(دراسة)
هذا الكتاب هو ثالث خمسة كتب، كتبهم الشيخ الغزالى قبل الثورة، أراد به أن ينقى الأذهان الملوثة من لوثة الشيوعية بمذهبها الاقتصادى والرأسمالية بفوارقها الجائرة، ولقد احتار الباحثون وأهل المشورة... هل نترك الكتاب كما هو، أم نحقق ما تركه الشيخ الغزالى، فنحذف ما عدَّل من آراء وأطنب فى أخرى وأوجز فى بعضها- ربما لأنه أدرك أن سيئات الإقطاعيين أزكى من حسنات الثوريين وأن الخطيئة عولجت بجريمة!.. ولما كانت قيمة الآراء تكمن فى التوقيت الصعب الذى ظهر فيه الشيخ الغزالى ـ مشهرا رأيه كالسيف المسلول، لم يبال بخطورة ما أذاعه ودوى بين الأوساط العلمية ورجالات الفكر والاقتصاد وعلماء الأزهر-.. فقد تركنا متن الكتاب كما هو وليسهل التأريخ لتلك الفترة بمقياس دقيق وليدرك القارئ أن الغزالى لم يكن يقل عن رائدى الفكر الاقتصادى والاجتماعى بل تفوق عليهم جميعا بما مزجه من سعة فى الفقه ومقاصد الشريعة.. ولم يسبق الشيخ الغزالى أحد من المفكرين إلى تلك الآراء، بل تميز بها وحده وتبناها أهل الفكر والاقتصاد من بعده، ولا ننكر أن الآراء كانت الأولى فى هذا التوقيت ولم يسبقه إلى ذلك أحد من الكتاب والمفكرين.. فتراه مثلا : يطالب بتحديد الملكية وتقييد ملكية الإقطاع الطامع، والحد من سلطان الملكية المستبدة، وفضح مساوئها..، وتعديل الدستور بما يلائم حياتنا الإسلامية...، وهى مبادئ تبنتها حركة يوليو 1952. واستدل على آرائه بآيات وأحاديث ومواقف من حياة الصحابة والتابعين وآراء العلماء البارزين فى مجال الدعوة. إن جرأة الآراء تكمن فى الظروف والتوقيت الذى قيلت فيه، وعلى مسمع من ذوى البطش والسلطان.. والشجاعة والجرأة والصدع بالحق لا يكون بعد الأوان ورحيل الأحياء لعالم الموت والأفول، فكم من ناقد أو كاتب تناول الزعماء وذوى السلطان بالنقد والتعييب لكن بعد موتهم وخلو الساحة منهم.! لكن شيخنا كان يصدع بما يأمره الإسلام، ولا يبالى(1/1)
بسوء العاقبة فى الدنيا تاركا نفسه فى معية الله وحده.. وكانت غايته أن يبلغ كلمة الله وينقى الإسلام من لوثهم..
006
ولقصر قامتنا فى التأريخ لتلك المرحلة التى ظهر فيها الكتاب، وعن الشيخ الغزالى، نترك الدكتور يوسف القرضاوى ليسجل ذاكرته عن تلك الأحداث التى عاصرها فقال تحت عنوان (الغزالى الشاب فى قلب المعركة)- "... ظللت أتابع الشيخ فيما يكتب فإذا هو يخوض معركة بالغة الخطر، كان هو فارسها المقدام، ورائدها الأول، وكان سلاحه فيها قلمه الصلب الذى لا يكسر ولا يفل. تلك هى المعركة ضد الظلم الاجتماعى والامتيازات الطبقية، والفوارق الاقتصادية الفاحشة، التى جعلت بعض الناس يزرعون القمح ويأكلون التبن، ويزرعون القطن ويلبسون " الخيش " ويبنون العمارات الشامخة على أكتفاهم، ويسكنون هم وعائلاتهم فى " البدرونات " على أحسن الفروض! على حين يعيش آخرون غرقى فى الذهب والحرير دون أن يقدموا للحياة عملا... " . *** وقد اضطرب مصطلح الاشتراكية بين مفهوم الجماهير فقصدها أهل الاعتدال بالعدل الاجتماعى والتوازن والكرامة الإنسانية، وحولها البعض من الشيوعيين والماركسيين إلى مذهب اقتصادى ذاد الفقير إلصاقا بالتراب وذبح الغنى ذبحا بلا هوادة..!! وهى أولا وأخيرا مساكة اقتصادية اجتماعية دقيقة، حين يتكلم عنها أحد لابد وأن يكون خبيرا، عليما بعناصر وزمام الاقتصاد.. يقول الدكتور القرضاوى (... لم يدرس الشيخ الغزالى الاقتصاد ولم يطلع على مدارسه ومناهجه ـ اشتراكية ورأسمالية ـ اطلاع المدقق الخبير، إنما عرف روح هذه الفلسفات وأساس هذه الأنظمة واعتقد أن الاشتراكية ـ وهو يُعنى المثالية منها ـ تقف مع الكادحين والمستضعفين، الذين وقف دائما فى صفهم باسم الإسلام ). * * *007(1/2)
وهذا الكتاب هو من مجموعة الكتب السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية التى كتبها الشيخ فى العشر سنوات التى سبقت الثورة فى ظروف حالكة، تعرض فيها بسبب تلك الآراء للسجن والاعتقال والتضييق... ومع فلك يكتبها عن يقين بأمانة البلاغ.. وهذه الكتب هى الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام والمناهج الاشتراكية، والإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، والإسلام والاستبداد السياسى، ومن هنا نعلم... وعن هذه الكتب قال الشيخ الغزالى : " لقد ألفت فى السنوات العشر التى سبقت ثورة يوليو 952ا م خمسة كتب استوعبت حقائق الإسلام فى هذا المجال، وصورت بأمانة اتجاه الإسلام الاجتماعى من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وإذا كان فى هذه الكتب ـ وهى بعض ما ألفت قبل الثورة ـ عيب فهو حماس الشباب، وغلوه فى تشخيص الداء وتركيب الدواء، وهو عيب تتطاول به أعناق اليوم وتزعمه مجدها التالد.. ! " . وبهذا التواضع الجام يحاسب العالم نفسه ويراجع ويعطى الرأى لوجه الله وحده ويساند رأيه بالدليل ويحارب بغية إجلاء الأفهام ويسعى لإزالة الستار عن الحقائق.. وحينما قلت ل :ه كان يمكن يا فضيلة الشيخ أن تُحَاكم ولا يدرى بك أحد فى السجون..! قال : كان لابد أن أذيع رأى دينى الذى اعتنقت.. ثم قال : ما هو قولك لربك إن عشت مدركا عارفا ومت كاتما مانعا؟!.. بأى وجه تلقى الله؟ وماذا تقول؟.. والله بئست الحياة هذه إن عشت شيطانا أخرس..!! *** * أما عن منهجه فى كتابة هذه الدراسة الواعية فقال الشيخ الغزالى : " لم أجنح فى هذه الدراسة إلى المقارنة بين نظام ونظام، أو المفاضلة بين مذهب ومذهب، من هذه الأنظمة والمذاهب التى تمخض عنها تطور الفكر
008(1/3)
الإنسانى فى العصر الأخير، فليس هذا ما يعنينى، ولست أملك العدة اللازمة لاستقصاء البحث فيه! وإنما ألفت هذه الرسالة ورتبت فصولها المحدودة لغاية واحدة، هى إعطاء القارئ صورة صادقة عن الفكرة الذاتية للدين، والروح العامة لمبادئه، والموقف الذى قد يقفه بإزاء الأفكار الاقتصادية المختلفة، وللقارئ بعدئذ أن يقارن ويفاضل ويستخلص من النتائج ما يشاء. وحاشاى بهذا الكلام أن أقحم الدين فيما ليس له، أو أن أحمله من الآراء ما لا شأن له به، فما إلى هذا قد قصدت. كل ما أبغيه أن أنصف الدين هن سوء الفهم، وسوء الاستغلال. فقد أنكرت الشيوعية الدين، لأنها حسبته مخدرا للشعوب، ومسكنا لألام الطبقات المظلومة، وصارفا لهمم أبنائها عن المطالبة بحقوقهم المضيعة. واحتقرت الرأسمالية الدين، إذ توسلت به إلى إشباع المطامع الجشعة وإقرار الفوارق الجائرة، وتعويق النهضات الحرة، والدين مظلوم بين من كفروه ومن حقروه : بين الشيوعية المتطرفة والرأسمالية المتعجرفة! ولابد من أن نكشف عن حقائقه، وأن نبين عن معالمه، لنرد عنه سوء الفهم وسوء الاستغلال جميعا. والسبل العادلة إلى ذلك هى تحديد موقفه من نصوصه نفسها ". والشيخ الغزالى بما ملك من حس نابض باليقين كان أول من كتب فى هذا المجال واستبحر فيه وجعل قضيته الأولى وقتئذ إنصاف دينه من التهم والوقوف بجانب المنكوبين والفقراء فى هذا البلد.. وعن قصة كتاب " الإسلام المفترى عليه.. " قال الدكتور القرضاوى : "... إن الشيخ الغزالى كتب جملة مقالات فى مجلة الأخوان ضمها فيما بعد كتابه الثالث "الإسلام المفترى عليه... " وكان ذلك قبل أن يصدر الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ كتابه " العدالة الاجتماعية فى الإسلام " وقد كتب فى قائمة مراجعه ـ بالطبعة الأولى كتابى الغزالى : الإسلام والأوضاع الاقتصادية، والإسلام والمناهج الاشتراكية...، وفى مجلة الفكر الجديد ـ وهى مجلة ثورية تعنى بالمسألة الاجتماعية وتستلهم(1/4)
الإسلام، ولم تستمر أكثر من بضعة أشهر وكان الغزالى أحد كتابها. " .009
ومقالات الشيخ لم تكن من برج عاجى، بل من واقع الحياة البائسة التى يعيشها الشعب المنكوب.. هكذا عاش الشيخ حياته مجاهدا صادعا بما يؤمن أنه الحق.. وفى تلك الأثناء التى حارب فيها الملكيات الطاغية وشيوع الظلم وانهيار الموازين الاجتماعية الاقتصادية. . يجد مفتى مصر ـ وقتئذ ـ قد أعلن حماية الملكيات وكأنه يعطى التصريح لمزيد من الطغيان وبعثرة الكرامة الإنسانية.. حول تلك الذكريات يستطرد الدكتور القرضاوى عن الغزالى فيقول : " ويناقش (المتحدث الرسمى للإسلام) ـ المفتى فى ذلك الوقت ـ فى دفاعه عن الملكيات الكبيرة فى مصر، ومدى شرعيتها، وكيف اكتسبت، ثم كيف نمت واتسعت، ومن قرأ مناقشة الشيخ هنا بتأمل وإنصاف، وجدها تدل على أصالة فقهية، وملكة فطرية، صقلتها الدراسة الأزهرية، مع الاستعانة على إنضاج الفتوى بقراءة التاريخ، واستقراء الواقع. فالمفتى الحق هو الذى يزاوج بين الواجب والواقع، ولا يتقوقع على الأقوال النظرية، معزولا عن الناس والحياة. وفى رأيه أن فقه العبادات قد اتسع واستبحر أكثر مما يلزم، والقليل منه يكفى، ولفت النظر إلى العناية بالفقه الدستورى والسياسى والاقتصادى والمدنى، مما يحتاج إليه المجتمع المعاصر. وهو أميل إلى مدرسة الرأى منة إلى مدرسة الأثر، وكثيرا ما أبدى إعجابه بمذهب أبى حنيفة فى عدم إثبات الفرضية أو التحريم إلا بنص لا شبهة فيه، وبمذهب مالك فى الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، وتقديم عمل المدينة على أحاديث الآحاد ". وكتاب الإسلام المفترى عليه... كان الدراسة الواعية ورد فعل طبيعى لمظاهر الجور والتعسف، ولا نحب هنا أن نحكى الكتاب، بل الأصوب أن نترك القارئ والكتاب أو كما قال الشيخ الغزالى نفسه : ".. للقارئ أن يقارن ويفاضل ويستخلص من النتائج ما يشاء.. وهذا هو إعمال الفكر.. فليس محمودا أن تقدم الآراء على موائد من ذهب دون أدنى(1/5)
تفكير من القارئ، فإن منهج الإسلام هو العقل والتفكير..010
ولكن السؤال الراهن : هل تراجع الشيخ الغزالى عن آراء أوردها هذا الكتاب؟ هذه الإجابة تحتاج لأولى البصيرة والألباب، وإنما الواقع أن الشيخ لم يلغ رأيا أو ينفه وإنما كان خلفه دائما شعور بالثورة على الظالمين... ربما أخذ شكل الحماس حينا والهدوء حينا آخر ولكن الأمر المستفاد أنه لم يسكت عن غلو المظالم.. يقول الدكتور يوسف القرضاوى فى عرضه كتاب الإسلام المفترى عليه إن الشيخ الغزالى : " كان يغلب عليه حماس الشباب، والثورة على الظلم الاجتماعى وربما عدل الشيخ بعد ذلك عن بعض هذه الآراء، أو ضبطها وقيدها، ولكن الذى يهمنا منها دلالتها العامة فى فقه النفس عنده. ومن أبرز النماذج : حديثه عن الملكية : هل تقييد أولا؟ فلنقرأ ما يقول الشيخ.. فى كتابه " الإسلام المفترى عليه ".. ويقرر الشيخ الغزالى ـ نفسه ـ هذا الأمر حين يقول : (إذا كان فى هذه الكتب ـ وهى بعض ما ألفت قبل الثورة ـ عيب فهو حماس الشباب، وغلوه فى تشخيص الداء وتركيب الدواء وهو عيب تتطاول به أعناق اليوم وتزعمه مجدها التالد.. ". وسبب تقييد بعض الآراء لا إنكارها ـ أن الآمال المتعلقة بالثورة باءت بالخيبة وكما يقول الدكتور عبد الحليم عويس : تبين أن سيئات الإقطاعيين اذكى من حسنات الثوريين! وأن خطيئة الإقطاع وإفقار البشر كانت أقل فداحة من لوثات الثوريين فى معالجة الأمر.. فكانت جرائم... ولما أظهرت الأيام ما يخفيه الغيب ووضحت أغراض الاشتراكيين ونياتهم قال الشيخ فيما بعد : "لابد من كشف لأولئك الاشتراكيين العرب! فقد كان فهمهم وتطبيقهم للاشتراكية موضع التندر للعدو والصديق.. وكانت النهاية التى أوصلوا إليها الأمة إفقار الأغنياء، وإتعاس الفقراء، وإعزاز من أذل الله وإذلال من أعز الله..011(1/6)
وبدا أن خصومتهم للإسلام شديدة ولكنهم اتأدوا فى الإعلان عنها، فدعوا أولا إلى اشتراكية إسلامية، ثم قالوا : اشتراكية عربية، ثم قالوا : تطبيق عربى للاشتراكية الواحدة، ثم قالوا : الاشتراكية.. وحسب.. وظهر أن التوجيه كله إلى الماركسية فى نهاية المطاف.. أما هم فى معايشهم الخاصة فملوك غير متوجين يستقدمون من الشرق والغرب ما لذ وطاب لهم ولأهليهم ولمن لاذ بهم.. وهكذا تحت عنوان " الاشتراكية " تنفست ضغائن خسيسة، وأشبعت شهوات جامحة، وشقيت جماهير غفيرة، حتى أن مصر التى كانت أكثر أقطار الأرض رخاء، تحولت إلى بلد بائس مثقل بالديون مثخن بالجراح..!! ". وكان هذا رأيه فى الثوريين، فبعد أن أمدهم بالفكرة ووضع مبادئها وجدها تنفذ بغير وعى ولم يرد بها وجه الله وكانت تعبيرا عن متنفس الأحقاد الكامن فى النفوس. ولما ذادت سطوتهم قال فى موضع آخر. "إن الحملة على الإسلام ماكرة ماهرة، وروافد القوة التى تمدها من الخارج شديدة عنيدة، وقد رمقتها فى ظل النظامين الملكى والجمهورى فلم أتبين فروقا ذات بال. وقد هادنت بعض المصطلحات بغية سوقه إلى المصير الإسلامى على مر الزمان، بيد أن أعداء القرآن لم تزدهم الأيام إلا قسوة قلب وغباء فكر... إنهم يريدون الخلاص من الإسلام على أية حال لكنهم إلى اليوم فاشلون... إن الجماهير المسلمة لم تنس دينها على كثرة المنسيات، ولم يضعف حنينها إلى العيش فى ظله برغم ما صنع الغزو الثقافى بعد الغزو العسكرى.. لكن هل يقف خصوم الإسلام عند هذا الحد؟ وهل يستكينون عند هذه النتائج؟012(1/7)
إن محاولاتهم لهدم أركان الإسلام لا تنتهى، وستظل جهودهم متراكضة كى يذودوا الشعوب عنه، ويمنعوها إنفاذ أحكامه و،احياء شعائره ". وتظهر ثمة أمر أخير هل هذه الآراء تلغى لسوء تطبيقها، بالطبع لا، فليس العيب عيب الرأى! وإنما العيب فيمن يطبق ويستغل عدالة واشتراكية الإسلام فيفقر البشر أو يستغل حرية التجارة فيكنز ويهلك من حوله.. ستبقى الآراء لأنها من لب الإسلام وقلبه ولأن التاريخ يعيد نفسه وأناس يظهرون فى نفس الجلباب ولكن بمسميات أخرى. رحم الله الشيخ الغزالى. "المحقق" يناير 1997013(1/8)
تمهيد
فى الطبعتين الأوليين من هذا الكتاب كتبنا نقول : "لا نحب أن نرائى الناس بجهاد قمنا به فى سبيل الله، أو تضحيات تكبدناها لخدمة المسلمين، فنحن نحمد الله أن كانت مغارمنا للحق، لا للباطل. ولئن مددنا أبصارنا، فوجدنا طريق الرجولة مفروشا بالأشواك، ومضرجا بالدماء : فإن عزاءنا فى الدنيا ـ إلى جانب ما نرجو فى الآخرة ـ أن طريق الخيانة والنكوص، قد كلف أصحابه شططا، وأذاقهم ويلا... وإنما يحزننا أن تقوم ضدنا حملة افتراءات لئيمة، تتخذ من عملنا للخير دليلا علينا، ومثارا للنيل منا.. إذا دعونا إلى إطعام المحروم، وتشغيل العاطل قالوا : شيوعيون!. وإذا بذلنا من كسبنا الحر، قالوا : متصلون بكذا وكذا... وإذا ناقشنا بالحسنى، قالوا : خطر على الأمن!. والغريب أن ما دعونا إليه منذ سنين، أصبح اليوم منهاجا تنادى به أحزاب وهيئات! فعيبنا أننا سبقنا الزمن... وأننا بذلنا حيث يبخل غيرنا... وتقدمنا عندما نكص كثيرون.. وعيبنا أننا نريد خدمة الإسلام بأساليب العصر الجديد. على حين يظن فريق من الناس أن هذه الخدمة ممكنة بالكهانة الجامدة، والروح الباردة، والقراءة الخالية من الفقه و الأفكار التى سادت عهد المماليك!!. وعلى كل حال فنحن ماضون إلى غايتنا، من عمل للإسلام، وعمل للأمة، سائلين الله أن يرزقنا التوفيق والسداد، فى هذا اللون من الجهاد ". ***014(1/9)
واليوم تصدر هذه الطبعة، وفى الشرق دوى هائل للعمل الضخم، الذى حققته عناية الله فى مصر لقد طرد مليكها الغر : "فاروق " شر طردة، وهتكت الأستار عن الفضائح الخزية، التى طالما ارتكبها هذا الفاسق وأعوانه. وتمت هذه الآية على يد الجيش!! الجيش الذى حسبه الطغاة سنادا لهم، وأبى الله إلا أن يكون هلاكا عليهم ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). وودنا لو انجابت ظلمات الليل الخيم، على بلاد الإسلام كلها، فاختفت من آفاقها الداكنة بقية الطواغيت، التى مازالت تعيث فسادا هنا وهناك!!. إنما نحس بأن كتاباتنا المتواصلة، بدأت تؤتى ثمارها، وأن سهمنا كبير فى هذا النصر المبين. إن الحملات التى شنناها على الأصنام، قد انتهت بتحطيم أكبر الأصنام قدرا. والجهود التى بذلناها لتجرئ الجماهير على أخذ حقوقها وتحقير جلاديها، نجحت في إيغار الصدور على الباغين، وتكثير السواد المتألب ضدهم، وتقليل العبيد، الذى طالما عاشوا فى خدمتهم. وسوف نظل على هذا النهج الواضح، نهتف بالحق، ونشغب على الباطل قدر ما نستطيع !. * * * وقد أضحكنا أن رجالا لم يخطوا حرفا فى حرب الظالمين ـ بل كانوا فى جملة المداهنين الصغار ـ أخذوا يزعمون أنهم فقهاء الثورة وسدنتها، بل إن بعض الصحف لم تستح أن تلقب أحد "الباشوات " بأنه فيلسوف الانقلاب!!.. ولنترك الفخر يتنازعه طالبوه، فما يعنينا إلا أن يتحقق الإصلاح، وتوضع الأزمة فى أنظف الأيدى.015(1/10)
بيد أننا نعجب من طباخ العبيد، التى تريد أن تتصور الأعمال الكبيرة منسوبة إلى ذوى الحول والطول فحسب!!. إن هذا الكتاب نشر أغلبه فصولا متفرقة، على نحو ثلاثين عددا من مجلة "الإخوان المسلمين ". وهو وأخواه اللذان أصدرتهما قبلا، أول ما خط فى اللغة العربية من كلام فى هذا الموضوع. وكان هذا الكلام مستغربا فى ميدان الدين والأدب والسياسة. ثم مرت الأيام، فإذا به مصدر الاتجاهات الحرة فى هذه الأنحاء، وركيزة الثورات الناجحة المشرقة... ويسوؤنى أن أسوق حديثا عن شخص، وعذرى أن أدفع الظنون التى قد تتجه إلى، فقد أحسب ناقلا عن الآخرين، أو منساقا فى تيار الثائرين. والحقيقة، أنى بدأت السير وحدى، ثم أدركنى بعد من أربى وأجاد، وعلى أية حال، فلم يكن الوالد الروحى لهذه النهضات واحدا من الباشوات السابقين أو الكبار المرموقين. محمد الغزالى017(1/11)
مقدمة
كادت هذه الصحائف تضيع فى أثناء الأزمة العصيبة التى أصابت الفكر والقلم، وطمست الحقوق والحريات، على عهد الاحتلال الداخلى للإدارة المصرية، أيام حكم الأقليات السياسية سنة 1944- 1949. كانت سنوات عجافا، تعرض فيها الشرف والضمير، لأزمات ساحقة قُتل مَن قُتل من الرجال، وسُرق ما سُرق من الأموال. ولئن ذكر التاريخ أن أرض مصر شهدت عصرا للاضطهاد الإسرائيلى أيام الفراعنة، ثم عصرا للاضطهاد المسيحى أيام الرومان، فإنه لن ينسى أن يسجل كذلك قصص الخزى والعار، والحديد والنار، التى وقعت لأنصار الإسلام، ودعاة نظامه، أيام الأقليات الحاكمة بأمرها، فى هذا البلاد المحزونة الحائرة. ولقد استطعنا ـ ولله المنة ـ استنقاذ هذه الصحائف من براثن العدم، برغم أن كثيرا من غيرها ضاع فى خلال الإرهاب المنظم، الذى خرب البيوت وفتح المعتقلات، الإرهاب الذى يعد حيازة مجلة صدرت تحت سيطرة الرقابة جريمة تقذف بمرتكبها فى ظلمات السجون! لأنها تصرح بأن الإسلام أساس لحكم يقوم على الحرية والأخوة. وكان فى جملة التهم التى وجهت إلينا ـ فى غير حياء ـ أننا شيوعيون!. كأن كل دعوة للعدالة الاجتماعية، لا تجد لها تفسيرا فى منطق لصوص الحكم إلا أن ترمى ذويها بالإفك، وتفصل بينهم وبين الإسلام!. والاتهام بالشيوعية، كالاتهام بالرأسمالية، أمر نضيق به، ونتوسم فى قائليه سوء الفهم، أو سوء النية، أو هما معا. ولقد نشرت فى الكتابين السابقين لهذا الكتاب، بحوثا مستفيضة عن حقيقة النظام المالى فى الإسلام، أو ما سميناه على سبيل التجوز " الاشتراكية الإسلامية ".018(1/12)
وأستطيع القول : إننا أسخطنا الرأسماليين والشيوعيين جميعا بهذا النهج الذى جنحنا إليه، إذ كنا أقدر من الشيوعيين على تجريح الرأسمالية وإصابة مقاتلها، وكنا ـ فى الوقت نفسه ـ أقدر من الرأسمالية على مكافحة الشيوعية، وسد الأبواب فى وجهها.
موافقات ومفارقات :
إن الإسلام عقيدة ونظام. والنظام ـ فى ديننا ـ يتبع العقيدة، على خدمتها، أو هو امتداد مطلق لآثارها وفضائلها، فهو تابع لها أبدا. وقد يأخذ أشكالا مختلفة على مر الأزمنة. بيد أن ذلك، يشبه اختلاف الوسائل مع اتحاد الغاية.!. وقد يظن السطحيون أن وجود مبادئ معينة فى النظام الإسلامى، قد تميل به نحو اليمين أو اليسار، وذلك خطأ. فإن مبدأ الملكية ـ مثلا ـ قد يشترك ـ فى الاعتراف به ـ النظام الإسلامى والنظام الرأسمالى. وتحريم الفائدة الربوية قد يشترك فيه النظام الشيوعى والنظام الإسلامى. وليس معنى هذا أو ذاك أن الإسلام رأسمالى أو شيوعى. إنه منهج مستقل، يستقى من طبيعته الدينية، ثم يمضى فى مجراه المرسوم لنفع الناس، وحماية مثلهم العليا. والحالة الاجتماعية التى نعيش فيها، تفرض علينا أن نذكر عن الإسلام هذه الحقائق التالية : (1) إنه لا يعترف بملك من حرام، ولا بكسب من سحت. (2) إنه لا يجيز معاوضة الجهد الشاق بأجر بخس، ولا مكافأة العمل التافه، بأجر كبير. (3) إنه لا يبيح التعطل والتسول والفوضى، ويعد الحكومة مسئولة عن بقاء هذه الآفات. * * * *019(1/13)
والاشتراكية الإسلامية تعتمد المبادئ الرفيعة أولا، ثم تقيم الأشكال المادية المناسبة لها، وتستعين على ذلك بقوة القانون. فالأخوة العامة مبدأ والدولة مسئولة عن تنفيذه، وعن هدم أى وضع مادى ينافيه. والترف مرض اجتماعى، والدولة ملزمة أن تضع من التشريع وتتخذ من الوسائل ما يمنعه. والفضائل الإنسانية ضرورة لابد منها، والدولة مسئولة عن القوالب المادية التى تصوغها لحفظها. وقد يتقاضاها ذلك أن تقنن على النحو الذى تسير عليه، روسيا أو أمريكا. لكن هذه القوانين لن تكون روسية ولا أمريكية، مادام الدافع إليها، والغرض منها إسلاميا مجردا.
الخطر الأحمر :
لما قامت الحرب العظمى الأخيرة، وانضمت روسيا إلى معسكر الحلفاء، انفتحت مغاليق الشرق الإسلامى أمامها، وتبادلت دُوَلُهُ التمثيل الديبلوماسى معها. وقد تولد عن ذلك الاتصال خير وشر. فإن القارونية الكانزة توجست السوء على مستقبلها. ففكرت فى أن تخفف من غلوائها، وأن تغل قليلا يدها المبسوطة بالأذى للطبقات الكادحة. غير أن هذه النوايا الحسنة لم تترجم بعد إلى ميدان الواقع المحسوس. فكان هذا النظام العتيق يشبه اللص الذى ينوى المتاب مخافة السجن، ثم يغريه ضعف الملاك، وغفلة الشرطة، فيظل على إجرامه لا يتحول عنه. ولا ننكر أن طائفة من الإصلاحات قد تمت. وهذا جميل..، ونريد المزيد. فالعطشان الذى تبل صداه قطرات الماء لا تنقع غلَّته إلا النطاف الصافيات.020(1/14)
وها هى ذى "روسيا " تغزونا ثقافيا، وقد تحاول غزونا حربيا. ونحن ـ وحدنا ـ مع الأسف ـ الذين نقدم الحصانة النفسية والمادية ضد أى غزو أجنبى. عندما أعجب بعض شبابنا المثقف بالشيوعية، أريناه ـ من نظامنا الإسلامى ـ العناصر المقابلة والغنية عن المبادئ الأخرى. ولم نصدر فى كتاباتنا إلا عن حب عميق للإسلام، وإدراك تام لحقائقه وأغراضه. فالدين ـ من حيث كونه فضائل نفسية، وتكافلا اجتماعيا ـ هو محور نشاطنا، وأساس دعايتنا. ونحن ننقم على الشيوعية، أنها تكفر بالدين كفر الجاحدين، كما ننقم على الرأسمالية أنها تكفر بالدين كفر المنافقين.. فالأولى لا تعترف به، والأخرى لا تعبأ بتعاليمه، ولا ترى فيه ما يزجرها عن مظالمها الفاجرة..!!. ومع أننا نقدر لكلا العدوين خطره، إلا أننا مكرهون على ملاقاة أدنى الخصوم إلينا. فالشيوعية عدو واقف على أبواب البلاد يتربص ، والرأسمالية عدو داخل الحدود يعربد ويغتال. إننا لنعتقد أن فى تطهير البلاد من المظالم الاقتصادية المؤلمة، حماية لها من الاستعمار الأبيض والأحمر على السواء. وها قد أصبحت الاشتراكية عنوانا بارزا لكثير من البرامج التى تطالعنا بها الأحزاب!!. وقد نرتاب فى صدق نفر من هؤلاء المتعلقين بأهدابها، إلا أنه على أية حال نصر للجماهير الفقيرة يصف أقدامها على أوائل الصراط المستقيم.021(1/15)
ولعل الاشتراكية الإسلامية تصبح نزعة متغلغلة، تجيش بها نفوس العامة والخاصة، وتدك آخر ما أمامها من معاقل النفاق والطغيان.!
إحراج للدين :
بين الشرق والغرب ـ الآن ـ حرب باردة، قد تتحول فى أية لحظة إلى حرب طاحنة. وقد بدأت الولايات المتحدة فى الإعداد الواسع لهذا الصراع القائم، فلما وجدت حلفاءها فى "أوروبا" يعانون ضوائق شديدة، وأحست أن هذه الأزمات المستحكمة، قد تمهد لنشر الشيوعية، وتفوق روسيا عليها تبعا لذلك، سارعت إلى إرسال القناطير المقنطرة من مالها، لتدعم المستوى الاجتماعى والاقتصادى هناك. ولم تفكر قط ـ كما فكرنا نحن ـ فى الاعتماد على رجال الدين لمحاربة الشيوعية، بل العون المادى أولا.. وقد يكون أخرا. وللدين هناك رسالة تمضى على هامش الحياة، وتلزم حدودا لا تعدوها... أما فى الشرق الإسلامى، فالعون المادى، عامل ثانوى فى الإصلاح والتعمير. وعلى الحمقى من رجال الدين، أن يثرثروا بأن الشيوعية فساد وإلحاد وكفى.! بلى إنها لكذلك. ولكن الشعوب تتلوى من الألم فى دائرة الثالوث المتوطن المعروف، ثالوث الفقر والجهل والمرض. والإسلام لا ينحبس صوته بإزاء تلك الأحوال المنكرة. وقبل أن نطعن على دواء ينخدع به العليل المضنى، ينبغى أن نلتمس له من عندنا أسباب الشفاء والصحة.!! إن سياط الرأسمالية الغاشمة تكوى الجلود. وتجاهل هذه المأساة معنا :ه أن طبول الدين تدق فى مواكب الظالمين! ولن يعود ذلك على الدين إلا بأوخم العواقب، وقد يطول به عمر الظلم ساعات أو أياما.. ثم تعمل سنة التطور عملها فتهوى القمم الشامخة، وتنزاح العوائق المصطنعة، وتستأنف الأجيال سيرها فى دعة وأمان.022(1/16)
إن قصة الدبة التى قتلت صاحبها، تختلف عن قصة الرجال الذين يخدمون الدين بهذا الأسلوب الزرىّ. فإن الإخلاص ـ هنا ـ مفقود فى نفوس لا تتحرك إلا لشهواتها، ولدى أناس لا يذكرون الله إلا قليلا.! وسنظل ماضين على هذا السنن الرشيد فى إنصاف الدين من مستغليه، وتخليص الدنيا من المستحوذين عليها بالباطل، وتكوين جيل من الأحرار الذين يؤمنون بالله وحده، ويكفرون بالطواغيت.
محمد الغزالي(1/17)
الفصل الأول:الحضارة بين الإيمان والإلحاد
لا يختلف أحد مع نفسه، أن العصر الذى نعيش فيه عصر طغيان المادة واستحكام أمرها وسيطرة نوازعها الطيبة والخبيثة، على تقاليد الحياة وقوانينها. ونعنى بالمادة، تغليب البدن على الروح، وتغليب الدنيا على الآخرة. أو بتعبير أصرح : جحود ما وراء عالمنا المحسوس من حياة أخرى، فى يومنا القريب أو في غدنا البعيد، وإطراح الأديان ـ باعتبارها أفكارا ـ تبدى وتعيد حول هذه المعانى...! وإن كان لا بأس من قبول الأديان، من حيث كونها وصايا خلقية، ونصائح شخصية، ومسكنات اجتماعية!!. أما الإيمان بالله إيمانا ينطوى على الجد والتوقير والملاحظة، ويرتقى إلى مصاف المسائل التى تهتم بها الدول، وتعقد لها المؤتمرات، على نحو ما نسمع به ونقرأ عنه، فلا.. وأما الإيمان باليوم الآخر، إيمانا يقذف فى النفوس، أن العمران البشرى إلى انقراض، وأن النشاط الإنسانى منقلب ـ لا محالة ـ يوما إلى حساب دقيق، ونقد عميق، كما يقول الشاعر : فإنك كالليل الذى هو مدركى وإن خلت أن المنتأى عنك واسع! فهذا أيضا، لا يكترث العالم به ولا يستعد له بل لعله شىء يهزأ به ويسخر من أصحابه... والأديان ـ برغم ما يزعم لها من منزلة تقليدية ـ أقصيت ـ تماما ـ عن مراكز التوجيه الأعلى للإنسان. والدنيا ـ الآن ـ تسير بقوة جارفة إلى غير غاية، وهى مشغولة أعظم الشغل بالوقود الذى تستهلكه فى هذا السير من غذاء، وكساء، ومتاع، وشهوة، وذهب وفضة، وما يستتبعه الحصول على هذا الوقود، من خصام وسلام، واغتيال واحتيال، وانقسام وانسجام.025(1/18)
وهذا هو عمل الدول ـ قديما وحديثا ـ فى عصبة الأمم ومجلس الأمن. وقد سخر العلم تسخيرا ناجحا فى هذه الآفاق كلها. ويوشك أن تأخذ الأرض زخرفها وتزدان، ويظن أهلها أنهم قادرون عليها.. ثم ماذا بعد ذلك؟. إن الأفئدة لما فرغت من الإيمان بالله واليوم الأخر، امتلأت إيمانا بأمور أخرى، اختلقتها اختلاقا. فالحقيقة ـ كما يقول العلامة "هارى أرسون " فى كتابه ـ كيف تكون رجلا حقا؟ : ".. إنه ما من إنسان يستطيع أن يكون غير مؤمن، فقد رُكِّب الإنسان من الناحية النفسانية بحيث أصبح مضطرا إلى الإيمان بالله أو بغيره!. ومتى مات الإيمان الإيجابى، فإن الإيمان السلبى يحل محله. يتعلق بالمستحيلات أكثر من الممكنات، وبالآراء التى تجعل منا ضحايا للحياة، لا سادة لها، وبالفلسفات التى تدفعنا إلى مثل الحالة النفسية التى كان " رابليه " يجود فيها بأنفاسه وهو يقول : اسدلوا الستار، فقد انتهى تمثيل المهزلة " ا. هـ. وهذا صحيح، فالإنسان إن لم يعبد الله عبد غيره، ولن يتحَّرر ـ البتة ـ من العبودية ما : " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا " وفى التدليل على هذه الحقيقة، يذكر المؤلف أن صديقا لـ " برجنيف " كتب إليه يوما لشىء : " يبدو لى أن وضع الإنسان نفسه فى المحل الثانى هو كل مغزى الحياة. فأجابه قائلا : يبدو لى أن اهتداء المرء إلى ما يقدمه على نفسه ويضعه فى المحل الأول، هو كل مشكلة الحياة.. فالذى يقدمه الإنسان على نفسه ـ كائنا ما كان ـ هو ما يؤمن به. ومتى بذل الإنسان إيمانه من قلبه، فقد شد زناد النشاط الإنسانى " ا. هـ. ونحن نأسف، لأن الأجيال الحاضرة ضلت سبيل الإيمان الصحيح، واستنفدت قواها فى باطل بعد باطل.026(1/19)
كما نأسف، لأنها ـ لما عجزت عن التسامى بالغرائز السفلى ـ استنامت لها، وهامت فيها، وقررت إطلاق زمامها، لتُعربد كيف تشاء. وعندى ـ أن هذا الارتكاس الروحانى، يُفوِّت ثمرات التقدم العلمى كلها، فخير للناس أن يمشوا على الأرض وهم أطهار، من أن يطيروا فى الجو وهم لصوص. وخير للأرض أن تكون معابد مضاءة بالشموع، من أن تكون مراقص مضاءة بالكهرباء.
