوز والحاجة بسقطات المعاصى : " أعوذ بك من المأثم والمغرم وأعوذ بك من غَلبة الدين وقهر الرجال " . وقد بين أن الرجل المؤمن، هو الذى يملك شأنه، ويحزم أمره ويستثمر قواه، ولا يعيش فى الدنيا متصعلكا مضيعًا. روى سعد بن أبى وقاص عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه قال. " إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفى ". وكراهة الإسلام للقعود والعَيْلَةِ، جعلته يرفع منزلة العمل، ويعد التعب فيه جهادًا فى سبيل الله، والهجرة فى طلبه، هجرة إلى الله . 097(1/96)
ولعل التنقل فى جنبات الأرض ابتغاء الغنى والعفاف، هو بعض ما جاء به النظم القرآن. (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة ). *** ولم يكن النبى مسكينًا، على المعنى الذى يفهمه الناس للمسكنة الآن!!، من هوان النفس وإغلال اليد. بل كان الأعراب يرسلون إليه الهدايا لترد إليهم مضاعفة.. حتى إن أعرابتا غضب لأنه أهدى إلى النبى ناقة واحدة، فرُدَّت إليه ثلاث نياق فقط! وكان ينتظر من النبى أكثر من ذلك!!. ولقد هم النبى صلى الله عليه وسلّم ألا يقبل هذه الهدايا التجارية العجيبة.. على أن موقف النبى صلى الله عليه وسلّم من المال كان مغايرًا من وجوه عدة، لموقف الناس، مؤمنيهم وكافريهم منه. فهو صاحب دعوة نفسية وعقلية، تعتبر مبادئها رأسماله الضخم، أولا وآخرًا. فإذا انتظر الأولاد من آبائهم ميراث الدرهم والدينار فإن محمدًا صلى الله عليه وسلّم لا يورث أهله شيئا من ذلك. فقد وردت عنه : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ". هو يقول ذلك عن نفسه. على حين يقول لسعد بن أبى وقاص : "أنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ". فإذا لم يكن النبى صلى الله عليه وسلّم صاحب خزائن مفعمة، فإن ذلك لا يعيبه فى شئ ... إنما يخدش رجولة الرجل العادى أن تضيق حيله. وأن يقف تحوله، وأن تكثر ثرثرته عن الحظوظ العاثرة، والأقدار القاهرة!!. مع أن عيبه منه وداءه فيه لأنه يؤثر معيشة العاجزين القاعدين. ومسئولية الفقر فى هذه الحال تقع على الرجل المقصر. 098(1/97)
غير أن هناك رجالا يأخذون للعيش أسبابه، ويطرقون للعمل أبوابه، ويحرق الواحد منهم دمه وأعصابه.. ثم لا يجدون شيئًا بعد هذا الجهد المضنى ، أو يجدون شيئا يمسك الرمق، ويسد بعض الحاجات الملحة، ثم يجف المعين، وتسود الدنيا فى وجوههم، وتضطرم فى نفوسهم ثورة مكتومة على المجتمع والدولة، ويسوء ظنهم فى قيمة العمل والسعى... ومثل هذه الحال تظهر وتكثر عندما تضطرب الأوضاع الاقتصادية وتتدخل أمور غير إرادية، فى توزيع الخسائر والأرباح، فربما أصابت القاعدين بالربح، وربما أصابت العاملين بالخسارة!!. والدولة مسئولة ـ لا ريب ـ عن إعادة التوازن، وتنظيم الأمور وتحقيق العدالة، ولا يجوز إقحام الدين ـ عندئذ ـ فى الرضا بالقسمة والنصيب!!. لقد سمعت أحد الفقراء يشكو سوء الحال، وقلة الربح.. برغم جده. ويقول ـ معتذرا ـ : إن الجنيه يقرع الباب أولا ويسأل : هل أخى هنا؟ فإن قيل له نعم، دخل. وإن قيل : لا، يمم شطر ناحية أخرى، باحثا عن مستقره إلى جنب أخيه!. وقد يكون أخوه مدفونًا تحت التراب، أو محبوسًا فى جوف خزانة!. وهكذا تعمل الأوضاع المضطربة على أن يزداد الغنى غنى والفقير فقرًا!. وهذا كلام ينطوى على صواب كثير، وأكثر الحكومات فى العالم تأخذ به أخذا واضحًا، وتضع على أساسه سياستها الاقتصادية!!. وأقرب الأمثلة إلى أذهاننا، مكاسب الحرب والضرائب الاستثنائية، التى فرضت عليها... فمما لاشك فيه، أن أثمان البضائع قفزت بها الحرب إلى حد بعيد. وبين عشية وضحاها، أصبح التاجر الذى كان يملك ألفًا، يملك عشرة آلاف أو يزيد. واقتحمت هذه الأموال الزائدة طريقها إلى خزائن الغنى، وهو لم يكلف نفسه، حتى مشقة فتح الأبواب، أمام هذه الوفود السعيدة التى حلت به فجأة! وبينما حالة الحرب تفعل فعلها هذا، وترفع به طبقة من الناس. إذا بها تفعل نقيضه مع طبقات أخرى، فتكلفها أن تقدم دمها، وتفقد حياتها، أو تكلفها أن تعيش عيشة تعسة لا خير فيها ولا غناء. 099(1/98)
فكان لزامًا على الحكومات أن تعالج هذه المفارقات البعيدة، وأن تحسم نتائجها المربكة. فوضعت شتى القوانين لمصادرة الأرباح الاستثنائية، وحاولت أن تخفف ضغط البؤس الاقتصادى، عن الطبقات التى نكبت به. وقد تكون هذه السياسات الموضوعة، أفلحت فى تحقيق الغرض منها.. لكن يبقى البحث عن الدواء، الدواء الدائم، لحالات الحرب والسلم معًا.. تبقى الإجابة عن شكوى هذا الفقير، الذى يريد أن يعمل، وأن يربح، وأن يدخل ميدان الحياة لينتصر فيه بجده أو أن ينهزم فيه بتفريطه!. ومن المؤكد أن الجهود التى يبذلها أصحابها، ثم لا يربحون منها شيئًا، لا تذهب عبثا، بل تمشى فى مسارب ملتوية، ثم تنتهى إلى أقوام قليلى العمل، عظيمى النتائج، أى أن شقاء الملايين تسعد به- بطريق غير مباشر- حفنة من الرجال! وهذا ظلم فاضح. ومن أكبر الفواحش عند الله أن يبقى.. بل أن يستغل الدين لإبقائه. يجب أن يدخل الناس ميدانًا تتكافأ فيه الفرص وتؤدى الأسباب نتائجها، وتتأكد فيه قواعد العدل الاجتماعى الصحيح. هل العلاج فى الزكاة؟. كثير من العلماء، إذا ذكر عناية الإسلام بالفقراء، وحدبه على الطبقات البائسة، لم يجد ما يستشهد به على ذلك إلا الزكاة!. تلك الصدقة التى فرضها الله فى أموال الأغنياء حقا معلومًا يتسع لحاجات المنكوبين، ويفرج به ضيق المكروبين. وهذا تفكير محدود، واستدلال ناقص. ذلك أن الزكاة لا تعدو أن تكون ضريبة إحسان. ومصارف الزكاة التى بينها الشارع تشير إلى هذا. ومكان الإحسان المالى فى بناء أى مجتمع ليس مكان القواعد والأوتاد. 100(1/99)
ومن العبث، أن تربط حياة قسم كبير من الأمة بالفضلات التى تلقى إليه من القسم الآخر!!. والشخص الذى يستطيع العمل من كد يده، وعرق جبينه لا يجوز أن نفرض عليه الاعتماد فى حياته كلها أو جلها على الزكاة. وإلا فقد انقلبت الزكاة تشريع إفساد، لا تشريع إصلاح.. تشريعًا يعين على البطالة ويدفع إليها، ما دامت الفريضة لابد من إخراجها،ما دام المحتاجون لابد أن يأخذوا منها. وتلك كلها نتائج لا يقصد إليها الدين، ولا يمهد لها. وقد قال الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- : " لا تحل الصدقة على غنى ولا لذى مرَّة سوى ". فالرجال الأصحاء لابد أن تهيأ لهم وسائل العمل. والربح الوافر الذى يكسبونه من أعمالهم، هو الدعامة الاقتصادية الأولى فى بناء كل مجتمع صحيح، بحيث يكون موضع الزكاة معها ثانويا، يظهر مع طوارئ الضعف والعجز والتعطل والقعود. وهذا موضع الزكاة الواجب، ومصرفها المعقول. ثم إن توفير أسباب العمل أمر تلزم به الحكومة ويفرض عليها. ويباح لها أن تتخذ من الوسائل الاقتصادية، ما تراه كفيلا بتحقيق هذه الغاية العظيمة. بل يتحتم عليها أن تتخذ هذه الوسائل، وأن تبتكر من المشاريع العمرانية والتحويرات المالية، ما يقطع دَابِِرَ التعطل، ويسوق أفراد الشعب- قاطبة- إلى ميادين العمل والإنتاج. وليس فى دين الله، ولا فى تعاليم الحياة، ما يحول دون هذا. بل على العكس. هناك من التوجيهات الدينية الخاصة والعامة، ما يؤكد هذا المسلك ويستلزمه. فإن الإسلام- مثلا- يفرض التجنيد المالى إلى جانب التجنيد العسكرى ويحتم تعبئة النفوس والأموال، لخدمة الحق والفضيلة والإيمان. وتجنيد النفوس، وتجنيد الأموال، ليس عملا عسكريًا بحتًا. ومن الخطأ فهم ذلك فى عصر تطوَّرَتْ فيه الحروب، حتى أصبحت علمًا وإنتاجًا، يستنفذ طاقة الأمم حتى لا يبقى لها قطرة!. 101(1/100)
فتجنيد النفوس والأموال عمل زراعى وصناعى وتجارى. هو تسخير للقوى المنتجة، وجعلها تروسا قوية، فى الآلة الدائبة التى ينبغى أن تدور فى أوقات الحرب والسلام جميعا للإعداد والاستعداد. ومثل هذه الحالة لا يبقى معها عاطل، ولا يعيش فيها متشرد. والمساهمون فى حركتها النشيطة، هم- جميعا- جنود مجاهدون، يعرفون رسالة الحياة جيدا، ويقومون بأعبائها على خير وجه. وإلى بعض هذا يشير الحديث الشريف : " إن الله يثيب فى السهم الواحد ثلاثة نفر : الذى صنعه، والذى ناوله، والذى رمى به " . وعلى ضوء هذه الحقائق، تعرف القصد من القرآن الكريم : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم). فتستطيع كل حكومة عاقلة معقولة أن تسن من القوانين، وأن تضع من النظم ما ترى أن فيه الوفاء بحاجة الأمة، على اختلاف طبقاتها، وفاء لا يبقى معه عاطل ولا محروم. فليفهم الناس روح الدين- إن شاءوا- وليعلموا أن من حق القادر أن يعمل، وأن يجاهد فى الحياة ما دام حيا، لا أن تتسول الحكومة له الإعانات، وأن تفتح له مطاعم الصدقات، وأن يكون ذلك باسم الحنان الدينى، ووجوب إخراج الزكاة!. نظار لكم أن يرجع الحق راجع إلى أهله يوفا فتشجوا كما شجوا على حين لا عذرى لمعتذريكمو ولا لكمو من حجة الله مخرج 102(1/101)
ضوابط الملكية الخاصة فى الإسلام:
المال الذى يقع فى أيدينا، هل هو ملك مطلق لنا، نتصرف فيه كيف نشاء؟ أم هو ملك مُقَيَّد تخضع فيه تصرفاتنا لقوانين المجتمع وتقف، أو يجب أن تقف عند حدود معينة ؟ إن نصوص الدين تجيبُ على هذا التساؤل إجابة صريحة. وهى إجابة لا تُرْضى مطلقا طوائفَ الانتفاعيين ، ولا الاستغلاليين ، لأنها تغل أيديهم عن العبث والفساد والظلم! المال الذى فى أيدينا هو ملكنا على التجُّوز لا على الحقيقة. ونحن مستخلفون فيه، لينظر الله عز وجل ماذا نعمل به. فإما حكمت تصرفاتنا لنا أو علينا. وإلى هذا يشير القرآن : (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ). ويقول تعالى : (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير). وقد فهم بعض الناس أن محاسبة أصحاب الأموال على تصرفاتهم فى مالهم إنما تكون هناك- فى الدار الآخرة- حيث يسأل كل مالىّ عن ماله : " من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ " كما جاء فى الحديث. ولكن المفهوم من مبادئ الإسلام، ومن تصرفات خلفائه الراشدين غير هذا. فتصرفات السفهاء فى أموالهم وُضع لها الحَجْرُ على حرياتهم الشخصية. وهذا مبدأ تستطيع الدول أن تتوسع فيه. فكما تُنْقِذ الفرد من حماقة سلوكه، تنقذ المجتمع من حماقة بعض طبقاته! ومبدأ "من أين لك هذا؟ " أخذ به الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب " رضى الله عنه . 103(1/102)
فصادر- على أساسه- بعض الممتلكات التى ارتاب فى مصدرها، ورأى أن طريقة تملكها باطلة . والقاعدة العامة فى هذا ونحوه، نأخذها من قول القرآن الكريم : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) فهدف الديانات والرسالات الأولى : قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعى والسياسى فيهم، وتشريع القوانين المادية والأدبية التى تكفل تحقيق هذه الغاية الكبيرة بينهم. وبديهى أن الميزان الذى جاء به الأنبياء، ليس الميزان الحديدى الذى يمسكه التجار..! ولكنه الميزان الشرعى الذى يمسك به المصلحون لضبط الأوضاع والأعمال، وتوزيع الحقوق والواجبات، وتنظيم الهيئات والطبقات! وهو ميزان تتجدد أحكامه بتجدد العصور، وتتغير قوانينه بتغير الأمكنة والأزمنة. ولكن قيام الناس بالقسط، هو محور الارتكاز الذى لا يتغير أبدًا، وقد قال بعض علماء الأصول : إن مصالح الناس المرسلة، لو وقف دون تحقيقها نص أُوِّل هذا النص، وأمضيت المصالح التى لابد منها. وقالوا كذلك : إنه يجوز قتل ثلث الناس، لإصلاح حال الثلثين! فإذا كان إصلاح حال الجماعة الإنسانية يحتل من الدين هذه المنزلة. فهل تقف الحقوق المكتسبة أو المغتصبة لبعض الطوائف دون إصلاح المجتمع العام، وتحقيق السعادة لأكبر مجموعة من أبنائه؟! وهل لا يجوز بعدئذ مراقبة مبدأ الملكية الزراعية والصناعية وتوظيفه، لتحطيم قيود الجهل والرذيلة والبأساء، التى ترزح تحتها جماهير الشعوب حتى لو أدى ذلك فى بعض الظروف إلى تقييد الملكية ؟ إن التعنت فى هذا، جهل بالدين، وظلم له عظيم.. 104(1/103)
فحساب الناس على أموالهم دنيوى وأخروى معًا ورعاية المصلحة الفردية والاجتماعية والسياسية تدخل فى نطاق هذا الحساب، دخولا لاشك فيه. وللحكومة- من وجهة النظر الدينية- أن تقترح ما تشاء من الحلول، وأن تبتدع ما تشاء من الأنظمة، لضمان هذه المصلحة، وهى مطمئنة، إلى أن الدين معها لا عليها، ما دامت تتحرى الحق، وتبتغى العدل وتنضبط بشرع الله فيما تصدره من اقتراحات وقوانين . ومنع المنافع العامة، من أن تكون ملكا لشخص واحد، وجعلها ملكا للدولة وحدها، أمر لا شىء فيه. إذ ورد فى الحديث : " إن المسلمين شركاء فى ثلاثة : فى الماء والنار والكلأ ". وهذا من قبيل التمثيل للأمور التى كان لا يجوز- قديمًا- احتكارها لفرد ما، إذ إن حاجة جماهير الناس إليها سواء، فلا يصح تمكين يد واحدة من الاستيلاء عليها. فإذا اتسعت حاجات الناس باتساع الحضارة وتغير الزمن. فعلى الحكومة أن تضع يدها- باسم الشعب- على مصادر الثروة العامة، وأن تقصى المحتكرين- أفرادًا كانوا أو شركات- من محاولة استغلالها لأنفسهم، وتسخيرها وتسخير الشعب معها لمطامعهم. هل يفهم من كلامنا أننا نجور على حق التملك الخاص؟ إننا ما نقصد إلى هذا بتاتا، فحرية التملك جزء من الحرية الشخصية التى نحترمها ونود لو أحيطت بألف سياج.. من حق أى إنسان أن يعمل وأن ينال ثمرة عمله كاملة، وأن يستمتع بنتائج جهده، وأن يورث أبناءه ما اكتسب. وقد أقر الإسلام مبدأ الملكية، ودافع عنه. قال تعالى : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ). (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ). 105(1/104)
إلا أن الإسلام أكثر من القيود التى تجعل حق التملك لا ينقلب وبالا على أصحابه وعلى الناس . فالملك مقبول من حلال، مرفوض من حرام. والملك الحلال لابد أن تخرج منه حقوق شتى حتى يَسْلَم لصاحبه ما بقى له. وما بقى بعد ذلك لا يجوز أن يكون سنادًا لتطاول أسر متكبرة تحاول بقوة المال أن تحكم وتتصدر وتسوق الجماهير بثرائها أو بعصاها!. ذلك، إلى أن المرافق العامة ينبغى أن نرفع عنها أيدى الأفراد حتى لا تلقى مقاليد الأمة المادية والأدبية إلى نفر يفرضون عليها وصايتهم ويملون عليها إرادتهم.
