الإسلام محرر العبيد
التاريخ الأسود للرق فى الغرب
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية
إهداء
إلى عشاق الحرية
فى كل زمان ومكان
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يحاول أعداء الإسلام على مر العصور النيل منه بشتى السبل . وهم يركزون فى حملاتهم المسعورة على عدد من الأمور ، متوهمين أنها تشكل نقاط ضعف ، ومطاعن لتشكيك ضعاف الإيمان دينهم ، وتشويه صورة الإسلام فى أعين غير المسلمين . لكن الباحث الجاد – المحايد والمنصف – سرعان ما يكتشف بسهولة أن المطاعن التى يتوهمونها ما هى إلا جوانب مشرقة وإيجابيات تحسب للإسلام لا عليه ، وتثبت أنه الدين الحق الذى بعث الله به النبى صلى الله عليه وسلم . ومن تلك المطاعن التى يثيرها الحاقدون الزعم بأن الإسلام يجيز الرق(*)، وأن القرآن يحبذه ، وأن الرسول عليه السلام طَبّقه , وأنه لم يرد فى القرآن والسُنَّة نص بمنع الاستعباد !!. وكذلك الزعم بأن عددًا من المسلمين تورطوا فى الإتجار بالرق . وسوف نقوم بإذن الله تعالى بالرد على كل تلك المزاعم بالتفصيل وبالأدلة القاطعة ، دون تطويل مُمل أو إيجاز مُخِل .
وقد دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب ما لمسته من قلة وجود دراسات متخصصة فى هذا الموضوع بالذات ، اللهم إلا مقالات أو فصول قصيرة موجزة فى بعض الكتب والمجلات ومواقع الانترنت ، لا تكفى فى رأينا لإيضاح كل الحقائق والرد على كل الشبهات المثارة فى هذا الموضوع الهام الذى يجهله حتى كثير من المسلمين للأسف الشديد . وسوف يشعر الكثيرون بالدهشة حين يكتشفون أن أولئك الذين يحاولون إلصاق التهم بالإسلام هم الذين ابتكروا الاستعباد والرق . وتمتلىء صحائفهم السوداء بكل ما هو مشين وفاضح بهذا الصدد ، على طريقة : رمتنى بدائها !!.(1/1)
وأملى أن ييسر الله لهذا الكتاب – وغيره من الكتب الهامة فى تفنيد شبهات ومزاعم أعداء الإسلام – من يتولى ترجمته إلى اللغات العالمية الأخرى ، ليعرف الآخرون جوانب العظمة والحكمة البالغة فى دين وتشريعات الإسلام الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وحقًا قيل : يا له من دين لو كان له رجال!! إننا فى أمس الحاجة إلى رجال يهبون أنفسهم وأموالهم لنشر حقائق الإسلام وتفنيد شبهات خصومه فى عصر ينفق الحاقدون فيه عشرات البلايين من الدولارات للهجوم على الإسلام وتشويهه فى وسائل الإعلام الدولية المختلفة ، بينما يَغْطُ كثير من المسلمين فى سُبَات عميق !! وإذا كان هذا الكتاب المتواضع ليس إلا جهد المُقِلِ، فإن عذرى أن هذا هو كل ما أستطيع ، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ فمن نفسى والشيطان، واسأل الله العفو والسداد .
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة : 286 .
الفصل الأول
تاريخ الاستعباد
لم يكن الإسلام مسئولاً عن ابتداع الرق . هكذا تثبت حقائق التاريخ التى دوَّنَها المؤرخون من غير المسلمين .. فالتاريخ المعروف للبشرية يشير إلى أن الرق ظاهرة عريقة فى القدم ، تاريخها هو ذاته تاريخ الاستغلال وظلم الإنسان لأخيه الإنسان . وقد نشأت ظاهرة الاستعباد منذ عشرات الألوف من السنين ، وتحديدًا فى فترة التحول من الصيد إلى الاعتماد على الزراعة المُنَظّمة كوسيلة لاكتساب الرزق .. يقول المؤرخ الكبير "ول ديورانت" فى موسوعته الشهيرة "قصة الحضارة" :(1/2)
(بينما كانت الزراعة تُنْشئ المدنيِّة إنشاءً فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية ، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذى لم يكن معروفًا فى الجماعات التى كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص، لأن زوجة الصائد وأبناؤه كانوا يقومون بالأعمال الدَّنيَّة , وكان فيهم الكفاية لذلك، وأما الرجال فقد كانت تتعاقب فى حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصيد أو القتال، يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدعة بعد الإجهاد والعناء. ولعل ما تنطبع به الشعوب البدائية من كسل قد بدأ – فما نظن – من هذه العادة . عادة الاستجمام البطىء بعد عناء القتال والصيد ، ولو أنها لم تمكن عندئذ كسلاً بمقدار ما كانت راحة واستجامًا ؛ فلكى تحوِّل هذا النشاط المتقطع إلى عمل مطرد ، لابد لك من شيئين : العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم , وتنظيم العمل .(1/3)
وأما تنظيم العمل فيظل مُنْحلَّ العرى لَدُنِّىَّ النشاط مادام الناس يعملون لأنفسهم، لكنهم إذا كانوا يعملون لغيرهم فإن تنظيم العمل لابد أن يعتمد فى النهاية على القوة والإرغام ؛ وذلك أن نشأة الزراعة وحدوث التفاوت بين الناس انتهيا إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء اجتماعيًا ؛ ولم يتنبَّه الظافر فى القتال قبل ذلك إلى أن الأسير الذى ينفعه هو الأسير الحى ، وبذلك قلَّت المجازر وقلَّ أكل الناس بعضهم لحوم بعض كلما زاد نظام الرق اتساعًا. وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدمًا عظيمًا حين أقلع عن قتل زميله الإنسان أو أكله ، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم؛ وإنك لترى تطورًا كهذا يتم اليوم على نطاق واسع ، إذ أقلعت الأمم الظافرة عن الفتك بالعدو المغلوب ، واكتفت باسترقاقهم عن طريق التعويض الذى تكبّدهم إياه . ولما استقر نظام الرق على أسسه . وبرهن على نفعه ، أخذ يزداد نطاقه بأن أضيف إلى الرقيق طوائف أخرى غير الأسرى ، فأضيف إليهم المَدِينُون الذين لا يُوفَون الدَّيْن ، والمجرمون الذين يعاودون الإجرام ، هذا إلى إغارات تُشن عمدًا لاجتلاب الرقيق ؛ وهكذا كانت الحرب بادىء الأمر عاملاً على نشأة الرق ، ثم أصبح الرق عاملاً على شن الحرب .(1/4)
ولعل نظام الرق حين امتدت به القرون قد أكسب الجنس البشرى تقاليده وعاداته من حيث العمل ، فلن تجد بيننا أحدًا يُقدم على عمل شاق عسير إذا كان فى مقدوره أن يتخلص منه بغير أن يتعرض لشىء من العقاب البدنى أو الاقتصادى ، وإذن فقد بات الرق جزءًا من النظام الذى استعد به الإنسان للقيام بالصناعة ، هذا فضلاً عن أنه عمل على تقدم المدنيَّة بطريق غير مباشر ، بأن زاد من الثروة فخلق الفراغ لفئة قليلة من الناس ، ولما مضت قرون على هذا النظام ، جعل الناس ينظرون إليه كأنه نظام فطرى لاغنى عنه ، (بهذا قال أرسطو وكذلك بارك القديس بولس : هذا النظام الاجتماعى الذى لابد أن يكون قد بدا لعينيه فى عصره نظامًا قضى به الله) !!! (1) انتهى .(1/5)
وقد عرفت كل الحضارات والأمم السابقة على الإسلام ظاهرة الاستعباد للآخرين على أوسع نطاق ممكن .. فالرق كان موجودًا لدى الفراعنة .. إذ كان الملوك والكهنة وقواد الجيش المصرى القديم يتخذون أسرى الحرب عبيدًا لهم ، يستخدمونهم فيما تحتاج إليه الدولة الفرعونية من أعمال كشق الترع وبناء الجسور والمعابد والأهرامات . وعلى خلاف المعروف لدى الأمم الأخرى فى تلك الفترة - كما يلاحظ محمد عطية الأبراشى – (2) كان عبيد القصور يتمتعون بمعاملة إنسانية فى مصر ، وكان مسموحًا للحرّ أن يتزوّج جارية . وكان محظورًا على الملاك قتل الرقيق ، ومن قتل عبدًا فإنه يُقتل به على سبيل القصاص .. وكان الرق موجودًا على أوسع نطاق لدى الآشوريين .. وقد كانت قصورهم مليئة بالعبيد والجوارى للخدمة والمتعة فى آن واحد .. ومن أطرف الوثائق والعقود التى عُثر عليها وتعود إلى عهد الملك نبوخذ نصر – كما يقول ول ديورانت – تلك العقود المتصلة بالعبيد. (وكان مصدر هؤلاء العبيد أسرى الحروب ، والغارات التى يشنها البدو الرحل على الولايات الأجنبية، ونشاط العبيد أنفسهم فى التناسل . وكان ثمن الأرقاء يختلف من عشرين ريالاً إلى خمسة وستين للمرأة ، ومن خمسين ريالاً إلى مائة ريال للرجل . وكان هؤلاء العبيد هم الذين يؤدون معظم الأعمال العضلية فى المدن ، وتدخل فى هذه الأعمال الخدمات الشخصية .(1/6)
وكانت الجوارى ملكًا خالصًا لمن يبتاعهن ، وكان ينتظر منهن أن يمهّدن له فراشه ويطبخن له طعامه ، وكان المعروف أنه سيستولدهن عددًا كبيرًا من الأبناء . وكان العبد وكل ما ملكت يداه ملكًا لسيده : من حقه أن يبيعه أو يرهنه وفاء لدين ، ومن حقه أن يقتله إذا ظن أن موته أعود عليه بالفائدة من حياته . وإذا أبق العبد فإن القانون لا يبيح لأحد أن يحميه وكانت تقدر جائزة لمن يقبض عليه . وكان من حق الدولة أن تجنّده كما تجنّد الفلاح الحرّ للخدمة العسكرية أو تسخّره للقيام ببعض الأعمال العامة كشق الطرق ، وحفر القنوات . وكان أكثر العبيد يقنعون من حياتهم بكثرة الأبناء ، حتى صاروا أكثر عددًا من الأحرار . فكانت طبقة الأرقام الكبيرة تتحرك كأنها نهر تحتى جيَّاش يجرى تحت قواعد الدولة البابلية)(3) انتهى .
عرب الجاهلية
ولم يختلف الحال لدى العرب قبل الإسلام عن غيرهم من الأمم فى ميدان الرق. فقد كان مألوفًا أن تتخذ القبائل المنتصرة من أطفال ونساء القبائل المهزومة عبيدًا وجوارى .(1/7)
وكان بعض مشاهير مكة مثل عبد الله بن جدعان من تجار الرقيق(4). وتذكر كتب التاريخ أن عددًا من مشاهير الصحابة كانوا عبيدًا قبل الإسلام ، منهم زيد بن حارثة رضى الله عنه الذى اختطف وهو صغير ، وباعه الخاطفون فى سوق عكاظ حيث اشتراه أحد أقارب السيدة خديجة رضى الله عنها . وكذلك اختطف بعض قطاع الطرق سلمان الفارسى رضى الله عنه أثناء رحلته إلى الشام ، وباعوه لبعض يهود يثرب قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إليها . وكان بلال بن رباح وعمار بن ياسر وذويهما عبيدًا بمكة المكرمة قبل الإسلام ، وتعرضوا لتعذيب مروّع من سادتهم لإجبارهم على ترك الإسلام . وكانت "سميّة" أم عمَّار رضى الله عنها أول شهيدة فى الإسلام ، إذا قتلها أبو جهل لعنه الله بطعنة فى قُبلها لرفضها الارتداد عن دين الحق . وكانت "ثويبة" إحدى مرضعات الرسول صلى الله عليه وسلم مولاة لعمه أبى لهب .. وكانت حاضنته "أم أيمن" جارية لأبيه عبد الله بن عبد المطلب قبل مولده ، وانتقلت ملكيتها إليه بعد وفاة أبيه .
الرق فى فارس
وفى بلاد فارس كان الأرقاء يُتخذون للرعى والزراعة ، ويستخدمون فيما تحتاج إليه البيوت من الزينة والعمل . وإذا ارتكب الرقيق ذنبًا عوقب عقابًا معتدلاً ، فإذا ارتكبه مرة أخرى فلسيده أن يعاقبه بما يشاء ، وله أن يقتله . وكان الأكاسرة ينظرون إلى كل من هو غير فارسى على أنه عبد مملوك لهم ، ولا حق له فى أى شىء سوى الطعام والشراب كأى حيوان !! .
الرق عند الهنود القدماء(1/8)
كان لدى الهنود القدماء طبقات أعلاها : طبقة الأشراف وهم البراهمة ، أما طبقة العمال، فهى الطبقة الدنيا التى تستخدم فى الأعمال ، وتعامل معاملة بشعة . وللطبقة الأولى السيادة والسيطرة ، وعلى الطبقة الثانية – وهى طبقة الأرقاء – الطاعة والخضوع . ويستمر الرقيق خادمًا طوال حياته . وكانت القوانين التى يحاكم بها جائرة ، فإذا اعتدى رقيق على بَرهَمى حكم على الرقيق بالقتل . وإذا شتمه بلفظ بذىء قُطع لسانه . وإذا احتقره عُوقب بوضع خنجر محمى بالنار فى فمه . وإذا تجرأ ونصح لبرهمى نصيحة تتصل بواجبه أمر الملك بوضع زيت ساخن فى أذنه وفمه . وإذا اغتصب برهمى شيئًا من الرقيق حكم عليه بدفع غرامة مالية . وإذا سرق عبد شيئًا من برهمى حكم عليه بالإحراق !!. وكانت الأعمال النجسة تترك للعبيد ليقوموا بها ، والأعمال المقبولة يقوم بها الخدم . وكانت فى الهند طائفة أخرى منبوذة تُسَخَّر للخدمة كالعبيد .
الرق عند الصينيين
كان الفقراء من الصينيين القدماء يبيعون أبناءهم وبناتهم لشدة فقرهم وحاجتهم. وكان للسيد الحق فى بيع من لديه من الأرقاء وأولادهم . وقد عرف الصينيون بالذكاء والحكمة والرقة والمروءة والإنسانية . فالرقيق فى الصين كان يعامل بشكل أفضل كثيرًا من نظرائهم فى أوروبا(6) .
الرق عند الإغريق(1/9)
(وفى أثينا كانت هناك طبقات ثلاث : طبقات المواطنين والغرباء والعبيد . ويقدر سويداس Suidas عدد العبيد الذكور وحدهم بمائة وخمسين ألفًا ، معتمدًا فى تقديره على خطبة معزوة إلى هبيريدس ألقيت فى عام 338 ق م، وإن لم تكن نسبتها إليه موثوقًا بصحتها . ويقول أثيديوس : إن تعداد سكان أتكا الذى أجراه دمتريوس فاليريوس- حوالى عام 317- يقدر المواطنين بواحد وعشرين ألف، والغرباء بعشرة آلاف، والأرقاء بأربعمائة ألف. ويقدر تيموس - عام 300- عبيد كورنثة بأربعمائة وستين ألفًا، ويقدر أرسطو- عام 340- عبيد أيجينا بأربعمائة وسبعين ألفًا. ولعل السبب فى ضخامة هذه الأعداد أنها تشمل العبيد الذين كانوا يعرضون للبيع عرضًا مؤقتًا فى أسواق الرقيق القائمة فى كورنثة ، وإيجينا وأثينا .(1/10)
وهؤلاء العبيد إما أسرى حرب ، أو ضحايا غارات الاسترقاق ، أو أطفال أنقذوا وهم معرضون فى العراء ، أو أطفال مهملون، أو مجرمون . وكانت قلة منهم فى بلاد اليونان يونانية الأصل ؛ وكان الهلينى يرى أن الأجانب عبيد بطبعهم لأنهم يبادرون بالخضوع إلى الملوك ، ولهذا لم يكن يرى فى استعباد اليونان لهؤلاء الأجانب ما لا يتفق مع العقل؛ لكنه كان يغضبه أن يسترق يونانى !!. وكان تجّار اليونان يشترون العبيد كما يشترون أية سلعة من السلع، ويعرضونهم للبيع فى طشيوز، وديلوس، وكورنثة، وإيجينا، وأثينا، وفى كل مكان يجدون فيه من يشتريهم. وكان النخاسون فى أثينا من أغنى سكانها الغرباء؛ ولم يكن من غير المألوف فى ديلوس أن يباع ألف من العبيد فى اليوم الواحد؛ وعرض سيمون بعد معركة يوريمدون عشرين ألفًا من الأسرى فى سوق الرقيق. وكان فى أثينا سوق يقف فيه العبيد متأهبين للفحص وهم مجردون من الثياب، و يساوم على شرائهم فى أى وقت من الأوقات، وكان ثمنهم يختلف من نصف مينا إلى عشر مينات (من 50 ريالاً أمريكيًا إلى ألف ريال) . وكانوا يشترون إما لاستخدامهم فى العمل مباشرة، أو لاستثمارهم؛ فقد كان أهل أثينا الرجال منهم والنساء يجدون من الأعمال المربحة أن يبتاعوا العبيد ثم يؤجروهم للعمل فى البيوت أو المصانع، أو المناجم. وكانت أرباحهم من هذا تصل إلى 33 فى المائة. وكان أفقر المواطنين يمتلك عبدًا أو عبدين. ويبرهن إسكنيز Aeschines على فقره بالشكوى من أن أسرته لا تمتلك إلا سبعة عبيد؛ وكان عددهم فى بيوت الأغنياء يصل أحيانًا إلى خمسين ، وكانت الحكومة الأثينية تستخدم عددًا منهم فى الأعمال الكتابية وفى خدمة الموظفين، وفى المناصب الصغرى، وكان منهم بعض رجال الشرطة .(1/11)
أما فى الريف فكان العبيد قليلى العدد، وكانت أكثر الرقيق من النساء الخادمات فى البيوت . ولم يكن الناس فى شمالى بلاد اليونان وفى معظم الپلپونيز فى حاجة إلى العبيد لاستغنائهم عنهم برقيق الأرض. وكان العبيد فى كورنثا, ومجارا، وأثينا يؤدون معظم الأعمال اليدوية الشاقة، كما كانت الجوارى يقمن بمعظم الأعمال المنزلية المجهدة، ولكن العبيد كانوا فوق ذلك يقومون بجزء كبير من الأعمال الكتابية وبمعظم الأعمال التنفيذية فى الصناعة، والتجارة، والشئون المالية. أما الأعمال التى تحتاج إلى الخدمة فكان يقوم بها الأحرار والغرباء، ولم يكن هناك عبيد علماء كما فى العصر الهلنستى وفى روما، وقلما كان يسمح للعبد بأن يكون له إناء ، لأن شراء العبد كان أرخص من تربيته. وكان العبد إذا أساء الأدب ضُرب بالسوط، وإذا طلب للشهادة عُذّب، وإذا ضربه حر لم يكن له أن يدافع عن نفسه ، لكنه إذا تعرض للقسوة الشديدة كان له أن يفر إلى أحد الهياكل)(7).. انتهى.
وكان فلاسفة اليونان يجاهرون بتأييدهم للرق !! ويرى أفلاطون أن العبيد لايصلحون لأن يكونوا مواطنين !! وعليهم فقط لزوم الطاعة العمياء لسادتهم أحرار أثينا !!. ولا ندرى أى مدينة فاضلة تلك التى يكون ثلاثة أرباع أهلها من العبيد !!أما تلميذه أرسطو فهو يرى أن بعض الناس خُلِقُوا فقط ليكونوا عبيدًا لآخرين!!! ليوجهوهم كما يريدون، وبعضهم خُلِقُوا ليكونوا سادة، وهم الأحرار ذوو الفكرة والإرادة والسلطان. فالعبيد خلقوا ليعملوا كأنهم آلات، والأحرار خُلِقُوا ليفكروا ويلقوا الأوامر لينفذها العبيد !! ويجب فى رأى أرسطو أن يستمر هذا الاستعباد حتى يتوصل الإنسان إلى صنع آلات معدنية تحل محل الرقيق !!
وفى بلاد اليونان كان العبيد يعملون خدمًا فى البيوت، ولا يسمح لهم بأن يكونوا كهنة فى المعابد كما يؤكد بلوتارك المؤرخ اليونانى المعروف .(1/12)
وقد اعتاد قدماء الإغريق السير فى البحار، وخطف من يجدونه من سكان السواحل. وكانت قبرص وصاقس وسامس والمستعمرات اليونانية أسواقًا كأثينا يباع فيها الأرقاء ويشترون. وكان العبيد يعملون لمواليهم ولأنفسهم، ويدفعون لسادتهم مقدارًا محددًا من المال كل يوم . وكان فى كل منزل بأثينا عبد للقيام بالخدمة ، مهما كان صاحبه فقيرًا ، وكان المولى حر التصرف فيمن يملكهم من عبيد .
وكان الرقيق إذا أخطأ عوقب بالجلد بالسوط وكلف القيام بطحن الحبوب على الرحى ، وإذا هرب كوى على جبهته بالحديد المحمى فى النار .
الرق عند الرومان
إن تاريخ العبودية لدى الرومان هو بحق صفحات حالكة السواد فى سجل الرق، ولا سبيل أمام المستشرقين سوى الاعتراف به بدلاً من الافتراء على الإسلام.
فقد كان الرومان يحصلون عادة على الأرقاء من أسرى الحروب، وأولاد العبيد، وأولاد الأحرار الذين حكم عليهم القانون بأن يكونوا عبيدًا ، كالمدينين الذين صعب عليهم الوفاء بديونهم. وكان ثلاثة أرباع سكان الامبراطورية الرومانية من الرقيق! وفى أثناء الحرب كان النخّاسون الذين يتجرون فى الرقيق يلازمون الجيوش، وكان الأسرى يباعون بأثمان زهيدة. وأحيانًا كان النخّاسون من الرومان يسرقون الأطفال ويبيعونهم ، ويسرقون النساء للاتجار بأعراضهن .
وكان الرقيق فى روما يقف على حجر فى السوق، ويدلل عليه البائع، ويباع بالمزايدة. وكان الراغب فى الشراء يطلب أحيانًا رؤية العبد وهو عريان لمعرفة ما به من عيوب !!
وكان هناك فرق كبير فى الثمن بين العبد المتعلم والعبد الجاهل، وبين الجارية الحسناء والجارية الدميمة. وكانت الجارية الحسناء تباع بثمن غال، ولهذا انتشر الفساد الخلقى، وانتشرت الرذيلة فى روما. وكان الاتجار بالجوارى الجميلات من أسباب الثراء.(1/13)
وكان الأرقاء قسمين : قسم ينتفع به فى المصالح العامة كحراسة المبانى، والقيام بأعمال السجّان فى السجن، والجلّاد فى المحكمة للمساعدة فى تنفيذ حكم القاضى. وحال هذا النوع أحسن من سواهم، وقسم ينتفع به فى المصالح الخاصة كالعبد الذى يتخذه مولاه لقضاء الأعمال فى البيت والحقل، والجارية التى يجعلها سيدها لتربية الأولاد .
وكان القانون ينظر إلى الرقيق كأنه لا شىء ، فهو ليس له أسرة، ولا شخصية، ولا يملك شيئًا. والعبد وما ملكت يداه لسيده . ويتبع الرقيق أمه حين الوضع، فإذا كانت حرّة كان حرًّا ، وإذا كانت رقيقة كان رقيقًا .
وكان لمالك الرقيق الحرية المطلقة فى التصرف مع عبده كما يتصرف فى الحيوانات التى يملكها(8). فإذا أخطأ العبد عاقبه سيده كيفما شاء ، أو بأية وسيلة شيطانية تخطر له على بال !! فكان يقيده بالسلاسل ويكلفه مثلاً بحرث الأرض وهو مكبل بالحديد، أو يجلده بالسياط حتى الموت ، أو يعلقه من يديه فى مكان مرتفع عن الأرض بينما يربط أثقالاً برجليه حتى تتفسخ أعضاء جسمه !! أو يحكم عليه بمصارعة وحوش كاسرة – كالأسود والنمور – تم حبسها وتجويعها أيامًا طوال كى تكون أشد افتراسًا وفتكًا بالعبيد البائسين الذين قُدّر عليهم أن يلقوا حتفهم بهذا الأسلوب الذى يقشعر له بدن الشيطان !!(1/14)
ولم تكن هناك أية عقوبة فى القانون الرومانى تُطبق على السيد الذى يقتل عبده أبدًا، فالقانون الرومانى كان ينص على أن العبد هو أداة ناطقة !! وكانوا يعتبرون الرقيق مجرد "أشياء" وليسوا بشرًا ذوى أرواح وأنفس !! وكان منظرًا عاديًا لديهم أن يشاهدوا جثثًا مصلوبة على جذوع الأشجار لعبيد شاء سادتهم المجرمون شنقهم، أو تعليقهم هكذا بلا طعام ولا شراب حتى الموت ، أو حرقهم أحياء ، أو إجبارهم على العمل الشاق وأرجلهم مقيدة بالسلاسل عراة تحت أشعة الشمس الحارقة !! وكانت الفقرة المحببة لدى الرومان فى الأعياد والمهرجانات هى المبارزات الحية بكل الأسلحة الفتَّاكة بين العبيد حتى يهلك الأعجل من الفريقين !! وتتعالى صيحات المجرمين الرومان إعجابًا أو تلتهب الأكف من التصفيق الحاد حين يتمكن أحد العبيد من تسديد طعنة نافذة فى جوف القلب تقضى على غريمه !!
ويقول م.ب تشارلز ورث فى كتابه "الامبراطورية الرومانية" : (كان هناك - دون شك – الحاكمون بأمرهم ، فقد أصر سيد على أن يقف العبيد حول المائدة صامتين ، وكان يعاقب من يسعل منهم أو يعطس بالجلد !! واعتادت إحدى السيدات أن "تعض" جواريها فى نوبات غضبها ، وكانت أخريات يأمرن بجلد الجارية إذا لم تُحسن تصفيف شعر سيدتها !! وألقى أحد العبيد المعذبين بنفسه من فوق سطح المنزل فخر صريعًا هربًا من السباب وإهانات سيده المتوحش، وطعن أحد العبيد الهاربين من الجحيم نفسه حتى الموت حتى لا يعود إلى الرق مرة أخرى. ومثل هذه الحوادث كثير) (9) .. انتهى .
وكان من الطبيعى أن تندلع ثورات عارمة احتجاجًا على وحشية السادة الرومان تجرى فيها دماء الطرفين أنهارًا ، لكنها للأسف كانت تنتهى بمقتل جميع العبيد الثائرين، والويل لمن يبقى حيًا حتى ممن لم يشاركوا فى التمرد !!(1/15)
ومازلنا نذكر الأعمال الفنية الرائعة التى خلدت ثورات العبيد المطحونين ، ومن أشهرها فيلم "سبارتاكوس محرر العبيد" وغيرها، وكذلك العشرات من الكتب والأبحاث العلمية والتاريخية التى دونت فظائع الاستعباد فى أوروبا. والعجيب أن أولئك الذين يتطاولون على الإسلام يعتريهم الخرس التام ، ولا يعلقون ببنت شفة على تاريخ آبائهم الأسود بهذا الصدد !! .
القرون الوسطى
فى القرون الوسطى كان الأرقاء فى فرنسا وإيطاليا والجزر البريطانية وأسبانيا القديمة يكلفون بالأعمال الزراعية من حرث وزرع وحصد؛ لأن الأعمال اليدوية فى نظرهم كانت محتقرة لا يقوم بها الأحرار !! وكان الأرقاء فى ألمانيا يقدمون إلى سادتهم مقادير معينة من القمح أو الماشية أو الملابس . وكان لكل عبد مأوى يقيم فيه ، ويدبّر أحواله كما يريد .
وكان الفرنج – وهم الألمان الذين يقيمون على جانبى نهر الراين الأسفل – يعاملون الأرقاء أقسى معاملة ، فإذا تزوج حرّ رقيقة أجنبية صار رقيقًا مثلها، وإذا تزوجت حرّة رقيقًا أصبحت رقيقة، وفقدت الحرية التى كانت تتمتع بها .
وفى لمبارديا كانت الحرّة إذا تزوجت رقيقًا حكم عليهما بالإعدام .
ولدى الأنجلوسكسون – وهم الأمم الجرمانية التى تناسل منها الانجليز – كان الأرقاء ينقسمون قسمين : قسم كالمتاع يجوز بيعه ، وقسم كالعقار يقوم بحرث الأرض وزرعها ، ويباح لهم جمع مال يدفعونه لسادتهم .
وكانت نظرة الأوروبيين إلى العبيد حتى القرن التاسع عشر أنهم لا روح لهم ولا نفس ، ولا إرادة . فإذا اعتدى زنجى على سيده أو على حر من الأحرار ، أو سرق أى شىء كان القتل جزاء له .
وإذا هرب عوقب بقطع أذنه فى المرة الأولى، وكوى بالحديد المحمىِّ فى المرة الثانية ، وقتل فى الثالثة . وإذا قتل المالك رقيقه فللقاضى الحق فى أن يحكم ببراءة المالك !(1/16)
ولا يجوز لغير البيض اكتساب العلم والمعرفة . وكان القوط وغيرهم من القبائل فى أوروبا يحكمون على الحرّة التى تتزوج من عبد بالحرق معه !! وفى قوانين قبائل الأسترغوط يحكمون بالقتل على الحرّة التى تتزوج بعبد(10) وأولادهم جميعًا يسترّقون إن حدث إنجاب قبل قتلهم .
إلتزامات رقيق الأرض
كان وجود رقيق أمرًا حتميًا بسبب نشوء النظام الإقطاعى الذى تبلور فى صورته المعروفة بأوروبا فى القرن التاسع ، وبلغ ذروته إبان القرون الوسطى، وتحديدًا فى القرن الثالث عشر . وهناك من يرى أن الرقيق كانوا يمثلون الأغلبية الساحقة من سكان أوروبا باستثناء الملوك والنبلاء ورجال الدين .
بدأ نظام الإقطاع يمنح الملوك والأمراء مساحات من الأراضى لمن يدينون لهم بالولاء مدى حياتهم، ثم أصبح ذلك أمرًا وراثيًا . فأمير الإقطاعية هو الحاكم المطلق فى إقطاعيته ، هو المالك لكل شىء والباقون عبيد ، لا يملكون حق الانتقال من إقطاعية إلى إقطاعية .
ولم تكن مساوىء النظام الإقطاعى فى الجانب المالى فحسب ، بل كان للإقطاعى سلطات أخرى حصل عليها. والمدهش حقًا هو تلك القائمة الطويلة من الواجبات التى يؤديها الرقيق للمالك ، إلى جانب خضوعه المطلق لسلطته وارتباطه المحكم بإقطاعيته :
1- ثلاث ضرائب نقدية فى العام .
2- جزء من محصوله وماشيته .
3- العمل سخرة كثيرًا من أيام السنة !!.
4- أجر على استعمال أدوات المالك فى طعامه وشرابه .
5- أجر للسماح بصيد السمك أو الحيوان البرى !! .
6- رسم إذا رفع قضية أمام محاكم المالك !! .
7- ينضم إلى فيلق المالك إذا نشبت حرب .
8- يفتدى سيده إذا أُسر .
9- يقدم الهدايا لابن المالك إذا رُقى لمرتبة الفرسان .
10- ضريبة على كل سلعة يبيعها فى السوق !! .
11- لا يبيع سلعة إلا بعد بيع سلعة المالك نفسه بأسبوعين !! .
12- يشترى بعض بضائع سيده وجوبًا .
13- غرامة إذا أرسل ابنه ليتعلم أو وهبه للكنيسة !! .(1/17)
14- ضريبة مع إذن المالك إذا تزوّج هو أو أحد أبنائه من خارج الضيعة !!.
15- حق الليلة الأولى ، وهى أن يقضى السيد مع عروس رقيقه الليلة الأولى!! وكان يسمح له أحيانًا أن يفتديها بأجر، وقد بقى هذا فى بافاريا إلى القرن الثامن عشر !! .
16- المالك هو الذى يرث كل ممتلكات الرقيق إذا مات .
17- ضريبة سنوية باهظة يدفعها الرقيق للكنيسة ، وأخرى يدفعها للقائد الذى يتولى الدفاع عن المقاطعة .
الديانات السابقة
كان الرق شائعًا فى عهد أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام .. ومن المعروف تاريخيًا أن فرعون مصر أهدى السيدة "سارة" زوجة إبراهيم جارية هى "هاجر"، وهبتها بدورها لزوجها عليه السلام لعلها تلد له ابناً ، إذ كانت "سارة" عجوزًا عاقرًا. وولدت السيدة "هاجر" سيدنا إسماعيل على نبينا وعليه السلام . وإذا كان النصارى واليهود يؤمنون بإبراهيم عليه السلام مثلنا ، فلماذا يعيبون علينا السماح بملك اليمين فترة من الزمن إلى أن يتم لهم التحرر بوسائل شتى ، ولا يرون بذلك بأساً عند إبراهيم ثم أولاده وأحفاده ؟!! أم أنه الحقد و التعصب ضد الإسلام ؟!!
وكذلك عاشر " يعقوب " جاريتين ، أهدتهما إليه زوجتاه ابنتا خاله " لابان " وهما " ليا " و"راحيل " بملك اليمين أيضاً ، وأنجب من الأربع حلائل أولاده الإثنا عشر يوسف وإخوته .. ولا يجد المستشرقون هنا أيضاً أية غضاضة ، ولا فى إمتلاك داود وسليمان عليهما السلام لأعداد كبيرة من العبيد والجوارى !! تقول مصادر أهل الكتاب : أن سليمان عليه السلام كانت له 300 زوجة و 700 سرية ، فهل سبعمائة جارية رقم صغير ؟! وكذلك كان الرق معروفًا فى عهد يوسف عليه السلام.. إذ تعرض هو نفسه لمحنة الرق ، بعد أن ألقاه إخوته فى الجُب صغيراً، وعثرت عليه قافلة ثم باعوه بمصر حيث اشتراه كبير وزرائها فى ذلك العهد ، وقد بسط القرآن الكريم القصة كاملة فى سورة يوسف (11) .
الرق عند اليهود(1/18)
كان اليهود دائماً وأبداً من أكبر المتاجرين بالبشر فى كل العصور . فالقوم ينطلقون من عقيدة أساسية عندهم هى أنهم شعب الله المختار، ولذلك فمن الطبيعى أن يكون الآخرون من كل أجناس الأرض الأخرى عبيداً لهم ، يمارسون عليهم أبشع أنواع القهر و الاستعباد و الاستغلال ، إن لم يفتكوا بهم بلا أدنى رحمة !! وهكذا حسم اليهود أمرهم مبكراً بتلفيق نصوص فى التوراة الموجودة بأيديهم الآن ، لتعطيهم صراحة الحق إما فى استرقاق الآخرين كما يحلو لهم ، وإما إبادتهم بالكامل إن أرادوا ذلك !!! حيث يزعم الإصحاح الحادى عشر من سفر الخروج فى العهد القديم أنه :"لكى تعلموا أن الربَّ يُميِّز بين المصريين وإسرائيل ، فينزل إلىّ جميع عبيدك هؤلاء ويسجدون لى .." 7-8 (!!) . وطبقاً لهذه النظرية فإن اليهود كانوا دوماً من أكبر وأشهر التجار فى أسواق النخاسة فى كل أنحاء المعمورة ، فمعبودهم الأول والأخير هو الذهب الذى لا يتورعون فى سبيل الحصول عليه عن امتصاص دماء الآخرين ، وبيعهم فى الأسواق كالبهائم سواء بسواء !! وحتى الأطفال و البهائم والأمتعة لم تنج من بطش أحفاد القردة و الخنازير الذين يطبقون نصوص البطش و الإجرام الملفّقة !!
تقول التوراة المحرّفة التى بأيدى اليهود اليوم فى الإصحاح العشرين من كتاب الثنية المزعوم :(1/19)
(حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح . فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير وتستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التى أعطاك الرب إلهك . هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا التى ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا . أما مدن هؤلاء الشعوب التى يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبقى منها نسمة ما بل تحرّمها تحريمًا...) . والويل كل الويل للمدن التى لا تعبد إله إسرائيل فإنها كما جاء فى الإصحاح الثالث عشر التثنية "فضرباً تضرب بحد السيف وتحرّم بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها و تحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلاً إلى الأبد لا تُبنى بعده.."!!!.(1/20)
أما الإصحاح الحادى و العشرين من سفر الخروج فإنه ينص صراحة على جواز شراء العبيد : (إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم) ثم إن "أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين و بنات فالمرأة وأولادها يكونون للسيد ، وهو يخرج وحده ، ولكن إذا قال العبد : أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حرّاً ، يقدمه سيده إلى الله ، ويقرّبه إلى الباب أو إلى القائمة ، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد. هذا إن كان عبرانياً ، أما استرقاق غير العبراني فهو عن طريق الأسر والتسلط ، لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من غيرهم ، ويصطنعون لهذا الاسترقاق سنداً من توراتهم فيزعمون : إن حام بن نوح – وهو أبو كنعان – كان قد أغضب أباه ، لأن نوح سكر يوماً ثم تعرى و هو نائم فى خبائه !! فأبصره حام كذلك ، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب ، ولعن نسله الذين هم كنعان ، وقال – كما فى التوراة فى سفر التكوين إصحاح 9/25 -26 – ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته ، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبداً لهم . وفى الإصحاح نفسه / 27 / :
"ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام ، وليكن كنعان عبداً لهم".
وقد اتخذت الملكة "إليزابيث" الأولى – ملكة بريطانيا قديمًا - من هذا النص سنداً يبرر تجارتها في الرقيق التى كانت تسهم فيها بنصيب الأسد .
موقف النصرانية من الرقيق
جاء الدين المسيحى فأقر الرق الذى أقره اليهود من قبل . فليس فى الأناجيل المحرَّفة الموجودة الآن نص يحرّمه أو يستنكره. والغريب أن المؤرخ "وليم موير" يعيب على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه لم يبطل الرق حالاً ، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق ، حيث لم ينقل عن المسيح ، ولا عن الحواريين ولا عن الكنائس شيئاً فى هذه الناحية (!!!)
وأقر القديسون أن الطبيعة جعلت بعض الناس أرقاء !!(1/21)
وفى المعجم الكبير للقرن التاسع عشر : "لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرّون صحته ويسلّمون بمشروعيته" . وفيه: "الخلاصة أن الدين المسيحى ارتضى الاسترقاق تماماً إلى يومنا هذا ، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى فى إبطاله" .
وجاء فى قاموس الكتاب المقدس للدكتور "جورج يوسف" إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسى ولا من وجهها الاقتصادى ، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم فى آدابهم من جهة العبودية ، حتى ولا المباحثة فيها ، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد ، ولا حركت العبيد لطلب الإستقلال ، ولا تحدثت عن مضار العبودية ، ولا قسوتها ، ولم تأمر أبداً بإطلاق سراح العبيد حالاً، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين العبد والمولى بشيء ؛ بل على العكس أثبتت الرق وأيدته" (12). بل مضى المدعو "بولس" شوطاً أبعد فى تكريس الاستعباد والظلم ، إذ أمر العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح . فقال فى رسالته إلى أهل أفسس :
"أيها العبيد ! أطيعوا سادتكم حسب الجسد ، بخوف ورعدة فى بساطة قلوبكم كما للمسيح ، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس ، بل كعبيد المسيح عاملين بمشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس عاملين"!! .
وأوصى مدعى الرسالة بطرس بمثل هذه الوصية ، وأوصى بها آباء الكنيسة ، لأن الرق كفّارة عن ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوا من غضب السيد الأعظم !!!.
ولم يُنص على منع الاسترقاق ، لذلك أقرته جميع الكنائس على اختلاف أنواعها ولم ترفيه أقل حرج .(1/22)
ولم ير من جاء من باباوات النصارى ولا قديسيهم حرجًا من إقرار الرق حتى قال باسيليوس ، فى كتابه القواعد الأدبية ، بعد أن أورد ما جاء فى رسالة بولس إلى أهل افسس : "هذا يدل على أن العبد تجب عليه طاعة مواليه تعظيمًا لله عز وجل" إن الطبيعة - هكذا قول بولس – قضت على بعض الناس بأن يكونوا أرقاء واستشهد على نظريته – كما يرى هو - بالشريعة الطبيعية والشريعتين الوضعية والإلهية (!!!) .
وقال القسيس المشهور بوسويت: " إن من حق المحارب المنتصر قتل المقهور فإن استعبده واسترقه فذلك منه ُمِنّة وفضل ورحمة" !!!.
وأما القدِّيس توما الأكوينى فإنه قد زكَّى "الرق" مثلما فعل أستاذه "أرسطو"، لأنه كما يزعم حالة "فطرية" خُلق لها فريق من الناس، لأن عقولهم أقل ذكاء من الأحرار، فهم مجرد "آلات ناطقة"!! ولا ندرى كيف يُسمون "توما" هذا "قديسًا" مع هذا الذى يقوله ؟!! وإذا كان هذا هو "القدِّيس" عندهم فمن يكون الشيطان؟!! وقد كان كبار الباباوات فى كل العصور فى أوربا وغيرها من كبار تجَّار الرقيق ، وكانت الكنائس ذاتها تمتلك آلاف العبيد للخدمة فيها وزراعة المساحات الواسعة من الأراضى والحدائق التى تمتلكها .. وعلى سبيل المثال كان القس "لاس كاساس" أكبر تجار الرقيق فى البرتغال ، وفضحه صديقه القس "فرناندو دى إليفييرا" فى كتاب وضعه عام 1551 بعنوان "فن الحرب فى البحر" أدان فيه صاحبه لاس كاساس باعتباره أحد مبتدعى جرائم "خطف" وتهجير ثم "بيع" الرجال الأحرار المسالمين كما تُباع وتشترى الوحوش والمواشى !!.
وكانت الكنائس الأوروبية على مر العصور تتقاضى عمولات عن صفقات النخاسة ، وتقوم بمباركة "خطف واسترقاق" الناس وتعمّد العبيد بإسم ربهم المزعوم يسوع !!! "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً" (الكهف : 5).(1/23)
كما كان المقوقس كبير نصارى مصر يمتلك عدداً كبيراً من العبيد والجوارى.. وتذكر كُتب السيرة أنه عندما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، أجاب على الرسالة بلباقة وحسن أدب ، وبعث إلى النبي جاريتين مارية وسيرين وعبداً هو عمهما . وقد ولدت السيدة مارية القبطية لنبينا ابنه المحبب إليه إبراهيم واعتقها ولدها بمجرد الولادة . أما الأخرى فقد استقرت عند حسان بن ثابت رضي الله عنه (14).
ويثبت كبار المؤرخين من غير المسلمين حقائق تاريخية تشكل وصمة – بل وصمات – عار على وجه الكنائس ورجالها الذين تجاهلوا كل تعاليم التقشف والزهد في الحياة الدنيا ، ليتحولوا هم أنفسهم إلى إقطاعيين كبار يمتلكون الأراضى ومن عليها من العبيد والرقيق !!!.
يقول ول ديورانت : "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضى وأكبر السادة الإقطاعيين فى أوروبا ، فقد كان "دير فلدا" مثلاً ، يمتلك [15000] من العبيد ، وكان دير "سانت جول " يمتلك ألفين من رقيق الأرض ، وكان الملك هو الذى يعين رؤساء الأساقفة والأديرة ، وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين ، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية ... وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً من النظام الإقطاعى . وكذلك أمعنت الكنائس الغربية فى مزيد من الغى والظلم والإجرام ، فأباحت - بل شجعت وساندت بكل قوتها - خطف واسترقاق المسلمين والأوروبيين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحى !! وكانت آلاف من الأسرى الصقالبة أو المسلمين يُوزعون عبيداً على الأديرة. وكان القانون الكنسى يقدر ثروة الكنيسة فى بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساوى من المال ، فقد كان العبد سلعة من السلع كما يعده القانون الزمنى سواء بسواء، وحَرَّم على عبيد الكنائس أن يوصوا لأحد بأملاكهم ، وحَرَّم البابا جريجورى الأول على العبيد أن يكونوا قساوسة ، أو أن يتزوجوا من المسيحيات الحرائر"(15).(1/24)
وهكذا كانوا- وما زالوا – يفعلون ، بإسم السيد المسيح عليه السلام ،وهو منهم براء .
المراجع
1- ول ديورانت – قصة الحضارة - طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب - ترجمة زكى نجيب محمود و محمد بدران - الجزء الأول ص36-37 .
2- محمد عطية الأبرشى - روح الإسلام - طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب - مكتبة الأسرة ص 162 وما بعدها .
3- ول ديورانت - المرجع السابق - ص 356 .
4- أحمد شفيق باشا - الرق فى الإسلام - ترجمه إلى العربية - أحمد زكى باشا- الفصل الأول . وأيضاً دائرة معارف القرن العشرين - محمد فريد وجدى - حرف الراء مادة "رقق" .
5- سيأتى مزيد من التفاصيل عن الصحابة الذين حررهم الإسلام فى الفصل الأخير من هذا الكتاب .
6- محمد عطية الأبراشى – المرجع السابق ص 164 وما بعدها .
7- ول ديورانت- المرجع السابق - الجزء الثالث - حضارة اليونان ص64-67.
8- دائرة معارف القرن العشرين –حرف الراء مادة "رقق" وأيضاً أحمد شفيق باشا – الرق فى الإسلام – الفصل الأول.
9- م. ب . تشارلز – الإمبراطورية الرومانية – طبعة الهيئة المصرية للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة .
10- دائرة معارف القرن العشرين – وأحمد شفيق باشا سبقت الإشارة إليهما .
11- أنظر قصص الأنبياء لإبن كثير –و تفسير سورة يوسف لدى الإمام القرطبى وابن جرير الطبرى و النسفى وابن كثير.
12- الدكتور جورج يوسف – قاموس الكتاب المقدس ،وهو شهادة شاهد من أهلها فلا نحتاج إلى قول أكثر مما أثبته هناك بنفسه .
13- التفاصيل فى كتاب الزميلة عايدة العزب موسى " العبودية فى أفريقيا " طبعة مكتبة الشروق الدولية – مصر ، وأنظر المراجع التى ذكرتها هناك .
14- لمزيد من التفاصيل عن قصة السيدة مارية أنظر الفصل الأخير من هذا الكتاب
15- ول ديورانت – المرجع السابق .
الفصل الثانى
صفقات الشياطين(1/25)
شاء القدر أن يبتلى الهنود الحمر بالقسط الأوفر من الإبادة والاستعباد .. فقد كان اكتشاف الأمريكتين- بالإضافة إلى الثورة الصناعية – كارثة كبرى حلت بعشرات الملايين من سكان أمريكا الأصليين . والذى حدث هو أن عصابات البيض التى وصلت أمريكا وجدت مساحات هائلة من أخصب أراضى العالم البكر بحاجة إلى عشرات الملايين من الأيدى العاملة التى تعذَّر عليهم تدبيرها من أوروبا ، ولذلك فكَّر الغُزاة فى السيطرة على الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين ،لكنهم فشلوا فى استعبادهم,فلم يتورّعوا عن القضاء عليهم!! وهكذا وقعت واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية فى التاريخ .. ويقدر الباحث منير الحمش(1) أعداد السكان الأصليين الذين أبادهم الغزاة الأوروبيون بأكثر من مائة مليون هندى أحمر!!! ولم "يتورّع" السادة البيض الذين أسسوا ما يسمى الآن بالولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام أحط الوسائل وأخس السُبل للقضاء على الهنود الحمر ، ومنها تسميم آبار المياه التي يشرب منها السكان الأصليون ، وحقنهم بالفيروسات وجراثيم أشد الأمراض فتكاً مثل الطاعون والتيفود والجدرى ومسببات السرطان …إلخ. ويحاول المؤرخون الأمريكيون التقليل من أعداد الضحايا زاعمين أنهم حوالى مليونين فقط ، وفى إحصاء عام 1900م قللوا الرقم إلى مليون لا غير!! وهل قتل مليون نفس أمر هَيِّن ؟!!! ويشير المفكّر الإسلامى على عزت بيجوفتش – رئيس البوسنة الأسبق – إلى القانون الأمريكى الذى ظل سارى المفعول حتى عام 1865م ، وكان ينص على حق الأمريكى الأبيض فى الحصول على مكافأة مجزية إذا قدم لأى مخفر شرطة بالولايات المتحدة "فروة رأس هندى أحمر"!!! هذه هى حضارتهم الغربية المزعومة، وهذه هى الكيفية التى تأسست بها الولايات المتحدة الأمريكية التى تتشدق اليوم بالحريات وحقوق الإنسان !! ويضيف منير الحمش أن 80% من هنود "كاليفورنيا" مثلاً أبيدوا خلال عشرين عاماً فقط ، وهلك الباقون بسبب(1/26)
العمل الشاق حتى الموت "بالسُخْرة" فى سبيل رفاهية "السادة" البيض أجداد "جورج بوش"!! وكان اكتشاف مناجم الذهب والمزارع الشاسعة فى كولورادو وغيرها من ولايات الذهب وبالاً على الهنود المساكين ، إذ دفعت رغبة البيض المجرمين فى الحصول على أيدى عاملة رخيصة إلى تنشيط أخس وأقذر تجارة فى التاريخ بأمريكا، وهى خطف الأطفال والشباب لاستعبادهم ! وهكذا نشطت تجارة خطف أطفال الهنود من مختلف مناطق أمريكا .وكانت صحف تلك الفترة تمتلىء بصور الشاحنات المكتظة بأطفال الهنود الحمر المتجهة عبر الطرقات الريفية إلى أسواق العبيد فى "سكرامانتو" و "سان فرانسيسكو" ليتم بيعهم إلى أصحاب المناجم والمزارع . ومع نهاية القتال فى سنوات الاحتلال الأولى ، زاد الإقبال على خطف الفتيات - بصفة خاصة – فَهُن يقدمن خدمة مضاعفة " للسادة البيض" العمل الشاق نهاراً ، والجنس الإجبارى ليلاً(!!) .. وأما الآباء الهنود المساكين فإن الغضب والأسى ، الناجم عن خطف واغتصاب واستعباد فلذات أكبادهم ، كان معناه أنهم - فى نظر الأسياد البيض - "عناصر شغب" تستحق الإعدام فوراً وبلا محاكمة!! وبذلك تحول الخاطفون إلى "أبطال وطنيين أمريكيين" يساهمون فى التخلص من "المشاغبين الهنود" الذين يشكلون خطراً داهماً على "أمن الدولة" الأمريكية الناشئة !!! ويقول المؤرخون أن هذه القرصنة وجدت من "يقنّنها" ويضفى عليها الشرعية التامة عبر قانون أصدره برلمان ولاية كاليفورنيا فى أول جلسة تشريعية له فى عام 1850م !!! وأصبح خطف الهنود الحمر واستعبادهم بموجب ذلك التشريع عملاً قانونياً يستحق فاعله الثناء والتكريم !!! وبموجب تعديلات أضيفت عام 1860م تم إجبار عشرة ملايين هندى أحمر على القيام بأعمال "السخرة" حتى الموت !! ولم تمض سنوات على هذا التشريع الإجرامى حتى ضاق حاكم الولاية بيتر بيزنت ذرعاً "بالسُخْرة"، فوجه رسالة إلى المجلس التشريعى قال فيها : "إن الرجل الأبيض الذى يعتبر(1/27)
الوقت من ذهب ، والذى يعمل طوال النهار ، لا يستطيع أن يسهر طوال الليل لحراسة أملاكه. وليس أمامه خيار آخر سوى شن حرب إبادة !!! إن حرباً قد بدأت فعلاً ، ويجب الاستمرار فيها حتى "ينقرض الجنس الهندى تماماً" !!!