على أى أنقاض قامت المادية الحديثة :
إن المادية القائمة على نوازع الأثرة وقوانين المنفعة، وانتهاز اللذائذ واشترائها بأى ثمن، قد كسبت المعركة ضد الأديان، دون أن تجد أمامها مقاومة تذكر. ونعنى بالأديان ما كان له أصل محترم من وحى السماء. أما ما يسود الهند والصين واليابان وغيرها، من وثنيات أخذت سَمْتَ الدين وصيغته، فهى أفكار وعواطف أرضية، لا مكان هنا لمحاسبتها. وإنما نعرض لليهودية والمسيحية.. ثم نتكلم عن الإسلام. ولما كان التقدم العلمى والاتجاه المادى، قد طفر طفرته الكبرى فى الغرب، حيث توجد اليهودية وتسود المسيحية. ولما كان الإسلام فى هذه الفترة محسورا فى بلاده، بين همل لا يدركون شيئا، ولا يحسنون عملا، بل كان شائه الحقائق، طامس المعالم راكد التيار.. فقد انفردت المادية بالديانتين القديمتين فافترستهما، ونظرت فى شرق الأرض وغربها، فلم تسمع صوتا يتحداها. فظنت أن الأمر قد استتب لها ولم تحسب فى الإسلام قوة يستطيع بها البقاء، بَلْهَ زيادة من قوة يستطيع بها المغالبة والنجاح. إذ كانت جماهير المسلمين أشبه بالغيوم الكثيفة، حول شمس الإسلام، تميت شعاعه، وترد نهاره ظلاما طويلا. من اليسير أن ندرك، لماذا انهزمت اليهودية والنصرانية أمام الغزو المادى؟ فإن اليهودية فقدت عناصرها المقومة لها، باعتبارها دينا يُنعش الأفئدة، ويشرق على النفوس بالحنان والرحمة، ويرطب من جفاف المعاملات والأنظمة الأولية، التى تقوم بين الناس.027(1/20)
بل على العكس كانت هذه الديانة ـ وكان أصحابها ـ مظهرا للأحقاد الموروثة، والقسوة المطبوعة، والتشبع من الحرام قبل الحلال. وأصبحت اليهودية فى العالم لا وحيا من السماء هدفه الهداية، بل صلة نسب أو آصرة دم بين فريق من الناس يشتغلون بجمع المال وأكل الربا، وسرقة الجهود، وإشعال الحروب، وحبك المؤامرات. فهل مثل هذا الدين ـ بعد هذا الانحراف ـ يقف عائقا أمام المادية الجارفة؟!. كلا. بل إننا نستطيع القول : بأن أبناءه كانوا عونا لها وتمهيدا أى تمهيد : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم..). أما المسيحية.. فقد شاب جوهرها الأول من العوج والالتواء ما أفسد عليها حاضرها ومستقبلها. فإذا علمت أن التقدم المادى اعتمد فى تفوقه على العقل وآفاقه الرحيبة، وأن المسيحية تسرب إليها من العقائد الدخيلة، ما يجعلها تصادم التفكير الحر، عرفت ـ لا شك ـ آخرة ما يكون بينها وبين العلم من صراع. (1) ففكرة الألوهية تبدأ تثليثا، وتنتهى توحيدا ـ على غير منطق ـ وقد سرى هذا إلى المسيحية من ديانة قدماء المصريين، ومن البوذية والهندوكية : (...و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل...) (2) وفكرة القرابين التى تقدمها القبائل المتوحشة ـ حتى عصرنا هذا ـ إلى آلهتها بغية إزجاء شكر أو دفع ضر.. سرت إلى هذه الديانة التى اعتبرت المسيح القربان الأول، صلب فداء لخطايا أدم وأبنائه. وبذلك انهدمت قاعدة العدل فى الجزاء، وصار من حق الخاطئين أن يرموا بأحمالهم على القربان المقدم فوق مذبح الخرافة..028(1/21)
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون) وعندما تكون جملة العقائد فى دين ما، مقتبسة من أساطير الأولين وأوهام الأقدمين، فكيف تستطيع الثبات فى عصر التألق العقلى الأخاذ، أو مسافة الحضارة فى طفرتها البعيدة؟! لذلك تراجعت فكرة التدين وعاطفته فى الغرب، وما يتبع الغرب من أقطار الدنيا التى عنت له، واستأنفت المادية سيرها أو قفزها هنا وهنا. على من تقع التبعة؟ : وقد كان موقف المسيحية فى أوربا وأمريكا، مثلا صارخ الدلالة على انهيار المقاومة وشناعة الاستسلام. فالكنيسة فى الميدان الاجتماعى، فشلت فى محاربة الزنا. والتحلل الخلقى ـ من هذه الناحية ـ بلغ مداه. وقد قرأنا فى الإحصاءات الأخيرة : أنه لا توجد فتيات أبكار بعد سن الرابعة عشرة.!! وفى إحصاء أمريكى : أن 48% من إحدى مدارس البنات وجدن حبالى.. وأمارات الفوضى الجنسية لا حصر لها.. بل إن هذه الفوضى أصبحت الوضع المشروع، على حين اعتبرت العفة النفسية شذوذا جنسيا.!! هذا كله، والكنيسة مذهولة عنه بما ستعرف بعد. وفى الميدان الاقتصادى، يعتبر الربا روح المعاملات المالية، وشرايين الحياة المنبثة فى المصارف والأسواق، والأعمال العامة والخاصة. ولم يرسل الله واحدا من أنبيائه بإباحة الزنا والربا. ولكن الكنيسة سلمت للمادية الطاغية بما تريد، وولت من الميدان هاربة، وعميت عما أمامها من منكر، وشغلت بأمر آخر، هو محاربة الإسلام والكيد له!!.029(1/22)
ففى مكاتب وزارة المستعمرات ، وبإيحاء طغمة من الموظفين الذين لا يرجون لله وقارا، ولا يحترمون لله دينا، وإشباعا لنزوات الفتح والتوسع والاستغلال ترسل بعثات التبشير، لتمكن لإنجلترا، وفرنسا، والولايات المتحدة وغيرها من الدول الطامعة فى الشرق، الراغبة فى قتله.! ورجال الكنيسة في الولايات المتحدة يجمعون بأنفسهم التبرعات، ويرسلونها إلى إسرائيل كيما يشدوا أزرها، فى عدوانها على المسلمين، وتنكيلها باللاجئين. والصحيفة الرسمية لبابا روما، تظهر عطفها على اليهود، وتتهم العرب، بأنهم لا يزالون مستمسكين بدينهم، مخلصين لتقاليدهم. وبأن زعماءهم الذين تخلصوا من قيود التعصب، نفر قلائل، لا يعتد بهم!. وحماسة المسيحية الغربية لم تكن أقل ـ بل كانت أشد ـ من حماسة الشيوعية الملحدة فى انتزاع فلسطين من ذويها، وطردهم عنها، وتسليمها غنيمة باردة للصهيونيين. فانظر إلى هذه النزعة الصليبية، كيف تناست واجبها فى محاربة الفجور القريب منها، ولم تنس حقدها الأعمى فى محاربة الإسلام وأهله. وتأمل كيف تستفيد المادية من هذه السفاهة. وفى الأيام الأخيرة، سمعنا صيحة عن ضرورة اتحاد المسيحية والإسلام لمكافحة المبادئ الهدامة (!) وهى صيحة مريبة فى أسبابها وأساليبها ونتائجها، بل هى قصة سخيفة التكيف والإخراج. فالإسلام الذى خرج ظافرا من محن الهجوم التترى والصليبى قديما لن يعز عليه التخلص من براثن الشيوعية الشرقية والرأسمالية الغربية، فى هذه الأيام، دون تحالف مكذوب، مع من لا يرعون فى مؤمن إلا ولا ذمة، وينسبون إلى المسيح ما يبرأ إلى الله منه!.030(1/23)
الإسلام والأديان التى سبقته :ه
لم يكن هناك موضع لهذا اللدد فى الخصومة، فلا يسوغ أبدا لدين ما، أن يسخره الإلحاد فى محاربة دين آخر. ورأى الإسلام فى " عيسى بن مريم "، أكرم وأشرف من رأى اليهودية التى تتملقها الكنيسة الآن على حسابنا، وتظاهر الإلحاد معها على حربنا.!! إن الإسلام يحترم " موسى " والتوراة التى أنزلت عليه، ويحترم " عيسى " والإنجيل الذى جاء به. ولو كانت المنافسة بين الأديان قائمة على الرغبة المحضة فى هداية الناس والإخلاص العميق فى تقريبهم إلى الله، لما بقى بينها مجال للكيد الرخيص والعداوة الدامية. ولكن الإسلام أخذ على ما سبقه من أديان، أنه يؤمن بهم ويكفرون به.! (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ...) كما أخذ على هؤلاء أن إيمانهم بأديانهم لا يجاوز ألسنتهم. فلو قام الآن "موسى" لأنكر على اليهود صلتهم به.. ولو نزل اليوم "عيسى" لحارب الفسق والظلم فى أوروبا، قبل أى مكان آخر. ومن هنا تساءل القرآن الكريم عن سر هذه النقمة التى أكنها أولئك السفهاء. (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون) على أن اليهودية لا تستهدف لهداية الناس والتبشير بمبادئها، ولا تحب أن يدخل فى حظيرتها أحد، فهى آصرة دم، لا علاقة وحى. والله ـ فى تعبيرها ـ رب إسرائيل قبل أن يكون رب العالمين.031(1/24)
فهل هذا القصور يعطيها حق الحياة والتوسع؟!. وقد علمت ما فى المسيحية من غموض، وأن طاقتها محدودة جدا فى ربط البشر بإله يرتجى ثوابه، ويتقى عقابه، لأن الألوهية شركة شائعة بين ثلاثة، ولأن عقيدة الفداء تغض من حقيقة العدل الذى يضبط الأعمال!!. ولعل هذا سر شيوع الفساد فى الغرب إلى حد عز علاجه.
الإسلام هو القيم الأكبر على الروحانية فى العالم :
ولو أن المسيحية بقيت كما بدأت ـ لا ريب فيها ولا دخيل عليها ـ لما أمكنها أن تقوم بالوظيفة التى ندبت نفسها لها ـ وظيفة توجيه العالم أجمع وإرشاده ـ وذلك لأنها ديانة محلية موقوتة بزمان ومكان. وعيسى ـ عليه السلام ـ ليس إلا واحدا من أنبياء بنى إسرائيل. والإنجيل ليس كتابا مستقلا بالتشريع، ولكنه أدنى إلى أن يكون ملحقا بالتوراة، تابعا لها. ومعنى أن النصرانية دين موضعى، أنها لم تأت من عند الله ـ وبها الخصائص التى تكفل نجاحها عالميا كدعوة عامة. وإذا مدت شبكة كهربائية فى قرية من القرى وزودت بالآلات المحدودة لهذا الغرض، فمن العبث أن ننتظر من هذه الشبكة إضاءة عاصمه كبرى، فضلا عن إضاءة أقطار وأمصار.!! وقد جاءت النصرانية ـ أول عهدها ـ تلطيفا لقساوة المجتمع اليهودى، ورحمة بالجماهير الشقية فيه. ولم تزود بذخر روحى، لأكثر من هذا الغرض القريب. وقد كلفت نفسها العنت، لما حاولت أبعد من غايتها. فلما أصرَّت على القيام بدور ليس لها، وصادمت الزحف المادى، كانت كالذى يدفع براحتيه سيل العرم، فانتهى الأمر بها إلى الفشل، بل إلى الغرق.! ولو حكينا أدوار الصراع بين المسيحية واتجاهات البشرية الخاطئة أو الصائبة، لوجدنا أن تصرف المسيحية أضر بالأديان، أكثر مما أضر بهذه الاتجاهات.032(1/25)
ولعل الظروف التى دار فيها هذا الصراع، هى التى خلقت أزمة الروحانية فى العالم. ونحن ـ والله ـ نكره أن تقوم عداوة دامية بين دين ودين. بيد أننا حريصون على أن يأخذ الإسلام نصيبه الكامل فى عرض حقائقه، وبيان مناهجه، وعلى أن يعطى الفرصة ـ كاملة ـ لينظم أحواله داخل بلاده. وإن كنا نذكر ـ فى معرض السخط والاشمئزاز ـ أن الصليبية الغربية تأبى ذلك كل الإباء، وتوحى إلى أوليائها من الحكام فى الشرق الإسلامى أن يقفوا بالمرصاد، لكل دعوة من هذا القبيل. إن البشرية لا يجوز تركها من غير دين يشرف على تهذيبها، ويعلمها ـ صباحا ومساء ـ أن لها ربا يجب أن تعبده وأن لها آخرة، يجب أن تستعد لها. وقد اصطفى الله الإسلام، وكلف أمته تكليفا حاسما، أن تنهض بهذا العبء. وقضى قضاء مبرما بأن الديانات السابقة قد استنفذت أغراضها، وأنها أعجز من أن تقود العقول، وتحكم العواطف، فى دنيا تتسع آفاقها، وتزداد انفعالاتها، يوما بعد يوم، فلتفسح الطريق لغيرها. يا بارى القوس بريا ليس يحسنه لا تظلم القوس،أعط القوس باريها وموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ قد أدوا واجبهم، و دعموا الجانب الروحى من هذا العالم جهد استطاعتهم. ثم أسلموا الزمان إلى خاتم الأنبياء ـ محمد ـ عليه الصلاة والسلام، ليمضى على السنن بقوة أشد وبصر أحد، فلماذا توضع العوائق أمامه؟!. وها قد مضت أربعة عشر قرنا، ثم عادت إسرائيل مرة أخرى باسم التوراة، تريد الحكم والسيادة.! فهل سمعت، أو لمحت فى عودة إسرائيل، قبسا من فرقان أو قطرة من حنان؟ أم هو التمهيد للعسف والطغيان، والكبر والعدوان؟!. وكذلك قيل لكنائس الغرب : استيقظى. ثم أصغينا للدجالين من ساسة أوروبا يبشرون بالدين.033(1/26)
فما كانت يقظة الكنيسة ولا انعطاف الدولة المفاجئ إليها إلا نفحة من نفحات "الدولار" الأمريكى، لتجنيد الذمم والضمائر فى الحرب المرتقبة!. ولم هذه الحرب؟! لكى تسود المادية فى العالم كله، سواء انتصرت الشيوعية أم الرأسمالية.!!. فالصراع بينهما ليس نزاعا بين الكفر والإيمان، ولكنه غلاب بين لونين من ألوان الطغيان. * * * * لقد فقدت الأديان استقلالها فى الغرب، وسخرتها نزوات شتى. فاليهودية أضحت صهيونية معتدية، والمسيحية أضحت استعمارا خبيثا.! ويراد بالإسلام أن يفقد كذلك مشخصاته ومقوماته، وأن يعيش فى كنف أنظمة أخرى تخالف حقيقته. ثم هى ـ إلى ذلك ـ تحالف وتسالم الصهيونية المعتدية والصليبية المحتلة.! وهيهات! فطبيعة هذا الدين تنطوى على روح المقاومة والعناد. ومن الظلم القبيح للمسلمين ، بل من الإساءة البالغة لهذا العالم المسكين أن يحرم من وجود أمة تحترم كتاب ربها وسنة نبيها، وتحتكم إليهما فيما يعرض لها من أحداث وشئون، وتعتبر التدين شرفا لا عارا، والإيمان بالله واليوم الآخر جدا لا لغوا. إن أوروبا تأبى علينا ذلك، ونحن نأبى إلا ذلك. وسنرى ما يكون. على أن هذا الإباء لا يأتى من الخارج فقط. فبين ظهرانينا أقوام يضيقون بحكم الله، ويحتكمون إلى الطاغوت.! والسلطة القائمة فى بلاد الإسلام، تقع فى أيدى هؤلاء فعلا، وقد أوقعت بالإسلام أبلغ الضرر. والوصف الصحيح لهذا الدين الكريم، أنه الآن تراث عقلى مجرد، وأنه فى بطون الكتب موجود بأكمله ـ وقد تلتصق به أشياء غريبة ـ يعرفها النقاد بسهولة ـ ولا تحسب خطرا عليه. أما فى الميدان العملى، فقد انتقضت عراه واحدة بعد أخرى.034(1/27)
وبدأ الانتقاض بفساد الحكم، فرزئ المسلمون بألوان من الافتيات والجبروت يعد بقاء الإسلام معها معجزة. ولولا ما فى الإسلام من مناعة ذاتية حصنته وحصنت معتنقيه ضد عوامل الفناء، لذهب وذهبوا هباء منثورا. وفى كل عصر تفور الروح الإسلامية فى مشاعر رجال وشعوب، فينهضون ليبسطوا رواقها على المجتمع والدولة. ولكن الحاجة ماسة إلى عمل منظم قوى، يخضع سياسة الحكم وسياسة المال لتعاليم الدين، خضوعا لا فكاك لها منه، مهما اختلفت الأوطان، وتطاولت العصور. ظلمات بعضها فوق بعض :
قد يصاب المرء فى عنفوان قوته واشتداد ساعده بأمراض خطيرة، فيكون له من سلامة البدن وتوافر المناعة، ما يحفظه من سطوة الأوجاع الطارئة، وسرعة فتكها. وقد تبقى لهذه الأمراض آثار كامنة، تنتهز أوقات الضعف والعجز فتعاود هجومها وتستأنف فتكها. والدول كالأفراد فى هذه الأحوال، قد يعترى الدولة خلل خطير فى بعض شئونها، لا تبدو آثاره على عجل، لأن هناك من روافد القوة وعوامل البقاء والنماء، ما يغلب هذه الأسقام العارضة. فإذا تبدلت الأمور، وضعفت أسباب المقاومة، ظهر العوار الخفى، ترادفت أضراره، وتلاحقت أوزاره. وقد تماسك التاريخ الإسلامى فى القرن الأول، لما رمى بسيئات الملك العضوض، والحكم الأموى الغاشم، فلم يتحطم كيان الإسلام ولا انهارت دعوته، إذ كان إشراق العقيدة، وعمق الإخلاص، وروح الجهاد، وتوفر جمهور كبير من الصحابة والتابعين على خدمة الدين ـ ولو فى ظل الأثرة الباغية ـ كان لذلك أثره فى بقاء موجة الفتح، تنداح وتتسع دائرتها، دون أى توقف. وكان العملاق الإسلامى الفارع ـ برغم ما حمل من أثقال الحكام المجرمين ـ قادرا على الضرب فى الأرض، وتحرير عشرات من الأمم والشعوب، التى أكلها الكفر والظلم.035(1/28)
بيد أن إلحاح العلل، وتلاحق الأزمات على الإسلام، انتهى به إلى ما نرى ونسمع، فبقيت سيئات الحكم الفاسد، وأدبرت أسباب العافية والقوة. والفساد الذى أصاب سياسة الحكم، هو نفسه الذى أصاب سياسة المال، بدأ خفيف الوقع ـ وإن كان غليظ الدلالة ـ فتحملته الأمة فى شبابها كما يتحمل الرجل العامل وعكة لا تعرقل سيره، ولا تعطل وظيفته. وكزت الليالى على هذا الاضطراب فى بلاد الإسلام، فإذا بمعين القوة ينضب لقلة موارده، وإذا بأعراض الداء تستفحل، وإذا بالأمة الإسلامية مقعدة فى طريق الحياة الطويل، لا تستطيع حركة.! إن دينها العظيم تعمل فيه جرثومتان خبيثتان، من ديكتاتورية الحكم ورأسمالية الاقتصاد. ومعروف أن هناك طائفة واحدة من الناس، هى التى تستفيد من إفساد دين الله ودنيا الناس. وهى التى يهمها أن تفسد سياسة الحكم والمال، بل إنها لتضع القمامة التى تتولد فيها جراثيم هذا الفساد العريض، ثم تتعهد توريدها إلى حيث تشاء. ومعروف أن الإسلام فى فتوحه الأولى، اكتسح هذه الطائفة، وأسقط جاهها فى فارس والروم. فلما أراد " معاوية " أن يتجه بشكل الحكم الإسلامى إلى غير ما غرف فى دولة الخلافة، لاحظ المعترضون عليه من صحابة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أن هذا الاتجاه رومانى لا إسلامى، وقالوا فى وصف :ه كلما هلك هرقل قام هرقل!. ولكن هذا الأسلوب الرومانى كتبت له السيطرة، وبلغ من اجترائه أنه استولى على منابر "الجمعة " يلعن من فوقها ممثلى الاتجاه الإسلامى الصحيح !036(1/29)
وفى عصرنا هذا وصلت بنا مراحل الأمراض الاجتماعية والسياسية، إلى أقصى حدود الهوان والفوضى. وزاد الطين بلة، أننا ـ فى ضعفنا ـ اتصلنا بالغرب المادى فى قوته وجبروته. وللغرب عناصر حياته التى يعتمد عليها فى تفوقه وانطلاقه، وله كذلك هناته الشائنة. وهى لا تؤثر فيه ـ لا لتفاهتها ـ بل لغلبة عوامل القوة التى تقاومها ـ كما كنا قديما. غير أننا كنا أسرع من أى شىء آخر إلى تلقف هذه الهنات، ولم نحسب حضارة الغرب إلا متعا ولذاذات، فالتقت فى حياتنا التعسة نفايات كثيرة من أخطاء الماضى، ولوثات الحاضر، وأضحى على المصلحين أن يحملوا أثقالا فوق أثقال!. وأضحى على مفكرى الإسلام ـ خاصة ـ أن يشقوا طريقهم وسط صعاب وعقاب. إذ إن الذين تؤذيهم اليقظة الإسلامية كثيرون، فكم من ظلم سينقصم، ومن وَهْمٍ سينكشف، ومن كبراء سيصغرون، ومن محتلين سينزلون
من أنصارى إلى الله..؟
للإسلام فى "مصر" فريقان من الناس ينتسبون له ويظهرون به.. المتطوعون من رجال الجماعات الإسلامية، والرسميون من علماء الأزهر. ومن سوء الحظ أن جهود الفريقين لم تنسق لغاية واحدة. ومنذ بدأ الصراع بين الماديين والمتدينين فى بلادنا، ومعاقل الدين تتساقط واحدة بعد أخرى، وصراخ الضجر والاستنكار يعلو مرة ويخفت أخرى. ولا تزال هناك شارات خفيفة، تدل على بقايا إسلامية فى مجتمعنا. فالمحاكم الشرعية بجوار المحاكم الأهلية، والتعليم الدينى إلى جانب التعليم المدنى. ومظاهر التزمت، إلى تقاليد التحلل، والتاريخ الهجرى مع التاريخ الميلادى. وإن كانت هذه المظاهر دائمة التقلص والانكماش. والواقع أن التيار المدنى جارف، والقوى أمامه مبعثرة.037(1/30)
ولابد من حشد المخلصين لله ورسوله فى جبهة واحدة، تستميت فى المحافظة على ما بقى، واسترجاع ما ضاع، وتركز ضغطها على مصدر الخطر كله، وهو الاستعمار بشقيه الخبيثين الداخلى والخارجى على السواء. أعرف هيئات متدينة، لا تفكر فى هذا الكفاح!. وهى ـ بذلك ـ تجرم فى حق الإسلام! وقد تتاح لها فرصة الحياة لسنين معدودة ويخلى بينها وبين عباداتها الشخصية لتؤديها فى حرية. بيد أنها ستنقرض فى الجو الجديد، كما انقرضت حيوانات العصور الخالية، لما تغير عليها المناخ. وأعرف رجالا من الشيوخ فى الأزهر، يعيشون على الإسلام كما تعيش ديدان "البلهارسيا" " والانكلستوما " على دم الفلاح المسكين!. والغريب أن أنشط علماء الأزهر وأحقهم بقيادة زمامه، مبعدون عنه أو مطاردون فيه..!!. وقد فقد الأزهر الكثير من مكانته الشعبية، لأن أقطابه وقفوا من كبراء الأمة موقفا ينبو عن روح الإسلام. فهم لم ينصحوا المخطئ من هؤلاء الكبراء الخطائين. وليتهم ـ لما سكتوا عن النصح الواجب ـ اعتزلوا الأمر كله، إذن لهان الحدث قليلا. ولكن الذى هال الناس تملق هؤلاء الأقطاب، لمن يوقن الناس أن مدحه كذب، والركون إليه نفاق. ولعل هؤلاء هم المعنيون بالحديث : " إن ناسا من أمتى سيتفقهون فى الدين ويقرءون القرآن، يقولون : نأتى الأمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزل بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا.. " قال الراوى : كأنه يعنى الخطايا!. وعن جابر بن عبد الل :ه أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لكعب بن عجرة : " أعاذك الله من إمارة السفهاء ". قال : وما إمارة السفهاء؟038(1/31)
قال : " أمراء يكونون بعدى، لا يهتدون بهديى، ولا يستنون بسنتى، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منى ولست منهم، ولا يردون على حوضى، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منى وأنا منهم، وسيردون على حوضى ". * *** لاشك أن الإسلام بحاجة إلى من يجاهد له، لاسيما فى عصر فقد فيه دولته، وحرم فيه سلطته، وأصبح يحيا بطرق مفتعلة. والعبء يقع على رجال الأزهر. وعلى أعضاء الجماعات الدينية. فالذين يكتمون الحق ولا يجهرون به فى وجوه الحكام والمحكومين، مقصرون. والذين يقومون بطائفة من العبادات الفردية، ويحسبون رسالتهم قد انتهت إلى هذا الحد، قاصرون. فهل ينجو الإسلام من لوثات القاصرين، وتراخى المقصرين؟!. إنما لنأمل أن يقوم للإسلام رجال لا يخافون فى الله لومة لائم، يردون عادية الإلحاد والفسوق، ويرفعون أعلام اليقين والمرحمة. فيدرك ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج
039(1/32)
الفصل الثانى :دعائم الأخوة العامة:
اتفقت رسالات السماء جميعا على أن الناس سواسية، يردهم أصل الخلق إلى عنصر واحد، ويرجع أنسابهم ـ على اختلاف الأمكنة ـ إلى أب واحد، ويخضعون لواجبات وأحكام واحدة، ولهم من ثمرات حياتهم بقدر ما عليهم من تكاليفها : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) واستواء الناس فيما يطوقون من مغارم، وفيما يمنحون من مغانم، يقف عند حدود دائرة معينة. فإن البشر ليسوا نسخا كثيرة من كتاب واحد، بل هم مختلفون اختلافا بينا فى ملكاتهم النفسية ومواهبهم العقلية. واختلاف أجورهم المادية وحظوظهم المعنوية تبعا لذلك، لا غضاضة فيه. وليس هناك كالجنس الإنسانى فى تفاوت أفراده كمالا ونقصا وكرما ولؤما وبقدر ما ينطوى الإنسان على مواهب نفسية، ينطوى كذلك على غرائز خسيسة. ومع ذلك التباين الشاسع بين الأفراد فهم متساوون، أمام الحقوق والواجبات العامة، أمام فرائض الدين والتزامات القانون. ليس لذكى أن يسفك دم غبى، وليس لقوى أن يأكل مال ضعيف، وليس لمتفوق أن يتسلط على متأخر تسلط جور وافتئات!. ذلك أنهم وإن تباينت طاقتهم فهفا وسلوكا فى هذه الحياة، فإن بينهم قدرا مشتركا لا يفضل أحد أحدا فيه، هو الأخوة العامة التى يجرى دمها فى عروقهم من الأب الأولى، الذى نسل! م أجمعين، وسلسل فى شتى الأعصار والأمصار، أحمرهم وأسودهم، وأقزامهم وعمالقتهم. والأسرة الواحدة قد يكون فيها الغصن العالى والغصن القريب.042(1/33)
وهذا لا يعنى تنكر بعضهم لبعض، أو جحود الأصل الذى انبثقوا منه وعاشوا عليه! بل الواجب يقضى بأن يأخذ القوى بيد الضعيف، وأن يبسط عليه جناح رحمته، ما ظل محتاجا إليها. وجمهرة تعاليم الدين القويم تقوم على هذا الأساس المبين، وتقرر بين البشر كافة هذه الأخوة العريقة. ثم هى تنظر إلى حقوق هذه الأخوة، حين تأمر بالبر والتواصل والعدالة وحين تنهى عن الظلم والقطيعة والعقوق. ولعل اعتبار الإنسانية كلها أسرة متشابكة الأجزاء متكافلة الأعضاء، اعتبارها قرابة تحترم، ورحما توصل، هو ما عناه ختام الآية الكريمة : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) وبهذا التفسير يتفق عَجُزُ الآية مع صدرها فى الاتساع والشمول. ولا شك أن البشر أحوج ما يكونون إلى التعاون والتراحم، والإحساس القوى بأنهم أسرة واحدة، أسرة لا تترك أحدا من أبنائها يجوع ويعرى، أو أحدا من شعوبها يضل ويخزى...! ودون الوصول إلى هذه الغاية النبيلة عقبات وعقبات، سواء من الاستعمار الخارجى الذى يجنح إليه الغرب، أم من الاستعمار الداخلى الذى وقع فيه الشرق، وإلى أن تتقرر الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية لأعم الأرض قاطبة، لا يمكن أن يقال : إن هناك أخوة عامة بين الناس!.
ضابط مطرد :
والأخوة المطلقة حقيقة لا مَعْدَى عن المناداة بها، وحشد الناس تحت لوائها، وهى الضابط الذى تبلغ المساواة فى ظله آخر مداها. فقد يقال : إن المساواة المطلقة بين الأفراد مستحيلة. ولكن لن يقال ذلك فى مبدأ الأخوة.043(1/34)
والحقيقة : أن الجماهير التى هتفت بالمساواة، وصرخت تطلبها، لم يدر فى خلدها قط أن تسوى بين خائن وأمين، أو بين كسول ونشيط، أو بين ذكى وغبى. إنما أرادت أن تسوى بين الخائن والخائن فى العقاب، وبين الأمين والأمين فى الثواب، وبين الكسول والكسول فى المنزلة، والنشيط والنشيط فى فرص الربح وأسباب التقدم وهكذا... وهذه المساواة العادلة غير متحققة فى ظلام النظم المستبدة والجور الاجتماعى. إذ قد يقفز الغبى لعوامل مصطنعة إلى الأمام، على حيزا يدفع بالذكى إلى مؤخرة الصفوف، أو يتساوى الرجلان مقدرة وكفاية، ثم تفتح الأبواب وتزاح السدود أمام أحدهما، ويبقى الآخر حائرا لا يدرى ماذا يصنع، لأن هذا غنى وذاك فقير مثلا!. وتشريع النظم التى تقر المساواة التامة، بين أبناء الأمة، أمر لابد منه. ومازلنا فى الشرق نسعى إليه بخطوات عرجاء. ونحن ـ لا شك ـ نحقق العدالة فى أعظم صورها، ونتمشى مع مبدأ الأخوة وقانون المساواة، يوم نتيح لطبقات الأمة جميعها الانتساب إلى مراحل التعليم عاليها ودانيها. ويوم نمكنها من الاستيلاء على وظائف الحكومة كبراها وصغراها، فلا يتقدم أحد إلى شىء من ذلك إلا بكفايته الشخصية، ولا يتأخر إلا لعجزه الخاص! أما أن تستطيع طبقة معينة، احتكار هذه النواحى لنفوذها المادى والأدبى، فهذا خروج فاضح على مبدأ المساواة بين الناص، وهدم واضح لقانون الأخوة الذى يجب أن يسود الجميع. وكل امتياز مادى لا يعود إلى تفوق ثابت أو كفاية ظاهرة، فهو ظلم لا مسوغ لبقائه. ولاشك أنه عندما تسوى الطبقات المختلفة، على أساس الصفات المشتركة التى تجمع بين أفرادها، فإنه سيبقى بعدئذ فى المجتمع مَن يوصف بأنه كبير، ومَن يوصف بأنه صغير.! وهنا تفرغ المساواة من أداء رسالتها ويجىء دور الإخاء، ليصبغ العلاقات بصبغته النبيلة. فهى ليست علاقة استعلاء من ناحية واستخذاء من ناحية أخرى، بل هى علاقة رحمة وحُنو، أو توقير وإكرام كما قال النبى ـ صلوات(1/35)
الله وسلامه عليه ـ : "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه. " إن الرجلين الشقيقين يخرجان من وعاء واحد، ويغذوهما سقاء واحد، ثم قد يختلفان طاقة ومزاجا واستعدادا، فتتفرق فى الحياة سبلهما.044
وقد يعلو هذا فيصير ضابطا أو طبيبا، ويهبط ذلك فيصير جنديا أو ممرضا.! فأول ما يفترض فى العلاقة بين الأخوين، أن اختلاف وظيفتيهما لن يمحو أواصر القربى بينهما، بل يجب أن تبقى عواطف المحبة والتناصر والاعتزاز وطيدة فى قلوبهما، وأن يشعر كلاهما بحقيقة الشركة التى تجمعهما فى نسب ومسئولية، بل فى عصبية أحيانا. فلا يكون فى قلب الأكبر جحود، ولا فى فؤاد الأصغر حقد.! كذلك يجب أن تكون الصلات بين طبقات المجتمع. فالناس إخوة، وأبعد ما يتصور فى تحديد أوضاع الناس، أن يكون هذا سيدا، وذاك عبدا، أو هذا مربوب وذاك رب، أو أن تسخر الفوارق المادية لمسخ الطبيعة الإنسانية.!! هذه الفوارق التى أوتيت القدرة على أن تقلب الأوغاد أمجادا، بعد أن سمح لها ابتداء أن تقطع ما أمر الله به أن يوصل، وأن تملأ الأرض فسادا.!