دلالة المال المعنوية :
تزكية النفس والضمير، وترقية الخلق والسلوك، من أهم ما عنى الدين بدرسه وغرسه، وهو- وحده- مقياس الخير والشر، وميزان القيم الصحيحة للرجال. وقد تواضع الناس من قديم على اعتبار هذه الحقيقة فوق الشك والجدل، من الناحية النظرية.. أما من الناحية العملية، فوزن الرجال بجيوبهم قد يقدم على وزنهم بقلوبهم ومقدار ما لديهم من مال هو الذى يحدد مقدارهم بين الناس!. حتى شكا الشاعر من أنه حين يطلب رؤية الشريف يريه الناس الغنى دائمًا، كأن الشرف فضة أو ذهب لا علم ولا أدب : إذا قلت يومًا لمن قد ترى أرونى السرى أروك الغنى ومثل هذه الحال جديرة بعلاج الدين، حتى لا تنطمس الحقائق، ويستحق رأى الناس فى الفضائل، ويضلون طريق اكتسابها. وقد بدأ القرآن الكريم فنفى أن يكون المال- وإن كثر- مظهرًا لرضوان الله عن شخص ما، كما نفى أن يكون فى الإقتار دليل على تجرد الإنسان من الخير والفضل، فقال : (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني * كلا … ) 106(1/105)
(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) بل إن القرآن ذهب إلى أبعد من هذا، فى نفى كل دلالة معنوية عن المال فبين أنه بعض متاع الحياة الدنيا، الذى ينتهى معها إلى فناء وعدم، على حين يخلد الحق والخير، ويبقى المستمسكون بها أحياء، بعد فناء الدنيا وما فيها. وأنه لولا تخوف الفتنة على ضعاف النفوس، لقصر المال والجاه على الأراذل والأشرار. (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ومن الطريف : أن النبى صلى الله عليه وسلم حكى : " أن رجلا دخل الجنة فرأى عبده فوق درجته فقال : يا رب هذا عبدى فوق درجتى قال : نعم جزيته بعمله، وجزيتك بعملك! ". وهذا بيان جميل لرأى الدين الواضح، فى أن الرجال بأعمالهم لا بأموالهم. وقد جاءت آيات شتى، تنفى كل دلالة معنوية للمال، وتجابه الطبقات الغنية بالحقيقة التى يكثر نسيانها وينتشر الجهل بها أو تجاهلها. حقيقة إن قيمة الرجل بما يعمل لا بما يملك. ومع ذلك، فموازين الحياة المختلفة ما زالت- ولا تزال- تقوم على عكس ذلك. وشيوع البغى الاجتماعى والسياسى- تبعًا لاختلال الأوضاع الاقتصادية- يؤكد رأى القرآن فى المال عندما يفيض فيغرق ويهلك : (كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى) . (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) . 107(1/106)
ويؤكد كذلك ضرورة التحكم فيه، حتى لا يكون مثار بغى ولا طغيان. فطالما أصيبت الإنسانية فى مقاتلها، من قلة القوانين التى تضبط توزيع المال وتقيد استغلاله وانفاقه. وطالما كان وجود المال فى الأيدى العابثة الفاجرة، مثار إغواء بالعبث والفجور، يكاد يخلع الإيمان من القلوب، ويطرد الطمأنينة عن المجتمعات، لولا صيحات التحذير التى تعيد الحق فى نصابه، وترد إلى الفضائل والمثل العليا قيمتها الثابتة، وتهون من شأن المال وأصحابه. وذلك فى مثل القرآن الكريم : (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ). *** وأصحاب الأموال إنما يأخذون مكانتهم فى الحياة ووجاهتهم بين الناس لسببين : الأول : أن المال يعطى صاحبه قوة بالغة يحقق بها مآربه، ويبلغ بها أغراضه، ويستطيع- فى ظلها- الاستغناء عن الكثيرين من الناس، والكثير من الأعمال المحرجة والمضنية. والناس يدنيهم الاحتياج ويبتذلهم، ويقصيهم الاكتفاء ويمكن لهم. ومن ثم أدخلنا العوامل الاقتصادية فى تكوين الفضائل والرذائل، ولم نغفل خطرها فى تكوين الشخصية الإنسانية. الثانى : أن الدين يعد المؤمنين بحسنى الحياتين جميعًا. فهم إن آمنوا وأصلحوا، صلحت معايشتهم فى الدنيا، وصلح مستقبلهم فى الآخرة. (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) 108(1/107)
فالسعادة فى الدنيا بعض الاْجر المعجَّل للإنسان، على استقامته فيها. وقد قال الله عزَّ وجل- فى أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام- : (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) ولذلك وَهِم الأكثرون ، أن الغنى مِنَح إلهية، تدل على الرضاء العالى!. وأن السعادة المرجوة، لا تقوم إلا على ركام كَثيف من المال!. وقد تضافر هذان السببان على إعطاء الطبقات الغنية، مهابة فى القلوب، وسعة فى الجاه، مما جعل جمهور الشعب يتلقى سطوتها بالقبول والانحناء، تارة باسم الدنيا، التى يملكها صاحب المال، وتارة باسم الدين، بجعل الدنيا نصيبًا مفروضا للأغنياء، أخذوه باستعدادهم واستحقاقهم.. ولكن الدين- كما علمت- لا يرى فى المال أية دلالة معنوية. وطيب الحياة الذى وعد الله به المتدينين، لا يعنى بالتحديد كثرة المال، وبسطة الرزق، واتساع الجاه. فهذه أمور قد يصيبها المؤمن، وقد يصيبها الكافر، وقد ينالها البعيد عن الله والقريب منه، إذ قال الله تعالى : (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ). وقد ينكب المؤمن فى هذه الأمور، لعوامل طارئة، فلا تنقص قيمته. ولا تخدش كرامته!.. أما طيب الحياة المفروض للمؤمن، فمعناه أن يعيش كبير القلب، رفيع الرأس، يُقْبِل على الدنيا، ليأخذ منها زاده المادى ، ويقبل على الدين، ليأخذ منه زاده الروحى. يحرص على إيمانه بربه أبدًا، ويحرص- كذلك- على نصيبه الحق الكريم من دنيا الناس. فإن فقده نداء إيمانه بربه وإنسانيته ومُثُله العليا، فإلى حيث أَلْقَتْ، وإن وجده عونًا ومددًا لحياة نقية، بعيدة عن الهوان والطغيان، فبها ونعمت! 109(1/108)
والمذاهب السياسية والاقتصادية، التى تغمر العالم فى الفترة الأخيرة من تاريخه، تنظر إلى الدنيا هذه النظرة نفسها، والرجال الذين ينادون بها يريدون أن يعيشوا فى ظلها سعداء، أو يموتوا دونها شهداء. فالشيوعية- مثلا- فى روسيا وعدت جمهور الشعب بحياة لا شقاء فيها ولا جوع ولا بأساء. فإذا تحمل جمهور الشعب الشقاء والجوع والبؤس فى سبيل الذود عنها، حين وقعت الحرب بين روسيا وألمانيا. فليس ذلك طبيعة النظام الذى ارتضوه لأنفسهم، ولكنها طبيعة الحرب، التى فرضت عليهم. وما يقال عن الشيوعية، يقال عن النازية، ويقال عن الديمقراطية. فكل دين أو نظام يعدُ أصحابه الخير الكثير، ولكنة لا يكذب إذا كلف أصحابه أن يقدموا أنفسهم وأموالهم وكل خير لديهم فى سبيله! غاية ما هنالك أن الأنظمة المدنية لا تعد أشياعها إلا بأجزية مادية قريبة. أما الدين فَيَعِدُ أتباعه بالآخرة إن هم- فى سبيله- فقدوا الدنيا. هل يفهم أحد من ذلك، أن الدين يكره الدنيا ويحتقر المال؟؟ إذا كان الدين يُتَّهم بذلك، لأنه يأمر الناس أحيانًا أن يُضحوا بالدنيا، وأن يزهدوا فى المال. فإن الأنظمة المدنية والمبادئ الإلحادية، ينبغى أن تتهم كذلك بالتهمة نفسها، لأنها كلفت أصحابها أن يُضحوا بالرجال والأموال، ولكن أحدًا لم يتهمها بذلك. لأن سوء الفهم للدين وحده، موفور، إذ تؤيده الشهوات، وتدعمه الأهواء!.. أما سوء الظن بالمبادئ والأنظمة الأخرى فقليل أو معدوم. ليست للمال دلالة معنوية مجردة، على خير أو شر، وإن كان من الممكن أن يكون خيرًا، ومن الممكن أن يكون شرًا، على حسب الطرق التى يؤخذ منها وينفق فيها. غير أننا إذا أردنا بناء عالم جديد، تمتزج فيه الدنيا بالدين، لخير الإنسانية ومستقبلها فلنضع نصب أعيننا أولا، ضرورة تقارب الملكيات وتكافؤ الفرص، وتساوى الأفراد فى الحصول على المقومات الأولى للإنسان من غذاء، ولباس، وعلم، وخلق. 110(1/109)
ففى هذا الجو- وحده- يكون التسامى بالمواهب العظيمة فقط، وتقل أو تنعدم كل دلالة باطلة للمال، على رفعة أو جاه. ويجب ثانيًا أن يوضع من الأنظمة ما يجرد الأغبياء من مظاهر الذكاء، وما يرفع الأذكياء عن حياة الخمول والتعطل، وذلك يتطلب تقويم كفاية الفرد تقويما ماديًا، فمن ارتفعت منزلته الأدبية ارتفعت منزلته المادية. وقد كان أبو بكر يوزع على الناس سواسية، فلما جاء عمر، رفض هذا التقسيم وأعطى الناس حسب منازلهم. ذكر الدكتور محمد يوسف موسى فى كتابه " فقه الصحابة والتابعين " : كان الصديق أبو بكر يُسوى بين الناس فى أعطيتهم فلا يفضل أحدًا على أحد. قال يزيد بن أبى حبيب : إن أبا بكر لما قدم عليه المال جعل الناس فيه سواء وقال : "وددت أن أخلص مما أنا فيه بالكفاف، ويخلص لى جهادى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وحدث الليث بن سعد أن أبا بكر كُلم فى أن يفضل بين الناس فى القسم فقال : "فضائلهم عند الله. فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير ".! فلما تولى عمر الخلافة واتسعت الفتوح وتدفقت الغنائم رأى عمر فى توزيع العطاء بين الناس غير ما رأى سلفه. رأى أن لا يسوى بين من قاتل رسول الله وبين من قاتل معه! ثم جعل الناس مراتب وطبقات فى الأخذ من هذا المال، حسب درجة كل منهم فى الإسلام.. ومن كلامه فى تبرير هذا التفاوت : " ما أنا فى هذا المال إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل، وقسمنا من رسول الله صلى الله وسلّم.. "! فالرجل وتِلاَدُه فى الإسلام..! والرجل وَغنَاؤه فى الإسلام..! والرجل وحاجته فى الإسلام..! وعندنا أن مَلْحظ عمر فى تقسيم العطاء أولى بالتطبيق. فإن درجات الناس فى الآخرة حسب إيمانهم، لا تهدى الفوارق التى بينهم فى الدنيا حسب كفايتهم وجهادهم . . 111(1/110)
وإن كان أبو بكر يرى الدنيا أنزل قدراً من أن تراعى فى تقدير. وحجة أبى بكر فى صنيعه : أن حساب الناس على أعمالهم وجهادهم إلى الله وحده، فى الدار الآخرة. أما الدنيا، فالأمر أمر مِعد َ، يجب أن تملأ وأجساد يجب أن تكسى، يستوى فى ذلك الناشط والكسول، والمتقدم والمتأخر. لكن عمر أبى إلا تحقيق العدالة، وتنظيم الأوضاع، وتكريم المتقدم وتأديب المتأخر فى الدنيا، وحساب الناس- بعد ذلك- إلى الله .