وهكذا أباد "السادة البيض" 112 مليون هندى أحمر ، وأُبيدت معهم حضارات "المايا" و "الأزتيا" و "البوهاتن" وغيرها لإقامة أمريكا زعيمة النظام العالمى الجديد!!!
تعليق
من أكثر المناظراثارة للسخرية أن زائر الولايات المتحدة الأمريكية بحراً- عندما تقترب به السفينة من ميناء "نيويورك" – يرى تمثال "الحرية" الشهير خارج جزيرة مانهاتن !!! ويعتبر الأمريكيون البيض تمثال " الحرية " هذا رمزاً لبلادهم !! ويود كاتب هذه السطور أن يسأل هؤلاء : هل أُقيم هذا التمثال رمزاً للحرية التى ُأسبغت على112 مليون هندى أحمر ؟! أم أنه رمز لحرية عشرات الملايين من الأفارقة المساكين الذين جرى خطفهم وجلبهم بالقوة إلى "الجنَّة الأمريكية" للعمل الشاق حتى الموت من أجل تحقيق "الحلم الأمريكى" ؟!! إنها لمهزلة كبرى أن يُقام تمثال "الحرية" على جثث وجماجم عشرات الملايين من البشر الذين تمت إبادتهم جماعياً بشكل لم يحدث مثله لحيوانات الغابات .. بل لو حدث معشار هذه الإبادة أو 1% منها فقط ضد الحيوانات ، لأقامت جمعيات الرفق بالحيوان فى الغرب الدنيا ولم تقعدها !! أما إبادة مائة مليون هندى أحمر فهو أمر "يؤسف له" - على حد زعمهم- ولكنه كان "ضروريًا" لأمن البلاد !!! بل كان أبو "الحرية" الأمريكية المزعومة- جورج واشنطن- نفسه يملك ثلاثمائة عبد وجارية فى مزرعته الخاصة ، ولم يحرر منهم واحداً قط !!.
قنص الهنود !!(1/28)
يحكى المؤرخون الأوربيون المنصفون قصصاً يشيب لهولها الولدان . فقد كان الغزاة البيض يشعلون النار فى أكواخ الهنود ، ويقيمون الكمائن حولها ، فإذا خرج الهنود من أكواخهم هاربين من الحريق ، يكون رصاص البيض فى انتظار الرجال منهم ، بينما يتم القبض على الأطفال والنساء أحياء لاتخاذهم عبيداً واغتصابهم جنسياً أيضاً ! وكتب أحد الهولنديين قائلاً : "انتزع البيض بعض الأطفال الهنود الصغار من أحضان أمهاتهم وقطعوهم إرباً أمام أعينهن, ثم ألقيت الأشلاء فى النيران المشتعلة أو النهر !! وربطوا أطفالا آخرين على ألواح من الخشب ثم ذبحوهم كالحيوانات أمام أعين الأمهات" !! إنه منظر ينفطر له قلب الحجر – كما يقول الهولندى الراوى نفسه – كما ألقوا ببعض الصغار فى النهر ، وعند حاول الآباء والأمهات إنقاذهم لم يسمح لهم الجنود بالوصول إلى شاطئ النهر ، ودفعوا الجميع - صغاراً وكباراً – بعيداً عن الشاطئ ليغرقوا جميعاً !! والقليل جداً من الهنود كان يمكنه الهرب ، ولكن بعد أن يفقد يداً أو قدماً ، أو ممزّق الأحشاء برصاص البيض.. هكذا كان الكل إما ممزّق الأوصال ،أو مضروباً بآله حادة أو مشوّهاً بدرجة لا يمكن تصور أسوأ منها (2) وتم نقل أعداد هائلة من العبيد الهنود إلى جزر الهند الغربية للعمل بالمزارع الشاسعة هناك أو لبيعهم لآخرين . كما شُحن مئات الألوف منهم شمالاً إلى نيوانجلند و "نيويورك" حيث مقر الأمم المتحدة ، وتمثال "الحرية" المزعوم !! وكان المؤرخ "لا كاس" الذى فضح جرائم الأسبان فى أمريكا الجنوبية بكتابه الشهير "تدمير الهنود الحمر" قد أثار القضية أمام المحاكم الأسبانية .. فلجأت الحكومة هناك إلى تهدئة الرأى العام الثائر بإصدار قانون يمنع استعباد الهنود بشكل شخصى ، لكن "النصوص"- كما يقول لا كاس- لم تعرف سبيلها إلى التطبيق الواقعى أبداً فى الأمريكتين . وانتشر فى كل أمريكا الجنوبية كذلك نظام بمقضاه يسيطر المالك الأبيض(1/29)
لقطعة أرض على كل الهنود الذين يعملون فيها ، أى رقيق الأرض بدلاً من الرق الشخصى .. كالمستجير من الرمضاء بالنار (3)!!!
محنة أفريقيا
اكتشف البيض – بعد إبادة معظم الهنود الحمر– أنهم لن يتمكنوا من استصلاح وزراعة عشرات الملايين من الأفدنة فى القارة الجديدة – أمريكا – بدون جلب الملايين من الأيدى العاملة الرخيصة . وتفتقت أذهان الشياطين عن خطة جهنمية بدأت كل دول أوروبا الغربية تقريباً تنفيذها . إن الزنوج الأفارقة هم من أقوى أنواع البشر وأكثرهم جلداً وصبراً وتحملاً للمشاق والأجواء القاسية ، ولهذا استقر رأى المجرمين على" اصطياد " أكبر عدد ممكن منهم !! وهكذا تكالبت الوحوش البيضاء المسعورة على الفريسة المسكينة- أفريقيا – تنهش فلذات أكبادها بلا ذرة من رحمة أو إنسانية .. آلاف السفن الأوروبية المحملة بالجنود المسلحين بالبنادق والمدافع تقاطرت على الساحل الغربى للقارة السوداء حاملة الموت والخراب لأغلب سكانها ، والخطف والاستعباد والإذلال مدى الحياة لمن بقى منهم على قيد الحياة !! تقول المصادر الأوروبية ذاتها أن جيوش إنجلترا وبلجيكا والبرتغال وألمانيا وفرنسا وهولندا وأسبانيا – ذات التسليح المتقدم الذى لا يمكن مقارنته بالسيوف والحراب التى لا يملك الأفارقة غيرها – لم تجد صعوبة كبيرة فى السيطرة على الساحل الغربى لأفريقيا المطل على المحيط الأطلنطى ..وخلال خمسين عاماً فقط تم خطف وترحيل ما بين 15 إلى 40 مليوناً من الأفارقة حيث تم بيعهم كعبيد فى أسواق أمريكا وأوروبا . ونلاحظ أن المصادر الغربية ذاتها تؤكد أنه من بين كل عشرة أفارقة كان يتم أسر واحد فقط واستعباده ،بينما يلقى التسعة الآخرون مصرعهم إما برصاص الغزاة البيض ، وأما جوعاً و عطشاً أو انتحارًا من على ظهر السفن التى كانوا يحشرون فيها كالماشية . وكثير منهم كان يلقى حتفه اختناقاً بسبب تكديس المئات منهم فى أقبية السفن فى مساحة عدة مترات بلا تهوية أو(1/30)
طعام أو مراحيض!! (3)
وكثيراً ما كان البحارة يقتلون المئات من الضحايا ويلقون بجثثهم فى البحر. وعلى ذلك فإن ما لا يقل عن مائة مليون أفريقى قد لقوا حتفهم فى 50 عاماً فقط خلال ملاحم "اصطياد العبيد" من القارة المنكوبة . تقول دائرة المعارف البريطانية فى مادة "العبودية" slavery : أن الإنجليز كانوا يشعلون النيران فى الأحراش والأشجار المحيطة بأكواخ الأفارقة ، فيضطر هؤلاء المساكين إلى الخروج من مساكنهم هرباً من النيران ، فتتلقفهم رصاصات القناصة لقتل الرجال, بينما يتم أسر الأطفال والنساء، ثم ترحيلهم إلى مراكز لتجميع العبيد على طول الساحل الغربى الأفريقى تمهيداً لنقلهم بالسفن عبر المحيط الأطلنطى فى رحلة بلا عودة !! ونلاحظ أن هذا هو الأسلوب ذاته الذى جرى استخدامه "لاصطياد الهنود الحمر ، كما يصطادون الوحوش والحيوانات غير الأليفة من الغابات" !!
ونحن لا نعرف بالضبط الأرقام الحقيقية للضحايا سواء من القتلى أو ممن سقطوا فى فخاخ الاستعباد حتى الموت . ولكن من المؤكد أن الأرقام أعلى بكثير مما تذكره المصادر الغربية .
ويكفى أن كاتباً غربياً كبيراً ذكر أن عدد القتلى فى دولة واحدة هى الكونجو بلغ عشرة ملايين إفريقى فى عهد الطاغية الملك "ليوبولد" الذى دمر شعباً بأكمله ، وعرقل مسيرة الكونجو لمئات السنين بسبب نهمه وجشعه وإجرامه .(1/31)
يقول آدم هو تشيلد فى كتابه "شبح الملك ليوبولد" أن هذا الطاغية قتل كل هؤلاء خلال 23 عاماً فقط حكم خلالها الكونجو التى كان يدعيها مستعمرة مملوكة له شخصياً بكل ما عليها من بشر وثروات وحيوانات !!! وقد كان الأوروبيون مثل "ليوبولد" فى الكونجو ، والفرنسيون فى مناطق أخرى ، والبرتغاليون فى أنجولا ، والألمان فى الكاميرون ، والإنجليز فى دول أخرى عديدة قد وضعوا نظاماً إجرامياً للسخرة لاستخراج المطاط والذهب وغيرها من كنوز القارة السوداء التى نهبها المجرمون، كما سرقوا فلذات أكباد الأفارقة ,وعطلوا مسيرتهم مئات السنين، ولم يتركوا لهم سوى الموت والخراب الشامل والتعاسة التى لم يفلت منها أحد !! ويعدد "هوتشيلد" وغيره من المؤلفين الغربيين الفظائع التى ارتكبها الأوروبيون فى أفريقيا، فقد كان الشنق وتعليق الجثث على الأشجار, وقطع الأيدى والأقدام والأذن والعضو الذكرى أمراً شائعاً مارسه المحتلون على اختلاف دولهم وهوياتهم . وكان من المألوف أيضاً الإجبار على العمل المتواصل تحت الشمس الحارقة بلا ماء أو طعام كاف، والربط بالسلاسل الحديدية ، وحرق قرى بأكملها عقاباً على أية بادرة تذمر . وكان هناك نوع من الكرابيج يصنعه الجلادون خصيصاً من جلد الخرتيت بعد أن يتم تجفيفه وتقطيعه بطريقة تترك أطرافه حادة وقاطعة . ويقول هوتشيلد أن عشرين جلدة بهذه الكرابيج كانت كافية ليفقد "المجلود" الوعى تماماً ، فإذا ارتفع عدد الضربات إلى مائة جلدة بتلك الكرابيج الشيطانية فإن المجلود يلقى حتفه فوراً . وإذا كان زبانية "ليوبولد" يستخدمونها ضد التعساء فى الكونجو, فقد كان الفرنسيون يستخدمونها بضراوة أشد فى "برازافيل" !! ولم تكن ألمانيا بعيدة عن الميدان ، فقد أباد الألمان شعباً بأكمله هو قبائل "الهيريرو" فيما يعرف الآن بـ "ناميبيا" . وتكفى قراءة فقرة واحدة من تعليمات القائد الألمانى لجنود الاحتلال عام 1904م لإدراك هول ما حدث ووحشية(1/32)
السادة البيض الذين يتطاول أحفادهم الآن على الإسلام : (كل "هيريرو" – أفريقى – يوجد يجب أن يُقتل سواء كان يحمل سلاحاً أم لا وسواء كانت لديه ماشية أم لا .. ولا يجوز إعتقال أى رجل ، يجب فقط أن يُقتل") ونحسب أن الأمر لا يحتاج منا إلى أدنى تعليق !! وقد كانت البرتغال كذلك من أكثر دول أوروبا تورطاً فى الرق ، بل تصفها الزميلة عايدة العزب موسى بأنها "مبتدعة الرق" ، وتنقل عن القسيس البرتغالى فرناندو دى أليفيرا فقرات خطيرة من كتابه " فن الحرب فى البحر" تتبع فيه كيف كان تُجار الرقيق من البرتغاليين بقيادة صديقه القس "لاس كاساس" أكبر النَخّاسين فى عصره ،يقومون بترحيل مئات الألوف من العبيد الأفارقة عبر المحيط الأطلنطى بعد خطفهم وانتزاعهم من أسرهم وتقييدهم بالسلاسل(4).
الحاقدون على الإسلام
وكما أشرنا فى ختام الفصل الأول ، كان يصاحب كل سفينة قسيس ليقوم – حسبما ذكر إليفيرا- بتنصير العبيد مقابل مبلغ مالى يتقاضاه عن كل رأس ! وهكذا يسلبون الضحايا الحرية والدين أيضاً !! وحققت الكنائس الأوروبية ثروات هائلة من تلك الرسوم التى تتقاضاها من النَخَّاسين !! وشاركت هولندا أيضاً فى تجارة العبيد ، حيث طافت مئات من السفن الهولندية موانئ أفريقيا الغربية منذ القرن السادس عشر لنقل ملايين من العبيد إلى أوروبا وأمريكا . بل كانت جزيرة "جورى" التى يجمعون فيها العبيد تمهيداً لنقلهم عبر الأطلنطى تحت سيطرة الهولنديين الى أن باعوها للإنجليز عام 1872م . وكانت بعثات التبشير "التنصير" الهولندية متورطة فى أخسّ تجارة عرفتها البشرية . ويبدو أنهم اكتشفوا أن خطف واصطياد الأفارقة المساكين واستعبادهم يدر من الأرباح أضعاف ما يجلبه العمل على تغيير عقائدهم باسم الرب الذى يزعمون!!
ويكشف"هيوتوماس" سبباً اّخر لاختطاف الأفارقة واستعبادهم وهو الإنتقام البربرى .(1/33)
يقول "هيوتوماس" : الحقيقة أن البرتغاليين وغيرهم كانوا يصطادون الإفريقيين ويحولونهم إلى عبيد محض انتقام من الأفارقة المغاربة بسبب سيطرتهم على أسبانيا والبرتغال (دولة الأندلس الإسلامية) فقد كان أسلاف هؤلاء المغاربة من المسلمين قد سيطروا على أسبانيا والبرتغال لمئات من السنين"
ومن الواضح كما شهد هيوتوماس أن القوم لم ينسوا أحقادهم رغم أن المسلمين - كما شهد مؤرخو الغرب – قدموا للغرب وللعالم كله أياد بيضاء طوال حكمهم للأندلس .فقد نشروا العلوم والمعارف والحضارة فى تلك العهود ،وعاملوا غير المسلمين بالأندلس بكل عطف ورحمة !! ويؤيد ما قاله هيوتوماس أن البابا يوجينياس الرابع أعلن رعايته لحملات الاستعباد التى يقوم بها الملك هنرى فى أفريقيا !! وفى الفترة من1450 حتى 1460 م عقد البابا نكولا الخامس وكالكاتاس الثالث صفقة لاسترقاق الأفارقة مقابل "تعميد" – تنصير – العبيد ودفع 300 كراون للكنيسة عن كل رأس !! بل أرسل أحد الأساقفة سفينة لحسابه فى إحدى الحملات!! وبعد كل هذه الفضائح يجدون الوقاحة الكافية للتطاول على الإسلام !!! وقد كانت التفرقة العنصرية – البغيضة – وما تزال حتى الآن – سبباً فى تحول كثير من الأمريكيين السود ونظرائهم فى أوروبا إلى الإسلام . إذ أن طوفان المظالم والاستعباد والقهر دفعهم إلى البحث عن سفينة النجاة ، فلم يجدوا أى سبيل آخر سوى الإسلام الذى يحظر تماماً كل أنواع الظلم والتفرقة بين الناس . الإسلام وحده هو الذى يرد إليهم الاعتبار والآدمية ، ويساوى بينهم وبين الطغاة البيض، ولا يوجد شىء كهذا فى ديانة سماوية أخرى أو أية فلسفة وضعية أو أى نظام آخر .
تعليق(1/34)
نلاحظ أن مظاهر التفرقة العنصرية مازالت موجودة حتى الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية . إذ توجد حتى اليوم أحياء فى كبريات المدن الأمريكية يتكدس فيها السود بلا مرافق أو خدمات ، كما أن معظم المشردين بلا مأوى Homeless هم من السود والملونين, وعددهم يفوق الثلاثين مليونا. وفى أمريكا يوجد أكبر عدد من السجناء فى العالم كله -2 مليون سجين- ثلاثة أرباعهم من السود (!!!) . ومازلنا نتذكر أحداث لوس انجليوس، حيث ثار السود احتجاجًا على الممارسات البوليسية الإجرامية ضدهم ، وسحل مواطن أسود بواسطة رجال الشرطة البيض حتى الموت .واندلعت مظاهرات صاخبة فى أكتوبر 2007 م احتجاجا على اعتقال 6 تلاميذ سود وتلفيق تهمة لهم هى الشروع فى قتل تلميذ ابيض, لانه علق أحبالا ومشانق بالمدرسة, اشارة الى ما كان يحدث من اعدام للعبيد السود بلا محاكمات.وأكدت منظمة حماية الملونين ان السود هم الفئة الأكثر تعرضا للسجن وتلفيق الاتهامات والتعذيب فى السجون الامريكية.كما ترصد تقارير أمريكية وجود تفاوت هائل حتى الاّن فى مستوى الدخل بين العائلات البيضاء ونظائرها من السود.وقد اعترف الرئيس السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارا فى الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك أوروبا والصين . وتناولت شبكات تلفاز عالمية مثل CNN ظاهرة اعتناق الملايين من الأمريكيين والأوروبيين للإسلام منذ أحداث 11 سبتمبر الشهيرة . وتبين أن أعداداً كبيرة جداً منهم اعتنقوا الإسلام ، ومن بينهم أساتذة جامعيون وأطباء وعلماء ومهندسون ومحامون ورجال أعمال ، وفتيات فى عمر الزهور قبلن طواعية ارتداء الحجاب – و النقاب فى بعض الحالات - ورفضن حياة الشهوات والخلاعة والانحلال على النحو السائد فى كل دول الغرب . وهكذا فإن المُنَصِّرين الذين حاولوا تغيير ديانة الأجداد السود الذين امتحنوا بالاستعباد ، يجدون أنفسهم عاجزين الآن تماماً عن وقف اعتناق الملايين من أحفادهم(1/35)
للإسلام الدين الحق والدين الأصلى للمُسْتَعْبدَين الأوائل ! وصدق الله العظيم : "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (يوسف : 21) . بل إن بعض الحاقدين يحاول التقليل من أهمية سرعة انتشار الإسلام فى أمريكا قائلاً : أن الزنوج هم الذين يُسلمون ،رغم وجود ملايين من البيض أسلموا أيضا، ولا يعلم هؤلاء الأغبياء أنه حتى لو صدقوا فى هذا – وهم كاذبون – فإن هذا يحسب للإسلام وليس ضده . لأن الأسود يعلم أن الإسلام هو وحده الذى يضمن له كل الحقوق والعدالة والمساواة مع الآخرين، وتلك شهادة لصالح الإسلام وضد الغرب فى ذات الوقت .
جذور(1/36)
ومازلنا نتذكر المسلسل العالمى "جذور" عن رائعة الكاتب الأمريكى الكبيرأليكس هيلى الذى حكى محنة الزنوج المستعبدين ، ونال عنها جائزة "بوليترز" العالمية. وقد عُرض المسلسل الرائع فى معظم أنحاء العالم, وشاهده مئات الملايين من البشر مصحوباً بترجمة إلى أغلب لغات الأرض . ويقول ألكس هيلى أن القصة حقيقية ، وبطلها هو جده الذى إختطفته عصابات البيض من قريته الإفريقية ، حيث تعرض للضرب والتعذيب وأوثقوه بالسلاسل ، ثم ألقى به مع مئات غيره فى سفينة عبرت الأطلنطى, ليجد نفسه بعد أسابيع معروضاً للبيع فى الأرض الجديدة "أمريكا". وحكى "هيلى" نقلاً عن جده – الذى حكى لابنته وعلم هيلى بالتفاصيل من جدته التى هى تلك الإبنة – الأهوال والفظائع التى تعرض لها الملايين من العبيد المساكين منذ اختطافهم والزج بهم مقيدين بالسلاسل فى قلعة "جيمس" إلى أن تم شحنهم مكدسين فى سفينة كالبهائم . وكانوا يكوونهم بأسياخ الحديد المحمى بلا رحمة ليضعواعلى ظهر كل منهم علامة السفينة التى ستنقله إلى أمريكا. وخلال الرحلة إلى الجحيم ألقى بعض المساكين بأنفسهم فى الماء هرباً من سياط الجلّادين . وعانى الباقون من ندرة الطعام والمرض والتعذيب, حتى وصلوا إلى الشاطئ الأمريكى، حيث تم بيع "كونتا كنتى" جد "هيلى" بمبلغ 300 دولاراً . وحاول الفتى المسكين الهرب لكنه فشل وتعرض لتعذيب مروع ليكف عن الهرب، وفى المرة الثانية قبضوا عليه وأوثقوه إلى جذع شجرة ليقطع أحد البيض نصف قدمه اليمنى بفأس حتى لا يستطيع الجرى أو الهرب مرة أخرى !!.. وتحكى الرواية الجبارة تفاصيل حياة البؤس والشقاء التى عاشها "كونتا" وعشرات الملايين غيره فى ظل الاستعباد . وقد نال الكتاب والمساسل المأخوذ عنه رواجاً عالمياً فاق كل تصور . ولكن الأمريكان لا يعرفون شيئاً اسمه الحياء ، ولهذا دأب بعضهم كالعادة على التشكيك فى الرواية, رغم أن أحداً لا يمكنه إنكار وقوع هذه الجرائم المروعة ضد(1/37)
ملايين السود على يد "الشيطان الأكبر".
القانون الأسود
وقد لجأ البيض إلى أساليب شيطانية لقمع العبيد وقهرهم والسيطرة عليهم .. وقننوا هذا كله بتشريعات تشكل وصمة عار لأى نظام قانونى فى التاريخ . يقول العَلاَّمة محمد فريد وجدى : "كان القانون الذى يتناول أحوال الرقيق يُعرف فى كل أمة من الأمم المعاصرة بالقانون الأسود . وعلى سبيل المثال كان القانون الأسود الفرنسى الذى صدر سنة (1685) ينص على أن الزنجى إذا اعتدى على أحد الأحرار أو ارتكب جريمة السرقة عوقب بالقتل أو بعقاب بدنى آخر ، أما إذا أبق العبد فإن نص القانون أن الآبق فى المرة الأولى والثانية يتحمل عقوبة صلم الأذنين والكى بالحديد المحمى ، فإذا أبق الثالثة قتل . وقتل الآبق كان معمولا به أيضاً فى انجلترا، فقد نصت شريعتهم على أن من أبق من العبيد وتمادى فى إباقه قتل. وكان غير مسموح لذوى الألوان أن يحضروا إلى فرنسا لطلب العلم . ودام الحال على هذا فى فرنسا حتى قامت ثورة 1848 م . أما فى أمريكا فكان القانون فى غاية الشدة والقسوة ، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحرّ إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة فى المستعمرات . وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والقتل .
وكان يجوز للمالك رهن عبده وإجارته والمقامرة عليه وبيعه كأنه بهيمة(!!) . وكان لا حق للأسود فى أن يخرج من الحقل ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانونى . ولكن إذا أجتمع فى شارع واحد أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانونى كان لأى أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم!!(5) .
وهذه النصوص كانت مطبقة فى كل أنحاء الأمريكتين .
إعتذار بعد فوات الأوان !!(1/38)
فى عام 2006م قدمت كنيسة إنجلترا إعتذاراً رسمياً علنياً عن دورها المشين فى الإتجار بالرقيق ، وإقتناء عشرات الألوف من العبيد ظلوا يعملون حتى الموت فى المزارع الواسعة التى تمتلكها الكنيسة فى منطقة الكاريبى . وقد شاركت فى قنص وترحيل العبيد 2704 من السفن البريطانية . وفى مارس 2007م قاد الدكتور روان ويليامز رئيس أساقفة كانترى- كنيسة إنجلترا- مسيرة حاشدة شارك فيها عشرات القساوسة والشخصيات العامة ، طافت شوارع لندن ، إعتذاراً عن "تورط الكنيسة فى التاريخ البشع للعبودية فى العالم" على حد قول وليامز نفسه. وأضاف رئيس أساقفة بريطانيا :" أنه ليس الندم فقط ، بل يجب إعلان التوبة عن مشاركتنا فى هذه الوصمة التى كلفت الملايين ، من العبيد البؤساء أرواحهم وممتلكاتهم ، ودمرت إقتصاديات العديد من دول أفريقيا" (6) غير أن رأس الكنيسة الإنجليزية لم يجد فى نفسه قدراً آخر إضافياً من الشجاعة ليطالب بتعويض أحفاد الضحايا عما حلّ بآبائهم وأجدادهم من إذلال وقهر وخراب شامل !! بل إن جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق علّق على المطالبات القضائية بالتعويض عن جرائم الإستعباد قائلاً بسخرية وقحة : "آه .. سوف ندفع للأفارقة تعويضات بشرط أن يثبتوا أن ثمة ضرر قد لحق بهم بسبب كون أجدادهم عبيدا لنا" !!! وكأنه يظن أن إستعباد الغرب للأفارقة كان " تشريفاً" لهم و "وساماً" على صدورهم !! ولا يختلف "بنديكت" بابا الفاتيكان عن "ميجور" فى هذه الجزئية . فرغم إختلاف مذهب الفاتيكان – الكاثوليكى- عن المذهب السائد فى انجلترا ، إلا أنهم جميعاً – مع نظرائهم الأمريكان وباقى أوروبا – يتفقون فى شئ واحد : لا تعويضات عن الاستعباد مئات السنين لمئات الملايين من البشر !! مع أنهم جميعاً تسابقوا لإرضاء "إسرائيل" بمئات البلايين من الدولارات تعويضاً لليهود عن "مزاعم غير ثابتة" بالتعرض للتعذيب فى محارق "هتلر" !!! أما التى يعترفون هم أنفسهم بها فلا(1/39)
!!! وقد اعترف بابا الفاتيكان بإرتكاب أسلافه لجرائم بشعة فى الأمريكتين خلال القرن الخامس عشر وما بعده ضد السكان الأصليين ثم الأفارقة السود .. ورغم إعترافه هذا ، فقد رفض الإعتذار عن تلك الجرائم التى لم ينكرها !!! وهو ما جعل رئيساً أمريكياً نصرانيًا- "هوجو شافيز" رئيس فنزويلا- يشن هجوماً لاذعاً على البابا المنافق .. وقال شافيز : إن البابا يكذب بإدعائه أنهم نشروا المسيحية فى الأمريكتين بالسلام والمحبة ، فى حين كانت "بنادق البيض الغزاة تحصد السكان الأصليين بالملايين ..(7) فهل هذه هى المسيحية التى يتشدق بها ؟!!
واستنكر شافيز تبجح البابا الذى رفض مجرد كلمة إعتذار للضحايا لن تكلّفه "سنتاً" واحداً ، وطالبه بالتحلى بقدر أكبر من الأمانة والموضوعية !! والذى يراه كاتب هذه السطور أن شخصاً مثل "بنديكت" -الذى كان عضواً فى الحزب النازى فى شبابه - لن يعتذر عن جرائم فعل مثلها هو نفسه فى عهد زعيمه هتلر !! فهو يرى أن هذه "أمور طبيعية الوقوع" من المنتصر"الأبيض" ضد السود والهنود الأمريكيين "الأقل شأناً" !! لكن الشاذ حقاً أن شخصاً كهذا يتطاول على الإسلام الحنيف ، ويتهمه بالإرهاب ، رغم السجل الإجرامى الأسود لممثل الإدعاء الكاثوليكى !! ويبدو أن "بنديكت" يتناسى كذلك السجل الأسود لكنائس الغرب فى "محاكم التفتيش" ، وإحراق ملايين المخالفين ليس فقط فى الدين ، بل حتى فى مجرد " المذهب" أو "الطائفة " داخل المسيحية ذاتها !! وكذلك أحرقوا علماء كبارا مثل "جاليليو" لأنه تجرأ وأعلن الحقيقة العلمية وهى أن الأرض تدور وأنها كروية !!! حقاً إذا لم تستح فاصنع ما شئت وازعم ما شئت !!(8) .
المراجع
1- منير الحمش – أمريكا والكنانيون الحمر – دراسة منشورة بمجلة أخبار الأدب – دمشق – 9/6/2002م – بتصرف .
2- الحمر والبيض والسود – جارى ناس – ترجمة مصطفى أبو الخير – سلسلة الألف كتاب – مصر – بتصرف .
3- المرجع السابق – بتصرف .(1/40)
4- عايدة العزب موسى – العبودية فى أفريقيا – مكتبة الشروق الدولية – مصر – طبعة 2004م – مواضع متفرقة من الكتاب بتصرف – وأنظر أيضاً المراجع الهامة التى ذكرتها هناك .
5- محمد فريد وجدى – دائرة معارف القرن العشرين – طبعة دار المعرفة – بيروت – المجلد الرابع – حرف الراء "الرق" ص 277-278 وأنظر أيضاً "الرق فى الإسلام" لأحمد شفيق باشا
6- موقع شبكة BBC باللغة العربية على الإنترنت – 24 مارس 2007م . بتصرف
7- موقع قناة الجزيرة على الإنترنت باللغة العربية – 24 مايو 2007م . وانظر ايضا الموقع الاسلامى الممتاز : صيد الفوائد www.saaid.net
8- كلمة بتصرف تعنى أننا حصلنا على المعلومة من المصدر المشار إليه ، لكن الصياغة والتعليق عليها بواسطة كاتب هذه السطور ، وربما أضفنا إليها معلومة أخرى من عندنا .
الفصل الثالث
الاستعباد المعاصر
يتوهم البعض أن الرق قد اختفى من العالم في وقتنا هذا .. والواقع الكئيب في كل مكان يثبت عكس ذلك تماماً .. فأكابر المجرمين من "السادة البيض" لم ولن يقلعوا عن قهر الآخرين واستعبادهم وإذلالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . وهكذا استعبدت بريطانيا مصر والسودان والهند وغيرها من بلاد العالم الفقير المسمى بالعالم الثالث ، كما استعبدت فرنسا الجزائر وتونس وبلاد الشام . وكذلك فعلت إيطاليا بليبيا والحبشة، والبرتغال وبلجيكا وهولندا بدول أفريقية عديدة . ومن العجيب أنهم يستخدمون مصطلح "الاستعمار" بهذا الشأن، رغم أن الاحتلال الغاشم لم يُعَمِّر أياً من البلاد المنكوبة، ولهذا فالمصطلح المناسب هو "الاستعباد" وليس الاستعمار .
وقع هذا خلال القرنين الماضيين . بل حاولت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إعادة استعباد مصر عام 1956، لولا أن كَشَّر الدُبّ الروسي – القوي في ذلك الوقت – عن أنيابه، فوَلَّى الذئب الإنجليزي والضبع الفرنسي والثعلب الإسرائيلي الخبيث الأدبار .(1/41)
ثم ابتليت فلسطين الحبيبة بالاستعباد الصهيوني اللعين منذ فترة أربعينات القرن الماضي وحتى اليوم!!
والاحتلال العسكري الغربي كان وما يزال يمارس ذات الأساليب الإجرامية التي مارسها أجداده ضد العبيد البؤساء، من قهر للشعوب – فرادى وجماعات – وقتل, وسحل, واعتقال, وتعذيب، واغتصاب للنساء، ونهب للثروات، وتخريب، وحرق للأخضر واليابس . ولن يستطيع الغرب محو تلك الصفحات حالكة السواد، فقد سطرتها أقلام نزيهة- من بني جلدتهم- كما أنها محفورة في ذاكرة الأمم ولا سبيل إلى محوها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . كذلك يتجاهل الحاقدون على الإسلام ما حدث في أوروبا وغيرها من القارات خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية .. لقد نشبت الحرب بسبب جنون القيادات السياسية والدينية المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فهي حرب مسيحية صرفة لا ذنب للإسلام والمسلمين فيها .. وسقط خلال الحربين ما يزيد على السبعين مليوناً من القتلى، وأضعاف هذا الرقم من المعوقين والمشوهين والمشردين . ودمرت خلالهما معظم المدن الأوروبية بالكاملً .. ويهمنا هنا التركيز على الجانب الذي يتعلق بموضوعنا وهو الرق .. لقد وقع الملايين من الجنود الأوروبيين في الأسر على الجانبين .. وكل من الفريقين – الألمان والطليان من ناحية، والانجليز والفرنسيين وحلفائهما من ناحية أخرى – ارتكب فظائع ضد الأسرى لا تقل عما كان يحدث للعبيد على مر العصور . وعلى سبيل المثال – وليس الحصر – كان مئات الألوف من الأسرى يساقون مكبلين بالأغلال كالبهائم، مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام، ومن يتكاسل عن السير أو يسقط من الإعياء، أو تبدر منه أية محاولة للهروب، يُقتَل على الفور رمياً بالرصاص . وكان الألوف من الأسرى لا ينالون أي طعام أو شراب عدة أيام، ومات كثيرون منهم جوعاً وعطشاً، فضلاً عن ملايين الجرحى الذين هلكوا متأثرين بجروحهم في ظل انعدام وجود أي علاج أو(1/42)
إسعافات . ومن نافلة القول الحديث عن تسخير مئات الألوف من الأسرى لشق الطرق وبناء الجسور والمعسكرات وكافة الأعمال الشاقة معظم ساعات اليوم والليلة بلا راحة . ولا حاجة بنا لاستعراض ألوان التعذيب المروع للأسرى من الجانبين – لانتزاع المعلومات أو الاعترافات – فالقارئ الذكي لن يحتاج إلى تذكير بهذا الصدد . ولقي مئات الألوف من الأسرى مصرعهم دفناً في الجليد، أو جلداً بالسياط، أو بمجرد تركهم بلا مأوى أو طعام أو شراب في مناطق نائية لا حياة بها ولا شيء سوى الجليد الذي يغطي حتى جثث أولئك التعساء !! ونشير إلى أن بعض العبيد – في بعض الحضارات – كانوا يضمنون الطعام والشراب والمأوى ولو في حظائر الحيوانات على العكس تماماً من الأسرى لدى جيوش الدول الأوروبية صاحبة الحضارة المزعومة التي فاقت البرابرة في المعاملة الوحشية والفتك بالأسرى بوسائل لم تخطر لإبليس ذاته على بال !!.
إعدام الأسرى المصريين(1/43)
ومن المؤكد أن المجرمين اليهود في الكيان الصهيوني قد تعلموا من أساتذتهم الأوروبيين هذه الأساليب الإجرامية في الفتك بالأسرى المصريين (شهداء حربي 1956 و 1967) فكانوا يتفننون في تعذيبهم تحت شمس سيناء الحارقة صيفاً . واعترف كثير من مجرمي الحرب الصهاينة بالاشتراك في قتل آلاف الأسرى المصريين دهساً بالدبابات، أو رمياً بالرصاص، أو بإجبارهم على حفر المئات من القبور الجماعية ثم رميهم فيها وإهالة الرمال عليهم بالرافعات الضخمة لتدفنهم فيها أحياء!! وهذا طبعاً بعد شهور طوال من الأسر مورست ضدهم خلالها أبشع ألوان التعذيب الشيطاني بكل السبل المحرّمة دولياً .. وحتى الآن أفلت الصهاينة من أي عقاب!! ورغم كل المناشدات المصرية فإن المنظمات الدولية- وخاصة الأمم المتحدة والمحكمة الدولية لمجرمي الحرب ومقرها لاهاي بهولندا – تصر على تجاهل الأمر، بينما حصل اليهود المجرمون على مئات البلايين من الدولارات تعويضاً عن مجرد مزاعم بتعذيب أجدادهم في محارق هتلر!!!
مأساة فلسطين(1/44)
ولا ننسى أيضاً أن الشعب الفلسطيني كله يرزح تحت نير الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من ستين سنة . شعب بأكمله يقاسي أهوال العبودية بأيدي أخسّ وأقذر عصابة إجرامية يعترف لها العالم المنافق بصفة الدولة !! وما يحدث للشعب الفلسطيني الحبيب لا يقل أبداً عما كان يعانيه العبيد في كل العصور .. الفارق فقط هو في تطور وسائل البطش والتنكيل باستخدام التكنولوجيا الحديثة !! وتقع مئات من جرائم إهدار الآدمية والقتل والاعتقال والتعذيب الوحشي وهدم البيوت والمدارس والمساجد بصفة يومية منهجية منتظمة تحت سمع وبصر كل العالم، ولا أمل يلوح في الأفق فى نهاية قريبة لمحنة الأشقاء في فلسطين .. وكمثال يكفي أن نشير إلى استمرار وجود أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني و لبناني في سلخانات – وليست سجون – سلطات الاحتلال الإسرائيلي! ولا حاجة لاستعراض ما هو معلوم للجميع من أساليب التعذيب الهمجي والإذلال في كل لحظة للأسرى العرب البواسل، في محاولات فشلت دائماً في كسر إرادة المجاهدين لتحرير الأراضي المقدسة والأقصى الشريف من أيدي أعداء الله .
جحيم بغداد
ونتوقف هنا أمام واحدة من أبشع جرائم الاستعباد في العالم كله في التاريخ المنظور .. فمنذ اجتياح الصليبيين الجدد لبغداد التعسة سقط العراق كله في جحيم استعباد حقيقي من كل الوجوه .
(التعبير ليس من عندنا وإنما استخدمه بوش نفسه واصفاً حربه الإجرامية ضد العراق بأنها حرب صليبية جديدة!!)
تجاوز عدد القتلى من المدنيين – معظمهم من الأطفال والنساء – المليون حتى لحظة كتابة هذه السطور – أكتوبر 2007م- بينما تم تخريب معظم المساكن والمصانع والمدارس والمساجد والمزارع وكافة ما يمت للحضارة بصلة في هذا البلد العريق!!
وتم نهب نفط عراقي طوال أربع سنوات يُقَدَّر ثمنه بمئات البلايين من الدولارات .(1/45)
ويقوم جنود الاحتلال الأمريكي والبريطاني في كل أنحاء العراق – تقريباً – وبصفة شبه يومية – بارتكاب كل الجرائم الوحشية المنصوص على حظرها في كل المعاهدات و الشرائع والقوانين بلا أدنى عقاب أو حساب (اللهم إلا بضعة أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة جرى تقديمهم إلى محاكمة صورية ذراً للرماد في الأعين) وقد وقعت وما زالت تقع – عشرات الآلاف من جرائم التعذيب الوحشي للسجناء العراقيين، واغتصاب النساء، بل والاعتداء الجنسي على الرجال والأطفال أيضاً تحت تهديد السلاح. ويتم التعذيب المروع بكل ما لا يتخيله حتى الشيطان، ومنها العصى المكهربة والسياط والكلاب البوليسية وهتك العرض والاغتصاب اليومي والتعليق من الأيدي والأرجل كالذبيحة وإطفاء السجائر في الفم والدبر .. إلخ. وقد شاهد العالم كله الممارسات الوحشية التي ارتكبها السادة الأمريكان خاصة في سجن "أبو غريب" باستيل بغداد!!(1/46)
وشاهدت بنفسي شريط فيديو صوره جنود أمريكان لبعض زملائهم وهم "يتسلون" بإطلاق النار عشوائياً على السيارات المدنية والمارة من المدنيين بشوارع بغداد لمجرد "المتعة"!! وكانت قهقهات الجنود تتعالى كلما شاهدوا سقوط عراقي بائس ساقه قدره للمرور لحظة وجود أولئك الوحوش المسعورة .. وهناك أيضا شرائط الفيديو والصور التي التقطت خلسة داخل سجن "أبو غريب" . والآن نتساءل: هل هناك فارق كبير بين ما فعله هؤلاء الجنود الأمريكان والانجليز بالشعب العراقي وما كان يفعله أجدادهم بالعبيد الأفارقة المساكين ؟!! هل هناك فوارق جوهرية بين ممارسات هؤلاء وأسلافهم من الرومان ؟!! إذا كان الرومان في الماضي يتسلون بإطلاق الأسود الجائعة لتلتهم العبيد البؤساء، فإن الأمريكان في "أبو غريب" يطلقون الكلاب المدرّبة على المعتقلين العراقيين العراة تماماً – حتى من ورقة التوت- لتلتهم أجسادهم كما شاهد العالم بأسره بالصوت والصورة، وثبت أثناء محاكمة بعض الجنود الأمريكان!! وإذا كان السادة الرومان قد حصلوا على المتعة الشيطانية بمشاهدة المبارزات الدامية حتى الموت بين العبيد بعضهم البعض، فإن أحفادهم من "المسيحيين البيض" "يتمتعون" باصطياد المدنيين المساكين في شوارع عاصمة الخلافة والبصرة وغيرها من المناطق المنكوبة بالاحتلال الأنجلوأمريكي !!. وإذا كان الرومان قد نهبوا كل خيرات البلاد الخاضعة لإمبراطوريتهم، فإن أحفادهم الأمريكان والإنجليز ينهبون نفط العراق – بمئات البلايين من الدولارات – ولا يتركون للشعب العراقي الجائع سوى فتات الموائد!!!
إعترافات أمريكية
وفيما يلي نورد نص تقرير أمريكي خاص عن مأساة شعب العراق نشرته وسائل الاعلام المختلفة :"أكد تقرير أمريكى تدهور(1/47)
الأوضاع الإنسانية في العراق بصورة بالغة الخطورة منذ الغزو الأمريكي . وتحت عنوان " إغتيال مجتمع " أشار التقرير الذي أعدته مجموعة من المنظمات غير الحكومية المناهضة للحرب إلى أن العراق الذي كان في طليعة دول المنطقة هبط اقتصادياً واجتماعياً إلى نفس مستوى الدول الأفريقية الأكثر فقراً جنوب الصحراء !!.
ومن المؤكد أن عمليات العنف والجرائم والتدمير المنهجي للمجتمع العراقي لم تحدث بهذا الشكل في أي مكان بالعالم منذ الاجتياح النازي لدول أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية .
وأشار التقرير إلى المسئولية المباشرة للجيش الأمريكي عن قتل أعداد كبيرة من العراقيين . واستشهد في ذلك بالتقرير الرسمي الذي أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" ، ويتضمن نتائج استطلاع أجري بين الجنود قال أغلبهم فيه إنهم لا يعتقدون أن من حق المدنيين العراقيين أن يعاملوا بتقدير أو احترام!! . كما اعترف 10% من الجنود بأنهم ارتكبوا أعمال عنف ضد عراقيين بلا سبب قوي بما في ذلك تدمير الممتلكات .
وأهم ما جاء في تقرير البنتاجون هو إعتراف 14% من الجنود الأمريكيين بأنهم شاركوا بشكل مباشر في قتل أحد "المقاتلين الأعداء" !!.
وقال تقرير الجماعات المناهضة للحرب أنه يمكن تقدير العدد الهائل من العراقيين الذين قتلهم الجنود الأمريكيون بالنظر إلى حجم القوات وهو 170 ألف جندى ، بالإضافة إلى أن إجمالي عدد الجنود الأمريكيين الذين خدموا لمرة واحدة أو أكثر في العراق طيلة السنوات الأربع الماضية هو 650 ألف جندي .
وأكد التقرير أن الكثيرين من الضحايا سقطوا برصاص عشرات الآلاف من المرتزقة الأمريكيين ، وهم المقاتلون المدنيون الذين تطلق عليهم السلطات الأمريكية اسم " المتعاقدين " ، وهؤلاء لا يخضعون لأي قانون عراقي أو أمريكي .(1/48)
وأشار التقرير إلى مؤشر آخر لحساب عدد القتلى, وهو استطلاع مجمع شاركت في أعداده هيئة الإذاعة البريطانية " بي بي سي " والتلفزيون الألماني "أي آر دي" وشبكة "إيه بي سي" التلفزيونية ، وصحيفة "يو أس إيه توداي" الأمريكيتان، وأظهرت نتائج الاستطلاع أن 53% من العراقيين لهم قريب أو صديق مقرّب قُتل أو أُصيب منذ الغزو .
وتحدث التقرير عن مأساة أخرى هي حالات الاختفاء, والتي تماثل جرائم الإختفاء التي كانت النظم الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية ترتكبها ضد المعارضين السياسيين . وأوضح أن منظمات حقوق الإنسان العراقية تؤكد اختفاء ما لا يقل عن 15 ألف عراقي ، وأن هناك ما بين 40 إلى 60 حالة اختفاء يومياً, بينما تشير التقديرات المحايدة إلى أن عدد المختفين يبلغ نحو 20 ألف شخص سنوياً . وفيما يتعلق بالمعتقلين أوضح التقرير أ ن وزارة حقوق الإنسان العراقية أعلنت في مارس الماضي أن سلطات الأمن العراقية تحتجز نحو 38 ألف شخص ، بينما تعتقل القوات الأمريكية أكثر من 19 ألفاً ، وهذا العدد من المعتقلين أضعاف عدد الذين كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين يعتقلهم قبل الغزو . و يتوقع زيادة عدد المعتقلين مع استمرار الخطة الأمنية الحالية . وتحدث التقرير كذلك عن مأساة اللاجئين والمهجرين والنازحين والذين يقدر عددهم بنحو أربعة ملايين شخص . وقال إن 15% من سكان العراق تركوا منازلهم منذ بداية الغزو ، وأن هناك ما بين 40 إلى 50 ألف نازح جديد أسبوعياً وفقاً لإحصائيات المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة .
انتهى التقرير الأمريكي .. ولا يحتاج إلى أي تعليق(1) !!!.
جزيرة الشيطان(1/49)
عندما اجتاحت الحملة " الصليبية " المعاصرة- كما وصفها جورج بوش – الأراضي الأفغانية، بدأ القوم في ارتكاب فظائع ضد المدنيين تكاد لا تختلف عما كان يفعله أسلافهم بالعبيد الأفارقة أو الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين !! كان القتل الجماعي لكل من يشتبه في تعاطفهم مع حركة " طالبان " أمراً عادياً جداً ويحدث – حتى الآن – بصفة يومية. فقد قصفت الطائرات والبوارج الحربية الأمريكية معظم المدن والقرى الأفغانية عشوائياً، ودفنت مئات الألوف من سكانها أحياء تحت الأنقاض، فضلاً عمن مزقتهم القنابل والصواريخ " الذكية " المزعومة، وما هو إلا " الذكاء الإجرامي" في تحويل أجساد الأطفال والنساء والعجائز إلى أشلاء لا سبيل إلى التعرف على هوية أصحابها!!
وتمت تسوية آلاف المدارس والمساجد والمنازل بالأرض في هذا البلد الذي هو أصلاً من أفقر بلاد العالم ، إضافة إلى آلاف من جرائم اغتصاب النساء بواسطة الأمريكان وحلفائهم، والتعذيب المروع للمعتقلين. وقد شاهد العالم بأسره عبر وسائل الإعلام عمليات "السحل" في الشوارع جهاراً نهاراً لكل من يوقعه قدره في قبضة أولئك "الوحوش الآدمية" مع الاعتذار طبعاً لوحوش الغابات!! ثم لم يكتف الأمريكان بذلك، بل نقلوا آلاف المعتقلين مكبلين بالسلاسل، ومكممين بأقنعة تفقدهم الرؤية أو السمع, ولا تسمح لهم بغير التنفس فقط، في طائرات شحن البضائع العملاقة كالمواشي، إلى جزيرة الشيطان "جوانتانامو" !!!.
تماماً كما نقل أسلافهم من قبل ملايين العبيد الأفارقة بسفن شحن البضائع !!، هذه الجزيرة الكوبية التي استولت عليها الولايات المتحدة الأمريكية وحولتها إلى سجن رهيب، يعتبر "باستيل" فرنسا السابق، بالمقارنة معه، من الفنادق ذوات النجوم الخمسة !!.(1/50)
في جحيم "جوانتانامو" تمارس – حتى الآن – أخسّ سبل التعذيب الإجرامي للمعتقلين وأكثرها إهداراً للآدمية . وإلى الآن لا يعرف أعداد المعتقلين هناك بالضبط ؛ ولم تسمح السلطات الأمريكية أبداً لمنظمات حقوق الإنسان بدخول وكر الشيطان هذا . أما الحديث عن حقوق الأسرى، أوضرورة السماح للمعتقلين بمقابلة المحامين أو ذويهم، أو كفالة محاكمة عادلة .. إلخ، فهو من قبيل الرفاهية التي يثير مجرد ذكرها قهقهات الزبانية في جحيم "جوانتانامو" !!!.
ويبدو أن بعض هؤلاء القوم مازالت عندهم بقايا من الإنصاف .. فقد ثارت ثائرة قلة من الصحفيين والمفكرين الغربيين ذوي الضمائر الحية، ونادوا بإغلاق هذا المعتقل البربري فوراً، ووقف كل سبل التعذيب الوحشي للمعتقلين، وضمان محاكمة عادلة لهم، والإفراج الفوري عن كل من لم تثبت إدانته بأدلة قانونية قاطعة . وبالطبع لا حياة لمن تنادي!! وما زالت جزيرة الشيطان تستقبل كل يوم وافدين جددا " يستمتعون " مع إخوتهم الموجودين هناك بكرم الإدارة الأمريكية المعهود!!!