آمال الشعوب :
فى نشدان الأمم للعدالة، كانت تطلب المساواة الصحيحة، التى لا ضير منها على أحد، المساواة التى شرع الله لعباده منذ خلق السموات والأرض، والتى عبر عنها نبى الإسلام أصدق تعبير، يوم قال : " الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى ". فإن تكن التقوى أساس التفاضل بين الناس فى الدين، فليكن العمل أساس التفاضل بين الناس فى الدنيا. ويجب أن تحترم هذه الأسس، فلا تعصف بنتائجها العادلة أهواء الطغاة. ثم إن علينا ـ أبدا ـ الكشف عن معالمها، ووقف الناس جميعا عند حدودها، ووضع القواعد المحققة لهذه الغاية. فتقرر حقوق الإنسان، ويضمن تكافؤ الفرص، وتصان ثمرات الكفاح، وتستأصل شأفة الاغتيال والاحتيال. وقد جاءت على الإنسانية فترات قصيرة ـ تكاد لا تحسب من عمرها ـ تحققت فيها المساواة المثالية(1/36)
التى تنتفى فيها الفوارق، حتى ما كانت لها مبررات خاصة.045
ففى فجر الإسلام يوم صاغت العقيدة الإسلامية طائفة من المثل العليا النابضة بالحياة، كان الرجل يشاطر زميله ماله وأهله، ويشاركه فى السراء والضراء. قالى النبى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : " إن الأشعريين كانوا إذا أرملوا فى غزو، أو قل طعام عيالهم، جمعوا ما لديهم من طعام فى ثوب واحد فاقتسموه فيما بينهم بالسوية، فهم منى وأنا منهم " ولئن كان الكبير والصغير يشتركان فى طعام واحد، فقد كان العمل اللاغب قسمة موزعة على الجميع. وقد رأينا الرسول ـ على جلالة قدره ـ يشتغل مع أصحابه فى حفر التراب فى غزوة الأحزاب، ويساهم معهم فى تجهيز الأكل. فإذا استراحوا من العمل وضمهم مجلس راحة، لم يعرف النبى من بينهم بشارة خاصة، ولم يقم أحد منهم عند مقدمه، لأن الله يكره أن يتميز الرجل على أصحابه، ولأن :ه " من أحب أن يتمثل الناس له قياما فليتبوأ مقعده من النار"!! تلك تعاليم الإسلام الواضحة فى سنته الثابتة، تعتمد على مساواة مثالية رائعة ، ينزل فيها الفاضل عن حقه للمفضول، لأن الحياة فى مجتمع من الصديقين، تستغنى عن هذه الأنانية، بل تعلو فوقها، كثيرا جدا. وإن مكارم الأخلاق عند الرجال الفضلاء، لتجعل المساواة قانونا مرعيا واجب التطبيق. قال حاتم الطائى ـ يصف المعاملة التى تنبغى للرفيق ـ إذا كانت لك ـ وليست له ـ ناقة فى السفر : وما أنا بالطاوى حقيبة رحلها لأبعثها خفا وأترك صاحبى إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع رفيقك يمشى خلفها غير راكب أنخها فأردفه فإن حملتكما فذاك، وإن كان العقاب فعاقب وإنه لنبل عظيم أن يتعاقب الرجلان على بعيرهما، يمشى صاحبه ويركب الأخر حينا، وحينا.!046(1/37)
وقد فعل ذلك أمير المؤمنين " عمر " مع خادم، وكان " عمر " فى هذا المسلك يتبع تقاليد النبوة، ويرضى فى نفسه خلال الرجولة، فليست الرجولة ـ كما هى فى عرف باشوات مصر ـ أن تمتطى سيارة فارهة، بين جماهير من الحفاة العراة!! ويظهر أن النبيين والصديقين جنحوا إلى هذه المساواة المثالية، حتى إذا قصرت الأجيال فى بلوغها وصلت قريبا منها، فإذا فاتها الفضل لم يفتها العدل. والعدل هو المساواة التى لا تعطى أحدا حقا ليس له، ولا تبخس إنسانا شيئا من مقومات حياته الكريمة!. غير أن الدنيا كانت عند سوء الظن بها! فما لبثت حقوق الأمم المعقولة أن وضعت على موائد المترفين : فأكلوها أكلا لما، وسلب الألوف ضروراتهم ليتخم بها أفراد، وصودرت حريات شتى ليشبع طغيان الكبر عند الأوغاد. وقد تقلب بعض صحائف التاريخ فتسمع بها ضجيج الثوار الذين حطموا الأصنام، وهتكوا حجاب الخرافات المقدسة. ولكن صحائف التاريخ الطويلة، عليها صمت مريب، كأنما هو صمت القبور، التى ماتت فيها الآمال، وذلت فيها الرجال من طول ما توارثت البشرية من عُسف وطغيان وتشريد. ولذلك ما إن اندلعت الثورات فى القرن الأخير حتى تطلعت الجماهير إلى مساواة خيالية! كالظمأن الذى طال عليه العطش، فلما وقع على الماء أخذ يعب ويعب حتى خرج الرى من أظافره. يقول (والن) فى كتابه " روسيا السوفيتية " : " فى يوم من عام 1919 طرق باب الأستاذ المشهور "ديولكى" طارق، وفتح الأستاذ، فوجد طائفة من الجند، معهم ضابط، قال له حين رآ :ه إن عندك ـ يا أستاذ ـ سريرين نريد منهما سريرا، ويبقى الآخر لتنام فيه أنت وزوجك!. وشكا الأستاذ أمر هذا الضابط إلى " لينين " فرد عليه يقول : إن ركبة أهل العلم من أمثالك فى أن يكون لهم سرير، وللزوجة سرير رغبة معقولة، ولكن الفقراء عندنا لم يسعدهم الحظ بعد، بأن يكون لهم حتى سرير واحد، لهذا لزم أن تعطى سريرا من سريريك. " ا هـ!!.047(1/38)
كان هذا فى بدء الثورة، لما كان أمر المساواة الكاملة بغية جميع الناس، وأهم شيء يعنى به رجال الثورة. كان العهد البائد عهد القياصرة، عهد الفروق الكبيرة، عهد التخمة وعهد الجوع، عهد الدفء فى الفراء، وعهد الرعشة من عرى، عهد النعمة الضاحكة والفاقة الباكية، عهد السلطان والجبروت اللذين لا حد لهما، وعهد الطاعة التى لا حد لها. وانتهى العهد فلا بد أن تنتهى معه هذه الفروق كلها، لا بد من المساواة الحسابية، كما تساوى العشرة عشرة، لا تسعة ولا أحد عشر. وكل شيء يقوم فى طريق هذه المساواة. لابد من إزالته وتذليله. بيد أن الثورات التى انفجرت فى وجه الظلم، لا ينبغى أن تنتهى إلى ظلم من لون آخر. صيح أن الناس سواء، إلا أن هذه المساواة تعقل على أوائل الطريق فى الميدان، وقبل بداية الشوط، فإذا انطلق المتسابقون فلا مساواة بين الأصيل والهجين، ولا بين المجاهد والقاعد. نعم من قوانين المساواة أن نمهد الطريق أمام الجميع، وأن نزيل كل قيد يعوق البعض عن الحركة، وأن نمنع كل شكوى من العقبات الموضوعة، والعثرات المصنوعة. والناس سواء فى المطالبة بهذه الحقوق، فإذا نالوها فللسابق أجره ولا حرج، وعلى الخالف وزره ولا كرامة. ومن ثم قال (ستالين) لأنصار المساواة الحسابية السابقة : "..إن هؤلاء القوم يحسبون أن الاشتراكية تستلزم المساواة فى مطالب العيش، لكل فرد من أفراد المجتمع؟. ألا ما أسخفه من رأى يخرج عن فكر مهوش شتيت. إن المساواة التى نادوا بها أضرت بصناعتنا أكبر الإضرار " ا. هـ على أن هناك نهاية صغرى متقاربة الفئات للمساواة المادية التى يحتاج الناس إليها فى إشباع ضروراتهم، كما أن هناك نهايات كبرى للمطالب البشرية المعقولة. ولا يستطيع أحد القول أن هذه المساواة المرنة متحققة عندنا، مادامت هناك جماهير تنزل فى معيشتها عن مرتبة السوائم، وأفراد يعبثون فى الأرض عبث الشياطين.048(1/39)
يقول الدكتور أحمد زكى : "قال رجل ممن يؤمنون بالخلاف ـ يحتج عند رجل ممن يؤمنون بالمساواة ـ : انظر إلى أصابع يدك، هل جعلها الله طولا واحد ا؟ فأجاب الآخر : نعم إنها ليست على طول واحد، ولكن ماذا يكون الحال لو أن الله أطال إصبعا منها أو إصبعين حتى صارتا مترا أو مترين؟! أكانت يدك عندئذ قادرة أن تقبض على شيء.؟! فالأمر إذن ليس كنه الخلاف بين الناس، ولكن مقداره. إن الذى أرق ذوى الضمائر من مفكرين وفلاسفة، ليس الفرق فى المتاع بين إنسان و إنسان، ولكن ضخامة هذا الفرق، ولا سيما تلك الضخامة التى لا يمكن أن تكون بسبب ما بين فرد وفرد، من قدرة وكفاية " ا. هـ.
نبوءات صادقة :
هناك آثار دينية طريفة، يتلقاها عامة المسلمين بالقبول، ولها فى التاريخ الإسلامى ـ قريبه وبعيده ـ مظاهر متكررة، ومحور هذه الآثار، أن هناك حاكما منتظرا يترقب المسلمون مطلعه، ليفك الآصار الثقال، التى رموا بها على تقلب الأيام!!. والأوصاف التى ذكرت لهذا الحاكم، تستحق أن نقف لديها قليلا، فقد ذكروا عنه أنه "يقسم المال بالسوية" وأنه "يحثى المال حثيا ولا يعده عدا " وأنه " يملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا ". تلك هى سمات الحاكم المهدى المنتظر! وسواء صحت الأحاديث التى وردت به أم أن هذه الأحاديث صورة نضحت بها آمال الشعوب المضطهدة والأم المعذبة. فإن هذه الآثار تشير إلى الناحية الكابية فى حياة المسلمين، وتنطق بالأدوية التى تهفو إليها أفئدتهم الجريحة، ونفوسهم المقرحة. ولئن كانت التطورات العالمية المشاهدة تنبئ عن اتجاهات عنيفة إلى الحياة الاشتراكية، إن دلائل الدين تصدق هذا التطور، وتحمل الأغنياء وزره، وتدل على أن الفقراء سيأخذون حقهم غصبا، ويؤمنون معايشهم وحدهم، وأن الأغنياء سيجيئون بعد فوات الفرصة، ليدفعوا الزكاة فلا تقبل منهم!!.049(1/40)
وقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا المصير ، فقال : " تصدقوا فإنه يأتى زمان يمشى الرجل بصدقته ، فلا يجد من يقبلها . يقول الرجل الفقير : لو جئت بها الأمس لقبلتها . أما اليوم فلا حاجة لى بها " !! . وكرر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذير الأغنياء من عواقب شحهم فى الدنيا والآخرة ، قائلا : " إن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته ، لا يجد من يقبلها ! ثم ليقفن له بين يدى الله ، ليس بينه وبينه حجاب ، ولا ترجمان يترجم له ، ثم ليقولن له : ألم أوتك مالا ؟ فيقولن : بلى ، ثم ليقولن : ألم أرسل إليك رسولا يأمر بالإنفاق ؟ فيقولن : بلى . فينظر عن يمينه ، فلا يرى إلا النار ، وينظر عن شماله ، فلا يرى إلا النار فَليتقينَّ أحدكم النار ولو بشق تمرة " .
يقظة متأخرة :
ما أشبه تاريخ الرأسمالية الكافرة بحقوق الله وحقوق الناس ، بتاريخ فرعون حاكم مصر القديم ، فقد ظل يطغى فى البلاد ويكثر فيها الفساد ، ويزعم للناس أنه ربهم الأعلى ، حتى إذا اختطفته نذر الموت ، وبدأت تحشو فمه من طين البحر ، قال : (( .. آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )) . كذلك آثر البخلاء من رجال المال أن تبقى خزائنهم مترعة ، على حين ارتفعت من حواليهم صيحات الشكاية ، وشاعت فى مجتماعتهم مشاعر الضيق والعوز . فلما انفجر المِرجَلُ اكتوى بناره ـ أولا وأخيرا ـ أولئك الذين سعروها ، ثم حاقت فيهم دعوة موسى : (( .. ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم )) . لقد زرع الرأسماليون بأيديهم المبادئ التى تنكر عليهم حق الحياة .050(1/41)
ولو أنهم شعروا بأواصر القربى وعواطف الأخوة، ومعانى الإنسانية الفاضلة التى تربطهم بأفراد الطبقات العاملة، ولو أنهم أحسنوا العمل بالدين بدلا من تشويه نصوصه لمصلحتهم، وتسخير رجاله لمآربهم، لعاشوا إلى الأبد فى مأمن. وإنك لا تدرى إذا جاء سائل أأنت بما تعطيه أم هو أسعد عسى سائل ذو حاجة إن منعته من من اليوم سُؤلا أن يكون له غد بلى وإنه من حق الشعوب أن تكره المظالم، وأن تتخلص منها إذا وقعت فيها، وأن تحتاط ضد عودتها إذا برئت منها. وربما لا يفهم الرأسماليون هذه الحقيقة، لأنهم ـ قديما وحديثا ـ فى شغل بأنفسهم عن غيرهم. وأبرز صفات هذه الطبقة، الاعتداد بالذات اعتدادا يقترن بالغرور والغطرسة، فهم أبعد الناس عن الاعتراف بمبدأ المساواة بينهم وبين أفراد الشعب. ثم إن من خلقهم التواصى بالبخل، فليس يكفى أحدهم أن يجحد حقوق الآخرين لديه، بل أنه يوصى من هم على شاكلته من أفراد طبقته بالجحود، والتظاهر بالعجز عن إجابة رغبات السائلين والمحتاجين. فهم أبعد الناس عن الاعتراف بمبدأ الأخوة العامة. وقد نزلت فى القرآن الكريم آيات تعتبر أصدق وصف لملامح هذه الطبقة الفاجرة. فبعد أن أمر الله ـ عز وجل ـ بتوحيده والإحسان إلى عباده قال : (..إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) ومن العجب أن القرآن ـ بعدما وصفهم بهذا البخل الشنيع ـ ذكر فى أوصافهم أنهم ينفقون أموالهم فى المظاهر الفارغة، ويتوسعون فى النفقات المريبة، فقال :051(1/42)
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) وهذا حق. فإن أولئك الذين يتواصون بالبخل فى الحقوق الواجبة، يريقون أموالهم، سيولا دافقة فى الحفلات الساهرة والليالى الحمراء، لينتشر فى الأندية، ويذاع فى الصحف نبأ ما أنفقوا فى سبيل الشيطان : (..ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا * وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله..) لَعَمْرُ الحق ما كان عليهم من حرج لو فعلوا ذلك، ولكنهم ضنوا بالقليل فتهددهم ويل كثير.. هم له ـ ولشر منه ـ أهل!.
هدم الطواغيت :
أى ضير يصيب الحياة، لو خلت من طغيان الغنى، ومن هوان الفقر؟! بل قل : أى خير تصيبه الحياة، لو خلت من بطنة المترفين وافتخارهم ومن حاجة المحرومين وانكسارهم؟. ألا تذرع الإنسانية طريقها إلى الأمام فى خطوات مساح. ثم أليس هذا ما يصبو الدين إلى تحقيقه. إن الدين فى ـ تصويره المثل العليا للعلاقات بين الناس ـ يمجد الإيثار. الإيثار الذى يجعل المرء ينزل عن ضروراته لأخيه الإنسان إذا احتاج إليها. الإيثار الذى يرفع العلائق الإنسانية إلى مستوى لا يرقى إليه غش ولا ضغن ولا كزازة، والذى يوحى إلى الشاعر قول :ه إن أخاك الصدق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك! ومن إذا ريب الزمان صدعك شئت فيك شمله ليجمعك!052(1/43)
ونحن لا نطالب الناس بهذا الإيثار العالى، إذ كيف نطلب الفضل ممن فاته العدل، أو نطلب التكرم والسماحة، ممن يضن بالحقوق أن يدفعها؟. إننا نطلب من الناس أخوة تورع عليهم السراء والضراء بالقسطاس المستقيم. أخوة تعطى كل ذى فضل فضله، وكل ذى حق حقه، وذلك ما يعز فى هذه الأيام وجوده.!! ولكى يوجد يجب أن نخلع أسنان الطبقات المفترسة، حتى نمنعها من القضم، وأن نروض جماحها، حتى لا تعاود ما اقترفته من إثم، وأن نصحح أفكار العامة والخاصة، حتى لا يبغى أحد على أحد، وحتى يعود الجميع عباد الله إخوانا. أما المجتمع المشحون بالمحرومين والمظلومين، المنكوب بالطغاة والجبارين، فهيهات أن تتحقق بين بنيه أخوة. وأية أخوة تنعقد بين الظالم والمظلوم، والطاعم والمحروم؟!. ولو أن ما نرى من فقر نتيجة قعود الكسالى ما ارتفع صوت أبدا بإطعام كسلان.! لكن المزعج أن نرى ذل الاحتياج على جبين يتصبب عرقا، ويتلوث غبارا، وأن نلمح الأيدى المختبئة فى القفازات، تلهو بالذهب والفضة، وقد نجمت عن ذلك مبادئ وأفكار وتصورات كريبة. وشاع لدينا ـ نحن الشرقيين ـ أن الذكاء باب إلى النحس، وأن الغباء باب إلى الثراء، وأن الدنيا ـ كما يقول العامة ـ تعطى الحلية من ليست له آذان. وكثر فى الشعر العربى ترديد هذه الأوهام. لما رأيت الحظ حظ الجاهل ولم أر المحروم غير العاقل شربتُ عشرا من كروم " بابل " فصرت من عقلى على مراحل.!! وهكذا تخلص الشاعر من عقله الذى يسبب نحسه!.053(1/44)
ويقول الآخر ـ يريح نفسه من عناء الفكر والعمل ـ : والعيش خير فى ظلال الحمق ممن عاش كدّاً ويقول الآخر ـ معتذرا عن إخفاق النشيط ونجاح القاعد ـ : قد يُقترُ الجود التقى ويُكثِرُ الحمق الأثيمُ! يُملى لذاك ويُبتلى هذا. فأيهما المضيم؟ ويعلل الآخر هذه النتائج المحزنة، المضيعة لثمرات الجهد الإنسانى فيقول : ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ويُكدى الفتى فى دهره وهو عالم! ولو كانت الأرزاق تجرى على الحِجا هلكن إذا من جهلهن البهائم! وأخيرا تلقى التبعة فى هذا التفاوت الأليم على الأقدار القاهرة فيقول الشاعر : متى ما يرى الناس الغنى وجاره فقير. يقولوا : عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ولكن أحاظ قُسمت وجُدود! وهكذا يتخلص الناس من عناء الاعتراض على النظم الفاسدة، والأوضاع الجائرة والأحكام المستبدة، والخلل الاقتصادى، وانتشار الزلفى والمحسوبية والمظالم، يتخلصون من الاعتراض على هذا كله، باتهام القدر الأعلى.!
ما ذنب القدر؟!
وشيوع هذه القالة يحدث تخريبا واسع النطاق فى دعائم نهضتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن أنه تخرُّص على القدر، بسند التهمة الباطلة التى تزعم أن الدين مخدر للشعوب. إن تعاليم الدين تقوم على أساس ـ لا مكان للمراء حوله ـ هو حرية الإرادة فيما تفعل وتترك. فكل امرئ يعطى من الله الاختيار المطلق، الذى يتوجه به ـ إن أحب ـ نحو الفضيلة أو الرذيلة، نحو الخير أو الشر. (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر...)054(1/45)
ولو انهدم هذا الأساس، ما كان هناك معنى لتكليف الناس بشىء قط، ولكانت رسالات الأنبياء عبثا لا طائل تحته، ولقال أى إنسان لله ـ يوم البعث والحساب ـ : لم النقاش فى أمر أكرهت على فعله أو تركه؟!. غير أن شيئا من هذا لن يكون، لأن الإرادة الإنسانية مكفولة الحرية تجاه ما تخاطب به : (..لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل..) وكل ما ورد من الآيات الأخرى ـ موهما فى ظاهره غير ذلك ـ فقد جاء فى سياقات خاصة، ومناسبات لا يعدوها. وعموم المشيئة الإلهية مثلا فى قول :ه ".. يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. " لا يخدش هذه الحقيقة، ولا يجعلنا نفرط ـ قيد شعرة ـ فى شئون التعليم والتربية، وفى إثابة النابغين ومعاقبة المجرمين، وفى تحميل الإرادة البشرية مسئولية ما تقترف من حسنات أو سيئات. كذلك قوله تعالى : ".. يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.. " لا يعنى ـ البتة ـ تحطيم الإرادة الإنسانية، أو تقييد اتجاهاتها فى السعى إلى الغنى، والفرار من الفقر!. وإقحام القدر فى هذه النواحى الاقتصادية ـ كإقحامه فى شئون الطاعات والمعاصى ـ مردود فى وجوه أصحابه، ولا يعتبر دليلا لأحد أبدا. بل علينا أن نسخر أقصى ما نملك من قدرة، فى إحسان التوزيع الاقتصادى، ورفع مستوى المعيشة وردم مصادر البؤس، وإهلاك جالبيه على جمهور الأمة. إن أحدا لم يقل : بأن فى الوعظ والإرشاد والتعليم والتربية تحديا لله سبحانه فى قول :ه ".. يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. " فلماذا يحسب العمل على إنصاف الطبقات، وتجنيبها غوائل الفقر تحديا لله القائل : "..يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر"؟!. إن إقامة صروح العدل الاجتماعى فى بلد مختل، كإقامة قواعد الأدب فى مجتمع منحل، كلاهما عمل يطالب به الدين، وليس فيه تخط ولا تَعَدٍ على الأقدار.055(1/46)
فإذا رأينا ذكاء أخره الإهمال، وغباء قدمته المحاباة، أو قاعدا ينال الخير، وعاملا أعوزه القوت القليل! فمن الإجرام والفحش أن نقول ـ فى تبرير هذه الأوضاع المقلوبة ـ : ".. يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر".!! فإن هذا كقول سفهاء العامة ـ عندما يجدون رجلا يرتكب معصية ـ : " يضل من يشاء ويهدى من يشاء... "!!. أو كقولهم : " لو شاء الله ما فعلوه "، أو كقولهم : " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ". وغير ذلك من الكلمات التى يريدون ـ بسوقها ـ هدم قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وترك الناس فوضى تصرفهم الشهوات والنزوات.!! بل الواجب الذى أمر به الدين، أن نضرب على أيدى الظالمين، وأن نعترض على كل تصرف شائن. فإن انتصر الحق، فبها، وإلا فإن الباطل، إن بقى بعد ذلك، بقى مكشوف السوءة، مزريا عليه، فلن يحسب أحد بقاءه مرضيا لرب العالمين، كما ترمى إلى ذلك أوهام المرجفين. فإذا تبع بسط الرزق وقبضه سعة المواهب وضيقها، أو خضع الأمر لقوانين الصدف الخارقة، التى لا دخل لنا فى صنعها، فلا علينا ـ بعد أن أفرغنا جهدنا فى تحقيق العدالة التامة ـ أن يتفاوت الناس إقتارا وإكثارا، ما دامت سنن الحياة الصارمة، أن يكونوا ـ فى جهودهم وإنتاجهم ـ صغارا وكبارا. وذلك هو القدر الذى نقف عنده هادئين.
تزوير على الدين..!
كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس، أو ترضيهم بالدون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون فى الحياة، أو تصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدنية، فهى دعوة فاجرة، يراد بها التمكين للظلم الاجتماعى، وإرهاق الجماهير الكادحة فى خدمة فرد أو أفراد. وهى ـ قبل ذلك كله ـ كذب على الإسلام، وافتراء على الله.0ص(1/47)
و أى تجاهل لأحوال الأعم المحرومة من العدالة الاجتماعية، أو تهوين لآثار الضيم النازل بها، أو تسكين للثوائر المهتاجة فيها، فهو دليل على أحد أمرين : خبال فى العقل، أو نفاق فى القلب. وكلا الأمرين، له منزلته الحقيرة من دين الله، ومن دنيا الناس، فلا يلتفت إليه. إذا كان هناك من لا يفرطون فى العمل المضنى ساعة من نهار، ومع ذلك تأخذ الأزمات بخناقهم من المهد إلى اللحد، ويحيون، وتحيا أسرهم فى حرمان متلاحق من القوت والعلم، والعدالة والحرية. فإذا أصابهم شيء من ذلك كان غيضا من الفيض الذى ينزل فى بيوت لم تُقدم للدنيا عملا، ولم تكسب فى دينها خيرا. فهل التبرم بهذه الحالات المتناقضة يعد شغبا على الدين؟ أو هو رغبة فى تطبيق قول الله- عز وجل- : (..ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) لا ريب أن سلب الألوف العاملة، ثمرات كفاحهم ظلم، وأن تحويل هذه الثمار إلى القاعدين، إعانة على الفساد، وأن هذا وذاك عمل على ضياع الإيمان وفقدان العدالة. على أن ترضية الناس بالأمر الواقع، وترغيب الجماهير فى حياة الكفاف والمسكنة، وحجب أبصارهم عما يجرى فى أفنية المترفين من نعمة ومتعة، كان العمل الذى تطوع للقيام به طوائف المتصوفين، فرغبوا الناس فى الفقر وزهدوهم فى الدنيا.!! وكان هذا المسلك الطائش يجرى على هوى الطبقات الحاكمة.!! فما دامت الحقول تهتز بالزراعة، والأسواق تمتلئ بالحركة وأنواع الخراج، والمكوس تجبى من هنا وهناك، فلا على هؤلاء الحكام أن يزهد العامة فيما بأيديهم، كله أو جله، بل إن ذلك أدنى إلى طمأنينتهم. ومن ثم انتشرت طرق المتصوفة، وقيل فى تاريخها : إنها كانت رد فعل لترف الحكام وأتباعهم، فأقبل هؤلاء على الدين، لما أقبل أولئك على الدنيا.!057(1/48)
أقبل العامة ـ بقيادة المتصوفين ـ على الطقوس والأوراد، وأقبل الحكام ومن فى حواشيهم وركابهم، على الشهوات والملذات!. وهذا الخلط الصوفى الأحمق، يعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامى فى صميمه، بل أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية ـ فيما بعد ـ بالانهيار. فأفكار الصوفية ـ إذا لا مبادئ الإسلام ـ هى التى حملت الجماهير أوزار الاستعمار الداخلى، ووطدت للمظالم الخطيرة، وخذلت الناس عن محاربة الفقر، وقتلت فى دمائهم الشعور بأن الفقر كارثة، يجب أن تقصى عن المجتمع ولو بدق العنق، وأن يستميتوا فى دفع بلائها بأى ثمن.
شبهات :
قد يقال : بل إن طبيعة الدين هى التى تربط قلوب الناس بالحياة الآخرة، وتجعلهم يعيشون فى الدنيا مصروفين عنها، قليلى الاكتراث بما يصيبهم فيها من بؤس وضيق. والرد على هذا الكلام هين، ونحن مضطرون إلى الخوض فيه، وإن تشعب علينا موضوع البحث، لأن كل نظام اقتصادى، تصحبه فلسفة نفسية واضحة عند ذويه. فإذا لم تستند الاشتراكية الإسلامية إلى فكرة علمية صادقة أصبحت بناء لا دعامة له. إن الدنيا ـ بمقوماتها المادية الهائلة ـ سلاح خطير نفاذ، والسلاح فى أيدى اللصوص وسيلة فعالة لتعكير الأمن، وارتكاب الجريمة، وإشاعة الفساد. فهل هو كذلك فى أيدى رجال الشرطة وحماة الحق، والمدافعين عن الأوطان والعقائد؟ كلا، بل هو جزء متمم لعملهم الشريف، لا نجاح لهم بغيره. المتدينون، إن فقدوا هذا السلاح، فكيف يؤدون رسالتهم فى الحياة أم كيف يتماسك كيانهم فيها؟!. ففهم الدنيا بل الهيمنة عليها والتفوق فى شئونها، أمر لابد منه لأهل الدين. والفرق واضح بين الرجل يتخذ الدنيا وسيلة لغاية كريمة، وبين آخر يتخذها غاية الغايات، وإن لم يكن هناك فرق بين الرجلين فى العلم بالدنيا والعمل فيها. ومن ثم فالقول بأن الدين يصرف الناس عن الدنيا إشاعة كاذبة.058(1/49)
وقد تسأل عن زينة الحياة وجمالها ومباهجها، والجواب أن القرآن نص على اعتبار ذلك حق المؤمنين، قد يشاركهم فيه غيرهم فى الدنيا، وسوف ينفردون به فى الآخرة، والمهم أنه جعل ذلك حقهم. فليس يستغرب منهم ولا يستكثر عليهم أن يتعلقوا به أو يتوجهوا إلي :ه ".. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ". بيد أنه من الرجولة والمروءة، أو من الإيمان والإخلاص ـ كما يعبر أهل الدنيا، أو كما يعبر أهل الدين ـ أن ننزل ـ نحن ـ عن ذلك كله، فدية لمبدأ نعتنقه. وكم يكلف الدفاع عن الوحى وعن الوطن وعن الدين، من بذل النفس والمال. فمن استمسك بالحياة وحرص عليها ـ مع وجود هذه الدواعى ـ فهو نذل أو كافر، بالتعبيرين الوضعى والشرعى!. ولن تعدم من يقول لك : كيف تجعل للدنيا ورغباتها هذه المنزلة؟ وكيف ترغب فيها وتدفع إليها، مع أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يقول : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وهناك عشرات النصوص تزهد فى الدنيا وتحذر منها؟. ويظهر أن هناك كثيرين لا يرون فى الدنيا سجنا للمؤمن، إلا إذا عاش المؤمن فيها صعلوكا، ذليل الجانب، كسير القلب، قليل المال، مقطوع الصلة بالعلوم والآداب، والمعارف والفنون!. ونقول لهؤلاء الحمقى : إن الدنيا سجن لكل رجل شريف، إنها سجن يضع قيودا من حديد على شهواته الطائشة، فهو يكون فيها واسع الثروة بعيد الجاه، رحب الأفق، كثير المطالب. ولكنه لا يترك غرائزه تلعب به، ولا ينطلق فى الدنيا حيوانا، لا عقل له ولا ضمير. فليس معنى أن المؤمن سجين، أنه يجب أن يعيش هين الشأن والمنزلة، صفر اليد والفؤاد، كلا.059(1/50)
وما دفع عامة المسلمين إلى هذا الفهم المعوج، إلا أنهم لم يجدوا من أغنيائهم إلا كل شر. ولا شك أن تاريخ أغنياء الشرق وكبرائه، فجلل بالسواد، وقديما قال فيهم "المعرى" : فشأن ملوكهم عزف ونزف وأصحاب الأمور جباة خرج وهمُّ زعيمهم إنهاب مال حرام النهب أو إحلال فرج فوقع فى أوهام الجماهير البائسة، أن الغنى والفسق قرينان، وأن الفقر والعفاف متلازمان، وذلك خطأ. فكم قرأنا وسمعنا فى هذا العصر عن حكام مستعفين، ورؤساء معتدلين، وكبراء لهم سطوة الملك، وجاهه العريض. ومع ذلك تستطيع أن تقول : إن الدنيا تعتبر لهم سجنا، لأنهم لم يعيشوا لأنفسهم وإرضائها بل عاشوا لأممهم وإعلائها. وكل حديث ورد، يزهد ظاهره فى الدنيا، فإن له ملابساته التى لا يتجاوز حدودها. والتى يُقصد بها ـ غالبا ـ لفت المؤمن عن الاشتغال بشهواتها الحرام، أو التعلق بها على أنها يوم لا غد بعده، وحاضر لا مستقبل وراءه. فإن الدين يجب أن يكرر على الناس ذكر الآخرة وألا يسأم من هذا التكرار. ذلك لأنها غيب مرتقب، قد يذهل عنه المرء، وقد تنصرف عنه الطبيعة العجول. أو ليس ذلك ما حدث فعلا لأغلب الناس؟!.
مصائب الفاقة ومتاعب الجهاد :
وتوجد فى الدين وفى الحياة أمور متشابهة، ومعادن متقاربة، لا معنى للخلط بينها، عند إصدار الحكم عليها. فالأمر بالصبر، ليس أمرا بالذل، والأمر بالتواضع، ليس أمرا بالضعة. والحد الفاصل بين الحالتين دقيق، ولكنه قائم ثابت!. والنهى عن الكبر، ليس نهيا عن عزة النفس، والنهى عن الترف، ليس نهيا عن الاستغناء، والاستكفاء، فهذا وضع، وذاك وضع آخر!.060(1/51)
وقد جاءت فى الإسلام آثار شتى تفرض على الإنسان تحمل الشظف وتحرم عليه أن يظهر جزعا، أو يبدى ريبة. فكيف قيل هذا، ولأى وجه سيق؟!. الواقع أن هذا قيل ليرضى المسلمين بمتاعب الجهاد، لا ليرضيهم بمصاعب الفقر وآلام العيلة، من غير سبب معقول. فقد بدأ الإسلام دعوته غريبة على الأسماع، قليلة النفر، يتعرض المؤمنون بها لسفك دمهم، ونهب مالهم، وطردهم من وطنهم، وتشتيت شملهم، وفرض الحصار والمقاطعة المدنية على كثير منهم. فكانت كفة الإيمان تضم المغارم الفادحة معها، على حين كان الكفر يريح أصحابه من هذه التكاليف الثقال، إلى جانب أن قوام الكفر عصبيات ثرية، توارثت المال والجاه من أعصر طوال، وتستمتع بالحياة على نحو إباحى لا ضابط له، ثم تسخر غناها فى محاولة قتل الدين الناشئ، وشل نمائه. فماذا كان يقول الإسلام لأنصاره فى هذه الفترة العصيبة؟. أكان يقول لهم : اتركوا الحق، لأن الحق يجشم أصحابه مشقات كثيرة؟!. أم كان يحبب إليهم حياة الكفاح ويصبرهم على لأوائه ويرغبهم فى مواجهة بأسائه وضرائه ولو ذاقوا الجوع والعرى بل القتل والصلب؟ وذلك ما حدث. روى أن رجلا جاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ل :ه " إنى أحبك فقال : انظر ما تقول، فقال : والله إنى أحبك، ثلاث مرات فقال : إن كنت تحبنى فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر أسرع إلى من يحبنى من السيل إلى منتهاه ". وهذا حق، فطلائع الحرية، وخدام المثل العليا، وأصحاب المبادئ، يتعرضون لمصادرة أرزاقهم والتضييق عليهم. أفمعنى ذلك أن الإسلام يحب الفقر، ويدعو الناس إليه، ويرغبهم عن الدنيا..؟! (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا)061(1/52)
وكان طبيعيا، أن يحقر الإسلام أعداءه، وأن يتهكم بمكانتهم، وأن يحمل حملة شعواء على غناهم المبذول فى الرجس من الهوى، وفى حماية الرجس من الأوثان، وفى محاولات فاشلة، لإطفاء نور الل :ه (فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون) فإذا طلب من المؤمن ألا يعجبه هذا، وإذا طلب منه أن يغض بصره عن حياتهم الحافلة بالمتع : (و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى) فهل معنى ذلك أن الإسلام يكره لأبنائه الغنى، ويحضهم على القنوع البليد، والمعيشة المقبوحة؟!!. أى غباء هذا فى إدراك حقائق الأشياء؟!! شباب قنع لا خير فيهم وبورك فى الشباب الطامحينا إن الإسلام ـ إذ يشرب أتباعه روح الاعتزاز بالعقيدة، ولو انهزمت ماديا أمام كنز غنى مدلل ـ لا يكره لأتباعه أن تمتلئ خزائنهم خيرا، وأن تفعم نفوسهم أمانا وطمأنينة.