حق الناس فى المال :
لا يجوز أن يبقى رجل من غير دخل- قليل أو كثير- يكفل له المستوى الواجب لمعيشته. وعلى المجتمع الدَّيِّن، أن ينظم أموره تنظيما، يؤدى إلى هذه النتيجة المحتومة، وإلا كان مجتمعًا لا دين له. وفى ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم : "أيَّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى". وقد أفتى ابن حزم وغيره من العلماء، بأنه إذا مات رجل جوعًا فى بلد اعتبر أهله قتلة، وأخذت منهم دية القتيل. وقد اعتبر القرآن أنه من التكذيب بالدين، أن تَدُعَّ اليتيم، وألا تحض على طعام المسكين. فكيف يكون رأى القرآن فى بلاد لا تهمل الحض على طعام المسكين فقط، بل تصنع الفقر والمسكنة، وتخرج إلى المجتمع الإنسانى ، ألوف الفقراء والمساكين؟!!. فكأن أنظمتها الاقتصادية آلات جبارة، تصوغ البؤس فى قوالب من أبناء آدم، ثم ترمى بهم على أفاريز الطرق، وفى خرائب الأبنية أو بين السجون والملاجئ والمستشفيات. هل نسمى هذا إلا أنه كفر بالدين، وإنكار لنصوصه وقواعده ومبادئه، إى وربى، وإن أصحاب هذه النظم هم أصحاب الميسرة فى الدار الآخرة . 112(1/111)
(وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين ) والمال الذى يكفى لإذهاب العَيْلَة، واستئصال الحرمان، وإشاعة فضل الله على عباده، يجب إخراجه- مهما عظم- من ثروات الأغنياء، ولو تجاوزت تجاوزا بعيدًا مقادير الزكاة المفروضة، لأن حفظ الحياة حق إسلامى أصيل. - ومقادير الزكاة ليست إلا الحدَّ الأدنى لما يجب إنفاقه. - وقد ورد عن النبى صلى الله عليه وسلّم " إن فى المال حقًا غير الزكاة ". ولنا كلام يأتى بعد فى أنصبة الزكاة التى فرضها الشارع. غير أننا نلفت النظر، إلى أن الزكاة فى صدر الإسلام، لم تكن المصدر الوحيد، الذى رُصِدَ لمحاربة الفقر واستئصال شأفته. إن رأس مال أى أمة ناهضة هو جهد بنيها، وكدحهم وراء الرزق، واعتصارهم أسباب الحياة من الصخور. وعلى الدول شق ميادين العمل لكل قادر، واستنفاد الطاقات المختزنة فى الأجساد لمصلحة الفرد والجماعة، فإذا توفرت ثمرات العمل أولا.. فإن الزكوات وشتى ضروب العطاء عليها بعد ذلك أن تعمل عملها الواسع فى تفريج الضوائق، وسد حاجات اليتامى والمساكين والمعوزين. فإذا جفت بعض المنابع، كان على المنابع الباقية أن تحمل العبء كاملا، وعلى الدولة أن تستنبط من موارد المال، ما توازن به شئون المجتمع، وتقيم به مصالح الناس. والدين لها فى كل ذلك ظهير . 113(1/112)
وإذا كانت الغاية التى شرعت من أجلها الزكاة، هى تحرير الفقراء من قيود الفاقة، وإطلاق إنسانيتهم من إسارها الحالك، فلْنُحَقِقْ هذه الغاية كاملة، وَلْنَحمل ما تفرضه علينا من تكاليف، قليلة أو كثيرة! لكن إبقاء كثير من الناس صرعى للفقر والمسكنة كان- والحق يقال- هدف أكثر الحكومات المتتابعة، فى العصور السابقة واللاحقة!!. إذ أن تجويع الجماهير، بعض الدعائم التى تقوم عليها سياسة الظلم والظلام!. ومن هنا انتشر الفقر انتشارًا ذريعًا فى الشرق الإسلامى، وسخر الدين ورجاله، لحمل الناس على قبوله واستساغته، وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعنى، تفسيرًا سقيمًا، نسى الناس معه حقوقهم وحياتهم، وجهلوا دنياهم وأخراهم، وحسبوا الفقر فى الدنيا، سبيلا إلى الغنى فى الآخرة، كما أسلفنا القول!. ونحن لا ننكر أن هناك آثارًا دينية، تحمد الفقر وتنوه بشأنه. ولكن ما دلالة هذا وما معناه؟ هل إذا قال شاعر : جزى الله الشدائد كل خير عَرَفْتُ بها عَدُوى من صديقى قلنا : إن الشدائد خير.. وألفنا مصلحة أو وزارة، نسميها وزارة الشدائد لتذيق الناس لباس الجوع والخوف؟!! وإذا قال القرآن الكريم فى وصف حديث الإفك، الذي طُعِنَ به شَرَف السيدة عائشة- صانها الله وكرمها- : (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) قلنا : إن الإفك خير، وألفنا جماعة لترويج الزور، ورمى الناس به، ودعوة الناس إلى الصبر عليه!! وإذا وقعنا على حديث للنبى صلى الله عليه وسلّم يمدح الفقر على النحو الذى عزيت به السيدة المتهمة بالإفك، وجدنا من بعض المتدينين من يؤلف طوائف من المتسكعين والمتبطلين باسم التصوف أو غيره، ليعيشوا فى الدنيا فقراء بائسين!! أجل، فإن الشدائد خير، وإن الإفك خير، وإن الفقر خير، مادامت الطبقات الكثيفة من الشعوب ستنام على الضيم، تاركة النعمة والترف والبذخ لمن قيض لهم هذا كله من المحتكرين والمستغلين !! 114(1/113)
وهذا هو المنطق الذى يراد أن يقبل باسم الدين...! إن مصائب الحياة قد تكون خيرًا لا ريب فيه، كما تكون السموم دواء فى بعض الأحيان لأمراض الجسد. وهناك أفراد- بل أمم- تمتلئ حياتها بمظاهر الكبر والجبروت والعدوان، وتحتاج إلى قَمْع وتأديب يَغُضُّ من كبريائها وَيَحُدُّ من عدوانها، فيبتليها الله بالآلام. وليس فى شىء من هذا ما يبيح لنا الظلم الاجتماعى، أو ما يقسم البشر إلى آلهة وعبيد. وسنَّة الله فى خلقه أن يقيم ميل الإنسانية إذا اعوجت. وأن تُعيد إليها توازنها إذا اختلتْ، وأن يرددها لذلك بين السلم والحرب، والغنى والفقر، والأمان والقلق. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين). فلنترك للقدر الأعلى أن يبرز حكمته، وأن تتخذ وسيلته، فلا شأن لنا بذلك، إنما كلفنا- ونكلف أبدا- أن نقيم العدالة بيننا، وأن نفرغ فى تحقيقها وسعنا وأن نبذل قصارانا، فى مصلحة الجماعة، وضمان حقوق الفرد، متجنبين الفتن والمحن، بكل ما نملك من قوة وتفكير. 115(1/114)
الزكاة والضريبة :
للمصالح المرسلة وأنواع القياس منزلة كبرى فى الفقه الإسلامى، فهو مرجع خصب لكبار الأئمة، يستنبطون منه شتى الأحكام، ويواجهون به صور الحياة المتجددة على قز الأيام. وإلى هذه الأصول التشريعية مثلا أمر عمر رضى الله عنه بالقصاص من جماعة، قتلوا واحدًا، فقتلهم جميعًا، وإليها كذلك، لم تعتبر أرض السواد غنيمة، تقسم أخماسًا على الفاتحين، فأبقى الأرض لأهلها، وضرب عليها الخراج وعليهم الجزية. وإليها- أيضا- أشار علىٌ بجعل حدُّ الخمر ثمانين جلدة، فإن مَنْ سكر هذى ومَنْ هذى افترى. والأمثلة كثيرة، وليس هنا موضع سردها... فى فقه الزكاة الذى يشيع الآن بيننا قصور لا يليق أن يبقى. هناك أحكام ينقصها السداد، وصور استجدت تضطرب فيها الفتيا، ويشعر جمهور كبير من المسلمين أنهم لا يعرفون رأى دينهم فيها... ومنذ أيام كنت أقرأ فى كتاب فقه استوعب الأحكام التقليدية فى العبادات فوجدت مثلا أن الأوراق النقدية لا تجب فيها زكاة عند إمامين من الأربعة! فاستغربت ذلك الكلام الذى ينقصه الجد!.. إن العالم الآن يتعامل كله بالأوراق النقدية، وقد توارى الذهب فى خزائنه العتيدة- ليكون رصيدا ضامنًا لهذه الأوراق، ثم إن الزكاة عن هذا النوع- من الأوراق النقدية- لا تخرج ذهبًا ولا فضة، إنها تخرج من جنس النصاب المقرر، وتسد حاجات الفقراء بهذا الأسلوب المستقر فما معنى نفى الزكاة فى هذه الجنيهات والدنانير والليرات وغيرها؟! وقرأت كذلك أن زكاة الزروع والثمار إنما تخرج من الأقوات التى تدخر، كالقمح والشعير والتمر والزبيب، وأن هذا رأى أغلب الأئمة. وهذا الرأى ربما اعتمد على ملابسات محلية فى جزيرة العرب لا معنى بتاتا لاستصحابها فى أرض الله الواسعة إن هناك أقطارا فيحاء تعتمد على الفواكه والموالح والقطن والكتان والتيل وقصب السكر وغير ذلك فكيف يتصور- دينا- أن زارع القطن والقصب لا تجب فى ثروته الطائلة زكاة فى حين تجب على زراع القمح(1/115)
والأرز؟!! 116
والغريب أن القرآن الكريم عندما نبه إلى حق الله فى الزروع والثمار، ضرب الأمثلة بإنتاج الحدائق وما إليها قال تعالى- : (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده). ولما كان الإسلام دينا عالميًا ينتظم البيئات كلها فإن تحديد دائرة الزكاة بالمعهود فى أرض الجزيرة تحجير لا مساغ له وهو- كما رأيت- مخالف لسياق النص القرآنى الشامل. وتتبعت خلاف العلماء فى زكاة عسل النحل فوجدت الخلاف يدور حول قيم الآثار المروية فيه أكثر مما يدور حول تمحيص الوقائع التى تعرضت لها هذه الآثار..! روى أحمد بن حنبل عن أبى سيارة المتعى قال : قلت يا رسول الله، إن لى نحلا، قال : فأدِّ العشور ، قلت : يارسول الله احم لى جبلها، قال : فحمى لى جبلها، أى خصه به. وفى عهد عمر بن الخطاب كتب والى المنطقة سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك فكتب عمر : إن أدِّى إليك ما كان يؤدى إلى رسول الله من عشور نحله فاحم له الجبل، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء. فعمر لم يعزم برأى، إن أدى الرجل عشر العسل الذى يجنيه بقى له الجبل الذى ألف النحل التردد عليه، وإلا فليس على الرجل شىء، وللناس جميعًا أن يشتاروا هذا العسل ولا حكرة فيه لأحد! ونقدة الحديث وفى طليعتهم البخارى يرفضون هذه المرويات لأحمد وأبى داود وغيرهم ولا يعتمدون عليها فى إثبات زكاة..! ومن الأئمة من يوجب فى العسل الزكاة... والذى أراه أن العسل مال، وأن العشر يجب فيه يوم يتكون دون جهد كما تجب الزكاة بمقدار العشر فى الأراضى التى ترويها الأمطار أو الفيضانات... أما أصحاب المناحل التى تتكلف رعاية وأبنية وأغذية فالزكاة فيها نصف العشر لا العشر... 117(1/116)
فإطلاق الزكاة فى العسل، أو أنه فى كل عشر قرب قربة غير صحيح. وفقهاء الظاهر لا يرون فى عروض التجارة زكاة، وهذا مذهب خطير ولكن يخفف من ضرره أن هؤلاء الفقهاء يوجبون فى أموال الأغنياء، مقادير من النفقة تقل أو تكثر بمقدار ما يذهب العَيْلَة ويسد الحاجة... وأخطر منه الرأى الحنفى الذى يأبى الجمع بين الزكاة والضريبة فى الأراضى المزروعة، وهو رأى أدنى إلى البطلان، ولا يجوز ذكره فى فتوى. ومنذ أيام سألنى صاحب سيارة أجرة يكسب منها نحو 50 جنيها فى الشهر عن حق الله فى هذا الكسب، فقلت له : أخرج نصف العشر بعد خصم الضرائب المقررة!! فقال لى صديق من العلماء : كيف قلت هذا؟ وهو لو حال عليه الحول ما أخرج من ماله إلا ربع العشر. قلت له : التحقيق العلمى للموضوع انتهى بى إلى هذا الحكم ولو أفتيت بما درست ما خرجت الزكاة من أرض تزرع، ولا وجبت إلا فى المدخرات التى حال عليها الحول كما تقول، وهى لا تمثل فى المكاسب المتداولة إلا نسبة قليلة جدًا...! لقد تدبرت شتى النصوص من الكتاب والسُنَّة، وأعملت ما ينبنى عليها من أنواع القياس والاستصلاح، ورأيت بعدئذ أن علماء عصرنا مقصرون بإزاء فريضة الزكاة، وأن كتبنا التقليدية تضبط المقادير التى تخرج عن الإبل والغنم والبقر، وما عالجه الأقدمون من هذه الشئون، وتسكت عن أمور أخرى ذات بال. وقد جدَّت فى هذا العصر مشكلات مالية، لا يجوز أن نقف أمامها مكتوفى الأيدى، كما لا ينبغى أن نتراخى فى وضع حلولها، حتى لا يضطرب الناس فى أمر دينهم، من ذلك نظام الزكاة. فالزكاة ركن من أركان الإسلام الأول، ومن دعائم أوضاعه الاقتصادية، التى يكفر من جحدها ويحارب مع المرتدين من منعها. وأنصبة الزكاة فى صنوف المال، حددها الدين تحديدًا يعتبر نصًا فى أكثر الأحوال، ونريد أن نعتبره- قياسًا- فيما سنورد من أمثال. ذلك أن الإسلام أوجب إخراج ربع العشر، من رأس المال الذى يبلغ مائتى درهم فما فوقها، والزكاة فى هذه(1/117)