سجون سرية في أوروبا !!
وفي واحدة من فضائح العصر أكد ديك مارتي ، رئيس اللجنة الأوروبية للتحقيق في تقارير تحدثت عن قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة عدد من السجون السرية في أوروبا، أن وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، أدارت بالفعل سجوناً سرية في كل من بولندا ورومانيا خلال الفترة ما بين عامي 2003 و2005. واتهم "مارتي" بريطانيا وألمانيا والسويد وإيطاليا ومقدونيا بالتورط مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في جرائم احتجاز وتعذيب المتهمين بسجون سرية .
ونقل التقرير، الذين أعلنه مارتي، عن مصادر بـ CIA- لم يذكرها- قولهم إن عدداً من القياديين البارزين بتنظيم " القاعدة "، من بينهم أبو زبيدة وخالد شيخ محمد، قد خضعا للسجن والاستجواب في أحد السجون التي تديرها الاستخبارات الأمريكية في بولندا .(1/51)
التقرير الذي صدر بعنوان " مزاعم حول اعتقالات سرية وعمليات نقل بين الدول لمعتقلين تشمل الدول الأعضاء في مجلس أوروبا "، يعد الثاني من نوعه في هذا الصدد .
وأكد التقرير أن كبار المسئولين في كل من بولندا ورومانيا، " كان لديهم علم كامل " بما يجري داخل هذه السجون، فيما اتهم مارتي كل من ألمانيا وإيطاليا بأنهما تضعان كثيراً من العقبات أمام لجنة التحقيق في التقارير الخاصة بتلك السجون السرية، وفقاً لما نقلت وكالة أسوشيتد برس وشبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية .
وكان مقرر الجمعية البرلمانية الأوروبية، وهو مدع عام سابق في سويسرا، قد ذكر في تصريحات سابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية "أرادت أن تفرض حرباً على الإرهاب، لا قيود فيها، عبر السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، والتي تبين لاحقا إنها كارثة" .
وقال مارتي، البالغ من العمر 62 عاماً، في مقابلة مع صحيفة " لوفيجارو " الفرنسية، إن هذا التعامل من الباطن، الموجود في دولنا، يشهد على انعدام الاحترام حيال الشركاء الأوروبيين "، واصفاً الأمر بأنه "تصرف مهين" .
وأضاف : "لقد حصلنا على أدلة ، وفقاً لمعلومات، تفيد بوجود سجون غير قانونية في دول تعمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة مثل بولندا" ، مؤكداً مرة أخرى وجود اتفاقيات مبرمة بهذا الشأن بين الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية .
وفي تقريره الأول كشف مارتي، عن 14 دولة أوروبية، قال إنها ضالعة أو متواطئة في قضية الرحلات السرية للاستخبارات الأمريكية، والتي كانت تقل معتقلين تحتجزهم CIA في سجون سرية فى الدول الأوروبية .
وأوضح قائلاً : "نملك تفاصيل حول البرنامج الذي وضعته CIA والخطة التي تم العمل بها في أوروبا، وكانت تهدف إلى تصدير مكافحة الإرهاب إلى خارج حدود الولايات المتحدة، لتفادي القيود القانونية التي يفرضها القانون الأمريكي" .(1/52)
واعتبر التقرير أن " الإرهابيين المحتملين الذين خُطفوا لا يستفيدون من أية حقوق مدنية أو الحقوق في زمن الحرب، فضلاً عن ثبوت تعرضهم للتعذيب الوحشي لإجبارهم على الإدلاء بمعلومات .
وأوضح مارتي أن تقريره الأول يتعلق أساساً بعمليات النقل غير الشرعية لمعتقلين بين دول، وعمليات الاسترداد الاستثنائية، أما تقريره الثاني فإنه يتعلق بالجانب الآخر من مهمته وهو عمليات الاعتقال السرية والتعذيب(2).
وكانت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية قد كشفت بدورها وجود سجن سري آخر للمخابرات الأمريكية في إحدى دول الاتحاد السوفيتي السابق، يحتجز فيه الأمريكان عدداً من أهم معتقلي تنظيم القاعدة، ويتم استجوابهم فيه بأساليب تعذيب همجية . وأضافت الصحيفة أن السجن المذكور هو حلقة واحدة من سلسلة واسعة النطاق تضم عدداً من السجون السرية المشابهة في 8 دول على الأقل بأوروبا فضلاً عن معتقل جوانتانامو الشهير بكوبا !! وأكدت الصحيفة علم الرئيس بوش، وكبار مسئولي إدارته وكبار قادة الدول المشار إليها بوجود السجون التي يطلقون عليها "المواقع السوداء" !! إنها فعلاً "بقع سوداء" تضاف إلى مثيلاتها المشينة في "الثوب" الغربي المتهتك!! ولا يوجد لدينا ما يمكن أن نضيفه إلى ما ذكره التقريران الأوروبيان والصحيفة الأمريكية سوى تساؤل بسيط : أين هذا "الإجرام الغربي" من "نبل" الإسلام وإحسانه إلى الأسرى ؟!! .
دماء على صدر القوقاز(1/53)
ليست دول الغرب وحدها هي التي تمارس الاستعباد العسكري المعاصر . فقد أبت روسيا إلا أن تشارك بدورها في قهر المسلمين، واستغلالهم والفتك بهم ، ولا عجب فالقوم كلهم – شرقاً وغرباً – لا يطيقون إسلاماً ولا مسلمين . والمثال الصارخ هنا هو ما يحدث في جمهورية "الشيشان" ذات الأغلبية المسلمة . تقع الشيشان في منطقة القوقاز التي تعوم على بحر هائل من النفط والغاز الطبيعي، وهذا يفسر أحد أهم أسباب الصراع المحموم على احتلال المنطقة وبسط السيطرة عليها من قبل الروس وغيرهم. وقد ساند الغرب المسيحي دول البلطيق الثلاث "لاتفيا" و "أستونيا" و "مولدافيا" للحصول على الاستقلال بعد انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي، لكنه لم ير أهمية لمساندة الشيشان المسلمة لكي تتحرر بدورها . وهذا مثال آخر للنفاق الغربي وازدواجية المعايير في كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين من قضايا .
وهكذا افترس الدب الروسي "الشيشان" الصغيرة في ظل التواطؤ الرهيب من جميع الدول والهيئات العالمية وعلى رأسها الأمم المتحدة .(1/54)
خلال الحرب الأولى استشهد أكثر من 120 ألف مسلم شيشاني ، وإذا أضفنا إلى هذا الرقم ضحايا الحرب الشيشانية الثانية – الدائرة حتى الآن – فإن الرقم يرتفع إلى أكثر من 200 ألف شهيد يمثلون ربع تعداد الشيشان !! هل يتخيل أحد فداحة الكارثة ؟ كل أسرة مسلمة في الشيشان فقدت ربع أعضائها في الحرب المجنونة التي يشنها الروس عليهم، فضلاً عن عشرات الألوف من المعتقلين الذين تمارس أجهزة القمع الروسية ضدهم أبشع أساليب التعذيب والبطش والتصفية الجسدية . ومن لم يقتل أو يعتقل حتى الآن، يجري اغتصابه وإذلاله وتركيعه. نشرت الصحف البريطانية مؤخراً مأساة قرية شيشانية مسلمة تعرضت لحملة مداهمة روسية . وقام الروس باعتقال كل السكان في الساحة الرياضية بالقرية . و أصدر القائد الروسي أمراً لعدد من جنوده بنزع ثياب النساء بالكامل، ثم اغتصابهن أمام رجالهن وأطفالهن!! وعندما تعالت صيحات الرجال المكبلين بالأغلال استنكاراً للاعتداء على أعراض نسائهن، أمر القائد المجرم باغتصاب الرجال أنفسهم !! ترى هل هذا أقل مما كان يحدث للعبيد في عهود قياصرة روسيا أو أباطرة الرومان ؟ !!
عولمة الرق!!(1/55)
يقوم نظام العولمة الحالي على تحكم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم . هذا النظام تنتج عنه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعًا . فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دول الغرب الفائض من انتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده!! كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه الشركات متعددة الجنسيات العملاقة ومعها الشركات المحلية . ولا مجال فيه لتشريعات سمحة تمهل المدين إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أو تمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها .. إلخ .
ومما لاشك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام, فأصبحت المؤسسات المائة الكبرى في العالم تتحكم فى 20% من إجمالي أموال العالم . كما أن 51% من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى ، بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ 49% الباقية فقط . ويبدو في الإطار نفسه أن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و (فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الإفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي . بي . إم) و (بي . بي) و (جنرال إليكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم!! كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبر ماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا .(1/56)
وهذه الشركات الضخمة لا تتورع عن إبرام أية صفقات مشبوهة وارتكاب كل المحظورات من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى أبسط حاجات حياته اليومية . وهذا ما يسميه بعضهم بـ (الاستملاك الصامت)، أو بتعبير أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والشعوب مقيدة بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية ، والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها. فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لإزدهار المؤسسات المعنية، وتوفير البنية الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة لحماية نظام التجارة الحرة في العالم .
وبذلك تضطر حكومات الدول النامية- في نهاية المطاف- الى الانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية لا يربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة . فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد هو استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم .
ومن بعض كوارث هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين وهي خاضعة ، كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمة لإرادته، منفذة لسياسته، تجنباً لإعلان إفلاسها . وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتخفيض الإنفاق، ووقف الدعم للمواد الاستهلاكية التي تقدمها لشعوبها الفقيرة .(1/57)
فلا عجب إن تثبت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء، وهذا يعني أنه فى كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية . وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنجلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها- تحت وطأة تضخم ديونها- لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه عشرات الشعوب مجتمعة !!!.
ولا يخضع النظام العالمي الاقتصادي لأي تشريع إلهي، فما قضي به الرأسماليون هو التشريع سواء خالف الوحي المُنَزَّل أو وافقه، والدراسات الاقتصادية أو التجارية أو الإحصائية والاجتماعية التي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة . وهكذا تسبب الرأسمالية حتماً تحكماً للقلة الغنية (الغرب) في رقاب مئات الملايين من البشر في العالم الفقير المطحون !
وهذه عبودية أخرى باسم العولمة . فالعبودية في رأينا لا تقتصر على الصورة التقليدية- وهى تملك الإنسان بالخطف أو الشراء – بل تتحقق كذلك في كل علاقة تتسم بالسيطرة والاستغلال والإذلال من شخص أو جماعات أو دول للآخرين الأضعف شأناً . بذلك يكون الاحتلال العسكري- كما رأينا ونرى – هو من أشد حالات الاستعباد لشعوب بأكملها .
وتكون العولمة استعباداً اقتصادياً من أبشع ما يكون .
ومن أشد أنواع الاستعباد المعاصر الآن تلك الهيمنة الاقتصادية وإذلال الشعوب الفقيرة بالديون الباهظة .. والدين كما قيل بحق "همٌ بالليل وذلٌ بالنهار" .(1/58)
فقد لجأت دول الغرب الرأسمالية إلى أسلوب خبيث في امتصاص دماء البلاد النامية ونهب خيراتها بدون اللجوء إلى القوة العسكرية التي لن تكفي لاحتلال كل تلك البلاد، وهكذا استغلت الوحوش الرأسمالية فقر وتخلف معظم شعوب أفريقيا وآسيا- بالإضافة إلى فساد معظم حكامها – لترهق كواهلها بألوف البلايين من الدولارات كديون ذات فوائد ربوية فاحشة، وصلت بحجم الديون إلى أرقام فلكية مستحيلة الدفع !! وهنا يبدأ الشياطين الرأسماليون الغربيون في إملاء كل الشروط المجحفة، ومنها الحصول على المواد الخام من الدول المطحونة كالنفط وغيره بأبخس الأثمان، و قبول وجود قواعد عسكرية - اللفظ المهذب البديل للاحتلال العسكري – على أراضيها .
ولا تقتصر الشروط الظالمة على هذا بل تمتد لتشمل إملاء كل السياسات الاقتصادية، مثل الإجبار على بيع معظم شركات ومرافق الدول المدينة للقطاع الخاص، وطبعاً يدخل وحوش الغرب لشرائها بأقل الأسعار. وينتهي الأمر بالضحايا إلى اكتشاف أن كل شيء في دولهم البائسة أصبح فعلياً " مملوكاً " للغرب!! وبطبيعة الحال تفقد الدول المطحونة الإرادة السياسية تماماً, كما تخضع لرغبات " السادة " الجدد في تغيير كل الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والتعليمية .. والمثال الواضح ما جرى مؤخرا في العديد من دول الشرق الأوسط من تغيير للمناهج التعليمية بها نزولاً على أوامر "السيد" الأمريكي التي لا تُرد !!.(1/59)
وإذا لم يكن هذا كله "عبودية" من أبشع طراز فما عساها تكون ؟!! وإذا كنا نندد بهذا الاستعباد الرأسمالي فإننا لا ننكر أن الشيوعية استعبدت شعوباً كثيرة أيضاً بأساليب مختلفة .. ويكفي أن نذكر كمثال هنا إبادة أكثر من عشرين مليون مسلم وتشريد الباقين على يد الطاغية الروسي جوزيف ستالين، كما دهس الطاغية اليوغسلافي "تيتو" آلاف المصلين في المساجد بالدبابات، وما زال أكثر من ثلاثين مليون مسلم في تركستان الصينية، يئنون تحت وطأة القهر والاستعباد الشيوعي الصيني .. نشير أيضاً إلى إجبار مئات الملايين في الدول الشيوعية على التخلي عن الدين، وتحويل المساجد إلى مباني للحزب الشيوعي أو اصطبلات للخيول، واعتقال الملايين ممن يعارضون الطغيان الشيوعي وتعذيبهم وتصفيتهم جسدياً من أجل ترسيخ "سيادة" طبقة العمال "البروليتاريا" . فالاستعباد هنا جماعي يتم بواسطة طبقة العمال التي تمارسه ضد باقي طبقات المجتمع .. كما إن إجبار عشرات الملايين من الناس على مغادرة أوطانهم لإحلال آخرين محلهم، وإجبار الجميع على العمل في الأماكن والمجالات التي تحددها السلطة الشيوعية بلا أجر، هو في حد ذاته من أشد الممارسات إذلالاً للناس كما كان يحدث للعبيد من قبل . والمجال لا يتسع لذكر كل ألوان الفظائع الشيوعية, ولكن هل جاءت الرأسمالية الغربية المعاصرة بشيء أفضل من الشيوعية ؟! أم أن أساليب قهر الناس وإذلالهم ونهب أموالهم هي وحدها التي تغيرت، بينما جوهر الاستعباد واحد لدى الجميع ؟ !
إننا نشعر بالفخر والاعتزاز عندما نعلن أن الإسلام العظيم قد حرم كل هذا الظلم والقهر والإذلال والاستغلال من إنسان لأخيه الإنسان .
الإسلام العظيم هو النظام الوحيد الذي يكفل الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر . إنه الإسلام الذي صاح خليفته العادل عمر رضي الله عنه بواليه- عمرو بن العاص - يوماً :
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" ؟!(4) .(1/60)
المراجع
1- جريدة "الأهرام" المصرية عدد 28 / 5 / 2007م – صفحة الشئون العربية .
2- عن موقع سي إن إن باللغة العربية
www.Arabic.CNN.com
3- عن موقع "المسلم" على النت – كتاب رسالة المسلم في حقبة العولمة
www.almoslim.net
4- انظر سيرة عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الكتب الآتية : سير أعلام النبلاء للذهبي – الطبقات الكبرى لابن سعد – حلية الأولياء لأبي نعيم – أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الاثير– مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي – عبقرية عمر لعباس محمود العقاد – البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي .
الفصل الرابع
الاتجار بالبشر
هناك صورة أخرى من صور الاستعباد الإجرامى للبشر فى القرن الحادى والعشرين . فرغم أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر فى ديسمبر 1948 ، ينص على أنه "لا يجوز الاحتفاظ بشخص فى الرق أو فى السخرة ، وتحظر السخرة والاتجار فى الرقيق بجميع أشكالهما " فإن منظمة مناهضة الرق العالمية تؤكد أن 27 مليون شخصا ما زالوا يخضعون لشتى ألوان العذاب فى جحيم العبودية خاصة النساء والأطفال .
وفى مؤتمر مكافحة العنصرية التابعة للأمم المتحدة الذى عقد فى دربان بجنوب أفريقيا مؤخرا أعلنت حقائق خطيرة عن تجارة الرقيق فى أفريقيا . وتبين من خلال جلسات المؤتمر أن المنطقة الواقعة على امتداد الساحل الأفريقى الغربى التى كانت موطنا للرقيق الأصليين فى القرن السابع عشر هى نفسها التى تشهد ازدهارا للاتجار فى الرقيق فى العصر الحديث ، حيث يضطر ضحايا العبودية إلى العمل فى المزارع والمصانع والمنازل بالإضافة إلى عمل الفتيات كعاهرات .
ومن النماذج الصارخة لاتفاقات السخرة والتى أشارت إليها إحدى ورقات المؤتمر نص عقد عمل لفتاة من نيجيريا وكشفته الشرطة فى أسبانيا على : "أتعهد بأن أدفع للسيدة... مبلغ أربعين ألف دولار، وألا أبلغ الشرطة بذلك، وفى حالة عدم الوفاء فمن حقها أن تقتلنى وأسرتى فى نيجيريا" !!.(1/61)
وأضافت الورقة أنه يتم إغراء الفتيات اللاتى يبلغن من العمر حوالى عشرين عاما بالعمل فى أوروبا فى المطاعم ، وبالطبع يوافقن فى الحال، ثم يجدن أنفسهن يعملن فى الدعارة مثل كثيرات قبلهن . وفى الوقت الحاضر تباع آلاف الفتيات من نيجيريا وغانا والسنغال والكاميرون وساحل العاج "لأسياد" أوروبيين، وينتهى الحال بمعظمهن إلى الاشتغال بالدعارة .
وتؤكد منظمة "ووتكليف" المناهضة للاتجار فى الأيدى العاملة من النساء والأطفال - ومقرها مدينة أبوجا فى نيجيريا - أن حوالى 11130 فتاة من نيجيريا وحدها تم تهريبهن إلى فرنسا خلال العامين الماضيين .
ولم يقتصر الأمر على الضحايا الأفارقة ، بل إن الملايين من أطفال ونساء دول أوروبا الشرقية الفقيرة يسقطن فى هاوية الرق ، لإجبارهن - بعد الترحيل إلى غرب أوروبا – على العمل كعاهرات أو بائعات مخدرات أو الخدمة فى المنازل . وتقول المنظمات الدولية أنهن يعانين من تسليط القوادين والمافيا التى تحصد بلايين الدولارات من الاتجار بأجساد الضحايا ، ولا يُطعمن إلا الفتات ، ولا علاج لمن تصاب بمرض خطير ناتج عن البغاء ، بل يتم التخلص منها بالتصفية الجسدية كأى حيوان غير مرغوب فى بقائه حيّا !!(1) .
وقد أكد المجلس الأوروبى فى تقريره الذى نُشر مؤخرا فى باريس أن آلافا من النساء فى أوروبا هن من ضحايا الاستعباد المنزلى ، يخدمن فى منازل دبلوماسيين يعتبرون أنفسهم فوق القانون، وهم بمنأى عن العقوبات . وأعلن مقرر الجمعية البرلمانية فى المجلس الأوروبى الأيرلندى "جون كنور" : أن الحصانة غالبا ما تعتبر مرادفا للإفلات من العقوبات" ، وتتحدث الوثيقة عن أماكن تكثر فيها العبودية المنزلية ووثيقة الصلة بالوسط الدبلوماسى ، وتقترح مجموعة من التدابير لمكافحة هذه الآفة، ولكن كالعادة لا جدوى ولا حياة لمن تنادى !!(1/62)
وأضاف المقرر أن على جميع دول أوروبا أن تُضَمِّن قوانينها الجزائية ما يدين العبودية المنزلية ، وهذا ليس موجودا فى الوقت الراهن . فبلجيكا وإيطاليا والنمسا تستخدم كلها القوانين لمكافحة العبودية المنزلية ، لكن لم تصدر أحكام حتى الآن ضد أحد من القراصنة الجدد أعضاء المافيا الدولية المتاجرة فى الملايين من الأطفال والفتيات فى كل أنحاء أوروبا وأمريكا .
واقترح المقرر أيضا إجراءات أخرى ، منها إنشاء صندوق تعويضات ومنح الضحايا "صفة إقامة إنسانية" وإعداد ميثاق أوروبى للعمل المنزلى على غرار الميثاق المتعلق باستضافة الشابات اللواتى يرغبن فى التحصيل العلمى ويساعدن المضيفين على أعمال المنزل مقابل السكن والطعام .
وأكد التقرير الصادر عن المجلس الأوروبى أن أكثر من أربعة ملايين امرأة يجرى بيعهن سنويا فى العالم ، وأن كثيرات منهن يقعن ضحايا العبودية المنزلية . وَيُقَدَّرُ عدد النساء ضحايا العبودية المنزلية ببضعة آلاف فى فرنسا ومعظم المستخدمين هم من الأجانب ، لكن 20 بالمائة منهم فرنسيون ، والأرقام الحقيقية هى دائما أضعاف المعلنة فى تلك الحالات .
تجارة العصر !!
ومن جانبها أكدت الأمم المتحدة أن تجارة الرقيق قد احتلت المرتبة الثالثة – بعد تهريب المخدرات والأسلحة – فى النشاطات غير الشرعية الأكثر ربحا ؛ حيث تحقق أربحا سنوية تقدر بـ 7 مليارات دولار . وفى الندوة التى نظمها مكتب منظمة الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات وتفادى الجريمة فى برازيليا بتاريخ 29/11/2000م - حول تجارة الرقيق والاستغلال الجنسى للبنات الفقراء فى أمريكا اللاتينية – أعلن مسئولون دوليون : أن 75 ألف برازيلية يمارسن البغاء يوميا فى أوروبا ، وأن 15% من بائعات الهوى فى أمريكا الجنوبية هن من البرازيليات .. وأكدت المنظمة أن أكثر من أربعة ملايين امرأة يتم ترحيلهن بصورة غير مشروعة كل سنة لممارسة البغاء فى بلاد أخرى .(1/63)
وقد وصف وزير العدل البرازيلى "خوسيه غريغورى" تجارة الرقيق أثناء كلمته بالندوة بأنها "مرض العصر" . فى حين اعتبر مسئول بالأمم المتحدة لمكافحة المخدرات أن فقدان التعليم هو المسئول عن تنامى هذه التجارة ، محذرًا الفتيات من الوعود التى تُعطى لهن من قبل منظمات توظيف وهمية بالحصول على عمل ذى أجر مرتفع فى دولة متقدمة ، ويفاجأن بعدها بأنهن يمارسن الدعارة ، ولا تملك الفتاة الاعتراض وإلا قتلها أو شوهها القوادون ! وكشف تقرير نشرته محطة سى إن إن CNN الإخبارية الأمريكية فى الأول من يناير 2002م عن انتشار ظاهرة تجارة الرقيق من النساء حول العالم لاستخدامهن فى الأعمال الجنسية المحرمة ، و أشار التقرير إلى أن معدلات هذه الظاهرة تزداد عامًا بعد عامٍ .. وقد أكد هذا التقرير - بناء على أبحاث قام بها فريق بحث مقره جامعة جون هوبكنز Johns Hopkins بولاية ميرى لاند - أن هناك 2 مليون امرأة وطفلة يتم بيعهن كعبيد سنويا، ومائة وعشرين ألف امرأة من أوروبا الشرقية وروسيا والدول الفقيرة حولها يتم تهجيرهن إلى أوروبا الغربية لهذا الغرض الدنيء ، وأكثر من 15 ألف امرأة يتم إرسالهن إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأغلبهن من المكسيك . وتباع النساء القادمات من دول شرق آسيا فى أمريكا بستة عشر ألف دولار للواحدة ليتم استخدامهن بعد ذلك فى بيوت الدعارة والحانات (2).
كما أن هناك ما يقارب مائتى ألف فتاة من الاتحاد السوفيتى يتم إجبارهن على ممارسة البغاء فى إسرائيل ، وعشرة آلاف طفلة سيرلانكية بين السادسة والرابعة عشرة يُجبرن على الفاحشة .. وكذلك الحال بالنسبة لبورما والتى يصل فيها الرقم كما يذكر التقرير إلى عشرين ألف حالة سنويا ...(1/64)
وقد أعربت منظمة "يونيسيف" لرعاية الطفولة التابعة للأمم المتحدة عن قلقها إزاء العدد المتزايد من الأطفال الذين يتم الاتجار بهم فى هذه المناطق . ففى بلدان مثل بنين ومالى وتوجو يبيع الوالدان أولادهما بمبلغ 15 دولارا تقريبا للطفل الواحد. وغالبا ما يدخل فى روع الآباء والأمهات أن الأطفال سيجدون عملا فى المزارع، مما يتيح للابن أو الابنة كسب مال للانفاق على التعليم والعودة إلى الوطن ذات يوم.
ويتم شحن هذه الأعداد الضخمة من البشر إلى مزارع الكاكاو والبن فى ساحل العاج ، كما تؤكد منظمات المساعدة الإنسانية . ويفيد تقرير لليونسيف أن 15 ألف طفل- تم بيعهم منذ عامين- قد أرغموا على العمل الشاق فى الحرث بالحقول .
وقال "ساليا كالتى" مدير منظمة "أنقذوا الأطفال" : فى "مالى" يتم احتجاز الأطفال فى المزارع وكأنهم سجناء ، ويتعرضون للضرب ، وكثيرا ما يتعرضون للاعتداءات الجنسية . وقالت : "إن الناس الذين يشربون الكاكاو والبن إنما يشربون من دماء الرقيق من الأطفال" !! كما أحبطت السلطات السودانية مؤخرا مخططا غربيا لترحيل ألوف من أطفال إقليم دارفور إلى أوروبا.وضبطت سلطات تشاد عصابة فرنسية لخطف وترحيل الأطفال الى أوروبا لبيعهم هناك كعبيد.
وقد سلطت وسائل الاعلام الأضواء مؤخرا على بؤس الرقيق من الأطفال من خلال قصة سفينة "ايتيريو" التى اشتبه فى أنها تحمل رقيقًا فى بنين .
وأوقفت السلطات السفينة المملوكة للاعب كرة القدم جوناثان أكبوبورى المحترف فى ألمانيا فى كونونو فى نيسان أبريل للاشتباه فى أن لها علاقة بالاتجار فى الرقيق ، وأتهم طاقم السفينة بالاحتفاظ بحوالى 200 قاصر كرقيق على متنها . وعندما وصلت السفينة إلى كوتونو بعد أسبوعين عبر طرق متعرجة فى المحيط الأطلنطى لم يكن متبقيا فيها سوى 40 طفلا !!.(1/65)
ويُعتقد أنه قد تم إغراق معظم الأطفال البؤساء فى محاولة للتغطية على جريمة الاتجار بهم ، أو أنه قد جرى نقلهم إلى سفينة أخرى قبل ضبط السفينة الأصلية .
ونحمد الله عز وجل ؛ لأن الأغلبية الساحقة من الدراسات والتقارير التى أعدتها المنظمات الدولية والباحثون الغربيون تثبت أن معظم المجرمين من المتاجرين بالرقيق هم من الغرب ومن غير المسلمين ، كما أن أدلة الإدانة كلها تثبت أن الظاهرة موجودة فى كل أوروبا وأمريكا .
مأساة نادية
ولتفسير كيفية وقوع الفريسة فى أيدى تجار الرقيق ، تذكر الباحثة اليونانية كريستين بيروفولاكيس قصة "نادية" الفتاة ضئيلة الحجم نسبيًا التى جرى إحضارها من بلادها – أوكرانيا – فى سن الثانية والعشرين ، بناء على وعد معسول بالعمل كراقصة باليه كلاسيكية تتمتع بالاحترام وإعجاب الجمهور المثقف فى رحاب اليونان صاحبة أقدم الحضارات !!! .
ولدى وصولها التقت بشخص غريب الأطوار ادعى أنه العميل اليونانى الذى سيشرف على استلامها الوظيفة الموعودة ، ويسهر على راحتها ، واصطحبها إلى منزل شبه مهجور بمدينة تسالونيكى الشهيرة بشمال البلاد ، يعلوه من الخارج مصباح إضاءة "أحمر" خافت فى إشارة إلى أنه وكر للبغاء !!.
وتقول نادية والدموع تنساب على وجهها "اكتشفت عندئذ أنه قد تم بيعى" .
وبدلا من امتهان الرقص ، تم حبس نادية فى منزل سرى والاستيلاء على جواز سفرها, وصدر لها الأمر بالعمل كفتاة ليل . وإذا رفضت الانصياع، فهناك عصا غليظة لا ترحم فى انتظارها . وتضيف نادية : لا أستطيع الهرب, ووجدت العديد من الروسيات والرومانيات اللاتى يتم إغرائهن للسفر إلى أوروبا الغربية كل عام من خلال وعود مغرية بالعمل، ثم يجبرن مثلها على مضاجعة عشرة رجال فى المتوسط يوميا .(1/66)
ويستمر البعض منهن فى العمل أملاً فى أن يتحررن فى نهاية المطاف من هذا الشرك المنصوب، بعد قيامهن بسداد ديون مزعومة تقدر بآلاف الدولارات نظير رحلاتهن إلى أوروبا إذا حالفهن الحظ. وتضطر معظم الفتيات الأخريات مثل نادية إلى تقديم كل دخولهن وأرباحهن إلى عتاة مافيا الجنس من "الفتوات" الذين يقومون بابتزاز الضحايا المسكينات !!! .
وعقب مرور ثمانية أشهر على الانخراط فى أقدم مهنة فى التاريخ فى رحاب الجزر اليونانية ، اعتقلت الشرطة نادية خلال إحدى حملاتها وقامت بترحيلها .
وعندما توقف القطار فى أولى محطاته فى بلغاريا ، صعدت إحدى عصابات الما?يا المحلية على متنه واختطفت نادية صاحبة الحظ العاثر ، ومعها ست سيدات أخريات من بائعات الهوى .
وبيعت نادية مرة أخرى, وعادت لحياة العبودية والرق ، لكنها انتقلت مرغمة هذه المرة إلى بلدة بعيدة تسمى كارديتسا بأقصى شمال غرب اليونان لتخدم هناك بعيدا عن أعين الشرطة .
وعندما تمكنت من الهرب مرة أخرى ، ذهبت الضحية إلى الشرطة ، ولكنهم ألقوا بها مرة ثانية إلى قارعة الطريق لتعاود ممارسة نفس المهنة!!
وتتذكر نادية تجربتها فى مركز اعتقال أميجداليزا على مشارف أثينا قائلة: "لقد أخبرتنى الشرطة أن علىَّ أن أكدّ وأربح الكثير لكى أتمكن من العودة إلى وطنى الأم" .
وتضيف فى حسرة "إننى أحلم باليوم الذى أستطيع فيه العودة إلى بلدى ورؤية أسرتى مرة أخرى" (3) .(1/67)
ونتساءل : وماذا عن حسرة أمهات اولئك المسكينات وآبائهن الذين فقدوا فلذات الأكباد بسبب الجشع الشيطانى لدى عصابات البيض من القراصنة الجدد ؟ ولماذا تخرس ألسنة الآباء فى كنائس أوروبا وأمريكا هنا أيضا ؟! أم أنهم هم أنفسهم "يستمعون" بخدمات أولئك الضحايا من بائعات الهوى المخطوفات من بلادهن ، كما جاء فى اعترافات القس الأمريكى الشهير "جيمى سواجارات" على الهواء بإحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية !! فقد اعترف أنه اعتاد "زيارة" إحدى البغايا مرتين أسبوعيا لممارسة الجنس معها !! .
وكذلك اعترف الفاتيكان وكثير من الكنائس الأمريكية بوقوع مئات من حالات الاغتصاب داخل الكنائس . وطبقا لتقارير الفاتيكان والكنائس الأمريكية والأوروبية فقد ثبت اعتداء عشرات القساوسة جنسيا على عدد من الراهبات والنساء والأطفال فى الكنائس . واضطرت الكنائس إلى دفع ملايين الدولارات كتعويضات لضحايا الاستعباد الجنسى. وما زال القضاء فى أمريكا وعدد من البلدان الأوروبية ينظر قضايا رفعها ضحايا الاغتصاب بواسطة القساوسة . يُذكر أن ستين بالمائة تقريبا من بائعات الهوى والليل فى اليونان من الاجنبيات . وأغلب هؤلاء اللاتى يبلغ عددهن أكثر من عشرين ألفًا من المهاجرات غير الشرعيات، بما فى ذلك نحو ألف طفلة تتراوح أعمارهن بين 13 و 15 عاما . كما أن الدعارة قانونية فى البلاد !! .
عبيد الجنس
ويؤكد الدكتور جريجوريس لازوس – أستاذ الجريمة بجامعة أثينا - : "أن السيدات اللاتى يسقطن فى شراك عصابات الاتجار فى أعراض البشر يكن فى أغلب الأحيان من الأجنبيات العاطلات عن العمل, وتتراوح أعمارهن بين 15 إلى 25 عاما"، ويتم استخدام العنف ضد أكثرهن لإجبارهن على ممارسة الدعارة .(1/68)
ويضيف : "أن هؤلاء النسوة يتم تجنيدهن خارج بلادهن عادة عن طريق الخداع والاحتيال ، رغم شيوع حالات الاختطاف ، بل والبيع بواسطة الأصدقاء والأقارب ، وتعتبر الوظيفة التى تدر ربحًا جيدًا أو الزواج المفضل هى أكثر الحيل شيوعا" .
ويقول أيضا : "إن هؤلاء النسوة يدخلن اليونان بوثائق مسروقة أو مزورة . ويتسللن إلى البلاد خلسة إما سيرًا على الأقدام عبر نقاط تفتيش دون حراسة على امتداد الحدود الشمالية ، أو يتم حشرهن بعيدا عن الأنظار فى مخابئ أعدت خصيصا لهذا الغرض على متن شاحنات أو حافلات ركاب" .
وتواجه السلطات اليونانية الموجة تلو الأخرى من فتيات الهوى المجلوبات منذ بداية التسعينات من القرن الماضى ، وتعرضت لانتقادات لعدم قيامها ببذل ما فيه الكفاية لمكافحة تهريب "عبيد الجنس" .
وتعتبر اليونان واحدة من بين 19 دولة ورد ذكرها فى تقرير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2001م لعدم قيامها بجهود كافية لوقف عمليات تهريب البشر .
تقول دينا فاردارماتور التى تعمل منسقة برامج مساعدة فى منظمة "توقفوا الآن" غير الحكومية المعنية بالبحث فى مجال تهريب البشر : "إنه لا يوجد فى اليونان حاليا قانون يمنع تهريب البشر ، ولا تقدم الحكومة ملاجئ أو خدمات لضحايا عمليات التهريب" .
تضيف فاردارماتور : "إذا جاءتنى سيدة وقعت فى فخاخ تجارة عبيد الجنس فى اليونان طلبا للنصح والعون ، فلا أعرف حقيقة ماذا أقول لها ، لأنه لا يوجد مكان يمكنها اللجوء إليه هربا ممن وقعت فى أسرهم كما لا يوجد قانون يحمى حقوقها" .
ومن المقرر أن تتبنى حكومة أثينا قريبا مشروع قانون بفرض عقوبة بالسجن ضد المهربين ، ولكن النقاد يشيرون إلى أن القانون لا يدخل أبدا حيز التنفيذ!! .
ويقول الخبراء أن فساد الشرطة فى اليونان يزيد من صعوبة خوض المعركة ضد ما?يا الجنس .(1/69)
من جانبها ، تقول أستاذة علم الجريمة إيرا إيمك بولوبولو : "إن أساطين الإجرام العاملين فى مجال البغاء يحصلون ، فيما يبدو على مساندة بعض ضباط الشرطة . وقد عقد اجتماع فى شهر فبراير عام 2000م بوزارة الخارجية حول فساد الموظفين فى القنصليات اليونانية فى شرقى أوروبا" .
وتضيف بولوبولو : "إن هناك مؤشرات خطيرة على وجود تجارة هائلة غير مشروعة فى جوازات السفر اليونانية التى تقنن دخول فتيات الليل إلى أوروبا" .
ومثلما يحدث لبائعات الهوى من الأجنبيات فى دول مثل البوسنة أو إيطاليا ، فإن من يتم تهريبهن إلى اليونان كثيرا ما يتعرضن "للضرب" المبّرح بواسطة "الزبون" ، ولا يُقدم لهن الواقى الذكرى لتوفير الحماية لهن من وباء نقص المناعة المكتسبة- الإيدز- طاعون العصر .
وتقول فاردارماتور : "إن الحد الأدنى الذى نستطيع تقديمه لهن هو أن نعاملهن ليس كمجرمات بل ضحايا لأن هذا هو واقع الأمر ، وأن نقدم لهن الملاذ والرعاية اللازمة" .
وتضيف : "عالجوا مشاكلهن الطبية والنفسية، وامنحوهن خيار البقاء فى اليونان والحصول على وظيفة مشروعة ومربحة، أو العودة الى بلادهن" .
وفى إطار مواجهة ظاهرة الرق دوليًا كلّفت المفوضية الأوروبية لجنة أمنية خاصة لبحث وسائل مكافحة تجارة الرقيق الأبيض ، وسد المنافذ التى تستخدمها عصابات التهريب المنظمة لنقل النساء الى دول أوربا الغربية .
وطبعا كل هذه الإجراءات المزعومة ما زالت حبرا على ورق ، تمامًا كنصوص القوانين الأمريكية والأوربية التى لا تطبّق فى أكثر من 90% من حالات الاستعباد الجنسى !! ولا يزال الملايين من الضحايا المسكينات يعانين أهوال الاستعباد حتى الموت !!
ومع كل هذا ما زالت كلاب الغرب تنبح على الإسلام والمسلمين !!
أين أنت يا حُمْرَةَ الخجل ؟!! .
اغتيال الزهور(1/70)
فى التقرير المشترك الصادر عن منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا والمنظمة الدولية لمساعدة الطفولة (يونيسيف) والمفوضية الدولية لحقوق الإنسان ، تبين أن تجارة الرقيق ازدهرت فى الآونة الأخيرة عبر نشاط المافيا لنقل النساء من دول أوروبا الشرقية إلى غربها ، وإن معظم الضحايا ينحدرن من روسيا وأوكرانيا ومولدافيا ورومانيا وبلغاريا .
وتضمن التقرير الذى نشرته جريدة " الشرق القطرية " معلومات حول بعض الطرق السرية التى تسلكها عصابات المافيا ، كما تضمن معلومات حول أسعار بيع النساء بقيم مختلفة . والحد الأدنى هو خمسة آلاف يورو للمرأة الواحدة ، وثمانية آلاف يورو للفتاة الصغيرة العذراء . واعتبر تقرير "اليونيسيف" إن تجارة الرقيق أصبحت "الدجاجة السحرية" التى تبيض ذهبا فى أوروبا ، مما يهدد مصير العائلات ووحدة الأبناء ، ويؤثر سلبيا على الطفولة فى العالم . وتعتبر العاصمة اليوغوسلافية بلجراد ومنطقة زاندزاك المتاخمة لحدود كوسوفا والجبل الأسود هى الأماكن المركزية التى تستخدمها المافيا الدولية لتجميع النساء تمهيدا " لشحنهن " إلى أوروبا الغربية . أما الطريق الرئيسى المعتمد من قبل مافيا التهريب فيبدأ من البوسنة عبر مقدونيا وكوسوفا باتجاه أوروبا الغربية ، حيث يجرى إخفاء النساء والفتيات فى المرابع الليلية وبيوت الدعارة السرية ، أو فى منازل خاصة تديرها المافيا ذاتها .
وأشار التقرير إلى أن عدد النساء والفتيات اللواتى تنقلهن العصابات من شرقى أوروبا إلى غربها يقدر بسبعمائة ألف امرأة سنويا . والراجح أن يكون هذا هو الرقم الأدنى، نظرا لأن عصابات التهريب تسلك طرقا لا تزال مجهولة أمنيا حتى الآن . وبحسب التقرير فان 35% فقط من عمليات التهريب يتم إفشالها, بينما تنجح العصابات فى تمرير باقى الصفقات (4) .(1/71)
ويؤكد مدير مكتب الأمن والتعاون الأوروبى ستيفانو زانينو ، بأن العدد الحقيقى للنساء موضوع التجارة يتجاوز الأربعة ملايين امرأة سنويًا .
ويشير تقرير دائرة مكافحة الجريمة فى ألمانيا إلى ازدهار تجارة الرقيق "الأصفر والأسود" ، أى النساء الوافدات من دول شرق آسيا وأفريقيا إلى أوروبا . ويتم هذا النوع من التجارة عبر استغلال الشباب الأوروبى العاطل عن العمل بإبرام عقود زواج وهمية لقاء مبالغ مالية - غالبا ما تكون ضئيلة - تسمح بانتقال النساء إلى أوروبا للإقامة والعمل فى مجال الدعارة السرية . وتغص المرابع الليلية الأوروبية والملاهى, وحتى أماكن ألعاب الميسر بالنساء الآسيويات اللواتى يعرضن أجسادهن للبيع من أجل إعالة العائلات الكبيرة فى بلدانهن . وتقدر دائرة مكافحة الجريمة فى ألمانيا عدد النساء الاسيويات اللاتى يدخلن أوروبا الغربية بثلاثمائة ألف امرأة سنويا، مما يعنى أن أوروبا الغربية تستقبل سنويا – فى حالة إضافة عدد النساء من أوروبا الشرقية – حوالى مليون امرأة من أنحاء العالم للعمل فى مجالات الدعارة (5) .
وقد اعترف الرئيس الأمريكى جورج بوش الإبن فى خطاب ألقاه – موجود نصه على موقع وزارة الخارجية الأمريكية بالنت – بتفشى الاستعباد الجنسى فى بلاده ودول أخرى كثيرة . وإن كان قد زعم أن إدارته تبذل كل جهودها ، وتنفق ملايين الدولارات لمكافحة الرق المعاصر . وتقول الخارجية الأمريكية : إن مئات الألوف من النساء من أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا و أوروبا الشرقية يتم نقلهن إلى داخل الولايات المتحدة – بواسطة عصابات – لبيعهن لبيوت الدعارة أو للخدمة فى الاتجار بالمخدرات أو للاستعباد الجنسى أو فى الأعمال الشاقة بدون أجر أو بأجر زهيد . ويعيش هؤلاء فى أماكن أشبه بالسجون وتحت رقابة مشدّدة من الما?يا فى ظروف غير آدمية (6) .
عولمة الدعارة(1/72)
ويفسر ريتشارد بولان أستاذ علم الاجتماع بجامعة أوتاوا بكندا هذه الظاهرة – الاستعباد الجنسى – بأن المجتمع الغربى الرأسمالى هو ذاته مجتمع تم تأسيسه بالعنف والإجرام ، ومن الطبيعى أن يعيد هذا المجتمع إفراز الجريمة بكل أشكالها . وفى سعيهم المحموم لجمع المال "وامتصاص" دماء الآخرين ، قام الرأسماليون الغربيون بعولمة سوق الجنس على حساب ملايين الضحايا من النساء الفقيرات والأطفال المساكين الذين أُجبروا على التحول إلى مجرد "سلع" جنسية . والخطير فى الأمر تشجيع منظمات دولية – مثل منظمة التجارة العالمية – لاتساع الاستغلال الجنسى و"ترويج" الجنس تحت ستار تنمية السياحة !! ويصف ريتشارد بولان هذا التحول الخطير باللاأخلاقى ، وأنه يمثل تغييرا مأساويا غير مسبوق فى تاريخ البشرية . ويعدد وسائل الاستغلال الجنسى مثل خطف وجلب مئات الألوف من الفتيات إلى المعسكرات التابعة للجيش الأمريكى فى دول آسيوية عديدة ليشبع أولاد "العم سام" سعارهم الجنسى !!! وكذلك استغلال ملايين الفتيات والأطفال الصغار فى المنتجعات السياحية فى تايلاند وغيرها ؛ ليستمتع "الذئاب" الأوروبيون بفض بكارة أولئك الضحايا ، وأغلبهن من سن 13 إلى 14 سنة !! ويبرر الوحوش جرائمهم تلك بالرغبة من وقاية أنفسهم من الإيدز وغيره من الأمراض التى تسببها المخالطة الجنسية مع الداعرات المحترفات !! .(1/73)
كما تشمل صور الاستغلال الجنسى ملايين الفتيات الفقيرات اللاتى تم خطفهن وترحيلهن إجباريا إلى الحانات ونوادى الرقص العارى والمواخير وصالونات التدليك ودور إنتاج الأفلام وأشرطة الفيديو والصور الخليعة والمجالات الإباحية... إلخ . ويؤكد العالم الكندى أن عبودية الجنس المعاصرة – صناعة الجنس – يقوم عليها اقتصاد خفى ضخم يشارك فيه قوادون من المافيا الأوروبية والأمريكية ، بتواطؤ من قوى الأمن المحلية الفاسدة فى الدول الفقيرة ، والذين يتم رشوتهم للتغاضى عن خطف وترحيل ملايين الفتيات الصغيرات من دولهن سنويا ، للانضمام إلى جيوش الجوارى الجدد فى أسواق النخاسة الجنسية المعاصرة . كما تشارك فى هذه الصناعة القذرة شركات الطيران والصناعة السياحية وسلسلة من الفنادق العالمية ، وعدد كبير من المسئولين فى الحكومات المختلفة الذين يقبضون رشاوى من المافيا لتسهيل أعمالها ، وتقديم كل الخدمات أيّا كان نوعها مقابل الدولار واليورو !!! بل يرى ريتشارد بولان أن التجارة الجنسية أصبحت الآن "إستراتيجية" للتنمية فى بلاد كثيرة فقيرة مثل تايلاند وروسيا والفلبين وكوبا والبرازيل وغيرها . ويتهم بولان الولايات المتحدة الأمريكية بدفع تلك الدول المدينة إلى الخضوع لسياسات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى وكلاهما تسيطر عليه أمريكا !! .(1/74)
وتثبت الدراسات أن 90% من العاهرات يخضعن لتحكم كامل من القوّادين ، و 80% منهن يتعرضن للاغتصاب من القوّادين أنفسهم ، فضلا عن عشرات الزبائن يوميًا بالطبع . كما يتعرض 87% من عاهرات الشوارع فى إنجلترا مثلاً للاعتداءات بالضرب والجرح والقتل فى كثير من الحالات طبقًا لما تنشره وسائل الإعلام هناك بصفة شبه يومية . وأكثر من نصف العاهرات فى كل من أوروبا وأمريكا كن ضحايا اختطاف وترحيل من دول أخرى ، وأكثر من ثلث أعدادهن تعرضن لتشويه جسدى . ويكذب ريتشارد بولان الادعاء الغربى بأن أكثر العاهرات يمارسن الدعارة باختيارهن ويستدل بالإحصائيات السابقة ، كما يتساءل : "إذا كان متوسط سن الدخول إلى سوق الدعارة هو 10 سنوات فقط فى الولايات المتحدة الأمريكية ، فكيف يمكن الادعاء بوجود أى اختيار أو إرادة حرة ؟! وكيف يمكن القول بأن طفلة عمرها 4 أو 5 أو 7 سنوات قد اتجهت بإرادتها الحرة الى ممارسة هذه الحرفة اللعينة ؟! وتقدر منظمة اليونسيف العالمية عدد الأطفال الصغار الذين يجرى خطفهم وإجبارهم على احتراف البغاء والشذوذ الجنسى بأكثر من مليون طفل سنويا معظمهم من الدول الفقيرة !! تُرى أية حضارة تلك ؟!، وماذا تكون البربرية إذن ؟!! .(1/75)
وتؤكد الدراسات والتقارير التى تصدرها المنظمات الدولية المعنية تزايد أعداد ضحايا الاستعباد الجنسى عامًا بعد آخر ، فى ظل التشجيع "الإجرامى" من دعاة العولمة والليبرالية من جانب ، وعجز أو "تواطؤ" السلطات فى دول أوروبا وأمريكا ، إلى جانب فساد السلطة والرشوة فى البلدان الفقيرة التى يجرى خطف وجلب الضحايا منها . وأخيرا نتساءل : هل هناك أى فارق بين مشهد رقيق الجنس عاريات تماما ليراهن "الزبائن" عبر الواجهات الزجاجية لدور الدعارة فى أمستردام أو فرانكفورت أو لندن أو باريس أو نيويورك، وبين مشهد العبيد والجوارى فى أسواق أثينا أو روما فى العهود الغابرة؟!! إن المساكين ليسوا أكثر من سلعة يجرى الإتجار بأجسادهم وأجسادهن فى كلتا الحالتين . فهل تطورت البشرية فى عصرنا عن ذى قبل ؟!! .
عظمة الإسلام
إن أى منصف من غير المسلمين سوف يرفع قبعته فورا تحية للإسلام العظيم الذى حَرَّم هذا الاستغلال الجنسى تمامًا منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان بآية محكمة خالدة يتلوها البلايين من البشر عبر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . قال الله تعالى : "وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور:33) .(1/76)
وسبب نزول الآية – كما ذكر ابن كثير – أن رأس المنافقين عبد الله بن أبى سلول كان يُرْغِم جارية له – أو جاريتين- على احتراف الدعارة, فلمّا أسلمت شكت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية بالتحريم ، وحررها النبى من الرق رغم أنف سيدها الكافر ، ومنعه من التعرض لها بعد ذلك ، فجعل المنافق يصيح : من يعذرنا – ينقذنا – من محمد يغلبنا على مملوكتنا ؟ وتلك القصة الثابتة هى من أبلغ الردود على الحاقدين على الإسلام . كما أورد ابن كثير رضى الله عنه- فى تفسيره لتلك الآية - نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كسب البغى – العاهرة – أى الأجر الذى تحصل عليه مقابل ممارسة الدعارة .. وجاء فى التفسير المذكور : "نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجّام ومهر البغى وحلوان الكاهن" . وفى رواية : "مهر البغى خبيث ، وكسب الحجام خبيث ، وثمن الكلب خبيث" ، كما ذكر ابن كثير آراء علماء السلف مثل ابن عباس والزهرى وزيد بن أسلم وعبد الله بن مسعود الذين أجمعوا على أن الله يغفر لتلك الجارية المسكينة التى يجبرها سيدها المجرم على ممارسة الدعارة ليحصل على المال الوفير .