مثل معاصر :
قيل : إن " تشرشل " قال للإنجليز يوما : لا أعدكم إلا بالدماء والدموع والعرق المتصبب. فإذا أراد الإنجليز يوما الاستفادة من هذه الكلمة، فأية مناسبة تصلح لترديدها؟ فى أوقات السلم؟062(1/53)
لا. فقد قيلت فى أيام الحرب، وليست كل حرب هى التى يصرخ فيها بهذه الكلمة، بل حيث تخاف الهزيمة، ويراد حشد القوى، وإثارة الهمم وحمل النفوس على استقبال الأهوال، فى غير جزع أو حرج. وليست كل أمة هى التى تواجه بهذه الكلمة. فهناك أمم يستثار أقصى ما فى مواهبها من شدة وحدة، عندما تواجه الأخطار المميتة، وتستيقظ فيها غرائز الكفاح المر، عندما تصارح بأعبائه. وهناك أمم أخرى، إن صورحت بالشدائد، وذكرت لها الحقائق القاسية سرى الرعب فى أوصالها، وأسلمها الوهن إلى التخاذل والانحلال. فكلمة " تشرشل " الآنفة، لها دائرتها، التى لا تصلح للعمل إلا فيها. وانظر ماذا تكون الحال، لو أن إنجلترا بعد عدة قرون، تألفت فيها طوائف ـ كمتصوفة المسلمين ـ تجعل هذه الكلمة دعامة لفلسفة السلام والاستقرار، فهى تجمع العوام على الحزن والتشاؤم والبلاء، وتؤلف منهم طوائف، يتصلون بالدنيا من هذه النواحى السود! كذلك فعل بعض الناس بنصوص الإسلام، تجد الفلاح والبقال ـ ومن إليهما ـ يقع على بعض كتب الدين، وللوهلة الأولى تتكون لديهم أفكار سقيمة، ومبادئ فارغة. وفى حشد من العواطف الحارة والشطحات المخلصة، ثم فى حشد آخر من أنغام المزمار وألوان الموسيقى، تنساق هذه الفلسفة الصوفية، وتغزو الحياة وتوجه الجماهير، وتهزم العلم والمنطق والتفكير السديد. وكلما رأى هؤلاء فيض الترف، يغمر الطبقات الحاكمة، وهوى الدنيا، يستولى على ألبابها، شعروا بأنهم على الحق المبين، الحق البعيد عن الترف والشهوة والمروق.. فانعزلوا عن الدنيا وهم يصفونها بأنها جيفة، وطلابها كلاب!. ونحن نعلم أنه قد يكون هؤلاء المترفون كلابا، إذا فلماذا نمكنهم من النهش والبطر؟. لماذا نترك الأسباب تواتيهم على اقتراف الجريمة؟!. لو انتزعنا هذه الدنيا من أيديهم، وتوسلنا بها لخدمة الحق والنبل. لكان خيرا لنا وأقوم ـ إن ذلك هو منطق الإسلام الذى نعتنقه والذى يجب أن ينزل المتصوفون على تعاليمه.ص(1/54)
_063
ولو أنهم كرسوا أوقاتهم، وجمعوا فرقهم لمناوأة الخلفاء الجبارين والرؤساء الظالمين، وأنزلوا الطوائف المترفعة إلى مستواها العام مع جمهور الشعب، لكانوا أصدق قيلا، وأقوم سبيلا، ولما جروا على الإسلام التهم بأنه يدعو إلى الفقر، ويمهد له الطريق !!
بلاء.. لا يصح معه إخاء :
الأخوة العامة ـ كما رأيت ـ هدف يسعى الإسلام لتحقيقه، ويصنع له الهيئة التى تلائمه، ويأبى أن يكون للفوارق المادية أثر يهدمه. وقد روجت ـ لحساب المترفين ـ تهم تزعم أن الإسلام يحب الفقر، ويحرص على إفقار الجماهير.!! وقد علمت أن هذا الكلام يعنى ـ فى الحقيقة ـ أن الإسلام يحب الظلم، ويحرص على بقاء الترف وبقاء المترفين. وهذا كله ضرب من اللغو لا يستحق إلا المحو!. وإنه لمعروف مَن مِن الناس يستفيد من هذا الافتراء.
معركة الخبز :
كان آدم فى حياته الناعمة الأولى، مكفول الضرورات من راحة وترفيه، وقد قال الله ل :ه (إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى * و أنك لا تظمأ فيها و لا تضحى) فلما هبط " آدم " إلى الأرض، ضاعت منه هذه المنحة المبذولة وأصبح عليه أن يجهد لتحصيل غذائه وكسائه. فلما انتشر أبناؤه على وجه الأرض، كان من أهم ما يسعون له تأمين هذه الضرورة، وتوفيرها ليومهم وغدهم. وقد واجهوا فى ذلك عنتا بالغا لأسباب أكثرها مصطنع. فإن مصادر الرزق المبثوث فى تراب الأرض، وأمواج البحر، وذخائر المناجم وغير ذلك لم يدركها جفاف، بل إنه من الممكن أن تكفل أضعاف ما على الأرض من سكان، لو أنصف الناس وتعاونوا، وتطهروا من الغشم والافتيات والاستبداد.064(1/55)
أما ولهذه الشرور فى نفوسهم مرخ خصب، فستضيق عليهم الأرض بما رحبت، وستجد فى الجرى وراء الرزق وجوها كالحة، وأسارير مقطبة، وعيونا غائرة، ونفوسا حطمها الفشل، وأبدانا أهزلها الضياع. ذلك كله؟ لأن معركة الخبز الخالدة تدور رحاها على غير نظام متبع أو قاعدة مرعية. وليس لفرسانها تقاليد حربية محترمة، عدا القتل والأسر، والويل للمغلوب، وقد نسمع أحيانا همهمة خافتة، هى بقية من تعاليم السماء فى الحلال والحرام، والرحمة والإيثار. على أن هذه الأصوات النبيلة، لا يسمح لها بالارتفاع، إلا بعدما تضع الحرب ـ فى معركة الخبز ـ أوزارها، ويستقر الأمر على أغنياء ملكوا الكثير، وفقراء لا يعترفون بالهزيمة إلا خضوعا للأمر الواقع ولا معنى لتدين يقف على الحياد فى هذا العراك. وقد ذكرنا فى كتبنا الأخرى، رأى الإسلام فى هذا الكفاح الطويل، وفى نتائجه السيئة. ونريد الآن أن نلفت النظر إلى أن الأخوة التى أمر الإسلام بها، بين الناس عامة، وبين المؤمنين خاصة، لن يكون لها وجود البتة، فى الأحوال التى يختل فيها التوازن المادى، اختلالا فاضحا بين بعض البشر وبعضهم الأخر. وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة واضحة لآثار هذا الاختلال الشائن، مع ما يصحبها من فساد، نورد أطرافا منها.
الشلل العقلى :
موضع الشخص المحتاج، يجىء دائما دون موضع الشخص المحتاج إليه، هذا يده السفلى، وذاك يده العليا، هذا خطوته المتأخرة، وذاك خطوته المتقدمة، والمرء عندما يعرف أن قوته وقوت عياله مربوط بشخص ما، فهو يخضع له طوعا أو كرها. بل الذى يحدث غالبا أن ينماع أمامه، وتذوب نفسيته، وتتلاشى شخصيته، ويرى أنه تابع فحسب.065(1/56)
والعلاقة، بين رقيق الأرض ورب الأرض. وقد تكون ـ كذلك ـ العلاقة بين عبيد الآلة وصاحب المصنع ـ كما نرى فى بلادنا ـ تدور على هذا المحور. والشعور بالأخوة المشتركة، بين الفلاح الأجير، وبين صاحب الضيعة الكبير، هو آخر ما يمكن فرضه فى وصف العلاقات بينهما. ومهما حاولت إعزاز الأجراء ونفخ روح القوة والاعتداد فيهم، لم تصنع شيئا، إذ أن عظمة النفس الإنسانية، تجرح جرحا مميتا، عندما تلقى مقدراتها وضروراتها إلى نفس أخرى!. وفى هذا الجو يولد التقليد الأعمى، فإيمان السيد، معناه إيمان الأتباع، وكفره كفرهم ووجهته وجهتهم!. فإن تُسلمى أسلم، وإن تتنصرى.. يخط رجال بين أعينهم صلبا! وقد سرد القرآن الكريم محاورات شتى، بين السادة والأتباع، تدل على مبلغ سريان هذه الروح التقليدية، بين الأعم الهالكة، بسبب ما فيها من خلل اقتصادى : (..ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاء كم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا.. ) فإذا رأينا بلدا تصطبغ أحواله الاجتماعية بهذه الصبغة، وقامت الأمور فيه على أن جماهير غفيرة ترزقها طائفة قليلة، فإن مصير هذا البلد إلى شر لا ريب فيه! ما لم تسارع إلى تحرير الجماهير من العوز المادى، وما يترتب عليه من شلل عقلى. ويومئذ يكون للحرية الفكرية مكانها الذى تنبت فيه وتزدهر، وتؤتى ثمارها فى ميادين العقيدة والاجتماع والسياسة.066(1/57)
أما قبل ذلك، فالحرية الفكرية حديث خرافة، يدخل بها محترفو السياسة الحزبية..! وقد يقال : إن كثيرا من العبيد تمردوا على سادتهم، ولم يكن للإسار المادى شأن فى تعويقهم عن اعتناق ما يرون من فكر. ولدينا "بلال " و " صهيب " وغيرهم، شاهد صدق على ذلك!. ونحن لا ننكر أن هناك نفرا قلائل ممن استعبدوا ماديا، لم يستطع سادتهم استعبادهم معنويا، ولكن لا تؤسس عليهم قاعدة. وفى كل ألف رجل قد يوجد مثل "بلال "، فهل نترك الباقين ـ ماديا ومعنويا ـ صرعى الأغلال؟!.
الضعف النفسى :
وتلك آفة أخرى تتبع سابقتها، فإن الإنسان المحرر ماديا وأدبيا، هو وحده الذى يصدر فى أعماله، عن مبدأ ثابت، ويتجه فى سلوكه إلى فكرة واضحة، وهو وحده الذى يخدم المثل العليا، ويبتعد فى تصرفاته عن مواطن الملق والزلفى والصغار. أما الذين تغلب على طبائعهم أخلاق العبيد، فهم يهدأون ويتحركون مرضاة للأشخاص، وهم يجتهدون للالتحاق بركب من ركاب السادة، أصحاب الثروة والسطوة، يعملون لهم ويعيشون فى دائرتهم، ويندفعون أبدا مع تيارهم. لا يعرف هؤلاء إخلاصا لله أو تضحية فى سبيله، ولا تقديرا للحق أو احتراما لرجاله.!! وإذا كان شرف النفس الإنسانية أن تعتنق هدفا نبيلا ثم تفتديه.. فإن أولئك عبيد الأصنام الحية من البشر!. وإنك لواجد أمثلة يتفاوت قبحها هناك وهناك، فى الدواوين والتفاتيش، والأحزاب والهيئات، لأقوام يحسنون رفع العقائر بالهتاف النابى، ويتفننون فى التقرب والهوان والمراءاة، للسادة الرؤساء!!. شاعت هذه الظاهرة فى الشرق، الشرق. أرض الأبعاديات والإقطاعيات والمهراجات والباشوات، وقلت فى الغرب، إذ تقاربت حظوظ الناس المادية فتقاربت معها حقوقهم، وكادت تتساوى أقدارهم.067(1/58)
وأعان ذلك كله على ترك النفس الإنسانية تنمو على سجيتها الحرة، لا تعرف سيدا لها تتجه إليه إلا الله!!. فإذا لم توفق إلى معرفة ربها، فهى على أية حال، لن تقدس عبيده مهما كانوا عظماء. انظر إلى موقف إنجلترا من "تشرشل " وإلى موقف فرنسا من "ديجول "، إن هؤلاء الزعماء قادوا أممهم إلى نصر عظيم، ومع ذلك أدارت الشعوب لهم ظهورها، واختارت من بنيها غيرهم لقيادتها. ويوجد لدينا رؤساء أقزام إلى جانب أولئك العمالقة، أدوا إلى بلادهم أتفه الخدمات، أو هم على بلادهم عبء ثقيل، فلا خير فيهم أبدا. ومع ذلك فلهم من المكانة وحولهم من الأتباع، أو قل : لهم من الأموال ولأموالهم من الخدام، ما لا يحلم به تشرشل أو ديجول!. فالمسألة تعود مرة أخرى إلى الوضع الاقتصادى، وضياع العدل الاجتماعى فيه. وأثر ذلك فى ضعف النفوس، وسقوط الضمائر، والتفاف الطابع حول المراتع الخصبة لا ينكر، وقد اعتبر القرآن ذلك شركا : (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) وهذه الأنداد ليست أصنام الحجارة فقط، بل هى الأصنام الآدمية، بدليل ما جاء بعد : (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النار) فهل الأحوال الاجتماعية، المنطوية على تذلل وملق من جانب، وتكبر وصلف من جانب آخر، هى الأحوال التى يباركها الدين، ويدفع عن طواغيتها.068(1/59)
الفساد السياسى :
وذلك ثالثة الأثافى من صنوف البلاء، التى لا يصح معها إخاء ولا يسلم مبدأ. فإن الأساس فى قيام الحكومات، أن تسهر على مصالح الناس، وأن يكون رجالها خداما للشعب، وحراسا على حقوقه. والمفهوم ـ شرعا ووضعا ـ أن الأم تندب أكفأ أبنائها للقيام بهذه الأعباء الضخمة، وتنفحهم ـ لقاء ذلك ـ أجورا كبيرة، فضلا عما تحيط به أشخاصهم من تكريم وتوقير، هم أهل له، بكفايتهم المفترضة وأمانتهم المرتقبة... ذلك هو الأساس الذى لم يصدقه الواقع المر إلا قليلا. فلا الأمم كانت تختار حكامها، ولا هؤلاء الحكام فهموا عملهم على وجهه المرضى. ولم يزل الحكم فى كثير من بلاد الشرق المتأخرة كما قال المعرى من قديم : قل المقام، فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها وقد شقت الإنسانية طريقا مضرجة بالدماء، مزحومة بالأشلاء، حتى توصلت إلى هدم الاستبداد وكسر الأغلال، التى أذلت أعناق العباد، فمحت حكم الفرد، ثم جاء "شوقى " يناجى " فرعون " من خلال القرون قائلا : زمان الفرد يا فرعون ولى ودالت دولة المتجبرينا وأصبحت الرعاة بكل أرض على حكم الرعية نازلينا على أن آفاق الشرق لما تزل تكتنفها ظلمات كئيبة، من بقايا القرون المظلمة. ولكى نعرف الأسلوب الصحيح للحكم الفاضل، والسياسة الرشيدة، نسوق لك هذه القصة، كما رواها مواطن مصرى. * قال : كنت أقيم فى بلد سويسرى صغير، معظم أهله من صغار الصناع والمزارعين.069(1/60)
كان لهؤلاء الناس نائب فى البرلمان، وعرضت لواحد منهم حاجة أراد أن يتحدث فيها إلى هذا النائب، فبحث عنه، فقيل له : إنه يجلس مع أصدقائه كل يوم فى "بوفيه" المحطة، ليشرب الشاى ويتسامر... فذهب إليه، واستأذن، وجلس وأخذ يشرح مساكته، فنظر إليه النائب متضايقا، وقال ل :ه ولكن يا أخى هذه مسألة يحتاج شرحها إلى زمن.. ألا ترى أننى الآن فى لحظة راحة مع أصدقائى؟؟. فقال الصانع ـ فى سذاجة ـ : أصدقاؤك؟ كنت أحسب أننى من أصدقائك؟؟!. أظن أننى لم أتشرف بحضرتك إلا من دقائق ـ هكذا رد النائب المحترم ـ فقال له العامل : ألم تخطب فينا قبل أن ننتخبك، فأكدت لنا أنك صديقنا وخادمنا؟! معذرة إذا كنت قد صدقتك فالخطأ ليس خطأك، ولكننا لن نخطئ مرة أخرى، ثم انصرف العامل. وفى اليوم التالى ظهرت صحيفة البلدة وفيها خبر هذا الحادث، فاجتاحت البلد موجة تذمر. وأحس النائب بخطئه، فبحث عن العامل ليعتذر إليه. ولم يجده إلا فى مشرب صغير، يسمر مع بعض أصحابه، فحياه وجلس، وبدأ يتكلم، فابتسم العامل وقال : ولكن يا أخى هذه مسألة يحتاج شرحها إلى زمن، ألا ترى أننى الآن فى لحظة راحة. وأراد النائب أن يتكلم، ولكن نظرات السخرية من عيون الجالسين قتلت الكلمات على شفتيه! وشاعت هذه القصة فى الإقليم كله، وشعر النائب أنه لا يستطيع الاستمرار فى نيابته. وبعد أسبوع واحد استقال من مجلس النواب!. هذا هناك حيث لا يعد الرئيس سيدا والمرءوس عبدا، بل الكل إخوة، هذا هناك حيث يسيطر الناخب الحر على النائب!، وحيث يسيطر النائب الحر على الحاكم! فإن شاء رفعه أو وضعه!. فكأن إرادة الأمة كهرباء تسرى فى أجسام موصلة للتيار، تبعثها كما تشاء، أشعة مشرقة، أو صواعق محرقة. أما هنا، فالنائب كثيرا جدا ما يكون صنع يد الحاكم، والناخب المحترم رجل عرفته عزبة النائب عاملا فيها، يأخذ من بيت سيده فتات المائدة.070(1/61)
والرجل الغنى يضمن الأصوات إلى جانبه، مادام يضمن النقود فى جيبه.! وتعود المساكة مرة أخرى إلى العلة الدفينة، التى ذكرناها فى جلاء، فساد النظام الاقتصادى فسادا تضيع- فى تغلغله- كافة مظاهر الإخاء. فإن العدالة الاجتماعية وحدها، هى الوسيلة الفذة لاستقامة الحكم وعدالة الحكام.
الأخوة نظام يقرر لا نصيحة تقال :
مهما صرخت فى آذان الناس بقول الله (إنما المؤمنون إخوة.. ) ومهما ناشدتهم بقول رسوله : ".... كونوا عباد الله إخوانا " فلن تجد إجابة عملية شافية، مادامت المعاملات المقررة، تجرى على قاعدة التفاوت المادى والأدبى، بين طبقات الأمة الواحدة. أما إذا استوحينا طبيعة هذه الأخوة فى وضع العلاقات، بين الملاك وأصحاب العمل، وبين الشعب والمرشحين لحكمه، فلم نسمح ـ بتاتا ـ بوقوع طغيان وهوان، أو عبادة وسيادة، فعندئذ فقط نستطيع القول بأن لمبدأ الأخوة وجودا فى الشرق الإسلامى. والتدخل فى معركة الخبز، ضرورة لا محيص عنها، إذا أردنا أن نُلزم الناس حدود الحلال والحرام، وأن نربيهم على فضائل العفة والرأفة والإيثار، وأن نحمى الأرامل واليتامى والعجزة والقعدة غوائل الأثرة والحرمان. وأرى أن بلوغ هذه الأهداف، يستلزم أن نقتبس من التفاصيل التى وضعتها الاشتراكية الحديثة، مثلما اقتبسنا صورا ـ لا تزال مقتضبة ـ من الديمقراطية الحديثة، مادام ذلك فى نطاق ما نعرف من عقائد وقواعد، وفى مقدمة ما نرى الإسراع بتطبيقه فى هذه الميادين، تقييد الملكيات الكبرى وتأميم المرافق العامة.
تكافؤ الفرص..
سمعت رجلا يتحدث عن أحد الكبراء المرموقين بالتجلة والإكبار، قائلا : هذا شخص، لو وقفت به مواهبه عند حدودها، لأصبح فى عداد الآلاف من المغمورين والمجهولين.071(1/62)
ولكنه وثب حيث وقف غيره، أو على الأصح، وُبت به الحظوظ المواتية فما يستطيع كسيح مثله أن يثب. فكبرته الصدف المحضة، ثم كابرت برفع شأنه منطق العقل والعدالة والإنصاف. وها أنت ذا تراه فى منصبه العالى وأبهته الرائعة، ملتقى لمظالم فادحة، ظلم المصلحة العامة، ثم ظلم ذوى الكفايات المهضومة، ثم ظلم نفسه التى كففت فوق طاقتها! فقلت : يظهر أن الفرص السانحة عندما تزدحم لخدمة شخص، تعطى معجزة المسيح! فقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينفخ فى الطين المرمى بالطرق، فإذا به طير يحلق فى الجو، ويمسح على عين الأعمى، فإذا بصره حديد! ، ويأتى إلى الجثة الهامدة، فإذا بصاحبها حى يرزق. أليس كذلك تعمل الحظوظ فى الشرق؟. إنه من قرون طويلة، وهذه الحظوظ تحول التراب إلى تبر، وتخلق من كل مأفون الرأى، ممسوخ الفطرة، سيدا مهيبا، ملء السمع والبصر!. ألا ما أكثر الخرافات المقدسة فى هذا الشرق المسكين!. فقال لى الرجل ـ مستدركا ـ : على رسلك، أين معجزة " عيسى " من فعل هذه الحظوظ؟ لقد كان " عيسى " ـ بإذن الله ـ يهب الحياة الصحيحة لمحروم منها. أما هذه الحظوظ فأقصى ما تصنعه، أنها تضفى على الميت صفات الأحياء وهو ميت لا ريب فيه؟ وتنقله من القبر الواجب له، إلى ديوان فخم ومنصب ضخم، حيث ينقض ويبرم، ويعطى ويمنع، و-شحكم فى الرقاب، وتعنو له الوجوه ويزدلف من حوله العبيد. ولو أدرك الغافلون فى الشرق ـ وما أكثرهم ـ حقيقة ما يستذلهم، لعلموا أنما تستذلهم الأوهام، وأنهم عندما يطوفون بكبرائهم، إنما يطوفون بموتى، بدلت من الأكفان ملابس مزركشة وأنهم لو هزوا الكراسى التى يجلسون عليها، لسقطت من فوقها أجساد بالية . * * * * عندما يجور ميزان الفرص، وتتذبذب اتجاهاته على غير قانون أو ضابط تضطرب شئون الأمة كلها، وتشيع الفوضى فى أمورها.072(1/63)
فكم من عبقريات تدفن، وذكاء يخبو، ومواهب تموت. وكم من جثث تطفو، وأغبياء يتحكمون، وجهال يسودون ويقودون. وكم حفل الشعر العربى بمن يشكون الزمان ويتبرمون بالأوضاع، ويسخطون على مجرى الحوادث!. والإحساس بالداء الدفين قديم، ولكن معالجته بالدواء الشافى لم تتم، لأنها لم تبدأ بعد.. ولن تُقبل أمم الشرق على عصر جديد من العدالة والضياء، إلا يوم تجعل من تكافؤ الفرص، قانونا يطبق فى أوسع دائرة تملكها طاقة البشر!. لا يشذ فى الخضوع له، فرد من الأفراد، أو حالة من الأحوال.
حقوق لا مراء فيها :
حياة العلم والمعرفة، وحياة الصحة والعافية، وحياة الحرية والكرامة، تلك كلها حقوق لا يجوز أن يحرم منها أحد، بل يجب أن تفجر ينابيعها فى كل مكان، وأن يتمكن من مواردها كل إنسان. وشرف التقدم لخدمة المصلحة العامة، وتولى مناصب الحكم، كبراها وصغراها، يجب أن يرشح له كل ذى موهبة ذكية، وأن يتساوى أفراد الشعب جميعا، فى الحصول على هذا الشرف، تدفعهم صلاحيتهم وحدها دفعا لا يستطيع مخلوق وقفه، ويؤخرهم عجزهم وحده، تأخيرا لا يرد تقهقره شيء! والمغارم التى تتعرض لها الأمم يتحتم أن تورع على الجميع بالقسط. فلا تسفك دماء لتصان أخرى، ولا تهدم بيوت لتشاد بيوت، ولا تتعرض للأخطار طبقة وتحمى من هذه الأخطار طبقة.!!. بل الكل سواء أمام فرص البقاء والفناء، والربح والخسارة، والنجاح والسقوط. وتكافؤ الفرص فى هذه الأمور، هو ما توحى به العدالة، وتهدى إليه المساواة، ويحرص عليه الدين. ويعتبر التحلل منه تحللا من أصول الفضائل، وهدما لقواعد الحكومة الصحيحة، بل هدما لكيان الأمة التى تعد نفسها خير أمة أخرجت للناس وما عُدت كذلك إلا على073(1/64)
أساس تقريرها للمعروف، وتغييرها للمنكر، وإيمانها بالله وكفرها بالطواغيت، طواغيت الاقتصاد الجائر والسياسة العمياء. لأى وليد فى الأمة، الحق فى حضانة كريمة، وكفالة سليمة، وأدوار موصولة من التعليم والتربية، تفتق ذكاءه وتنمى استعداده، وتزوده فى مستقبله بما ينفعه وينفع الأمة به. بيد أن فرص العلم والاستزادة منه، مُضيعة تماما، فى بعض البلاد، مضطربة مقلقلة فى البعض الآخر. والعلم ـ عاليه ودانيه ـ يباع بأثمان متفاوتة الغلاء. بل إن الذين يستطيعون دفع الثمن المطلوب، تقوم فى وجوههم عوائق عسيرة التذليل. والواجب يقضى بجعل التعليم، إلزاما فى مراحله الابتدائية والثانوية، وبعض الدراسات العليا، يستوى الكل فى منازله، لا فارق بين كبير وصغير وغنى وفقير. ولأى مريض فى الأمة، الحق فى أن تزاح علته، وأن يشفى سقامه، وأن يهيأ له المكان المناسب، فى المصحات والمستشفيات، وأن يلقى من العناية العزيزة، ما يخفف بلاءه حتى يبرأ تماما. بيد أن فرص الشفاء والاستزادة من العافية، لا يملكها سواد الناس، فالأدوية الناجحة، والعمليات الجراحية، والتمريض الذى لا إهانة معه، كل ذلك باهظ التكاليف، لا يستطيعه إلا الأقلون. والواجب يفرض العناية الدقيقة بالصحة العامة، ويجعل مداواة المرضى إجبارا، حتى تستأصل الآفات والعاهات، أو تخف وطأتها عن طبقات الأمة جمعاء فلا يحرم من الداء بائس، على حين يستطيعه ثرى مكثر. هذا كلام يسمعه التعساء من أفراد الشعب، فيبتسمون له دهشة، يحسبونه أحلاما تطوف بمخيلة نائم سعيد. وما دروا أن هذه الأمانى البعيدة فى مجتمعهم، قد أصبحت حقائق واقعة فى كثير من أقطار الأرض على اختلاف نظمها. فإنجلترا وروسيا ـ مع ما بينهما من اختلاف اجتماعى وسياسى واسع الشقة ـ قد طبقتا ـ جميعا ـ مبدأ تكافؤ الفرص، فى هذه النواحى الخطيرة.074(1/65)
كل بالأسلوب الذى يروقه ويرتضيه. ولم يبق إلا هذا الشرق المسكين، أضيع مع حكامه من الأيتام فى مأدبة اللئام.
سياسة الوظائف :
كثرت المهام التى توكل إلى إشراف الحكومة فى هذه الأعصار. وكلما ارتقت الأم وتضخمت مصالحها، زاد العبء الذى يقع على كواهل الحكام زيادة باهظة. وخصوصا فى البلاد التى تخضع للنظام الاشتراكى، أو تتجه إليه. فإن هيمنة الدول تكاد تمتد إلى كل مرفق مادى أو أدبى فيها. وهذه الحقيقة تجعلنا نلفت الأنظار ـ بعنف ـ إلى أن الحكم فن يجب أن يتعلم، على أنه وسيلة إلى خدمة الشعب، لا إلى تسخيره، وإلى إفادته لا إلى الإفادة منه وأن الوظائف العامة ـ على هذا الأساس المبين ـ ليست سلعا تباع فى أسواق المحاباة والزلفى، بل هى مسئوليات جسيمة ينبغى أن يراعى ـ عند إسنادها، وعند الترقى فى مراتبها ـ خير الأمة فحسب، وأن يتم ذلك ضمن حدود محكمة من الذمة والأمانة والضمير. وإذا ما أردنا تطبيق هذا القانون العادل، وجب أن نعلن حربا شعواء، على فنون الرشوة والشفاعة، والوساطات المزورة، وأن نطهر أمعاء الدولة من هذه الجراثيم التى التهمت صحتها، وجعلت الأداة الحكومية تدور كمن به مس من الجنون، حركات تتشنج، وتسترخى ولا طائل وراءها.!! وعندما تخلو وظيفة ما، فليس أحد ـ فى طول البلاد وعرضها ـ أحق بها من أحد، إلا صاحب الكفاية بعلمه وتقدمه. فيجب أن يصل إليه حقه وهو جالس فى بيته، لا يتردد على الرؤساء راجيا، ولا يفكر فى حمل بطاقة من تلك البطاقات التى تكلف حملتها الكثير من دينهم وأخلاقهم. ومبدأ تكافؤ الفرص فى ملء الوظائف الشاغرة، والترقية إلى كبراها، نعتبره الدعامة الأولى لأية نهضة يراد بعثها فى الشرق.075(1/66)
فإن سر الفساد العريض المتغلغل هنا وهناك، يرجع إلى جعل المناصب الخطيرة والوظائف الصغيرة، فرصا ينتهبها المحسوبون والمنسوبون، كأن الأمة خلت إلا من دمائهم المريضة!. وإسناد العمل إلى من لا يستحقه فساد مزدوج، فيه تضييع للمصلحة العامة وتهديد لمقدرة البلاد على السير والإنتاج. وفيه استهانة بالأكفاء من المواطنين الصالحين، تترك فى نفوسهم آثارا سيئة من الغضب والموجدة على دولة لا ترعاهم ولا تحترمهم. وأصحاب الشهوات والمآرب فى إبقاء تلك الأحوال، مجرمون فى حق الدين والوطن، لا يستكثر عليهم حبل المشنقة ولا سكين المقصلة.