الصورة، معتبرة برأس المال فقط، زاد أو نقص، أو بقى على حاله، ما دام قد مرَّ عليه عام وقد فرض الإسلام- كذلك- زكاة فى الزروع والثمار، جعلها العشر أو نصف العشر. 118
والزكاة فى هذه الصورة، قد اعتبرت على أساس الدخل الناتج، مرَّ عليه العام، أو لم يَمُرّ، ولا عبرة فيها برأس المال المُغَلِّ- وهو الأرض المزروعة، قلّت قيمتها، أو عظمت. ومن هنا نستطيع الحكم، بأن قاعدة فرض الزكاة في الإسلام، قد تكون رأس المال، وقد تكون مقدار الدخل ونخلص من هذا، إلى أن من له دخل لا يقل عن دخل الفلاح الذى تجب عليه الزكاة، يجب أن يخرج زكاة مساوية، ولا عبرة البتة برأس المال، ولا بما يتبعه من شرط. فالطبيب والمحامى والصانع وطوائف المحترفين والموظفين وأشباههم، تجب عليهم زكاة، ولابد أن تخرج من دخلهم الكبير. ولنا على ذلك دليلان : الأول : عموم النص فى قول القرآن الكريم : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض). ولاشك أن ربح الطبقات الآنفة، كسب طيب، يجب الإنفاق منه وبهذا الإنفاق الواجب، يدخلون فى عداد المؤمنين، الذين ذكر القرآن أنهم هم : (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ). والدليل الثانى : أن الإسلام لا يتصور فى حقه أن يفرض الزكاة على فلاح يملك خمسة أفدنة ، ويترك صاحب عمارة تُدر عليه محصول خمسين فدانًا، أو يترك طبيبًا يكسب من عيادته فى اليوم الواحد، ما يكسبه الفلاح فى عام طويل، من أرض إذا أغلّت بضعة أرادب من القمح، ضربت عليها الزكاة يوم الحصاد!.. لابد إذا من تقدير زكاة على أولئك جميعا، ومادامت العلة المشتركة التى يناط بها الحكم موجودة فى الطرفين، فلا ينبغى المراء فى إمضاء هذا القياس وقبول نتائجه. وقد يقال : كيف نقدر هذه الزكاة! وعلى أى نسبة تكون؟! والجواب سهل. فقد ردد الإسلام زكاة الثمار بين العشر ونصف العشر، على قدر عناء الزارع، فى رىّ أرضه، فلتكن زكاة كل دخل(1/118)
على قدر عناء صاحبه فى عمله. 119
ومن الممكن إيضاح التفاصيل، وتفريع المسائل، وتحديد القيم، بعد أن يتقرر هذا الأصل الخطير والأمر لا يستقل به تفكير واحد، بل يحتاج إلى تعاون العلماء والباحثين.
أضرار التطبيق الحرفى لنظام الزكاة :
نريد أن تؤتى النصوص ثمارها فى أوسع نطاق ممكن لها، والاَّ نحصرها فى حدود ضيقة، تبقى بعدها قليلة الجدوى، قليلة الغناء، وإلا استطاع الأغنياء أن يخرجوا من تبعة الإنفاق المحتوم، ولا لوم عليهم، وضاعت على الفقراء أموال كثيرة، الدين- فى الحقيقة- برىء من إضاعتها فمثلا ذكر لى أحد التجار أن لديه 2000 من الجنيهات رصيدا لعمله، وأنه يجب عليه أن يخرج عنها 50 جنيها، وهو القدر الواجب إخراجه للزكاة . فإذا اشترى بهذه الألفين بيتًا، واستغله بطريق الإيجار. فهل تجب عليه زكاة؟ والقواعد الموضوعة الآن، توجب إخراج الزكاة عن الألفين الموضوعين فى الخزائن لا يكسبان شيئا. ولا توجب إخراج زكاة ما عن الألفين اللذين يكسبان الكثير، عندما وضعا فى بيت للإيجار. وهذا أثر من آثار التطبيق الحرفى لنصوص الزكاة إ! وهناك أصحاب العِزَب التى تؤجر لصغار الفلاحين. يأخذ الملاك الألوف المؤلفة منها، وهم لم يَعملوا بها يدا، ولم يغيَّروا قدما، وينفقون ما يصل إلى أيديهم عن آخره، فيكاد لا يبقى منه شىء، لأنهم موقنون بأن سَتجْبى إليهم ثمرات كل شراء... وهؤلاء لا تجب عليهم زكاة لقلة ما يدخرون، على حين تجب الزكاة على المزارعين فى أملاكهم، المتعبين طول العام فى السعى وراء أرزاقهم.!! وهذا أثر من أثار التطبيق الحرفى لنظام الزكاة!! وهو ما لا يعقل أن يقرُّه الدين!!. ولو عرضت هذه الصور للأئمة المجتهدين الأوائل لكانت لهم فى ذلك آراء حاسمة ولانماع من الفقه الإسلامى هذا الجمود الذى لا يزال يقرر أن أقل نصاب تجب فيه الزكاة من الفضة مائتا درهم، ومن الذهب عشرون مثقالا، مع وحدة النقد فى هذه الأيام، وضرورة تساوى القيم من(1/119)
الذهب والفضة وغيرهما!! 120
على أن إثارة الكلام حَوْل أنصبة الزكاة وقيمها، لا يغير من معنى الزكاة الذى أشرنا إليه فى فصل سابق؛ فهى محدودة المصرف والغرض، وميزانيتها- ضاقت أو اتسعت- لا تنفق إلا فى مشروعات البر والإحسان، التى أشارت إليها آيات القرآن. أما كيان الأمة الاقتصادى، وما يتصل بهذا الكيان، من تحقيق العدالة الاجتماعية، ونشر للفضائل، ومحو للرذائل، وتعميم للثقافة، وعناية بالصحة العامة، وتنفيذ للمشروعات العمرانية، ودفاع عن البلاد، وحماية لمقومات الإنسانية ومُثُلِها العليا. وجهاد فى السلم والحرب لذلك كله، فهذا لا صلة له بنظام الزكاة. وإنما تؤخذ الأموال اللازمة له من شتى الضرائب والالتزامات، التى تفرضها الدولة، كيف تشاء، ومتى تشاء .
هل تغنى ضريبة الأرض عن زكاتها..؟
كتب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف- رحمه الله- تحت هذا العنوان بحثا قيِّمًا ورد فيه : " إن الضريبة التى تحصلها الحكومة عن الأرض الزراعية فى مصر هى خراج توظيف، ومُلاّك هذه الأرض الخراجية ليس عليهم فى مذهب الحنفية زكاة... " وهذا النقل من مذهب الحنفية صحيح، ولكنه عند التمحيص العلمى والرجوع إلى النصوص الخاصة والقواعد العامة فى ديننا الحنيف لا يمكن قبوله. وقد تكون هناك ملابسات أوْحَتْ بهذا الحكم قديمًا. أما الآن فلا وجه لاستقراره، بل لا معنى للقول به. وليس الرفق بالفقراء هو الذى يبعثنا على مناقشة هذا الرأى، بل كشف النقاب عن الحق المجرد فقط، ثم تأتى رفادة الفقراء منه تبعًا. إن الزكاة- كحق لله فى مال الإنسان- شىء يغاير الجزية والخراج والضرائب الأخرى ومصارفها التى وصفها القرآن الكريم، وحصرها فى طبقات معينة، غير مصارف الأموال التى تستولى عليها الدولة بأى اسم آخر، ولأى سبب آخر. ولا مكان للخلط بين حصيلة الزكوات، وموارد الخزينة الأخرى ألبتة. فالأساس فى فرض الضريبة، الإنفاق فى المصالح العامة، التى تعود- بطريق غير مباشر- إلى(1/120)
دافعيها، فى شكل حراسة للأمن، و تمهيد للطرق، و إقامة للجسور، وحفر للترع... إلخ. 121
وما دامت الحكومة تخدم الفرد فى نواح شتَّى، فمن حقها عليه أن تتقاضاه ثمن هذه الخدمة. فالضريبة إذا سدادٌ لمصلحة شخصية. أما الزكاة والصدقات فأساس فرضها تكليف المؤمن، أن يقوم بشىء، من حق أخيه المؤمن عليه، وقوامها البر والإيثار والرحمة. ولا يجوز صرفها فى المصالح المدنية العامة. المعنى العبادى ملحوظة فى الزكاة من الناحيتين الفردية والاجتماعية. فهى من الناحية الخاصة شكر لله على نعمائه، وتقرب إليه بإنفاذ أمره وقربة يتوسل بها لتطهير النفس وغفران الذنوب.. وهى من الناحية العامة صلة للأرحام، ودعم للأخوة الدينية، وتقريب للطبقات المتفاوتة فى الرزق، وغسل للأفئدة من الأحقاد والخصومات.. أما الضريبة فهى أدخل فى دائرة العاديات التى تواضع الناس فى كل القارات على إقرارها، ضمانًا لمصالحهم المشتركة... والناس فى كل زمان ومكان لا يرون حرجًا فى دفع الضرائب للحكومات على شرط واحد، ألا توظف هذه الضرائب فى مأرب أسرة غالبة أو فرد متحكم. ومن هنا انتهت الشعوب إلى أنه لا تفرض ضريبة إلا بموافقة المجالس النيابية، وألا تنفق إلا فى الوجوه التى ترتضيها هذه المجالس الممثلة للأمة... والدين يدخل فى دائرة العاديات مقومًا للعوج ومانعًا للانحرافات، وهو يرى أن شئون الدنيا إذا خالطتها النية الصالحة رفعت قدرها، وجعلتها عبادة مأجورة. ولكن شئون الدنيا- فى ظل القواعد الكلية وما جاء من نصوص- موكولة إلى علم الناس وتقديرهم على أية حال. ونستطيع من الناحية الإسلامية أن نضيف شيئا آخر... إن ضريبة الدفاع عن الدين والوطن تشبه الزكاة فى أنها عبادة محتومة، ولكنها تختلف عنها فى أن الجهاد بالمال والنفس لا يقف عند حدود مرسومة. فإذا تطلب الجهاد فرض ضرائب باهظة النسبة فلا حرج، ونحن لن نبخل بأموالنا، إذا بذلنا أنفسنا..!! 122(1/121)
والمهم تمحيص الأعمال لله وتخليصها من شوائب العبث السياسى والأمجاد الشخصية. وقد يقع تماس بين دائرة الزكاة، ودائرة الضريبة فتتناول هذه ما تتناوله تلك، بيد أن هذا التلاقى الجزئى لا يمحو الفروق الكبيرة بينهما، فالزكاة شىء والضريبة شئ آخر، وأحدها لا يغنى عن الآخر. والقول بأن أنواع الضرائب تسد مسد الزكاة نوع من الاحتيال على إقصاء الدين كله. والتخفف من فرائضه ونوافله. أما ما اعتمد عليه المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف فى عدم الجمع بين الزكاة والخراج فمردود من أصله... إن المسلمين لما طردوا الرومان من مصر وسورية وطردوا فارسيًا من العراق وغيرها، وضعوا عن الجماهير المخالفة فى الدين عبء الدفاع عن البلاد مقابل دفع الجزية عن الأشخاص والخراج عن الأرض... فإذا أسلم من شاء الدخول فى دين الله سقطت الجزية عن شخصه والخراج عن أرضه وحلت الزكاة والضرائب العادية محل التسميات القديمة. وقد أخرج أبو داود فى سننه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "إنما الخراج على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين خراج ". وروى أبو داود كذلك : " ليس على مسلم جزية ". ولا نريد الآن ذكر ما صنعه عمر بن الخطاب فى أرض السواد، أيام كان أهلها كفارًا. أما بعد إسلامهم، فمسألة الخراج هذه، لا ينبغى أن تتجاوز حدود الذكريات التاريخية، كمسالة الجزية سواء بسواء. للدولة أن تفرض من الضرائب ما تشاء، فى حدود المصلحة العامة، وليس هذا بكاف مطلقًا عن إخراج الزكاة. ولو صح سقوط الزكاة فى الزروع والثمار لسقطت كذلك فى التجارات وسائر الأموال التى تلاحقها الحكومة بالضرائب الباهظة. بل الحقيقة أن ضرائب الأطيان قد تكون أقل كثيرًا مما ينفق عليها من قبل الحكومة. 123(1/122)
ففى ميزانية 1949- 1955- لمصر كانت قيمة هذه الضرائب 000ر700ر4 جنيه، بينما بلغت ميزانية مصلحة الرى وحدها 000ر200ر6جنيه. أى أن الدولة ترهق بعض الطوائف الأخرى من دافعى الضريبة، لكى تحفظ للأرض الزراعية خصبها وصلاحيتها ومستوى إنتاجها. فكيف تعفى هذه الأرض من الزكاة؟ ولماذا؟! إن نص القرآن عام، فى أن كل مسلم يُؤْتى الزكاة. فما الذى يخصص هذا النص من الدلائل الأخرى؟! والسُنَّة صريحة فى أن المسلم لا يدفع جزية ولا خراجًا. فما الذى يحملنا على تضييق مصارف الزكاة، وتسمية ما يدفعه الفلاح خراجًا، يذهب إلى المصالح العامة؟!. ذاك رأى أطرحه للمناقشة والدراسة، ولكنه وقر فى نفسى، وأعتقد أنه جدير بالشيوع والاتفاق... بعد خمس وعشرين سنة من نشر هذا البحث ، ورفض البعض له قرأت بحثا نفيسًا فى الزكاة للأستاذ الشيخ د. محمد أبو زهرة " وجدت فيه تأييدًا تامًا لهذا الاتجاه، قال فضيلته فى هذا البحث.