والإثم فى هذه الحالة يقع عليه وحده . وفى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أورده ابن كثير أيضا فى سياق تفسير الآية المذكورة (7) . وهكذا سبق القرآن العظيم كل المعاهدات الدولية والقوانين العالمية فى تحريم "الدعارة والاستعباد الجنسى" . و تكفى مقارنة بسيطة لإثبات أن هذه الدعارة تكاد تكون نادرة فى البلاد الإسلامية بخلاف ما رأينا فى الغرب الذى يتطاول علينا !! .
المراجع(1/77)
1- تقارير للمنظمات الدولية مثل منظمة مكافحة العبودية ومقرها لندن ، ومكتب مكافحة المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة ، ومنظمة "اليونسيف" للطفولة التابعة للأمم المتحدة ، والمجلس الأوروبى لحقوق الإنسان ، ومنظمة العفو الدولية .
2- تقرير مصور بثته شبكه CNN فى أول يناير 2002م عن تجارة رقيق الجنس والمخدرات حول العالم .
3- تقرير مفصل عن ظاهرة عبيد الجنس نشرته شبكة "محيط العربية" على الإنترنت www.moheet.com .
4- تقرير لمنظمة الأمن والتعاون الأوربى منشور بجريدة "الشرق القطرية".
5- تقارير عن العبودية المعاصرة بموقع BBC العربية على الإنترنت .
6- موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الإنترنت .
7- تفسير القرآن الكريم – ابن كثير – تفسير الآية 33 من سورة النور .
الفصل الخامس
سبايا البلقان
في يوم 6 إبريل عام 1992م اجتاحت عصابات الصرب – الأرثوذكس – جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة . كانت البوسنة تظن أن من حقها الحصول على الحرية بعد انهيار يوغسلافيا الشيوعية، مثلما حصلت كل من " صربيا " الأرثوذكسية ، و كرواتيا – الكاثوليكية- على استقلالها ، لكن الأشقاء في البوسنة كانوا سُذَّجَاً" بعض الشيء، إذ توهموا أن "أوروبا" المسيحية سوف تسمح "للمسلمين" بدولة مستقلة حُرَّة في قلب "البلقان" !! .
قالها الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتران" للرئيس البوسني المفكر الإسلامي الكبير علي عزت بيجوفيتش : " إني أشم فيك رائحة الأصولية، وعليك أن تفهم أننا لن نسمح بدولة "إسلامية" في قلب أوروبا "المسيحية"!! ولعل هذا يفسر كذلك رفض الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا المسلمة إليه!!(1/78)
وهكذا تغاضت كل دول أوروبا عمداً عما يخطط له الصرب، فأغمضت عيونها وأصمت آذانها عن صرخات ملايين الضحايا من المدنيين المسلمين في البوسنة، الذين تعرضوا لواحدة من أبشع المجازر في التاريخ الإنساني كله . بل إن كثيرا من الممارسات الصربية والكرواتية – المسيحية – ضد مسلمي البوسنة لم يفعل مثلها أسلافهم الرومان والإغريق ضد العبيد !! .
يحكي الدكتور "إبراهيم جنانوفيتش" الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية جامعة سراييفو جانباً من المأساة قائلاً إنه شاهد الصرب يدخلون منطقة نجاريتش الاستراتيجية قرب مطار سراييفو. وخلال ساعة واحدة ذبح الجزارون 200 مسلماً في ثلاثة شوارع فقط!! واعتقلوا 500 شخصاً من منازلهم، بينما تمكن باقي السكان من الهروب إلى ضاحية دوبرينيا القريبة من سراييفو، وهي منطقة كانت تسيطر عليها فصيلة من القوات المسلمة بقيادة البطل عصمت حاجتيش . ويواصل الدكتور جنانوفيتش الرواية : بعد اعتقالنا نقلونا إلى مخازن مطار سراييفو التي كانوا يستخدمونها قبل مجيء القوات الدولية كمعسكرات اعتقال جماعية . وكان معي بين المعتقلين زميلي المرحوم نياز شكريتش الأستاذ بالكلية الإسلامية وعائلته أيضاً . وطوال الطريق من منازلنا حتى مخازن المطار رأينا كثيراً من جيراننا المسلمين مذبوحين بالسكاكين أو مقتولين خنقًا أو بالرصاص. كانت جثثهم متناثرة على قارعة الطريق، وبعضها نهشتها الكلاب وجوارح الطيور !! وفي المعتقل تم تقسيم المحتجزين حسب قومية كل منهم، المسلمون في جانب ، والكروات في جانب آخر. أما القلة الصربية فقد ألبسوهم الثياب العسكرية، وتم تسليحهم ، ثم أرسلوهم إلى جبهات القتال ليحاربوا في صفوف القوات الصربية . وبعد أقل من 48 ساعة نقلوا المعتقلين الكروات إلى معسكر آخر, ثم أفرجوا عنهم في إطار صفة تبادل للأسرى بين الصرب والكروات . ولأن الصرب لم يجدوا أماكن كافية لاحتجاز عشرات الألوف من المدنيين المسلمين, فقد أخلوا كل(1/79)
سجون البوسنة من السجناء الجنائيين، وحولوا أرباب السوابق الصربيين إلى جنود في الجيش الصربي، بينما قتلوا كل السجناء السابقين من المسلمين لوضع المعتقلين المسلمين بدلاً منهم (!!!) .
كان على المعتقلين المسلمين أن يستجيبوا لأية أوامر يصدرها الزبانية الصرب مهما كانت ، وإلا فالقتل أوالتعذيب الرهيب هو جزاء من يتلكأ في التنفيذ . وكان الأمر الأول هو ترديد أناشيد صربية عنصرية تسب الإسلام والمسلمين، والذبح هو مصير من لا يرتفع صوته بالغناء البذئ الذي يتطاول على دينه وقومه ومقدساته !!.(1/80)
بعد ذلك كانوا يحشرون في كل زنزانة 28 شخصا . ولكى يتصور القارئ العزيز مدى العذاب المروّع، يكفي أن نعلم أن مساحة الزنزانة لا تتجاوز ثلاثة أمتار عرضاً في ثلاثة أمتار ونصف طولاً!! وبدأت عمليات استجواب مرهقة مقترنة بالسحل والتعذيب وقتل كل من يرفض الإذعان لأوامر أو رغبات أو نزوات المحققين الصرب!! وكان الرجال في طابقهم يسمعون بكل وضوح صرخات النساء والأطفال في الطابق الثاني أثناء عمليات الاغتصاب الجماعي والتعذيب والتنكيل !! الجنود السكارى يعربدون ويفعلون أي شيء وكل شيء . في أي وقت يقتحمون الزنازين ويصطحبون معهم بعض المعتقلين الذين لم يَعُدْ أي منهم بعد ذلك إلى الأبد!! وكانت آثار التعذيب البشعة تبرز على أجساد الكثيرين، وهناك من نالوا حصة تعذيب يومية طوال فترة بقائهم في سجن (كولا) بالعاصمة، وكانوا يعودون والدماء تنزف من أجسادهم بغزارة ولا أحد يستطيع إسعافهم! وكان مسموحاً للمعتقلين بالذهاب إلى المرحاض الوحيد لمدة خمس دقائق فقط للجميع، مما اضطر الكل إلى التبول والتغوط داخل الزنزانة الضيقة، وخاصة المرضى والعجائز، وحجم العناء والمعاناة في مثل هذه الأحوال ليس بحاجة إلى الإشارة . وأما الطعام والشراب في المعتقل فهو من صنوف الترف والرفاهية التي ليس من حق أحد أن يطمع فيها!! وفي المرات القلائل التي يجود فيها الزبانية، يحصل المعتقل الواحد على عشرة جرامات فقط من الخبز ونصف فنجان صغير من الماء الساخن كل يوم!! ولكل زنزانة لتر واحد فقط من ماء الشرب (لاحظ أن الزنزانة الواحدة يقطنها 28 شخصاً) أي أن كل معتقل يمكنه فقط أن يبلل شفتيه بالماء حتى لا ينسى مذاقه!!. وكل ذلك مقصود ومخطط . فهم أولاً يريدون بث الرعب في قلوب المدنيين المسلمين لإجبارهم بعد ذلك على الهروب من بلادهم ، فيتحقق لهم الهدف الاستراتيجي الأول وهو التطهير العرقي للبوسنة، وكذلك إضعاف الروح المعنوية للمقاتلين المسلمين حين تتسرب إليهم أنباء(1/81)
الفواجع التي لحقت بأسرهم وذويهم في المدن المحاصرة . ثم أن الصرب كانوا بحاجة إلى رهائن من المدنيين لمبادلتهم بعد ذلك بأسراهم العسكريين الذين ظفر بهم المسلمون في معاركهم البطولية في عدة مناطق . وهناك أعداد هائلة من المدنيين كانوا معتقلين لدى الصرب والكروات في المناطق التي يسيطرون عليها ، والأرقام ليست معروفة بالضبط ، لكن القدر المتيقن هو أن هؤلاء المساكين تعرضوا لأفظع جرائم الحرب في التاريخ كله .. ربما ساعدت جهود وضغوط الهيئات واللجان الدولية المعنية في الإفراج عن بعض المعتقلين بالعاصمة، ومنهم محدثنا إبراهيم جنانوفيتش وزميله نياز شكرتيش اللذين تمت مبادلتهما بستين جندياً صربياً ، لكن كان هناك العديد من المعسكرات الجماعية للمعتقلين المسلمين في "بنيالوكا" التي اتخذها الصرب عاصمة لدولتهم المزعومة، و"موستار" التي حاول الكروات الاستيلاء عليها، و"فوتشا" و"أزفورنيك" ، و"دبوى" و"شيكوفيتشي" و"لاسانيتا" وغيرها . . ويؤكد ماكيتش عضو هيئة الرئاسة الإسلامية – الذي كان معتقلاً في معسكر بالقرب من بنيالوكا – أن المجرمين الصرب هناك ذبحوا 5 آلاف معتقل خلال أربعة أيام فقط!! وفي مدينتي" بريدور" و"كازارتس" أبادوا 25 ألف أسير مسلم – من المدنيين وخاصة الأطفال والنساء – في أقل من شهر واحد !! وفي منطقة "يوبيا" وضعوا عشرة آلاف مدني مسلم في منجم مهجور وقاموا بتفجيرهم بالديناميت دفعة واحدة !!. كما أبادوا تسعة اّلاف فى مدينة " سربرنيتسا" بتواطؤ من القوات الهولندية التى كان منوطا بها حمايتها.!!ويلاحظ ماكتيتش أن المجرمين كانوا يركزون على تصفية الشباب من سن 15 حتى 40 سنة للقضاء على أي أمل للمسلمين في إنجاب المزيد من النسل، وأيضاً لإضعاف القوة العسكرية لجيش البوسنة والهرسك !! وكالعادة تباطأت اللجنة الدولية المزعومة للتحقيق في جرائم الحرب ، حتى تعطي الفرصة للصرب لارتكاب المزيد من المذابح ، ثم تبدأ العمل بعد(1/82)
تصفية الوجود الإسلامي !! .
أما فوزي عيسوفتش – 61 سنة - فقد اعتقلوا ابنه وابنته وزوجها وأفرجوا عنهم بعد دفع 5 آلاف مارك ألماني نظير إخلاء سبيل كل منهم . ورغم تجربة الاعتقال المريرة يقول العجوز بإصرار : لا بديل عن استمرار الجهاد ضد الصرب حتى لو استشهد نصف شعبنا ، فسوف يعيش النصف الآخر بعزة وكرامة .
وللإنصاف كانت النمسا من الدول القلائل التي حاولت صنع شيء لضحايا البرابرة الصرب . وتزعمت وزيرتان في حكومة فيينا الجهود الشعبية للتضامن مع ضحايا جرائم الحرب . فقد دعت الوزيرتان الدكتورة يوهانا دونهال وزيرة شئون المرأة وماريا رواخ كالات وزيرة الأسرة إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء النمساوي - فى حينها- لبحث الأوضاع المأسوية لنساء وأطفال المسلمين في معسكرات الاعتقال الصربية . وندد بيان المجلس عقب الاجتماع بالجرائم الوحشية الصربية ضد المعتقلين، ووصفها وزير الخارجية" د . أليوس موك" بأنها أبشع بكثير من معسكرات الاعتقال النازية . وانتقدت الحكومة النمساوية الموقف الغربي المتخاذل تجاه المجرمين الصرب والكروات . وتدلي الدكتورة يوهانا دونهال بشهادتها مؤكدة أن: "عمليات اغتصاب النساء المسلمات وأطفالهن هي أبشع وأقذر الجرائم في جميع الحروب التي شهدها العالم في التاريخ كله !! وهي جزء من سياسة التطهير العرقي التي مارسها الصرب بانتظام ، وقد شملت جرائم الاغتصاب عشرات الآلاف من النساء والأطفال من عمر ثلاث سنوات فأكثر"!! ودعت الوزيرة إلى فتح التبرعات والمساعدات الإنسانية لضحايا هذه الجرائم النكراء ولإعادة تأهيلهن من كافة النواحي .(1/83)
وتقول الدكتورة ماريا رواخ كالات وزيرة الأسرة أن التقارير الموثقة التي تلقتها من داخل البوسنة والهرسك أكدت ارتكاب عمليات الاغتصاب الجماعي بشكل منتظم. وكانت الضحية الواحدة تتعرض لتكرار عمليات الاغتصاب في اليوم الواحد دون أي اهتمام بتدهور حالتها الصحية !! وكان المجرمون يكررون اغتصاب الفرائس حتى يحبلن ، ثم يطلقون سراحهن بعد مرور عدة أشهر على الحمل- لكى يستحيل إجهاضهن- ويرسلون بهن إلى ذويهن في سيارات كتبوا عليها : "خذوا النساء وما في بطونهن من الصرب الصغار" !! وهذا كله إمعاناً في إذلال و تحطيم معنويات الضحايا وعائلاتهن لإجبارهم على الرحيل من البوسنة !! .
وأكد السياسي النمساوي المخضرم الدكتور يانكوفيتش وزير خارجية الظل أن جرائم الاغتصاب الجماعية تلك تتحمل مسئوليتها دول أوروبا الغربية التي تقاعست عن القيام بدورها للحيلولة دون إندلاع الحرب أو وقفها قبل أن يستفحل أمرها إلى هذا الحد . ويقول يانكوفيتش : لقد كان استمرار سلبية المجتمع الدولي على هذا النحو الفاضح يزيد من آلام ومعاناة المسلمين المساكين في البوسنة والهرسك . وكان لا مفر من التدخل العسكري الأوروبي لوقف القتال ومنع انتشار المذابح في باقي مناطق البلقان، وبصفة خاصة إقليمي كوسوفو ومقدونيا وهما المرشحان للعدوان الصربي في إطار محاولات تحقيق الأطماع وإنشاء ما يسمى بصربيا الكبرى على حساب المسلمين في البلقان .
وبالطبع ذهبت صيحات هؤلاء المنصفين إدراج الرياح ، فقد تم للصرب ما أرادوا والتهموا الجزء الأكبر من أراضي البلقان ، وأفلت أغلب قادتهم من العقاب على جرائمهم حتى الآن !!! .(1/84)
ومن واقع اعترافات الأسرى من عصابات الصرب تبرز عدة حقائق خطيرة : أولها إن إسرائيل ألقت بثقلها في البلقان حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية ، بل وشاركت مبكراً في تدريب أخطر عصابات الصرب (أركان) في معسكرات خاصة أقيمت لهذا الغرض في تل أبيب . . وحتى الآن ما زالت الأسلحة والمؤن والذخائر الإسرائيلية من أهم مصادر تسليح الصرب رغم أنف الحظر الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تطبق فقط على العرب والمسلمين !! والحقيقة الثانية هي أن عمليات القتل الجماعي والتعذيب وإحداث العاهات والاغتصاب حتى الحمل تمت بأوامر عليا من كبار قادة العصابات الصربية وفق منهج مدروس ومخطط للقضاء على الروح المعنوية للضحايا وبث الرعب في قلوب الآخرين، تمهيداً لاستكمال التطهير العرقي في باقي المناطق . . وثالثة الحقائق هي أن الجيش الاتحادي لما كان يعرف بيوجوسلافيا لعب أخطر وأقذر الأدوار على الساحة ، ونجح كبار قادته وهم من الصرب - بطبيعة الحال- في نهب معظم أسلحته الثقيلة لتكون هي عصب أسلحة الجزارين الصرب على حساب المسلمين الذين أُخذوا على حين غِرَّة دون أي استعداد مسبق للقتال .(1/85)
يقول الصربي يوفوستيفا نوفيج – وهو من مواليد 1952 بقرية لو نجار التابعة لبلدية أوراشي : استدعاني الجيش الاتحادي اليوجوسلافي للخدمة، وتم تزويدي مع أقراني بـ 120 قطعة سلاح من مخازن الجيش الاتحادي ، بالإضافة إلى 16 دبابة جاءوا بها من مخازن مدينة" بيرجكو"، ومعها أطقمها المدربة من الجنود الصرب . حتى كبار السن تم تسليحهم ببنادق من نوع م 48 . وقد أشركني رجال (أركان) في عملياتهم، وكان منوطاً بهم عمليات التصفية والإبادة الجماعية والحرق والنهب والاغتصاب . وتوليت قيادة 65 رجلاً تابعين لمجموعة (أركان) ذات التدريب عالي المستوى في إسرائيل ، وقمنا بقتل كل من وجدناهم من غير الصرب بالمنطقة . قتلت الكثيرين بإطلاق الرصاص عليهم، وقتلت عجائز أيضاً، إحداهن قتلتها بضربة فأس في عنقها . وقد رأيت الآخرين من رفاقي يفعلون نفس الشيء . وكان معي قتلة متخصصون يسميهم باقي الجنود (بالذئاب) وكثير منهم جاءوا من صربيا وآخرون من بلدة " بيلينا" وهي أول مدينة بوسنوية تعرضت للمذابح والإبادة الجماعية .
أما الجزار الصربي سفتين ماكسيموفيج – 23 سنة- من مدينة" بيرجكو" فقد التحق بالجيش الصربي منذ بداية المعارك . وقد قتل هذا السفاح وحده 80 شخصاً في يوم واحد فقط!! كما اغتصب 12 فتاة تتراوح أعمارهن ما بين 10 إلى 25 سنة، ولم يكتف بذلك فاغتصب أيضاً امرأة عمرها 60 سنة، أي في عمر جدّته تقريباً بأمر مباشر من بوقدان مارجيج المسئول العسكري الأول في منطقة بيرجكو!! ويشرح المجرم الذي كانت مهمته حراسة الأسرى من النساء والأطفال والعجزة أسلوب عمله البشع في قتل هؤلاء المساكين ببساطة شاذة !! فلم يكن الأمر يكلفه أكثر من ضربة بالمطرقة على رأس المطلوب قتله ، فيغمى عليه ، ثم يذبحه الجزار بغرز السكين في رقبته ويتولى الآخرون إلقاء الجثث في نهر السافا . وكان المعسكر يحتوي على أكثر من 400 شخصاً لقى أغلبهم حتفهم بهذه الطريقة البشعة !! .(1/86)
وذات المهمة القذرة كانت منوطة بالمدعو سلوبودان بانيج – 24 سنة - الذي كان ضمن طاقم حراسة المعتقلين في بلدة "لوكو" على نهر السافا .
وتتميز هذه البلدة بوجود مخازن كثيرة بها استخدمها الصرب لإيواء المعتقلين من النساء والأطفال والعجائز . وقد تلقى بانيج أمراً من مجموعة شليشيلي وأركان المعروفة بقتل أربعة من المعتقلين دفعة واحدة . وكان القاتل يسحب الضحية حتى مجرى النهر حيث يضربه بالمطرقة على مؤخرة رأسه فيغمى عليه ، ويسقط في النهر فتسحبه المياه إلى القاع ليلقي حتفه غرقاً . ويعترف بانيج بأنه اغتصب 5 فتيات صغيرات، إحداهن كان عمرها 13 سنة وأخرى 14 سنة وثالثة 16 سنة، واثنتين عمر كل منهما 20 سنة . وقد رأى بانيج الآخرين يغتصبون الفتيات الخمس مرات عديدة بعد ذلك ، ثم قُتلن ذبحاً بواسطة جماعة أركان الإرهابية . ويتهم بانيج الجيش الاتحادي بأنه هو المسئول الأول عن المذابح والاغتصاب ، لأنه هو الذي كان يوزع الأسلحة على الصرب ويأمرهم بتصفية المسلمين . وكان من المألوف أن يجهز الصرب على الجرحى ذبحاً بالسكاكين لتوفير الذخيرة من ناحية، وبث الرعب في قلوب المدنيين من ناحية أخرى !! وهناك أكثر من حكاية سمعتها من الفارين من البوسنة، عن نساء حوامل وضعن في الطريق نتيجة للتعب والإجهاد، وبعضهن حدث لهن سقوط حمل وهن في الشهور الأولى ! حالات كثيرة من هؤلاء كن يمتن لعدم وجود العناية الطبية والغذائية في طريق وعر طويل وملئ بالأخطار .
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ففي المذابح الشهيرة التي ارتكبتها العصابات الصربية عام 1942 م حدثت ذات الجرائم ضد المسلمين المساكين .
ولكن ماذا عن الحوامل اللائي وقعن في أيدي صربية ؟!
أجابت الفتاة المسلمة "ساد" التي كانت ترقد في مستشفى "سلافونسكي برود" - في حالة صحية ومعنوية تعسة- عن هذا السؤال من واقع تجربة مريرة عاشت فصولها الحزينة، ثم استطاعت الهروب في النهاية، وإن لم تهرب من آثارها ! .(1/87)
لقد تمكنت الميليشيات الصربية من اعتقال " ساد " وتم إيداعها معسكر السبايا بالمنطقة التي يسكنها الصرب ويسيطرون عليها فى أطراف مدينة "بوسنسكي برود"، وهناك رأت الأهوال .
هتكوا عرضها وعرض العشرات غيرها، وكانوا يعرونهن من ملابسهن، ويمارسون ضدهن أبشع أنواع التعذيب الجسدي الوحشي .. وكانوا يختارون بعضاً منهن ويقومون بتقطيع أثدائهن! (لم يثبت أن الرومان قطعوا أثداء الجواري) !! .
أغلقت "ساد" عينيها وكأنها تحاول الهرب من ذكريات هذه الأهوال ، ثم أضافت : "كنت أرى الحوامل وقد وقفن صفوفاً لا يستر أجسادهن شيء. ثم يبدأ الأنجاس في بقر بطونهن والتمثيل بالأجنة. كنت أسمع صرخات من لم يأتها الدور بعد ، بعضهن يستعطفن ويسترحمن، ولكن كان هؤلاء وحوشا نزعت من قلوبهم الرحمة"!!
هل بَقْر البطون وقتل الأَجِنَّة عمل مسيحي متحضر ؟!! .
أغلقت "ساد" عينيها وراحت تنتحب في بكاء هستيرى متواصل ، فطلبت مديرة المستشفى من الصحفيين الكف عن الحديث معها، فقد كانت حالتها خطيرة ، وتكرار الحديث فيما جرى لها يزيد الطين بلة.
وقد بلغ عدد شهداء البوسنة والهرسك أكثر من 250 ألف شخص ، فضلاً عن مئات الألوف من الجرحى والمعوقين ، وتدمير عشرات الألوف من المساكن والمدارس والمساجد ، واغتصاب 40 ألف امرأة وفتاة، بعضهن لم يتجاوز العاشرة من العمر!!! وفي المقابل لم يرتكب مسلم واحد جريمة اغتصاب واحدة لأسيرة صربية أو كرواتية فى المناطق التى حررها المسلمون بعد ذلك ، وهذا هو الفارق بيننا وبين أدعياء الحضارة المسيحية الغربية (1) .
الفصل السادس
كيف "باعوا" كشمير ؟!!
__________
(1) ... لمزيد من التفاصيل حول الحرب في البوسنة راجع كتاب حمدى شفيق: دموع سراييفو – ملحمة البوسنة والهرسك – طبعة القاهرة 1993م.(1/88)
"جنة الأرض" هذا هو الاسم الذي يطلقه سكان شبه القارة الهندية على ولاية جامو وكشمير لكثرة الحدائق والبساتين والبحيرات بها .. وتتمتع الولاية التي تقع في قلب آسيا الوسطى بمناخ لطيف ، وتتميز بوجود أحد أعلى القمم الجبلية في العالم بها ، وهوالجبل الشهير المعروف باسم "سياشين جليشيو" . ويمر بها طريق "الحرير" الذي يربط بين باكستان والصين الشعبية . تبلغ مساحة كشمير بشقيها الحر والمحتل 240 ألف كيلو متر مربع . ويبلغ عدد سكانها أكثر من 12 مليون نسمة 85% منهم يدينون بالإسلام، بينما الباقون أخلاط من الهندوس والسيخ والبوذيين وغيرهم . وعلى خلاف مزاعم الهنود فإن أهل كشمير لا ينتمون إلى العرق الهندي، لأنهم بيض البشرة طوال الأجسام، ولهم لغة خاصة بهم لا تُشبه أية لغة من اللغات الهندية.
وقد أنجبت كشمير الكثير من العلماء والمفكرين الأفذاذ منهم المفكر والشاعر الإسلامي الأشهر العَلاَّمة محمد إقبال .
وكشمير بلاد جبلية بها واديان فقط هما وادي "جامو" ووادي "كشمير". وأكبر أنهارها "السند وجليم وجناب" ، وتنبع الأنهار الثلاثة من كشمير لتنساب إلى المصب في باكستان ، التي يمتد شريطها الحدودي مع كشمير نحو 700 ك مترًا مربعاً، بينما لا يزيد طول حدود الهند مع كشمير عن 300 كيلو متراَ مربعا فقط ، وهي تجاورها من الجنوب . أما الصين فتلاصق كشمير من الشمال والشرق وبعض الجنوب الشرقي ، وهناك أفغانستان التي تجاورها من الشمال الغربي.(1/89)
وتقول كتب التاريخ أن الإسلام دخل كشمير في القرن الثامن الهجري على يد مسلم تركستاني هو "بلبل شاه" الذي نشر دعوة الحق في ربوع البلد . وتوجت جهوده بإسلام حاكم كشمير الهندوسي "رنجن شاه" الذي غير اسمه إلى (صدر الدين) وبإسلام الحاكم أسلم معظم الهندوس . واستمر الحكم الإسلامي في كشمير سبعة قرون تقريبا، حتى قام السيخ بحركة دموية سيطروا بها على المنطقة عام 1819 م وحتى عام 1846م . وخلال تلك الفترة مارس السيخ أشد صور الاضطهاد والقهر ضد أغلبية السكان من المسلمين . وفي عام 1846 احتلت بريطانيا الهند وكشمير . وبعد الاحتلال الانجليزي بعام واحد – أي في سنة 1846م – وقعت واحدة من أسخف مهازل التاريخ بمكيدة بريطانية مفضوحة . فقد باعت بريطانيا منطقة كشمير وجامو بأرضها وشعبها وكنوزها الطبيعية النادرة إلى مهراجا هندوسي يدعى "جولان سيخ" بمبلغ سبعة ملايين ونصف مليون روبية (!!) .
وتعرف هذه الصفقة بالغة الشذوذ باسم اتفاقية "أرميستاز"، وقد أعادت إلى الأذهان ما كان يحدث في القرون الأولى من بيع للأراضي والأقاليم بما عليها من الناس والدواب والخيرات !! .
وهكذا باع من لا يملك لمن لا يستحق إقليماً وشعباً بأكمله بأبخس الأثمان!! فهل عرف تاريخ النخاسة العالمية أغرب من هذه الصفقة ؟!! .
وكانت هذه لعبة استعمارية مقصودة كعادة الاستعمار الأوروبي الذي دأب على بث الألغام القابلة للتفجير في أية لحظة، تارة بحدود مصطنعة متنازع عليها بين الدول، أو تحريضاً للأغلبية ضد الأقلية أو العكس، أو زرع عوامل الفتن والقلاقل والحروب الأهلية بمثل هذه الصفقة المثيرة للسخرية، والتي بمقتضاها اشترى مهراجا نصف مخبول شعباً بما يعادل ثلاثمائة ألف دولار أمريكي !! وبعد قرن كامل من العام الذي سطر فيه صك البيع للمهراجا دخلت القوات الهندية كشمير ، وبذلك انكشف المخطط الخبيث الذي أعده الانجليز والهندوس .
ويصف مؤرخ كشميري ما حدث قائلاً :(1/90)
المعروف أن الاستعمار البريطاني لم يترك واحدة من مستعمراته إلا بعد زرع بذور الفتن والاضطرابات فيها. فعل هذا في فلسطين وفي الصومال والحدود بين العراق والكويت وغيرها . وفي كشمير كان المثال صارخاً . فالغاصب الذي احتل شبه القارة الهندية بأكملها عمد إلى بيع ولاية معظم سكانها من المسلمين إلى مهراجا هندوسي غريب عن المنطقة ، وبذلك تركت بريطانيا شوكة مسمومة في ظهور مسلمي كشمير !! .
وفي أغسطس 1947 أصدر البرلمان البريطاني قانون استقلال الهند، وينص القانون على قيام دولتين مستقلتين هما الهند وباكستان. وطبقاً لخطة التقسيم تنضم المناطق ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان ، في حين تنضم المناطق الأخرى ذات الأغلبية الهندوسية إلى الهند، ويتعين تبعاً لذلك أن تنضم كشمير ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان .
وكانت تلك هي رغبة الأغلبية الساحقة من سكان كشمير وهم من المسلمين . بل كان عدد كبير من الأقلية غير المسلمة يفضلون الانضمام إلى باكستان، وتؤكد حقائق الجغرافيا أيضاً حتمية انضمام كشمير إلى باكستان ، إذ ليس لها طريق للاتصال بالعالم الخارجي سوى الأراضي الباكستانية، والميناء البحري الوحيد لكشمير هو مرفأ كراتشي بباكستان . كما أن كشمير هي الامتداد الحيوي والاستراتيجي لباكستان، إذ تنبع الأنهار الثلاثة التي تروي أراضي باكستان من كشمير، وهي نهر "السند" الشهير وأخواه جليم وجناب . وللأسف الشديد فإن ما تم تطبيقه مع عشرات الولايات ذات الأغلبية الهندوسية التي انضمت إلى الهند، رفضت هذه الأخيرة إعماله بالنسبة لكشمير المسلمة وثلاث ولايات أخرى ذات أغلبية إسلامية !! .(1/91)
وكان من المفروض ان تعلن كل الولايات قرارها بالانضمام إلى الهند أو باكستان قبل يوم 15 أغسطس 1947م . غير أن المهراجا الهندوسي الذي يحكم كشمير لجأ إلى خدعة ماكرة أوهم بها المسلمين أنه تفاهم مع الحكومة الباكستانية تمهيداً للانضمام رسمياً إلى باكستان . وبدلاً من تنفيذ الاتفاق أمر المهراجا رجاله بنزع سلاح المسلمين العاملين في الجيش والشرطة الكشميرية ، ثم هاجم البيوت ونزع ما كان لدى السكان المدنيين من أسلحة ، وعندما اعترض الأهالي على هذه الإجراءات ، استعان المهراجا بغلاة الهندوس لإبادة المتظاهرين العزل ، ووقعت مذبحة رهيبة استشهد فيها 270 ألف مسلم . ولم تسكت باكستان على تلك الإبادة ، فقد ثارت القبائل الباكستانية ، وزحف رجالها البواسل لنصرة إخوانهم وأصهارهم المستضعفين في كشمير، واستطاعوا تحرير جزء من كشمير تأسست فيه حكومة كشمير الحرة . خشى المهراجا الهندوسي سوء العاقبة فبادر بالفرار إلى ولاية جامو . ومن المخبأ أرسل كتاباً يوم 27 أكتوبر 1947 إلى حاكم الهند العام اللورد مونتاباتن يعلن فيه رغبته في ضم ولاية كشمير إلى الهند ، ويطلب إرسال قوات من الجيش الهندي لقمع السكان المسلمين وأنصارهم من قبائل "الباتان" القوية . وفي اليوم الأسود – كما يطلق عليه في كشمير – وهو يوم 27 أكتوبر سنة 1947م اجتاحت قوات الاحتلال الهندي "جنة الله في أرضه" كشمير المسلمة .(1/92)
ومنذ اللحظة الأولى لفترة الاحتلال التي دامت ستين عاماً حتى الآن، لم تتوقف الجرائم الوحشية ضد أبناء كشمير المحتلة . فالقوات الهندية لا تتورع عن استخدام أبشع الوسائل الشيطانية لقمع انتفاضة شعب كشمير المسلم، وتصفية شبابه وأطفاله خشية أن يأتي اليوم الذي يحررون فيه أرضهم وعرضهم ، ويطهرون فيه ديارهم من رجس عبدة الأبقار والأوثان . ومن الواضح أن الممارسات الهندوسية تندرج في إطار مخطط متكامل للتطهير العرقي بعيد المدى . فهناك الإبادة الجماعية للرجال رمياً بالرصاص أو ذبحاً بالسكاكين والمدى أو حرقاً بالنار أو بإلقاء أحماض كيميائية قاتلة على رؤوس وأجساد الضحايا .. وهناك الاعتقال العشوائي المقترن بتعذيب عشرات الألوف بلا محاكمات أو تحقيقات عادلة، وإحراق المتاجر والمنازل والزراعات على أوسع نطاق وحظر التجوال معظم الوقت وبتر الأطراف . إلخ .
ومن أغرب وأبشع الوسائل التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال الهندي للحد من تزايد عدد السكان المسلمين أنهم يقومون بخصي الشباب والأطفال – استئصال الخصيتين للذكور- قهراً حتى لا ينجبوا ذرية في المستقبل !! .
كما يقومون بتعقيم الفتيات كي لا يلدن !! ومن الجرائم اليومية كذلك مصادرة وإتلاف ممتلكات المسلمين وإحراق حقولهم ومواشيهم وأغنامهم حية ، ومن يعترض فإن مصيره المحتوم رصاصة في القلب، أو طعنة مهلكة في العنق ، أو الذوبان الرهيب في أحد أحواض حمض الكبريتيك المركز!! وتضج التقارير الدولية لمنظمات حقوق الإنسان - وعلى رأسها منظمة العفو ومنظمة مراقبة آسيا ومنظمة أطباء بلا حدود وغيرها- صارخة من هول وبشاعة جرائم سلطات الاحتلال الهندي ضد السكان العزل في إقليمي جامو وكشمير ، والتي تفوق بشاعتها ما كان يحدث للعبيد في غابر الزمان . ويكفي أن نستعرض بعض الأرقام ذات الدلالة الواضحة على خطورة ما يجري في كشمير :(1/93)
خلال أقل من عامين، وبالتحديد في الفترة من أول يناير سنة 1990 وحتى نهاية أغسطس سنة 1991 كانت خسائر المسلمين في كشمير ما يلي :
1- استشهاد 35 ألف مسلم ومسلمة، منهم 2200 ضحية أحرقهم الجيش الهندي أحياء في منطقة "كبوارة" وحدها .
2- جرح وإعاقة 30 ألف شخص من بينهم عدد كبير أصيبوا بعاهات مستديمة إثر اعتداء من قوات الاحتلال .
3- اعتقال 69 ألف شخص في السجون ومعسكرات التعذيب .
4- طرد 25 ألف مسلم إلى كشمير الحرة بعد هدم أو حرق منازلهم .
5- فصل آلاف الموظفين المسلمين تعسفياً وحرمانهم من مورد الرزق الوحيد.
6- اغتصاب 3575 مسلمة بصورة جماعية مروعة ، واستشهد من المجني عليهن 110 إثر الاغتصاب، كما جرى إغراق 20-على الأقل- من الضحايا في الأنهار لبث الرعب في المنطقة .
7- تعرض 600 امرأة للإجهاض بعد الاغتصاب البربري .
8- تم نزع الخصيتين لأكثر من 415 رجلاً في قرية سنور كليبورة وغيرها .
9- إحراق 21 ألف متجرًا ومنزلاً و 550 مدرسة وكلية، وقامت سلطات الاحتلال بإحراق حبوب غذائية قيمتها تفوق المليار دولار ، وأعدموا عشرات الألوف من المواشي والأغنام الحية !! .
كما تولى أعداء الحياة الهندوس تخريب وإحراق مساحات هائلة من الغابات الطبيعية والبساتين تفوق قيمة ما بها من أشجار وموارد طبيعية وثمار عدة بلايين من الدولارات ! .
إذا كانت تلك هي حصيلة أعوان الشيطان خلال بضعة عشر شهراً فقط من عمر احتلال استمر اكثر من 60 سنة حتى الآن، فكيف يبلغ حجم الحصاد الكلي لسنوات البطش الأسود المجنون ؟! . إن هذه الأرقام الفلكية للخسائر المادية والبشرية التي سببتها قوات الاحتلال الغاشم ليست من عندنا ، وإنما هي من إحصاء هيئات دولية ومنظمات عالمية محايدة تتولى الدفاع عن حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم .(1/94)
وعلى الرغم من السياسة الهندية الثابتة والمتمثلة في منع دخول الصحفيين وبعثات منظمات حقوق الإنسان إلى كشمير المحتلة لمتابعة ما يدور هناك، إلا أن هذه المنظمات استطاعت بمصادرها ووسائلها الخاصة أن تخترق الستار الحديدي، وأن تجمع المعلومات الوفيرة والأدلة القاطعة على جرائم القوات الهندية ضد شعب كشمير الأعزل إلا من الإيمان بالله الواحد الأحد ولو كره الهندوس .
تقول منظمة العفو الدولية : "إن القوات الهندية تورطت في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان من بينها عمليات إعدام بدون محاكمة وجرائم اغتصاب وتعذيب واغتيال للعاملين في الرعاية الصحية بصورة متعمدة ، وقد ساهمت نيودلهي في ازدياد انتهاكات حقوق الإنسان بعدم تقديم جنودها وضباطها الذين ارتكبوا المخالفات إلى المحاكمة", وكذلك (الاكتفاء بعقوبة ضئيلة مثل وقف الترقية أو تسجيل ملاحظات بلفت النظر في ملفات أفراد القوات المسلحة رغم خطورة الجرائم التي ارتكبوها مثل الاغتيال والاغتصاب) .
وتصف منظمة (آسيا ووتش) عمليات القتل الجماعي لمئات المعتقلين أسبوعياً داخل السجون بأنها: (جرائم يجري تصويرها على أنها مسألة سياسية بحتة)!! وتهاجم المنظمة الدولية حكومة الهند بشدة ، وتتهمها بالتراخي في معاقبة الفاعلين في مثل هذه الجرائم الخطيرة والتستر عليهم في اغلب الأحيان .
منظمة دولية ثالثة هي الرابطة الدولية لمنظمات حقوق الإنسان أدانت أعمال التعذيب والاغتصاب والقتل التي ترتكبها القوات الهندية في كشمير، وأكدت أن عدداً كبيراً من الضحايا هم من الثوار المطالبين بالاستقلال أو المتعاطفين معهم . ونقل تقرير المنظمة شهادات وأقوال شهود عيان بشأن جرائم التعذيب الوحشي والاغتصاب وإطلاق النار عشوائياً على المواطنين .(1/95)
وقالت المنظمة الدولية (إن الاجراءات التي تدعي الهند أنها تتخذها دفاعاً عن النفس لا يمكن أن تكون مبرراً لوحشيتها وإهدارها للقوانين والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان) . وأكدت المنظمة أن التعذيب للحصول على معلومات من المعتقلين أثناء التحقيقات هو عملية شائعة في معسكرات الاستجواب الهندية . واختتمت المنظمة التي تتخذ من باريس مقراً لها تقريرها بمطالبة السلطات الهندية باحترام حقوق الإنسان في كشمير وغيرها من المناطق ، وإيجاد حل عادل وسلمي للقضية طبقاً لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي توجب إعطاء الكشميريين حق تقرير المصير ، وسحب قوات الاحتلال الهندي من الولاية ذات الأغلبية المسلمة . وشاركت منظمة ألمانية هي "جمعية مناصرة الشعوب المضطهدة" في تأكيد خطورة ما يقع في كشمير من انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان . ووجهت المنظمة انتقادات لاذعة للحكومة الهندية وجيشها الذي وصفته بأنه "ذو مستوى أخلاقي منحدر" . وقالت المنظمة في رسالة وجهتها إلى حكومة نيودلهي : "إن كشمير في عهد حكومتكم التي تدعي أنها ديمقراطية تحولت إلى معسكر تحقيق ملئ بالتعذيب والإرهاب . وأن فرض أحكام الطوارئ على الولاية منذ أربع سنوات أحال حياة المواطنين العادية إلى جحيم لا يطاق، وهم في أمس الحاجة إلى العلاج والرعاية الطبية" .
وأعربت المنظمة الألمانية عن قلقها البالغ بشأن أوضاع مئات الألوف من المفكرين والمثقفين والأبرياء والمعتقلين بدون محاكمة، كما أدانت بشدة عمليات قتل المحتجزين على نطاق واسع ، وكذلك قتل المدافعين عن حقوق الإنسان في كشمير، مؤكدة أن هذه الإجراءات الإجرامية لن ترهب أنصار ودعاة حقوق الإنسان .(1/96)
وفي يوليو 1992 اضطر الكونجرس الأمريكي إلى الموافقة على مشروع قرار تقدم به السناتور الجمهوري دان بيرثون يقضي بخصم 24 مليون دولار من المساعدات الأمريكية للهند عقاباً لها على ما ثبت وقوعه من ممارسات قمعية وانتهاكات دامية لحقوق الإنسان في كشمير المحتلة . وقد تم إقرار المشروع بصعوبة -رغم تفاهة العقوبة كما نرى- بعد أن سبق رفضه في عام 1991، بسبب تآمر النواب اليهود لصالح الهند ذات العلاقات القوية مع إسرائيل في كافة المجالات وخاصة المجال العسكري!!
وبالإضافة إلى ما أوردته تقارير وتحقيقات المنظمات الدولية، هناك شهود عيان على المذابح والمخازي التي تقترفها قوات الاحتلال الهندية بصفة يومية . تقول الطفلة زينب علي - 5 سنوات – أنها رأت الجنود يذبحون أمها أمام عينيها بلا شفقة أو أدنى استجابة لصرخات الطفلة المسكينة التي فقدت كل أهلها بهذه الوسائل الإجرامية .
أما الطفلة كلثوم – 7 سنوات - فهي مصابة بغرغرينا في ساقها بعد اعتداء بربري شنته قوات الاحتلال على منزلها . وكانوا قد أخذوها رهينة حتى يذعن أبوها لرغباتهم المجنونة ويرشدهم إلى المكان الذي تختبئ فيه أمها ليغتصبوها !! .
وعندما أصر الأب الشجاع على الرفض قطعوا ساق الطفلة وتركوها تنزف بلا أية إسعافات!!
وهناك الطفلة فاطمة المصابة بحالة نفسية تجعلها ترتعد رعباً حين ترى الغرباء . فقد شاهدت الهندوس يلقون بأمها في نهر "جليم" إثر الاعتداء عليها !! .
ويقول غلام بني راجا – 19 سنة- أن قوات الاحتلال اعتقلته من منزله مع مجموعة كبيرة من شباب المنظمة واقتادوهم إلى أحد مراكز الاعتقال المنتشرة في مدن "الله آباد" و "فاراناسي" و "كومباتور" و "جابابور" و "ساتنا" وغيرها . وهناك ضربوه مراراً بأحزمة من الجلد الغليظ ، كما تعرض للصعق الكهربائي لإجباره على العمل مرشداً والتجسس على الثوار الكشميريين .(1/97)
أما عبد المجيد خان من منطقة "لان ان" فهو يعاني من عجز بدني دائم نتيجة تعرضه لتعذيب بشع مستمر في مركز استجواب "كبوارى" ، حيث كان الهندوس يضعون يديه ورجليه في ماء مملح لفترة طويلة ثم ينقلوه مباشرة ليضعوا أطرافه في ماء مغلي !! . وترتب على هذا التعذيب المتواصل إصابته بغرغرينا في أصابعه وتركوه بلا أي علاج ، وكانت النتيجة بتر أصابع يديه وقدميه ، وبطبيعة الحال لا يمكنه الآن القيام بأى عمل لكسب الرزق !! .
عبد الخالق سومور – 21 سنة – أحرق الهندوس بطنه بعد اعتقاله إثر الادعاء بإطلاق أعيرة نارية في سماء القرية التي يسكن بها الضحية !! .
ضحية أخرى . شاب في عمر الزهور اسمه إخطار الدين محمد حاول الجلادون الهندوس إرغامه على الجلوس فوق جمر ملتهب، وعندما رفض أحرقوا أعضاءه التناسلية بالنار عقاباً له على أنه لم يرشدهم إلى مكان أحد المجاهدين!!
وفيما يلي نعرض بإيجاز حالات أخرى من ضحايا التعذيب والقهر ، وجميعهم يعيشون الآن فى حالة يرثى لها بمخيمات اللاجئين بالجزء المحرر من كشمير :
1- أمير دار شاب يسكن في بلدة "ناركاه بدجام" تعرض لضرب مبرح بالعصى والهروات على رأسه أحدث به انفجارًا في المخ ، وأنقذت حياته بصعوبة بعد عملية جراحية .
2- عبد العزيز شيخ محمد شفيع، أعتقله الهندوس من منزله في (تكيركب وارى) وعذبوه أثناء الاستجواب حتى تحطمت ساقه ، ويرقد رهين العلاج في مخيم "باغ" .
3- محمد يوسف فيروز وزميله حبيب الله عبد الأحد بير- مدرسان- تم اعتقالهما مع آخرين يوم 20 مايو 1990م ، وجردوهما من الملابس تماماً في ساحة عامة أمام القرويين واعتدى جنديان عليهما جنسيا أمام الناس (!!!) .
4- ألطاف أحمد محمد ملك من سكان العاصمة "سرينجار" أعتقلوه 20 يوماً. وأثناء الاستجواب وضعوه على الأرض وعلى ظهره جسم حديدي يزن 50 كيلو جراماً حتى حطموا أضلاعه .(1/98)
5- أثناء اعتقال الشاب مهراج خالد محمد أمين اقتيد إلى مركز تحقيق مقره الكلية الإسلامية (سابقاً) ، وتعرض للضرب المبرح ورش "الفلفل" في عينيه وجراحه ، وذات الأمر مع آخرين لا يحصى عددهم !! .
ويعتبر تقرير البعثة المشتركة لمنظمتي (مراقبة حقوق الإنسان وأطباء بلا حدود) عن (الاغتصاب الجماعي في كشمير) من أخطر التقارير الموثقة عن المخطط الهندي الرهيب لإذلال المسلمين في كشمير وإضعاف الروح المعنوية لديهم، ومن ثم تسهيل عملية التطهير العرقي، وإجبارهم على الهجرة إلى باكستان أو الجزء المحرر من كشمير تمهيداً لإحلال الهندوس بدلاً منهم، وبذلك تضيع كشمير إلى الأبد!! ونظراً لأهمية وخطورة التقرير رأيت أنه من الأفضل سرده حرفياً بلا أي رتوش، أو تدخل من جانبي . ويكفي أن نشير إلى ما تضمنه التقرير من أدلة طبية قاطعة وشهادات الضحايا وشهود آخرين، بل واعترافات جنود ومسئولين هندوس بوقوع مثل هذه الجرائم الفاضحة . وفيما يلي فقرات مطولة من التقرير ننقلها حرفياً :
"لقد أصبحت ولاية جامو وكشمير الواقعة بين الهند وباكستان منذ شهر يناير 1990 مسرحاً لصراع وحشي بين قوات الأمن الهندية والمسلمين المسلحين الذين يطالبون بالاستقلال عن الهند أو الانضمام إلى باكستان . ولقد انتهجت الحكومة المركزية في الهند سياسة قمعية في كشمير ، في إطار جهودها لسحق الحركة المسلحة هناك ، مما نجم عنه انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من جانب قوات الجيش والقوات شبه العسكرية الهندية. وطوال فترة الصراع اتخذت قوات الأمن الهندية- عن عمد- المدنيين هدفاً لها ، حيث إنه من المعتقد أن الغالبية العظمى من المدنيين يتعاطفون مع الجماعات المسلحة في كشمير . ولقد دأبت قوات الأمن الهندية على الاعتداء على المدنيين خلال عمليات البحث عن المسلحين ، وكذلك تعذيب وإعدام المعتقلين في السجون، إلى جانب قتل المدنيين في هجمات انتقامية .(1/99)
و قام ممثلون عن منظمتي "مراقبة آسيا" و "أطباء من أجل حقوق الإنسان" بزيارة لكشمير في أكتوبر عام 1992 م بغرض جمع الأدلة عن عمليات الاغتصاب وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى ، وكذلك انتهاكات قوانين الحرب التي ترتكبها قوات الأمن الهندية . وأدانت المنظمتان هذه الجرائم باعتبارها انتهاكاً لحقوق الإنسان وانتهاكاً للقانون الإنساني .