استغلال النفوذ وانتهاز الفرص :
من الأنباء التى لها دلالتها العميقة، ما قرأناه عن مستر " ترومان " رئيس الولايات المتحدة ، أنه فى سبيل دعايته لنفسه كيما ينجح فى انتخاب الرياسة الأخيرة دعا رجال الصحافة إلى زيارة بيته، ليروا بأعينهم ما تعانيه امرأته ـ باعتبارها ربة بيت ـ فى مواجهة أزمة الغلاء العامة. أى أن الرجل وامرأته ـ على عظمة منصبيهما ـ لا يزيدان فى معيشتهما عن المستوى المعتاد للرجال والنساء فى أمريكا!. وما قرأناه كذلك من أن القصر الملكى بإنجلترا، تقدم إلى وزارة التموين طالبا بعض المواد والمرافق التى يحتاجها، فأخذ طلبه الدور الذى يستحقه على حسب الترتيب التاريخى للطلبات السابقة واللاحقة التى تقدم بها بعض أفراد الشعب. ومع أننا نكره إنجلترا وأمريكا، ونذكر ـ فى حرارة ـ موقفهما الظالم من حقوقنا العادلة، وعدوانهما الخسيس على بلادنا وقضايانا، فإننا مضطرون إلى ذكر هذه الأمثلة، ليشعر الأغبياء هنا ببعض أسباب القوة التى ترتكز عليها هذه الأمم القوية، سواء دافعت عن نفسها، أم هاجمت غيرها.076(1/67)
فإن أولئك الرؤساء الكبار، لم يحصلوا على معشار السلطة التى حصل عليها بيننا عمدة قرية، أو موظف صغير، فى أثناء الضوائق التى حلت ببلادنا وبلادهم أخيرا. كأن قانون تكافؤ الفرص هناك، يحول دون الافتيات واستغلال النفوذ. أما لدينا، فجمهور الشعب يحصل على حاجات تافهة بشق الأنفس. وكل ذى نفوذ ضيق أو واسع، يستطيع أن يجلب لنفسه وأهله ما يشاء!. وقد ذكرنا فى كتبنا الأخرى طائفة من السوابق الإسلامية الأولى فى هذه الأمور. غير أن جمهور المسلمين، يحسب أن ما حدث من عدالة رائعة أيام الصحابة، قد انفرد به عصرهم الكريم.! فمطالبة الخلف بالسير على غراره ضرب من المستحيل!. ومن ثم فلن نستطيع بلوغ الكمال الذى بلغوه، وتحصيل الفضائل التى حصلوها ولا مانع ـ فى منطق هذا التفكير القاصر ـ أن يعتذر بهذا الكلام عن التخبط السياسى والاجتماعى الذى نعيش فيه. وهذا ما اضطرنا إلى سوق الشواهد الصارخة من حياة الأجانب، حتى يخجل عند سماعها القعدة والمفرطون، وحتى يعلموا أن فى الحياة الدنيا سباقا إلى الخير، لا يجوز أن ينكص عنه الأولون ولا الآخرون. إن الشعوب المترنحة فى الشرق، تنظر إلى حكامها، ثم تذرف الدموع على عهد "عمر " وأمثاله!. والدمع للأمم ـ كما هو للأفراد ـ شر الأسلحة!. إن السياسة العمرية طبقت الآن فى بلاد شتى، فهل عجز المسلمون عما استطاعه الكافرون؟!. * * * *077(1/68)
الفصل الثالث :نماذج العدالة فى الإسلام:
أبو ذر الغفاري:
تشيع بين الناس أغلاط تاريخية كثيرة، تبدو أمام أعينهم كأنها حقائق مقررة، حتى إذا ما عرضت على محك النقد الصحيح ووضعت تحت النظر الثاقب، تبددت كالدخان الغائم، عصفت بسحابته الرياح... وقد كثرت هذه الأغلاط فى التاريخ العام، حتى زعم بعضهم أن التاريخ مجموعة أكاذيب، تحيك عقدتها الدول المنتصرة، والأنظمة المتغلبة، والرجال المسيطرون. وهذا كلام مبالغ فيه، وإن لم يخل من أثارة من صواب، تجعلنا لا نقبل من الآراء والأفكار، إلا ما رسا أصله، وثبت عوده على طول العجم والنقد، والمقارنة والتمحيص. ومن الرجال الذين طارت ظنون السوء حول سيرتهم، وتكاثرت التخريجات الباطلة حول منهجهم : الصحابى الجليل " أبو ذر" رضى الله عنه . وليس على " أبى ذر " بأس من كلام الناس فيه. فقد ظل " على بن أبى طالب " يُلعن على منابر المسلمين قرنا من الزمان، فما كسف هذا الافتراء شعاعا من شمسه، ولا نقص فتيلا من عظمة نفسه. وهيهات!. فأبو الحسن و" أبو ذر " وأمثالهما، قد خلد القرآن رضوان الله عليهما. (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ...) وما نعلم أن الله سحب عنهم رضوانه، بعد أن انطلق بذلك قرآنه!. إن آراء " أبى ذر " فى المال لا شذوذ فيها. ومذهبه فيه هو مذهب جمهور المسلمين وجلة الصحابة، قبل نشوب الفتنة الكبرى، وانقلاب الأوضاع رأسا على عقب .079(1/69)
وما ينقم الناقمون على " أبى ذر " إلا أنه كان وفيا لتعاليم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى غرسها فى دمه ورباه عليها أصدق تربية. وهى تعاليم لم ينفرد " أبو ذر " باعتناقها وإذاعتها، بل كان مقتفيا فيها آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخليفتيه من بعده. وسنرى حقيقة خلافه مع ولاة " عثمان " والمشيرين عليه، ونكشف الحجب عن وجه الحق فى هذا الخلاف العنيد. * * * أما إن " أبا ذر " استقى نزعته الاشتراكية عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيدل على ذلك ما رواه هو عن نفس :ه " كنت أمشى مع النبى فى حرة بالمدينة، فاستقبلنا جبل أحد. فقال : ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهبا، تمضى عليه ثلاث ليال وعندى منه دينار ـ إلا دينارا أرصده لدين على ـ إلا أن أقول فى عباد الله هكذا وهكذا وهكذا.. مشيرا بيده عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم سار فقال : إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، وقليل ما هم " . وفى رواية. "إن الأكثرين هم الأخسرون، أو هم الأسفلون ". وهذا هو الذى رواه " أبو ذر "، روى مثله " أبو هريرة " و " ابن مسعود "، وغيرهم من رجالات الصحابة. جمع كثير. وقلة الاكتراث بالأغنياء، وجعل موازين الناس ومنازلهم تابعة لكفاياتهم الخلقية والعلمية وحدها، وربط أمور المجتمع بهذه القواعد الصحيحة، نزعة اشتراكية، تعلمها "أبو ذر" من الرسول نفسه، كما روى هو ذلك : قال لى الرسول : يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال : أفترى قلة المال هو الفقر؟ قلت : نعم يا رسول الله! .قال : إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب .080(1/70)
ثم سألنى عن رجل من قريش قال : هل تعرف فلانا؟ قلت : نعم يارسول الله.قال :فكيف تراه؟ قلت : إذا سأل أعطى، وإذا حضر أدخل .قال : ثم سألنى عن رجل من أهل الصفة، فقال : هل تعرف فلانا ؟ . قلت : لا والله ما أعرفه، فمازال يحليه وينعته حتى عرفته. فقلت : قد عرفته يا رسول الله.فقال : كيف تراه؟.قلت : هو رجل مسكين من أهل الضفة.قال : هو خير من ملء الأرض من الآخر.قلت : أفلا يعطى من بعض ما يعطى الآخر؟.قال : إذا أعطى خيرا فهو أهله، وإذا صرف عنه فقد أعطى حسنة . وقد روى مثل هذا عن " أبى هريرة " و" سهل بن سعد ". والذى يغيظ " أبا ذر " وأمثاله من المؤمنين الأحرار، أن يستمعوا إلى هذا الإرشاد، ثم ينظروا فيجدوا أن فقراء القلوب قد تصدروا الصفوف، ودفعتهم أموالهم وحدها إلى الأمام، وأن أغنياء القلوب قد تقهقروا، لقلة ذات يدهم فأصبحوا لا يبينون خلف الزحام.!! ومن ثم يصبح قياد الأمم فى أيدى التافهين المهازيل، لأن المال وحده وقود الحركة التى يتخطون بها الصفوف. ومنذ عدة قرون والشرق الإسلامى صريع هذه الفلسفة المادية، مما أمات فى جماهيره عناصر الحياة والكفاح والإقدام. فإن يكن المال علة العلل فى هذه الفوضى الجارفة، فكيف لا يخضع توزيعه لنسب الكفايات والأمانات، والمواهب والأعمال؟!.081(1/71)
يقول الشاعر : أنبئت ـ والأيام ذات تجارب وتبدى لك الأيام ما لست تعلم بأن ثراء المال ينفع ربه ويثنى عليه الحمد ـ وهو مذمم! وأن قليل المال للمرء مفسد يحز كما حز القطيع الحرم يرى درجات المجد لا يستطيعها ويقعد وسط القوم لا يتكلم *** وهذا تصوير على جانب كبير من الصدق للمجتمعات الرأسمالية المنحطة، وهل للدين عمل إلا إصلاح هذه الأوضاع؟. لماذا تكون للمال هذه السطوة كلها؟! لماذا يذم بقلته الممدوح، ويستر بكثرته المفضوح؟ وينطق لوفرته الغبى، ويخرس لضالته الذكى؟!. ولماذا تتكاثر فرص النجاح الأدبى أمام واجديه، وتنتفى أو تندر أمام فاقديه؟؟. كيف نترك مجتمعات الإسلام لتنحدر إلى هذا المصير، الذى تضطرب فيه المقاييس، ولا تتكافأ فيه الفرص أمام أبناء الأمة جميعا؟. ومن أين للناس ـ كل يوم ـ نبى يكشف لهم الغطاء عن أقدار الناس، فيهوى بالكبار، ويرتفع بالصغار، كما فعل الرسول عندما علم " أبا ذر " وغيره من الصحابة، وجه الحق فى معرفة الناس، ولماذا يلام " أبو ذر " على منطق هو رأى الإسلام الصحيح؟!. يقولون : إن " أبا ذر " كان شيوعيا، وأن له فى مذهبه أجر المجتهد المخطئ!!. ونحن نتساءل، لِمَ ينسب " أبو ذر " لهذا المعنى، ولِمَ نظلم الرجل الكبير ونظلم الإسلام معه، بجعل الاشتراكية الإسلامية الواجبة، نزعة شيوعية محاربة؟!. لقد كان " أبو ذر " صاحبا أمينا لرسول الله، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى بقى صاحبا أمينا لخليفته من بعده، ظل وادعا قرين العين فى عهد " أبى بكر " و "عمر"، وهو يرى أضواء الإسلام تأخذ مسيرها فى آفاق العالم، وجنود الحق يهدمون معاقل الأرستقراطية الكافرة، فى فارس والروم.. ويردون الناس إخوانا على فطرة الله التى فطر الناس عليها، ولم يكن هناك ما يريب من سير الأحوال فى داخل بلاد الإسلام.082(1/72)
فلما حاولت فئات من المتعطلين والمتحللين، أن تخلد إلى الراحة، وأن تنقل أخلاق الدعة والركود إلى مجتمعات الإسلام الناهض، وأن تكون من غنائم الفتوح وإقبال الدنيا، طبقات مترفة، لا شغل لها إلا باللذائذ والشهوات، بدأ " أبو ذر " وغيره يزمجرون، وإن كان " أبو ذر " أعلى صوتا، وأصدق حجة، وأعظم سابقة. نعم بدأ " أبو ذر " يستنكر، مع أنه فى أيام " عمر "، كان بادى الرضا عن الحالة العامة، مستريح الضمير للأسلوب الذى حكم به " عمر " جمهور الأمة، فهل كان "عمر" ـ " كأبى ذر " ـ شيوعيا كما يقولون؟!!. يروى أن عمر.. خرج كئيبا محزونا فلقيه أبو ذر، فقال ل :ه مالى أراك كئيبا حزينا؟ فقال : ومالى لا أكون كئيبا حزينا، وقد سمعت بشر بن عاصم يقول : سمعت رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يقول : " من ولى شيئا من أمر المسلمين أتى به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسنا نجا؟ وإن كان مسيئا انخرق به الجسر، فهوى فى جهنم سبعين خريفا ". فقال أبو ذر : أو ما سمعته من رسول الله؟. قال : لا، قال : أشهد أنى سمعت رسول الله يقول : "من ولى أحدا من المسلمين، أتى به يوم القيامة على جسر جهنم، فإن كان محسنا نجا وإن كان مسيئا انخرق به الجسر، فهوى فيها سبعين خريفا، وهى سوداء مظلمة". فأى الحديثين أوجع لقلبك؟. قال : كلاهما قد أوجع قلبى فمن يأخذها بما فيها؟. قال أبو ذر : من جدع لله أنفه وألصق خده بالأرض؟ أما إنا لا نعلم إلا خيرا، وعسى إن وليتها من لا يعدل فيها، أن لا تنجو من إثمها... * * * * فها هو ذا " أبو ذر " يعلن عن رأيه فى سياسة " عمر " تأييدا وتعضيدا. بل هو يرغب إلى " عمر " أن يتحمل أعباء الخلافة، ولو ضاق بها ذرعا؟ خوفا أن يلى الأمر من بعده من يسىء إلى نفسه وإلى المسلمين.083(1/73)
ولا غرو أن يكون ذلك رأى " أبى ذر " ؛ فإن أمير المؤمنين هو صاحب الكلمة الرائعة : .. " لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها على الفقراء... ". وحكم " عمر " كان امتدادا موفقا للخلافة الأولى، التى سوت بين مانعى الزكاة والمرتدين، وأعلنت عليهم حربا واحدة، وكلا الخليفتين كان يمشى فى آثار النبوة بحزم وقوة. ولم يكن صاحب الرسالة العظمى إلا أسوة حسنة، للانغماس فى عامة الشعب والعمل لهم وفيهم.. ولذلك يقول : " ابغونى فى ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ". فالمسلك الرشيد، بل المنهج الفريد الذى يرسمه الإسلام لسياسة الشعوب الاقتصادية والاجتماعية، هو كفالة كتل الشعب الكبيرة، والاعتزاز بها، ومنع كل شارة من شارات الغطرسة والترفع عليها. فهل يلام " أبو ذر " أن فهم من الإسلام هذه الحقيقة السافرة لكل ذى عينين؟!. ثم تولى " عثمان " الخلافة، و" عثمان " رجل لا يرقى إلى نبله شك، وسوابقه فى الإسلام تشهد له بالفضل الجم، والبذل المشكور والجهاد المقبول. غير أن " عثمان " من أسرة عبد شمس، وأفراد هذه الأسرة يعتبرون فى مؤخرة المؤمنين، وإن كانوا فى الجاهلية بيت سيادة وحكم، كانوا أول من حارب الإسلام، وآخر من دخل فيه. وقد كان رأى " أبى بكر " فى هؤلاء وأمثالهم، أن يسووا بأهل السبق والهجرة فيما يأخذون من بيت المال؟ حتى جاء " عمر " فرفض هذه التسوية، وأعطاهم حسب منازلهم من دين الله، فعادوا مرة أخرى إلى منزلتهم فى مؤخرة الصفوف. لكن حنينهم إلى استعادة مجد الجاهلية، وما كان لهم من عز وسلطان لم يفارق دمهم لحظة. فما إن اختير " عثمان " للخلافة، حتى تواثبوا من حوله، والتفوا به، وامتدت أيديهم إلى المال تأخذ منه أنصبة لم تكن تقع لها قط فى صدر الخلافة.!!084(1/74)
فهم ـ قريبا من عثمان بالمدينة أو بعيدا عنه بأطراف الدولة ـ لم يكن لهم شغل شاغل إلا هذا الطمع المفضوح فى أموال المسلمين.! وقد أثار هذا التصرف غضب الكثيرين، واهتاج له " أبو ذر " فيمن اهتاجوا. إلا أن " أبا ذر " له خصائصه النفسية، التى جعلته فى مطلع إسلامه يذهب إلى مجمع أئمة الكفر، يعلن وسطهم اعتناقه للدين الجديد، لا يبالى بعواقب هذه المصارحة، التى كلفته ضربا مبرحا، ولكمات مؤذية.! لكن حسبه أن يُسمع زعماء الكفر فى مكة ما يكرهون، وأن يدعهم قلقين على مستقبلهم من رجولة أمثاله، وعنادهم وجراءتهم.. هذه الخصائص النفسية، لم تفارق " أبا ذر " عندما وجد الاضطراب الفاشى فى سياسة المسلمين الاقتصادية، فوقف له بالمرصاد، معتقدا أن الشغب على المنكر أمر يطالب الله به أصحاب النفوس القوية. *** فلما أصدر " كعب الأحبار " فتوا :ه " أنه لا بأس أن يأخذ الحاكم من بيت المال ما شاء لينفقه فيما ينتويه من أمور؛ وليعطى منه من يشاء من الناس ". صرخ " أبو ذر "، وأمسك بعصاه، وأعملها فى صدر " كعب " وهو يقول : " يا ابن اليهودى ما أجرأك على القول فى ديننا "!. وهذه الفتوى باطلة، وما أكثر الفتاوى الباطلة التى تتعلق بها الحكومات!. فإن القرآن الكريم قد حدد مصارف الزكاة إن كان المال المجموع زكاة، وحدد مصارف الغنيمة؛ إن كان المال المجموع فيئا. ودافعو الضرائب، إنما يؤدونها لتنفق فى مصالحهم العامة، لا فى إتراف شخص أو إبطار أسرة!. فأنى للحاكم ـ بعد هذا ـ أن يتصرف كيف شاء فى أموال الأمة؟!. وهذه الفتوى ليست إلا دسا يهوديا لإفساد الإسلام، بعدما أفلح الدس اليهودى فى التخلص من "عمر" أعظم فقيه اشتراكى تولى الحكم، فأحاله ـ بعبقريته ـ نظاما085(1/75)
لا ينفق فيه درهم إلا فى موضعه الحق، من مصلحة الشعب، فلم يجع أحد فى عهده ولم يتعر، ولم يبطر أحد فى عهده ولم يطغ.. وما أحوج الشرق الإسلامى، إلى عصا " أبى ذر " مرة أخرى، تؤدب ما خلف "كعب الأحبار " من "كعوب " وما أحدثته هذه "الكعوب " فى جسم الأمة من ندوب. *** ونشب خصام عنيف بين " أبى ذر " و " معاوية "، أيام ولايته فى الشام. وإنه لا أدل على عظمة " أبى ذر " وصدق فراسته وبعد نظرته، من نشوب هذا الخصام. فإن أعمال " معاوية بن أبى سفيان " ـ من قبل ومن بعد ـ كانت تمهيدا واسع النطاق لتحطيم الديمقراطية الإسلامية فى ميدان السياسة، والاشتراكية الإسلامية فى ميدان الاقتصاد، وتنصيب أسرة " عبد شمس " على ملك عريض كملك "دى بوربون " أو "هابسبورج " فى أوروبا، وإعادة الأمر "كسروية " و "هرقلية" كما عرف صحابة رسول الله أخيرا، وبعد فوات الأوان. أما " أبو ذر " فقد بادر فرفع عقيرته بالاستنكار، وبدأ يؤلب الجماهير، لتنال حقوقها طوعا أو كرها. فلما رأى " معاوية " يشيد لنفسه قصر الخضراء، ويسخر آلاف العمال فى رفع قواعده ومد شرفاته، قال " أبو ذر " ل :ه " إن كانت هذه أموال المسلمين، فهى خيانة، وإن كانت أموالك، فهى الإسراف "!!. ونحن ماذا نذكر فى الأمثلة عندما نرى " معاوية " يفعل هذا؟. أنذكر رسول الله الذى لم يكن لبيته بواب؟ أم نذكر "خوفو" وهو يسخر الفلاحين فى بناء هرمه الأكبر؟!!. وأين أمثلة الإسلام العليا، إن كان هذا تصرف حكامه فى أموال بنيه؟!. ومن ثم وقف " أبو ذر " خطيبا ـ بعدما ترامت إليه الشكايات من كل مكان ـ يقول : " لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ما هى فى كتاب الله، ولا فى سنة نبيه. والله إنى لأرى حقا يخبو وباطلا يحيا، وشرها بغير تقى "!.086(1/76)
وقابل رجل " أبا ذر "، وقال ل :ه إن " معاوية " يقول : المال مال الله، كأنه يريد أن يحتجبه دون الناس، ويمحو اسم المسلمين عنه. فذهب " أبو ذر " لمعاوية يسأله ـ مستنكرا ـ : ما الذى يدعوك أن تسمى مال المسلمين مال الله؟. فقال " معاوية " الداهية : ألسنا عباد الله والمال ماله؟ فنهره " أبو ذر " : لا تقل هذا!. فأجاب " معاوية " ـ ملاينا ـ : ما الذى أوجدك يا " أبا ذر " علينا؟!. فقال " أبو ذر " : إن أموال الفىء من حقوق المسلمين، وليس لك أن تختزن منها شيئا، ولكنك خالفت الرسول و " أبا بكر " و" عمر"، وكنزتها لك ولبنى أمية.. لقد أغنيت الغنى وأفقرت الفقير!!. وهذه المناقشات، تطل من ورائها طباع الرجلين، هذا على صراحته، واستقامته، ودفاعه عن الحق، وهذا على مداورته، وسعيه الخفى، لبلوغ مأربه واحتياله فى شراء خصومه وكبح جماحهم، بكافة الوسائل المتاحة له.. وروى أن " معاوية " أرسل " لأبى ذر " ـ خفية ـ مائة ألف درهم ـ لعله أراد إسكاته بها ـ فأخذها " أبو ذر " ووزعها على الناس عن آخرها. وبقى كلا الخصمين فى موقفه، ذاك، باسم أن المال لله ، يريد إنفاقه لغير الله ، وهذا باسم أن المال للمسلمين، يريد إنفاقه فى سبيل الله؟ فما أعجب التسميتين وأغرب الغايتين!!. ولقد قال " معاوية " " لأبى ذر " : إننى أدخر المال لإنفاقه فى وجوه المصالح العامة، فرد عليه " أبو ذر " : إنك لا تريد بعطاياك وجه الله ، بل تريد أن يقال : إنك جواد وقد قيل..! * * * * ولم ير " معاوية " بدا من الاستعانة بعثمان لإخراج " أبى ذر " من ديار الشام كلها. فتم له ما أراد وأقفرت الشام من صوت الإصلاح الفذ فى ربوعها. وكان إخراج " أبى ذر " على صورة مزرية بمكانته، وماضيه الناصع وسمعته النقية. لقد أخرج متهما ببث المبادئ المتطرفة، وتجميع الناس عليها، أو بلغة عصرنا هذا : متهما بالشيوعية!! والذى تولى اتهامه " معاوية ".087(1/77)
وقد أبرم هذا الحكم وأيده عثمان فيه. ويقينى أن " عثمان " لو اطلع الغيب وعرف ما كان " معاوية " يدبره لمستقبله ومستقبل أسرته، بل لمستقبل الإسلام والمسلمين جميعا، ما خذل رجلا من السابقين الأولين هذا الخذلان المريب، فى موقف لا مطمع فى بواعثه أو أغراضه!!. فلماذا لا توصف حركات " أبى ذر "بالشيوعية، ولا يرمى بالتطرف إلا فى هذا العهد الأموى؟!. وأين كانت هذه التهم خبيثة على عهد الرسول ومن بعده؟!. بلى.. إن كل صوت يدعو إلى الخير ويقسو على الشر، ويعرف مصدر الداء ويمسك بخناقه ويملأ الدنيا صياحا حوله، يعتبر صاحبه ـ فى عرف المغرضين ـ متطرفا، وإن كان منصفا!!. إن السابقين الأولين من أصحاب رسول الله، ما كان يجوز إهدار حقهم على هذا النحو! ولقد كان " عثمان " رضى الله عنه أول من ذهب ضحية هذه السياسة، التى جرأت الصعاليك على أفاضل هذه الأمة. على أن " أبا ذر " لما عاد إلى المدينة، لقى من الناس إقبالا حاشدا، وحفاوة رائعة، وأخذت الجماهير تلتف به كأنها لم تره قبل اليوم!. فرأى " عثمان " أن ينفيه إلى "الربذة " حتى لا تشيع قالته، ومنع أن يودعه أحد فى طريقه إلى منفاه. ولكن " على بن أبى طالب " أبى إلا أن يؤدى حق هذا الرجل العظيم، وآلمه أن ينفى " أبو ذر " هكذا، كأنه من قطاع الطريق، على حين يترك قاطعو الطريق على مستقبل الأمة الإسلامية، يلهون ويمرحون، ويثرون ويدخرون. فخرج " على " وأولاده يودعون " أبا ذر " لوجه الله. وكان هذا الوداع من أسباب الجفوة بين على وعثمان .088(1/78)
ولن يعدم منتحلو الأعذار، ما يسوغون به القسوة على " أبى ذر "، بدعوى حماية الدولة وصيانة نظمها!. وهى دعاوى يرجم بها الأبرياء، أكثر مما يرجم بها المجرمون. فإن يكن للأولين عذر فى اتهام " أبى ذر "، فما عذر المتأخرين، بعدما تكشفت الحوادث عن الفتنة الكبرى، ودارت رحى الإسلام على أهله، سنين عددا. تبين أعقاب الأمور إذا مضت وتقبل أشباها عليك صدورها أفلو أخذ برأى " أبى ذر "، فأقصى " معاوية " عن الشام، وعادت الأمور فى المدينة سيرتها الأولى كما كانت على عهد " عمر "، أكان يحدث ما حدث من اضطرابات وانقلابات؟؟. كلا، كلا! ومع ذلك، لا يزال فى الناس من يتهم " أبا ذر " رضى الله عنه ويعتبر أن نفيه كان منعا للفساد!!. لقد استعصى " أبو ذر " على أمواج الفتن التى ضربت برشاشها وجوه الكثيرين، وبقى أمامها منتصبا كالربوة الشماء، لا يهزم ولا يلين. ومع أنه كان يزعج الحكام الساسة، بنقده المر، وصراحته الرائعة، فقد كان فى حياته الخاصة سهلا لينا، نصيبه من الدنيا نصيب خادمه.. يأكلان طعاما واحدا، ويلبسان ثوبا واحدا. فلما حضرته المنية فى المنفى، استعير له الكفن الذى يلقى فيه ربه، وقام بمواراة الجثة الطاهرة وفد عراقى، كان يمر بالربذة إلى الحجاز. فلم يلف جثمان " أبو ذر " فى علم، ولا حمل على عربة مدفع!. حسبه أن ملائكة الرحمة بسطت لروحه الكبير أجنحتها لترفعه فى عليين، إلى جوار رب العالمين.089(1/79)
مفهوم خطأ عن أبى ذر:
قال لى : أنا مع اليسار الإسلامى! فلبثت مليا ثم قلت : الإسلام دين ليس له يسار وليس له يمين، إنه نهج فذ يخالف المغضوب عليهم كما يخالف الضالين... قال : أعنى أننى مع رأى " آبى ذر " !... فتفرست فيه ثم أجبت :ه إننى أعرف أنك شيوعى، فهل أنت مع أبى ذر فى الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟ هل أنت مع الرجل الصالح فى أداء الفرائض من صلاة وصيام وترك المناكر من خنا وبغى؟ هل أنت معه فى الإيثار والمرحمة فلا تبقى لديك فلسا لأنك أسرع الناس إلى البذل والمواساة وطلب الآخرة؟. إن أبا ذر رضى الله عنه عاش زاهدا مجاهدا لم يخذل الإسلام فى موطن ولا نكص فى معركة، بل كان أصرح الناس رأيا، وأشدهم فى الله بأسا، فما أنت وأبو ذر؟.. قال : أنا أتابعه على رأيه فى المال، إنه يحرم ألا يستبقى أحد عنده فوق حاجته.. قلت ضاحكا : أحسبك تكلف الآخرين بهذا الرأى، أما أنت فما أحسبك تتنازل للفقراء عن قصر ملكته بطريقة ما، أو مزرعة جاءتك ولو بطريق الميراث.. لقد ظننتم أبا ذر شيوعيا، والرجل بعيد عن هذه النزعة، إنه مسلم صالح يتبع القرآن والسنة ولا يعدل بهما شيئا فى الأولين والآخرين... والمسلمون كلهم يرون أنه فى الأزمات التى تهدد الإسلام وتهز أركانه يجب ألا يدخر أحد نفسا ولا مالا، وقد كان جمهور المؤمنين فى الأيام العصيبة ـ مثل غزوة العسرة ـ يتنافسون فى دعم الجهود الحربية، فمنهم من يخرج من ماله كله، ومنهم من يخرج من ماله نصفه، ومنهم من يبذل القناطير المقنطرة.. وكذلك كانوا يتباذلون فى أيام السلام، فلا يدعون محروما ولا يُضيعون ضعيفا، ونهضت تقاليد الكرم وخفتت نوازع الشح، واستقر بين الناس إنفاق ما زاد على الحاجة...090(1/80)
لكن شيئا من ذلك لم يعطل آيات المواريث، ولم يمنع أصحاب الفضول أن تكون لهم مدخرات تنفعهم فى غدهم، وتنفع ذراريهم من بعدهم، ولم يختف التفاوت بين الأغنياء والفقراء فى مقادير الثروات التى يحوزونها... الذى اختفى هو التضور والبأساء! ربما ظن أبو ذر أن النعماء التى شاعت أن أحدا لم يمسك شيئا يزيد على حاجته، وربما سبق إلى ذهنه أنه يحرم الادخار على المؤمن. لقد اتفق أولو الرأى والعقل على أن ذلك خطأ. فهل يعنى ذلك اتهام الرجل الصالح بأنه من اليسار الإسلامى؟.. إن الشريعة فى البناء أخت العقيدة فى الأساس، ومع الشريعة والعقيدة معا نسير، ونرفض أى تحريف.
العمران :
لم يسعد الإسلام بحكام كثيرين من الطراز الذى يعمل للشعب، قبل أن يعمل لنفسه والذى يجعل الدين وسيلة لخدمة الأعم وإصلاح الرعايا، قبل أن يجعله وسيلة لتسخير الناس وابتزاز أموالهم!. وسنتخطى العصور المتأخرة بما تضم من رجال وأحوال، والعصور المتقدمة وما ضمت من آراء وأقوال، ونقتطف نبذا يسيرة من سيرة العُمرين ولُمعا مشرقة من تاريخ الرجلين، اللذين فهما الإسلام خير فهم، وطبقاه فى حكمهما خير تطبيق، ليرى المصلحون فى هذه الأيام أمثلة حية لطرائق الاشتراكية الإسلامية السديدة، فى تنظيم المجتمع على أساس بين، من محاربة الظلم الاجتماعى، والاستبداد الاقتصادى. فأما " عمر بن الخطاب "، فقد كان رجلا شعبيا، تمتزج بدمه عواطف الحنو والإعزاز لجمهور الأمة. وكانت سياسته الصارمة ترجمة صادقة، للمبادئ التى سعت الإنسانية بعده بضعة عشر قرنا، لتصل إلى تقريرها فى ميادين الاجتماع، والسياسة، والحكم والاقتصاد..!.091(1/81)
استطاع هذا الرجل العبقرى، أن يستلهمها من آيات الوحى الإلهى، وروائع الحكمة النبوية. فكانت حياته إشعاعا من القرآن، وامتدادا لعصر النبوة، وميزانا لا يختل.. فى تقويم المبادئ، وتقدير الخطط العامة. وقلما تتلمس أمثلة للحرية والإخاء والمساواة، وتكافؤ الفرص، وقواعد الشورى، ومبادئ العدالة الاجتماعية، إلا وجدت فى تاريخ " عمر " الكثير منها. لو كان " عمر " من رجال القرون الحديثة، أو رجالات الغرب، لاعتبر من مؤسسى النهضات الحرة، ومن قادة الحضارة الإنسانية، الذين تتضاءل عند أسمائهم ألمع الأسماء. وهيهات أن تجد فى أساطين الديمقراطية والاشتراكية، من يدانى " ابن الخطاب " فيما وضع من دساتير الحكم ومناهج العدالة. ولكن رجالات الشرق العظام، دفنوا فى تاريخه المضطرب، كما يدفن الذهب فى التراب.!! فإذا ما أحيينا سيرتهم، أبرزنا أعمالهم فى المؤلفات، ولم نقتد بها، أو نبرز طرفا منها فى أساليب الحكم، وتكوين الحكومات، ولم نفكر يوما أن نهتدى بها فى فك أسار الشعوب المعذبة، وإنصاف شتى الطبقات. وهل كانت عظمة " عمر "، إلا فى أنه صاحب فلمسفة عملية، أخذ يحلم بها أمثال " روسو " و " ميرابو "؟ فكان الرجل الربانى المنفذ لها، وكان هؤلاء أصداء هزيلة للثورة المضطربة الساعية على غير هدى إلى الحرية والإنصاف والعدالة، والتى كان شرها وخيرها سواء. يا للإسلام من دين : " لو كان له رجال "!. رجال يُلهمون فهم " عمر "، ويحكمون به حكم " عمر " رضى الله عنه. ولسنا بهذا نترجم للخليفة الراشد " عمر "، فما عمر بالرجل الذى يذكر تاريخه فى سطور، ولكنا ـ فقط ـ نقارن بين ما كان وبين ما هو كائن. ومادمنا بصدد التحدث عن المال، وتقييده، فلابد من تعرف آراء الفاروق فيه !092(1/82)
استغلال نفوذ الحكم :
يقول العامة عندنا : (من فاته الميرى يتمرغ فى ترابه). والباعث على هذه الكلمة التى سارت بينهم مثلا : أنهم يرون فى الحكم وما يتصل به من قريب أو بعيد مغنما يرضى الطمع ويشبع الشهوة، ويرسل الثروة والجاه والنعمة غدقا مدرارا. وليست عظمة الحاكم ـ عندنا ـ أنه موظف مضمون الراتب مرفوع المرتبة. بل إن ما يحيط بالحكم من سطوة، وما يحف به من أبهة، وما يضفيه على صاحبه من تمكين، وما يقرر له من حقوق، جعل الحكم ـ فى كل بلد متأخر مسكين ـ بابا إلى جمع الأموال المتكاثرة من طرق شتى.. ما يُجهل فيها أكثر مما يُعرف، ظاهرها منكر وما خفى أعظم!. هذا ما يحدث فى بلاد الإسلام!. أما ما نفذه"ا عمر " من حكم الإسلام الحق، فهو مصادرة هذه الأموال المجموعة فى أثناء الحكم، وردها إلى بيت مال المسلمين. فعل عمر هذا مع " أبى سفيان " و " أبى هريرة "، وغيرهما. فقد ولى " عتبة بن أبى سفيان " على " كنانة "، فقدم معه بمال. فقال : ما هذا يا عتبة؟. فقال : مال خرجت به معى واتجرت فيه!. قال : ولمَ تخرج هذا المال معك فى هذا الوجه؟ فصيره فى بيت المال!!. وكانت التجارة هى التكأة التى يعتمد عليها بعض الولاة فى جمع هذه الثروات. فحرم " عمر " التجارة على الولاة، حتى لا يستغل الحكم فى جرِّ الأرباح الطائلة. وتوجد الآن أملاك كبيرة، وأموال طائلة، جمعها أصحابها لأنهم حكموا حينا، فرشحوا للعودة إلى الحكم فى كل حين. فلماذا لا نقتفى أثر " عمر "، فنصادر هذه التفاتيش والقصور والأموال لحساب الدولة، وتكون تصفية هذه المقتنيات على أساس ما يستحقه الرجل من مرتب الحكم فقط، إن كان وزيرا أو مديرا، وبهذا يكون الحكم طريقا متعينة لخدمة الشعب، لا للإثراء على حسابه؟!.093
أيدى حكامها!(1/83)
إن الأغلال التى وضعها " عمر " فى أيدى الحكام، هى التى أتاحت لجمهور الأمة أن يتحرر، وأن يعيش عزيزا فى الداخل والخارج. والويل لأمة تنطلق أيدى حكامها!
حرفية النصوص والمصلحة العامة :
ومن التدابير المالية التى اكتنفها التوفيق من نواحيها جميعا رفض " عمر " أن يقسم الأرض المفتوحة، برغم أن ظواهر النصوص وسوابق السنة كانت ضده. فالقرآن يحكم بأن الأرض تقسم أخماسا على الغانمين، وقد قسمت أرض خيبر قبلا على من أصابوها. غير أن " عمر " وجد فى فهم الدين على هذا الوجه ما يهدد مستقبله ومستقبل حماته، وما يؤدى إلى إيقاع المظالم بالأمم المهزومة. والإسلام لا يرضى أن تتكون من أبنائه طبقة مترفة، تعيش قاعدة على ما غنمت من ثمار الفتوح، ولا أن يتحول أبناء الأمم الأخرى إلى رقيق للأرض، يعيشون لغيرهم معيشة لا مستقبل لها، ولا رجاء فيها. ومن ثم أمر " عمر " بأن تبقى الأرض لأصحابها، ويكتفى بفرض الضريبة المعقولة "الخراج " عليها، على أن يعطى الفاتحون أسهمهم من دخلها... فلا يظلمون ولا يظلمون!. و" عمر " يعتمد فى هذا الحكم، على مبدأ تقييد الملكية، الذى شرحنا أصوله الإسلامية وسنزيدها شرحا فى الفصل الآتى.. ويرى أنه بحسب المجاهدين دخل الأرض، لا عينها، فذلك أفضل للمنتصرين والمنهزمين. وقد غضب الفاتحون لهذا العمل، واتهموا " عمر " بالعدوان على حقوقهم والاستيلاء على أملاكهم!. أما " عمر " فقد قال للناس : ".. سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أنى أظلمهم حقوقهم، وإنى أعوذ بالله أن أركب ظلما.. لقد أغنمنا الله أموالهم ـ يعنى الكفار ـ وأرضهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، ورأيت أن أحبس الأرض على أصحابها، وأضع عليهم الخراج، فتكون فيئا للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتى من بعدهم.094(1/84)
أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام؟. لابد من شحنها بالجيوش وإدرار العطاء.. فمن يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرض وأصحابها عليهم ـ أى الفاتحين؟ ". وهذا حق.. أفلو فتح المسلمون الدنيا، قسم أربعة أخماس الأرض على الفاتحين فصار لهم ملكا؟ وقسم أربعة أخماس الناس عليهم فصاروا رقا؟!. أى جهل بأهداف الإسلام الكبرى ووظيفة المسلمين الأولى، كهذا الجهل، الذى يختبئ وراء حرفية النصوص، ويريد بها متاع الحياة الدنيا.!
سياسة الفاروق الاقتصادية :
وقد كان " عمر " دقيقا بالغ الدقة فى سياسته المالية، وكان يعتبر الإشراف على الحركة المالية، أساسا للإصلاح الاجتماعى والسياسى معا. وهذا حق، فإن الاضطراب الاقتصادى يجر وراءه حتما ذيول الفوضى ويوهى أمتن الأواصر بين طوائف الأمة ويؤجج نيران الفرقة والبغضاء بين بنيها. ولذلك أمسك " عمر " بالزمام الاقتصادى للبلاد بيد من حديد، ولم يبال أن يصادر الحرية الشخصية أحيانا لتأمين هذه الغاية. وهذا ـ لاشك ـ إجراء موقوت بظروفه. روى الطبرى عن الحسن البصرى، قال : كان " عمر بن الخطاب " قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج إلى البلدان إلا بإذن، وأجل!. فشكوه.. فبلغه ما يقولون فيه، فقال : ".. ألا و إن الإسلام قد نزل، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده!، أما وابن الخطاب حى فلا!.. إنى قائم دون شُعب الحرة أخذ بحلاقيم قريش وحجزها، أن يتهافتوا إلى النار "!. فلما مات عمر وجاء عثمان، لم يأخذ الناس بهذه السياسة المالية الحازمة، فوقع المحظور. روى الطبرى " أنه لم يمض سنة على إدارة " عثمان " حتى اتخذ رجال من قريش أموالا فى الأمصار وانقطع إليهم الناس..! "095(1/85)
فكان هذا أول الوهن.. وعمر الذى يعتقل سادة قريش، ويضيق الخناق على تصرفاتهم المالية لم يكن يفعل ذلك إلا لمصلحة الشعب العليا. هذه المصلحة التى كانت تجعله يطوف ببيوت الفقراء فى المدينة، يقرع أبوابها ويسأل النساء : ألكن حاجة؟ أتريد إحداكن أن تشترى شيئا؟ ثم يرسل فى حوائجهن يقضيها من الأسواق، ومن لم تجد عندها مالا، اشترى لها من ماله الخاص. وكان يسير خلف البريد إذا أتى من الثغور حيث يرابط المجاهدون، أو إذا جاء من ميادين القتال، ثم يقف بالأبواب قائلا : أزواجكن فى سبيل الله، وأنتن فى بلد رسول الله. إذا كان عندكن من يقرأ الرسائل.. وإلا فاقتربن من الأبواب حتى أقرأ لكن!. وهكذا استطاع عمر أن يأخذ من الروابى الشماء، ويضع فى الشقوق الغائرة، فأعلى الوهاد، ووطأ النجاد، وأعادها طريقا مستوية، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. سارت فيها مواكب الإسلام سيرا حثيثا إلى النصر والكرامة، فلم تجد أمامها عقبة ولا عائقا...!