الأموال النامية التى جدَّت فى هذه العصور :
تبين مما سبق أن العلة فى فرضية الزكاة التى يناط بها الحكم بوجوبها هو النصاب النامى بالفعل أو بالقوة، أى القدرة على تنميته وإن لم يعمل على تنميته بالفعل. وأن هذه العلة تؤخذ من تعليلات الفقهاء فى مواضع مختلفة. وبتتبع الأموال التى تجب فيها الزكاة فهى فى النقود لأنها نامية بالقوة. وتجب فى الزرع والثمار لأنها نماء الأرض والشجر، وتجب فى السائمة لأنها تنمو بمضى الزمن ولا تجب فى الأموال التى تكون لسد الحاجة الأصلية أو للاقتناء المباح شرعًا. ولذلك لم يوجبوها فى المسكن المعد لسكنى رب المال ولا أدوات الصناعة التى يعمل بها الصانع.. وهكذا . 124(1/123)
ولقد فرض النبى صلى الله عليه وسلّم الزكاة فى النقود وطبقها الصحابة من بعده فى عروض التجارة. وفرضها- عليه الصلاة والسلام- فى الزروع والثمار، وفرضها فى النعم واستنبط الفقهاء علة الزكاة فى هذه الأنواع وهى أنها مال نام. فهل إذا وجد فى هذه العصور أموال نامية بعضها لم يكن ناميًا فى عصر النبى صلى الله عليه وسلّم ولا فى عصر الصحابة ولا الأئمة المجتهدين فهل يسوغ لنا أن نفرض فيها الزكاة تطبيقًا للعلة التى استنبطها الفقهاء لحكم وجوب الزكاة؟ وإذا فعلنا ذلك لا نكون قد أتينا ببدع فى الأحكام الشرعية؟ والجواب عن ذلك : أن هذا سائغ لنا. ونحن فيه لا ننشئ اجتهادًا ولكن نطبق علة القياس كما لو رأينا مواد مسكرة غير ما كان معروفا فى عصر الاجتهاد الفقهى من مشروبات فهل نبيحها ونقول إنه لم يرد نص فقهى بتحريمها ونقول إن تحريمها تزيُّد لا يجوز؟!! " إنه يجب إذا تطبيق العلة وعندنا مسوغات ثلاثة من أقوال الفقهاء : أولها : " أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال : " ليس على المسلم فى فرسه وغلامه صدقة ". وهذا متفق عليه. وروى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال : " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ". وهذا صريح فى المنع : ولكن الإمام عمر رضى الله عنه فهم أن منع الزكاة فى الخيل كان لقلتها ولأنها لم تتخذ إبان ذلك للتنمية ولم تكن سائمة. ولما رآها كثرت واتخذت للنماء وكانت سائمة كالنعم فرض فيها الزكاة. وما كان كلام النبى صلى الله عليه وسلَّم منعًا للزكاة فيها ولكنه كان عفوًا اقتضاه الاحتياج إليها فى الحروب. ولذلك قال عليه السلام : "عفوت لكم" وإن كلمة العفو تفيد أن الموضع موضع زكاة ولكن لم يتوافر السبب. ولذلك أجمع الفقهاء على أن الخيل والعبيد إن كانتا للاتجار وجبت الزكاة على أساس أنها عروض تجارة فوجد سبب الوجوب . 125(1/124)
وكذلك إذا وجد سبب النماء فالحكم هو الوجوب وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه كان يأخذ عن الفرس عشرة دراهم. وعن البِرْذَون خمسة دراهم. وقد اتبع الإمام عمر فى هذا وفى تطبيق العلة أبو حنيفة!! فقد روى عنه أنه قال : " إن كانت الخيل ذكورًا وإناثا كانت فيها زكاة ". وروى عنه أنه لا يشترط أن يكون فيها ذكور وإناث بل إنه تجب الزكاة ولو انفرد أحد الصنفين والسبب هو أنها تتخذ للنماء. وزكاتها عند أبى حنيفة رضى الله عنه : دينار عن كل فرس أو ربما عشر قيمتها. ولعله لاحظ أن يكون الدينار مساويا لربع العشر. وإن هذا يسوغ لنا أن نقلد أبا حنيفة ومن قبله الإمام عمر فى تطبيقه النصوص من حيث تعميم العلة. ثانيها : " أنه روى عن الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه أن كانت له غلَّة تجيئه من أجرة دار له فكان يخرج الزكاة عن تلك الغلة كل عام ولما قيل له فى ذلك قال : " أنا أذهب إلى قول عمر بن الخطاب فى أرض السواد إذ كان يأخذ الزكاة منها". واقتداؤه بالإمام عمر من حيث إنه اعتبر غلة الدار كنماء الزرع فما يؤخذ منها هو ما يؤخذ من خراج على الأرض. وما يؤخذ من زكاة عن الزرع. وقال ذلك مع أن الدور كانت من الحاجات الأصلية ولم تتخذ للاستغلال إلا نادرًا. ثالثها : أن فرض الزكاة فى الأموال التى ظهرت فى هذا العصر أو فى الأموال التى تغير وصفها عن الماضى إذ كانت فى الماضى تتخذ للحاجات وصارت الآن أموالا نامية كالمصانع الكبيرة والعمائر التى تتخذ للاستغلال والحيوانات التى تتخذ للنماء. إن فرض الزكاة فى هذه الأموال ليس خروجًا على أقوال الفقهاء السابقين. بل تطبيق لأقوالهم بأن نعمِّم حكم العلة فى كل ما تتحقق فيه. وهذا يسمى تحقيق المناط. وتحقيق المناط لا يصح أن يخلو منه عصر من العصور. 126(1/125)
وقد قال فى ذلك الشاطبى فى المرفقات ما نصه : الاجتهاد على ضربين- أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة. والثانى يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأمَّا الأول- فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذى لا خلاف بين الأمة فى قبوله (ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعى. ولكن يبقى النظر فى تعيين محله) أى فى تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية. وبعد أن يضرب الأمثال المختلفة يقول رضى الله عنه : " ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر. ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست فى غيره ولو فى نفس التعيين ". ثم يقول : " فالحاصل أنه لا بد منه. وبالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ.. ولو فرض ارتفاع هذا النوع من الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا فى الذهن . وإن تعميم الأحكام الخاصة بالزكاة فى كل ما يتحقق فيه العلة يؤدى إلى أمر حق ويمنع أمرًا ظالما لأنه يؤدى إلى المساواة العادلة بين الناس فلا تجب الزكاة فى زرع من يملك فدادين ويعفى منها من يملك عمارة فخمة ضخمة تدر عليه درًا كثيرًا يساوى عشرات الأفدنة. ولا يعفى من كان له رأس مال وضعه فى مصنع يدر عليه ربحا فائضا كبيرًا. والأمر الظالم الباطل الذى يمنع فرض الزكوات على الأموال التى تدر مالا كثيرًا ولم تكن فى عهد الرسول هو أن يفر الناس مما تجب فيه الزكاة إلى مالا تجب فتكون الكثرة الكاثرة فى جانب من أبواب الكسب والقلة فى باب آخر. وربما كانت حاجة الأمة إليه أمس وأشد. على ضوء هذه الحقائق المقررة نقول : إن كل مال يتحقق فيه النماء والشروط التى ذكرها الفقهاء تجب فيه الزكاة ولو لم يكن جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإن القياس ثابت فى الفقه الإسلامى وتطبيق موجب القياس ثابت فى كل العصور والأزمان وهو نوع من الاجتهاد لا يصح أن يخلو(1/126)
منه عصر من العصور ليمكن تحقيق علة النصوص تحقيقا علميا سليما ". 127
الأوضاع الاقتصادية لله حقٌ فى مال الإنسان، فهو واهبه الأول، وللجماعة حقٌ فى مال الإنسان فهى البيئة التى نبت فيها وعاش فى جوها، وخدمته شتَّى عناصرها، خدمة مباشرة أو غير مباشرة، فلها أن تتقاضى ثمن ذلك. وكما أن حرية الإنسان الشخصية مقيدة بألاَّ يُضَارُ منها المجتمع، فكذلك حريته المالية. فللمجتمع أن يتدخل فى مال الإنسان، التدخل الذى تمليه الاعتبارات الدينية والمدنية، التى يراها لازمة، لاستقامة الأمور، وإقرار المصلحة. ولما كان رأى الدين : أن " الضرورات تقدر بقدرها " فمدى تدخل المجتمع فى مال الفرد، يضيق ويتسع وفق ما تُوحِى به مقتضيات الأحوال العامة. فإطلاق الملكيات أو تقييدها، ووضع حد أعلى أو أدنى للضرائب على رأس المال أو على الدّخل، وجعل المرافق العامة ملكا للدولة أو للأفراد، هذه كلها أمور يُخْضعُها الدين لحاجات الناس وأطوار الزمن. ولنا أن ننظر إلى حاجات شعبنا، ومطالب عصرنا، وأحوال وطننا، ونضع لأنفسنا ما نشاء من النظم الاجتماعية والاقتصادية، التى نراها كفيلة بتحقيق أهدافنا الكبرى، فى ميادين الإصلاح العام. والشعب- فى الحقيقة- يدفع باليمين ما يأخذ بالشمال. فما يؤخذ منه، يُرَدُّ عليه وينفق فى مصلحته. ولا يجوز- ألبتة- أن تستغل أموال الشعب فى النواحى الشخصية لأحد، لينفق منها على زينته، أو يسرف فى أبهته. فما لهذا تشرع الضرائب ويحل جمعها. والحكومة الصالحة هى التى ترتب أبواب ميزانيتها لخدمة الشعب والنهوض به ورفع مستواه. وإن كنا- مع الأسف- نرى مسارب المتع الشخصية لا آخر لها، فيما تنفقه الحكومات، باسم الشعب. 128(1/127)
وخطط الإصلاح التى رسمناها توجب علينا- دينا ودنيا- أن تشكل أوضاعنا الاقتصادية على نحو جديد، إن كنا حقًا جادين فى دفع غوائل الفوضى والفساد عن بلادنا. وأمامنا صًوَرٌ حيَّة، وبرامج مدروسة، وأنظمة مطبقة فى كثير من أقطار الأرض، يجب أن نقتبس منها، ما نقيم به العوج، ونحسن به الداء. ونقترح- على سبيل المثال لا على سبيل الحصر- الحلول الآتية لإنهاء بعض مشاكلنا السياسية والاجتماعية والأخلاقية. * "تأميم" المرافق العامة، وجعل الأمة هى المالكة الأولى، لموارد الاستغلال، وإقصاء الشركات المحتكرة لخيرات الوطن، أجنبية أو غير أجنبية، وعدم إعطاء أى امتياز فردى من هذا القبيل. * تحديد الملكيات الزراعية الكبرى وتكوين طبقة من صغار الملاك، تؤخذ نواتها من العماد الزراعيين. * فرض ضرائب على رءوس الأموال الكبرى يُقصد بها تحديد الملكيات غير الزراعية. * استرداد الأملاك التى أخذها الأجانب، وإعادتها إلى أبناء البلاد وتحريم تملك الأرض المصرية على الأجانب، تحريمًا مؤبدًا. * ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية، التى يعملون فيها بحيث تكون لهم أسهم معينة، مع أصحابها فى الأرباح. * فرض ضريبة تصاعُديَّة على التركات، تنفق فى وجوه الخير على النحو الذى أشار به القرآن إذ يقول : (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا). هذه خطوط صغيرة، تمهد بها لجعل الأمة طبقات متوازنة. لا طبقات متعادية، ونختم بها المآسى التى تمخض عنها نظام الطبقات المعروف بمظالمه ومخازيه. ثم يجب بعدئذ أن تمحى الأمية محوًا تاما، وأن تعمم مراحل التعليم الابتدائى والثانوى، وأن يجبر كافة الأفراد على الانتظام فى التجنيد العسكرى وأن تتكافأ 129(1/128)
الفرص، أمام أبناء الأمة جميعًا، فى أخذ نصيبهم من الحياة الصحيحة وأن تلغى الألقاب الجوفاء، فلا تبقى إلا الألقاب العلمية والعسكرية ونحوها، وأن تصادر ضروب التحلل الخلقى والإلحاد الدينى، وأن يعنى بتربية الطفولة تربية طيبة، وتوجيه الرجولة توجيهًا سديدًا فاضلا. وأن تتضخم ميزانية الدولة لتنفيذ هذا المنهاج، فلا يجوز أن تكون هناك عوائق اقتصادية، تحول دون أن تنتفع به الأمة وترتفع. ولو لم يبق لكل فرد من أفراد الشعب إلا قُوته الضرورى، لما جازَ أن تتراجع الدولة فى تحقيق هذا البرنامج، الذى تعلن به الحرب على الظلم والجهالة والاستعمار!!. أجل فَلْتفرض الدولة على الأملاك ما تشاء من القيود، وعلى الأموال ما تشاء من الضرائب، وعلى الأوضاع الاقتصادية ما تشاء من الأنظمة، فإن الدِّين ظَهِيرُها فى هذه الوسائل السهلة أو الصعبة، مادامت تريد من ورائها حماية جمهور الشعب، من أن يسقط فريسة سهلة للاستعمار الداخلى أو الخارجى على السواء.. !! وفى سبيل الإبقاء على كيان الأمم، يهون البذل عن سعة، والإنفاق فى سخاء.!