ومنذ أن بدأت الحكومة الهندية حملتها القمعية ضد المسلمين في كشمير بشكل مكثف في يناير عام 1990 ازدادت بشكل كبير عمليات الاغتصاب التي يرتكبها أفراد الأمن، والتي غالباً ما تحدث أثناء عمليات الحصار والبحث والتفتيش ، حيث يتم احتجاز الرجال من سكان كشمير في الحدائق العامة أو في أفنية المدارس ، بينما تقوم قوات الأمن بمداهمة منازلهم بغرض تفتيشها. وكثيراً ما تقوم قوات الأمن الهندية في هذه الحالات بفرض عقاب جماعي على السكان المدنيين يتمثل في الضرب والاعتداء على المواطنين، وكذلك حرق منازلهم . وتلجأ قوات الأمن الهندية إلى اغتصاب النساء كوسيلة لعقاب هؤلاء السيدات المتهمات بالتعاطف مع المسلحين، كما تعتبره وسيلة لإذلال المجتمع بأسره في كشمير !! .(1/100)
وتحدث عمليات الاغتصاب أيضاً خلال الهجمات الانتقامية التي تقوم بها قوات الأمن الهندية ضد المدنيين في كشمير في أعقاب الهجمات التي تنفذها الجماعات المسلحة الكشميرية . ففي هذه الحالات يكون أي مواطن من سكان المنطقة التي وقع فيها الهجوم هدفاً لانتقام قوات الأمن الهندية ، حيث يتعرض المدنيون للقتل بالرصاص ، ويتم حرق المنازل والممتلكات إلى جانب اغتصاب النساء . وفي بعض الحالات تتعرض النساء للاغتصاب لمجرد اتهامات بتقديم الطعام والملجأ للجماعات المسلحة ، أو لرفضهن الارشاد الى اماكن اختباء أقربائهن من الرجال أعضاء الجماعات المسلحة . غير أنه في الحالات الأخرى لا يكون هناك سبب واضح لاغتصاب النساء في كشمير ، وفي كثير من الحالات يكون اختيار الضحايا عشوائيا، فالنساء مثلهن مثل الآخرين من المدنيين يتعرضون للاعتداء والقتل لمجرد تواجدهن في المكان الخطأ في الوقت الخطأ !!. وحيث أن معظم حالات الاغتصاب حدث خلال عمليات الحصار والبحث والتفتيش التي تقوم بها قوات الأمن الهندية ، فإن مجرد العيش في منطقة بعينها يمكن أن يعرض النساء لخطر الاغتصاب (!!!).(1/101)
ويتضمن التقرير معلومات عن بعض حالات الاغتصاب التي جرت في كشمير. ورغم أن جماعات حقوق الإنسان الهندية والصحافة العالمية قد تناولت في تقاريرها قيام قوات الأمن الهندية بعمليات اغتصاب على نطاق واسع في كشمير، إلا أن ذلك نادراً ما يحظى بالإدانة على المستوى الدولي !! . و أمضى ممثلو منظمتي مراقبة حقوق الإنسان بآسيا و أطباء من أجل حقوق الإنسان أسبوعاً في كشمير تم خلاله تسجيل خمس عشرة حالة اغتصاب ، و44 حالة تعرض أصحابها لأحكام مبالغ فيها، و8 حالات تعذيب، وعشرين حالة إصابة ناجمة عن قيام قوات الجيش وقوات الأمن الهندية بإطلاق النيران بصورة عشوائية على أناس غير مسلحين . وقد حدث 80% من هذه الانتهاكات خلال فترة زيارة ممثلي حقوق الإنسان، وخلال الأيام العشرة التي سبقت الزيارة . وقام ممثلو منظمتي حقوق الإنسان بجمع وثائق عن عدد كبير من الانتهاكات التي جرت خلال الأسابيع والشهور التي سبقت الزيارة ، كما أن المنظمتين لا تزالان تستقبلان المزيد من المعلومات في هذا الصدد حتى الآن . وتضيف المنظمتان الدوليتان :
وحيث أن هذه المعلومات ترد من مصادر موثوق بها فإننا نعتقد أن هذه الانتهاكات استمرت دون فتور ، بل تزايدت لتشمل قتل أنصار حقوق الإنسان الكشميري الذين ساعدوا منظمتي مراقبة حقوق الإنسان في آسيا وأطباء من أجل حقوق الإنسان ، والذين قدموا معلومات للمنظمات العالمية وللصحافة الأجنبية!!" .
و هذا التقرير هو الثاني في سلسلة تقارير تنشرها منظمتا مراقبة حقوق الإنسان في آسيا وأطباء من أجل حقوق الإنسان حول قضية حقوق الإنسان في كشمير .(1/102)
وتسعى المنظمات من نشر هذا التقرير إلى توجيه نظر المجتمع الدولي الى أسلوب الاغتصاب للنساء الذى أصبح تكتيكاً من تكتيكات الحرب في كشمير . كما أصبح على رأس سياسات الحكومة الهندية ، الأمر الذي دفع قوات الأمن الهندية إلى الاعتقاد بأن ارتكاب جريمة الاغتصاب لا يوجب العقاب . إن حالات الاغتصاب التي يتضمنها التقرير مذكورة على سبيل المثال ، حيث إن جرائم الاغتصاب التي ترتكب في كشمير من الكثرة بحيث يعجز تقرير واحد عن احتوائها جميعا (!!).
إن قيام قوات الشرطة الهندية بعمليات اغتصاب يعتبر أمراً شائعاً في جميع أنحاء الهند . و الضحايا غالباً نساء فقيرات ينتمين إلى طوائف اجتماعية ضعيفة أو إلى جماعات الأقليات في الهند (مثل المسلمين) . وفي بعض الحالات يتم أخذ النساء رهن الاعتقال للاشتباه في ارتكابهن جرائم صغيرة للغاية ، أو لاتهامهن بجرائم أكبر، كما يتم اعتقال النساء كرهائن لمجرد قرابتهن لأشخاص مطلوب القبض عليهم في جرائم سياسية أو جنائية . ويتم في بعض الحالات اعتقال النساء كوسيلة من جانب رجال الشرطة للحصول على رشوة في مقابل إطلاق سراحهن. والنساء في جميع هذه الحالات عرضة للاغتصاب من جانب رجال الأمن ، كما تحدث جرائم الاغتصاب على نطاق واسع خلال عمليات قمع حركات التمرد التي تحدث في أنحاء مختلفة من الهند خاصة في ولاية "أسام" ومناطق الصراع الأخرى في شمال شرق الهند . إن قوات الجيش والشرطة الهندية تلجأ إلى الاغتصاب كسلاح لتوقيع العقاب والترهيب والإكراه والإذلال والامتهان . (هل كان يحدث للعبيد الرومان أبشع من هذا ؟!!) .(1/103)
وفي الحقيقة لا توجد هناك إحصائيات دقيقة عن عدد حالات الاغتصاب التي ترتكبها قوات الأمن الهندية في كشمير، غير أن جماعات حقوق الإنسان قد سجلت الكثير من الحالات منذ عام 1990 . كما أن حالات اغتصاب عديدة قد جرت في قرى نائية ، ولهذا فإنه يكون من المستحيل حصرها ، غير أنه مما لا شك فيه أن اللجوء إلى ارتكاب جرائم الاغتصاب يعتبر أمراً شائعاً في كشمير وغالباً ما يمر دون عقاب !! .
وتضيف المنظمات الدولية : "إن السلطات الحكومية الهندية نادراً ما تُجري تحقيقات بشأن الاتهامات الموجهة لقوات الأمن والخاصة بارتكاب جريمة الاغتصاب في كشمير . وتعد محاكمة اثنين من الجنود الهنود لاغتصابهما سائحة في أكتوبر عام 1990 هي الحالة الوحيدة- على حد علمنا- التي سمحت الحكومة الهندية بنشرها على العامة، وقد تم الحكم على الجنديين - نظريا فقط - بالسجن ، بيد أنه حتى شهر إبريل عام 1993 كان الجنديان لا يزالان في مواقعهما العسكرية (!!!) .
ورغم أن الحكومة الهندية ادعت أنها أمرت بإجراء تحقيقات حول ما تردد عن حدوث حالات اغتصاب إلى جانب اتخاذ إجراءات ضد المذنبين، إلا أنها لم تعلن حتى الآن عن أية محاكمات أو عقوبات ضد أي من رجال الأمن المتورطين في مثل هذه القضايا . إن عدم محاكمة ومعاقبة المسئولين عن عمليات الاغتصاب ، أو عدم الإعلان عن اتخاذ أي إجراء ضد رجال الأمن المتهمين في جرائم الاغتصاب ، يعني أن السلطات الهندية تكون بذلك قد أعطت الضوء الأخضر لعمليات الاغتصاب الجماعي ضد المسلمين في كشمير وغيرها، طالما ضمن الجناة الإفلات من العقاب" .
انتهى التقرير, ولكن لم تنته تلك الممارسات الإجرامية الهندية,ومازال المسلمون فى كشمير يعانون من البطش والقهر والاذلال حتى الآن , فهل هناك إستعباد أبشع من هذا ؟!! .
المراجع
1- تقارير منظمة العفو الدولية حول انتهاكات حقوق الإنسان في كشمير .
2- تقارير منظمة أطباء بلا حدود حول كشمير .(1/104)
3- تقارير منظمة آسيا ووتش لحقوق الإنسان .
4- حمدى شفيق – صرخة من كشمير – طبعة القاهرة ، 1995م .
الفصل السابع
منهج الإسلام
جاء الإسلام ليحدث في الأرض إصلاحاً على كل المستويات وفي جميع المجالات.. فهو ليس ديناً يكتفي بالجانب الروحي أو العبادات فقط ، وإنما يتولى تنظيم كافة شئون الدنيا بنصوص وقواعد عامة ثابتة – في القرآن الكريم والسنة المطهرة – تاركاً التفاصيل والفرعيات لاجتهاد العلماء في كل عصر ومصر حسب الظروف .
وهذا الاجتهاد الفقهي العبقري تراكم به على مر العصور ما يمكن أن نسميه نظريات عامة ومناهج كلية تغطي كل شئون الفرد والمجتمع .. وإذا كان المجتهدون من فقهاء المسلمين في كل عصر قد وضعوا حلولاً وفتاوى فقهية تناسب ما يستجد من أمور في عصورهم، فإن هذا يأتي في إطار القاعدة العامة التي تسمح بالاجتهاد والقياس فيما لم يرد فيه نص بالقرآن أو السنة . وبالرجوع إلى نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة و كتب التفسير والفقه والسنن يمكن القول بيقين إن الإسلام العظيم قد أحدث إصلاحاً ثورياً غير مسبوق في مكافحة سرطان الرق الذي عمت به البلوى في مشارق الأرض ومغاربها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم . هذا المنهج هو "التحرير" للعبيد كل العبيد تدريجياً وبخطوات هادئة ولكنها ثابتة . إنها خطة مدروسة ومحكمة وبالغة الدقة . وقبل أن نتناول هذه الخطة بالتفصيل علينا ان نرد على سؤال ملح يطرحه كل من لا علم له بالإسلام ، وهو : لماذا لم يحظر القرآن الرق جملة واحدة بآية قاطعة تحرر كل العبيد في كل العالم لحظة نزولها على الفور؟! للوهلة الأولى قد يظن البعض أن السائل محق، أو أنه كان على الإسلام أن يفعل هذا بضربة واحدة حاسمة تقضي على الاستعباد المنتشر في الأرض .. لكن العاقل المتأمل – والمنصف- سرعان ما يتضح له وجه الحقيقة .(1/105)
نقول - وبالله التوفيق - أن الرق ظاهرة اجتماعية واقتصادية وفكرية بل "ونفسية" أيضاً .. ولمعالجة هذه الظاهرة لا مفر من النظر إليها من كل الجوانب لوضع أفضل السبل لمكافحتها .. فمن الناحية الفكرية كان لابد أولاً من تغيير النظرة الإجرامية – نظرية الاستعلاء على الآخر – الموجودة حتى الآن لدى كثير من الغربيين . والمثال الصارخ هم اليهود أعداء الله الذين يظنون أنهم شعب الله المختار، وأن الآخرين لم يخلقوا إلا ليكونوا عبيداً لهم !! .
فهل من المستطاع تغيير طريقة تفكير بل أسلوب حياة وتعامل الآخرين مع غيرهم بلمسة سحرية في لحظة واحدة ؟!
لقد كان الرومان والإغريق والفرس والهندوس واليهود والنصارى في كل العالم- كما قدمنا – كل أمة منهم تتعامل مع الآخرين من هذا المنظور ، هم السادة وغيرهم العبيد. فكان على الإسلام أن يصحح هذه المفاهيم الخاطئة أولاً كي تتغير بعدها أساليب التعامل مع الآخر، وتتحول الممارسات إلى الصواب والإعتدال،ثم يمكن بعد هذا الحديث عن التحرير. وذلك كله يحتاج إلى وقت ليؤتى ثماره المرجوة.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن أي عالم بالاجتماع أو التاريخ أو حتى طبائع البشر يدرك تماماً أن إحداث تغيير جذري في المجتمع مثل إلغاء الرق أمر لا يمكن حدوثه في جيل واحد أو بضعة أجيال من عمر البشر .(1/106)
لقد كان ربع سكان العالم من السادة ، وثلاثة أرباع البشر وقت بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم هم من الأرقاء المستعبدين . فهل كان مجرد نزول آية قاطعة تقول: "حرروا العبيد " كافياً لتحرير ثلاثة أرباع العالم حالاً ؟!! بالطبع هذا مستحيل ، ومن يزعم غير هذا فهو إما ساذج أو مكابر أو خيالي حالم لا صلة له بالواقع ولا علم له بالبشر . وهذا يقودنا إلى الجانب الاقتصادي في الأمر.. إذ أن الرق كان نشاطاً اقتصادياً واسع النطاق في كل أنحاء العالم .. فإذا أردنا تحرير ثلاثة أرباع الناس من الأقلية "المستغلة" فإن هذا يعنى ضرورة إيجاد وسائل لإعاشة "المحررين الجدد"، وهم أغلب السكان كما رأينا، وفرص عمل لملايين العتقاء ، ومساكن لإيوائهم بعد مغادرتهم لبيوت السادة السابقين، إذ ليس من العدل ولا المنطق ولا الواقع أن تطالب السادة الذين فقدوا مصدراً هاماً وأساسياً للدخل - هو ما يدره عليهم عمل أولئك العبيد – لا يعقل أن نطالبهم بالاستمرار في الإنفاق على هؤلاء وإعالتهم، وقد انتهت العلاقة أو السبب القانوني لذلك، فضلاً عما يلحق بالملّاك من خسائر اقتصادية فادحة بسبب هذا "التحرير" المفاجئ لعبيدهم . ولا مفر كذلك من تعويض هؤلاء عن هذه الخسائر، إما بمقابل مادي، أو على الأقل بجزاء معنوى – الجنَّة - يجعل نفوسهم تطيب بهذا العتق . وبالطبع فإن تدبير لوازم المعيشة المستقلة للمحررين ، وفرص عمل لهم ، وكذلك تدبير موارد لتعويض السادة السابقين ، كل ذلك يحتاج إلى وقت بلا خلاف .. ولعل أبلغ رد على من يتوهمون إمكانية إلغاء الرق بضربة واحدة حاسمة هو ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية .. فقد حاول الرئيس المصلح "أبراهام لنكولن" القضاء على الرق هناك بقانون حاسم فماذا كانت النتيجة ؟ اندلعت حرب أهلية طاحنة بين ولايات الشمال المطالبة بإلغاء الرق، والولايات الجنوبية داعمة الاستعباد، استمرت سنوات ، وهلك فيها الملايين من(1/107)
الفريقين، وتعرضت البلاد لخراب شامل. بل لقي لنكولن نفسه مصرعه بسبب محاولته إلغاء الرق ، فقد اغتاله أحد المجرمين البيض الذين يرفضون السماح بتحرير السود ومساواتهم بالسادة !! وبقيت التفرقة العنصرية بعده قروناً عديدة بل مازالت العبودية هناك في صور أخرى كما رأينا !! ونشير أيضاً إلى مئات الثورات الدموية الرهيبة التي اندلعت من جانب العبيد على مر العصور، احتجاجاً على القهر والإذلال وإهدار الآدمية ، وتطلب قمع هذه الثورات – من جانب السادة – أنهاراً من الدماء، وخسائر اقتصادية فادحة . فهل هذا الهلاك للحرث والنسل والخراب الشامل مما يُلام الإسلام على تجنبه ؟! إن هذه الجزئية في حد ذاتها هي من دلائل عظمة الإسلام، وأنه بالفعل من عند الله الحكيم العليم بما يصلح خلقه وما يناسبهم من تشريعات تحقق العدل والمساواة بين الجميع ، وفي ذات الوقت تضمن الأمن والاستقرار في المجتمع .(1/108)
لقد جاء الإسلام لحقن الدماء وحفظ الدين والعرض والعقل والمال أيضاً . أما حكاية الثورات الدموية الحمراء - على الطريقة الشيوعية البائدة - وشعارات "للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق"، فهذا كله مما ترفضه العقول الذكية والطبائع السويّة فضلاً عن التشريعات السماوية . وعلى ذلك فالتدرج في التحرير على مراحل هو عين الحكمة والعدل . وهل يرضى عاقل بما اقترفته الشيوعية الدموية تلك من الفتك بعشرات الملايين من البشر في البلدان التي تسلّطت عليها – كما أشرنا – فضلاً عن الدمار الشامل لكل شيء؟؟ وتكفي نظرة على أحوال دول أوروبا الشرقية المتدهورة حتى الآن للتحقق من صحة ما نقول. وما حدث هو أن الشيوعية "استعبدت" الناس هناك حيناً من الدهر، فلما سقطت تسببت في الإيقاع بشعوب بلادها في أنواع جديدة من "الاستعباد"، ولكن "السادة الجدد" هم من "الغرب" هذه المرة!!! إنه استعباد اقتصادي وسياسي بل وجنسي أيضاً كما استعرضنا في فصل سابق (1) . فهل يلومون الإسلام الذي حَظَرَ كل هذا وحَرَّمَه تمامًا ؟!! .(1/109)
وهناك عبارة موجزة خالدة لعمر بن عبد العزيز تلخص بالضبط التصرف السليم تجاه مشكلة كالرق . فقد كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما شابا صالحا يحث أباه العظيم على الإسراع بالقضاء على كافة المظالم التي وقعت قبل توليه الخلافة . فقال الخليفة العظيم : "يا بنى .. لو حملناهم على الحق جملة لتركوه جملة"(2) .. والمعنى الواضح هو أن أغلب الناس لا يتحملون التغيير المفاجئ، وخاصة إذا كان تغييراً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً مثل إلغاء الرق وتحرير العبيد الذين كانوا أكثر من الأحرار عدداً في كل المجتمعات . ومن شأن التشريع الذي يفعل هذا بخطوة واحدة متسرعة أن يفشل فشلاً ذريعاً، وبالتالي يتسبب في تثبيت دعائم المظالم وليس القضاء عليها . ونشير هنا مرة أخرى إلى أن كل المعاهدات الدولية والقوانين المحلية في كل الدول قد فشلت حتى الآن في القضاء على الرق - كما رأينا - وما زال عشرات الملايين من الفقراء – خاصة النساء والأطفال – ينضمون سنوياً – إلى جيوش الضحايا المستضعفين في الأرض .. المسألة ليست نصوصاً تصدر فينتهي الرق . إذ لا جدوى من تغييرالنصوص إذا لم تصلح النفوس. واصلاح الأنفس هو بالضبط ما فعله الإسلام أولا. وبدون إصلاح القلوب والعقول تتحول النصوص إلى مجرد "حبر على ورق" لا يسمن ولا يغني من جوع .(1/110)
وأما من الناحية النفسية، فإن السادة يحتاجون وقتاً لتغيير نظرتهم إلى العبيد ، وقبول الواقع الجديد بعد التحرير والتعامل معه بلا سخط أو تذمر. وكذلك يحتاج العبيد إلى وقت أيضاً للتكيف مع الواقع الجديد . يقول الأستاذ محمد قطب : "إن التحرير بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد إبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن – من الخارج – بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد" .
والمسألة على غرابتها ليست صعبة الفهم حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة ، والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيّف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية . والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسئولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ . ولكنه لا يحسن شيئاً حين تقع مسئوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال – يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار!(1/111)
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية – والشرقية – في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم . يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطّلها – في كثير من الأحيان – إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً روسيا أو إنجليزياً أو أمريكياً .. إلخ ليحتمل عنها مسئولية المشروع ، ويصدر الإذن بالتنفيذ ، ونلاحظ الشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به "السيد" الموظف الكبير ، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة "السيد" الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل, وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار! .(1/112)
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده. وهو ناشئ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال، ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد جذورًا خاصة به ويستقل عن الأصل . وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يُغَّير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر، وتنمّي الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوّه الممسوخ ، وذلك ما صنعه الإسلام . فقد بدأ أولاً بالمعاملة الحسنة للرقيق . ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون"(3) انتهى . وهكذا يتضح بكل جلاء أن التدرج واتباع خطة ذات مراحل زمنية ممتدة لعلاج الرق وتثبيت واقع التحرير الجديد هو أمر لا مفر منه ، اللهم إلا إذا كان الغرض الوحيد من المعارضة هنا هو فقط الشغب ومحاولة التشويش والتشويه المفتعل!!
أساس المنهج
إن من يتأمل النصوص يكتشف فوراً أن منهج التحرير ينطلق من صلب العقيدة الإسلامية ذاتها .. فالله سبحانه وتعالى هو وحده "رب العالمين" جميعاً بلا فرق بين عبد وحر، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى ، ولا بين حاكم ومحكوم.. إلخ .(1/113)
بل إن معنى شهادة لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله ، ويترتب على ذلك أن الكل هم عباد وعبيد لله وحده، مفتقرون ومتذللون له وحده ، ولا سلطان لأحد على الناس إلا لرب الناس، حرّهم وعبدهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم . فالكل ولد آدم وآدم من تراب . والله كَرَّم البشر جميعًا حُرّهم وعبدهم ، قال تعالى : (ولقد كَرَّمنا بنى آدم ..) من الآية 70 من سورة الإسراء . كما أن الآية الكريمة رقم 13 من سورة الحجرات واضحة كل الوضوح في هذا الصدد : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...) فالكل ولد آدم، ولا تمايز بينهم بسبب عرق أو لون أو جنس، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى. والعبد التقي خير وأحب إلى الله من ملك فاجر، والأَمة السوداء المؤمنة خير من سيدتها الكافرة . كما نص القرآن الكريم على أن : (بعضكم من بعض) سورة النساء الآية 25 .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر – أبيض – على أسود إلا بالتقوى"(4) .
وفي جزء من حديث رواه مسلم "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم"(5) .
فالعبد هو أخ للسيد في الإنسانية، وليس "متاعاً" أو "حيواناً" يملكه كما كان الآخرون قبل الإسلام يعتقدون .
وهناك أحاديث أخرى تنص على المساواة بين بني الإنسان أحراراً كانوا أم عبيداً، بيض البشرة أم سود أم حمر، من أقصى الشمال أو الجنوب أو الغرب أو الشرق ، كل ذلك لا يهم ولا يؤثر على قيمة الإنسان .. فهناك حديث "الناس كلهم ولد آدم وآدم من تراب" أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة ، وليس فيه لفظ "كلهم" كما يقول الصنعاني في (سبل السلام – كتاب النكاح – باب الكفاءة) كما أورد الصنعاني حديثاً آخر "الناس كأسنان المُشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" أخرجه ابن لال بلفظ قريب من لفظ حديث سهل بن سعد .(1/114)
وأضاف الصنعاني :"أشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث استدل فى باب الأكفاء في الدين بقوله تعالى "وهو الذي خلق من الماء بشراً" (الفرقان:54) ، فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم" ، ثم أردفه بمثال استشهد به هو أن أبا حذيفة رضي الله عنه زوّج مولى هو" سالم" من ابنة أخيه "هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة" القرشية الحسيبة النسيبة، وكان سالم عبدا سابقا، لكن أبا حذيفة اختاره لدينه وعلمه وتقواه ..
وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال – فيما يرويه الصنعاني- "الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبّرها، أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله أو فاجر شقي هيّن على الله" ، ثم قرأ الآية، وقال صلى الله عليه وسلم : "من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله" ، فجعل الإلتفات إلى الأنساب من رواسب الجاهلية وقبائحها، فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكماً شرعياً ؟! . ويضيف الصنعاني : وفي الحديث "أربع من أمور الجاهلية لا يتركها الناس" و ذكر منها الفخر بالأنساب، أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس . وفي الأحاديث شيء كثير في ذم التعالى والترفع بالأنساب (6) انتهى.
هكذا أثبتت النصوص أن العبيد بشر متساوون مع سادتهم في الحقوق والواجبات .
وبهذا رد الإسلام العظيم إليهم اعتبارهم وآدميتهم المهدرة ، وكان هذا أمراً ضرورياً قبل أي حديث عن تحرير هؤلاء المعذبين في الأرض .
إنك لا تستطيع زراعة الأرض - بوضع البذور فيها - قبل تمهيد التربة وتسميدها ، مع توفير المياه لضمان أفضل بيئة ممكنة لنمو هذه البذور بدون عوائق. وهذا بالضبط ما كان ضرورياً بالنسبة لمجتمع ثلاثة أرباعه من الرقيق .(1/115)
فكان لابد من تهيئة أنفس "السادة" المتكبّرين بجعلهم يتقبّلون أولاً فكرة المساواة بين بني الإنسان جميعاً ، وذات الأمر بالنسبة للعبيد، فقد أرشدهم الإسلام أولاً الى أنهم بشر مثل سادتهم وليسوا متاعاً أو آلات أو بهائم . ومن ذلك ما يروى أن أبا
هريرة قال لرجل يركب وغلامه يمشي خلفه : احمله خلفك فإنه أخوك وروحه مثل روحك . هكذا أدركوا حقيقة المساواة فى زمن ما كان أحد فيه يظن أن للعبد روحا كما قال قائل الغرب!!. وبعد ترسيخ فكرة الأصل الواحد للبشر والمساواة الكاملة بينهم في العبادة والعبودية لله وحده لا شريك له ، يمكن مطالبة هؤلاء السادة بحسن معاملة إخوتهم في الله والأصل البشري الواحد ، ثم يأتي تحرير هؤلاء "الأخوة" بوسائل متعددة في سياق تدريجي سلس يتقبله الجميع برضا وطيب نفس وتسامح يزرعه الإسلام في القلوب المؤمنة .
المراجع
1- راجع الفصل الرابع "الاتجار بالبشر" .
2- راجع سيرة عمر بن عبد العزيز في : مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، البداية والنهاية لابن كثير ، حلية الأولياء لأبي نعيم ، سير أعلام النبلاء للذهبي ، وعمر بن عبد العزيز لخالد محمد خالد.
3- محمد قطب – شبهات حول الإسلام – طبعة دار الشروق – مصر – صـ 47-49
4- الحديث أخرجه الإمام الطبري في"آداب النفوس".
5- انظر صحيح مسلم بشرح النووي .
6- سبل السلام للصنعاني في كتاب الزواج .
الفصل الثامن
الإحسان إلى المماليك
لم تعرف البشرية أحداً قبل الإسلام ، حرص على وضع قواعد صارمة تكفل حقوق الرقيق، وتأمر بالإحسان إليهم – طوال الفترة الانتقالية – إلى أن يجعل الله لهم سبيلاً إلى الحرية بالوسائل العديدة والمتنوعة التي وضعها لذلك .(1/116)
قال الله تعالى في الآية 36 من سورة النساء : "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم .." يقول الإمام القرطبي تعليقاً على قوله تعالى "وماملكت أيمانكم" : "أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك" ، ثم أورد رضي الله عنه عدة أحاديث صحيحة تُفَصِّل كيفية معاملة العبيد بالحسنى ، منها ما رواه الإمام مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة – من ضواحي المدينة المنورة – وعليه بُرُد (نوع من الثياب) وعلى غلامه مثله – أي وجدوه يُلْبس غلامه ثوباً كثوبه تماماً – فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما – بين الثوبين – كانت حُلّة، فشرح لهم رضي الله عنه السبب في إكرامه لغلامه قائلاً : " إنه كان بيني وبين رجل من إخواني – الصحابة – كلام ، وكانت أمه أعجمية فَعَيَّرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية" – أي فيك عيب من عيوب الجاهلية ما زال بطبعك وهو معايرة الناس بأصولهم وأمهاتهم – فقلت – القائل هو أبو ذر – يا رسول الله من سب الناس سبوا أباه وأمه، قال النبي : " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم, فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون, ولا تكلّفوهم ما يغلبهم ، فإن كلّفتموهم فأعينوهم" .
والحديث رواه البخاري أيضاً باختلاف يسير في الألفاظ (1) .(1/117)
والحديث الشريف قاطع الدلالة في النهي عن الإساءة إلى العبيد وإثبات " أخوتهم " لمالكيهم، وتحريم سبهم أو معايرتهم بالرق . كما أن في الحديث أمر نبوي نبيل بإطعامهم من ذات الطعام الذي يتناوله السادة ، وكسوتهم من ذات الثياب ، وكذلك تحريم تكليف الرقيق بالأعمال الشاقة التي ترهقهم ، فإن لم يكن هناك مفر من أداء تلك الأعمال الشاقة فلابد أن يساعدهم السادة على أدائها بأنفسهم أو باستئجار من يعينهم عليها . وهناك حديث آخر لمسلم بذات المعنى : " للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق" .. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم مجرد أن يُنادى المملوك بكلمة : عبدي أو أمتي ، حفاظاً على مشاعر هؤلاء المساكين . وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" رواه البخاري وغيره . وهو أيضا التعبير الوارد فى الكتاب العزيز-فتى أو فتاة- فهل هناك تكريم ورعاية لمشاعر النفس الإنسانية المبتلاة بالرق أكثر من ذلك ؟!! ويعلق الإمام القرطبي على هذه الأحاديث الشريفة قائلاً : " ندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضَّهم عليها، وأرشدهم إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزيّة على عبيدهم ، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، ولكن سخَّر بعضهم لبعض " انتهى . وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم عطوفا رحيما بالرقيق . وثبت أنه أوصى بالضعيفين المملوك والمرأة .و روى شعبة عن أنس أن الرسول عليه السلام" كان يركب الحمار ويلبس الصوف ويجيب دعوة المملوك" ، أى يلبى دعوة العبد الى طعامه جبرا لخاطره و لايتكبّر عليهم، كما أنه لم يشتم أو يضرب عبدا ولا جارية قط. وتطبيقاً لهذا الهدي النبوي كان علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه يخص غلامه بالثياب الجديدة ويكتفي هو بالقديم من الملابس ، فلما تساءل الغلام قال له : يا بني إنك شاب تحتاج إلى الجديد، أما أنا فقد كبرت سني وتكفيني(1/118)
ملابسي تلك . وكان رضي الله عنه يقول : إني أستحي من الله أن أسترق من يؤمن بالله واليوم الآخر .. وكان على بن الحسين يجلس إلى عبد أسود يستزيد منه علمًا وفقهًا ، وعندما عاب عليه البعض ذلك أجابهم قائلاً : إنما يجلس المرء حيث ينتفع .
وتطبيقاً لذلك الهدي أيضاً، نَهَر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض السادة عندما وجدهم يتناولون الطعام، بينما مماليكهم واقفين بعيداً لا يشاركونهم فيه، وأصر رضي الله عنه على أن يجلس الأرقاء مع سادتهم للأكل من ذات الإناء . وكان رضي الله عنه يتفقد في خلافته – منطقة "العوالي" بالمدينة ، فإذا رأى عبيداً يقومون بأداء أعمال شاقة ، يأمر السادة بالتخفيف عنهم أو مساعدتهم على إنجازها . وشوهد سلمان الفارسي يعجن دقيقا, فلما سُئل عن ذلك قال : بعثنا الخادم في شيء، فكرهنا أن نجمع عليه عملين، وعن عبد الله بن عمرو أنه سأل وكيله على المال : أعطيت الرقيق طعامهم ؟ قال الوكيل : لا ، فصاح به عبد الله أن يسارع بإطعامهم ، وروى فى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم"(2) . وكان الناس لا يعرفون عبد الرحمن بن عوف إذا سار وسط مماليكه ، لأن الكل يلبس ثياباً واحدة .
القصاص من السيد
وليس هذا فحسب، بل إن من ضرب مملوكه فكفّارته أن يعتقه ، كما سنبين لاحقاً، وكذلك من يؤذي عبده أو جاريته بأية صورة من صور الإيذاء البدني أو المعنوي ، فضلاً عن القصاص إن لم يقبل العبد المجني عليه بالتعويض أو العفو عن الجاني .(1/119)
روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ، ومن جَدَعَ عبده جدعناه ، ومن خصى عبده خصيناه "(3). واستناداً إلى هذا الحديث الشريف ذهب الرأي الراجح إلى أن الحُرّ يُقتل قِصاصاً إذا قتل عبداً متعمداً . قال الصنعاني في " سبل السلام " : والحديث دليل على أن السيد يُقاد بعبده في النفس – يُقتل إذا قتله – والأطراف – أي يقتص منه إذا قطع طرفاً أو جزءاً من جسم العبد – إذ الجدع هو قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس . ويقاس عليه إذا كان الجاني شخصا آخر غير السيد بطريق الأولى. وذهب النخعي وغيره إلى أنه يُقتل الحرّ بالعبد مطلقاً عملاً بالحديث المذكور، وأيده عموم قوله تعالى : "النفس بالنفس" المائدة : 45. انتهى(4) . ويحظر الحديث أيضاً عادة خصي العبيد الوحشية التي سادت في كل الأمم قبل الإسلام, وهي إزالة خصيتي العبد الذكر، ونص الحديث صراحة على خصي السيد نفسه إن أقدم على اغتيال رجولة العبد المسكين .
وحكى القرطبي عن نفر من الصحابة أنهم كانوا يقتصون من ولد السيد أيضاً إذا ضرب مملوك أبيه أو أمته أو جرحه ، فإذا أبى القصاص كانوا يحررون العبد أو الجارية المجني عليها عقاباً لأبيه المالك الذي لم يحسن تربية ولده ورعاية عبده (5). ومنهم سويد بن مقرن رضى الله عنه الذى اقتص لعبد من ولده ، لأن ابنه لطم الفتى المسكين.
وسوف نورد أحاديث ووقائع مماثلة عند الكلام على تحرير المملوك في حالة الإساءة إليه . والواقع أن الأحاديث في الأمر بالإحسان إلى الرقيق والنهي عن أية إهانة أو إساءة إليهم هي أكثر من أن نحصرها جميعاً هنا ولكن نكتفي بعرض ما يتيسر منها .(1/120)
وعلى سبيل المثال ذكّر النبي عليه السلام السادة بنعمة الله عليهم إذ جعلهم هم الأحرار وغيرهم مبتلى بالرق إلى حين . وقد خَصَّص الإمام الغزالي في كتابه الرائع "إحياء علوم الدين" بابًا كاملاً تحت عنوان : "حقوق المملوك" ، وكذلك فعل أبو داود فى سننه التى تحتوى بابا فى " حق المملوك"،وخصص ابن ماجه بابا للحديث عن"الإحسان إلى المماليك" وغيرهم من علماء السلف رضي الله عنهم .
وذكر الإمام الغزالي حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب السادة " إن الله ملّككم إياهم، ولو شاء لملّكهم إياكم "(6) .فالله تعالى قادر على تبديل الحال إن شاء، فلتحمدوا الله أيها الأحرار، وبعض هذا الحمد أن تتقوا الله في الرقيق وتحسنوا إليهم، ولتلزموا التواضع لله ، ولتنبذوا الكبرياء والترفع عليهم ، وإلا أذاقكم الله هوان الرق بدوركم في الدنيا ، مع شدة العذاب في الآخرة . و ذكر الإمام القرطبي حديثاً في تفسيره للآية 36 من سورة النساء نصه : "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" أي الذي يسيء معاملة من هم تحت يده . وقال عليه السلام أيضاً فيما يرويه القرطبي : "من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة ثمانين" ، أي إذا رمى السيد مملوكه البرئ بارتكاب الزنا ولم يقتص منه، فإن الله يطبق على السيد المفتري حد القذف يوم القيامة ثمانين جلدة ، وذلك هو العدل الإلهي المطلق ، فإن لم يطبق في الدنيا فلا مفر منه في الآخرة . وأورد القرطبي كذلك حديث أبي داود: قال صلى الله عليه وسلم "من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون ، وأكسوه مما تكسون ، ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ، ولا تعذّبوا خلق الله"- لايمكم معناها وافقكم - والحديث نص صريح قاطع في الأمر بحسن المعاملة والنهي عن التعذيب(7) .
إباحة الزواج بالرقيق(1/121)
ومن مفاخر الإسلام العظيمة أنه أباح زواج الأحرار من الرقيق، بل هو محمول على الندب عند الجمهور لعموم قوله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .." (النور : 32) . وكما ذكرنا كان هذا محظوراً قبل الإسلام، وكانت القبائل الأوروبية تحكم على الحُرّة التي تتزوج بعبد أن يحرقا معاًّ !! وإذا تزوج حُرّ بأمة كان يسترق بدوره ويصبح عبداً !! أما في الإسلام فقد اتفق الفقهاء على إباحة أن ينكح العبد أمة، وأن تنكح الحُرّة عبداً إذا رضيت بذلك ، والرأي الراجح أنه يجوز للحُرّ أن ينكح أمة بإطلاق(8) .
ومن يطالع السيرة العطرة وتاريخ الصحابة سوف يجد تطبيقات عملية كثيرة بهذا الخصوص . فقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة .. وذكر البخاري في باب الأكفاء في الدين أن أبا حذيفة زوّج ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة من مولى هو سالم رضي الله عنه . وأشار النبي صلى الله عليه وسلم على القرشية الحسيبة النسيبة فاطمة بنت قيس بالزواج من مولاه أسامة بن زيد , وفَضَّله على خاطبيها الآخرين معاوية بن أبي سفيان – وهو الحسيب النسيب – وأبي جهم وهو من الأحرار أيضا. وروى الحاكم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيلة عربية عريقة : "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه" ، وكان مولى لبني بياضة وكان حَجَّاماً . وتزوج بلال رضي الله عنه هالة بنت عوف وهي أخت عبد الرحمن بن عوف، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل أن يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم(9) انتهى .
وليس هناك في رأينا ما هو أقوى من هذا لإثبات أن الرقيق في الإسلام ظفر بمعاملة نبيلة يستحيل وجود مثلها في أية أمة أو ديانة أو حضارة أخرى .(1/122)
بل إن القرآن العظيم قد نص صراحة على أن الزواج من جارية مؤمنة خير من الزواج من حُرَّة كافرة ، وكذلك فإن عبداً مؤمناً خير وأفضل عند الله من مشرك. قال تعالى : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية 221 من سورة البقرة) .
وقد نزلت هذه الآية – كما يروي ابن كثير – في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي غضب على جارية له يوماً فلطمها . فأحس بتأنيب الضمير فانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فسأله الرسول عن أحوالها ، فأجاب عبد الله: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له معاتباً : "يا عبد الله هذه مؤمنة" ، فقال عبد الله : والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها . وبالفعل أعتقها عبد الله بن رواحة وتزوجها، فثار عليه نفر من المسلمين منتقدين فعلته تلك ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في الحسب والنسب، وكانوا مازالوا حديثى عهد بالجاهلية ، ويأنفون من الزواج من الإماء، فأنزل الله تعالى فيهم : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية : 221 من البقرة) . وفي ذات الآية أضاف تعالى بعدها قوله الحكيم: "ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" . ويفسر الإمام ابن كثير هذا الجزء من الآية قائلاً : أي ولرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير – وأفضل – من مشرك وإن كان رئيساً ثرياً (10) انتهى .(1/123)
ونظن أنه بعد كل هذا أنه لا يمكن الزعم أن أحداً قد جاء بشيء أفضل ولا أعظم من هذا التشريع الإلهي الذي لم يكتف بالمساواة بين الأحرار والعبيد في كل شيء، بل جعل العبيد أفضل من السادة في حالة اختلاف الدين، فالعبد المؤمن أفضل من ملء الأرض من الملوك الكافرين، والجارية السوداء الفقيرة المؤمنة أعظم وأكرم عند الله من كل ملكات الأرض الكافرات ، ولو كن أجمل وأصغر وأغنى، فلا قيمة لكل هذا الحطام الدنيوي الفاني في ميزان الإسلام . . ومن العلماء من أوجب على السيد تزويج عبده إذا بلغ مبلغ الرجال ، وكذلك نرى أنه يجب عليه تزويج جاريته إذا بلغت سن الزواج ، ولم يكن له فيها مأرب . وذلك انطلاقاً من مسئوليته عنها كراع مسئول عن رعيته أمام الله ، ومن أوجب الواجبات عليه أن يحمي مماليكه من الزنا والفواحش ، وأن يُحصِّنَهم بالزواج ، كما يفعل مع أبنائه وبناته الذين هم من صلبه . ويكفي أن نشير إلى ما فعله النبي من تزويج مولاه زيد بن حارثة من مولاته أم أيمن .
ونذكّر بأن آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل كانت هي : "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"(11) . فلم يوص بابنته فاطمة أو أحفاده أو زوجاته ، بل أوصى بالإحسان إلى الرقيق "ملك اليمين" ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
شهادات المنصفين(1/124)
وفيما يلى بعض ما قاله نفر من المنصفين من غير المسلمين عن حسن معاملة العبيد في الإسلام . تقول المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل : "الإسلام يأمر بحسن معاملة العبيد ، فللعبيد مثلاً الحق في الحصول على رواتبهم في حالات العجز والمرض . وعتق العبيد من الأمور التي يدعو إليها الإسلام ، وللعبد الحق في شراء المحل الذي يعمل فيه ، وله الحق في الحصول على قدر من دخل العمل ، وقد قضى الإسلام نهائياً على الرق ، وتبوأ العبيد "أرفع" المراكز ، وهذا ما نلاحظه من قراءة التاريخ الإسلامي عامة" (12) . ويقول المفكر النصراني المصري الدكتور نظمي لوقا : "لقد سوّى الإسلام بين العبدان والأحابيش وملوك قريش"(13) . ويؤكد العلامة جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن أوضاع الرقيق في البلاد الإسلامية كانت أفضل بما لا يقاس من خدم المنازل في الغرب . فالرقيق - كما يلاحظ لوبون - كانوا يعتبرون من أفراد الأسرة ، لا فوارق بينهم وبين الأبناء ، فهم يتناولون ذات الطعام ، ويلبسون ملابس مماثلة لسادتهم، ويختلطون بهم في المعيشة اختلاطاً تامًا ، حتى يكاد الغريب عن المكان لا يعرف العبد من السيد في الأسرة العربية . وقد رفض كثير من الرقيق الحرية وفَضَّلوا البقاء مع سادتهم العرب لنبلهم وكرمهم(14). ولا يقتصر الأمر على ما ذكره هؤلاء المنصفون من الغرب . فالتاريخ يثبت أن المسلمين كانوا يعاملون الرقيق كالأبناء فعلاً وليس كلاماً فحسب . ولهذا نبغ الموالي في كل الأقطار الإسلامية في الحرف والمهن المختلفة ، ووصلوا إلى قيادة الجيوش والمناصب الإدارية العليا كالوزارة ، بل وصلوا إلى رئاسة الدولة كما حدث في مصر.. ألم تقم لهم دولة في مصر هي دولة المماليك الشهيرة ؟! .(1/125)
وهل كان السلطان قطز قاهر التتار إلا مملوكاً عطف عليه سيده وربّاه وثقفه ، ثم دفع به إلى الصفوف الأولى حتى وصل إلى حكم مصر؟؟ وكذلك الظاهر بيبرس والملكة شجرة الدر وعز الدين أيبك وكافور الإخشيدي وغيرهم .. ولولا سماحة الإسلام ونبل معاملته للمماليك لما كان من هؤلاء حكام خلّدهم التاريخ الإسلامي كما لم يحدث في أية أمة أو حضارة أخرى . وصدق قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : "هكذا الإسلام يزيد الشريف شرفاً ويرفع المملوك على الأسّرة" .
و كان من أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي كله من كانوا عبيداً من قبل ، وأنعم الله عليهم بالإسلام والحرية ثم خلود الذكر . . ونكتفي ببعض الأمثلة لأننا لو أردنا حصر هؤلاء لاحتجنا إلى مجلدات مطولة . ألم يكن " بلال بن رباح " صاحب أول آذان " في تاريخ الإسلام" ثم مؤذن الرسول عليه السلام طوال حياته ؟! هل هناك أشرف من الآذان الذى يدعو الناس إلى بيت ربهم للصلاة والوقوف بين يدي الخالق جل وعلا ؟! ألا يدل تكليف النبي عليه السلام لبلال العبد السابق بهذه المهمة السامية على تشريف الإسلام لأولئك الذين استعبدوا وأهدرت إنسانيتهم حيناً من الدهر ؟! .(1/126)
وكذلك أجمع علماء المسلمين على جواز إمامة العبد للمسلمين في الصلاة .. والصلاة هي عماد الدين وأهم أركان الإسلام بعد شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله . فإذا صح أن يؤم الناس عبد في أداء تلك الفريضة وخلفه يصلي مالكه وسيده ، فماذا يراد من الإسلام أكثر من هذا ؟! وعلى سبيل المثال صلى " صهيب " إماماً بالصحابة صلاة الجنازة على عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع . لاحظ أن صهيباً رضي الله عنه كان إماماً في تلك الصلاة وخلفه وقف عثمان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من سادات العرب ، وهو العبد السابق الذي أعزّه الله بالإسلام. وتولى زيد بن حارثة – ثم ابنه أسامة من بعده – قيادة جيش المسلمين وكان من جنوده سادات وأكابر المهاجرين والأنصار .
وكان عمر رضي الله عنه يأذن لبلال بالدخول عليه قبل أبي سفيان بن حرب سيد مكة في الجاهلية . وأما العلماء فقد كان منهم عدد هائل من الموالي على مر العصور وفي كل أقاليم الدولة الإسلامية .. ويكفي أن نذكر بعضهم وعلى رأسهم الحسن البصري ومحمد بن سيرين رضي الله عنهما، فقد كان أبواهما من العبيد الذين تحرّروا بالإسلام، وكانت أم الحسن البصري مولاة للسيدة أم سلمة رضي الله عنها . ولسنا في حاجة إلى التعريف بمكانة و غزارة علم هذين العلمين الجليلين وتقواهما ومنزلتهما الرفيعة في قلوب السلف والخلف . وكان عكرمة مولى ابن عباس من أكثر الناس دراية بعلم البحر حبر الأمة سيده ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذلك نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما . وهناك سالم مولى أبي حذيفة الذي قال عنه عمر رضي الله عنه : لو كان حياً لاستخلفته على المسلمين . وذات المقولة قالتها السيدة عائشة عن زيد بن حارثة أنه:" لو كان حيّاً لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" ، أي جعله خليفة(15) . فهل يحلم أحد بأرفع من تلك المنزلة؟!!
المراجع(1/127)
1- الجامع لأحكام القرآن الكريم – القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء . والحديث في صحيح مسلم بشرح النووي وأيضاً فتح الباري شرح صحيح البخاري .
2- الحديث في صحيح مسلم أيضاً .
3- حديث القصاص من السيد إذا قتل أو جرح عبده شبه مجمع عليه من كل رواة الأحاديث الشريفة ، وهو يعتبر بحق من مفاخر الإسلام في العدالة و المساواة بين الناس .
4- سبل السلام للصنعاني – باب الجنايات ص 661 – طبعة دار الكتب العلمية – بيروت .
5- تفسير القرطبي – المرجع السابق .
6- حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين – باب حقوق المملوك .
7-الامام القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء – سبقت الإشارة إليه .
8- بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابن رشد – طبعة دار الشروق الدولية ص 412 .
9- سبل السلام – محمد بن إسماعيل الصنعاني ص 558 – 559 .
10- تفسير ابن كثير – تفسير الآية 221 من سورة البقرة .
11- زاد المعاد لابن القيم – سيرة ابن هشام – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد – حلية الأولياء لأبي نعيم .
12- آنا ماري شيمل – الإسلام دين الإنسانية – طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر – سلسلة قضايا إسلامية – مايو 2007 م – ص 82 .
13- نظمي لوقا – محمد الرسالة والرسول ص 185 .
14- العلاَّمة الفرنسي جوستاف لوبون – حضارة العرب – طبعة الهيئة العامة للكتاب – مصر – ضمن مشروع مكتبة الأسرة .
15- انظر تراجم هؤلاء العظماء في: سير أعلام النبلاء للذهبي – حلية الأولياء لأبي نعيم – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد وغيرها من كتب الرجال .
الفصل التاسع
تجفيف الينابيع(1/128)
كان على الإسلام أن يشرع عدة أساليب علاجية متوازية لمكافحة آفة الرق . تماماً كالطبيب الماهر الذي عليه أن يضع أنواعاً من العلاج للمريض، منها ما يوقف انتشار الداء وامتداده إلى أعضاء أخرى بالجسم، ومنها ما يعمل على قتل الجراثيم داخل العضو المصاب ذاته للقضاء على المرض دون الإضرار بباقي الجسم . هذا هو الحال بالضبط بالنسبة لما فعله الإسلام في مواجهة سرطان الاستعباد في الأرض.. فأول الإجراءات الفورية التي جاء بها التشريع الإلهي كان سد كافة المنافذ و "تجفيف ينابيع" الرق ، لوقف تزايد أعداد ضحايا الاستعباد في كل مكان .
نجد هذا واضحاً في الأحاديث الشريفة الصحيحة التي تحظر صراحة – وفوراً- أي شكل من أشكال استعباد الأحرار . فلا يجوز مطلقاً خطف الآخرين لبيعهم بعد ذلك في أسواق الرقيق كما كان شائعاً في كل أنحاء العالم وخاصة أوروبا . كما لا يجوز مطلقاً استعباد السارق – بل يعاقب فقط - ولا المدين الذين يعجز عن السداد ، وإنما على المجتمع أن يساعده في سداد الدين بجزء من أموال الزكاة ، وعلى الدائن أن يضع عنه جزءاً من الدين ليساعده على السداد أو يمهله فترة ، وفي كل الأحوال لا يسمح له مطلقاً باتخاذه عبداً .
روى الإمام البخاري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حُرَّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره"(1) . وكَوْن من يفعل ذلك خصماً لله يعني الخسران المبين ودخول جهنم . فهل يقوى أحد على تحمل تبعات هذا الذنب العظيم ؟! .(1/129)
وهذا الحديث القدسي الشريف قاطع الدلالة في تحريم استعباد الأحرار لأي سبب كان ، سواء بخطف الأحرار – كما فعل الغربيون وما زالوا يفعلون – أو باسترقاق المدين الذي يعجز عن السداد، أو كعقاب للسارق أو المجرم, أو حتى إقدام بعض الفقراء على بيع أطفالهم لإنقاذهم وإخوتهم من الجوع والفقر . كما ينص الحديث القدسي على تحريم السُخرة، وهي من صور الاستعباد الشائعة ، وتتمثل في كل حالة يقوم فيها المُلاَّك أو الحكومات أو جيوش الاحتلال – بتسخير الناس في أعمال شاقة بدون دفع أجور أو مقابل أجر ضئيل لا يتناسب مع حجم ومشقة الأعمال التي يتم إنجازها .
وهكذا نرى أن حديثاً واحداً قد أغلق منافذ الرق وجفّف ينابيعه .
وقد أثبت الإمام ابن القيم رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعبد حرّاً قط (2) .