رجل زاهد فى بيئة مترفة :
أما " عمر بن عبد العزيز "، فقد كان نسيجا وحده، فى دولة لعب ملوكها بالمثل الإسلامية العليا فى السياسة والاقتصاد، فما إن تولى الحكم حتى حمل عن أسلافه أعباء ثقالا، وأعانه الله على النهوض بها. فجدد للناس سيرة سميه الأول " عمر "، إذ اقتفى أثره وأخذ بسببه واتصل بنسبه، وكان ـ بحق ـ الخليفة الراشد الخامس، فى تاريخ الإسلام. إن " عمر بن الخطاب " جاء بعد " أبى بكر "، عدلا بعد عدل، ونورا على نور. كتب " أبو بكر " مقدمة رائعة لأساليب الحكم الصحيح، ورسم اتجاهاته فجاء "عمر" يبنى على أساس سليم، ويستكمل الفصول الطويلة فى هذا الكتاب المشرق.096(1/86)
أما " عمر بن عبد العزيز " فقد وجد أغلاطا فاضحة ، يجب أن يصححها، ومظالم فادحة يجب أن يطرحها.. ورد المظالم ـ فى نظر الإسلام ـ أساس التوبة الصحيحة. فليس يقبل من اللص أن يتوب، وأموال الناس التى سرقها فى بيته، وليس يوصف الحكم بأنه استقام على أمر الله، ومشى على صراط القرآن إلا إذا برئ براءة تامة من دماء الناس وأموالهم، وتنزه عن الخوض المحرم فى حقوقهم، التى كتب الله لهم. ومن ثم وضع " عمر " نصب عينيه ـ أول ما تولى الخلافة ـ : أن يرد على الأمة ما أخذ منها بالقوة الغاشمة، وهذه السنة الكريمة سبق بإقرارها " على بن أبى طالب" كرم الله وجهه، فلم ير أن مُضى المدة يسقط الحقوق الثابتة ـ كما يزعم القانون المدنى ـ ولم ير أن وضع اليد على أرض منهوبة، أو أموال مسلوبة، يحلها لمن استولوا عليها كرها، أو يقطع عنها صلة أصحابها الأولين الذين تركوها قهرا. روى أنه كانت " لعثمان " قطائع أقطعها الناس ـ ولم يكن ذلك من رأى " على " ـ فلما تولى الخلافة قال : " والله لو وجدته ـ هذا المال ـ تُزوِّج به النساء، ومُلِّك به الإماء، لرددته، فإن فى العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق!! " ويقولون : إن هذه السياسة الشديدة، هى التى هزمت " عليا " مع خصومه!. ونحن نقول : وانهزام هذه السياسة وخذلان أصحابها، هو الذى أصاب المسلمين بعد بهزائم نقضت عروتهم وأوهت دولتهم. أإذا انهزم الشرف فى معركة، هانت بين الناس مبادئ الشرف؟. وهل معنى الاستنجاد بالدين لحراسة الأملاك الباطلة، إلا أن اللصوص يستنجدون برجال الأمن، ليعينوهم على إخفاء الجريمة والتعفية على آثارها؟. فأى خيانة للدين والأمانة، أشد من هذا الموقف المريب؟؟.097(1/87)
ردوا المظالم أولا :
لكن " عمر بن عبد العزيز " كان نعم الحاكم الأمين على تعاليم الإسلام، وعلى حقوق الناس، فلما صارت إليه الخلافة بعد وفاة " سليمان بن عبد الملك "، أقبل ركب الخليفة، فرأى " عمر " خيلا وبراذين وبغالا مطهمة، لكل دابة سائس، فقال : ما هذا؟ قالوا : موكب الخليفة، يظهر فيه الخليفة أول ما يلى الأمر! فالتفت إلى "مزاحم " ـ اسم تابعه ـ وقال : ضم هذه إلى بيت مال المسلمين، وفعل ذلك بالسرادقات التى نصبت له، فضمها إلى بيت المال. ولما بلغ منزل الخلافة، قال أولاد " سليمان " ل :ه هذا لك! وهذا لنا! فقال : وما هذا؟ ـ هذا ما لبس الخليفة من ثياب وما مس من الطيب، فهو لولده!. وما لم يمس فهو للخليفة من بعده!.. هو لك. فقال " عمر " : ما هذا لى ولا لسليمان، ولا لكم، ولكن يا " مزاحم " : ضم هذا كله إلى بيت مال المسلمين. تلفت " عمر " حوله فألفى نفسه قد ورث عن أبيه ضياعا وأموالا، وخشى أن تكون مأخوذة من طرق غير مشروعة، فأمر بردها كلها إلى بيت المال، ثم خرج إلى المسجد والناس مجتمعون فيه، فأخبرهم بأنه بدأ بنفسه، فى إعادة الحقوق إلى أصحابها. وجاءه " عتبة بن سعيد بن العاص "، وكان صديقا له وقال : يا أمير المؤمنين : إن " سليمان" قد أمر لى بعشرين ألف دينار، حتى انتهت إلى ديوان الختم ولم يبق إلا قبضها! فتوفى على ذلك، وأمير المؤمنين أولى بإتمام الصنيع عندى وما بينى وبينه أعظم مما كان بينى وبين سليمان. فقال عمر : عشرون ألف دينار تغنى أربعة آلاف بيت من المسلمين! وأدفعها إلى رجل واحد؟! والله مالى إلى ذلك سبيل. هذا لون من العفاف والمعدلة، والحرص على ميزانية الشعب أن تنفق فى وجوه السرف والبطر. تلمح من ورائه خلق رجل ليس من صنف الملوك الذين سبقوه على ولاية هذه الأمة فاستباحوها لأنفسهم.098(1/88)
إنه من صنف آخر، يذكرك بدولة الخلافة الراشدة، وسيرة الأئمة المهديين ولقد خطب الناس يوما فكان من خطبته قول :ه "... إنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم. ألأ وإنى أعالج أمرا، لا يعين عليه إلا الله... ثم قال : إنه لحبيب إلى أن أوفر أموالكم وأعراضكم، إلا بحقها ولا قوة إلا بالله. ". وهذه الخطبة الموجزة تصور لنا نفسه وترسم سياسته، وتبين أن الحكومة الصحيحة هى التى تصون على الشعب ماله وعرضه، وتعتبر هذا وظيفتها الأولى. فهل من الدين، أن يكون رجال الحكم عبئا على الشعب، يغصبون ماله، ويأكلون حقه، فإذا خرج عليهم أحد استفتوا الدين ليعتبروه ثائرا وليقتلوه كافرا...؟! ذلك ما أبى " عمر بن عبد العزيز " القول به!!.
الضرورات ثم الكماليات :
ومن أهم وظائف المال، أن يسخر فى تفريج الضوائق، وسد حاجات الناس الماسة وضروراتهم اللازمة. وأى مصرف للمال مع وجود هذه الأبواب الحقة فهو مصرف باطل. وحيث يوجد الجوع والعرى، فإن العمل الأول للمال، هو إذهاب هذه الآفات الإنسانية. أما أن تبقى هذه الرزايا المحرجة، وينفق المال فى الشئون الكمالية، والمظاهر الثانوية لنفر من الأمة، فلا..! وإذا كان الإسراف فى وجوه الحلال، لا يعد كرما فى هذا الدين، فكيف بالتبذير الأعمى فى وجوه الضلال ومنازع الشهوات؟!. ولو روقب ما ينفق فى هذه النواحى الباطلة، لوجد أن عشره يكفى لتمام بعض المشروعات التى لا بد منها لعلاج المستوى الإنسانى المنحط عندنا. وقد كان " عمر بن عبد العزيز "، يدرك هذه الحقيقة جيدا.099(1/89)
بلغه أن بعض أولاده اتخذ خاتما واشترى له فصا بألف درهم، فكتب إلي :ه أما بعد فقد بلغنى أنك اشتريت فصا بألف درهم، فبعه، وأشبع به ألف جائع، واتخذ خاتما من حديد، واكتب علي :ه " رحم الله امرءا عرف قدر نفسه " وهذه الخطة التى سلكها " عمر "، تتفق كل الاتفاق مع الخطة التى سلكها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أهل بيته. فقد دخل على " فاطمة "، وقد نزعت من عنقها سلسلة من ذهب تريها لامرأة أخرى، وهى تقول لها : هذه أهداها إلى "أبو الحسن "، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا فاطمة، أيسرك أن يقول الناس : ابنة رسول الله فى يدها سلسلة من نار؟ ثم خرج فلم يقعد. فأرسلت " فاطمة " بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبدا فأعتقته. فَحُدِّث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، فقال : الحمد لله الذى نجى فاطمة من النار. ومع أن تحلى النساء بالذهب والحرير لا بأس به، إلا أن ذلك لا موضع له وفى الأمة من يطلب الضرورات فلا يجدها. وفى عهد " عمر "، ظل الخليفة العادل يتتبع حاجات الناس حتى سدها. فلما حرر الناس من ذل الفقر، بدأ يحررهم من ذل العبودية. قال يحيى بن سعيد : بعثنى " عمر بن عبد العزيز "، على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها منهم، فقد أغنى، "عمر بن عبد العزيز" الناس، قال : فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم!!. * * * * هذا هو الإسلام، الذى تسعد الشعوب فى ظله، عندما يقيض له القدر حكاما أمناء، والويل للدين والدنيا من الولاة السفهاء. والحقيقة أن طبيعة الإسلام المشرقة، دخلت فى صراع عنيف مع طبيعة العصور المظلمة، وطبيعة الرجال الأنانيين الذين عاشوا فيها.100(1/90)
فإذا انتصر الدين حينا، سجل التاريخ له صحائف بيضاء، بما تضمنت من عدالة ومساواة وإخاء. وإذا انتصرت طبيعة القرون، لم تجد إلا ظلالا سودا للبغى والعدوان والفساد. وعندما كان العهد قريبا من فجر النبوة، كان الخير واضحا والحق ناصعا، ثم جاءت أيام انطلقت فيها سحب الشهوات، وملأت الآفاق بغيوم، حجبت عن الناس الضحوة الكبرى. ثم.. ما أسرع ما جاء الليل، وفى الليل تظهر الأشباح، وتنطل! المردة، وتولد الأساطير... وكان من الأساطير التى راجت عن الإسلام، أن الدين الذى يدعو للأخوة العامة، أصبح حملته يتعصبون لقبيلة من القبائل، أو جنس من الأجناس، وأن الدين الذى يقوم على الاشتراكية العامة، أصبح القوام عليه فئات من المترفين والعاطلين، الذين لا يكن لهم هذا الدين إلا البغض والاحتقار. قال سائح أمريكى : لقد عرفت الحال عندكم، لما شاهدت ريفكم، ونظام بيوتكم فيه. فقيل ل :ه وكيف؟!. قال : قصر واحد مشيد، وأكواخ مبعثرة مهدمة، إن لهذا دلالته الصارخة. ومن عجب أن تكون هذه الصورة المزرية، صورة الأنانية المتفردة، والجماعة البائسة المنكودة، هى الصورة التى يراد أن تسود، فى ميدان السياسة والاجتماع والاقتصاد، وأن يكون ذلك فى حماية من الدين ذى المناهج الاشتراكية، التى لا ينكرها ذو عينين..!. * * * *101(1/91)
الفصل الرابع :الفقه الإسلامى يساير التطور الاقتصادى:
لا شيوعية فى الإسلام:
أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر هذه الفتوى الخطيرة، نثبتها هنا، مع تعليق لنا عليها، تدعو إليه ملابسات الحالة عندنا. " إن من مبادئ الدين الإسلامى، احترام الملكية، وأن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته، ما يحبه ويستطيعه، ويتملك بهذه السبل ما يشاء. هذا. وقد ذهب جمهور الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين، إلى أنه لا يجب فى مال الأغنياء، إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج، والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة. وما يكون لعوارض مؤقتة وأسباب خاصة كإغاثة ملهوف، وإطعام جائع مضطر، وكالكفارات، وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان، وحفظ النظام، إذا كان ما فى بيت مال المسلمين، لا يكفى لهذا. وكسائر المصالح العامة المشروعة، كما هو مفصل فى كتب التفسير، وشروح السنة، وكتب الفقه الإسلامى. هذا هو الواجب. غير أن الإسلام يدعو كل قادر من المسلمين، أن يتطوع بما شاء من ماله، يصرفه فى وجوه البر والخير، مع عدم الإسراف والتبذير فى ذلك، كما قال الله تعالى : (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) وكما قال عز وجل- فى وصف عباده الذين أثنى عليهم ـ : (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) وكما تدل عليه السنة فى أحاديث كثيرة.103(1/92)
وذهب أبو ذر الغفارى ـ رضى الله عنه ـ إلى أنه يجب على كل شخص، أن يدفع ما فضل عن حاجته، من أى مال مجموع عنده فى سبيل الله ـ أى فى البر والخير ـ وأنه يحرم ادخار ما زاد عن حاجته، ونفقة عياله. هذا هو مذهب " أبى ذر "، ولا يعلم أن أحدا من الصحابة وافقه عليه. وقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه، وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين، بما لا مجال للشك معه، فى أن " أبا ذر "، مخطئ فى هذا الرأى. والحق أن هذا مذهب غريب من صحابى جليل " كأبى ذر "، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام، وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس فى زمنه، واستغربوه منه. قال الألوسى فى تفسيره ـ بعد ما بين مذهبه ـ ما نص :ه " وكثر المعترضون على " أبى ذر " فى دعواه تلك، وكان الناس يقرءون له آية المواريث، ويقولون : لو وجب إنفاق كل المال، لم يكن للآية وجه. وكانوا يجتمعون عليه، مزدحمين حيث حل، مستغربين منه ذلك ".! ومن هذا يتبين أن هذا الرأى خطأ، وصاحبه مجتهد مخطئ، مغفور له خطؤه، بل مأجور على اجتهاده. ولكنه لا يتابع فيما أخطأ فيه، بعد أن تبين أنه خطأ لا يتفق وما يدل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، وقواعد الدين الإسلامى. ولما كان مذهبه داعيا إلى الإخلال بالنظام، والفتنة بين الناس، طلب " معاوية " والى الشام من الخليفة " عثمان " رضى الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة. وكان "أبو ذر " وقتئذ فى الشام فاستدعاه الخليفة، فأخذ " أبو ذر " يقرر مذهبه، ويفتى به، و يذيعه بين الناس. فطلب منه " عثمان " أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس، فأقام "بالربذة" (مكان بين مكة والمدينة). قال ابن كثير فى تفسير :ه كان من مذهب " أبى ذر" تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال. وكان يفتى بذلك ، و يحثهم عليه، ويأمرهم به ويغلظ فى خلافه.104(1/93)
فنهاه " معاوية" فلم ينته، فخشى أن يضر بالناس فى هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين " عثمان "، وأن يأخذه إليه. فاستقدمه " عثمان " إلى المدينة وأنزله بالربذة وحده، وبها مات ـ رضى الله عنه ـ فى خلافة عثمان. وجاء فى فتح البارى للحافظ ابن حجر، ما خلاصت :ه " إن دفع المفسدة مقدمة على جلب المصلحة. ولذلك أمر، عثمان " " أبا ذر "، أن يقيم بالربذة، مع أن فى بقائه بالمدينة مصلحة كبيرة لطالبى العلم، لما فى بقائه بالمدينة من مفسدة، تترتب على نشر مذهبه ". *** قرأت هذه الفتوى، ورأيت أن أقف لديها طويلا، فإن ما بها من أحكام علمية، يحتاج إلى شرح يمنع عنه التأويل المغرض. شرح يقى الإسلام ظنون دعاة العدل الاجتماعى، ويقلق طواغيت المال من أرباب الضياع وأصحاب الإقطاع. ... إن هذه الفتوى صورة صادقة، للتفكير الذى يسود الشرق الإسلامى منذ قرون. وهو تفكير يحتضنه الأزهر، والمدارس الإسلامية الأخرى. وتكاد الجماعات الشعبية العاملة للإسلام، لا تعدو حدوده، ولا تبعد عنه، إلا ريثما تعود إليه. وهذا التفكير يعتمد على فهم معين، لنصوص الإسلام وقواعده العامة. ولا عيب فى الفهم، ولا فى إصدار الفتوى على أساسه، لو أن الحالة عندنا تشبه الحالة فى الولايات المتحدة مثلا، حيث رءوس الأموال النامية فى اطراد، إلى جانب الجماهير المستمتعة بأكمل الحقوق وأطيب المعايش. وحيث لا تجد الشيوعية معوقا مصطنعا أمامها. ومع ذلك قلما تجد من يقبلها، أو يُقبل عليها. لكن الحالة فى الشرق الإسلامى، تناقض فى أساسها وفى ملابساتها، أحوال الولايات المتحدة.105(1/94)
ومن هنا جاز لنا القول بأن هذه الفتوى ربما لا تحتاج إلى تعقيب، فى وصفها الإسلام بأنه نظام "رأسمالى" إذا ترجمت فى هذه السنن إلى أهل أمريكا. أما إرسالها على هذا النحو إلى شعوب الشرق المستضعفة، وإلى أهل البلاد المغلوبة على أمورها وأرزاقها، فإنه يحتاج إلى تعقيب طويل. وهذا ما سنقوم به إن شاء الله. والعالم المسلم يشعر بحرج بالغ، عندما يخط حرفا فى هذا الموضوع. فإن كلمات "شيوعية " و "رأسمالية" و "تعاونية ".. الخ، كلمات جديدة بما ترمز إليه من نظم واتجاهات . وعندما نقارن بين ما جاء به الإسلام من تعاليم وبين ما استحدثته هذه المبادئ من أفكار وقوانين، نجد أننا أمام معضلات شائكة. فإن الإسلام ـ كدين ـ ترفض عقيدته ونظامه " الشيوعية " رفضا باتا، لأ نها فلسفة مادية الكيان، وفكرة ملحدة العقيدة (2). ثم ينظر بعد ذلك إلى ثمراتها الاقتصادية، ليسيغ منها ما يشاء، على حسب قربها أو بعدها من منهجه الخاص. والإسلام كذلك، يرفض " الرأسمالية " رفضا باتا، لأنها آفة اجتماعية، وظاهرة مفسدة.. ثم ينظر إلى ثمراتها الاقتصادية نظرة فاحصة، فيقبل منها ما يشاء، ويدع منها ما يشاء. غير أن الشيوعية والرأسمالية وغيرهما من المذاهب تعرض نفسها كلا لا يتجزأ. وأصحاب هذه المذاهب يريدون فرضها على الناس بما فيها من خير و شر. ونريد ـ نحن ـ أن نقتبس من نتاج الفكر الإنسانى ما يمشى طيعا فى ضوء الوحى الإلهى. وأن نخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. وعلى هذا النهج سنناقش مبدأ الملكية فى الإسلام.106(1/95)
استدراك :
أما الكلام فى الناحية الاقتصادية من حياة " أبى ذر "، فقد مر بك آنفا وجه الحق فيه، ومنه نرى أن وصف الصاحب الجليل ـ كما يفهم البعض ـ بالشيوعية، ثم الاعتذار عنه بأنه اجتهد فأخطأ، قول مجانب للصواب. إن كانت الشيوعية تعنى جحد الدين، والكفر بالله والمرسلين، فليس الرجل شيوعيا. وإن كانت تعنى إنكار حق التملك والتوارث، فليس شيوعيا. وان كانت تعنى التأثر بأفكار غريبة على الفقه الإسلامى، نزحت إلى أرض الجزيرة من فارس أو من غيرها، فليس شيوعيا. وكل ما قيل من انخداع " أبى ذر " بدعوة " عبد الله بن سبأ "، فمحض كذب.! ولقد أثبت التمحيص التاريخى أن " أبا ذر "، مات قبل أن يلقى " عبد الله " هذا. فأنى له التأثر به؟!! إن الذين يصفون " أبا ذر " بالشيوعية، يريدون إيهام الناس، أن النقمة على المكتنزين، والعطف على المظلومين، ونقد طوائف الحكام من المستغلين والمترفين لا تنبجس من نبع الإسلام الحنيف ـ فيما يزعمون ـ . ولكنها أعراض شيوعية كامنة أو سافرة، تجعل صاحبها موضع اتهام، ومثار لجاجة وخصام!. وقديما ضاق شاعر بهذا العبث فى تصوير الحقائق فقال : إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أنى رافضى ما ذنب " أبى ذر "؟ عندما عرَّض بالحالة الاجتماعية المختلة، اعتقلوه! ولِمَ؟. لأنه لما كان بالشام، طالب أن يعيش المسلمون ـ حكومة وشعبا ـ على النحو الذى كانوا عليه فى صدر الخلافة. فكان إذا صلى الناس الجمعة، وأخذوا فى مناقب الشيخين ـ أبى بكر وعمر ـ يقول : " لو رأيتم ما أحدثوا بعدهما، شيدوا البناء، ولبسوا الناعم، وركبوا الخيل، وأكلوا الطيبات ".107(1/96)
وأنت خبير بأن الإسلام لا يُحرِّم هذا، وإنما استنكره " أبو ذر " لأنه من بيت مال المسلمين. وليس للحاكم فى الإسلام، أن يستغل مال الأمة فى متعه وملذاته، ولا أن يجعل له خاصة من وسائل التشبع، ومظاهر الترف، ما يتميز به تميزا فاضحا على سواد الناس، وخصوصا فى البيئة الخشنة، والمجتمع المحروم.. روى عن أنس أنه قال : قال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أرحم أمتى بأمتى أبو بكر، وأشدهم فى أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم على، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زبد بن ثابت، وأقرؤهم أبى بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة ابن الجراح. وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من " أبى ذر "، أشبه عيسى ـ عليه السلام ـ فى ورعه. فقال عمر : أنعرف ذلك له؟ قال : نعم فاعرفوه له " . * * * * أهذا هو الرجل الذى يخشى منه إفساد المجتمع الإسلامى؟ فمن إذا المصلحون الأمناء؟ ولأبى ذر ـ هنا ـ موقف ينبغى أن يذكر. فعندما صدر إليه الأمر بالتوجه إلى المدينة، لم يذهب إليها ليحدث شغبا ثوريا، أو ضد الحكم القائم ـ كما هو منطق الشيوعية فى إثارة حرب الطبقات ـ برغم أنه لما دخل المدينة، تجمع الناس حوله كأنهم لم يروه قبل ذلك مؤيدين لا معارضين. بل قال فى منفا :ه " لو أمَّروا علىَّ عبدا حبشيا، لسمعت وأطعت ". أفهذا المنطق البعيد عن تيار الفتنة، ومظان الاستغلال، هو الذى يُسوغ اتهام " أبى ذر " بالشيوعية؟!!.108(1/97)
مبدأ الملكية بين التقييد والإطلاق :
لا جدال فى أن للإنسان حق التملك، اعترفت بذلك رسالات السماء وقوانين الأرض جميعا. وحب التملك غريزة، يعدها علماء النفس من قواعد السلوك البشرى، كسائر الغرائز الأخرى المعترف بها، من جنسية واجتماعية وبدنية. وغرائز الإنسان لا تستأصل استئصالا، وإنما تحور آثارها العملية، فى الشكل الذى يرضاه الشرع والقانون. ومن ثم فقد أباح الدين للإنسان أن يتملك، لكن عن طرق معينة لا يجوز تخطيها. وأباحت النظم الوضعية للمرء أن يتملك، فتلك غريزته التى لا يمكن وقفها البتة. ثم اختلفت كيف يملك؟ وكم؟ : * فقالت الشيوعية : لا يملك إلا دخله الذى يستحقه من عمله، أو ما يدخره من هذا الدخل المحدود، أو ما يستهلكه فى اقتناء حاجاته الشخصية، ورفضت أنواع التملك الشخصية الأخرى.! * أما الرأسمالية، فقد تركت حرية التملك مطلقة، ولم تضع إلا قيودا خفيفة على طرائق الكسب، ولم تضع حد معينا للثروات المكتسبة، ولم تعرقل تداولها بالمواريث، كما فعلت الشيوعية. والإسلام يعترف بمبدأ الملكية، ويضعه تحت الوصاية الدقيقة من تعاليمه المقررة، فى قواعده العامة ونصوصه الخاصة. فهو يطلقه إن كانت المصلحة العامة تقضى بإطلاقه، ويقيده إن كان الأمر على العكس. وفى كلتا الحالتين فالإسلام واضح فى رفضه لكل تملك باطل. وهو يسأل كل مالك : من أين لك هذا؟ ليعرف، أهو حق فيبقيه له! أم لا، فيسلبه منه؟. (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون )109(1/98)
ولو طبق مبدأ " من أين لك هذا " على الأملاك الكبيرة القائمة فى ربوع الشرق، لأصبح أكثر أغنياء الشرق فقراء.! فأصول هذه الأموال منهوب يحرم الأكل منه، وتحرم الصلاة فيه كما قال الفقهاء.. واستثمار هذه الأملاك مطعون فيه ؛ لقيامه على سرقة الجهود، وظلم الأجراء، والملكيات التى تكونت على أساسه، نتجت ـ فى الحقيقة ـ من بين ما يستحقه العمال من أجور عدلا، وبين ما يصل إلى أيديهم فعلا. * ومذهب الإمام مالك، يقدر أجر العامل بنصف الربح، فكيف إذا كان ما يأخذه العامل، لا يصل إلى عشر الربح، بل إلى ا%..؟ على أن مبدأ الملكية الذى أباحه الإسلام، يخضع للسلطة التى منحها الإسلام للدولة، فى تقييد المباحات حسب المصلحة كما قلنا. فإن الإسلام أعطى الحاكم حق التدخل فى بعض المباحات المشروعة بالحظر، إذا كان من وراء ذلك غرض سليم. وإلى هذا الحق كان شيخ الأزهر الأسبق المغفور له الشيخ : محمد مصطفى المراغى، يميل إلى استصدار قانون بتقييد الطلاق، وتقييد تعدد الزوجات، مع أن حرية التطليق والتعدد مكفولة بنص القرآن. والضجة التى ثارت حول هذا القانون المقترح لم تثر على المبدأ الفقهى ؛ بل ثارت حول الوضع الاجتماعى، فى بلد تبيح حكومته البغاء، فكيف تحاول تقييد الزواج مثلا؟!. أما المبدأ نفسه فيطبق فى صمت، ألا ترى الحكومة تحدد مساحة ما يزرع قطنا أو قمحا، وتفرض العقوبات على من يخالف ذلك، ولا يرى الدين فى ذلك بأسا، ولم يبد علماء الدين احتجاجا، مع أن زراعة هذه الأصناف، مباحة كمًّا وكيفا لمن يشاء!. إن ذلك راجع إلى المبدأ الفقهى المقرر، الذى يبيح للدولة ـ إسلاميا ـ أن تقيد حرية الزراعة، وأن تقيد حرية التملك، مادام هناك من الدواعى الاجتماعية ما يُحتم ذلك. ويرى فريق من الناس، أن هذه الأمور من شئون الدنيا المحضة. فلنا أن نتصرف فيها على النحو الذى نشاء، دون انتظار للفتوى التى يصدرها الدين!.110(1/99)
وقد وكل إلينا الدين هذا الحق، فلا معنى للتخلى عنه، ويستدلون بالحديث الكريم : " أنتم أعلم بشئون دنياكم ". وهذه المحاولة ـ لإخراج المسألة من الدائرة التى يحكم فيها الدين ـ لا فائدة منها ولا مسوغ لها. ولعل الدافع لها هو الخوف من أن تقف أحكام الدين، حجر عثرة فى طريق التقدم الاجتماعى، وسير الحضارة إلى الأمام. وهذا التخوف لا موضع له أبدا بالنسبة إلى الإسلام. ففى قواعد هذا الدين من السعة والمرونة، ما يشفى ويريح. ولو توجه العقلاء والمصلحون إلى الإسلام، يحكمونه فيما شجر بينهم، لوصلوا إلى أهدافهم فى يسر، ولمزقوا ما على الحقيقة من حجاب، وما أخفى وجهها الوضاح من نقاب. فإن الدين فى كافة الأحوال، ضرورة اجتماعية، وإن كان رجاله فى أغلب الأحوال، آفة اجتماعية : وما أفسد الإسلام إلا عصابة تآمر حمقاها ودام نعيمها فصارت قناة الدين فى كف ظالم إذا اعوج منها جانب لا يقيمها * * * * واليك طائفة من القواعد، التى تأسس عليها الفقه الإسلامى، واستخلصت من الكتاب والسنة ولم يثر حولها نزاع. وسنعرض مبدأ الملكية على هذه القواعد لتقول فيه كلمتها الحاسمة : 1 - رفع الضرر. 2 - منع الحرج. 3 - سد الذرائع.111(1/100)
4- دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. 5- الضرورات تبيح المحظورات. 6- يرتكب أخف الضررين. 7 - ما قارب الشيء يعطى حكمه. 8 - للأكثر حكم الكل. 9- ما أدى إلى الحرام، فهو حرام. 10- ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. 11- ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن.. الخ، الخ. ولو انفردت قاعدة من هذه القواعد بالحكم على مبدأ الملكية وقررت تضييق الخناق عليه، لكفى. فكيف وهى كلها تؤدى فى هذه الأيام، إلى محاصرة حق التملك، وإحاطته بشتى القيود؟!. خذ مثلا قاعدة " منع الضرر" فهى تعطى الدولة، الحق فى مصادرة أى تصرف، يضير كتلة الشعب، ويمس سلامة الجماعة، لا عن طريق تحريم المباح فحسب، بل عن طريق التصرف ـ بالتأويل ـ فى بعض النصوص الواردة. وأقرب مشاهد لنا : قانون "التسعير" الذى صدر فى السنين الأخيرة، ورحب به العلماء أيما ترحيب. فهذا القانون مناف فى تشريعه، لما جاء فى السنة من تسعير البضائع. فعن أنس : "أن الناس قالوا : يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنا؟. فقال : إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق، وإنى لأرجو أن ألقى الله ـ تعالى ـ وليس أحد يطالبنى بمظلمة، فى دم ولا مال ". ومع ورود هذا الحديث وغيره، لم يقم اعتراض من أحد، لما رأت الدولة أن تسعر البضائع، لأن الأضرار الفادحة، من ترك الأسعار حرة، توجب التدخل فى أمرها حتما.112(1/101)
وإطلاق الملكية أو تقييدها، لا يزيد فى شأنه ـ إن لم يقل ـ عن إطلاق الأسعار أو تقييدها. ورفع مستوى المعيشة، هدف تدندن من حوله الحكومات، تريد أن يُنعم الجمهور بأكبر قسط مستطاع من طيبات الحياة، وأن يتاح للأفراد كافة أخذ حقهم من أنعم الله التى أخرج للناس. فهذه المجهودات المدنية المبذولة فى هذه السبيل، ليست إلا ترجمة صحيحة لقاعدة "رفع الحرج " التى اعتمدها الإسلام، وبشر بها فى تعاليمه. وإذا كان رفع الحرج لا يتم إلا برفع أغلال الرأسمالية القائمة على إطلاق التملك والتمليك، فمن الذى يفتى بإبقاء المسلمين فى سجنها الضيق الظلوم؟!. وقد ذكر القرآن أن ثمة طائفة من الناس، سماهم، " السادة الكبراء" إذا ظهروا فى قرية أفسدوها، وإذا قاموا على سبيل أبهموها وأضلوها، حتى يصيح الشاردون خلفهم يوم القيامة : (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) فإذا كان ترك مبدأ الملكية طليقا، سيفضى حتما إلى تكون هذه الطائفة، فإن الإسلام يوجب ـ سدا للذريعة ـ ألا يترك. وإذا كان بعض كبار الملاك صالحا منصفا، يؤدى واجباته على أساس أن الملكية وظيفة اجتماعية، فإن أكثرهم على العكس، والحكم يتبع الكثرة لا القلة. والمرجع فى ذلك أحوال العصر، وعبر التاريخ. نستطيع أن نعرض مبدأ الملكية، على بقية القواعد التى ذكرناها آنفا، وسنرى أنها لا تسمح ـ البتة ـ ببقائه على الأسلوب الذى يظهر به الآن. أما حدود التقييد، فهى الأخرى متروكة لميزان المصلحة العامة، يرتفع بها وينخفض .. كما تريد الشعوب.113(1/102)
هنا نفترق :
بين التضييق على مبدأ الملكية حتى يختنق، وتختنق معه الحرية الفردية، وبين إطلاقه فى دائرة تسودها الفوضى، نرى فيها من لا يعمل شيئا، يملك كل شيء، ومن يكدح سحابة النهار، وزلفا من الليل، لا يجد إلا القوت.!! بين الطرفين المتنافرين، مذهب رحب، ومندوحة واسعة!. ولعل من أيسر الأمور على ناشدى العدالة ومبتغى الإنصاف، أن يصلوا فى ذلك إلى رأى حاسم، من غير أن تفتح ثغرة ما للشيوعية المتربصة. لكن هناك شيئا فى الطريق، يجب أن يكشف عنه الستار!. فنحن نكره الشيوعية، خشية منها على ديننا. أما سوانا من الإقطاعيين والاحتكاريين فيكرهونها، خشية منها على أموالهم وأوضاعهم.! ونحن نعالج غلوها بقواعد العدالة، التى أرساها كتاب ربنا وقدى نبينا، لا نبالى فى سبيل ذلك بأوضاع ولا أموال. أما سوانا، فهو يدور محبوسا فى أنانيته الضيقة. إن الرأسمالى يضيق ذرعا بالديمقراطية، والاشتراكية، والإسلامية، وكل فكرة فى الوجود، تمسه من قريب أو بعيد، وهو مستعد لمصافحة الإلحاد فى العقائد، والإهدار للفضائل، ما دام ذلك يبقى عليه ماله ووضعه.! ولو كانت الشيوعية هدفا للآداب والأعراض فقط لقبلها، بل لوجد فيها متنفسه العميق.. أما وهى هدم لما يملك ويقتنى، فيجب أن تحارب باسم الدين. فإذا حدث أن ناقشه الدين الحساب وسأل :ه كيف ملكت؟ وأين حق الله وحق الناس فيما أخذت؟ فالويل كذلك للدين والعاملين له!. إنهم إذن، شر من الشيوعيين مكانا، وأسوأ قيلا.. فإذا سمعتم أيها الناس، صيحة الحرب على الشيوعية، فاعرفوا من أين صدرت؟. فإن كانت من معسكر المؤمنين، فمن ورائها عدالة السماء وراحة الجماهير المضيعة.114(1/103)
وإلا فهى صرخة الوجل أفلتت من حناجر الطغاة.! والخبث لا يُذهبه الخبث، وإنما نغسل الأنجاس والأقذار بسيل من الماء، أو فيض من وحى السماء. ولا علينا أن يقول الكبراء المنافقون : هذا الصيب من السماء، فيه ظلمات ورعد وبرق، فهو إلى جانب ذلك غيث تمرع به الحياة، وتزهر به الأرض..
أفى المال حق غير الزكاة؟!.