حقائق مؤسفة :
كنت أتردد على الريف بين الفينة والفينة، بُغية الاستجمام، فما أدركتنى قطٌ، عواطف الشعراء، حين كنت أعيش بين أهله، وأخالطهم عن كثب. وما فرَّج عن قلبى ما يُتَوَهمُ وجوده هناك، من الماء والخضرة والوجه الحسن!. فإن نظرتى للأشياء، واقعية اقتصادية، لا أثر فيها للخيال، ولا تطلُّع فيها للجمال... الماء؟.. إنه عَكِرٌ، يشربه الناس، ويشربون معه شتى الجراثيم فهو للارتواء وللداء معًا! والخضرة؟.. إن هذه الزروع اليانعة، يمضى فى ظلالها المستأجرون الهلكى أو الملاك المدينون، وعلى ملامحهم من غبار الأرض، قَتَامٌ حافل بالنذر من المستقبل المريب! وحتى الدواب سرت إليها- هى الأخرى- العدوى فهى عِجَاف ساهمة، برغم نشاط وزارة الزراعة، فى تلقيحها بالأمصال الواقية. 130(1/129)
والوجه الحسن! أين ترى الوجوه الحسان بين هذا الماء وهذه الخضرة؟ إن الجمال مُسخَ فى فتيان الريف وفتياته. فالكثرة الساحقة من الرجال والنساء، فيها ُصور مجملة، لأبناء آدم. أما الملامح التفصيلية، ففيها تحريف كثير ودمامة والْتواء، ترك على الجبين الكادح عروقا نافرة، وعلى الوجوه الساهمة غضونًا غائرة. ثم هناك شلل فى نماء هذه الأجسام، قلَّما ترى معه الهامات الفارعة، والعضلات الحافلة. ولولا إلغاء الجيش المرابط، لرأينا فى شوارع المدن "عينات- نماذج " كثيرة لهذه التعاسة السائدة، خفف من شدتها بعض التجميل والتصحيح، الذى يفرضه النظام العسكرى. تلك هى حال الريف.. حال المستودع الذى تأخذ منه الدولة الرجال والأموال. وتترك أسباب الفناء تعمل فيه عملها الشنيع..! فإذا تركت الريف إلى المدن، وجدْتَ مظاهر الرخاء والنعمة منتشرة هنا وهناك، ولكن حظ المصريين فى هذا كله ضئيل. إذ أن الميادين والشوارع الكبرى تكاد تكون وقفا على رءوس الأموال الأجنبية!. ولسنا ننفى أن للوطنين حالا فى هذه الأعمال والمشروعات الضخمة. غير أن الأجانب يظفرون منها بنصيب الأسد. ولا تزال الأحياء الوطنية أمثلة باقية ناطقة بالفوضى العمرانية، والهون والهوان المادى والأدبى الذى يعيش فيه جمهرة الشعب. وكم فى الغرف الحقيرة، والأزقة المظلمة، والخرائب المتهدمة، من كفايات مقبورة، وعزائم مقهورة، ونفوس نَسِيَت النور من طول ما قبعت فى الظلام. عندما أزور "مصر الجديدة " يلفت نظرى ما يبدو على هذا الحى الفخم من سعة وجمال ونظافة، وما يستمتع به أهلوه من راحة وطمأنينة، وتذوّق للحياة الطيبة. 131(1/130)
وليس هذا ما أريد أن أسجله، إنما الذى أريد تسجيله، أنه- إلى جانب هذه القصور الشاهقة، والمبانى الرائعة- توجد أرض أخرى فى أحياء قريبة، عليها بيوت كأوكار الثعالب، وفيها وحشة كأنما خُلعت عليها من صمت القبور. يقطنها أقوام، عضهم البؤس، وتفهم فى أرديته الكئيبة. وهذه الأرض- بما عليها من جدران وقطعان- تسمى " عزبة المسلمين ". والحق أن هذه التسمية تترك فى القلب أئما ممضا وأسفا عميقا!. وتجعل الرجل يخجل من نفسه، ومن جماعته، ومن دولته... وتجعله يشعر ما فى هذه التسمية من غمز وتحقير!. لا لمسلمى مصر فحسب، بل للمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها. ولعل سر هذه التسمية، أن شركة أجنبية، هى التى تولت بناء الجزء الفخم فى الحى الفخم، تاركة لنا أن نعمر عزبتنا الحقيرة بأيدينا، إن استطعنا التعمير. ونحن مذهولون عن ذلك، لأننا مقيدون بميراث ثقيل، من سوء الفهم فى الدين والدنيا جميعا.. ومشغولون عن التعمير المادى والأدبى، بالثرثرة الإصلاحية، والألاعيب السياسية، والمشاغل الشخصية... ولا علينا أن تكون منزلتنا الاجتماعية ممثلة فى عزبة إلى جانب قصور. فإن منزلتنا السياسية فى العالم، منزلة الخرب من المعمورة، أو الظلام من النور... وقالوا : إن الحكومة صح عزمها على مكافحة الجهل والفقر والمرض. وسواء كان الغرض من المكافحة تأمين البلاد ضد الشيوعية. أو قطع حجة الإنجليز فى صلاحية مصر للاستقلال، أو الرحمة الحقيقية بعباد الله، من أن تأتى على بقيتهم أخطار هذا الثالوث الوبيل. أيا ما كان الأمر، فإن هذا عزم نسر به، ونرجو أن يأخذ طريقه إلى الحياة والنماء. ولكن بوادر التنفيذ إلى الآن توحى بأن الأمر هزل لا جد !. 132(1/131)
والدعاية التى سبقت مشروع المكافحة، لم تتمخض عن أمر ذى بال. فقد وكل إلى "الروتين " الحكومى المعتاد، وإلى بعض المجالس والمصالح المعروفة، أن تقوم على إنقاذ البلاد من أخطار هذا الثالوث الفتاك!. ومع أن الحالة تحتاج إلى تجنيد عام، وإلى تسخير أبواب الميزانية- جلها إن لم يكن كلها- لإنقاذ الوطن من هذه الأعداء الداخلية المتغلغلة فى تربته من قديم. إنهم لو ألفوا وزارة مختصة بعلاج هذه المشاكل، على نسق وزارة الشئون الاجتماعية، ما استبشرنا بذلك خيرا. فمشاكلنا أعقد من ذلك وأعصى، على مثل هذا العلاج الضعيف. غاية ما سيحدث، أن أموالا ترصد، وموظفين يعينون، ومشروعات يعلن عنها، ثم يبقى الجهل والفقر والمرض، كما بقيت أوضاعنا الاجتماعية مختلة، لم تصلحها الوزارة التى ألفت باسمها، وكونت لإصلاحها. وعندما يذهب المريض إلى طبيب يشخص له الداء، تشخيصا مغلوطا، ثم إلى صيدلى يركب له الدواء تركيبا مسموما!. فأنى يجىء الشفاء، وكيف تنتظر النجاة؟؟! إن الحكومات المتعاقبة، تتجاهل مصدر الشر وأساس البلاء، وهى تبذل الأموال، وتسخر الرجال لغسل الظل المرسوم على الأرض، ولا تفكر فى أن تزيل الجسم، الذى يلقيه إلقاء ويثبته إثباتا...!! وقد تنكمش- لعوامل خارجة- ظلال الأحزان التى تغمر بناء هذا الوادى، ولكنها لن تزول، إلا إذا زالت الأوضاع المعوجة، وإلا إذا طلعت الشمس، فلم تجد أشعتها عائقا، يرد عن الناس أسباب الضياء والنماء . 133(1/132)
المجتمعات المسخطة لا يزدهر فيها دين:
جهد ضائع :
حيث يوجد الهوان المادى والأدبى لا يُرْجَى خير، ولا يؤمن شر، فالإنسان المغلق الخامل المحطَّم، لا ينتفع بالدين، ولا ينتفع به الدين!. ما الذى يفيده الإسلام من رجل طُمِسَتْ حياته، وشاهت ملكاته، وعاش على ظهر الأرض حفنة من ترابها، أو قطعة من صخورها؟ إن الإسلام لا يستفيد شيئا من هذا الشخص. بل إنه يُضارُّ به ويَهُونُ فيه. والإناء الملوَّث يُزْرَى بأطهر السوائل ويبخس قيمتها. كذلك الشعوب العاجزة الكسول، تحط من مكانة الأديان التى تعتنقها، وتهبط بمستوى العقائد التى تنتمى إليها..!! وكما أن الدين لا ينتفع بتابعه الهيِّن، فإن التابع الهين لا يحسن الانتفاع مما سيق إليه، من مواريث نفيسة، ولا مما أحيط به من مبادئ غالية، كالجاهل الذى يلقى نفسه فى مكتبة حافلة، أو الممعود الذى يواجه مائدة مفعمة!!. بل إن الأتباع الحمقى، كثيرًا ما يفرضون سفههم على أسمى الحقائق!. فبدلا من أن يرتفعوا معها إلى القمة، يهبطون بها إلى السفوح!!. ومن ثمَّ يجب أن نقرر هذه الحقيقة، فى علاجنا لمشاكلنا المعقَّدة. إن شعوب الشرق الإسلامى تحتاج- قبل أن تفهم الإسلام، وقبل أن ينتظر منها إعزاز الإسلام- إلى جهود جبَّارة، لرفع مستواها المادى والأدبى. أى إلى تصحيح إنسانيتها أولا. حتى إذا كوَّنَّا الإنسان الذى يعقل ما يُخاطب به، ويعرف واجبه نحوه، قلنا له : انصر ربَّكَ ونفسك، إذا شئت الحياة الكريمة فى يومك وغدك. أما جهود المصلحين- قبل اتخاذ هذه الخطوة- فهى أمواج من الماء، تتدفق على صحراء من الرمال.. هيهات أن يكون لها ثمر !!. 134(1/133)
ما الدين؟
والدين فى حقيقته؟ ليس إلا إكمالا لمشاعر الإنسان، وتصحيحًا لمواهبه. فهو عقل يحسن التفكير، وعين تُحسن النظر، وأذن تُحسِن السمع، ويد تُحسِن العمل.. والمؤمن على هذا- إنسان ناضج الفهم، والتأمل، والحكم على الأمور. إنسان جيد الإنتاج والآثار والتصرفات... فإذا اضطربت هذه المعانى فى نفسه، اضطرب معها مصدر الإيمان فى قلبه وَلبِّه، وتقلصت معها حقيقة إنسانيته. ولا تزال طوائف من الناس تفقد إيمانها وإنسانيتها معًا، حتى تدمغ بوصف القرآن لها. (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ). والمرء يستحيل دابة، يوم يموت فيه عقله المفكر، وترتكس فيه مشاعره اليقظة، فيصبح غير مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده، لأن ليس له من ذلك إلا ما للحيوان السائم. حواس مسخرة فى أغراض الحياة الدنيا فقط. وأمثال هؤلاء هم- مع الأسف العميق- قوام الجماهير الغفيرة، التى أعماها الجهل، وأوهاها المرض، وأهانها الفقر، قوام الكتل الضخمة من البشر، الذين يزخر بهم الشرق، ولا يتقدم بهم إلى الأمام خطوة، بل يتأخر بهم خطوات، أو هُمُ التراب، الذى تبرد فيه حرارة الإسلام وتتبدد قواه، كدين موجه فعال. هذا الهوان المادى الأدبى، لا ينبغى حسبانه دينًا، أو ظلاً لدين!. فهو عار ولدته بيئات آثمة لا تتصل بالدين إلا ادعاء، ولا يتصل بها الدين إلا مشَّوها مظلومًا مفترى عليه!. ولكى نطمئن إلى وجود ديانة صحيحة وأتباع محترمين، يجب أن نسارع إلى محو كل أثارة للفقر والجهل والمرض، وأن نخلق جيلا جديدًا، يصلحُ- بفطرته- لأداء الرسالات الكبرى، وحمل أعبائها. 135(1/134)
رجال ورجال:
كلما نظرت إلى الرجال والنساء، فى الريف البائس المكروب، أو فى زحام الأحياء الوطنية بالمدن، أو حيث أعمل لوعظ الناس بالمساجد وأشباهها من الأندية الدينية، كنت أرى أن هناك حلقة مفقودة، لابد منها، ليتصل هؤلاء الناس بالدين، اتصالا مُجْدِيًا عليه وعليهم. فقد يحدث أن تبذل وقتًا، فى تطبيب دابة جريح، وأن تبذل الوقت نفسه فى إصلاح سيارة عاطلة، أو طيارة مهيضة. ولكن النتائج التى تحصل عليها من وراء هذه الجهود، تتفاوت تفاوتًا كبيرًا. والذى يركب الدابة بعد شفائها، غير الذى ينطلق بالطائرة بعد إصلاحها!. والتبشير بالدين بين الشعوب البليدة الوانية المترنحة، قد يكسب الدين عددًا من الأنصار الكسالى، أو الأتباع السكارى... فهل هذه الثمرة، هى التى تحصل عليها، لو جئت من بداية الأمر، فعملت على فتح العقول المغلقة، وإنماء المواهب المشلولة، وإعزاز النفوس الكسيرة، وإبراء الأكمه والأبرص؟! فإذا قدمت للدين بعد ذلك أحدًا، قدَّمت قُوَّةً، يعمل به، لا عقبة يضطرب خيالها.!! إن النبى- صلوات الله وسلامه عليه-، وَجَّه دعوته الأولى للعرب، وهم- على كفرهم الموروث- قوة لا يُستهان بها فى موازين الرجولة. أجسام لم تستنزفها الأمراض المتوطنة، وكفايات خلقية عارمة، لما كانت فى جانب الضلال، جعلته مرهوب العدوان، فلما نقلها صاحب الرسالة العظمى من الغى إلى الرشاد، جعلت الحق مهيئا، وطوَّفت به أقطار الأرض، تصارع دونه الأبطال، وتزلزل أمامه الجبال. وأمام الشعوب الإسلامية الآن مراحل من صحة الأبدان والأخلاق، ومن كفاية العمل والنظام، ومن روعة الإنتاج وإخصاب المواهب... 136(1/135)
مراحل طويلة يجب أن تقطعها على عجل، حتى تقف على قدم المساواة، أمام شعوب الغرب الكافرة بالإسلام، بل المتمردة على الديانات جملة. إن هذه الأمم المحسوبة على الإسلام، لن ترفع به رأسًا، ولن ترفع له عَلَمًا، مادامت تعيش فى هذا الدرك من الهوان الإنسانى.