وروى أبو داود فى حديث الثلاثة الذين لايقبل الله صلاتهم أن من بينهم: "ورجل اعتبد حُرَّاً" ، وكفى بهذا عقاباً له (3) .
وروى أن فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أهدته جارية حسناء ، فلما جلس معها سألها: من أي البلاد أنت ؟ فأجابته الجارية بأنها من بلاد المغرب العربي، وأن عامله على المغرب أخذها بسبب جناية ارتكبها أبوها – أي أنها كانت حُرَّة أصلاً – وأرسلها كجارية إلى زوجة الخليفة . فصاح عمر رضي الله عنه: "إنا لله وإنا إليه راجعون . كدنا والله نفتضح ونهلك" . وأمر على الفور بإعادتها إلى بلادها معزّزة مكرَّمة ، ودفع ديون أبيها ، وعاقب الوالي(4) .
أسرى الحرب(1/130)
لم يبق الإسلام من روافد الرق سوى حالة استثنائية نادرة هي أسرى الحرب المشروعة وبضوابط مشددة تكاد تغلق هذا المنفذ بدوره . فالحرب هي في حد ذاتها حالة استثنائية ، إذ الأصل في الإسلام هو السلام وليس القتال . كما أن الجهاد لابد أن يكون بإذن حاكم المسلمين، والحرب في الإسلام هي للدفاع وليست للعدوان . قال تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة : 190) .
فإذا اعتدى الآخرون علينا – بغياً وطغياناً – فهل يتوقعون منا ألا نحرّك ساكناً، وأن نستسلم لهم ؟! وإذا كانوا يقتلون أو يستعبدون أسرانا، أفلا يكون من حقنا أن نعاملهم بالمثل، والبادئ بالعدوان أظلم كما قيل ؟ ! ورغم أن مبدأ المعاملة بالمثل هو من البديهيات القانونية التي تتفق عليها كل المعاهدات الدولية والقوانين الإقليمية، إلا أن الإسلام العظيم جاء بما هو أكرم وأنبل . إذ أوجب أولاً معاملة الأسرى بالحسنى- تماما كالضيوف- طوال فترة الأسر، على نحو غير مسبوق في العالم كله، ثم أعطى إمام المسلمين خيارين لم يذكر سواهما في القرآن الكريم هما المَنَّ أو الفداء . قال تعالى "فإما منّاً بعد وإما فداء" !! الآية 4 من سورة محمد .(1/131)
وكان عبد الله بن عمر والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح يرون أن هذه الآية الكريمة : "فإما منّا بعد وإما فداء" ناسخة للآية المسماة بآية السيف : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (المائدة : 5) . ولذلك رفض ابن عمر أن يقتل أحد عظماء منطقة اصطخر، عندما أسره المسلمون وأرسلوه إلى ابن عمر مقيداً . ويروي أبو عبيد في "الأموال" والجصاص في "أحكام القرآن" أن عبد الله بن عامر رضي الله عنه هو الذي أرسل إلى ابن عمر ذلك الأسير طالباً منه قتله ، فأبى ابن عمر رضي الله عنه إلا المَنّ على الأسير – العفو عنه – أو الفداء – إطلاق سراحه بمقابل – و يؤيد كثير من العلماء – القدامى والمعاصرين – ذات الرأي السديد خلافاً لرأي آخر شاذ يرى جواز قتلهم (5) .(1/132)
والواقع أنه يستحيل على عالم أو عاقل أن يقبل القول بأن آية واحدة هي آية السيف المذكورة قد نسخت عشرات الآيات التي تدعو إلى السلم و الرحمة والمعاملة النبيلة لغير المحاربين لنا ، بل والمحاربين الأسرى و الجرحى ، كما يستحيل قبول فكرة أن الله "الرحمن الرحيم" يأمر نبيه الذي لم يرسله إلا "رحمة للعالمين" بإعمال السيف في رقاب كل من يقابله من غير المسلمين ، وقتل الأسرى والجرحى والنساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين . فهذا كله يتعارض مع آيات قرآنية قاطعة وأحاديث صحيحة ثابتة ، وأفعال الرسول عليه السلام طوال عمره الشريف . وإذا كانوا يستندون إلى 4 أفراد فقط- من الأسرى - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فهو استدلال خاطئ ، لأن الرسول أصدر حكمه عليهم بالإعدام باعتباره قاضياً ، وليس قائداً عسكرياً ، عقابا لهم على جرائم ارتكبوها ضد الإسلام والمسلمين من قبل . فهم باصطلاح عصرنا من "مجرمى الحرب" ، وكل الأمم تحاكم وتعاقب مجرمى الحرب بعد وقف القتال . وهؤلاء يشكلون الاستثناء الذي يثبت قاعدة" المَنّ أو الفداء" ولا ينفيها . إذ مقابل هذه الحفنة عفا الرسول عن عشرات الألوف من الأسرى في فتح مكة وبعد غزوات بدر وحنين وبني المصطلق وغيرها من المواطن .(1/133)
وبالإضافة إلى ابن عمر والحسن البصري وعطاء يقول ابن كثير عن آية المن أو الفداء : " أكثر العلماء يرون أنها ليست بمنسوخة".. وقالوا إن الإمام مخيَّر بين المنّ على الأسير – أي إطلاق سراحه بدون مقابل – أو الفداء – أي استبداله بأسرى المسلمين ، أو مقابل مال ، أو حتى تعليم بعض المسلمين حرفة نافعة أو القراءة والكتابة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر . ويؤكد أصحاب هذا الرأي الوجيه أن الإمام ليس له أن يقتل الأسرى طبقاً لهذه الآية ، فهي صريحة في النص على المنّ أو الفداء فقط ولا ثالث لهما . وهذا يعني بوضوح – كما يرى كثير من العلماء – أنه لا يجوز له استرقاق الأسرى أيضاً. بل ذكر الإمام البيضاوى فى تفسيره "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" صراحة أن الآية نسخت الاسترقاق . ونلاحظ أن الآية العظيمة بدأت أولاً بذكر "المَنّ" قبل "الفداء" ، مما يشير إلى أفضلية ذلك التصرف النبيل بإطلاق سراح أسرى الأعداء بدون مقابل ، ففي ذلك إظهار لنبل وسماحة الإسلام . وقال الإمام الشوكانى فى "فتح القدير" : قدَّم الله تعالى المَنَّ على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ، ولهذا كانت العرب تفتخر به حتى قبل الإسلام. وماجاء الاسلام الا ليتمّم مكارم الاخلاق. وكثيراً ما كان هذا سبباً في إسلام الأسرى الذين أيقنوا أن هذا النبل والتسامح دليل قاطع على أن الإسلام هو الدين الحق ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً وصدقاً ، وليس من ملوك الدنيا الذين يريدون العلو في الأرض أو الإفساد . والمثال الواضح لذلك قصة ثمامة بن أثال الحنفي – سيد قومه الذي أسره المسلمون وربطوه في المسجد . وكان عدواً شديد الضراوة في الفتك بالمسلمين المارين بمنطقته . ومر به الرسول عليه السلام وهو مربوط بأحد أعمدة المسجد ، فأمر بإطلاق سراحه . وعلى الفور انطلق ثمامة إلى ماء قريب فاغتسل وعاد ليشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(6) . وصار(1/134)
بعد ذلك من أخلص أنصار الاسلام والمسلمين.
كما روى البخاري وغيره حديث "فكوا العاني" - يعني الأسير - وهو أمر نبوي شريف لا سبيل إلى المجادلة في دلالته الواضحة والقاطعة على وجوب تحرير الأسرى كمنهج إسلامي ثابت . وعند البخارى أيضًا أن رجلاً سأل عليًا عن الصحيفة التى عنده ، فأقسم أنه ليس فيها إلا "العقل وفكاك الأسير وألا يُقتل مسلم بكافر" . إذن فمن المقطوع به أن اطلاق سراح الأسير كان من أهم وصايا النبى عليه السلام .
وكذلك عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة من المشركين بعد الفتح ، وكان يملك أن يقتص منهم لما فعلوه به وبأصحابه من قبل ، لكن نبي الرحمة آثر دائماً الدفع بالتي هي أحسن وأنبل وأكرم ، فقال لهم قولته الشهيرة : "إذهبوا فأنتم الطلقاء" (7) .
وروى الإمام مسلم أن النبى عليه السلام عفا عن ثمانين من المشركين حاولوا الهجوم على المسلمين فى صلح الحديبية وتمكن الصحابة من أسرهم ، وقال عليه السلام : "دعوهم – اتركوهم – يكن لهم بدء الفجور وثناؤه" ، ورواه الإمام أحمد أيضًا فى مسنده ، والذهبى فى سير أعلام النبلاء .
وفي غزوة حنين أطلق النبي سراح من بيده وأيدي بني عبد المطلب من الأسرى، وأرشد أقارب الآخرين الى أن يستشفعوا إلى باقي المسلمين بالنبي، فقام عليه السلام ودعا الى إطلاق سراح الجميع ، ووعد كل من يطلق سراح أسير لديه بعطاء سخي في أقرب فرصة، فأطلق كل المسلمين سراح من بأيديهم من أسرى هوازن وثقيف ، وكان عددهم ستة آلاف أسير أعتقهم النبى عليه السلام جميعًا فى لحظة واحدة (8) .(1/135)
ونقل الامام البغوى قول ابن عباس رضى الله عنهما ": لمَّا كثر المسلمون واشتدّ سلطانهم أنزل الله المَنَّ والفداء" . ويؤيد الإمام البغوى رضى الله عنه- فى تفسيره معالم التنزيل – مذهب العفو عن الأسرى أو مبادلتهم بأسرانا . وروى الشافعى أن النبى صلى الله عليه وسلم حرّر رجلين من ثقيف أسرهما المسلمون مقابل إطلاق سراح أسير مسلم كانوا يحتجزونه . وكذلك أعتق النبي جارية من قريش نظير إطلاق سراح عدد من أسرى المسلمين بمكة .
لكل ما سبق فإن عددا من كبار العلماء المعاصرين مثل الشيخ محمد أبو زهرة يرون أنه لم يعد في عصرنا هذا أي سبب للاسترقاق ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينشئ رقاً على حُرّ قط ، وأعتق كل من كان تحت يده من رقيق قبل الإسلام . والاسترقاق في عهد الصحابة لم يكن إلا من قبيل المعاملة بالمثل في الحروب ، أخذاً بقوله تعالى : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (البقرة : 194) . وبتطبيق ذلك المبدأ لا يكون من حق المسلمين أن يسترقوا الأسرى إذا كانت المعاهدات الدولية قد استقرت على أنه لا استرقاق للأسرى ، لأن ذلك يكون إعتداء من المسلمين وقد نهاهم الله عنه بقوله : "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة : 190) . وهذا الرأى ورد فى مقال للشيخ محمد أبو زهرة في مجلة الموقف العربي(9) .
ويؤيد الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية هذا الرأى لأن الآية الكريمة حددت مصير أسرى الحرب بالمَنِّ أو الفداء – مقابل مال أو تبادل للأسرى أو تعليم المسلمين القراءة والكتابة – وعلى هذا كما يقول الدكتور شلبي : "لا يبقى أسرى في أيدي المسلمين، لأن وسيلة الرق الوحيدة في الإسلام هي أسرى الحروب، و بذلك يكون الاسلام قد أغلق الباب في وجه الرق تماماً"(10) .
خلاصة(1/136)
وعلى ضوء ما تقدم فإننا نرى بوضوح أن الإسلام العظيم قد أغلق – فعليّاً – كل أبواب الرق حتى ما كان مباحاً من استرقاق أسرى الحرب - طبقاً لرأي عدد من كبار علماء السلف والخلف . و يتعين على حكام المسلمين إحترام المعاهدات والمواثيق الدولية التي يوقعون عليها ، وهي كلها تحظر استرقاق حتى الأسرى. وإذا كان غير المسلمين في الواقع ما زالوا يمارسون الاستعباد بشتى الصور كما رأينا ، الا أنه لابد أن نظهر للآخرين الفارق الهائل بين نبل وسماحة الإسلام وما هم عليه من همجية وظلم وتسلط على البشر . فإذا كانوا يقتلون الأسرى أو يسترقونهم، ويقتلون الأطفال والنساء ، فنحن لسنا مثلهم. لأن ديننا الحق يدعونا إلى الدفع بالتي هي أحسن وأكرم وأرحم .
أسر لا رق
ويذهب المفكر الإسلامي الكبير عباس محمود العقاد إلى أن ما يقولون أنه رق في الإسلام ليس إلا الأسر في الحرب الذي تسمح به كل دول العالم حتى وقتنا هذا. فهو مجرد "أسر" وليس رقاً مشابهاً لما كان يحدث في الماضي . يقول العقاد : "نحن نحب أن نلخص ما صنعه الإسلام في هذه المسألة قبل أربعة عشر قرناً في بضع كلمات : إنه حرّم الرق جميعاً ولم يبح منه إلا ما هو مباح إلى الآن . وفحوى ذلك أنه قد صنع خير ما يطلب منه أن يصنع ، وأن الأمم الإنسانية لم تأت بجديد في هذه المسألة بعد الذي قدَّمه الإسلام قبل ألف ونيف وثلثمائة عام .
الذي أباحه الإسلام من الرق مباح اليوم في أمم الحضارة التي تعاهدت على منع الرقيق منذ القرن الثامن عشر إلى الآن .
لأن هذه الأمم التي اتفقت على معاهدات الرق تبيح الأسر واستبقاء الأسرى إلى أن يتم الصلح بين المتحاربين على تبادل الأسرى أو التعويض عنهم بالفداء والغرامة.(1/137)
وهذا هو كل ما أباحه الإسلام من الأسر – على التعبير الصحيح – وغاية ما هنالك من فرق بين الماضي قبل أربعة عشر قرناً وبين الحاضر في القرن العشرين أن الدول في عصرنا هذا تتولى الاتفاق على تبادل الأسرى أو على افتداء بعضهم بالغرامة والتعويض . أما في عصر الدعوة الإسلامية فلم تكن دولة من الدول تشغل نفسها بهذا الواجب نحو رعاياها المأسورين ، فمن وقع منهم في الأسر يبقى فيه حتى يفدي نفسه بعمله أو ماله إذا سمح له الآسرون بالفداء .
فماذا لو أن الدول العصرية بقيت على خطة الدول في القرن السادس للميلاد ؟ ماذا لو أن الحروب اليوم انتهت كما كانت تنتهي في عصر الدعوة الإسلامية بغير اتفاق على تبادل الأسرى أو على افتكاكهم من الأسر بالتعويض والغرامة ؟ .
كانت حالة الأسرى اليوم تشبه حالة الأسرى قبل أربعة عشر قرناً في حقوق العمل والحرية والتمتع بالمزايا الاجتماعية ، وكان كل أسير يظل في موطن أسره رقيقاً مسخّراً في الخدمة العامة أو الخاصة محروماً من المساواة في حقوق المواطنة بينه وبين أبناء الأمة الغالبة .
إنها حالة كحالة الأسر التي سمح بها الإسلام على كُره واضطرار" .. انتهى(11) .
أسباب الفداء
وقد يتساءل البعض : لماذا لم يقتصر الإسلام على "المَنِّ" فقط بجعله التصرف الأوحد الذي يتم بموجبه إطلاق سراح الأسرى بدون مقابل ؟! ولماذا شرع الإسلام "الفداء" أو إطلاق السراح مقابل فدية ؟! .(1/138)
الواقع يقول أنه لا مفر أمام المسلمين من استبقاء "الأسرى" وعدم "المَنِّ" عليهم بالعفو في "بعض" الحالات . كما لو كان الأعداء يحتفظون بعدد من الأسرى المسلمين . ففي هذه الحالة يضطر المسلمون إلى عدم التفريط فيمن لديهم من أسرى الأعداء – مع الإكرام و حسن المعاملة – إلى أن يجري تبادل للأسرى بين الفريقين كما هو معهود ومتعارف عليه بين كل الدول حتى الآن . فهل يتوقع البعض أن نعفو عن أسراهم بينما هم يقتلون أو يُعذِّبون أو "يسترقون" أسرانا ؟!!. إن عدم وجود أسراهم بأيدينا سوف يطلق أيديهم في الفتك بأسرانا ، إذ لن توجد لدينا في هذه الحالة أية وسيلة ضغط عليهم لإطلاق سراحهم . ويكفي أن نشير إلى إبادة الصهاينة لآلاف من الأسرى المصريين في حرب 1967 لعدم وجود أسرى صهاينة في ذلك الوقت بأيدي مصر . وكذلك نشير إلى جرائم الأمريكان في سجن "أبو غريب" ومعتقل "جوانتانامو" كما عرضنا من قبل .
وإذا كان "الفداء" بتبادل الأسرى أمراً طبيعياً وعادلاً لدى الجميع ، ويعطي الحرية للكثيرين على الجانبين، فإن إطلاق سراح الاسير مقابل تعليم عدد من المسلمين القراءة والكتابة فقط هو أحد "أنبل" التصرفات التي عرفتها البشرية مع الأسرى في كل تاريخها . ونلاحظ هنا أن الأسرى يحصلون على "الحرية" مقابل "العلم" للمسلمين .
نور الحرية مقابل نور العلم . فهل عهد الناس هذا قبل الإسلام ؟! .
قوم يتخلصون من "ذل الأسر" مقابل آخرين يتحررون من ظلمة "الجهل"!. فهل هذا تشريع من عند بشر ؟!! ومن الذي يحرص على تعليم أتباعه القراءة والكتابة ؟! إنه نبي أميّ في أُمّة أُمِّية!! .(1/139)
وكذلك لا غرابة في حالة "الفداء" المالي، أي دفع مبلغ من المال مقابل إطلاق سراح الأسير إن كان من الأغنياء . ونقرر أولاً أنه من الثابت – فى كتب السيرة – أن الرسول صلى الله عليه وسلم مَنَّ على "فقراء الأسرى" فأطلق سراحهم بلا مال أو مقابل تعليم بعض المسلمين القراءة والكتابة . أما الفدية المالية التي يدفعها القادرون من الأسرى فهي عادلة تماماً . إذ أنه من المنطقي أن هؤلاء الذين شنّوا علينا حرباً عدوانية، وقتلوا وجرحوا كثيراً من المسلمين ، ودمروا البيوت والمزارع والمصانع، تقع عليهم وحدهم تبعة إصلاح ما أفسدت أيديهم الآثمة بغير حق .
وحتى في عصرنا هذا ، تعارفت الدول على أن الطرف المعتدي الذي أشعل فتيل الحرب هو الذي يدفع التعويضات عن كل ما سببه العدوان من أضرار وخراب على الجانبين .
ولما كانت الحرب في الإسلام دفاعية بحتة ، والآخرون هم الذين يعتدون علينا دائما ، فمن الطبيعي أن يدفعوا تعويضات مناسبة في شكل "فداء" مقابل إطلاق سراح أسراهم .
ومن هذه الفدية المالية يتم دفع تعويضات للأيتام والأرامل من أسر شهداء المسلمين ، وكذلك إعادة بناء ما دمرته الحرب العدوانية من بيوت ومرافق عامة وغيرها . و هذا هو الحق و العدل بعينه .
في ضيافة المسلمين(1/140)
ولا يفوتنا أن نشير إلى المعاملة النبيلة – غير ذات الشبيه – التي حظي بها الأسرى لدى المسلمين على مر العصور . لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يؤثرون الأسرى – الكفّار المعتدين – على أنفسهم وأطفالهم بالطعام والماء وكل ضروريات الحياة طوال فترة الأسر إلى أن يحين موعد إطلاق سراحهم، فهم كانوا- في الحقيقة- ضيوفا كراما على المسلمين . وشكر الله صنيع الصحابة ومدحهم بآيات قرآنية خالدة تتلى إلى يوم القيامة : "ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً" (الإنسان 9،8). ونقل الإمام ابن كثير رحمه الله قول ابن عباس رضي الله عنه أن المقصود بالأسير هنا" أسراهم يوم بدر من المشركين" ، ويضيف ابن كثير : ويشهد لهذا الرأي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى, فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء . وقال عكرمة : المقصود بالأسير هنا هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأرقاء في كثير من الأحاديث . وقال مجاهد : الأسير هو المحبوس، أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه – لأنفسهم – قائلين بلسان الحال : "إنما نطعمكم لوجه الله" أي رجاء ثواب الله ورضاه ، لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها، ولا أن تشكرونا عند الناس . وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوا هذا بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغّب في ذلك غيرهم" . انتهى (12) .(1/141)
وكذلك يحظر الإسلام كافة أشكال التعذيب أو إهدار الآدمية أو التمثيل – إحداث جراح أو تشويه – بالأسرى، فذلك ممنوع فعله ولو بالكلب العقور، فما بالنا بالإنسان الذي كَرَّمه الله تعالى ؟ !! أين هذا النبل مما فعله ويفعله الآخرون المجرمون بأسرى المسلمين والمعتقلين في سجون إسرائيل و"أبو غريب" و"جوانتانامو" و "البوسنة" و "الشيشان" و "كشمير" وغيرها ؟ .
ليس إسلاماً وليسوا مسلمين
إذا كان الإسلام كما رأينا يحظر الاسترقاق، ويعمل على تحرير من كانوا موجودين قبله من العبيد، فلماذا شارك "بعض" المسلمين في ارتكاب هذه الجريمة البشعة ونعني بها "النخاسة" في بعض العصور وبعض البلاد ؟! إنه سؤال يظن الحاقدون على الإسلام أننا سوف نعجز عن الإجابة عليه، وهم في هذا أيضاً واهمون .
فالجواب سهل وميسور – بإذن الله – لمن يبحث عن الحقيقة بأمانة، أما المكابرون فلا أمل في إقناعهم، ولو أتيناهم بكل آية وبرهان!
نقول أولاً : أن الإسلام حُجَّة على الجميع – مسلمين وغير مسلمين – ولا أحد حجة على الإسلام ، فالتشريع الإلهي حُجُّة على البشر، وليس العكس . فاذا كان الاسلام يحظر النخاسة والاستعباد فلا يضيره انحراف قلة مجرمة عن أحكامه.
ثانياً : أن الفساد الذي عم الأرض بسبب عدم الالتزام بأحكام الإسلام هو في حد ذاته دليل لصالح الإسلام وليس ضده ، لأن هؤلاء لو التزموا بالمنهج الإلهي لما حدث هذا الفساد والإفساد في الأرض . وعلى سبيل المثال : إذا حذر الأب ولده الصغير من اللعب بالنار، فعصى الابن أباه ، فاحترقت يداه وثيابه بسبب المخالفة ، هل يكون الخطأ منسوباً إلى الأب في هذه الحالة ، أم أن ما أصاب الطفل يثبت أن الصواب كان في اتباع النصح وطاعة الأب ؟! .(1/142)
ثالثاً : الحجة عندنا والقدوة هي أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عبرة بقول أو فعل أحد غيره من البشر . والثابت – كما تقدم وكما سيأتي – أنه صلى الله عليه وسلم لم يسترق حرّاً قط ، وحرّر كل من كان تحت يده من عبيد ، وكان دائماً وأبداً يأمر بالعتق وحسن المعاملة طوال فترة وجود العبد تحت يد سيده إلى أن يتحرر . فإذا جاء بعد النبي من يخالف هذا الهدي ، فإنه "خارج" على أحكام الدين ، ولم يفعل هذا لأنه مسلم ، لأنه يستحيل على المسلم الورع قبول مخالفة نهج الرسول أو أن يتبع غير سبيل المؤمنين . كما أنه لن يقبل أن يأتي يوم القيامة خصماً لله رب العالمين .
رابعاً : ان هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام – بالاسم فقط - الذين شاركوا أو ما زالوا يشاركون في جريمة الاتجار بالبشر في أي مكان أو زمان هم قلة ضئيلة بالقياس إلى بليون ونصف البليون من المسلمين في العالم الآن ، فهم – على فرض وجودهم – الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها كما هو معلوم بالمنطق وواقع الأمور .
وليس من الإنصاف تعميم الاتهام لمئات الملايين من المسلمين – أو دينهم – لأن بضع عشرات أو حتى مئات ممن يحملون أسماءً إسلامية تورطوا في هذه التجارة القذرة .
خامساً : إن "المافيا" الغربية – المسيحية واليهودية – هي التي تغري بعض ضعفاء النفوس عندنا بالأموال الطائلة ، ليجلبوا لها الضحايا من أطفال ونساء الفقراء. ولولا وجود "المشتري" لما كان للبائع وجود بدوره . فالغرب إذن هو الفاعل الأصلي "للنخاسة" ، أما بعض "الوكلاء المحليين" هنا فهم مجرد أتباع أو شركاء ذوي دور هامشي ثانوي ، ونحن ندينهم أيضاً بكل قوة ووضوح وبلا أدنى تردد .(1/143)
سادساً : إن أغلب ضحايا الرق في آسيا وأفريقيا – بل وجمهوريات آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية عامة – هم من المسلمين الفقراء . فكيف يتهمون الإسلام إذا كان أتباعه هم أكثر ضحايا جرائم عصابات الغرب المسيحي واليهودي ؟ أليس من الأولى إدانة الجاني بدلا من المجني عليه ؟! .
سابعاً : برغم كل ما تقدم فإننا نؤكد ضرورة الضرب بيد من حديد على كل النخّاسين أيّاً كانت جنسياتهم أو دياناتهم أو هوياتهم . وبصفة خاصة يجب على حكومات البلاد الإسلامية تطبيق أقصى عقاب – الإعدام – على مواطنيها الذين يتواطأون مع "المافيا" في خطف واسترقاق الأطفال والنساء من الفقراء والمحتاجين. و نرى أن هؤلاء أخطر على الأوطان من الجواسيس . لأن الجاسوس الخائن يبيع بعض الأسرار العسكرية للأعداء ، أما "وكلاء المافيا" في بعض بلادنا فإنهم يبيعون لهم فلذات أكبادنا وأغلى ما نملكه وهو الثروة البشرية ، فهل هناك خيانة أبشع من هذه ؟!! .(1/144)
وهناك – في رأينا – أمر آخر بالغ الأهمية نطالب به حكومات الدول الآسيوية والأفريقية المنكوبة باستمرار خطف وتهريب الملايين من أطفالها ونسائها إلى الغرب . فلابد من التحرك فوراً على كل المستويات لاسترداد هؤلاء الضحايا ، وإعادتهم إلى أحضان آبائهم وأمهاتهم الثكالى . وبلا شك يمكن للتحرك السياسي والدولي أن يفعل شيئا ً، وإلا وجب قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع أية دولة غربية تمتنع عن بذل الجهود المطلوبة لرد هؤلاء الضحايا المساكين إلى ذويهم . إننا نرى الدول الأوروبية والأمريكية تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا تم خطف أو احتجاز أو اختفاء فرد واحد من رعاياها – كما يشاهد الجميع في وسائل الإعلام يومياً – وتضغط بكل السبل- حتى ولو بالعدوان العسكري- لإطلاق سراح فرد واحد أو بضعة أفراد، كما فعلت إسرائيل التي شنت حرباً مدمرة على لبنان بسبب جنديين اثنين فقط أسرهما حزب الله، وكذلك دمرت قطاع غزة وقتلت وجرحت المئات من الفلسطينين من أجل جندي واحد أسره المجاهدون . فهل ملايين السبابا من بنات المسلمين اللاتى خطفتهن المافيا الأوروبية أهون وأقل شأنا من جندى صهيونى واحد أو اثنين ؟!! .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد .
المراجع
1- صحيح البخاري الحديث رقم 2270 .
2- زاد المعاد – ابن القيم – الجزء الثالث .
3- الحديث في سنن أبي داود .
4- راجع سيرة عمر بن عبد العزيز في سير أعلام النبلاء للذهبي و حلية الأولياء لأبي نعيم و البداية والنهاية لابن كثير و مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي .
5- تفسير القرآن العظيم – ابن كثير – تفسير الآية 4 من سورة محمد . وانظر كذلك أحكام القرآن للجصاص و "الأموال" لأبي عبيد وتفسير ذات الآية في الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي و عند ابن جرير الطبري والنسفي و الشوكانى فى "فتح القدير" وتفسير البيضاوى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" وتفسير البغوى "معالم التنزيل" .(1/145)
6- قصة ثمامة الحنفي مبسوطة في صحيحى البخاري ومسلم و سنن أبي داود . انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ، وشرح الإمام النووي لصحيح مسلم وعون المعبود شرح سنن أبي داود .
7- سيرة ابن هشام – فتح مكة – زاد المعاد لابن القيم – البداية والنهاية لابن كثير – تاريخ الأمم والممالك للطبري - سير أعلام النبلاء للذهبى .
8- القصة في مراجع السيرة العطرة السابق ذكرها .
9- مقال للشيخ محمد أبو زهرة بمجلة الموقف العربي مشار إليه في "روح الإسلام" لمحمد عطية الأبراشي – طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر .
10- أحمد شلبي – الاستشراق تاريخه وأهدافه – طبعة مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – ص 105 .
11- عباس محمود العقاد – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه – طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب – مصر – ص 160 .
12- انظر تفسير الآيتين 8، 9 من سورة الإنسان عند ابن كثير وابن جرير والطبري والقرطبي والنسفي والبغوى والبيضاوى والشوكانى وغيرهم من أئمة التفسير رضي الله عنهم .
الفصل العاشر
أبواب الحرية
قال المفكر الإسلامي الكبير عباس محمود العقاد : "شرع الإسلام العتق، ولم يُشرِّع الرق"(1). ومع تقديرنا الكامل لأستاذنا العقاد إلا أننا نرى أن الأدق أن نقول: "شرع الآخر الرق وشرع الإسلام العتق" . فكما رأينا انتشر الرق واستعباد الأقوياء للضعفاء في كل الأمم ، ثم جاء الإسلام ليوقف انتشار هذا السرطان في جسد البشرية بتجفيف ينابيعه ، ثم الإحسان إلى المماليك ، مع فتح أبواب الحرية أمامهم على أوسع نطاق ممكن ، في منظومة تشريعية متكاملة بالغة الدقة والإحكام أثمرت القضاء على الرق تماماً خلال بضعة أجيال في كل أرض طُبِّقَت عليها أحكام الإسلام ..
وتكفى نظرة إلى أحكام العتق في الإسلام ليدرك الجميع أن هذا ليس أبداً تشريعاً من عند البشر، وأن هذا القرآن العظيم هو كلام الرحمن الرحيم بعباده حقاً وصدقاً .(1/146)
ونلاحظ أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ورد فيه تعبير الـ "تحرير" صراحة وبكل وضوح 5 مرات في 3 آيات ، وكما يقول الإمام النسفى فإن:"كل تكرير ورد فى القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر فى النفوس وتقريره" . وسيأتي في الكلام عن الكفارات . كما يتضمن آية أخرى خالدة تحض على : "فك رقبة" سورة البلد الآية:13، كما تحدثت اّيتان اّخريان عن دفع الزكاة والصدقات لتحريرالرقاب . وهكذا فإن الذكر الحكيم أمر بالعتق والتحرير فى 8 مواضع ، أى 8 مرات . ولم يعهد الناس طوال عمر البشرية كلاماً صريحاً قاطعاً وواضحاً عن التحرير وفك الرقاب المعذبة في الأرض قبل نزول القرآن على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك ورد لفظ "العتق" صراحة - والأمر به - في عشرات من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة . فهل يبقى بعد كل هذه النصوص – أدنى شك في كراهية الإسلام للرق وسعيه بكل السبل لتحرير العبيد في كل أرجاء الأرض ؟ .(1/147)
ونكرر التنبيه هنا مرة أخرى على أن النصوص الأخرى التي تناولت كافة شئون العبيد ، والإحسان إليهم والأحكام الخاصة بهم كانت فقط لتنظيم "الفترة الإنتقالية" بين العبودية والتحرير، ولم تكن أبداً لترسيخ أو تثبيت دعائم الرق . إذ أنه كما قلنا من قبل يستحيل التحرير بضربة واحدة هكذا في التو واللحظة ، ومنهج الإسلام هو التدرج في إحداث التغيير في المجتمع ،حفاظاً على الأمن والاستقرار ، وحقناً للدماء، لذلك لم يكن هناك مفر من تنظيم أحوال العبيد في الفترة التي لا مفر من إجتيازها ، إلى أن يأذن الله بتحريرهم على مراحل محسوبة بدقة وبوسائل شتى. ومن المسلم به في دنيا الناس أن كثيراً من القوانين التي تصدرها المجالس التشريعية تنص غالباً على "أحكام انتقالية" تنظم المعاملات- قبل بدء سريان القانون - خلال الفترة ما بين صدوره ودخوله مرحلة التطبيق الكامل . فهناك فترة انتقالية غالبا بين تطبيق التشريع القديم الملغي وبين بدء سريان التشريع الجديد .
ومن بين أهداف تلك الفترة الانتقالية بأحكامها "المؤقتة" تهيئة المناخ الضروري للتغيير ، وأن يعتاد الناس على الأحكام الجديدة ، لاسيما إذا كانت التغييرات جوهرية وشاملة . وهذا بالضبط هو ما تهدف إليه الأحكام المنظمة لشئون وأحوال الرقيق - ملك اليمين - في الإسلام ، فهى مجرد أحكام مؤقتة لفترة محدودة تنتهي حتماً بتحرير كل العبيد طبقاً لتلك المنظومة الإلهية العظيمة .(1/148)
والآن نستعرض حالات التحرير وأسبابه الكثيرة . وسوف يلاحظ القارئ العزيز أنها في مجموعها تكفل فعلاً – بمرور الوقت – تحرير كل العبيد في المجتمع ، بشرط واحد بديهي هو أن تطبّق أحكام الإسلام كاملة على أرض الواقع . أما إذا امتنع البشر عن تطبيق المنهج الإلهي ، وعصوا أمر الله ، فما يكون العيب في الإسلام ، بل العيب كله في طبائع الناس وظلمهم وتمردهم على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم . والخلل الذي يحدث بسبب عدم التطبيق، يُشَكِّل دليلاً آخر على صدق الرسالة وأنها من عند الله . وهذا يثبت صواب المنهج الإلهي وإعجازه وأنه وحده الذي تستقيم معه أحوال البشر. ونلاحظ أيضاً أن حالات وأسباب التحرير منها ما هو وجوبي – وسوف نذكرها حالاً – أي لا خيار للسادة فيه، بل هو مفروض عليهم بحكم الإسلام . ومن حالات العتق ما هو سُنَّة وتقرب إلى الله تطوعاً من المالك طمعاً في عفو الله عنه ورحمته به وهرباً من عذاب الجحيم . وهذه حالات "اختيارية" للسيد أن يُعتق فيها أو يبقى على عبده ، وسوف نتناولها بعد حالات العتق الوجوبى.
1- كفّارة القتل الخطأ(1/149)
قال تعالى : "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئا ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلّمة الى أهله وتحرير رقبة مؤمنة.." (النساء : 92) ، قال الإمام القرطبي :" أي فعليه تحرير رقبة ، وهذه الكفّارة هى التي أوجبها الله تعالى في كفّارة القتل" ، ونقل خلاف العلماء فيما يجزئ منها ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة غيرهم : الرقبة المؤمنة – التي يجزئ تحريرها في الكفّارة – هي التي صَلَّت وعَقَلت الإيمان، ولا تُجزئ في ذلك الصغيرة ، وقال القرطبي : هذا هو الصحيح في هذا الباب . وقال عطاء بن أبي رباح : يجزئ عتق الصغير المولود بين المسلمين، وقال مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بالصلاة عليه إن مات ودفنه في مقابر المسلمين ، ولا يجزئ من به عاهة تعجزه تماماً كالأعمى والمقعد ومقطوع اليدين والرجلين، ويجزئ الأعور والأعرج عند الأكثرين . ونلاحظ أن الآية ذكرت تحرير الرقبة قبل أن تذكر الدية ، مما يشير إلى أهمية التحرير في الإسلام . كما تكرر فيها ذكر تعبير "فتحرير رقبة" ثلاث مرات ، والتكرار – فى القراّن- للتمكين فى النفوس والتأكيد والتثبيت كما قال الإمام النسفى (فى بداية تفسيره لسورة البقرة) .(1/150)
وللعلماء كلام عن أسباب فرض هذه الكفارة ، فقيل أوجبت على القاتل تطهيراً لذنبه لأنه أهمل ولم يتخذ الاحتياط والتحفظ فهلك على يديه إنسان محقون الدم . وقيل بل وجبت الكفّارة لأنه عَطَّل حق الله تعالى في نفس القتيل ، فإنه كان يعبد الله، وكان ممكناً أن ينجب أولاداً يعبدون الله كذلك ، كما أن القاتل عطَّل على القتيل حقه في التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل الله له طوال عمره واكتساب الحسنات والخيرات . وقال الامام النسفي : "لمّا أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسًا مثلها فى جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قِبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر ، والكفر موت حكمًا" . انتهى ما ذكره الإمام العبقرى فى تفسير الاّية . ولا يوجد أروع ولا أوضح من هذا الكلام النفيس لبيان كراهية الإسلام للرق ، إذ هو كالموت تمامًا ، و أهمية العتق ، إذ الحرية للعبد كالحياة للميت . ويقول الإمام القرطبي عن هذه العلة- سواء فوات حق العبد في حياته أو حق الله في حياة عبده المؤمن- : "أي واحد من هذين المعنيين كان ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمداً مثله بل أولى بوجوب الكفَّارة منه" .
2- كفّارة القتل العمد(1/151)
ولهذا أورد الإمام القرطبي في تفسير الآية التي بعدها : "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً" (النساء : 93) ، ما ذهب اليه مالك والشافعي من أنه : علي قاتل العمد الكفارة – تحرير عبد أو جارية – كما في القتل الخطأ . وقال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فإن وجوبها في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل أن القاتل عمداً إنما تجب عليه الكفارة إذا عُفي عنه فلم يقتل ، فإذا قتل قيل تؤخذ الكفارة من ماله وقيل لا تؤخذ . ومن قتل نَفْسَه فعليه كفارة تحرير رقبة تؤخذ من ماله (2) . والواقع أننا نرجّح أن على القاتل عمداً تحرير رقبة ، فهو أشد إجرامًا وأجدر بأن يجبر على تحرير نفس مؤمنة للتكّفير عن ذنبه و لتعويض المجتمع عن المسلم الذي قتله . ويشهد لذلك ما حدث عندما جاء أقارب قاتل عمد إلى النبي ليسألوه كيف ينقذونه من النار ، فأرشدهم عليه السلام إلى أن يعتقوا عنه عبداً ، فيعتق الله بكل عضو منه عضواً من القاتل من النار" (سنن أبي داود 3964) .
3- كفّارة الاجهاض
... أورد ابن قدامة في "المغني" رأياً سديداً مفاده : أنه إذا ضرب شخص بطن امرأة فأجهضها – قتل جنينها – فإن عليه – فضلاً عن ديّة الجنين – كفّارة عتق رقبة .
... ونحن نؤيد هذا الرأي لسببين : أولهما تشديد الحماية للنفس البشرية حتى ولو كان ما زال جنيناً في بطن أمه، فالإسلام جاء لحفظ وحماية الأرواح ، والسبب الثاني أن في هذا الحكم تحريراً لنفس أخرى تهفو الى الحرية ، ومنهج الإسلام هو التوسع لأقصى حد ممكن في تلمس أسباب التحرير، والتلهف على إنقاذ المعذبين فى الأرض و القضاء على الرق البغيض .
4- كفّارة الظِهَار(1/152)
... إذا قال الرجل لزوجته : أنت عليَّ كظهر أمي فإنه يأثم بذلك ويجب عليه تحرير رقبة قبل أن يعاود مجامعتها . قال تعالى : "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا" (المجادلة : 3) . وقد توسع العلماء في مفهوم الظهار وما يُشَبِّه الرجل به امرأته في تلك الحالات . قال الصنعاني – كتاب الطلاق ص 615 - أنه إذا شَبَّه الرجل زوجته بعضو من أمه غير الظهر فذهب الأكثرون إلى أنه يكون ظهاراً أيضاً . وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة أنه إذا شبَّه زوجته بغير الأم من المحارم – كالجدة والخالة والعمة – فإنه يكون ظهاراً ولو شبّهها بمحرم من الرضاع- ودليلهم القياس- فإن العلة هي التحريم المؤبد وهو ثابت في المحارم كثبوته في الأم . وقال مالك وأحمد إنه ينعقد ولو لم يكن المشبّه به مؤبد التحريم كالمرأة الأجنبية . وفائدة التوسع فى مفهوم الظهار تكمن فى أنه يترتب عليها كثرة حالاته ، وبالتالى كثرة أعداد الرقاب التى تتحررتكفيرًا عنه . وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن سلمة بن صخر رضي الله عنه قال دخل رمضان، فخفت أن أصيب امرأتي – أجامعها – فظاهرت منها، فانكشف لي ليلة شيء منها فوقعت عليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حَرِّر رقبة" ، فقلت: ما أملك إلا رقبتي ، قال : "فصم شهرين متتابعين" ، وصحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن الجارود (3) .(1/153)
ويقول الصنعاني تعليقاً على الحديث : أنه دلّ على ما دلّت عليه الآية من ترتيب خصال أنواع الكفّارات – والترتيب إجماع بين العلماء . وأطلقت الرقبة في الآية وفي الحديث أيضاً، ولم تقيّد بالإيمان كما قيّدت به في كفارة القتل الخطأ. وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والزمخشري إلى عدم صحة القياس هنا لعدم الإشتراك في العلة ، ففي القتل أخرج نفساً مؤمنة من الحياة إلى الموت ، فكانت كفّارته إدخال رقبة مؤمنة في حياة الحرية ، وإخراجها من موت الرق، فإن الرق سلب التصرف من المملوك ، فأشبه الموت الذي يسلب التصرف من الميت ، فكان في إعتاقه إثبات التصرف ، فأشبه الإحياء الذي يقتضي التصرف للحى ، وليس الأمر كذلك فى الظهار، فلا يشترط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة .
... ويستنبط الصنعاني وغيره من ترتيب الكفارات في الآية والحديث أنه لا ينتقل إلى التكفير بصيام شهرين متتابعين إلا عند العجز عن الحصول على الرقبة ليعتقها – يحرّرها – و لو كان عنده رقبة واحدة – عبد أو جارية واحدة – لكنه يحتاجها لخدمته للعجز، فإنه لا يصح منه الصوم ، ويجب عليه تحرير تلك الرقبة الوحيدة التي يملكها . فهل رأى أحد حرصاً على "التحرير" كهذا الحرص الإسلامي ؟!!
5- كفّارة التحريم(1/154)
... إذا قال الرجل لأمته أو زوجته : أنت حرام عليَّ، فإنها لا تحرم عليه بمجرد هذا القول ، وله أن يجامعها بشرط تحرير رقبة أيضاً في هذه الحالة . وهذا مستمد من قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لجاريته السيدة مارية على نفسه ثم عودته إليها بعد نزول سورة التحريم ، وعتاب الله تعالى له بسبب تحريمه ما أحل الله له ، وقد أعتق عليه السلام رقبة قبل أن يعود إلى مباشرة السيدة مارية كما سيأتي في قصتها في الفصل الأخير من هذا الكتاب . وكذلك روي أن رجلاً قال لابن عباس قلت لامرأتي : أنت حرام عليَّ . فأجابه ابن عباس رضي الله عنهما : كذبت ليس عليك بحرام، وعليك أغلظ الكفَّارات :عتق رقبة . وأورد الإمام القرطبي في تفسير الآيتين الأوليين من سورة التحريم 18 رأيًا للعلماء حول هذه المسألة – تحريم الرجل لزوجته أو جاريته – وما يهمنا هنا هو أن أكثر العلماء ذهبوا إلى وجوب الكفّارة عليه بتحرير رقبة .
6- كفّارة الحنث فى اليمين(1/155)
... إذا حنث الرجل في يمين حلفه ، وأراد التكفير عن هذا اليمين فإنه مُخَيَّر بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق – تحرير رقبة – وأساس ذلك قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" (المائدة : 89) . وقال بهاء الدين المقدسي في "العُدّة شرح العمدة": الإجماع على تخيير الحانث في يمينه بين الإطعام أو الكسوة أو تحرير عبد أو جارية أي عتق رقبة . وهناك رأيان بالنسبة لمن يعتق النصف من عبدين بدلاً من العتق الكامل لعبد واحد (4) . ونرى أنه يجوز لأنه سوف يتسبب في تيسير عتق اثنين بدلاً من الواحد، فسيكون أيسر عليهما المكاتبة والسعي لدفع نصف القيمة لكل منهما بدلاً من القيمة كاملة. و من ناحية اخرى سوف يكون الأيسر على سيد كل منهما أن يعتق النصف بدلاً من الكل ، أو يوصي بعتقه ، كما يكون تدبيره للنصف أيسر من تدبير الكل .
7- كفّارة الضرب
... إذا ضَرَبَ السيد عبده – أو جاريته – أو لَطَمَه أو صَفَعَه فإن كفّارته أن يعتقه. وفي هذه الحالة يتحرر العبد فور وقوع هذا الاعتداء عليه بلا أي مقابل يحصل عليه المالك . فعتق العبد هنا بمثابة عقاب فوري للسيد على قسوته . لأن الله سبحانه وتعالى قد كرَّم بني آدم بقوله : "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء : 70) .(1/156)
... والضرب أو الصفع أو اللطم أو الركل هو إهانة للعبد المسكين يأباها الله ورسوله وصالح المؤمنين . ولهذا فان أفضل عقاب للسيد القاسي القلب هو أن يُحْرَم فوراً من ملكيته للعبد المجني عليه ، فلم يعد جديراً بأمانة المسئولية عنه، وحق للإسلام أن يطلق سراح ذلك الرقيق المسكين حتى لا يظل عُرضة لغضب ذلك المالك الأهوج يضربه كما يحلو له . وأساس ذلك الحديث الشريف الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما : "من ضرب غلامه حدًّا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه" المحلي 9/209 ، وابن أبي شيبة 1/161 ب ، ورواه الإمام مسلم كذلك بلفظ مختلف.
وكذلك الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن الصحابي الجليل أبى مسعود رضي الله عنه، فقد كان يضرب غلاماً له يوماً فسمع صوتاً من خلفه : "اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه" ، فالتفت فإذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال أبو مسعود: هو حُرٌّ يا رسول الله ، فأجابه النبي عليه السلام : "لو لم تفعل للفحتك – أو لمسّتك النار" .
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن عقوبة على عدم الفعل إلا إذا كان هذا الفعل فرضاً واجباً ، فيدل ذلك على وجوب تحرير العبد ككفّارة عن ضربه، ولو كان العتق هنا مندوباً فقط لما استحق السيد الضارب أن تلفحه النار إن لم يفعل .
وروى ابن أبى حاتم – فى الجرح والتعديل 8/306 – أن حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه ضرب جارية على وجهها فقال له النبى عليه السلام : "اعتقها" . وعن سويد بن مقرن رضى الله عنه أن أحد إخوته لطم جارية لهم فأمرهم النبى أن يعتقوها . رواه أبو داود فى باب حق المملوك .
8- كفّارة الجُرْح أو قطع عضو أو التعذيب(1/157)
إذا كان مجرد لطم العبد أو ضربه باليد أو صفعه يوجب عتقه فورا ً، فمن باب أولى إذا جرحه سيده أو قطع من جسده عضواً أو أحدث به عاهة . ومثال ذلك الجَبْ – قطع عضو الذكورة – أو الخصي – إزالة الخصيتين من الذكر- أو الجدع -قطع الأذن أو الأنف- أو غير ذلك . ففي هذه الحالات وأمثالها يتحرر العبد أو الجارية – فوراً وبلا أي مقابل . وفي حديث زنباع الذي جبَّ غلامه قال النبي للغلام المجني عليه : "اذهب فأنت حُرّ"، لأن سيده قطع منه عضو الذكورة (الحديث مذكور في سنن أبى داود تحت رقم 4519) . وروى الإمام مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعتق جارية أحرقها سيدها – كواها بالنار – وأدَّبه (الموطأ – كتاب العتاقة والولاء) ، وكذلك لو عذَّب السيد الرقيق بأية وسيلة أخرى فإنه يتحرّر فورًا .
9- كفّارة اللعن أو الشتم
... اللعن كالضرب في الحكم لأن في كل منهما إساءة للرقيق بغير حق . قال سالم بن عبد الله : ما لعن ابن عمر خادماً – عبداً – له قط إلا واحداً فأعتقه. رواه عبد الرزّاق، وكذا ورد فى موسوعة فقه عبد الله بن عمر (5) .
ويرى الإمام الزهري رضي الله عنه أن من قال لغلامه : أخزاك الله فهو حُرّ بذلك . ويمكننا أن نقيس على رأي هذين الإمامين الجليلين – ابن عمر والزهري – كل كلام يعتبر سباً أو شتماً أو قذفاً أو لعناً أو إهانة أو إساءة للعبد أو الجارية .
فقد كَرَّم الإسلام بني آدم ، أحراراً كانوا أم عبيداً – كما أسلفنا عند الكلام على الضرب – وأمر الله ورسوله بالإحسان إلى المماليك ، فأية إهانة لهم بالفعل أو بالقول توجب التكفير عن ذلك الذنب العظيم بتحريرهم فوراً بلا مقابل .
10- إكراه الجارية على الزنا(1/158)
وكذلك يجب على الحاكم المسلم تحرير الجارية فوراً إذا أجبرها سيدها على ممارسة البغاء أى الدعارة . فقد حرص الإسلام على صيانة عرض الإماء – الجواري - فلا يعبث بهن كل من أراد كما يحدث لدى غير المسلمين . فلا يجوز لأحد أن يجامعها سوى سيدها أو زوجها إن تزوجها غير السيد.
فإذا حاول السيد التكسب بفرج الجارية بإكراهها على ممارسة الدعارة ، أو تقديمها لضيوفه كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وما زالوا يفعلون ببعض البلاد غير الإسلامية، فإن على الحاكم أن يرفع يد السيد عن تلك الجارية المسكينة فوراً ، وذلك لا يتم إلا بعتقها – تحريرها – رغم أنف المالك الفاسق . وهذا كله عملاً بقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" (النور : 33) . وذكرنا في نهاية الفصل الرابع "الاتجار بالبشر" أن سبب نزول هذه الآية الكريمة كان محاولة المنافق عبد الله بن أبي سلول إجبار جارية له على ممارسة الدعارة لجلب الأموال ، فشكته إلى النبي فنزلت الآية، و أمر الرسول صلى الله عليه وسلم برفع يد المنافق عن الجارية وأعتقها. وتبدو أهمية هذا الموقف العظيم في عصرنا الحاضر، حيث ما تزال عصابات الإجرام – المافيا – الدولية تخطف ملايين الفتيات من الدول الفقيرة إلى الغرب لتشغيلهن إجبارياً في شبكات الدعارة . ولابد من تحرك عاجل للدول الإسلامية لإنقاذ رعاياها من أنياب تلك الوحوش المسعورة . (راجع الفصل الرابع من هذا الكتاب) .