من الدلائل التى سقناها آنفا، تعرف أن الإسلام يقر مبدأ تقييد الملكية ولا يرى بأسا فى استخدامه، لعلاج الاضطراب الاقتصادى، الذى شاع فى مصر وغيرها من أقطار الشرق الإسلامى. لكن دعاة الرأسمالية، لا يعدمون نصا يتعلقون بظاهره، ثم يبنون عليه ترك الأموال طليقة، مهما نشأ عن تضخمها من أخطار، ومهما لابس هذا التضخم من أحوال مريبة. أحوال تبدأ من بذرته التى تكون منها، وتنتهى إلى مصارفه التى يقع فيها، وهى أحوال من السفه ألا تعرف رأى الدين فيها. وأول حجة لهؤلاء، أن المال مادام قد خرجت منه زكاته، فقد فرغ منه حق الله، وطاب منه ما بقى لصاحبه، ولو كان ألوف الأفدنة وملايين الجنيهات، ويستدلون على هذا بالآية : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) وبالحديث : " كل ما أديت زكاته فليس بكنز ". ولا شك أن هذا الدليل، هو الصورة السائدة للتفكير الشرعى فى هذه الأيام. وسنرى مبلغ قرب هذا التفكير أو بعده، من حقيقة الإسلام الحنيف. نبدأ أولا فنقول : إن إخراج الزكاة عن الإقطاعات الزراعية، وما تكون على غرارها من الشركات المالية، لا قيمة له. فقد جاء فى الحديث : " من اكتسب مالا من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه فى سبيل الله، جمع ذلك كله فقذف به فى جهنم "115(1/104)
وجاء فى حديث آخر : " ولا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به، فيقبل منه، ولا ينفق منه، فيبارك فيه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده إلى النار، إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " . ومن هذه الإرشادات النبوية، تدرك أن المال الذى يصح إخراج الزكاة عنه، هو المال الحلال. أما الحرام، فلا رأى للدين فيه، إلا أن يُرد لأصحابه ومستحقيه. وقد ذكرنا أن أكثر الأملاك، التى غنمها أثرياء المسلمين فى هذه الأعصار لا تعتمد فى جرثومتها، ولا فى نمائها، على قواعد الشرع السليم!. فما غناء الزكاة فى هذه الحال؟. أإذا سرق رجل "تفتيشا" من أموال المسلمين، أيكفيه ـ لكى يستحله ـ أن يطعم منه بعض المساكين؟ أو إذا بنى رجل قصرا من دماء العمال والأجراء استطاع أن يأمن جانب الدين، باستئجار بعض "الفقهاء" يقرءون فى جوانبه، ما تيسر من آيات الذكر الحكيم؟!. إن هذا فى الحقيقة ليس إلا مثلا للرجل الذى تصطنعه الرأسمالية، فى استغفال الأديان، وتزوير الفتوى باسمها؟!. هذه مقدمة لها خطرها.. فى نقاشنا للحجج، التى يتمسك بها دعاة الرأسمالية، لإطلاق الملكيات. أما الموضوع نفسه، فليس صحيحا ما يقولون من أن الزكاة هى كل حق الله فى المال، فإن هناك حقا ـ بل حقوقا أخرى ـ فى المال، عدا أنصبة الزكاة المعروفة، فى النقود والزروع، والمعادن والحيوانات. والأصل فى هذا، أن الإسلام يبغى محاربة الفقر، واستئصال أسبابه، ويرصد لهذا الغرض ما يطلبه من أموال؟ ويتحمل ما يفرضه من نفقات قلت أو كثرت.116(1/105)
وقد روى "على " عن النبى- صلى الله عليه وسلم-إن الله فرض على أغنياء المسلمين فى أموالهم، بقدر الذى يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعُروا، إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا وان الله يحاسبهم حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا أليما
أنصبة الزكاة حد أدنى :
وقد رأينا فى موضع آخر، أن أنصبة الزكاة، ليست إلا حدا أدنى لما يجب إخراجه. وقد روى البخارى هذا الحديث، نقتطف لك بعضه، لتدرك منه هذه الحقيقة المقررة فى الإسلام : ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفايح من نار. ولا صاحب إبل لا يؤدى منها حقها ـ ومن حقها حلبها يوم وردها ـ إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها!. فهذا الحديث، يجعل توزيع ألبان الإبل على المحتاجين، من حقها، الذى يحاسب المرء عليه شرعا، هذا الحساب الغليظ. على حين أن النصاب المقرر فى كتب الفقه، عن زكاة الإبل فى الخمس شاة، وفى العشرين شاتان.. الخ.. كل عام فقط!. والترهيب الذى تضمنه هذا الحديث يخرج أمر التصدق بالألبان عن معنى التطوع الذى يقوم به ذوو المروءات والمكارم. وهو ما يفتى به قوم ليسوا من الراسخين فى العلم، على أساس أن كل ما زاد عن النصاب المقدر، فهو تطوع. وما جاء فى هذا الحديث، إنما يمشى فى ضوء الآية الكريمة :117(1/106)
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ...) وهذه الآية تنص على أن فى المال حقوقا أخرى غير الزكاة. وقد جاءت هذه الحقوق فى الآية الكريمة، متقدمة على الزكاة نفسها. وسياق الآية من الصدر إلى الختام، يشير إلى أنها تعرض لأعمال الإسلام الأصيلة، الأعمال المعتبرة ركنا فى هذا الدين. إذ أنها فى صدد مناقشة أهل الكتاب، تشرح حقيقة البر الصحيح، وآثار اليقين الحق، عند الأ برار الموقنين، ولذلك ختمت بهذا التذييل (... أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) على أنك سترى من المسلمين، فى فترات نكوصهم عن أعباء الجهاد، من يعتبر الصبر فى البأساء والضراء، وحين البأس تطوعا، وبذلك يوضع أساس الانهزام السياسى لهذه الأمة.! ومن يرى إيتاء الأموال لليتامى والمساكين، تطوعا كذلك.!! فيضع أساس الاضطراب الاجتماعى، الذى جعل هذه البلاد مضرب الأمثال، فى تحلل العرى، وتقطع الصلات!. إن الإسلام حكم حكما فريدا فى بابه، فى بعض الأحوال العارضة للناس ولكنك تشتم منها نزعة الإسلام، فى توسيع نطاق الحقوق الواجبة فى الأموال توسيعا يثير الدهشة. ففى أمور الضيافة مثلا، يبيح الإسلام للضيف أن يأخذ حقه قسرا، إن لم يقدم له كرما! وفى ذلك يقول الرسول : " أيما ضيف نزل بقوم، فأصبح الضيف محروما، فله أن يأخذ بقدر قراه، ولا حرج عليه ". بل إن الناس مكلفون بإعانة الضيف، على أخذ حقه بالقوة، من مضيفيه البخلاء، كما جاء فى حديث آخر :118(1/107)
" أيما رجل أضاف قوما، فأصبح الضيف محروما، فإن نصره حق على كل مسلم، حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله ". فانظر إلى أى حد يوسع الإسلام، حقوق المجتمع فى أموال الأغنياء!.
على ضوء الفقه :
واستنباط حكم ما من أحكام الإسلام، ليس سبيله أن نعثر على نص من النصوص، فنطير به ونبنى عليه القصور. كلا. فلا بد لتقرير حكم ما، أن نرجع إلى جميع النصوص التى وردت فى موضوعه، وأن نفهم روح الإسلام العامة، التى يصدر عنها قوانينه، وأن ندرك أسوار التشريع وحكمه، التى يناط التشريع ببقائها. ثم لنا ـ بعدئذ ـ أن نقارن وأن نرجح عند تعارض الأدلة، ما ينقدح فى أذهاننا ترجيحه. وعلى هذا النهج، سار أئمة الفقه الإسلامى الأولون فنجحوا أيما نجاح فى إخضاع المعاملات الكثيرة، لأصول الإسلام وفروعه. لقد روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، وصح ذلك عن طريق اثنين وعشرين صحابيا. ومع ذلك لم ير الأحناف ولا المالكية، استحباب ذلك لأدلة أخرى ترجحت لديهم. ولم ير العلماء فى هذا الاختلاف مثار قدح فى تفكير، ولا احتقارا لرأى. أفترى لو أن هؤلاء الاثنين والعشرين صحابيا، رووا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن لا بأس بإطلاق الملكيات دون حد تقف عنده، ثم وجدنا من دلائل الإسلام الأخرى، المعتمدة على كلام الله وسنة رسوله، ما يجعلنا نقيد الملكيات ونضع لها حدا، أفيكون ذلك فقها غير إسلامى، ورأيا غير دينى؟!. اللهم لا.. لو خلصت القلوب وصحت العقول.119(1/108)
ولقد ذكر القرآن الكريم أن المؤلفة قلوبهم مصرف من مصارف الزكاة. ثم جاء من الصحابة والأئمة من رأى أن هذا السهم موقوت بحكمة معينة، ومنع هؤلاء المؤلفة حظهم من الزكاة. فهل كان ذلك خروجا على تعاليم القرآن؟ لا. ولكنه البصر الدقيق بحكمة التشريع وأهدافه العظمى. وهو ما نريد أن يفهمه الباحثون فى منهج هذا الدين العظيم، وينزلوا على حكمه. ومسألة تقييد الملكيات، لا تهدم نصا، ولا تعطل قاعدة. بل هى ـ فى الحقيقة ـ عون فعال لتنفيذ النصوص التى جاء بها الإسلام، وتدعيم للقواعد التى بنى عليها فقهه العريق. وآفة المسلمين ـ فى أحيان كثيرة ـ أنهم يتصورون الأمور تصورا ساذجا. فالصورة الأولى للإحسان ـ بل لعلها الصورة القريبة ـ أن تدخل يد فى جيب فتخرج مبلغا ما، وتضعه فى يد ممتدة تنتظر العطاء!. وهذا الفهم السائد للإحسان، لم يُذهب فقرا، ولم يحارب عيلة، بل جعل الإحسان فى بلادنا فوضى مؤسفة. وهذا الأسلوب من الإحسان ينتظر أن يقع الفقر، ثم هو بعدئذ يعالجه. أى أنه يترك البؤس يخط مجراه فى الحياة عميقا بعيدا، ثم تتجه الجهود بعد ذلك إلى ردمه. ومثل ذلك، أن نملأ شواطئ النيل بقواقع البلهارسيا وديدانها، ونسوق الأقدام الحافية سوقا إلى دوسها والعمل فى مباءتها.. وبعد ذلك، ترصد الألوف المؤلفة، لمحاربة الأمراض المتوطنة!!. لقد قالوا : إن الوقاية خير من العلاج، فهل الإسلام هو الذى يمنع الأمم أن تقى نفسها ضراوة الفقر وعض أنيابه المسمومة؟. هل الإسلام هو الذى يصرف الأمم عن ابتكار الأنظمة والقيود الاقتصادية التى تقتل الفقر قبل أن يولد، وتئد جنينه قبل أن يبرز إلى الحياة ثم يتحول ـ على مر الليالى ـ مارجا من نار؟!.120(1/109)
إن الإسلام لا يمنع الأمم أن تصون مصالحها. ورحم الله أئمة الإسلام الأولين وخلفاءه الراشدين. فقد فعلوا فى الأعصار الأولى، ما لم يره المسلمون فى أعصارهم الأخيرة، من حكامهم السادرين. وهذا الكلام كله، إنما يدور محوره، على أساس أن جمهور المسلمين يعيش فى بلاد مطمئنة، تسالم غيرها ويسالمها غيرها. ولا موضع فى تاريخها لحرب، ولا مكان فى رسالتها لجهاد. فى هذه الأحوال، يحلو للبعض أن يسأل : هل فى المال حق بعد الزكاة أم لا؟. لكن، هل صحيح، أن المسلمين يعيشون فى هذا السلام المأمول؟ وأن بلادهم آمنة، فليس يلوح فى أفقها نذير حروب لا آخر لها؟ أم أنهم عزل فى هذه الحياة المتقلبة على فم بركان؟. اللهم لا سلام ولا استقرار، فتلك مزاعم الحمقى. وعند التلويح بالحرب وخطر الحرب، ترتفع عن الأملاك ـ كبراها وصغراها ـ أيدى أصحابها، وتتولى الدولة إنفاق آخر مليم لديها ولدى الشعب، فى الدفاع المقدس عن البلاد. والإسلام فى هذه الأحوال، يفرض تقديم النفس لتجرح أو تقتل ، ويفرض تقديم الأموال، لتنقص أو تستأصل : "... و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " وهذه الفترة الكئيبة من فترات التاريخ الإسلامى، تبيح للدولة المسلمة، أن تصنع بالنفوس والأموال ما تشاء، وأن تستنفذ فى هذا الغرض، جميع ثروات الأغنياء.
أغنياؤنا فى ميزان الرجولة :
لعل تشريعا ـ لو صدر خالصا ـ لن يكون أبرك نتائج، وأعمق آثارا من تقييد التملك والتحكم فى أسبابه، على مقتضيات المصلحة العامة... وما أحسب الإسلام يصيب لمبادئه نصرا، أو يكسب لأتباعه خيرا، أو يمهد لرسالته مستقبلا، أو يمسح عن حقيقته شبها، إلا بسن هذا القانون، وتطبيقه فى أوسع دائرة، وسحب آثاره على الماضى والحاضر والمستقبل جميعا.121(1/110)
يومئذ وفى ظل شريعة الله تتقارب طوائف الأمة، وتمحى الفروق المريبة بين بنيها، وتتحقق الأخوة الصادقة التى يدعو إليها الإسلام، وتسقط العصبيات الثرية المتسلطة على الريف والمدن، وتولد الأجيال الجديدة.. وهى لا تعرف تمايزا إلا بالعمل ولاتفاضلا إلا بالتقوى. ويؤمئذ يرى الإسلام، أن المنتمين إليه، يحملون واجباتهم على سواء، ويأكلون ثمرات جهودهم غير منقوصة، ويتقاسمون المغانم والمغارم على أسلوب، لا وكس فيه ولا شطط، ويدينون بالسيادة لرب السموات والأرض وحده، بعد أن سقطت ربوبية أصحاب الإقطاع، وجبابرة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. "... أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) وإنما يجنح الإسلام إلى هذا المسلك، لطبيعة البلاد التى استقر فيها، وأحوال الملاك الذين يسكنونها، فهو مسلك خاص. فإن أغنياء المسلمين ـ مع الأسف العميق ـ إذا قورنوا بأغنياء البلاد الأخرى، يعتبرون أخس أغنياء العالم.! ولقد رأينا مسلك أغنياء اليهود، تجاه قضاياهم القومية والاجتماعية والإنسانية، فوجدناهم رجالا يرعون شعوبهم، وينصفون أتباعهم، وينهضون بالأحمال الثقال، التى تلقى عليهم. أما أغنياؤنا، فهم أشد الناس إسرافا فى ملذاتهم الشخصية، وأشدهم ضنا على شئون الوطن والمجتمع. وكأن واعزا خفيا يوحى إليهم أنهم جمعوا ثرواتهم من باطل فينبغى أن تنفق فى مصارف السحت والفجور وحدها.!! ولذلك قلما تظفر بها نواحى البر ووجهات الخير، على طوال الانتظار، وحرقة الظمأ.!122(1/111)
نذالة :
إن الصلة بين صديقين تتعرض لقطيعة باتة، لو نزلت بأحدهما مصيبة، ثم لم يقم الآخر بواجبه تلقاءها. وهؤلاء الأغنياء الذين أثروا من جيوب الشعب وانتفخوا على مسغبته، يشاهدون النوائب الطامة تنزل به، وألوان البأساء والضراء تتساقط عليه، فلا تزيدهم هذه الأحزان المترادفة، إلا كزازة يد، وقسوة قلب. وكلما هبطت عليه كارثة، رأيت هؤلاء فى أبراجهم السامقة يمطون شفاههم ويهزون أكتافهم، كأن الأمر لا يعنيهم فى قليل أو كثير... فأى مودة تبقى فى قلوب الشعب، لأولئك الذين سرقوه أولا.. وقتلوه أخيرا؟!. عندما كانت أوبئة الحمى تهز القوى هزا عنيفا، كما تهز الرياح الهوج أشجار الخريف، وعندما كان الفتيان الساهمون والفتيات العجاف، يتساقطون كالأوراق الجافة، بحث الوطن عن أصحاب الخزائن المليئة ليؤدوا واجبهم، فلم يسمع لهم ركزا.. ومر وباء " الجامبيا "، وتبعه وباء " الحمى " الراجعة، وتبعهما وباء " الكوليرا ". وبلغ من خساسة الدوافع، التى كان أصحاب الأقلام يحركون بها مشاعر هؤلاء الناس، أن قالوا لهم : إذا لم تساهموا فى محاربة هذه الأمراض الفتاكة، انتقلت عدواها إليكم، فهيا فأنفقوا لتدفعوا عن أنفسكم : (...ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) ومع ذلك، فقد ظل أغنياؤنا على موقفهم، لا تنبع من قلوبهم رحمة، على حين يجود أغنياء أوروبا وأمريكا بأضخم الثروات، ويقفونها فى سماحة رائعة على الملاجئ والمستشفيات، ومعاهد العلم ودور الجماعات. حتى أن الحكومات هناك، لا تجعل العناية بهذه النواحى الهامة عملا رسميا، إذ إن أريحية الموسرين تعهدته من بدايته، وجعلته عملا شعبيا ناجحا. وعندما تحركت جيوش الصهيونية، تبغى الاستيلاء على الأرض المقدسة، كانت أموال اليهود تتدفق من خلفها سيولا، ليس لمدها جزر.123(1/112)
فما شكا المحاربون من أجل حرية إسرائيل عوزا، ولا تسولوا فى كفاحهم الجائر درهما، إذ كانت حاجاتهم مكفولة، ومطالبهم مبذولة. أما المجاهدون الأحرار، فقد انبعثوا من صميم الطبقات الفقيرة، وجمعت لهم الإعانات قروشا تافهة، من العمال والفلاحين، أو من التجار والموظفين. ولولا أن الحكومات تداركت الأمر، ورصدت من ميزانيتها شيئا يسيرا، إذا لانكشف هذا الجهاد المرير، عن فضيحة مخزية وسوءة بادية، ليس لها من علة إلا بخل أغنيائنا ، ونكوصهم على أعقابهم، كلما قيل : بذل أو جهاد. هؤلاء هم الذين أقسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على خسراهم : " هم الأخسرون ورب الكعبة " فلما سئل من هم؟ قال : " الأكثرون أموالا... إلا من قال هكذا وهكذا .. من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ـ وقليل ما هم". لقد كانوا قليلا، أولئك الذين يبعثرون أموالهم فى كل ناحية من نواحى الخير كما يطلب الحديث ـ أما الآن فلا نجد منهم أحدا . بل إننا نقرأ الحديث الآخر : " إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا " . نقرأ هذا الحديث المنبئ عن مصير الهالكين وأوصافهم، فلا نجد فيه إلا صورة ناطقة بملامح أغنيائنا وأحوالهم، حذوك النعل بالنعل. أفبعد هذا، يمارى فى تقييد الملكيات مسلم فقيه..؟؟.
نتائج :
وقد أسلفنا القول أنه ـ حول الملكيات المطلقة ـ تتكون عصبيات جاهلية متغطرسة، تلتف حول ملاكها : لا كما تلتف خيوط الحرير حول دودة القز، أو كما تلتف طوائف النحل حول خلايا العسل.. لا.. لا.. بل كما تتجمع الزنابير ذات الحمات اللاسعة فى أعشاشها المؤذية، فلا ينجو الناس منها إلا إذا حرقوها بالنار، أو لاذوا من وجهها بالفرار.124(1/113)
هذه العصبيات المعتزة بأملاكها تحتكر الحكم والجاه، فى أقطار الشرق الإسلامى المضطهد فى الداخل والخارج، بأفانين المظالم الاجتماعية والسياسية. لقد نقل النظام الديمقراطى أخيرا إلينا، لكنه لم يلبث أن فسد فسادا عريضا، وأصبح حظ البلاد منه صورة ميتة، لا روح فيها ولا غناء. والعلة الأصيلة فى ذلك، هى هذه العصبيات التى سطت على الجماهير المتخاذلة الوانية، وأجبرتها على أن تختار ممثليها فى البرلمان، من رجال الطبقات العليا وحدهم.. ومن ثم تسابقت الأحزاب، على ضم هذه العصبيات إلى جانبها، لتضمن نجاح مرشحيها فى أى انتخاب. والانتخابات فى مصر وفى أشباهها من البلاد تدور ـ مهما كانت حرة ـ على هذه الاعتبارات القاسية. فصاحب الأرض يستولى على أصوات أجرائه، وتنهزم أمامه أعظم كفاية. ورب المال يستطيع بما يبذل للجائعين، ويعد للمتطلعين، أن يكتسح أمامه أفضل الرجال علما وأدبا.
الديمقراطية الحقة :
ولاشك فى أن نجاح النظام الديمقراطى، يتطلب تمهيدا واسع النطاق، لرفع مستوى الأفراد ماديا وعقليا وحتى يمكن حقا أن يحكم الشعب بالشعب. والسبيل الواحدة لإدراك هذه الغاية، سلب العصبيات الطاغية أسباب طغيانها، وتجريدها من السلاح الفذ الذى تخضع به غيرها.. أى : تقييد الملكية. ونحن موقنون : أن الشعب يوم يعرف أنه المسئول الأول والأخير عن نوابه وحكامه، وأنه صاحب الحق فى تولية من شاء وتنحية من يشاء، وأنه صاحب الفضل فى منح هذا، وصاحب السلطة فى منع ذاك. يوم يعرف ذلك جيدا، فإنه سيستمسك بنظمه الديمقراطية، ويسفك دونها دمه عن طواعية. إما أن تختار الأحزاب أى الحكومات نوابها وشيوخها، ويكونا هؤلاء من عصبيات125(1/114)
إقليمية مدعمة، لها على من حولها دالة وسلطان ـ فهى التى تحكم الشعب، لا التى يحكمها الشعب ـ فمعنى ذلك أن نظامنا الديمقراطى صورى فحسب.! إن القيم الإنسانية فى بلادنا، تحتاج إلى من يرد لها احترامها، حتى لا نرى المواهب الكريمة تدفن وتذوب، لأنها نبتت فى بيئات فقيرة، وحتى لا نرى أقزاما يتحولون ـ بين عشية وضحاها ـ عمالقة كبارا. لماذا... لأنهم انحدروا من أسر متنبلة، واسعة الثراء.
نظام واجب :
ولماذا لا تكون الحياة كالمعسكر الناشط ، تتفاوت رتب رجاله بما أوتوا من كفايات وفنون، ولا يبقى أحد فى رتبته إلا ريثما يترشح لأعلى منها؟. ولا تكون رتبة حقا لصاحبها إلا إذا كان كفئا لها، فإذا بدر منه ما لا يليق به، أزل عنها إلى ما دونها. وإذا جد الجد وصرخ النفير، اشترك أفراد الجيش كافة فى القتال، فتسقط جثة الضابط إلى جانب جثة الجندى، ويواريهما جميعا ثرى واحد!!. إن كفة الفضائل شالت فى كثير من مجتمعات الشرق، واستبد الخطأ بأفكار الناس، فى نظرتهم إلى وسائل الرقى والهبوط. فسرت الفوضى فى ميادين السلام، وعزت النتائج السليمة فى ظل إقطاعيات ضخمة. كل شىء حولها مائع رجراج، لا قرار فيه إلا للماديات المحضة وما يتولد منها، وما يرجع إليها. ولقد تمخضت أحوال الشرق الإسلامى، عن أحداث مخزية، كشف عنها الصراع الذى دار أخيرا بين العرب واليهود. فإن الاستعداد الحربى القوى الذى ظهر به اليهود، كانت تسنده من خلفه حياة اشتراكية منظمة دقيقة، فلا يفقد الولد أباه حتى تكفل حياة اليتيم كفالة تصون مستقبله عن التشرد وحتى تكفل حياة الأيم كفالة تصون مستقبلها عن العبث.126(1/115)
إن اليهود خلقوا شعبا يؤمن ببقائهم ويعتقد بكيانهم. أما يتامى المجاهدين وأراملهم ـ فوا أسفاه ـ ما أشقى وحدتهم، وأقسى لياليهم.! أهذا ما يأمر به الإسلام؟!. إن هذا الدين حين أوجب الجهاد واستنفر الرجال الشجعان، ليدفعوا عن دينهم ووطنهم : لم يدع الأمور تسير فى أزمتها هذا السير الأحمق الظلوم. فعن أبى سعيد الخدرى، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى بنى لحيان : ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد : أيكم خلف الخارج فى أهله، فله مثل أجره." وقال فى التوصية بالإنفاق على المقاتلين وأبنائهم : " من جهز غازيا فى سبيل الله، فله مثل أجره، ومن خلف غازيا فى أهله بخير، وأنفق على أهله، فله مثل أجره ". والإنفاق المتقطع التافه، القائم على تسول الإعانات لا قيمة له. فأى تفكير يهضم هذه التطبيقات الغبية لأوامر الإسلام الحنيف؟ وماذا على الدولة المسلمة لو عممت نظام البطاقات، فشمل كل فرد، ووصل إلى بيت كل مسلم حظه من المال، الذى يصون عرضه ويحفظ كرامته، فإذا استشهد المجاهد، كان آمنا على أهله وولده؟!. *** إن هذه الصدقات المتقطعة قليلة الجدوى. ولذلك كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يحث على العطاء الضخم الدائم : " ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة، تغذو بعس (قدح) وتروح بعس، إن أجرها لعظيم ". وإعطاء ناقة تغذى بيتا بلبنها فى صحراء الجزيرة، أمر له خطره، ولا يدانيه فى وادينا هذا، إلا إقطاع البيت المحتاج، فدانا أو أكثر، أو إجراء راتب سخى له!. وهكذا يضع الإسلام الأساس المعقول، للعدل الاجتماعى الشامل. وليس تقييد الملكية الشاردة إلا تشريعا، له ما بعده.127(1/116)
فإن الغرض الأسمى من وراء هذه التقنينات الاقتصادية، محو الفوارق الكاذبة ؛ وإنصاف الطوائف اللاغبة، واستنقاذ أزمة البلاد من الأيدى التى طال عبثها بها، ومواجهة أغنياء المسلمين بالحقيقة التى تهامست بها الأفواه، وأكدتها تجارب الماضى القريب والبعيد. وهذه الحقيقة تقوم على أنهم لم يعرفوا حق الله، ولا حق الناس فيما أوتوا من نعم، وما ملكوا من أموال : صبرا أبا الصقر فكم طائر خر صريعا بعد تحليق! زوجت نعمى لم تكن كفأها فصانها الله بتطليق! لا قُدست نعُمى تسربلتها كم حجة فيها لزنديق ولئن كانت الأموال فى أيدى السفهاء مثار زندقة قديما، لقد صارت الآن مثار إلحاد دولى منظم مسلح. فهل للمسلمين أن يتلافوا هذا المآل؟. إن هذا الإسلام لا تستقيم أموره، مع هذه المظالم المقررة بين أهله. وحرى بنا أن نعيد النظر فى شئوننا على ضوء ما استفدنا من عظات، واضعين نصب أعيننا ما روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله استخلص هذا الدين لنفسه، فلا يصلح لدينكم إلا السخاء، وحسن الخلق، ألا فزينوا دينكم بهما ".
العقدة التى يجب أن تحل :
بين الرأسمالية والشيوعية عداوة بادية، وبين الدين وكلتا النزعتين الاجتماعيتين خصومة قاسية. فالبرنامج الشيوعى، يقوم على محاربة الرأسمالية ومنابذة الدين والبرنامج الرأسمالى، يقوم على مجافاة الدين ومعاداة الشيوعية. وقد تصطلح الرأسمالية مع بعض التعاليم السماوية، وتظهر العطف على الدين ليعيش تحت إبطها !!.128(1/117)
وقد تصطلح الشيوعية مع المراسيم الدينية، وتبسط يدها لها، لتأمن كيد رجالها!! والحقيقة أن للأديان عامة، وللإسلام خاصة، توجيها اجتماعيا دقيقا لا ريب فيه، لم تهادنه الرأسمالية، ولم تواله الشيوعية للآن. ونريد أن نعالج هذه الصلات فى أفق صريح، لنستكشف أطوارها، ثم نصالح بين الدين وبين ما يوائم قواعده وأهدافه، من نتائج الفكر الإنسانى وتراث الحضارات الحديثة أيا كانت. ** * ** إن أشهى ثمرات التدين الصحيح، وأكرم هداياه للمجتمعات، وأنبل ما يغرسه فى دماء الناس، ويدير عليه معاملاتهم، هو الإيمان برب واحد لا شريك له، وعبيد مشتركين فى هذه الحياة.. يعيشون لأداء الرسالة التى خلقوا من أجلها. ومعنى هذه الحقيقة، أنه ما دام الخلق والأمر، والخفض والرفع، والضر والنفع، لله وحده، فلا عبودية إلا له. ومن ثم تتقرر الحرية الإنسانية، فلا يجوز أن يُستعبد بشر لبشر. وأنه ما دام الناس جميعا، قد حملوا عبئا واحدا، واشتركوا فى رسالة واحدة، ونماهم أب واحد، وضمهم فى النهاية مصير واحد، فهم إخوة. ومن ثم تتقرر الأخوة الإنسانية. ثم إنه مادام البشر يتفقون ـ طوعا أو كرها فى هذين الوصفين، فيجب أن يتساووا فى حمل تبعاتهما، فلا يسمح لأحد بتطاول، ولا بين اثنين بتظالم ومن ثم تتقرر المساواة الإنسانية. وإذن فمن التدين الصحيح، وعليه وحده، تقوم الحرية والإخاء والمساواة. وقد فهم البشر من عهد نوح ومن قبل الطوفان، أن التدين لا ينفك عن هذه الحقائق جملة. فآمن من آمن على هذا الأساس وكفر من كفر على هذا الأساس. وانظر إلى الكافرين فى عهد نوح ماذا يقولون : (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين)129(1/118)
فقد رفض نوح أن يطرد المؤمنين، الذين وصفهم الرأسماليون بأنهم الأرذلون!! وهذا الذى حدث قبل الطوفان، تكرر مثله تماما بعد عشرات القرون، إذ مشى الرأسماليون فى مكة، إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلبون منه طرد الفقراء من مجلسه إذا أراد أن يؤمنوا هم به، وكاد الرسول يسمع لهم لولا أن نزل القرآن الكريم يقول : (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين). لقد كان الرسولان الكريمان، نوح، ومحمد ـ عليهما السلام ـ يدعوان إلى دين الله. ويربيان الأمم، على أن هذا الدين جملة بين الله وعباده. وأن من حق هذه الصلة أن تشيع فى كل مجتمع عناصر العدالة والسعادة بين بنيه، أى لابد من سيادة الحرية والإخاء والمساواة فيه. * * * ** وقد عز هذا التوجيه على الرأسماليين، وتوارثوا قبيلا بعد قبيل الثورة عليه حتى أن القرآن يتساءل، مستنكرا شيوع هذا المنطق الطاغى بينهم : (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم). وقد بقى هذا النزاع على حدته، واضطرت الرأسمالية للخضوع له فى عهد الأنبياء، وأتباعهم من الحواريين والصحابة المخلصين.. ثم بدأت الأمور تتحول عن مجراها، فتزحزحت الديانات ـ على أيدى رجالها ـ عن مبادئها المثالية.. ونزلت الرأسمالية قليلا، عن بعض صلفها وغرورها، فتولد من فلك ضرب من التدين المدخول، لم تتقدم به الإنسانية خطوة، ولم تسعد به الشعوب لحظة. ولقد جاء الإسلام فنعى على من سبقه، هذا التشويه لرسالات الله، وحذر أتباعه أن يميلوا عن الصراط المستقيم.130(1/119)
ثم جدد الإسلام شباب المبادئ الفاضلة والمثل العليا، التى بشر بها النبيون قديما، وأقام حكما يرتكز فى الداخل، ويدعو فى الخارج.. إلى التدين الصحيح، التدين الذى ينقذ طوائف المستضعفين، ويرغم أنوف المتكبرين، ويحرر ثم يسوى ويؤاخى بين الناس أجمعين. وقد استيقظت المسيحية أخيرا، وحاولت أن تصلح مسلكها فى ميدان الحياة العملية، ولكن يظهر أنها جاءت بعدما فاتها القطار. فبالرغم من التصريحات الاشتراكية المثيرة، التى يذيعها رئيس أساقفة (كنتربرى) ـ حتى لقب بالقسيس الأحمر ـ فإن العالم لم يبد منه أنه عادت إليه ثقته فى الكنيسة وتعاليمها. ولعل ذلك راجع إلى التاريخ المحزن الطويل، الذى سجلته الإنسانية للاضطهادات العلمية والسياسية والاقتصادية. تلك التى أوقعها رجال المسيحية بخصومهم، من قادة النهضات الحرة.. فضلا عن أن المسيحية إذا قيست بالإسلام فى تعاليمه الاقتصادية، شالت كفتها، وبدت كأنما ليس بها إلا الفراغ.. ولهذا يصعب عليها جدا أن تمسك بالزمام فى هذه الأمور!!. إن بالإسلام ـ قرآنا وسنة ـ من الخامات المتوافرة، ما يمكننا من صياغة أدق آلة اشتراكية، تضبط النافر والمتجدد من شئون الناس. كما أن بهذا الدين من خصوبة المادة، ما يُنمى رياضا زاهرة من الروحانية الفواحة والفضائل النضرة، لابد منها لدعم كل نظام وحماية أى مجتمع!!. انظر إلى القرآن تنزل به سورة تسمى سورة "الماعون " تقرأ فاتحتها، فإذا بها تعد كفرا : زجر اليتيم، ومجافاة المسكين، وتقرأ خاتمتها، فإذا بها تجعل نفاقا : أن يضن صاحب شىء بإعارته، لمن يستعيره محتاجا إليه. ويكون من أوائل ما نزل به الوحى، وفى طليعة ما يستمع الناس إليه من مبادئ الرسالة الجديدة، ويستدلون به على وجهتها فى الحياة. (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة...)131(1/120)
وقد ذكر القرآن أغراضه فى ذلك مجملة. ثم جاءت السنة بتفاصيل دقيقة، تبين أحكام الإسلام فى الحياة الرأسمالية الناعمة، وما يحف بها من زينة ومتاع. فكانت نصائح النبوة فى هذا المضمار حملة شعواء، لم يعرف التاريخ أصدق منها، فى زجر الناس عن معيشة الرخاوة والافتيات، ودفعهم ـ بقوة ـ إلى معيشة العمل والاخشيشان!. * * * * إن هذه الطبقات العالية، تتشبع من كل شىء على حساب غيرها، وتفنن فى تلوين أغذيتها على ما تهوى، وعلى ما يعينها واسع ثرائها. فيقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم : " إن أكثر الناس شبعا فى الدنيا، أكثرهم جوعا يوم القيامة ". وحدث أن رأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحدا من هؤلاء المتخمين، فلم يفته تنبيهه إلى أن هذا الذى يأكله فوق طاقته. إنما هو مغصوب من حاجات الآخرين.. فعن جعدة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، رأى رجلا عظيم البطن فقال بإصبعه ـ أشار إلى بطنه بإصبعه ـ : " لو كان هذا فى غير هذا المكان. لكان خيرا لك ". وقد ترى "الأعيان " فى القرى والمدن، يحتكرون الأطايب لأنفسهم، ويرون ذلك شارة لازمة لتدعيم عزتهم، وتكريم مكانتهم، لأن الموائد الضخمة لضخام الناس، والموائد الهزيلة لمهازيلهم فى الوضع الاجتماعى. فيجىء الرسول العظيم فيكسر هذا الميزان ويقول : " ليؤتين يوم القيامة، بالعظيم الطويل الأكول الشروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ". وكان من تطبيق عمر للاشتراكية الإسلامية، أن كان يذهب إلى مجزرة المدينة، فمن رآه يشترى لحما يومين متتابعين، علاه بدرته، ويقول ل :ه هلا طويت بطنك لجارك وابن عمك!.132(1/121)
وقد لاحظ عمر أن " جابر بن عبد الله "، أسرف يوما فى شراء اللحم، فلم يتركه حتى أنبه.. وما ذلك عن تحريم لما أحل الله. ولكن عمر فى كلمته السابقة، يريد حفظ التوازن الاجتماعى، ولو أدى ذلك إلى مراقبة أتفه التصرفات. وهذا أصدق فقه لدين الله، وأعظم صيانة لأحوال الناس. * * * * وتبع الإسلام أولئك المترفين فى قصورهم، فيم يطعمون؟. يجب أن يأكلوا ويشربوا فى الأوانى المعتادة للجماهير، من نحاس أو زجاج أو غيرهما. أما أن يستعملوا أوانى الذهب والفضة فلا..!! " إن الذى يأكل أو يشرب فى آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم". وبم يفرشون أسرتهم ويكسون أجسامهم؟ بالحرير؟ لا.. يجب أن يؤثثوا بيوتهم ويستروا أبدانهم بالأقمشة الشعبية. فقد روى : " لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله " . وعن حذيفة قال : " نهى رسول الله عن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه ".. وقد أحل الدين للنساء أن يلبسن الحرير، ولكنه حذرهن الفتنة به ..! وأخطر ما فى هذه القصور، لياليها الحمراء، ومتعها السادرة، وشهواتها الجامحة، إنها تكسب الكثير جدا وتعمل القليل جدا. فهى توجه نشاطها المدخر إلى العربدة والنزق، وتملأ أيامها الفارغة بالعبث والمجون. ومن قديم، كان أسلوب هذه القصور الداعرة، يستنزل على من فيها صواعق السماء.133(1/122)
وقد حذر الرسول الأعظم سراة هذه الأمة. أن ينهجوا فى معيشتهم هذا النهج الخبيث، وأن يندفعوا مع الغرائز الحيوانية الطائشة، التى تقلب عبيدها كلابا وخنازير!!. أفتراهم أصغوا إلى هذا النذير. وانتفعوا من هذا التحذير؟؟! كلا! فعن أبى أمامة قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يبيت قوم من هذه الأمة، على طعم وشرب ولهو ولعب، فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف، حتى يصبح الناس فيقولون : خسف الليلة ببنى فلان، وخسف الليلة بدار فلان، ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور. بشربهم الخمر ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات وأكلهم الربا، وقطيعة الرحم " . ولئن كانت ملائكة العذاب قدما، قد تولت تأديب الأمم المجرمة، إن زبانية الجو وشياطين التدمير، والمهرة فى فنون الحرب الحديثة، سيتولون عن الملائكة هذه المهمة. وهكذا كلما ارتد الناس فى معايشهم إلى حيوانات، ذهب بعضهم ضحية بعض الحروب والغارات. ***** فإن يكن هذا موقف الإسلام من الرأسمالية الطاغية، فما الذى يريب الطبقات العاملة منه؟!. ولماذا تلاحقت الضغائن بين الشيوعية والإسلام؟ فأصبحت الشيوعية فى كثير من البلاد حلم الكادحين؟!. وأصبح الإسلام وغيره من الأديان رمز الرجعية، التى تظن الجماهير فى سيادتها سيادة الطوائف العاطلة، وإذلال الطبقات العاملة؟!. هذه هى العقدة التى يجب أن تحل. واستحكام الضيق فى هذه العقدة يرجع إلى أمور كثيرة. منها أن التفكير الشيوعى، شديد التعصب لما عنده، شديد الثورة على ما عند غيره، قليل الاستماع إلى آراء مخالفيه. إنه تفكير الموتور لما أصابه، فهو يريد أن يثأر ممن يقابله، ويحسب أن الجميع أعداء له لداء.134(1/123)
ومنها أن الإسلام ـ باعتباره دينا ـ يحمل السمعة التى نالتها المسيحية قبله، وهى سمعة لا تشرف الأديان فى مسلكها نحو الفطرة الإنسانية وحقوقها المقررة. والإسلام مظلوم فى ذلك أشنع ظلم. وثم أمر آخر يحز فى نفوسنا ـ نحن المسلمين ـ : أن الحضارة الإنسانية لما تقدمت، وبدأت تتكشف عن مذاهبها السياسية والاقتصادية المعروفة، كانت الفرعونية الحاكمة، والقارونية الكانزة، تتقسم الشرق الإسلامى شر قسمة. فتآمرت مع الملابسات الأخرى، على إظهار الإسلام فى شكل هو منه برىء. لكن، هل معنى ذلك أن يطمس الحق، وأن تسقط مكانته؟!. إن عُشر الجهود التى تبذل فى ترويج الشيوعية أو فى مكافحتها، لو بذلت فى تفهم الإسلام وتطبيقه، لكان ذلك أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى النجاح. بيد أن الإسلام لن يعجب الرأسمالية الشرقية الحاضرة. وسترى فى موضع آخر مصداق هذا الكلام.