قيمة العقل فى الدين :
إن حدَّة الذكاء، ويقظة الفكر، واستنارة الرأى، عناصر لابد منها فى تكوين الإيمان الصحيح، فإن الإيمان معرفة بلغت حدّ اليقين، وانتفت معها الريبة. وحيث لا يوجد الإدراك الواضح، والفهم الناضج، يصبح اليقين غير ذى موضوع!! ولا يحسب أحد أننا بذلك نظلم البلهاء، أو نغمط الحمقى حقهم- إن صحت لهم حقوق- بل إننا نستوحى هذا الحكم، من نصوص القرآن الكريم نفسه. فالعقول الذكية وحدها هى التى تستطيع اختراق أسرار الكون، ومعرفة آيات الله فى شتى الأمكنة والأزمنة. (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ). والعقول الذكية وحدها، هى التى تميز الحق من الباطل، وتعرف حقائق الوحى، من نزعات الهوى وتلفيق الضلال : (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ). والعقول الذكية وحدها، هى التى تستفيد من عِبَر الماضى، وتنتفع بتاريخ الإنسانية الطويل، وقصص الأبطال أو الأنذال، من المصلحين أو المفسدين : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب). 137(1/136)
ولا تكون الحكمة فى معالجة الأمور، والدقة فى الحكم على الأشخاص والمسائل، والبصر بالمقدمات والنتائج، إلا لأصحاب العقول الراجحة، والمدارك الواسعة، والمواهب الرائعة. (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ). وتربية العقول، وإذكاء المواهب، وتفتيق الملكات الإنسانية ليس أمرًا هيِّنا. فمراحل التعليم فى المدرسة، ومراحل التجريب فى الحياة، واستيراد الأفكار البعيدة، وضم ما لا نعرف إلى ما نعرف، والنظر فى الجديد نظرة تلطف وإيلاف، لا نظرة جمود واعتساف، والتطويف فى آفاق العوالم المادية والأدبية. هذه جميعًا، وسائل العقل الإنسانى، ثم هى بَعدُّ وسائل العقل السليم لمعرفة الله، وحسن الإيمان به، والإفادة من دينه. إن عمل العقول الكليلة فى آيات الوحى، هو عينه عمل الحشرات القارضة فى أوراقه، عندما يَدّبُّ فيها البلى، تتلفها ولا تعرفها، وتظلمها ولا تنصفها. وذاك سر التدهور الاجتماعى، بين جماهير الأميين من المسلمين وغيرهم. وما أبعد هذه الكتل الأميَّة عن الدين! مهما زعموا لها من إيمان العجائز !!. نعم قد يكون هناك من ذوى العقول القوية من يَحِيدُ عن مناهج الاستقامة، وأصول الفضائل، ومن يتمرد على تعاليم الدين!. بَيْدَ أن هذا يُقَلِّل من قيمة العقل، ولكنه يبين لنا خطورة الشهوات الجامحة، والأهواء التى قد تصرف المرء عن الحق وهو يعرفه. ثم إن محاربة الجهل أن يطغى على العقل، لا تغنى عن محاربة الفساد أن يتطرق إلى الفؤاد. والنَّكْسَة التى أصابتنا فى تاريخنا الطويل، جاءت من فساد عقول العامة ومن فساد ضمائر القلة الحاكمة. فإذا أصلحنا العقول بالتعليم الشامل، صَحَا الشعب، فلم يبق أمام فاسدى الضمائر مُتَّسعٌ للبقاء. ذلك أن الشعوب المتعلمة قوة، يجرف تيارها القذى والغثاء. 1 ص(1/137)
(فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). فلنعمل- على عجل- لرفع المستوى العلمى، فهذه وحدها هى السبيل، زعموا أن ظريفا، سمع رجلا يشكو إلى الله علته، ولم تكن علته من داء واحد، فأخذ يسأل الله أن يشفى له بصره المرمود، وبطنه الممعود، وقلبه المضطرب وقدمه المختلج و.. و.. فقال له الظريف : يا أخى بدلا من أن يرفع فيك هذا كله يأخذك ويخلق غيرك! هذه الفكاهة التى أداروها حول المريض المسكين، ذكرتها فى نفسى عقب إلقاء عظة طويلة على المصلين فى مسجد السيدة زينب، وبعد نظرة عميقة إلى العلل النفسية والعقلية والبدنية، التى تعمل عملها فى جمهور هذه الأمة. إن هناك كثيرين من أبناء الجيل الحاضر يعز على الإصلاح حالهم، لأنهم مصابون من نواح شتى، ولأن الالتواء الذى حدث فى نظرتهم إلى الحياة، يكاد يصبح فيهم خليقة ثانية، فأنت لا ترفع خرفا حتى يظهر لك فتق جديد..! وقديما قالت امرأة عجوز : أضحى يمزق أثوابى ويضربنى أبعد شيبى يبغى عندى الأدبا ؟! إننى أنصح بالاتجاه إلى الناشئة، والعناية بمغارسها، حتى يتم نماؤها على خير الوجوه، فإن الأجيال التى مرنت على الظلام تستغرب النور. (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم). 139(1/138)
نتائح محزنة :
يربو عدد المسلمين فى العالم، على عدد اليهود خمسين ضعفا. وقد مثل هؤلاء اليهود مع المسلمين، الرواية التى يمثلها اللص العادى مع صاحب البيت الوادع !. وبدلا من أن يقاد المجرم إلى التحقيق، وينتصف منه لصاحب الحق المهضوم، فإن اللصوصية الدولية أهدرت الحق الواضح، ومن ورائه أربعمائة مليون مسلم، وآزرت الباطل السافر، ومن حوله عشرة ملايين يهودى. لأن معسكرات السياسة الدولية القائمة على المنافع المحضة، استهانت بالكثرة المحقة، ولم تحرص على كسبها ولم تبال بنبذها... على حين خطبت ود اليهود، وسترت مخازيهم وزوقت باطلهم وحاربت فى صفهم! ولماذا كل ذلك التجنى والجحود؟! لأن القلة اليهودية التى تحدتنا- على كثرتنا- تسلحت بآخر ما وصل إليه العقل الإنسانى، من قوى علمية ومادية، فأصبحوا بين أحزاب العالم المتحفزة موضع رجاء وخوف، على حد قول الشاعر : إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفعا فأما المسلمون، فلا تزال أحوالهم العامة، تجعلهم موضع الأسى من الصديق. وموضع الشماتة من العدو!!. ولا ريب أن هذا الظلم الفادح، الذى أوقعته بنا السياسات الكبرى قد هزنا هرا، واستيقظنا منه على قارعة أثارت الحفائظ ونبهتنا إلى ما ينبغى عمله، لضمان مستقبلنا بعد ضياع حاضرنا. فلنذكر أن الإسلام يجعل المسلم أهلا للنصر، يوم يكون ذلك المسلم أرجح فى ميزان الحق، من عشرة آخرين. 140(1/139)
(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون). والكلمة الأخيرة فى الآية هى مفتاح الموقف. فعندما تكون النفسية الإسلامية والعقلية الإسلامية أعظم اتساعا، وأطول باعا وأسبق فى ميدان المعرفة، وأقدر على إنشاء الحضارة، وأرسخ فى حماية المثل العليا، وعندما تكون الأمية العقلية والاجتماعية فى جانب غيرنا، لا فى جانبنا، وعندما نوصف بالذكاء ويوصف عداتنا بالغباء ويقال فينا : إننا نفقه، وفى خصومنا : إنهم لا يفقهون كما تنص الآية الكريمة... عندئذ فقط نحل قضايانا بأيدينا. ونلزم الحياة أن تتبع قواعد العدل، ثم تعنو الحياة لنا طوعا وكرها، لأن البقاء للأصلح حتما..!! وقبل أن نصل إلى هذه المرحلة، لن يقدر المسلم أن يقف أمام عشرة بل سيحدث العكس، وسينتصب اليهودى أمام عشرة منا.. لا. بل إنه قد وقف- فعلا- أمام أربعين....!! لماذا؟ ولك أن تسأل دهشا : لِم تكون هذه أحوالنا وأوصافنا، ولِم تمضى سنة الحياة فينا على هذا النحو القاسى؟ أخلقنا من طينة غير طينة هؤلاء الذين يسودون الدنيا ويقودونها..؟!! والجواب كلا… فسادة اليوم، هم عبيد الأمس، وعبيد اليوم هم سادة الأمس. والنفس الإنسانية تذوى وتنمو، وتنكمش وتمتد، على حسب التربة التى تحيا فيها!! ولو أتيحت لشعوب الشرق الفرص التى أتيحت لشعوب الغرب لبُدلت الأرض غير الأرض. ألست ترى أرجُل البشر تكبر على طبيعتها هنا وهناك؟! حتى إذا ذهبت إلى الصين- حيث يلبس البعض أحذية من حديد- وجدت أقداما ضامرة شل الحديد نماءها منذ الطفولة!! إن لدينا أنظمة، هى وأحذية الحديد الصينية سواء.. أنظمة تركت وراءها حطاما من الأجيال الهامدة، التى عاشت عمرها فى صراع مع الضرورات المذلة . 141(1/140)
ومثل هذا الصراع يموت فيه المنهزم موتًا ماديًا، محرومًا من العافية والاستقرار، ويموت فيه المنتصر موتًا أدبيًا. فأنى الترقى والازدهار لمن يقنع فى حياته بنيل ضروراته؟! أنظمة تجعل الحياة فى المجتمع دون الحياة فى الغابة!. فإن الطيور تغادر أعشاشها، سعيًا وراء رزقها، فتغدو خماصًا ، وتروح بطانًا، فنتيجة سعيها تكون مكفولة. فكيف الحال فى مجتمعات يرهق العامل فيها نصَبًا، ويقضى حرمانًا.؟ أجل.. قد تكون آجال الحيوانات فى الآجام رهنا بجوع السباع وشبعها، أفتحسب الحياة فى بعض ربوع الشرق أفضل من ذلك؟! لا تزال هناك أمم تعطى حق الحياة لكبارها أولا... ثم لصغارها ما عنت وجوههم لهؤلاء الكبار. وما استغنى الكبار عن افتراس هؤلاء الصغار، وإلا فالحكم للسيف والنار، ولمن يملك النار والسيف.