11- الجماع في نهار رمضان(1/159)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله، قال "وما أهلكك ؟" قال : وقعت على امرأتي في رمضان – نهار رمضان - قال : "هل تجد ما تعتق رقبة" ؟ قال : لا، قال : "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟" قال : لا، قال "فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً" قال : لا ، ثم جلس . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: "تصدق بهذا" فقال الرجل : أعلى أفقر منَّا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال : "اذهب فأطعمه أهلك" رواه السبعة أصحاب السنن والصحيحين واللفظ لمسلم . (انظر مثلا البخاري 4/163 – مسلم في الصيام حديث رقم 1111) .
قال الصنعاني في "سبل السلام": الحديث دليل على وجوب الكَفَّارة على من جامع في نهار رمضان عامداً. وذكر النووي أنه إجماع سواء كان موسراً – غنياً – أم معسرا – فقيراً – فالمعسر تثبت ديناً في ذمته . والحديث ظاهر في أن الكفّارة مرتّبة، أي يبدأ أولاً بعتق الرقبة ولا ينتقل إلى الصيام إلا إذا لم يجد رقبة يعتقها . كما لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتاليين . ونقل الصنعاني الإختلاف في الرقبة التي تعتق هل لابد أن تكون مؤمنة أم لا . والرأي أنها مُطلقة هنا فيجزئه أن يحرر عبداً نصرانياً أو يهودياً طبقاً للرأي الذي لا يشترط الإيمان . ولكن الجمهور يذهب إلى ضرورة أن تكون الرقبة التي يعتقها مؤمنة حملاً للمُطلق هنا على المُقيد في كَفَّارة القتل، وقالوا : لأن كلام الله تعالى في حكم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد . وقال الأحناف : لا يحمل المطلق على المقيد أبدا فتجزئ عندهم الرقبة الكافرة . (سبل السلام ص 378 – 380) .(1/160)
والمهم هنا أن على من يجامع في نهار رمضان أن يعتق رقبة ، وذهب الجمهور إلى أن على زوجته كَفَّارة أيضاً، فإذا أخذنا بهذا الرأي نجد أنهما – الزوج والزوجة - مكلّفان بتحرير رقبتين في هذه الحالة . وقال آخرون ليس على المرأة كفارة .
12- كفّارة جماع الحائض
إذا جامع الرجل زوجته أو جاريته وهى حائض فإن عليه كفّارة تحرير رقبة . فقد روى ابن حجر العسقلانى فى تلخيص الحبير والهيثمى فى مجمع الزوائد : أن الرسول عليه السلام أمر رجلاً جامع زوجته الحائض بأن يعتق رقبة تكفيرًا عن ذلك.
ونلاحظ عظمة نظام الكفَّارات في الإسلام . إذ أن السادة بشر، ولأن كل بني آدم خطَّاء – كثير الخطأ - فلابد أن يرتكبوا أفعالاً تستوجب التكفير بعتق الرقاب . ويؤدي هذا حتماً بمرور الأيام إلى تحرير أعداد هائلة من الرقيق تكفيراً عن ذنوب السادة الكثيرة والمتكررة . وهو ما حدث بالفعل ، فقد تحرّرت أعداد لا حصر لها من العبيد في صدر الإسلام بموجب نظام الكفَّارات العظيم .
13- تحرير ذوي الأرحام
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وآخرون . وقال عليه السلام في حديث آخر : "من ملك ذا رحم محرّم فهو حرّ" رواه أبو داود والترمذي . وبهذين الحديثين الشريفين استدل جمهور العلماء على أنه إذا تملك الرجل الأقارب فإنهم يعتقون عليه وجوبا ً، ولا عبرة بموافقته على ذلك أو امتناعه (6) . والعلة واضحة هنا ، إذ أنه لا يمكن تصور أن يكون المرء سيّداً على أبيه أو أمه ، ويستخدمهما في الأعمال ، أويبيعهما لآخرين في السوق، فهذا أبشع ألوان العقوق والإجرام في حق من ربّياه صغيراً .(1/161)
واختلف العلماء بعد ذلك في تحديد الأقارب الذين يُعتقون على المالك في هذه الحالة . ويرى الإمام مالك أنه يُعْتَق على الرجل ثلاثة أنواع من الأقارب ، الأول أصوله ويشملون الأبوين والأجداد والجدات ، وكل من كان له على الإنسان ولادة أي أصلاً له . والنوع الثاني : فروعه وهم الأبناء والبنات وأولادهم وبناتهم أي الأحفاد وإن نزلوا ، وبالجملة كل من كان للمالك عليه ولادة بغير وسيط ذكراً كان أم أنثى . والنوع الثالث : كل من شارك المالك في أصله القريب كإخوته وأخواته الأشقاء أو لأب أو لأم . وأضاف الإمام أبو حنيفة إلى هؤلاء كل ذي رحم مُحَرَّم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وأبناء وبنات الأخ والأخت ، وبصفة عامة كل من يحرم على المالك الزواج منه على إفتراض أن أحدهما ذكر والآخر أنثى (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) . وهذا هو الرأي الذي يتطابق مع نص وروح الحديث الشريف، فقد ذكر عليه السلام "ذا رحم محرّم" نصّاً ، ولا يجوز تضييق نطاق ما وَسَع الله ورسوله . وفي رأينا أنه طبقاً لروح الإسلام فإنه يجب أيضاً أن يُعتق على الرجل أمه وأبوه وإخواته وخالاته وعماته وإخوته وأعمامه وأخواله من الرضاعة ، وكذلك أجداده وجداته وابنه وابنته من الرضاعة . لأن كل هؤلاء يَحْرُم عليه الزواج منهم ، وقد روى البخاري ومسلم حديثًا شريفا نصه : "يَحْرُم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" . وقد ذكرنا من قبل أنه في غزوة حنين جاء المهزومون من هوازن وثقيف مسلمين تائبين بعد المعركة ، وكان ضمن ما قالوه للنبي طلبا للإفراج عن أسراهم : "إنما فيهم خالاتك وعماتك من الرضاعة وحواضنك" ، وعلى الفور قال لهم عليه السلام : "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" ، ثم قام فسأل الناس أن يردوا عليهم السبي- ستة اّلاف نفس- فاستجاب المسلمون، وتم تحرير كل أسرى هوازن وثقيف بذلك . والواقع أنه ليس من المروءة أبداً أن يسترق الإنسان من احتضونه وأرضعوه وتولوا تربيته(1/162)
ورعايته حتى شب عن الطوق ، ولا هو من خلق المسلم أنه إذا كبر وأغناه الله أن يستعبد من أحسنوا إليه في صغره ، فلا دين إلا بمروءة ونبل وحسن خلق .
14- اللقيط حر
... يرى علماء السلف رضي الله عنهم أن اللقيط يكون حُرَّا ً، لأن الأصل في الإنسان هو الحرية . فالكل أولاد وبنات آدم وحواء وكلاهما كان حُرّاً، وبالتالي فالفروع كلها حُرَّة إلا من يثبت عليه العكس . ولا يوجد أي دليل على حالة الطفل اللقيط من الحرية أو الرق ، فوجب أن يُعطى له حكم الأصل وهو الحرية . ونعتقد أنه لا يوجد أي كلام أجمل ولا أقوى من هذا لإيضاح موقف الإسلام العظيم دين الحرية والكرامة والمساواة بين البشر .
15- إسلام العبد يحرّره
... إذا اعتنق العبد الإسلام وكان سيده غير مسلم ، فإنه يتحرّر فوراً بمجرد النطق بالشهادتين ، لقوله تعالى : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" (النساء : 141) . ويتحرر معه أولاده الصغار لأنهم يتبعونه في الإسلام وكذا أَمَتُه إن كانت له أَمَةُ .
وكذلك أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم عبيداً كانوا مملوكين لمشركين، وهربوا إلى النبي عليه السلام أثناء حصار المسلمين للطائف ، وأعلنوا إسلامهم بين يديه . وأخبر عليه السلام أنهم : "عُتَقَاء الله ورسوله" ، ولم يردّ أحداً منهم إلى سيده الكافر، كما لم يدفع للسادة شيئاً مقابل تحرير هؤلاء العبيد الذين أسلموا.
وذات الأمر إذا أسلمت جارية وكان سيدها مشركاً ، بل تحريرها أولى ، حتى لا يتمكن الكافر من وطئها وإذلالها وهي مؤمنة بالله رب العالمين ، وكذلك ولدها يتحرر معها لأنه – يتبعها في الإسلام . ومن العلماء من يرى دفع القيمة للكافر أي ثمن العبد ، وحسناً فعل ابن حزم في "المحلّى" حين فند آراء المخالفين في هذه القضية الحساسة ، ولمن أراد أن يطالع التفاصيل هناك . و الحكمة واضحة فى وجوب عتق العبد فور إسلامه لأن الرق أشد سبيل عليه للكافر ، ولن يجعل الله له ذلك على مسلم.(1/163)
16- العتق بالنذر
إذا نذر المسلم أن يعتق عبداً لله فإن عليه الوفاء بهذا النذر وجوباً . وهكذا يتحرر عبد مسكين في هذه الحالة. ويقول بعض العلماء أن النذر يصح هنا ولو لم يكن الناذر مالكاً لأي من العبيد أو الجواري لحظة أن ينوي النذر، فيمكنه أن يشتري عبداً ثم يعتقه وفاءً للنذر . وأساس ذلك قوله تعالى : "يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً" (الإنسان : 7) .
17- إلغاء الرق على الحرّ
إذا تبين أن الرقيق كان حُرّا وضرب عليه الرق ظلماً أو خطأ فيجب تحريره فوراً، لأن النبي لم يسترق حُرَّاً قط ، كما يحرم استعباد الحرّ للحديث الصحيح : "ورجل باع حراً فأكل ثمنه" رواه البخاري ، وتقدم أن الله تعالى يكون خصما لمن يفعل ذلك يوم القيامة . وذكرنا أيضا أن عمر بن عبد العزيز حرّر جارية تبين له أنها كانت حرّة من بلاد المغرب ، واستعبدت بجناية ارتكبها أبوها , وهو أمر غير جائز، وردّها عمر إلى أهلها .
18- عتق الهازل صحيح
إذا قال السيد لعبده : أنت حُرّ أو أعتقتك ولو على سبيل المزاح والدعابة فقط فإن العبد يتحرر بذلك . وإلى هذا ذهب عدد كبير من العلماء كما ذكر الإمام السرخسي في كتابه "المبسوط" . وأساس هذا الرأي الحديث الشريف: "ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ ، النكاح والطلاق والعتاق" رواه ابن عدي ، والحديث عند الترمذي وابن ماجه وأبو داود . وروى في سبل السلام : "لا يجوز اللعب في ثلاث الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن" حديث ضعيف . والحديث الضعيف يجوز الإستدلال به فى فضائل الأعمال ، ولا فضيلة- فى رأينا – أعظم من تحرير أولئك المساكين.(1/164)
ونرى أن أمورا خطيرة كهذه لا ينبغي التساهل فيها مع من يزعم الهزل . إذ أنه في العتق مثلاً يتعلق الأمر بمستقبل عبد ضعيف يتطلع بلهفة إلى الحرية . وليس من المقبول أن نسمح للسيد العابث بالتلاعب بمشاعر الرقيق المسكين . كما أن السماح بالهزل في هذه المواطن يفتح الباب أمام ضعاف النفوس للتهرب من العتق بإدعاء أنهم لم يقصدوا التحرير، وإنما كانوا يمزحون!! لهذا قرر العلماء أنه حتى ولو كان السيد هازلاً – مازحاً – يقع العتق فوراً، ولا يلتفت إلى ما زعمه السيد – كما نرى - حرصاً على مستقبل الرقيق وتوسيعاً لدائرة الحرية . ثم أن هذا السيد العابث لا يؤتمن على مستقبل الرقيق المساكين ، فالجدية والرجولة مطلوبة في الراعي .
19- عتق المكره
يرى الإمام أبو حنيفة وأصحابه أنه إذا أُكْرَه السيد على عتق عبده فإن العبد يتحرر بذلك، رغم أن تصرفات المُكْرَه لا يعتد بها بصفة عامة (بداية المجتهد ص 443) .
ويبدو لنا أن حرص الإمام رضي الله عنه على الحرية، وتعظيمه لشأنها هو الذي دفعه وأصحابه إلى القول بعتق العبد حتى ولو كان سيده مجبراً عليه .
20- عتق السكران
وأما من يتناول شراباً مسكراً بإرادته فيغيب عقله ، فإن فريقاً كبيراً من العلماء يرى أن بعض تصرفاته تلزمه . ومن ذلك ما رآه الإمام مالك من أن العتق يقع من السكران ولو لم يقصده . بل يلزمه الإمام أبو حنيفة بكل تصرفاته ومنها العتق (بداية المجتهد ص 443) . وطبقاً لرأي هذين الإمامين العظيمين يتحرر العبد إذا أعتقه سيده السكران، ولا يقبل قول السيد أنه كان غائبا عن الوعي عندما تلفظ بكلمة العتق أو التحرير لعبده ، لأنه هو الذي تسبب في هذا بشربه للمنكر . وجزء من العقاب له على تعاطي المنكر أن تنفذ عليه تصرفات كثيرة كالعتق ، خاصة وقد تعلقت بها مصلحة أكيدة للعبد المسكين في حياة حرّة جديدة ، كما أن السيد السكران يكون فاسقاً ، ولا يؤتمن على تملك عبده والتحكم في حياته .(1/165)
21- أولاد الحرَّة من عبد
ذكرنا من قبل في فصل الإحسان إلى المملوك أن الإسلام قد حث على الزواج من العبد الصالح والأمة الصالحة، بل فضَّلهما على الأحرار الكافرين أو الفاسقين . ولهذا الزواج المختلط حكمة كبرى في ميدان العتق . فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن أولاد الحرّة من زوجها العبد يكونوا أحراراً تبعاً للأم . وفضلا عن هذا يؤدي الزواج فعلّياً إلى سعي الزوجة الحُرَّة وأولادها الأحرار إلى تحرير الزوج والأب ، ويحرص أهلها على عتق زوج ابنتهم بكل السبل ، الأمر الذي ترتب عليه فعلّياً تحرير عدد كبير من العبيد بسبب تلك المصاهرة مع القبائل الحرّة .. بعكس ما كان يحدث في أوروبا من حرق أو قتل العبد والحرّة التي تتزوجه ، أو أن يسترق الحُر أو الحُرّة إذا قبل أي منهما الزواج من الرقيق .
22- أولاد الحرّ من جارية
يرى بعض الفقهاء أن أولاد الحرّ من زوجته الجارية يكونوا أحراراً إذا اشترط الزوج على مالك زوجته ذلك قبل الزواج . ونحن نرى أن أولاد الحرّ من زوجته الأمة يكونوا أحراراً في كل الحالات حتى ولو لم يشترط أبوهم ذلك قبل العقد . فالأولاد والبنات هم جزء من الأب ، وحرية الأصل تتبع حتماً حرية الفروع ، لأن الحرية لا تتجزأ ، فكيف يكون الرجل حُرَّا وأجزاء منه – فلذات كبده – من العبيد؟! لقد جاء الإسلام لتحرير العبيد وليس لاستعباد الأحرار ، ومنهجه هو توسيع دائرة الحرية ما أمكن ، والعتق يسري من الجزء إلى الكل ، ومن الأصل إلى الفرع .
ثم ما هو الفارق بين أولاد الحرّة من عبد ، وأولاد الحرّ من جارية ؟ !! . لا يوجد أي سند أو نص أو حتى منطق سليم للتفرقة بين الحالتين .(1/166)
وطالما أنه لا يوجد نص صريح فى هذه المسألة فإنه يجب الرجوع إلى روح التشريع والمبادئ العامة ، وكلها يقطع بضرورة أن يكون أولاد الحرّ من زوجته الجارية أحرارًا كأبيهم . وكذلك كان الحُرُّ وأولاده يسعون إلى تحرير الزوجة الأمة، حتى لا يعايرهم أحد في بيئة كانت آثار الجاهلية والتفاخر بالأنساب ما زالت موجودة بها .
23 – التدبير
التدبير : هو عتق العبد بعد موت سيده . فإذا قال المالك لعبده أو جاريته أنت حرّ، أو أنت حرّة - بعد موتى، فإنهما يتحرران لحظة وفاة المالك حتى ولو لم يكن له مال غيرهما . والرأي الراجح أنه لا يجوز للسيد الرجوع في تدبيره . كما أن العبد يعتق ولو كان ثمنه أكثر من ثلث التركة ، لأنه يحرر من رأس المال وليس من الثلث الذي تنفذ فيه الوصية . وأولاد المُدَبَّرَة يتبعونها في التحرر حتى ولو كان منهم من ولدته قبل التدبير حسب الراجح ، فالعتق يسري منها إلى أولادها . ويجوز للمالك تدبير عبده أو جاريته ولو كان هذا المالك صبياً في العاشرة من عمره ، أو صبية في التاسعة من عمرها ، كما يصح تدبير السفيه والمحجور عليه و السكران والهازل طبقاً للرأي الذي نميل إليه ، فالتحرير مبني على التغليب – أي ترجيح مصلحة العبيد في نيل الحرية - والتوسع فيه بالسراية ، أي يسري من الأم إلى أولادها ، ومن جزء العبد إلى الكل ، ومن الأصل إلى الفرع . وإذا دَبَّر السيد جزءاً من عبده يسري التدبير إليه كله ، ولو كان مشتركاً في ملكيته مع سيد آخر ، يسري التدبير – حسب الراجح - ويضمن السيد المُدَبِّر نصيب شريكه . ولا يجوز للسيد أن يبيع العبد المُدَبَّر ولا أن يهبه ، وإذا كانت جارية فوطئها فحملت صارت بذلك أم ولد أيضاً وولدها منه حرّ ، كما أنه لو زَوَّجها لشخص آخر فأولادها من الآخر أحرار بموت السيد كأمهم ولو كان أبوهم عبداً . ولا يجوز للورثة تعطيل عتق العبد إذا مات السيد . وإذا أسلم العبد وسيده المُدَبِّر كافر ، يتحرر العبد(1/167)
فوراً دون انتظار لموت السيد ، ففي هذه الحالة يجب رفع يد الكافر عنه فوراً . والواقع أننا نستغرب الرأي الذي يذهب إلى جواز بيع العبد المدبّر، إذ هو في سبيله إلى الحرية بموت السيد، والتدبير عقد ، فكيف نسمح للسيد بفسخ العقد من جانب واحد؟! والبيع لسيد آخر معناه إلغاء التدبير وضياع فرصة محققة لتحرير العبد المسكين بوفاة سيده الأول ، والله تعالى أمرنا بالوفاء فى قوله عزّ وجل : "أوفوا بالعقود" (المائدة : 1) .. كما أنه لا يجوز للمسلم أن يخلف الوعد فتلك من صفات المنافقين.
و التدبير عتق لكنه مؤجل التنفيذ لما بعد موت السيد، فكيف يتراجع السيد عن تنفيذ ما أتفق عليه ووعد به ؟!!
تيسير إثبات التدبير
قال ابن قدامة المقدسي : "العتق مما يتشوف إليه ، وهو مبني على التغليب والسراية ، فينبغي تيسير إثباته" (المغني – كتاب التدبير- رقم 8679 مسألة من أنكر التدبير) . وهذا القول من عالم جليل يؤكد كل ما ذكرناه من أن الإسلام يحرص على التحرير كل الحرص ، ويلتمس الأسباب المؤدية إليه ، ويتوسع في العتق الى أقصى حد ممكن . ولذلك يؤيد ابن قدامة الرأي الذي يكتفي بشاهد واحد مع يمين يحلفها العبد لإثبات التدبير أو العتق إذا أنكره السيد . ونرى أنه يجب الأخذ بهذا الرأي في كل حالة يحدث فيها نزاع بين السيد والعبد على وقوع العتق أو سببه، تيسيرًا على هؤلاء المساكين ، ولأن الأصل هو الحرية فوجب تسهيل أسبابها، والعمل على إزالة عارض الرق الذي يبغضه الإسلام ويزيله بكل السُبُل .
24- العتق في الكسوف والخسوف
عند وقوع ظاهرة كونية مثل كسوف القمر أو خسوف الشمس كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالعتق حتى تنجلي تلك الظاهرة عنهم بسلام . وكأن الإسلام يتلمس أي سبب ولو لم تكن للبشرية فيه يد للعتق وتحرير أولئك المُبْتَلين بالعبودية !!(1/168)
روى الإمام البخاري تحت عنوان "ما يستحب من العتاقة في الكسوف أو الآيات" عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس . وروى عنها أيضاً أنها قالت : كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة ، أي عتق رقبة . وقال الدكتور موسى شاهين لاشين أستاذ الحديث بجامعة الأزهر تعليقاً على الحديث الأول - تعليلاً للأمر بالعتق هنا - : العبادات عند الشدائد ترفعها أو تلطف بصاحبها . انتهى (تيسير صحيح البخاري – الجزء الأول – شرح الحديث رقم 1054) .
ويمكن قياسًا على الكسوف والخسوف أن يكون العتق مندوبا اليه كذلك فى حالة الزلازل والبراكين والفيضانات المدمرة والعواصف ، فكلها كوارث طبيعية تتحد معها فى العلة .
ونحن نقول أن الأمر بالعتق في حال الكسوف أو الخسوف- إن لم يكن للوجوب- فهو على الأقل سنّة مؤكدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . ونلاحظ هنا أنه أمرهم بالعتق خصيصاً ، وليست أية قربات أخرى ، مما يدل على الأهمية القصوى التي أولاها الإسلام للعتق وتحرير العبيد . فهل عهد الناس مثل هذا في أي دين آخر ؟
25 – المكاتبة
إن الباحث المنصف سوف يرى في عقد المكاتبة واحدًا من مفاخر الإسلام . فعن طريق هذا العقد يحصل العبد على حريته مقابل مبلغ من المال يؤديه إلى سيده على أقساط أو مقابل خدمة أو أعمال يؤديها له .
روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة حق على الله عونهم منهم "المكاتب يريد الأداء" . كما يثيب الله من أعان مكاتبًا على التحرر بأن يجعله فى ظله يوم القيامة .(1/169)
ونلاحظ هنا أن عقد المكاتبة يحقق عدداً من الإيجابيات يرضى بها كل الأطراف . فالسيد حصل على تعويض أو مقابل يرضى به لعتق عبده ، فهو لن يكون خاسراً . والعبد نال حريته بناء على طلبه وفي الوقت الذي أصبح مستعدا فيه لبدء حياته المستقلة عن سيده . وإذا كان العبد قد تعلم الإعتماد على الذات واكتسب الثقة بالنفس ، فإن المجتمع يكسب بالمكاتبة عضواً نافعاً محترفاً ، يشكل إضافة إيجابية إلى القوى العاملة المدربة، فيزداد به الإنتاج ، وليس مزيداً من المتسولين الذين هم عالة وعبء ثقيل على أي مجتمع بشري . والمكاتبة عقد لازم لا يجوز للسيد أو العبد فسخه .
وقد ذهب العلماء حسب الرأي الراجح – إلى أن السيد لا يملك الرفض إذا طلب عبده المكاتبة، بل يجب عليه أن يكاتبه . ونحن نؤيد هذا الرأي الرشيد لأن صيغة الأمر صريحة في هذه الآية الكريمة "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" (النور:33) ، هذه الصيغة تدل على الوجوب ما لم توجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب والاستحباب فقط ، ولا قرينة هنا تفيد ذلك ، فيبقى الأمر بالمكاتبة على حاله ، وتصبح واجبةً على السيد إن علم في عبده خيراً - أي دين وخلق وقدرة على الكسب - حسبما قرر الفقهاء .
ومما يؤكد هذا الرأي أن سيرين كان عبدًا لأنس بن مالك ، وطلب منه أن يكاتبه لينال حريته ، لكن" أنس" تباطأ في إجابته ، وعلم عمر بن الخطاب بذلك فضرب أنسا بالدرة – عصا صغيرة – وأمره بأن يكاتب سيرين ليعتقه بعد ذلك . ولو كان قبول المكاتبة إختيارياً للمالك لما ضرب الخليفة أنسًا - وهو الفاروق العادل - وإنما ضربه لرفضه تنفيذ الأمر الإلهي بالمكاتبة إن طلبها العبد .(1/170)
وتكون المكاتبة على أقساط تيسيراً على العبد . ويروى عن علي ابن أبي طالب أن العبد إذا أدى ثلاثة أرباع ما عليه بموجب عقد المكاتبة فإنه يتحرر، لأن الله تعالى أمر السادة أن يضعوا عن العبيد الربع من المبلغ المتفق عليه نظير العتق. بل روي عن علي وشريح أن العبد يصبح حُرًّا إذا أدى قسطاً واحدا من مال المكاتبة ، فإن الحرية لا تتجزأ ، ورأى فريق من العلماء : أن المكاتب يتحرر إذا أدى نصف المتفق عليه . وقال ابن مسعود : إذا أدي الثلث فقط عُتق .(1/171)
قال تعالى : "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" النور:33 . وهذه الآية الكريمة كما قال المفسرون : تُلْزِم السادة بأن يضعوا عن العبيد المكاتبين جزءاً من القدر المتفق على دفعه في المكاتبة لتحريرهم . ويرى فريق من العلماء أن بيت مال المسلمين عليه أن يعين المكاتب بجزء من حصيلة أموال الزكاة لقوله تعالى في بيان مصارف الزكاة : "وفى الرقاب" سورة التوبة:60 ، والأية الأخرى 177 من سورة البقرة. وقد ذهب فريق من العلماء إلى أنها تلزم بإعانة المكاتبين بدفع ما يعجزون عنه من الأقساط . ولنا دليل آخر يؤيد هذا الرأي من قصة مكاتبة سلمان الفارسي رضي الله عنه لمالكه اليهودي ، فقد أعانه الرسول بنفسه الشريفة، وأمر أصحابه بمساعدته، ثم أعطاه قطعة ذهبية من بيت المال ليستكمل دفع ما عليه لمالكه اليهودى - وستأتي القصة في الفصل الأخير – وهذا يقطع بوجوب مساعدة المكاتب على نيل حريته من بيت المال و عموم المسلمين . وثواب هذا عظيم جزيل لمن يفعله ، كما ورد بالحديث الشريف عن الثلاثة الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة ، ومنهم من أعان مكاتباً في رقبته ، أي في الفداء للتحرر من الرق . والقصة أيضاً دليل على وجوب إعانة المكاتب إذا كان مقابل الكتابة هو عمل يؤديه للسيد .. فقد غرس النبي النخلات بيده الشريفة تنفيذاً للاتفاق بين سلمان ومالكه .. وقد يكون المقابل المطلوب لتحرير المكاتب عملاً آخر، ومثال ذلك تحرير بعض أسرى بدر مقابل قيامهم بتعليم عدد من المسلمين القراءة والكتابة . أو أن يشترط السيد على عبيده خدمته بعض الوقت مقابل تحريرهم ، وقد فعل هذا عمر رضي الله عنه في خلافته ، إذ حرر غلمان دار الأمارة ، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده بضع سنين . كما حررت السيدة أم سلمة غلامها "سفينة" ، واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته عليه السلام، ووافق(1/172)
سفينة رضي الله عنه على ذلك، وأكد لها أنه سيخدم الحبيب المصطفى طيلة عمره ولو لم تشترط هى .
وتحفل كتب الفقه بالكثير من الآراء الرائعة التي تظهر عبقرية السلف الصالح، ومنها رأي يقول أن المكاتب قد أصبح حرّاً منذ لحظة الاتفاق على المكاتبة مع سيده، ولو مكث يؤدي أقساط المكاتبة "سنين" ، ويجوز للعبد المكاتب أن يدفع ما عليه جملة واحدة ويتحرر فوراً كذلك. ولا يجوز للسيد أن يرفض الدفع الفوري . ويسمى الفقهاء دفع مقابل المكاتبة فورًا بالقطاعة ، ويتصور الدفع الفورى من العبد كما لو أعانه آخرون تبرعوا له بكل المبلغ المطلوب دفعة واحدة وحدث هذا فى قصة سلمان رضى الله عنه . وأولاد المكاتب أحرار ، وما يتبقى من ماله يكون له ، ولا يجوز للسيد استثناء الجنين الذي في بطن أمه المكاتبة، فهو جزء منها يتحرر معها كما ذكر ابن قدامة في المغني نقلاً عن عدد من الفقهاء . بل ان أولادها الآخرين يتحررون معها طبقاً للرأي الراجح . وللمزيد من التفاصيل والآراء يمكن الإطلاع على المراجع المشار إليها في نهاية هذا الفصل .
26- أم الولد(1/173)
كثرت أكاذيب الخصوم وصياحهم بسبب السماح بالتمتع بالجواري في الإسلام. وتناسى هؤلاء أن معظم الأنبياء والرسل المعروفين قبل الإسلام تمتعوا بملك اليمين، وعلى رأسهم "إبراهيم" الذي أنجب من جاريته "هاجر" ولده "إسماعيل" جد العرب عليهم جميعاً السلام . وستأتي تفاصيل أكثر عند الكلام عن بركات السيدة مارية القبطية في الفصل الأخير . وكذلك تناسى الحاقدون ما يفعله غير المسلمين بالأسيرات في الحروب من إغتصاب جماعي وهتك للأعراض وإهدار للآدمية وإجبار ملايين الضحايا المختطفات من بلدان فقيرة على ممارسة الدعارة في أوربا وأمريكا على النحو الذي أوضحناه في فصول سابقة . وفي مقابل هذا الامتهان لآدمية الإماء لدى الغير، جاء الإسلام فصان كرامتهن وحفظ أعراضهن، فلا يجوز لغير سيدها أن يعاشرها جنسياً- بعد إستبراء رحمها بحيضة - حتى لا تختلط الأنساب وتهدر كرامة الإماء . فإذا زَوَّجها سيدها لآخر فلا يحق للسيد أن يقربها ، وإنما تصبح زوجة كأية حرّة ، فلا يقربها سوى زوجها . وفي حالة عدم تزويجها يكون للسيد أن يجامعها ، وفي ذلك رحمة بها ، إذ هي في حاجة أيضاً لقضاء شهوتها بطريق مشروع ، كما يطعمها سيدها ويكسوها تماما كزوجته، ويحسن معاملتها رحمة بها وتخفيفًا عليها .(1/174)
ولأن القوم لم يكن عندهم وسائل شيطانية للقضاء على النسل – كهذه الأيام النحسات - فقد كان الغالب الأعم أن تحمل الجواري من سادتهن . وهنا تتجلّى عظمة وحكمة التشريع الإلهي . إذ أن هذه المعاشرة تثمر ليس فقط أطفالاً أحراراً مثل آبائهم طبعاً ، وإنما يأتي هؤلاء بالفرج والتحرير لأمهاتهم أيضا . فقد روى عن النبي عليه السلام عندما ولدت "مارية" إبراهيم أنه قال : "أعتقها ولدها" ، أورده ابن سعد في الطبقات مع حديث آخر: "أيما أَمَة ولدت من سيدها فأنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" (وأخرجه ابن ماجه في كتاب العتق والدارمي في البيوع وأحمد في مسنده) . وهكذا تتحرر الجارية التي تنجب من سيدها ولو نزل الجنين ميتاً . بل أكد الفقهاء أنها تصبح أم ولد ولو كان ما في بطنها سقطاً أو نزل منها "مضغة" أو حتى مجرد "علقة" . وهذا يثبت إلى أي مدى كان العلماء يتوسعون فى تحرير الجواري . ولا يجوز بيع أم الولد مطلقاً ولا هبتها ولا رهنها ، وتعتق فور موت سيدها، ولا سبيل للورثة ولا لدائني السيد عليها إن لم يجدوا في التركة ما يكفي لسداد ديونهم. فهي تتحرر لحظة موت والد ابنها بلا حاجة لأي إجراء أو إجازة من أحد . وكثيراً ما كان السادة يحررون أمهات أولادهم فور الولادة تكريماً لأولادهم منهن ، وحتى لا يعاير أحد الجَهَلة أولادهم بأن أمهاتهم لسن من الأحرار . ولمن شاء أن يرجع إلى تفاصيل أحكام أمهات الأولاد في كتب فقهاء السلف الصالح التي لا تخلو من باب كبير عنوانه "أمهات الأولاد" يتناول كافة التفاصيل .
27- الزكاة للتحرير(1/175)
حدد الله تعالى المصارف الثمانية التي تنفق فيها أموال الزكاة في الآية 60 من سورة التوبة بقوله سبحانه : "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" . وقد ذهب فريق من العلماء ومنهم الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والزهري والنخعي إلى أن المقصود بقوله تعالى : "وفي الرقاب" أي إعانة المكاتبين على دفع ما عليهم للسادة نظير عتقهم بالمكاتبة . لكن الرأي الراجح وهو المروي عن ابن عباس ومالك وأحمد بن حنبل وإسحاق ورواية عن الحسن أنه : لا بأس أن تعتق الرقبة- بالكامل - من الزكاة (7)، ويعقّب ابن كثير رضي الله عنه- في تفسيره للآية – بقوله : أي أن الرقاب أعم فتشمل أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا . انتهى . والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلمان طبّق تلك الآية عندما أعان سلمان الفارسي رضي الله عنه بنفسه الشريفة ، ومن بيت المال كذلك، وأعانه الصحابة أيضاً في مكاتبة سيده اليهودي حتى دفع المتفق عليه ونال حريته . وقام بيت مال المسلمين كذلك بشراء رقاب إبتداء - غير مكاتبين - وتحريرها في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، عندما كثرت حصيلة أموال الزكاة، وازدهر الاقتصاد في عهده ، فلم يجد الولاة فقراء ليعطوهم من الزكاة ، وكان المصرف الوحيد المتاح لها هو شراء عشرات الألوف من العبيد وتحريرهم . قال يحي بن سعيد : "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقيا فجمعتها، ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا – فقد أغنى عمر الناس - فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم" (8) . وهكذا نجد أن دور بيت مال المسلمين– خزينة الدولة - يتسع لإعانة المكاتبين بالفعل، وكذلك شراء عبيد لا يستطيعون المكاتبة – لصغرهم أو عجزهم عن العمل كالعجائز والنساء – بل يرى الإمام ابن سيرين رضي(1/176)
الله عنه أنه في حالة قيام أحد الشركاء بعتق نصيبه في العبد، وعجزه عن دفع قيمة حصص باقي الشركاء فيه ، فإنه يجب دفع قيمة حصص هؤلاء من بند "وفي الرقاب" من بيت المال ، وبذلك يتحرر العبد كله . وهو رأي وجيه للغاية, ويفيد خصوصاً في حالة إعسار المعتق، وعجز العبد عن العمل لسداد ثمن حصص باقي السادة المالكين له كالصغار والعَجَزَة والنساء كما أشرنا . وكذلك تتضح أهمية دور بيت المال فى دفع فداء أسرى المسلمين لدى الأعداء في حالات الحروب، أو احتلال بعض الدول والأراضي الإسلامية بواسطة قوى البشر والاستكبار العالمي بزعامة أمريكا وإسرائيل . فيمكن استخدام هذا البند من موارد الميزانية العامة في الدول الإسلامية لدفع كافة تكاليف الإفراج عن الأسرى العراقيين والفلسطينيين والأفغان وغيرهم، وكذلك إعادة تأهيلهم للحياة الاجتماعية من جديد وكفالة سبل العيش الكريم لهم، إذ أن أغلبهم عادة ما يكون قد فقد كل شيء بسبب سنوات الاعتقال الطويلة المريرة.
وهناك كذلك دور بالغ الأهمية يجب أن تلعبه الخزانة العامة في الدول الإسلامية في وقتنا الحاضر لتحرير الرقيق الموجود حتى الآن . ولا داعي للعجب، فكما عرضنا في الفصل الرابع "الاتجار بالبشر" ، مازال الملايين من البشر يعانون من رق حقيقي في القرن الحادي والعشرين ، ونعني الملايين من الفتيات اللاتى اختطفتهن - وما زالت تفعل - عصابات الما?يا الدولية ، وقامت بترحيلهن إلى دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأمريكا الجنوبية لتسخيرهن إجبارياً في الدعارة والشذوذ الجنسي .(1/177)
ونطالب كل الحكومات والهيئات الإسلامية بالتحرك فوراً على كل المستويات وبكل السبل والوسائل المتاحة لتحرير "سبايانا" المسكينات من قبضة المجرمين في الغرب، وإعادتهن إلى بلادهن الأصلية مهما تكلف الأمر من جهود ونفقات ، فتلك مسئولية بيت المال - الخزانة العامة - وهي من صميم إختصاص الحكام طبقاً لهذه الآية "وفي الرقاب" وغيرها .. وإذا لم تقم الحكومات بحماية رعاياها، وإنقاذ مئات الألوف ممن سقطن فرائس بين مخالب وحوش الغرب المسعورة ، فما جدوى وجود الحكومات إذن ؟ !!
ونذكر الجميع أخيراً بمقولة الفاروق الخالدة : والله لو أن بغلة في العراق عثرت – تعثرت - لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة ، يقول هذا عن بغلة ، فما بالك بملايين الأنفس المُعذَّبة فى الأرض ؟!! .
المراجع
للمزيد من التفاصيل والأوحكام والآراء حول مسائل هذا الفصل أنظر المراجع الآتية :
1- عباس محمود العقاد – حقائق الإسلام وأباطيل خصومه – طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب – فصل الرق .
2- تفسير الآية 92 من سورة النساء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأحكام القراّن للجصّاص ، وتفسير ابن كثير ، والبغوى ، والشوكانى ، و النسفي ، وابن جرير الطبري، وكذلك تفسير الآية 93 من سورة النساء، والآية 3 من سورة المجادلة، والآيتين الأوليين من سورة التحريم، والآية 89 من سورة المائدة ،والآية 33 من سورة النور ،والآية 177 من سورة البقرة، والآية 60 من سورة التوبة بالتفاسير المذكورة .
3- الأحاديث الواردة فى هذا الفصل نقلاً عن المراجع الآتية : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ،وتيسير صحيح البخاري للدكتور موسى شاهين لاشين ، و صحيح مسلم بشرح النووي ،و سنن أبي داود ، والأم للشافعى ، ومصنف ابن أبى شيبة ، والترمذي ، وابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وابن خزيمة ، وتنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك لجلال الدين السيوطي .(1/178)
4- المغني لابن قدامة المقدسي ، والمبسوط للسرخسي، وسبل السلام للصنعاني، والمحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي ، والعدة في شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي ، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد الأندلسي . وتراجع في كل منها أبواب أو كتب "العتق" و "وأمهات الأولاد" و "والتدبير" و "والمكاتبة" أو "الكتابة" أو "المكاتب" وكذلك كتب "الكفارات" وكتاب "اللقيط" بذات المراجع ، ففيها تفاصيل وأحكام وآراء أخرى لم يتيسر إثباتها هنا حرصاً على عدم الإطالة أو لأنها آراء مرجوحة لا نعتد بها.
5- موسوعة فقه عبد الله بن عمر - الدكتور محمد رواس قلعجي - دار النفائس - بيروت سنة 1986 م - ص 379 – 380 .
6- موسوعة فقه سفيان الثوري - الدكتور محمد رواس قلعجي - دار النفائس - بيروت - الطبعة الثانية 1997 م .
7- موسوعة فقه عبد الله بن عباس - دار النفائس - بيروت .
8- مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزى ، وسيرة عمر بن عبد العزيز فى البداية والنهاية ، وحلية الأولياء لأبى نعيم ، وسير أعلام النبلاء للذهبى ، وصفة الصفوة ، وتاريخ الأمم والممالك للطبرى .
الفصل الحادى عشر
فَك رقبة
آية حكيمة خالدة مكونة من كلمتين فقط حَرَّر الله تعالى بها عشرات الملايين من الأنفس على مدار 14 قرناً من الزمان . كلمتان فقط: "فك رقبة" - فى سورة البلد الآية:13- هما دستور الحرية والإعلان الإلهى لعتق المعذبين فى الأرض قبل الإسلام .. ولا ندرى كيف لا يخجل الزاعمون أن الإسلام يؤيد الرق من أنفسهم ، رغم وجود كل تلك النصوص الصريحة فى القرآن عن "تحرير رقبة" و"فك رقبة" ؟!! والمراد هنا العتق الاختيارى تقرباً إلى الله تعالى .أما حالات التحرير الوجوبى فقد سبق الكلام عنها فى الفصل السابق.(1/179)
يؤكد المفسرون(1) تعليقاً على تلك الآية الخالدة التى جاءت فى سياق قوله تعالى : "فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة" (البلد : 11-13) أن اجتياز العقبة التى هى أهوال يوم القيامة – أو جهنم أو جبل فى جهنم حسب رأى آخرين– لا يكون إلا بالأعمال الصالحة فى الدنيا ، وعلى رأسها "فك رقبة" أى تخليص نفس من الرق ، إما بالعتق لها كلّيا بأن يحرّر السيد رقيقه بلا مقابل ، أو أن يشترى رقبة فيعتقها، أو بإعانة مكاتب على دفع المستحق لمالكه نظير تحريره (2).
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه إلى أن العتق أفضل من الصدقة ، مستدلاً بهذه الآية الكريمة التى جاء ذكر فك الرقبة فيها قبل باقى الحسنات الأخرى مثل "أو إطعام فى يوم ذى مسغبة" (البلد : 14) . وهو رأى عبقرى يدل على سعة أفق الإمام وإدراكه للقيمة العظمى للحرية فى الإسلام ، حتى أن الله تعالى قدمها على إطعام الفقراء والمساكين بل والأيتام من ذوى الأرحام .. وأورد الإمام القرطبى رضى الله عنه فى تفسير الآية أن رجلاً سأل الشّّعْبى : أين يضع فضل النفقة ، فى ذى قرابة أم يعتق رقبة ؟ فقال الشّعبى : عتق الرقبة أفضل ، مستدلاً بالحديث الشريف "من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" . وقال القرطبى رضى الله عنه : الفك : حل القيد، والرق قيد ، وسُمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط فى رقبته ، وسُمى عتقها فكاً مثل فك الأسير من قيوده" . وأورد القرطبى كذلك حديثاً عن عقبة بن عامر الجُهنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار" . والأحاديث الشريفة فى العتق وفضله كثيرة ومتواترة فى كل كتب السُنِّة والصحيحين . كما أنه لا يخلو كتاب منها ولا من كتب الفقهاء القدامى من باب أو كتاب كبير يُسمى "العتق" .(1/180)
وقد سأل رجل النبى عليه السلام عن عمل يُقرِّبه إلى الجنة ويباعده عن النار فأرشده قائلاً : "أعتق النسمة . وفك الرقبة" فقال الرجل : أو ليسا واحدا ؟ فأجابه عليه السلام: "لا . عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها"(3).
ومن الأحاديث الواردة فى فضل العتق ما رواه الشيخان البخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أيَّما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" وتمامه فى البخارى : "حتى فَرْجه بفَرْجه" (4).
وقال الصنعانى فى سبل السلام : عتق الكافر يصح أيضاً ، وفى تقييد الرقبة المعتقة بالإسلام دليل على أن هذه الفضيلة لا تُنال إلا بعتق المسلمة ، وإن كان فى عتق الرقبة الكافرة فضل ، لكنه لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر . انتهى (5) .
وروى أبو داود "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار". ويرى بعض الفقهاء أن عتق الذَكَرِ أفضل ، لكننا نرى صواب رأى فريق آخر ذهب إلى أن عتق الأنثى أفضل ، لأن ولدها كلهم يكونوا أحراراً سواءً تَزَوَّجت بِحرًّ أو عبدٍ ، فالأولاد يتبعون الأم فى الحرية ، وبذلك تكون دائرة التحرير أوسع نَطاقاً وأكثر عدداً . ونحن نرى كذلك أن الرق أشد وأقسى على الجارية ، لضعف المرأة ورقة حالها ، فتخليصها من الرق أولى عندنا من الذكر الذى يمكنه التحمل أكثر من أخته إلى أن يُيَسِّر الله له سبيلاً إلى التحرير بدوره بالمكاتبة أو غيرها . وروى البخارى ومسلم أيضاً عن أبى ذر رضى الله عنه : سألت النبى صلى الله عليه وسلم: أى العمل أفضل ؟ قال : "إيمان بالله وجهاد فى سبيله" قلت: فأى الرقاب أفضل ؟ قال : "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها" متفق عليه (6) .(1/181)
قال النووى : محل الحديث فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة ، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً فأراد أن يشترى بها رقاباً يعتقها ، فوجد رقبة بألف واثنتين بألف درهم ، فتحرير الإثنتين أفضل من الواحدة . ويبدو لنا بوضوح سعة أفق الإمام النووى رضى الله عنه وإدراكه الصائب لفلسفة التحرير فى الإسلام ، وأن المنهج هو التوسيع وزيادة أعداد المعتقين بقدر الإمكان . ولكن الصنعانى يستدرك على ما قاله النووى فيقول : الأولى ألا يؤخذ هذا كقاعدة كلية ، بل يختلف بإختلاف الأشخاص ، فإن كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به أفضل ، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات ، فيكون الضابط إعتبار الأكثر نفعاً للمسلمين . ومعنى "أنفسها عند أهلها" أى ما كان سرورهم بها أشد ، وهو الموافق لقوله تعالى : "لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران: 92) . انتهى (7) .
وروى البخارى عن أبى موسى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له جارية فَعَلَّمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران" . ويقول الدكتور موسى شاهين لاشين : له أجر التربية والإحسان وأجر زواجها من الحرّ ورفع مكانتها (8) .
تعليق
هذا الحديث الشريف فى رأينا يظهر بوضوح حرص الإسلام على مصير الجوارى حتى بعد التحرير ، كما أنه يحث السادة على تعليم الرقيق وحسن تربيتهم بالضبط كما يفعلون مع أبنائهم وبناتهم الذين هم من أصلابهم . فعليهم أن يحصّّنوا الرقيق بكل العلوم النافعة والأخلاق الحميدة ، ثم لا يترك الجارية بعد عتقها للضياع فى المجتمع ، وقد لا يكون لها مكان تذهب إليه أصلاً سوى بيت السيد السابق .. وحيث أنها صارت أجنبية لا تحل له بعد تحريرها ، فلا سبيل سوى أن يتزوّجها هو أو أحد أقاربه أو معارفه من الأحرار الصالحين .(1/182)
وقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم جويرية وصفية وريحانة وتَزَوَّجَهن، فضرب بذلك المثل والقدوة لغيره من المسلمين . كما أعتق حاضنته أم أيمن وزَوَّجَهَا مولاه زيد بن حارثة كما سيأتى فى الفصل الأخير . ومن ذلك نلاحظ كيف يقضى المنهج العظيم تدريجياً على آثار الرق البغيض فى المجتمع . فإذا تحرّر الرقيق ثم اختلط بالأحرار عن طريق الزواج والوَلاَء الذى هو كالنسب – قرابة الدم – فلا تبقى هناك أية فروق بين الفريقين ، وخلال جيل أو اثنين فقط تتلاشى تماماً آثار الرق ، ويصبح مجرد ذكرى غابرة لا يهتم بها أحد .
التوسع فى إجازة العتق
وكذلك نلاحظ أن فقهائنا العظماء قد توسعوا فى قبول تصرف العتق ، لشدة الحرص على توسيع نطاق الحرية فى المجتمع . ومن ذلك أنهم أجازوا للصبى الذى عمره عشر سنوات فقط أن يعتق عبده أو جاريته . كما أجازوا للبنت المالكة أن تعتق عبدًا أو جارية وهى فى سن التاسعة فقط . بل يذهب الإمام مالك رضى الله عنه إلى أبعد مدى ، فيُجيز العتق حتى ولو كان المالك قد نطق بكلمة التحرير على سبيل الخطأ ، ويُجيز عتق الناسى . وكما رأينا قرر الفقهاء أن عتق السكران يصح عقاباً له من ناحية وحرصاً على حق المملوك فى الحرية من ناحية أخرى ، و عتق الهازل يكون سارى المفعول ، وهذا كله يأتى تغليباً لمصلحة المماليك فى الحصول على الحرية بأية وسيلة ولأى سبب ممكن .
امتداد العتق(1/183)
هناك مبدأ عظيم يُعبَّر عنه الفقهاء بقولهم "سراية العتق" أى امتداده بقوة التشريع الإسلامى من الجزء إلى الكل والعكس ، ومن الأصل إلى الفرع والعكس أيضاً . كما يقرون أيضاً أن العتق لا يتجزأ ولا يتبعض . فكما رأينا إذ تحررت الأم يتحرر جنينها ومن ولدتهم بعد تحررها ، وإذا أنجبت الجارية من سيدها – ولو كان سقطاً – فإنها تتحرر بنص الحديث "أعتقها ولدها". وأيضا يقرر الإسلام أنه إذا تحرر جزء من العبد – أو الجارية – فإنه يتحرر كله بقوة القانون . روى أبو داود والطيالسى أن رجلاً أعتق شقصاً – نصيباً - له من غلام ، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال :"ليس لله شريك" فأعتقه كله (9) . والمعنى أنه عليه السلام قضى بتحرير العبد كله إذا كان سيده هو المالك الوحيد له وأعتق منه جزءاً، لأن العتق يسرى إلى كل العبد فيتحرر جميعه . وقد توسع العلماء رضى الله عنهم فى ذلك ، حتى ذهب الحسن البصرى وغيره إلى أنه إذا أعتق المالك شَعْرَةً واحدةً أو إصبعاً واحداً من مملوكه فقد تحرّر كله فوراً .. وعتق الجنين هو عتق للأم كلها معه ولو لم يقصد المالك ذلك، لأن الجنين جزء منها ، وعتق الجزء يسرى إلى الكل كما رأينا .(1/184)
وإذا كان العبد مشتركاً بين عدد من المُلاَّك وأعتق أحدهم نصيبه فإن العبد يتحرّر فوراً ، وكل ما هنالك أن من أعتقه يضمن لشركائه قيمة نصيب كل منهم إذا كان غنياً . أما إذا كان معسراً فإن العبد المحرّر يكون مطلوباً منه أن يسعى ويعمل لتسديد حقوق باقى مالكيه إن لم يعتقوه هم أيضاً طواعية (10) . والأحاديث فى ذلك كثيرة عند البخارى ومسلم وأبو داود وغيرهم . روى البخارى أنه صلى الله عليه وسلم قال :"من أعتق نصيباً – أو شقيصاً – فى مملوك فخلاصه عليه فى ماله إن كان له مال ، وإلا قوِّم عليه فأستُسعى به غير مشقوق عليه". ويقول الدكتور موسى شاهين لاشين شرحاً لذلك : وفى حالة عدم قدرة الشريك الذى أعتق على دفع كامل قيمة العبد ، فعلى العبد أن يسعى لتحرير نفسه بالعمل ، وتقسيط ما عليه لباقى الشركاء دون تكبيده مشقة (11) . ونحن نرى أنه فى حالة عجز العبد عن العمل لتسديد حقوق باقى الشركاء – كما لو كان مريضا أو صغيراً أو جارية – فإنه يمكن الأخذ بالرأى الوجيه للإمام ابن سيرين الذى يلزم بيت مال المسلمين بدفع باقى قيمة العبد لباقى الشركاء ، والمهم أن العبد قد تحرر كله هنا فى جميع الحالات.
أئمة التحرير
كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة فى العتق سواء فى الجاهلية أو فى الإسلام .. فقد أعتق كل من وصل إلى يده الشريفة من عبيد كما سيأتى فى الفصل الأخير .(1/185)
وتبعه أبو بكر رضى الله عنه ، فقد أعتق بمفرده ألفين من الرقيق على رأسهم بلال بن رباح ، فكان عمر بن الخطاب يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، رضى الله عنهم أجمعين . وكان أبو قحافة والد أبى بكر لم يُسلم بعد فى مكة ، فكان يقول لابنه: إنى أراك تعتق ضعافاً، فلو أعتقت عبيداً أقوياء يمنعوك – يحمونك من أذى الكفار – فكان أبو بكر يرد عليه : يا أبت لو كنت أعتقهم للدنيا لكان ما تقول خيراً ، إنما أعتقهم لله عزّ وجل . ولم يسمع رضى الله عنه بأى عبد مسلم يُعذِّبه سيده ليترك الإسلام إلا سعى واشتراه وأعتقه لله – وكذلك أعتق عمر رضى الله عنه وبنوه آلافاً من العبيد (12) . وبلغ عدد من حررهم ابنه عبد الله بن عمر وحده أكثر من ألفى عبد وجارية . وله فى ذلك مواقف مشهودة . فقد عرض عليه عبد الله بن جعفر رضى الله عنهما عشرة آلاف درهم ليبيع له غلامه "نافع" الفقيه المشهور ، فقال عبد الله بن عمر: أو خيراً من ذلك ؟ هو حرٌ لوجه الله تعالى (13) . واشترى غلاماً بأربعين ألفاً وأعتقه ، فقال له الغلام : يا مولاى حرّرتنى فهب لى شيئاً أعيش به ، فأعطاه أربعين ألفاً أخرى (14) . وكان رضى الله عنه يحب أن يحرّر العبيد الصالحين . مَرّ يوماً بغلام يرعى غنماً لسيده ، فأراد أن يختبره فطلب منه أن يذبح شاة ، فرفض الغلام لأن سيده ليس موجوداً ، فقال له ابن عمر : قل له أكلها الذئب، فصاح الغلام الأمين مستنكراً قائلاً للصحابى الجليل : اتق الله . فابتسم ابن عمر سعيداً بأمانة الصبى ، واشتراه من سيده وأعتقه ، كما اشترى الغنم ووهبها له ليعيش منها (15) . وقد عرف عبيد ابن عمر ذلك فيه ، فكانوا يطيلون الصلاة فى المسجد حتى يراهم فيسألهم : لمن صليتم هذه الصلاة ؟ فيجيبون : لله ، فيقول لهم رضى الله عنه : فأنتم أحرار لمن صليتم له ، فيقول له أصحابه : يا أبا عبد الرحمن إنهم يخدعونك ، فيرد رضى الله عنه بقولته الرائعة : ما خدعنا أحد بالله إلا(1/186)
انخدعنا له (16) . وكان يحب جارية له اسمها رميثة فحرّرها لله ، ثم زوّجها مولاه نافع عملاً بقوله تعالى : "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران:92) .
وأعتق ذو الكلاع الحميرى ثمانية آلاف نفس فى يوم واحد فقط . وأعتق العباس بن عبد المطلب سبعين عبداً وجارية كما روى الحاكم .
أما على بن عبد طالب وبنوه فقد أعتقوا آلافاً مؤلفة من الرقيق ابتغاء مرضاة الله تعالى . وكان على يقول : إنى استحى أن أسترق من يوحّد الله . ويكفى أن حفيده على بن الحسين اشتهر بلقب "محرّر العبيد" لكثرة من أعتقهم . وهو صاحب القصة الشهيرة عندما كانت جارية تصب عليه ماء الوضوء، فوقع الإناء من يدها على رأسه فجرحه وأسال دمه ، فنظر إليها غاضباً فقالت له : سيدى إن الله تعالى يقول : "والكاظمين الغيظ" فأجاب : قد كظمت غيظى ، قالت : ويقول تعالى : "والعافين عن الناس" قال : قد عفوت عنك ، قالت : ويقول سبحانه : "والله يحب المحسنين" (آل عمران : 134) ، فقال عليه السلام : اذهبى فأنت حُرّة لوجه الله . وأما عثمان بن عفان رضى الله عنه فقد كان من عادته أن يعتق فى كل يوم جمعة عبداً أو جارية ، احتفالاً باليوم المبارك من كل أسبوع . وفى اليوم الذى استشهد فيه حرّر عشرين عبداً كانوا هم كل من تبقى لديه من الرقيق .(1/187)
وأعتق حكيم بن حزام رضى الله عنه مائة رقبة فى الجاهلية قبل إسلامه ، ثم أعتق مائة رقبة أخرى بعد ما أسلم ، وعندما سأل النبى عما فعله من عتق قبل الإسلام أجابه صلى الله عليه وسلم : "أسلمت على ما سلف لك من خير" (17) . ويذكر التاريخ بكل فخر أن الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قد أعتق وحده من ماله الخاص ثلاثين ألفاً من الرقيق طوال حياته ، وهو رقم هائل لم يحرر نصفه ولا ثلثه رجل واحد بمفرده فى أية أمة أخرى من قبل ولا من بعد . وتكفى مقارنة بسيطة بين ما فعله الصحابى الجليل "ابن عوف" ، و العار الذى لحق بمؤسس الولايات المتحدة الأمريكية "جورج واشنطن" الذى مات وعنده فى مزرعته الخاصة ثلاثمائة عبد لم يحرّر واحداً منهم قط طوال حياته ، وهو الذى تزعم المطالبة بحرية أمريكا واستقلالها عن الإنجليز !!!.
وكان التابعون ومن بعدهم رضى الله عنهم حريصون كذلك على العتق باعتباره من أعظم القربات . فكان أبو حاتم عبيد الله بن أبى بكرة الثقفى يُعْتق فى كل يوم عيد مائة عبد وجارية لوجه الله . وأعتق صلاح الدين الأيوبى وقُوّاد جيشه عشرات الألوف من النصارى الذين وقعوا فى الأسر بعد فتح القدس . وكان الصليبيون قد ذبحوا سبعين ألفًا من المسلمين فور اجتياحهم للقدس قبل ذلك . وهذا هو الفارق بين رحمة وسماحة الإسلام، ووحشية وجبروت الآخرين .
مولى القوم من أنفسهم(1/188)
لا يكتفى الإسلام بمجرد تحرير العبيد والجوارى ، وتركهم هكذا بلا عوائل أو إنتماء أو هوية . فالعبد فى هذه الحالة يكون فى مَسيس الحاجة إلى دفء الأسرة والقبيلة ، خاصة إذا كان قد تم جلبه من بلاد بعيدة فى صغره – كما هو الحال فى أغلب العبيد – وانقطعت الروابط بينه وبين قبيلته الأصلية . ولهذا أوجد الإسلام رابطة حميمة تشابه تماماً رابطة الدم – النسب – بين السيد الذى حَرَّر عبده والعبد الذى نال حريته تسمى "الولاء" . وكما هو واضح من الاسم فإنه يُفيد التراحم والتناصر والترابط ، أو كما نقول فى عصرنا هذا : "التضامن" و "التكافل الاجتماعى" . وأحد مظاهره أن السيد المُعْتق يرث عبده المُحْرَر إن لم يكن له وارث. ورابطة الولاء هى رابطة سامية ، لذلك لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا نقل ملكيتها ولا المتاجرة بها فى أية حالة ولا بأية صورة من الصور . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "الولاء لمن أعتق" رواه البخارى وغيره فى حديث الجارية بريرة المشهور والتى اشترتها السيدة عائشة وأعتقتها ، فمن أعتق غلاماً يثبت له الولاء معه (18) ، وكما لا يجوز بيع قرابة الدم فإنه لايجوز بيع الولاء . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "الولاء لُحمة كَلُحمة النسب" وعند الشافعى بزيادة "لا يُباع ولا يُوهب" (19) . ويشرح الصنعانى الحديث بقوله : "معنى تشبيهه بلُحمة النسب أنه يجرى الولاء مجرى النسب فى الميراث ، كما تخالط اللُحمة سدى الثوب حتى يصيران كالشيئ الواحد . والحديث دليل على عدم صحة بيع الولاء ولا هبته ، فإن ذلك أمر معنوى كالنسب لا يتأتى انتقاله كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالهما ، وكانوا فى الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره ، فنهى الشرع عن ذلك ، وعليه جماهير العلماء" انتهى (20) ولا تقتصر رابطة الولاء على حق السيد المُعْتق فى أن يرث عبده السابق ، بل يصبح العبد المحرّر واحداً من السادة الذين كانوا يملكونه ، فيتزوج منهم ويخالطهم ،(1/189)
بل يسودهم إن كانت لديه المؤهلات الشخصية لذلك . يروى البخارى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مولى القوم من أنفسهم" (21) . وهكذا يبلغ الإسلام بالعبيد المحررين أعلى مقامات التكريم والمساواة المطلقة بالسادة السابقين . فالعبد بعد تحريره يصبح واحداً من أعضاء القبيلة التى ينتمى إليها سيده "من أنفسهم" كما عَبَّر الصادق الأمين الذى لا ينطق إلا بتشريع من ربه .. فهل هناك مزيد يمكن أن يحصل عليه العبيد ؟
المراجع
1- الجامع لأحكام القرآن – تفسير القرطبى – سورة البلد تفسير الآية 13 .
2- تفسير الآية 13 من سورة البلد "معالم التنزيل" للبغوى ، وأنظر أيضاً تفسيرها لدى ابن كثير ، وفى "فتح القدير" للشوكانى ، وعند الطبرى، والنسفى ، و تفسير البيضاوى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" .
3- رواه الإمام أحمد فى مسنده ، والذهبى ، والمنذرى فى الترغيب والترهيب (3/84) ، وابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (5/174) والهيثمى فى مجمع الزوائد .
4- فتح البارى لابن حجر كتاب العتق ، وانظر صحيح مسلم بشرح النووى .
5- سبل السلام – الصنعانى- ط دار الكتب العلمية بيروت – كتاب العتق صـ826
6- فتح البارى لابن حجر – صحيح مسلم بشرح النووى .
7- سبل السلام – المرجع السابق – صـ827 .
8- صحيح البخارى 2544 – وانظر تعليق الدكتور لاشين فى تيسير صحيح البخارى ( فى الهامش) .
9- سنن أبى داود ، والحديث رواه أيضا الإمام الطيالسى رضى الله عنه .
10- انظر أحكام العتق فى باب العتق فى : المغنى لابن قدامة المقدسى ، "والمحلى بالآثار" لابن حزم ، والعدة فى شرح العمدة لبهاء الدين المقدسى ، و"سُبل السلام" للصنعانى ، و"بداية المُجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد ، و"المبسوط" للإمام السرخسى .
11- تيسير صحيح البخارى جزء 2 صـ107 هامش رقم 7 .(1/190)
12- انظر سير هؤلاء العظماء فى البداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبى ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، وأسد الغابة لابن الأثير ، وحلية الأولياء لأبى نعيم وغيرها من كتب السير والتراجم .
13- البداية والنهاية 9/4 – صفة الصفوة 1/517 .
14- البداية والنهاية لابن كثير 9/4 .
15- الإصابة 2/349 .
16- وفيات الأعيان 3/30- البداية والنهاية 9/4 .
17- صحيح البخارى رقم 2538 .
18- حديث بُريرة التى أعتقتها السيدة عائشة فى الصحيحين كما رواه أغلب أصحاب السنن .
19- رواه البخارى ومسلم وصححه ابن حبان والحاكم والترمذى .
20- سبل السلام – الصنعانى- صـ831-832 .
21- فتح البارى بشرح صحيح البخارى ، كما رواه عدد كبير من أصحاب السنن، وأنظر أيضاً تيسير صحيح البخارى للدكتور موسى شاهين لاشين .
الفصل الثاني عشر
الرسول محرر العبيد
انطلقت "ثويبة" جارية أبي لهب إلى سيدها تبشره بمولد ابن أخيه "محمد" صلى الله عليه وسلم . طغت السعادة على قلب العم بمولد اليتيم ليكون عوضا لبني هاشم عن موت أبيه عبد الله قبل ذلك بأسابيع . و لم يجد "أبو لهب" ما يكافئ به "ثويبة" على تلك البشرى السعيدة سوى أن يُعْتقها (1) .
وهكذا كان مجرد مولده الشريف سببا في تحرير تلك السيدة التي أرضعته فترة قبل أن تتولى السيدة "حليمة السعدية" تلك المهمة النبيلة .. وتلك إشارة واضحة إلى أن المولد الشريف كان إيذانا ببدء عملية "التحرير" الكبرى للبشر – كل البشر– من العبادة والعبودية لغير الله الواحد القهار . وقد ورث صلى الله عليه وسلم عن أبيه جارية واحدة هي حاضنته "أم أيمن" (2) . وفور بلوغه مبلغ الرجال أعتقها عليه السلام ، وزوّجها مولاه زيد بن حارثة الذي أعتقه هو الآخر كما سيأتي . وكان يحسن دوما إلى ثويبة وأم أيمن ، ويقول عن الأخيرة : "هذه بقية أهل بيتي" .(1/191)
وكانت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها ترسل الطعام والشراب إلى "ثويبة" مرضعة زوجها . كما كانت أم أيمن تحتد أحيانا في حديثها معه - بما لها عليه من حق لحضانتها إياه من قبل - فما كان عليه السلام يزيد على الإبتسام .. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من سرّه أن يتزوّج إمرأة من أهل الجنة فليتزوّج أم أيمن" ، فتزوّجها زيد بن حارثة ، وولدت له أسامة بن زيد حبيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن : "يا أمّه" (3) .. أي تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي الله عنها ؟ لقد رفعها النبي عليه السلام إلى مقام أمه، فهل هناك من هي أرفع منزلة من أم سيد ولد آدم أجمعين ؟!! . وهناك أيضا كرامة من الله للسيدة أم أيمن رضي الله عنها . فعندما هاجرت أصابها عطش شديد في الطريق ولم يكن معها ماء ، وكانت صائمة ، فنزل عليها من السماء دلو أبيض ممتلئ بالماء فشربت منه حتى رويت .. وكانت تقول : ما أصابني بعد ذلك عطش – بسبب الماء الذي نزل عليها من السماء – ولقد كانت تصوم في الأيام الشديدة الحرّ فما تشعر بعطش بعد تلك الشربة المباركة . والقصة أوردها ابن سعد في ترجمة أم أيمن . وكان الرسول يداعبها ، قالت له يوما : احملني – أي أعطني ناقة أركبها وأتنقل عليها ، فرد عليه السلام : "أحملك على ولد الناقة" قالت : يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريده . قال : "لا أحملك إلا على ولد الناقة" . علق ابن سعد قائلا : "يعني أنه كان يمازحها ، وكان النبي عليه السلام يمزح ولا يقول إلا حقا ، والإبل كلها ولد النوق" . انتهى .(1/192)
وكان النبي يرضيها كما شاءت ، ومن ذلك أنه بعد فتح بني قريظة والنضير ، رد النبي عليه السلام على المسلمين ما كانوا قد تبرعوا به للدعوة وأضياف النبي من نخيل وإبل ، فقد جاءت الغنائم ببديل كاف . وكانت لأنس بن مالك نخلات تبرع بها ، فجاء إلى النبي ليستردها كما استرد الناس ، وكان النبي عليه السلام قد أعطاها لأم أيمن ، فرفضت ردها ، وأمسكت بخناق أنس بن مالك ، والرسول يبتسم قائلا لها : "لك كذا" ، فترد عليه "كلا والله" ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم يزيدها حتى أعطاها عشرة أمثال نخلات أنس بن مالك لتتركها له . ولو حدث مثل هذا في أية أُمَّة أخرى للقيت الجارية التي تتجرأ هكذا على سيدها – مصرعها في التو واللحظة ، لكنه النبي الذي أرسله ربه "رحمة للعالمين" (الأنبياء:107) . وعندما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم ربه اشتد بكاء " أم أيمن " وسألوها عن السبب فقالت : والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت ، ولكني إنما أبكي على الوحي إذ انقطع عنا من السماء (4) .. ولذات السبب بكت "أم أيمن" عند استشهاد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلة : اليوم وَهَى – ضعف – الإسلام .. يا لها من سيدة عظيمة حكيمة فقهت ما عجز عن فهمه كثير من الرجال أمثال هؤلاء الذين يتطاولون على الإسلام بالداخل والخارج ، ولا يدركون كيف أعلى الإسلام مكانة العبيد والجواري أمثال "أم أيمن" رضي الله عنها .(1/193)
ويذكر الإمام ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ريحانة بنت زيد وتزوجها ثم طلقها تطليقة . والمهم هنا ما رواه الواقدي وشرف الدين الدمياطي من أن الرسول عليه السلام قد أعتقها بدورها . ثم يضيف ابن القيم أنه عليه السلام أعتق أبا رافع ، وأسلم ، وثوبان ، وأبو كبشة سليم ، وشقران واسمه صالح ، ورباح، ويسار، ومدعم، وكركرة وهم من النوبيين . كما أعتق سفينة بن فروخ واسمه مهران، وأنجشة الحادي ، وأعتق أنيسة وكنيته أبو مشروح ، وأفلح ، وعبيدة، وطهمان قيل إن اسمه كيسان ، وذكوان ، ومهران ، ومروان ، وكذلك حنين، وسندر، وفضالة، ومأبور، وأبو واقد، وواقد، وقسام، وأبو عسيب، وأبو مويهبة رضي الله عن الجميع . وكذلك أعتق النبي سلمى أم رافع، وميمونة بنت سعد، وخضيرة، ورضوى، وريشة، وأم ضمير، وميمونة بنت عسيب رضي الله عنهن . وذكر الصنعاني في "سبل السلام"- كتاب العتق- نقلا عن صاحب كتاب "النجم الوهاج" أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ثلاثة وستين مملوكا بعدد سنوات عمره الشريف . وأعتقت زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها وحدها سبعة وستين عبدا وجارية بعدد سنوات عمرها أيضا . و أعتقت السيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه السلام عشرات من العبيد والجواري قبل وبعد الإسلام رضي الله عنها . وأعتقت السيدة أم سلمة عشرات العبيد رضي الله عنها . والثابت من حديث البخاري عن جويرية أنه عليه السلام: "لم يترك عند وفاته درهمًا ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية". وهذا وحده كاف للرد على أولئك الحاقدين الذين لا يفهمون – أو يتجاهلون عمدا – كل تلك المواقف التحريرية الخالدة في السيرة العطرة .
حبيب الله ورسوله
بل إن قصة الصحابي الجليل " زيد بن حارثة " رضي الله عنها هي وحدها دليل قاطع على منهج التحرير الإسلامي ، والمكانة السامية التي رفع الله إليها أولئك العبيد الذين كانوا قبل الإسلام لا يُعَدّون شيئًا مذكورًا .(1/194)
لقد تعرض زيد رضي الله عنه في صغره للخطف ، ثم باعه القراصنة في سوق "عكاظ " بمكة قبل الإسلام . واشتراه حكيم بن حزام ثم وهبه لعمته السيدة خديجة رضي الله عن الجميع ، ثم وهبته بدورها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فأعتقه . وشاء القدر أن يستدل والد "زيد" وعمه على مكانه بمكة ، فجاءا إلى النبي عليه السلام ، وعرضا عليه ما يشاء من المال مقابل إعادة ولدهما إليهما . ولكن الكريم بن الكرام عليه السلام رفض المال ، وعرض عليهما ما هو أنبل وأكرم ، وهو أن يتم تخيير " زيد " بين البقاء عند النبي أو العودة مع أبيه وعمه إلى موطنه الأصلي ، فإن رغب في الرحيل مع أبيه وعمه فهو لهما بلا أي مقابل ، وإن اختار البقاء مع النبي فله ذلك .. هل يفعل هذا بشر غيره عليه الصلاة والسلام ؟! وفوجئ الأب والعم "يزيد" يرفض العودة معهما إلى بلده وأمواله الطائلة وقبيلته الكبيرة ، ويؤثر البقاء مع مولاه محمد بن عبد الله لما رأى من نبله وكرمه وحنانه الذي يفوق حنان أبويه !! وهنا ردّ النبي عليه السلام التحية بأفضل منها ، فأعلن على الملأ أن زيدًا ابنه يرث كلاهما الآخر . كان هذا قبل الإسلام وقبل تحريم التبني . وهنا رضي والد زيد وعمه ، واطمأنا إلى حسن مقام ولدهما عند النبي الكريم فانصرفا سعيدين . فهل عامل أحد عبدًا بأنبل وأكرم من هذا ؟ وهل فعلها أحد غير سيد الأولين والآخرين من قبل أو من بعد ؟! لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بعتق زيد وتبنيه بل زوّجه حاضنته "أم أيمن" التي كان قد أعتقها بدورها .. ثم كانت الخطوة الأخرى الكبرى لتحطيم كل الفوارق بين البشر ، وتطبيق المساواة بين الأسياد والعبيد على أرض الواقع . فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم – بعد الإسلام – ابنة عمته الحسيبة النسيبة زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة .. وكان القوم ما زالوا حديثى عهد بالجاهلية وفخرها بالأحساب والأنساب ، فوجدوا في أنفسهم ضيقًا شديدًا وحرجًا بالغًا من(1/195)
هذه الزيجة التي اعتبروها غير متكافئة ، بل تلحق بهم العار، طبقا لما كان عليه العرب في الجاهلية من أعراف وتقاليد .
وهكذا رفضت " زينب " وأهلها الأسياد بنو الأسياد مصاهرة عبد سابق ، فأنزل الله تعالى آية خالدة : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا" (الأحزاب : 36) . قال جمهور المفسرين – فيما يرويه ابن كثير والقرطبى والطبرى وغيرهم – أن هذه الآية نزلت بسبب رفض زينب وقومها تزويجها من زيد بن حارثة ، فلما نزلت الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها : " لا أعصي الله ورسوله قد أنكحته نفسي" ، وقال أخوها عبد الله بن جحش رضي الله عنه: "يا رسول الله مُرْنِي بما شئت" ، فتزوّج زيد زينب رضي الله عن الجميع(5).. ثم نزل بعد ذلك تحريم التبني، فاسترد زيد اسمه الأول "زيد بن حارثة" بعد أن كان يُدعى قبل ذلك زيد بن محمد . وكان رضي الله عنه وولده أسامة أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ابنته فاطمة رضي الله عنها ، وكان يقال لأسامة الحِبْ ابن الحِبْ – المحبوب بن المحبوب – لمنزلتهما السامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليس هذا فقط بل إن "زيدًا" رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بالاسم صراحة في آية خالدة تتلى إلى يوم القيامة "فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها .." (الأحزاب : 37) . ولم يظفر بهذا الشرف الرفيع - الذكر بالاسم الصريح فى القراّن - ولا حتى الصدّيق أو الفاروق رضى الله عنهما ، فهل هناك تكريم لهذا العبد السابق أكثر من ذلك ؟!! كما عيّنه النبي عليه السلام قائدًا للجيش في غزوة "مؤتة" أميرًا على أكابر الصحابة ، ثم ولّى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش من بعده . وعندما اعترض البعض قال النبى – صلى الله عليه(1/196)
وسلم : "إن يطعنوا فى إمارته فقد طعنوا فى إمارة أبيه – زيد – وأيم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وأن كان من أحب الناس إلىَّ ، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلىَّ بعده" متفق عليه.
وعندما تُوفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجيش أسامة ينتظر خارج المدينة ، أصر أبو بكر الصديق خليفته على أن يواصل أسامة مهمته تنفيذًا لأمر النبي عليه السلام ، ورفض أن يستبدل أسامة ، أو أن يعزله عن منصب ولاه إيّاه الرسول صلى الله عليه وسلم . وخرج "أبو بكر" يمشي مودّعًا للجيش ، وأسامة راكب على فرسه ، ورفض أبو بكر أن يركب ، أو أن ينزل أسامة ليمشي إلى جواره .. هذا هو الإسلام العظيم ، الرجل الثاني في الإسلام يمشي ، ومولى ابن مولى راكب على فرسه إلى جواره قائدًا لجيش فيه أكابر الصحابة وسادات العرب .
وقد أشرنا من قبل إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن تتزوج أسامة بن زيد ، واختاره لها مُفَضِّلاً إياه على معاوية بن أبي سفيان السيد ابن سيد مكة من قبل وأبو جهم رضي الله عن الجميع . فهل جاء أحد غير الإسلام بمثل هذا ؟ !
جويّرية محرّرة قومها(1/197)
كان الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق عدوًا شديد الضراوة للمسلمين . ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرًّا من تجريد جيش لكف بأس بني المصطلق ، وبالفعل لحقت بالحارث هزيمة ساحقة ، وقع فيها كل قومه في الأسر . وكان من بين الأسرى ابنته جويّرية . فجاءت إلى النبي عليه السلام تطلب معونته في فك أسرها مقابل تسع أواق تدفعها لثابت بن قيس الذي وقعت في نصيبه . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أو خير من ذلك " ؟ فسألت : ما هو ؟ . أجاب صلى الله عليه وسلم : "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" يعني أن يدفع عليه السلام المتفق عليه لثابت بن قيس مقابل تحريرها ثم يتزوجها صلى الله عليه وسلم . فقالت: نعم يا رسول الله . قال عليه السلام : "قد فعلت". وبهذه الزيجة المباركة تحرّر كل بني المصطلق من الأسر ، إذ انتشر الخبر بين الصحابة فقالوا جميعًا : أصهار رسول الله في الأسر ؟! أي استنكروا أن يستبقوا بني المصطلق في الأسر بعد أن صاهرهم النبي ، وانطلقوا فحرّروهم جميعا بلا مقابل . وكان رد فعل هذا الكرم النادر من قبل النبي وأصحابه أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم . تقول السيدة عائشة رضي الله عنها "أعتق بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها"(6) . وهكذا حرّر النبي قبيلة بأكملها بهذه الزيجة.. فهل فعل هذا سواه ؟! .(1/198)
ونلاحظ هنا أن الرسول عليه السلام قد اتبع هذا الأسلوب الحكيم لتحرير الأسرى بطريقة غير مباشرة أيضا مع أسرى هوازن وثقيف وكانوا ستة آلاف نسمة. فعند ما جاءه وفد القوم مسلمين ، وناشدوه إخلاء سبيل أسراهم قال لهم : "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" ، وأرشدهم إلى أن يأتوا وقت الصلاة، ويستشفعوا بالنبي إلى المسلمين . ففعلوا ، فقام النبي وسأل الناس أن يخلوا سبيل الأسرى ، ولكل رجل لا تطيب نفسه بالتخلي عن أسيره ستة من الإبل من أية غنائم تأتى إلى النبى فى أقرب وقت ممكن ، تعطى له مقابل كل نفس يطلق سراحها. فقال المهاجرون : ما كان لنا فهو لرسول الله ، وقال الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله ، وهكذا حرّر النبي كل الأسرى ، ولكن بأسلوب غير مباشر كما حدث في غزوة بني المصطلق . والدعوة إلى الخير تحتاج إلى مثل هذه الأساليب البارعة ، لأن كثيرا من الناس يمقتون الوعظ المباشر ، والأمر أشدّ على الأنفس عندما تطالبهم بالتخلي عما يملكون بلا مقابل.
عتق صفيّة(1/199)
بعد فتح خيبر وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود في الأسر . وكان أبوها وأخوها وزوجها قد قُتلوا جميعًا في المعركة . وطبقًا لما تعارف عليه العالم كله آنذاك كان من الطبيعي أن تكون صفية كغيرها من السبي جارية يستعبدها من قهر أباها في الحرب ، لأنه لو كان أبوها هو المنتصر لفتك بسبايا المسلمين ولم يبق منهن نسمة كما يفعل اليهود المجرمون في كل مكان وزمان .. قال دحية الكلبي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد المعركة : "يا رسول الله أعطني جارية من سبي يهود" . فقال له عليه السلام : "اذهب فخذ جارية" ، فذهب دحية فأخذ صفية ، فرآها الصحابة فعرفوها ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سِراعًا هاتفين : يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير ، ما تصلح إلا لك . فأعطى الرسول لدحية عوضًا عنها وضمها إليه .. ومن المهم هنا أن نسجل مَكْرَمة تخفى على كثير من الناس ، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ صفية جارية كعادة الأمم الأخرى ، بل بدأ عليه السلام بتكريم مثواها ، ثم خيَّرها بين العتق وإطلاق سراحها إن أرادت البقاء على يهوديتها والرحيل معززة مكرمة إلى المكان الذي هرب إليه بقايا قومها ، أو الإسلام والزواج منه بعد عتقها أيضًا .
ففي جميع الحالات أعتقها عليه السلام سواء تزوجته أم رفضت الزواج منه . وهكذا هو الإسلام يجبر المكسور، ويعزّ به الذليل ، ويزداد الشريف به شرفًا . وافقت صفية رضي الله عنها فورًا على الزواج من النبي قائلة : "يا رسول الله لقد هويت الإسلام ، وصدّقت بك قبل أن تدعوني ، وخيرتني بين الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق ، ومن الرجوع إلى قومي" .. فتزوّجها عليه السلام وجعل عتقها صداقها .(1/200)
ويعلق الإمام ابن القيّم رضي الله عنه على ذلك بقوله : "جعل عتقها صداقها، فصار ذلك سُنَّة للأمة إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها ، فتصير زوجته بذلك . فإن قال الرجل : جعلت عتق أمتى صداقها صح العتق والنكاح ، وصارت زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي . وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث . انتهى .
بركات السيدة مارية
يثير الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا لما فَعَلَ هذا !! والرد على هؤلاء ميسور بإذن الله .
ونقول أولا : أن التمتع بملك اليمين – الجواري – كان في شريعة الأنبياء من قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام .. فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا – بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود وسليمان عليهم السلام عشرات من الجوارى ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب ذلك!! فهل تمتعه صلى الله عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح من أقوال العلماء – يعد أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوه أحد بكلمة ضد تمتع أخوته الأنبياء من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده والكراهية المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده . ثم لننظر ولنقارن حال السيدة مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق الثابتة .(1/201)
ماذا كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس – كبير نصارى مصر في ذلك العهد – لا يعرفها أحد ولا يهتم بأمرها أحد ، وكان أقصى ما سوف تناله أن يعاشرها سيدها بمصر من حين لآخر بلا أية حقوق لها أو لأولادها الذين كانوا سيصبحون عبيدًا كأمهم بلا ريب . أو كانت سوف تُبَاع لسيد آخر كما تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من سيد إلى آخر ، تعمل طوال النهار في كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع سيدها ، أو مع آخرين ينزلون ضيوفًا على السيد - كوسيلة من وسائل الترفيه - فضلاً عن تعرضها للضرب والأذى- وربما القتل- بلا ضوابط أو حدود أو قيود . ولكن الله تعالى أراد أن ينقذ مارية من هذا الإذلال والإهدار للآدمية ، وأن يخلّدها في العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا انقلبت الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى النقيض . فقد أنزلها النبي عليه السلام فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه ، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي زوجاته بمنتهى العدالة والنبل . وشاء الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة مارية للنبي أحب أولاده إلى قلبه وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن عائشة وحفصة وغيرهن من الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه بإستثناء السيدة خديجة رضي الله عنها والتي كانت قد توفيت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها بالقسط الأوفر من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبب إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم .(1/202)
و من بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمه صلى الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها ولدها" . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في كتاب العتق ، والدارمي في البيوع(7) ، وأحمد في مسنده (8) . فأي بركة تسببت فيها سيدتنا مارية ؟ وأي خير أصاب الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟ إنها لم تتحرر وحدها بمولد إبراهيم فحسب ، بل حررت معها كذلك كل جارية تلد لسيدها ولو سقطًا غير مكتمل .
ثم هناك نعمة هدايتها للإسلام ، وأنها آمنت بالله وحده ربا لا شريك له ولا ولد، وآمنت بنبيه الذي يحشرها الله معه في الجنة زوجة له مع أخواتها الأخريات . ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من بركات .. فقد أبى الله إلا أن تكون مارية المصرية سبب خير وبركة لأهل مصر كلهم .. روى الإمام مسلم- في فضائل الصحابة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" . قال : ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم إبراهيم ابن النبي عليهم السلام منهم(9) انتهى. وكفى المصريين فخرًا أن يكونوا أصهارًا لإبراهيم ومحمد وأخوالاً لولديهما . وهكذا نالت السيدة مارية حريتها بالإسلام ، وصارت كذلك أمًا لإبراهيم أحب ولد النبي إليه ، وأمًا لكل المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .(1/203)
و كانت لها محبة في قلب النبي غارت منها بسببها السيدة عائشة .. تقول السيدة عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة – مكتملة الخلقة – وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان الرسول عامة الليل والنهار عندها حتى فرّغنا لها فجزعت-أى عائشة- فحوّلها عنا إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا منه" . انتهى . وكلمات السيدة عائشة واضحة الدلالة على عظم ما أنعم الله ورسوله به على السيدة مارية التي كانت جارية من قبل ، جبرًا لخاطرها ورفعًا من شأنها، بما لم تحصل على مثله أية واحدة من الحرائر .
عتاب إلهى
وقد عاتب الله رسوله بسبب السيدة مارية . فقد جامعها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة في بيت زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فغضبت السيدة حفصة وحزنت أشد الحزن ، وقالت لزوجها عليه السلام : "ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك"، فلم يجد الزوج الحنون الرحيم ما يُطَيِّب به خاطر زوجته إلا أن يُحَرِّم على نفسه أن يقرب أم ولده السيدة مارية ، وحلف لحفصة ألا يقربها . فنزل في ذلك قوله تعالى : "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم" (التحريم : 1) .(1/204)
قال العلماء أن الله تعالى أعلم نبيه أن وطء جاريته حلال له ، ولا يجوز له أن يُحَرِّم ما أحل الله له على نفسه ، وكل ما هنالك أن الرجل إذا قال لامرأته أو أمته – جاريته – أنت حرام عليَّ فإن عليه الكفّارة، ويحل له مجامعتها بعد ذلك . وهكذا كانت السيدة مارية رضي الله عنها سببًا هنا أيضا في رفع الحرج عن كثير من الزوجات اللاتي يتلفظ أزواجهن بمثل هذه الكلمة ، فيظنون أن العلاقة الزوجية قد انفسخت بذلك ، فأعلم الله الجميع أن هذه الكلمة هي مجرد يمين يكفرها الرجل إذا لم ينو بها طلاقًا ، وعليه كفارة الظهار المغلّظة وهي تحرير رقبة – عتق عبد – إن نوى بها الظهار طبقا للراجح من آراء العلماء التي بلغت 18 رأيا أوردها الإمام القرطبي رضي الله عنه في تفسيره للآية الأولى من سورة التحريم(10) . وروى الإمام الدارقطني في سننه عن ابن عباس رضي الله عن الجميع – أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا ، فقال له ابن عباس : كذبت ليست عليك بحرام، وتلا الآية الأولى من سورة التحريم ، ثم قال للرجل : عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة . وقال جماعة من المفسرين أنه لما نزلت هذه الآية كَفَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى معاشرة السيدة مارية عليها السلام . قاله زيد بن أسلم وغيره طبقا لرواية القرطبي في تفسيره .
وهكذا تسببت السيدة مارية رضي الله عنها هنا أيضا في عتق أنفس أخرى كثيرة بعد هذه الواقعة ونزول تلك الآية . فهل كانت تلك كل البركات لتحدث لولا اقتران السيدة مارية بسيد ولد آدم عليه السلام ؟! وهل اجتمعت تلك المفاخر والمآثر لامرأة أخرى سواها ؟!! .
سلمان منا آل البيت(1/205)
كان سلمان رضي الله عنه رجلاً فارسيًا تعرّف في صباه على بعض النصارى فأعجبه دينهم – قبل ظهور الإسلام – وترك عبادة النار ، ثم رحل إلى بعض الأديرة لعبادة الله ، إلى أن انتهى به الأمر إلى راهب أخبره قبل موته أنه قد اقترب زمان النبي الخاتم ، وأنه يبعث في مكة ويهاجر إلى أرض بها نخيل ، وحولها صحراء ، وأعطاه مواصفات "يثرب" ، وعلامات يعرف بها النبي ، وهي أنه يأكل الهدية ولا يقرب الصدقة ، وبين كتفيه علامة النبوة – خاتم النبوة – وعرض سلمان على قافلة من الأعراب أن يعطيهم مالاً مقابل أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب . لكنهم غدروا به في الطريق ، وباعوه عبدًا لرجل من يهود يثرب . صبر رضي الله عنه على الرق وسوء معاملة سيده اليهودي له حتى هاجر النبي عليه السلام إلى يثرب . فانطلق إليه سلمان ، وتحقق من وجود العلامات الثلاث به فاحتضنه وبكى ممّا عرف من الحق . وقصّ على النبي وأصحابه قصته . فأرشده عليه السلام إلى مكاتبة سيده اليهودي ليحصل على حريته . اتفق سلمان مع اليهودي على أن يحرّره مقابل ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب . وقال النبي عليه السلام لأصحابه : "أعينوا أخاكم" ، فجعل كل منهم يأتي بالنخلات الصغار قدر استطاعته ، حتى جمعوا له الثلاثمائة المتفق عليها. و قام النبي صلى الله عليه وسلم بغرسها جميعا بيده الشريفة فنبتت كلها ببركته . ثم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم سلمان قطعة صغيرة من الذهب قائلا له : "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك". وبالفعل تحققت معجزة أخرى ووزنت القطعة الصغيرة أكثر من حق اليهودي ، و تحرّر سلمان من الاستعباد . وبهذا السلوك أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة كلها إلى ضرورة اعانة المكاتب ومساعدته على التحرر بتبرعات الأفراد، ومن بيت المال ، وأن يكون الحاكم قدوة بنفسه في هذا المجال . وسلمان هو الذي أشار على النبي بحفر الخندق حول المدينة لتأمينها ومنع الأحزاب الكافرة من(1/206)
دخولها في غزوة الخندق . وبلغ من حب النبي وأصحابه لسلمان رضي الله عنه أن تنازع المهاجرون والأنصار أمره . قال المهاجرون : سلمان منّا نحن المهاجرون ، وقال الأنصار : بل سلمان منّا نحن الأنصار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حسمًا للأمر وتكريمًا لسلمان : "سلمان منّا آل البيت" أخرجه الحاكم وابن سعد .
وهكذا رفع الله منزلة العبد السابق بالإسلام بجعله ليس فقط صاحبا لرسوله ، بل منسوبًا إلى أهل بيته عليهم السلام أجمعين .
وما نعرف لهذا نظيرا في أيّة أمّة أخرى من الأولين و الآخرين . وقال عنه الرسول عليه السلام : "سلمان سابق الفرس" . أخرجه أبو نعيم والحاكم ، وقال الذهبي معناه صحيح . وشاء قدر الله أن يمتد بسلمان العمر حتى تولى إمارة المدائن – بلاد فارس – في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبذلك تولى العبد السابق حكم بلاده الأصلية بعد زوال حكم كسرى بالفتح الإسلامي . ولم يمنعه من تولي السلطة كونه عاش سنوات طوال عبدًا مملوكًا لبعض يهود يثرب .. فالله تعالى يُؤتي الملك من يشاء ، بلا فرق بين حرّ وعبد ، أو غني وفقير .
سيدنا أعتق سيدنا
كان بلال بن رباح رضي الله عنه من العبيد السابقين إلى الإسلام ، وهو ممن تعرّضوا للتعذيب المروع بمكة لإجبارهم على ترك الدين الحق . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتألم من أجلهم ، وقال عليه السلام : "لو كان عندنا شيء ابتعنا بلالا" ( أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب وهو في أسد الغابة 1/243) ، وسمع بذلك أبو بكر فاشتراه بسبع أواق وأعتقه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: "الشركة يا أبا بكر" فقال أبو بكر : قد أعتقته ( ابن سعد 3/1/165) . ولو لم يكن أجر العتق عظيمًا لما سأل النبي أبا بكر أن يشركه معه فيه .(1/207)
وأخرج مسلم في فضائل الصحابة أن قوله تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم..." -الآيتان 52 – 53 من سورة الأنعام - نزل في بلال وآخرين من الضعفاء، قال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء عنك حين نجلس معك حتى لا يتجرأون علينا !! ولكن الله تعالى أنزل أمرًا سماويًا للنبي بألا يطرد أولئك المؤمنين من أجل المتكبّرين من المشركين .. لأنه لا فضل لأحد على أحد في الإسلام إلا بالتقوى ، ولا قيمة لأموال المشركين ولا أحسابهم في ميزان الله رب الجميع . وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال : "بلال سابق الحبشة" (رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم 3/285 وأقره الذهبي) . وكان بلال رضي الله عنه مع الرسول في كل الغزوات ، وتولى الآذان طوال حياته لعذوبة صوته . وشهد له النبي بالجنّة في حديث رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم . وعندما أذن أبو بكر لبلال في السفر والمقام بالشام ذهب هو وصاحبه "أبو رويحة" إلى قوم من أكابر العرب في الشام ليخطبوا اثنتين من بناتهم . قال لهم بلال : إنا قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغنانا الله ، فإن تزوّجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول ولا قوة إلا بالله . فوافق القوم على الفور مرحبين بصاحبي الرسول وزَوَّجُوهما من اختارا ، رغم أن تلك القبيلة "خولان" هي واحدة من أعرق القبائل بالشام كله . وهكذا يتساوى الجميع في الإسلام، فلا تفضيل لحرّ على عبد إلا بمعيار الإيمان والعمل الصالح . ويكفي لبيان ما وصل إليه بلال من مكانة سامية بالإسلام أن عمر بن الخطاب الرجل الثالث في الإسلام قال عن أبي بكر وهو يصف مناقبه : "وهذا سيدنا بلال حسنة من حسناته"، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره : "أبو بكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا" .
أرأيت كيف وصف أمير المؤمنين الفاروق عمر بلالاً بأنه "سيدنا" ، وهو الذي كان عبدًا مغمورًا ضائعًا في شعاب مكة قبل الإسلام ؟!
صبرًا آل ياسر(1/208)
كان صلى الله عليه وسلم يمر بالضعفاء من أصحابه وهم يعانون أشد ألوان التعذيب تحت لهيب شمس مكة الحارقة ، ومنهم ياسر وزوجته سميّة مولاة بني مخزوم وابنه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر مولى بني مخزوم أيضا . وروى الطبراني والهيثمي والحاكم – وصححه الذهبي – أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم " صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ". وهي شهادة نبوية ثابتة لهم بالجنة إن شاء الله . ونزلت في عمّار الآية الكريمة "إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان" ، فقد عَذّبَه الكفار حتى سبّ النبي تحت الإكراه خشية القتل ، وذهب بعدها يبكي فسأله النبي : "فكيف تجد قلبك ؟" ، أجاب عمّار : مطمئن بالإيمان ، فقال له النبي عليه السلام : "فإن عادوا فعد" ، يعني أنه لا إثم عليه فقد فعل هذا مضطرًا مكرهًا . أخرجه الطبري وأبو نعيم وابن سعد والحاكم .
وروى الترمذي في المناقب - وصححه الحاكم والذهبي- وروى أبو نعيم والهيثمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "اشتاقت الجنة إلى ثلاثة علي وعَمَّار وبلال". وكانت سميّة أم عمّار أول شهيدة في الإسلام ، إذ طعنها أبو جهل اللعين بحربة في قُبُلها ففاضت روحها في الحال .. ألا يكفي الرقيق شرفًا أن أول من نال الشهادة وهي درجة عليا يتمناها حتى النبي كانت واحدة من الجواري هي السيدة سميّة ؟!!.
والأحاديث في فضائل عمّار بن ياسر كثيرة نختار منها أنه عليه السلام قال فيما يرويه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي : "اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" .(1/209)
وروى الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحق" . وأخرج أحمد والحاكم والذهبي : "ما خُيِّر ابن سميّة بين أمرين إلا اختار أيسرهما" . وأخرج مسلم وأحمد وابن سعد : أن عمّارًا كان يحمل لبنات من الطوب لبناء المسجد النبوي أكثر مما يحمل أصحابه ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفض رأسه ويقول : "ويحك يا ابن سميّة تقتلك الفئة الباغية" . وبالفعل استشهد عمّار يوم صفين ، قتله جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ، وكان عمّارُ في جيش الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكانت بين خالد بن الوليد وعَمَّار بن ياسر رضي الله عنهما مشادة، فأغلظ له خالد القول ، فشكاه عمّار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام : "من عادى عمّارًا عاداه الله ، ومن أبغض عمّارًا أبغضه الله" أورده الذهبى فى سير أعلام النبلاء ، فخرج خالد مسرعًا حتى لقي عمّاراً واعتذر له واسترضاه حتى رضي . هل رأيتم ؟ الله عز وجل يعادي من عادى عمّارًا العبد السابق والرب يمقت من يمقته ؟!. هل يطمع أحد من الأحرار في منزلة أعلى من تلك التي بلغها عمَّار ؟!! .
سابق الروم(1/210)
وهناك حفاوته عليه السلام وتكريمه لصهيب بن سنان الصحابي الجليل الذي وصفه النبي بأنه "سابق الروم" (أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" والحاكم 3/15/2 ) و قد تقدم مثله عن سلمان و بلال.(11). ومعنى سابق الروم أنه سبقهم جميعًا إلى الإسلام ثم إلى الجنّة بإذن الله . وصهيب رضي الله عنه كان من الموالي في مكة ، ولم يفلته المشركون أثناء الهجرة إلا بعد أن دَلَّهم على كل أمواله فتركوه ليهاجر إلى "يثرب" فقيرًا مريضًا لا يملك قوت يومه .. ولكن حبيبه المصطفى تلقاه في يثرب مبشّرا له بالفوز العظيم ورضوان الله عن صفقته المباركة . ونزلت فيه آية كريمة خالدة تثني عليه وتبشره بالرضوان والفوز الكبير . قال تعالى : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة : 207) . قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وغيرهم : نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان الرومي ، عندما اضطره المشركون إلى التخلي عن كل ما يملك ليسمحوا له بالهجرة إلى حيث النبي في يثرب ، فأعطاهم كل ماله ليهاجر ويفر بدينه (12) ، وروى ابن مردويه – فيما ينقله ابن كثير – أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشّره قائلا له مرتين "ربح صهيب ربح صهيب" .
لكل هذه المواقف المضيئة في السيرة العطرة وغيرها ، لم يملك المنصفون من غير المسلمين سوى الاعتراف لسيد الخلق عليه السلام بأنه رسول من عند الله حقًا ، والإقرار بما كان عليه من خلق عظيم لم يؤت مثله أحد من قبل أو من بعد . وقد وصفه أحد هؤلاء وهو الدكتور راما كريشنا راو – بصفات عظيمة كثيرة منها أنه هو بحق: "محرر العبيد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم(13).
اللهم كما أعتقت رقاب البلايين من الكفر والرق ، أعتق رقابنا وإياهم من النار. آمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المراجع
للمزيد من التفاصيل حول موضوعات هذا الفصل راجع .(1/211)
1– سيرة ابن هشام وأيضا المورد في مولد النبي للملا علي بن سلطان الهروي .
2– زاد المعاد للإمام ابن القيم رضي الله عنه .
3– الطبقات الكبرى لابن سعد – الجزء الثامن - تراجم أمهات المؤمنين .
4– سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رضي الله عنه .
5– تفسير ابن كثير – سورة الأحزاب وكذا تفسير القرطبي والنسفى والطبرى والبغوى والشوكانى .
6– أسد الغابة - الجزء السابع .
7– ابن ماجة كتاب العتق – الدارمي كتاب البيوع .
8– مسند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه – الجزء الأول ص 208 .
9– صحيح مسلم – فضائل الصحابة ص 226 .
10– الإمام القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – تفسير سورة التحريم .
11– حلية الأولياء لأبي نعيم وأيضا عند الحاكم و فى سنن أبي داود والترمذي .
12– الامام القرطبى- المرجع السابق تفسير الآية 207 من سورة البقرة .
13– محمد نبي الإسلام – تأليف الدكتور راما كريشنا راو .
الفهرس
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 1
الفصل الأول : تاريخ الاستعباد ... ... ... ... ... ... ... 5
الفصل الثانى : صفقات الشيطان ... ... ... ... ... ... ... 26
الفصل الثالث : الاستعباد المعاصر ... ... ... ... ... ... ... 41
الفصل الرابع : الاتجار بالبشر ... ... ... ... ... ... ... 59
الفصل الخامس : سبايا البلقان ... ... ... ... ... ... ... 76
الفصل السادس : كيف باعوا كشمير ؟! ... ... ... ... ... ... 85
الفصل السابع : منهج الإسلام ... ... ... ... ... ... ... 101
الفصل الثامن : الإحسان إلى المماليك ... ... ... ... ... ... 111
الفصل التاسع : تجفيف الينابيع ... ... ... ... ... ... ... 123
الفصل العاشر ... : أبواب الحرية ... ... ... ... ... ... ... 139
الفصل الحادى عشر : فك رقبة ... ... ... ... ... ... ... 168(1/212)
الفصل الثانى عشر : الرسول محرر العبيد ... ... ... ... ... 179(1/213)