علة العلل :
البيئة الحرة الكريمة، هى التى تعيش فى حضانتها الصحيحة، وهى التى ينتظر منها أن تُنْبِت النفوس القوية، والعقول الذكية، والأجسام الفتية، ولن تجد جراثيم الهوان المادى والأدبى بقاء لها فى مثل هذه البيئة. ففى الجو الصَّحْو، والأرض المشمسة، تموت الدِّيدان، وتنقرض الأوبئة. ولكن الاسترقاق السياسى والاقتصادى ، عدوُّ البشرية الأول، وسرطان الأمم المعذبة. وفى ليله الطويل، لا تلمح العقول أشعة المعرفة، ولا تدرى الطباع معنى الكرامة، ولا تشرب النفوس حب الخير. وأنت إذ تبحث- جاهدًا- عن الفرد الذى تعلَّم فى الغرب فاخترع، أوالذى انتخب حاكمه ثم جاء دَوْرُه هو فحكم!، إذ تبحث عن هذا الفرد فى ظل الاسترقاق السياسى والاقتصادى ، تجده تائهًا كاسف البال، يحسب أن وظيفته فى الحياة لا تعْدُو العيش على هامش الفلاحة فى أرض ملكته ولم يملكها، أو الاحتراف فى أشغال بدائية لا تُدِرُّ إلا الكفاف. 142(1/141)
ويسند هذا الهوان تديُّن فاسد، خرج من الأرض، ولم ينزل من السماء. وليته خرج من أرض نقية، فكان فكرًا سليما، بل خرج من أرض سبخة، فكان عبثًا رجيما. هذا التديُّن المكذوب على الله عز وجل، كانت مهمته أن يخفف من وقع الاستبداد السياسى، والطغيان الرأسمالى على نفوس المظلومين والمحرومين. حتى شاع بين الكثيرين أن الدِّين مُخَدِّرٌ للشعوب. وليس أبعد عن الصدق من هذه المقالة الجائرة. على أن الدين- وقد أصيب بهذه التهمة لأسباب شتى- بحاجة إلى من يمسح عنه عاره، ويرد إليه اعتباره، ويصيح فى المشرقين والمغربين : إن الدين عون الشعوب على نيل حقوقها، وكسر خصومها وحفظ حرياتها، وضمان كرامتها. بلى... ونحن موقنون بأنه فى الوطن المغلوب على أمره، المنهوب خيره، الممتهن أهله، لا عمل للدين- أولا- إلا رد الحقوق، ومنع العقوق، وكسر شوكة المعتدين، وإذلال كبرياء الظالمين. إن الاستبداد السياسى والافتيات الرأسمالى، والتدين الصناعى، آفات قديمة فى الشرق. وإنها لسفالة لا قرار لها... أن يسخر الإسلام فى إبقاء هذه الآفات!. إن بعض الجماعات المتدينة تحسب أن قوام الدين هو الإيمان بالغيب، واليقين فى الآخرة، والعبادات الخاشعة، والتعاليم الروحية.. وطائفة أخرى من الأحوال الشخصية والأحكام الفردية المحدودة. وهى تنشط لخدمة الدين فى هذه الدائرة الضيقة، ولو نجحت فى بلوغ أهدافها هذه مع بقاء الديكتاتورية السياسية، والرأسمالية الاقتصادية، فإن نجاحها وإخفاقها سواء. وسيظل الدين تعاليم فى ورق، ورقمًا على الماء ما بقيت الفرعونية الحاكمة، والقارونية الكانزة، تفسد فى الأرض، وتسفك الدماء.
كيف ينظرون إلينا؟
لئن كانت الفوضى الاقتصادية قد صدعت البناء الاجتماعى للإسلام- كدين عام- وشوهت حقائقه الأولى فى عقول أبنائه وقلوبهم- كعقيدة خاصة- فقد أصابت كذلك الوضع السياسى للمسلمين، بما جعلهم أعجوبة فى العالمين. 143(1/142)
وإنك لتستطيع أن ترى مصداق ذلك، فيما تقرأ وتسمع كل يوم، مما يصيبنا فى محافل العالم الكبرى!. وقد كنا نرجو- وخصومنا كثير- أن يدور الصراع بيننا وبينهم على أسس من الاحترام المتبادل. أجل..!، فقد يكون لك عدو تكرهُك مواهبه على تقديره، وقد يكون لك صديق تكرهُك تفاهته على تصغيره!! فأين- ياترى- ينزلنا العالم فيما ينشب بيننا وبين غيرنا من خلاف؟ !! أنقل هنا كلمة كتبت على هامش السياسة الخارجية بصحيفة يومية، وفيها الجواب على هذا السؤال. "إن الشرق الأوسط ما زال موضع ازدراء الأمم الراقية، رغم غناه بالمواد الأولية الهامة، ورغم مركزه الممتاز فى عالم التجارة. وسبب ازدرائه : أن الحكومات فى الجزء الأكبر من رقعة الشرق، لا تهتم بمشروعات الإصلاح المنتجة، قدر اهتمامها بالمشروعات التى تعود على الأقطاب بدعاية كبيرة، أو شهرة واسعة، أو نفوذ متسع النطاق. أما التعليم والرى، وإنشاء خزانات المياه لوقت القحط، والانتقال من زراعة المطر إلى زراعة الآبار، ومشروعات توليد الكهرباء، وصناعة الأسمدة، فإنها ما زالت تدرس منذ عشرات السنين، ثم توضع على الرف، ثم يعاد درسها ونفض الغبار عنها، لتعود مرة أخرى إلى الرف، وهكذا حتى يئس العالم الشرقى من كل فى دعاية تذاع أو تكتب فى الصحف، حول مكافحة الجهل والمرض، والأمية والحفاء. ومن أعجب الأمور، أن للشرق الأوسط مركزًا استراتيجيًا ممتازا. ففى رقعته تقع أكبر الموانئ والمطارات، وسكك الحديد الضرورية لأى دفاع أو هجوم. والدول الغربية مقبلة على صراع رهيب، سيكون لهذه المرافق فيه دور خطير، فهل استفدنا من هذا المركز الممتاز؟. والجواب على ذلك هو : كلا.! وسبب هذا المركز الضعيف، أننا مختلفون فيما بيننا على أمور ثانوية، تاركين الدول الاستعمارية تستغل مواردنا الاقتصادية، وقواعدنا الحربية، وطرق مواصلاتنا، ومطاراتنا، وموانئنا، بدون أجر أو ثمن معقول !!. 144(1/143)
بل بدون أى ميزة كبيرة نستفيد بها فى معالجة تأخرنا الاقتصادى والاجتماعى الحالى. وإلى جوارنا دولة ضعيفة ناشئة، مؤلفة من مليون ونصف المليون نسمة- هى إسرائيل- فرضت على أسطول بريطانيا أن يخرج من قاعدة حيفا، فأخرجته وفرضت على السلاح الجوى البريطانى أن يخرج من مطار (اللد) وغيره من المطارات الفرعية الأخرى فخرج، وفرضت على الجيش البرى البريطانى أن يخرج من معسكرات صرفند، وعكا، وغزة، وحيفا وغيرها فخرج. أما الدولة العربية التى تمثل خمسين مليونًا، فإنها ما زالت متفرقة مختلفة ولهذا تعجز عن إخراج القوات البريطانية من الحبانية فى العراق، ومن قواعدها فى شرق الأردن، ومن منطقة "فايد" !!. بل أعجب من هذا كله أن لنا فى بنك بريطانيا نحو 300 مليون من الأرصدة، لا نعرف كيف نستردها منها، ونطلبها قطرة بعد قطرة، كأننا نسألها إحسانًا. أما إسرائيل فقد عقدت مع بريطانيا اتفاقا، يسهل لها سبيل الحصول على أرصدتها الإسترلينية، رغم أن مصر أهم لبريطانيا- بمواردها ومركزها الحربى- من إسرائيل!!. بل هذه هى مسألة "السودان" والإنجليز يعاملوننا فيه معاملة الأجانب، على حين يفرضون على أشقائنا سكان الجنوب أن يعاملوا الإنجليز معاملة الوثنى لأصنامه، ويحرمون عليه امتيازات يبيحونها للإنجليزى، بل يمنعونه من دخول أماكن يدخلها سادته الإنجليز..! ويزرع البريطانيون فى الجزيرة قطنًا ينافسون قطننا به، ومع ذلك فإننا مازلنا نرفض الاتجار مع دول كبيرة أخرى، ومازلنا نعتمد فى بيع قطننا على "لانكشير"!!
هنا وهناك :
إننى أجزم بأن الأنظمة الاقتصادية السائدة فى الغرب، تعتمد فى بقائها على قبول الشعوب لها واطمئنانها إليها. ولو أنها كانت خالية من المزايا التى تجعلها كذلك لَسَقَطَتْ من زمان بعيد، فإن المرتبة التى وصلت إليها حقوق الإنسان وحريات الشعوب فى هذه البلاد لا تسمح لنظام ما أن يبقى طويلا برغم أنف الذين يعيشون فى ظله، على عكس الحال عندنا. ص(1/144)
_145
فإن الناس كثيرًا ما تكون قلوبهم ضد الحكومات، ولكن أعمالهم معها. وقديما قيل " الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع أعدائه"!!. وتلك الحال المنكرة، هى بعض آثار البطش السياسى الذى سادنا فى القرون الوسطى، ولا تزال بقاياه تترك فى نفوس الجماهير الاستكانة وتطبع الرأى العام فى أغلب أطوار يقظته، بطابع الإنكار القلبى ، أو الاستنكار السلبى... لما يؤلمه! ومهما اختلفت المذاهب الاقتصادية المنتشرة فى الغرب، وتنوَّعت إلى رأسمالية أو اشتراكية، أو شيوعية، فإن هناك عاملا مشتركا بين هذه المذاهب كلها، يجعل أصحابها يتمسكون بها، أولا يرون بأسًا من الإبقاء عليها، وهذا العامل مفقود فى الأحوال الاقتصادية التى تقوم بيننا. وتستطيع أن تجد وجوهًا من الشبه القريب بين الحياة فى روسيا الشيوعية، والحياة فى أمريكا الرأسمالية!!. على حين تجد الصلة واهية، أو منفية بين الرأسمالية فى أمريكا، والرأسمالية فى الشرق الإسلامى وغير الإسلامى. ففى أمريكا- كما فى روسيا- لا يعرف هذا الركام الغليظ من الجهل والفقر والمرض، ولا توجد البيئة التى تخلق الرذائل خلقًا، وتطرد الفضائل طردًا. وهناك لا تقيم الفوارق الآثمة أىّ فاصل بين طبقات الأمة الواحدة. فإن رئيس الولايات المتحدة، جاء من طبقة الشعب، التى جاء منها رئيس جمهوريات الاتحاد السوفييتى... أما فى معظم أرجاء العالم العربى والإسلامى فالأمور تجرى على النحو الذى أسلفنا. ولا يجوز أن نقارن بين رأسمالية الشرق ورأسمالية الغرب، فإن البَوْن شاسع والمسافة بعيدة. إن الأحوال الاقتصادية لا تزال فى الشرق تحمل طابع عهود الإقطاع، ولا تزال 146(1/145)
المعاملة بين مواطن ومواطن مثله، كالمعاملة بين الإنجليز والهنود، أو بين الأمريكان والزنوج!! والإسلام لا يؤيد نظامًا اقتصاديًا بعينه، ولا يخاصم نظامًا اقتصاديًا بعينه. إنما يحارب ويسالم، ما يكون من النُظُم، بحسب ما يتولد منها، وما ينشأ عنها، وما يصيب الشعوب من خيرها أو شرها. إن الدين كالنسيج الخام، يلبس الناس منه ما يحفظ أجسامهم، ويزين هيئاتهم. وقد تختلف طرائقهم فى كيفية التفصيل وأسباب التزين، ولكن لا يجوز على أية حال أن يعروا عنه. والأنظمة الاقتصادية العامة، قد تختلف نظراتها وتقديراتها لمصالح الجماعة. غير أن ذلك لا يعنى أن نطرح الدين جانبًا! فما قيمة الإنسانية إذا جحدت ربها وتَمرَّدَت على خالقها؟؟!. يجب أن ننتفع بالدين فى بناء أمَّة تتوافر فيها التربية النفسية العميقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة، والديمقراطية السياسية المنظمة، وبذلك وحده يأخذ الشرق الإسلامى طريقه إلى الحياة. 147(1/146)
كلمة الختام:
للثقافة جيش غير منظور، يصل إلى أهدافه المرسومة فى سكينة وسلام. وإنى أود أن أسلح القارئ الكريم بهذه الأفكار، وأملى ألاَّ يقف عند حدود المطالعة العابرة... ثم الموافقة الباسمة... فإن من الثقافات ما نعدُّه ترفًا عقليا، ويكون حَسْبُ القارئ منه أن يقف هذا الموقف... أما إذا تعلق الأمر بحقيقة دين كالإسلام، ومستقبل أمة زحمت التاريخ وشغلته قديمًا وحديثًا كالمسلمين. فالأمر أخطر مما نتصور! هو عندئذ ضرورة مادية وأدبية، تجعل من القارئ شريكا للمؤلف، وتحشدهما معًا لخدمة قضية مشتركة، يتقاسمان- جميعًا- أعباءها وتبعاتها!! فلعل الذين يقرأون معى ، يقومون بهذا الحق، ويمدون شعاع الفكرة، ويشاركون فى إبلاغها الغاية. إن بعض الوقائع فى هذا الكتاب قد ارتبطت بظروفها وتاريخها... لكن جوهرها ما زال درسًا صالحا لكل زمان ومكان. ولقد ظهر بعض المصلحين لصور الخلل التى ذكرنا..، فكانوا شرًا من الإقطاع والإقطاعيين... وجروا على البلاد الخراب... فكل هؤلاء وأولئك كانوا بعيدين عن منهج الإسلام... ولا حل لأوضاعنا الاقتصادية. وغير الاقتصادية. إلا بالعودة إلى منهج الإسلام وحده دون إفراط أو تفريط.(1/147)