الرأسمالية الشرقية لا تستحق احتراما :
ليست الخصومة بيت الشيوعية والرأسمالية كما شرحنا آنفا، على العقائد الروحية والمثل العليا، بل هى خصومة مادية جافة، معروف ميدانها وهدفها. والحرب التى دارت ـ أو ستدور ـ بينهما، ليست من النوع الذى قال القرآن في :ه (هذان خصمان اختصموا في ربهم) إنما هما خصمان اختصموا فى بطونهم !. هذا يريد أن يزحم بطنه بصنوف الطعام، ولا عليه إن جاع غيره. وذاك يريد العيش سواسية، شبع مشترك أو جوع مشترك. أما صلة الفريقين بالله فصلة كفر من ناحية، ونفاق من ناحية أخرى.!! والكفر والنفاق فى ميزان الحقيقة سواء!.135(1/124)
ولم يَدُر العراك بين الشيوعية العالمية والرأسمالية العالمية، على تقرير الفضائل الإنسانية المجردة، وتقديس المثل العليا فى الوجود. فكم من حق تآمر الفريقان على إضاعته، ومن مطمع تسارعا جميعا إلى اقتناصه، ومن أعراض تساويا فى ذبحها، وإباحية اتفقا على إشاعتها وفرضها!. وأنى لهما الهدى، وقد حُرما من أغزر المنابع للهدى فى هذه الأمور الخطيرة؟ حرما من الدين وتوجيهه! إن الدين وإيحاءه وممثليه، فى عزلة قصية عن تلك القضايا الهامة. ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود إن هذه المعركة الطاحنة على الرغيف وملحقاته تستحق النظر الطويل. وإذا كان الدين قد أبعد عنها قلة اكتراث به، فلن يهمل حكمه عاجلا أو آجلا، ولا يجوز أن يطول أمد ذلك الإهمال على أية حال. إن أول ما يأخذه الإسلام على الرأسمالية ـ باعتبارها نظاما جُرِّبَ وشهد العالم تطبيقه وآثاره ـ أن الذى يربح منه طبقة محدودة جدا، وأن هذه الطبقة الرابحة، تقبل علي الدنيا إقبالا عارفا، موصول اللذة ممدود المتعة، تأكل التراث أكلا لما، وتحب المال حبا جما. وهذا المسلك تولد عنه خطران بالغان، فالإقبال على الدنيا، ومواتاة الفرص الواسعة للإفادة منها كره هؤلاء القوم فى الدين، وجعلهم يتجهمون لدعاته، ويتبرمون بتوجيهاته. وهذا سر وقوف الرأسماليين القدامى فى وجه الرسل الأولين، وقفة سافرة الطغيان، فصل القرآن مظاهرها، فى كثير من سوره. وكما ينصرفون عن الدين هم أنفسهم، يصرفون غيرهم عنه كذلك. فإن عيون الجياع عندما تتطلع إليهم، لا ترتد إلا وهى مليئة بالحقد الأعمى، والغيظ المكظوم. ولأمر ما، كفرت الشيوعية بكل شىء، فقد تمخضت عنها بيئات، سلبها الحرمان كل شىء فلم يترك لديها إلا تفكير الثوار المدمرين. ثم إن الإسلام يضيق بالرأسمالية، لأنها لم تضع نظاما جادا لمحاربة الفقر، بل لم تؤسس حكمها على فكرة إراحة الناس منه.136(1/125)
مع أن الحكم فى نظر الإسلام، يجب أن يكون وسيلة فعالة لمحاربة الضوائق العامة والخاصة. وعلى الحاكم أن يسن من التشريعات والأنظمة، ما يصل بالرعية إلى هذه النتيجة المحتومة. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ : " من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين، فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم، احتجب الله دون خلته وحاجته وفقره يوم القيامة " وفى رواية أخرى : " ما من إمام يغلق بابه، دون ذوى الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء، دون حاجته وخلته ومسكنته ". وروى معاذ هذا المعنى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال : " من ولى من أمر الناس، شيئا، فاحتجب عن أولى الضعف والحاجة، احتجب الله عنه يوم القيامة ". والنظام الرأسمالى يهوى بالضعفاء والمحتاجين فى مكان سحيق، ولا يتعرف إليهم إلا أدوات إنتاج، يحترقون فى النار التى تطهى للسادة، ما لذ وطاب، ثم تتحول ـ بوقودها الآدمى ـ إلى عالم من.. من التراب!. وقد كان الحاكم المسلم الرشيد " عمر بن الخطاب " رضى الله عنه شديد الحذر على جمهور المسلمين من هذه المصاير المحزنة. ولذا كتب إلى أحد أمراء الجيوش الخطاب الآتى، يرسم له طريق معاملة المسلمين. عن أبى عثمان النهدى قال : كتب إلينا " عمر بن الخطاب "، ونحن بأذربيجان ، مع "عتبة بن فرقد " فقال : " يا عتبة : إنه ليس من كدك، ولا كد أبيك، ولا كد أمك!! فأشبع المسلمين فى رحالهم، مما تشبع منه فى رحلك، وإياك والتنعم! وزى أهل الشرك، ولبوس الحرير ". وهذا الخطاب صارم فى أوامره، لأن الفاروق صادق الإبانة عن روح الإسلام، صائب النظرة إلى أحوال الرؤساء مع العامة. فهو يريد أن يلزمهم حدود الله طوعا أو كرها، ولا يريد أن يولد فى عهده نظام الطبقات.137(1/126)
هذا بعض ما يريب الإسلام الصحيح من الرأسمالية الطاغية، التى عرفتها ـ ولم تعرف غيرها ـ بلاد الإسلام المنكوبة، والتى يراد تخفيف بعض أوضارها بتشريع متواضع، كتقييد الملكيات الكبيرة. أفهذا كثير؟؟. ما أشبه الليلة بالبارحة! ما أشبه حركة تقييد الملكيات اليوم بحركة تحرير الرقيق فى القرن السابق. كلتا الحركتين طاعة محققة لأوامر الإسلام، ونزول حق عند تعاليمه الحقة، ومع ذلك فأصدقاء هذه الحركات، بل قادتها، ليسوا من رجال الدين. وتفصيل ذلك، أن العصور الوسطى حفلت بحركة اختطاف واسعة النطاق، أشرفت على تنظيمها عصابات مسلحة، كانت تختطف الرجال السود من المناطق الحارة، والفتيات البيض من مناطق الشمال. وهؤلاء التعساء من الرجال والنساء، أحرار أحرار، لا يمارى فى إثبات حق الحرية لهم، من له مسكة من عقل. ومع هذا سُخر فى الخدمة كثير من العبدان السود، كما سُخر فى المتعة كثير من هؤلاء الجوارى الجميلات، وقامت أسواق النخاسة تحت سمع وبصر حكام الدنيا بالجبروت، وحكام الدين بالفتوى، فلم يتحرك للإنكار عليها أحد. ولو ساكت أحد المختصين بإصدار الفتوى : هل يبيح الإسلام هذا الرق؟. لنظر فى كتبه لحظة، ثم خرج لك بفتوى لها عرض وطول، يثبت لك فيها بالآيات والسنن أن القرآن أقر وجود العبيد والإماء وأن الرسول وصحابته استرقوا عددا لا يحصى من الكفار، وأن أئمة الفقه فرعوا آلاف المسائل على أبواب شتى، تدور حول مشروعية الاسترقاق.. الخ. وبهذه الفتوى يختطف الأحرار ويستذلون، وتؤسس للنخاسة مناسر ومتاجر فى الشرق الإسلامى. وهى فتوى يخرج الواقع لها لسانه! ويصب الدين عليها وعلى صاحبها صواعقه. فبين ما تضمنت من مسائل العلم، وبين ما سئلت عنه من واقع الحياة، بُعْد المشرقين، وكذلك يعيد التاريخ نفسه.138(1/127)
فالجمهور اللاغب من طول العمل وضآلة الأجر، المحروم من حقوق الحياة ونعمة الاسترواح، ينظر إلى نفسه وإلى غيره، فيرى أملاكا لا حد لضخامتها، جمعت من سحت ثم بقيت بين الناس سنادا للجبت والطاغوت. فإذا طالب أحد بتقييد ملكيات، حق أصحابها فيها أوهى من بيت العنكبوت، قيل ل :ه إن الإسلام يمنع تقييد الملكيات، كما قيل فى القرن السابق : إن الإسلام يمنع إطلاق الرقيق..! فأى إساءة للإسلام أبلغ من هذه الإساءة؟ وأى صد عن دين الله أشد من هذا الصد؟!. إن تقييد هذه الأملاك التى نهبت، كتحرير هؤلاء الرجال الذين سرقوا، كلاهما وضع للأمور فى نصابها. وقد أثبتنا ـ قبلا ـ أن الإسلام لا يرى بأسا أبدا فى تقييد التملك الطاغى، حتى لو كان المالك يتحرى فى كسبه، أن تكون ثروته درهما درهما، حلالا من حلال. وفيما سقنا من الدلائل فى الفصول السابقة، ما يقمع كل جبار عنيد، وما يخرس كل متفقه بليد. إن الرأسمالية الشرقية تخشى من الشيوعية ـ إذا دخلت ـ أن تحارب التعطل والمتعطلين، وأن تناصر العمل والعمال، وأن تصادر المسروق، وأن تنصف المظلوم، بالطرق الدامية التى تسلكها فى إشعال ثورتها وتحقيق غايتها، فهل هذه الرأسمالية تأمن الإسلام، وترجو فى ظله، أن تبقى آثامها من غير نكير؟!. الحقيقة أن هذه الرأسمالية، إذا كانت تحذر الشيوعية على نفسها مرة، فيجب أن تحذر الإسلام على نفسها مائة مرة!. فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟!!. ومن يصون الحقوق ويمحق المظالم. ويمسح العار، ويقاتل الفجار، إذا لم يكن الدين المنزل من رب العالمين؟!. صحيح أن الشيوعية لا تحترم العقيدة الدينية، ونحن نحارب الإلحاد أيا كان جانبه. ولن نسمح لنحلة من النحل الشاردة، أن تسطو على الوحى السماوى وتخدش مكانته.139(1/128)
ولكن ماذا يلقى الدين من الحفاوة والإكرام عند أحزاب الميمنة، وقد فقدها عند أحزاب الميسرة؟!. يا لضيعة الدين عند الفريقين!!. كل ما هنالك أن بعض الرجال الخبثاء، يحسن أن يمثل سمات الخشوع والتقوى لحاجة فى نفسه، ولا تقوى هناك ولا خشوع. ولعل من المضحكات المبكيات، أن نرى صحفا معروفة بالمجون المزمن، صحفا من النوع الذى يضع على وجهه " أحمر " دائما، والذى لا عمل له إلا تحريك الشهوات الدفينة، وإثارة أخس المشاعر فى دماء الشباب، ودفع مواكب الحياة مجنونة لا ضابط لها من دين أو خلق. هذه الصحف التى تدق طبولها لأنصار الرجعية فى هذه البلاد دقا عنيفا. تجدها تخاصم الشيوعية، لأنها ضد الدين!! وفجأة ترى محررى " آخر ساعة " و"أخبار اليوم " وقد لبسوا عمائم التقوى، وأعلنوا الحرب على الشيوعية الملحدة!!. هذه طريقة فى الحرب لا تهزم الشيوعية، ولا تنصر الدين. والطريقة المثلى هى علاج الأزمات المتوطنة، بتعاليم الاشتراكية الإسلامية الناجعة. وإلا فسيقول الناس : إن الدين يمشى مع قوافل الظالمين، فنخسر الدنيا والدين معا، وصدق القائل : نرقع دنيانا، بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى، ولا ما نرقع وصحيح أن الشيوعية لا تحترم الديمقراطية السياسية، وأنها تقيم نظاما يكبت الآراء، ويطارد الخصوم، ويستهين بأعظم ما وصلت إليه الإنسانية من "حرية الرأى". ونحن نحترم الحريات العامة، ونمقت كل إثارة للاستبداد السياسى، أو الضغط الاجتماعى. ولكنما يبكى على هذه الحريات من استمتع بها، وشم بحبوحة الحياة فى رحابها.140(1/129)
ولقد عادى الأمريكان الشيوعية عن اقتناع مجرد، ورضا ظاهر، بأسلوب العيش الذين يسيرون عليه، فلا يجوز أن يفرض عليهم ما لا يقبلون. إن حرية الرأى هناك مقدسة، وإن موازين الرجال هناك مضبوطة. أما لدينا ـ فوا أسفاه ـ لا يوزن الرجال بالرأى، ولا تعرف للرأى كرامة، ولا نعرف من الديمقراطية إلا اسما لا مسمى له، وإلا شبحا لا روح فيه.. وقد سقت لك نبأ العصبيات المالية، التى تتصرف فى الانتخابات، وتتعاون مع الحكومات !. ماذا علينا لو جعلنا مظاهر العدل الاجتماعى، ترتكز على دعائم الوحى السماوى، فنقدم للإنسانية نظاما يصحح صلتها بربها، ويصحح ما بين الناس من صلات؟!. ***** إن الأخوة التى ينادى الإسلام بها تجعل الأمة جمعاء أسرة واحدة، تربط بين بنيها أواصر قوية، من دم العقيدة المشتركة، وأعباء الواجبات الموزعة على الكبار والصغار. وهذه الأخوة لا تسمح أبدا بوجود سادة متجبرين وأتباع مستذلين، ولا تسمح أبدا بأى خلل اقتصادى، يؤدى إلى هذه الحالة المنكرة. وكلمة "الأخ " حسين هيكل مثلا، أو " الأخ " مصطفى النحاس، يجب ـ إسلاميا ـ أن تكون أصدق فى دلالتها على الديمقراطية المطلقة، من كلمة "الرفيق " ستالين أو "الرفيق " مولوتوف فى الاتحاد السوفيتى. أو كلمة "مستر" تشرشل و "مستر" إيدن، فى الجزائر البريطانية ذات النظام الشعبى العريق. ذلك إن كنا نريد حقا، أن نجعل من الأخوة الإسلامية برنامجا واسع النطاق، لمحو الفساد الاجتماعى، والفوارق الاقتصادية الجائرة التى تسنده.
رجولة :
أذاع رويتر هذا الخبر نثبته هنا، ونسوقه إلى جمهور المسلمين، ليقارن بين أخلاق زعمائنا، وأخلاق زعماء الأمم الأخرى، ثم ليرى أى الفريقين خير مقاما وخير مكانا؟. (نيوجرسى فى... دهش عمال أحد مصانع أدوات الراديو هنا، إذ علموا أن زميلهم الجديد داجوناس سرينوس " البالغ من العمر 50 عاما، كان رئيس وزراء لتوانيا سنة141(1/130)
1939 م،. وقد وصل إلى أمريكا فى الشهر الماضى، ويشتغل مبدئيا فى هذا المصنع، بأجر قدره ثلاثون دولارا فى الأسبوع! ورئيس الوزراء السابق مهندس ميكانيكى، وقد تحدث عن تجاربه فى ظل الاحتلالين الروسى والألمانى لبلاده قائلا : لقد شهدت أياما مظلمة جدا..). طالعت هذا النبأ، فازددت يقينا بعظمة المستوى الأدبى الذى وصل إليه هؤلاء القوم، ورفعة المنزلة التى وضعوا فيها العمل والعمال، ودقة الموازين التى يحكمون بها على الناس. فالرجل وكفايته قرينان، يعلوان معا، أو يهبطان معا!. والرجل الكفء كالأسد المهيب، لا يعدم مكانه الكريم حيثما حل. ولو بدل من أشجار الغابة قضبان السجن، فلن يتحول كلبا على أية حال. والعمل فى أية مهنة، شرف يقصر عن مناله أحد رجلين : إما رجل لا يحسن أن يصنع شيئا فهو عاطل عاجز لا قيمة له ولا خير فيه، مهما أحيط بمظاهر الأبهة والتكريم!. وإما رجل يحسن أن يصنع شيئا، ولكن أدركته عقلية كبراء الشرق، تلك العقلية القذرة المريضة، التى تظن العمل ضعة لا تليق، ولا تقبل من العمل إلا ما كان صوريا ناعما، ولا تطعم من الكسب إلا ما كان نهبا محرفا.! هذا لدينا وحدنا! فى الشرق الإسلامى الناهض.!! أما هذا الوزير الذى قاد بلاده يوما، فإنه لا يأنف أن يشتغل عاملا فى مصنع، عاملا بين زملاء عديدين!. لا عضو مجلس إدارة بين الرؤساء المديرين، ولا مساهما مجلوبا بين كبار المساهمين، كما هى الحال عندنا، إذا أريد تشغيل الوزراء السابقين!. إن "ليتوانيا" ليست دولة كبيرة كأمريكا وإنجلترا، ولكنها دولة كبيرة كأكثر دول الجامعة العربية، بل هى أوسع رقعة وأغزر سكانا وأرقى درجة، من بعض دول الجامعة.142(1/131)
ومع ذلك، فيستحيل أن يخطر ببال أحد وزرائنا، أن يشتغل عاملا فى مصنع؟ لأ نهم يكفرون بكرامة العمل، ويرمقون كتل العمال بالنظر الشزر. ويظنون من الفرص الطيبة التى أتاحها القدر لهم، أنهم لا يأكلون من عمل أيديهم. بل يظنون دعائم مجدهم فى أن يأكلوا من فضول ثرواتهم، وأن يستريحوا فى ظلال قصورهم. وبهذا الفهم الأحمق، لحقائق الأمور ومبادئ الأخلاق ومقاييس الرجولة، يريد هؤلاء الزعماء أن يتقدموا الصفوف ويقودوا الشعوب.. وقد قادوها فعلا. ولكن إلى الهزيمة والعار. لقد قرأت هذا الخبر، فذكرت تاريخ الأسلاف الأمجاد من أصحاب رسول الله، وذكرت كيف أسقطت الأنساب الرفيعة، وكيف محصت المزاعم الفارغة، وكيف طرح من فضائل الرجال كل شراء من حسب وجاه. وبقى فضل الكفاية الرائعة والأمانة الفارعة، فضل الرجولة المتألقة بمعدنها الحر، وعنصرها الكريم، وإن عريت عن المال والجاه، والحسب والنسب.. عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى فى نفر على "سلمان " و "صهيب " و "بلال " ـ وهؤلاء من فقراء المسلمين وعامتهم ـ فقالوا لما رأو :ه ما أخذت سيوف الله مأخذها من عنق عدو الله. فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟!! وأتى النبى فأخبره، فقال النبى ل :ه لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك!!. فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا : لا. يغفر الله لك يا أخى. ذلك أن الرسول وإن عفا عن سيد قريش. فلن ينسى أن سيد قريش هذا، قد سبقه فى ميدان الفضل والكرامة، من كانوا أمس عبيدا له، فهو يرفض أن يغضبهم من أجله!. ما أحرانا بإدراك هذه المبادئ جملة وتفصيلا. لقد نسيناها فنسيتنا أسباب النصر والتقدم.143(1/132)
إن الأسر الكبرى التى تحيط بأسمائها هالات المجد والرفعة، إنما أسسها رجال، بنوا أشخاصهم على الكدح واللغوب. فجاء من بعدهم من يبغى الراحة على صيتهم، ومن ينشد الزعامة لأنه تحدر منهم، وربما أنف من القيام بعمل ما كان آباؤه الضخام يأنفون أن يضعوا أيديهم وأقدامهم فيه ليقتاتوا منه!! أثرى هؤلاء الأقوام الذين يصفون أنفسهم بأنهم أشراف، لأن بينهم وبين شجرة النبوة مسافة يمشى الراكب فيها أربعة عشر قرنا حتى يصل إلى أصلها، إن صح أنهم انبثقوا منه !!. إنك لو كلفت أحدهم بعمل يعيش منه، كما اشتغل ـ قبلا ـ على بن أبى طالب لاعتقد أنك تكره الله ورسوله وتحتقر آل بيته! أما " على" نفسه، الرجل العظيم حقا، فاسمع بعض نبئ :ه عن فاطمة ـ رضى الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاها يوما فقال : أين ابناى؟ ـ يعنى حسنا وحسينا ـ قالت : أصبحنا وليس في بيتنا شراء يذوقه ذائق، فقال " على" : أذهب بهما، فإنى أخاف أن يبكيا عندك، وليس لديك شىء. فذهب إلى فلان اليهودى فتوجه إليه النبى، فوجدهما يلعبان فى شربة، وبين أيديهما فضل تمر!. فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا ترجع ابنى قبل أن يشتد الحر؟ فقال "على" : أصبحنا يا رسول الله وليس فى بيتنا شىء، فهلا جلست حتى أجمع لفاطمة فضل تمرات!!. فجلس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى اجتمع لفاطمة فضل تمر، وضعوه فى خرقة، ثم عادوا جميعا. ويقول " على " كرم الله وجهه ـ فى وصف عمله هذا ـ : " لم يكن فى بيتى شىء آكله، ولو كان فى بيت النبى شىء لبلغنى! فانطلقت إلى يهودى فى بستان له، ببعض نواحى المدينة، واطلعت عليه من ثغرة فى جداره، فقال : مالك يا أعرابى؟ هل لك فى دلو بتمرة؟.144(1/133)
قلت : نعم افتح لى البستان. فدخلت فجعلت أنزع الدلو ويعطينى تمرة، حتى ملأت كفى.. ". هذا الرجل الكبير، أتُصدق أن من ذريته من يريد أن يحيا عاطلا، وأن يفتات على أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنسب إليه، صحيح أو لصيق؟؟. يا شعوب الشرق : انسبوا الرجال إلى أعمالهم، فمن لا عمل له، فاحقروا نسبه، واقطعوا سببه!. * * * * يا شعوب الشرق لا تخنعوا للأوهام، ولا يبهرنكم ما يملأ الأيدى العاطلة من حطام. إن اليد العاملة هى العليا، واليد العاطلة هى السفلى. فلا تقلبوا ميزان الحقائق وإلا انقلبت بكم موازين الدنيا، وتنكرت لكم أرجاء العالمين. يا شعوب الشرق : سووا صفوفكم من جديد، واجعلوا العاملين هم السادة والعاطلين هم العبيد، فحرام أن يحيا العاطل، بله أن يسود!(1/134)
الفصل الخامس :المتحدث الرسمى باسم الإسلام:
حرية الرأى :
فى أوج الحضارة الإسلامية كانت حرية الرأى مكفولة إلى حد بعيد، وكان البحث عن الحقيقة وتعرف وجه الصواب، ميسورا لكل من واتته الوسائل الصحيحة. وحيث لم يوجد فى مسألة علمية نص يعلو على الشبهة، ويثبت أمام التأويل، فإن المجال رحيب أمام عقول الرجال. أجل، حيث تتكاثر الأدلة، وتتلون أساليب الفهم ـ فى حدود قواعد اللغة ـ وتختلف الأنظار، ويختلف وزن المصلحة العامة، ويتسع الأفق، أو يضيق أمام مبتغى الحق، الساعى لكشف النقاب عنه، ففى الأمر مندوحة، ولا حرج على المسلم أن يعتنق أى مذهب، ويجنح إلى أى رأى.. ومن أقوال " أبى حنيفة " فى هذا المعنى ـ وهو فى طليعة المجتهدين فضلا وعلفا ـ : " هذا الذى نحن فيه رأى لا نجبر عليه أحدا، ولا نقول : يجب على أحد قبوله، فمن كان عنده أحسن منه فليأت به "!! وقال أيضا : " ما جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال ". وكذلك قال مالك : " كل امرئ يؤخذ منه ويرد عليه، إلا صاحب هذا المقام ".. يعنى رسول الله. ولم يكن هناك موضع لتعصب ذميم، أو جمود بليد. فإن هذه الآفات العقلية، لا تصيب إلا قصار الباع، ولا تعترى إلا كل مغموز فى فضله، مطعون فى عقله.147(1/135)
بل إن المجتهد الحر، ما كان يزيد على أن يقول : رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب. وقد أرضى الجميع، أن الإسلام احتفى بحرية البحث، ولم يقصر رحمة الله على من أصاب الحق فى بحثه، بل جعل للمجتهد المخطئ أجرا. وإن يكن نصف أجر المصيب. فهذا أفضل ما يقدمه دين، ليحض العلماء على التحرى والتدقيق والمصابرة، واستنفاد آخر ما لديهم من ذكاء وجهد. ثم هم بعد، على منازلهم من فضل الله، بقدر ما وفقوا إلى إصابة الحقيقة أو القرب منها!. على هذا الأساس سنناقش حضرة صاحب الفضيلة مفتى الديار المصرية الشيخ محمد حسنين مخلوف، فيما ساق أخيرا من آراء، حول نظام الملكيات فى الإسلام. ولعل القارئ قد لاحظ أننا فى مقالاتنا السبع السابقة، قد رددنا على كثير من المبادئ الفقهية، التى أريد فرضها على الإسلام. وأبنَّا ـ بشتى النصوص والقواعد ـ أن الإسلام لا مانع لديه من تقييد الملكيات الطائشة، وأن أية حكومة تجد فى ذلك مصلحة الشعب فالإسلام ظهير لها، فيما تضع على الأملاك من قيود وحدود. بل إننا أبنَّا أن الإسلام يحكم بمصادرة كثير من الأملاك، التى تحوم حول تملكها التهم، ولا يعرف لها مصدر مشروع من كسب حلال. ولن نعود إلى تكرار ما أسلفنا شرحه، ولكنا نضيف زيادة موجزة إلى ما سبق، بعد ما اطلعنا على كراسة صغيرة، لفضيلة المفتى ضمنها أشياء لم نر بدا من الوقوف عندها معقبين.
الدفاع عن الرأسمالية :
إذا قال قائل : إن للإسلام نظما مستقلة برزت للحياة، وطبقت منذ بضعة عشر قرنا، قبل أن تولد المذاهب الاجتماعية الحديثة.148(1/136)
ومن ثم فلا يجوز وصف الإسلام بأى نعت من النعوت التى تلحقه بالمبادئ المستحدثة أخيرا. فإن لهذا القائل وجهة نظره التى لا اعتراض عليها، وعليه أن يذكر بوضوح ما شرع الإسلام للناس، فى ميدان السياسة وفى ميدان الاقتصاد. وله أن يتحرج من وصف الإسلام بأنه دين ديمقراطى فى الحكم، أو اشتراكى فى المجتمع. فقد يخشى من هذه الصفات الطارئة أن تحوله من مجراه الطبيعى، أو تحكم عليه بأوضاع لا محل لالتزامها. ولعل هذه الملاحظة، هى التى جعلت فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، يرفض وصف الإسلام بأنه دين اشتراكى. وليس معنى عدم وصف الإسلام بأنه اشتراكى، أنه رأسمالى، أو معنى عدم وصفه بأنه ديمقراطى، أنه ديكتاتورى.. بل المقصود أن للإسلام أوضاعه الخاصة، التى تعلو على هذه المذاهب جميعا وهذا حق. وإنما وصفنا نحن الإسلام بأنه ديمقراطى، لأن هذا الوصف فى نظرنا، أقرب ما يكون لتحقيق الشورى فى الإسلام. ووصفناه بأنه اشتراكى، لأن هذا الوصف أقرب ما يكون لتحقيق العدالة الاجتماعية فى الإسلام. والاختلاف فى التسمية لا ضير فيه، وإنما الضير فى أن نوهم الناس، بأن الإسلام دين رأسمالى، وأنه يحافظ على الأوضاع الاقتصادية الظالمة، ويأمر بسفك الدم فى الدفاع عنها. وهذا ما قد يفهمه من يقرأ الرسالة، التى كتبها فضيلة المفتى فى هذا الموضوع، والتى ختمها بهذا الكلام. " لقد أسرف الكاتبون فى الطعن على الرأسمالية، مجاراة لتلك الدعايات الهادمة، وصوروها للناس بأبشع الصور... ".149(1/137)
فالدفاع عن الرأسمالية لا معنى له البتة فى صدد الدفاع عن الإسلام. ثم إن تصور الحياة الاقتصادية، بأنها إما رأسمالية وإما شيوعية، خطأ علمى. فإن هناك مناهج اشتراكية أخرى كاشتراكية الدولة مثلا، التى يتجه إليها الإنجليز فى بلادهم ـ وعداؤهم للشيوعية معروف.. وهناك نظم تعاونية ليس الآن مجال تفصيلها. والمهم أن أشد المذاهب الاقتصادية مجافاة لروح الدين هو المذهب الرأسمالى. وقد بدأ أصحابه يتحولون سراعا عنه، ويحيطونه بشتى الملطفات، التى تخفف من وطأته الثقيلة على غيرهم من الفقراء. فبأى وجه يدافع ممثلو الإسلام عن هذا النظام؟. وهل تحارب باطل الشيوعية بباطل، لا يقل خزيا عنه.!! وفى أى حياة نسوق هذا الدمغ؟!. فى حياة عرفت من الرأسمالية أبشع ألوانها، وتلقت أقسى ضرباتها، وسقط الشعب فيها صريعا للثالوث المدمر المعروف، ثالوث الفقر، والجهل والمرض.
فتوى من البرج العاجى :
الواقع أن الآراء النظرية قد تتضمن شيئا من الصحة، أو تحتمل أن تكون صحيحة، عند من يقرأها وهو مقطوع الصلة بمن تعرضت لهم هذه الآراء بالخير أو بالشر. والفقيه الصحيح لا يرسل القول على عواهنه، بل لابد له من أمرين : تمحيص القضية التى تعرض عليه، تمحيصا يستشف جوهرها ويستكشف خبيئها. ثم الاجتهاد فى تطبيق النصوص الواردة عليها، أو ردها إلى القواعد العامة لتحكم فيها، إن لم تكن هناك نصوص حاسمة. والكراسة التى بين يدى، تعرضت للملكيات الزراعية فى مصر فقالت : " احترم الإسلام حق الملكية، فأباح لكل فرد أن يتملك ـ بالأسباب المشروعة ـ ما يشاء من المنقولات والعقارات وأباح له استثمارها والانتفاع بها، فى نطاق الحدود التى رسمها، وخوله حق الدفاع عنهما كالدفاع عن النفس والعرض" ا. هـ.150(1/138)
أما أن الإسلام احترم حق الملكية فصحيح، وصحيح أيضا أنه يمنح الحاكم حق تقييد الملكيات الطاغية. بل يوجب عليه هذا التقييد أحيانا، مادامت الدواعى تفرض ذلك. لكن أى الملكيات هو الذى يحترم؟. إنه إذا كان تملك العين بسبب مشروع، واستثمارها بطريق مشروع. فهل يوجد من علماء الدين أو علماء الدنيا، من ينظر فى تاريخ التملك الزراعى بمصر، ووسائل الاستثمار الحاضر، ثم يجرؤ على القول بأنها موافقة لروح الإسلام أو لنصوصه؟!. وقد ترك المفتى الكلام فى هذا الموضوع، واكتفى بأن يوصى الملاك بالدفاع عن حقوقهم فيما يملكون ويستثمرون!. مع أن أحدا لا يجهل أن أربعة أخماس الملاك الكبار، يأكلون من سحت. فليست الأرض أرضهم، ولا غلتها ينبغى أن تبقى لهم. وهذا وزير الشئون الاجتماعية يصرح فى حديث له، أن الفلاح المصرى لا يصيب من المحصولات التى تنتجها الأرض عشر الناتج مع أن هذه الأرض ارتوت من عرقه، ومع أن ثمارها لم تنضج إلا على احتراق أعصابه. ومع أن صاحبها الذى يلتهم تسعة أعشار المحصول، ليس له بهذه الأرض من صلة، إلا أنه ورثها عن جد وضع يده عليها غصبا، بعدما رفع عنها يد صاحبها الأصيل، الذى ربما يكون مات من الحرمان والضياع!!. فهل هذه الملكيات هى التى يمنع فضيلة المفتى تقييدها، ويوصى بقتل الصائل عليها؟. وهل هذا حكم الله ورسوله، فى الأوضاع التى تسود بلادنا؟!. ومن الغريب أن فضيلة المفتى يقر التفاوت بين الملاك، مستشهدا بهذه الآية. (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون )151(1/139)
كأن الغنى فى مصر يرجع إلى كثرة العمل، والفقر يرجع إلى طول القعود.! وليت الأمر يكون كذلك، إذن لشقيت طوائف سعيدة، وسعدت طبقات منكودة، إذن لسعد الفلاحون والعمال، وهلك القاعدون من أرباب الأموال. إن هذه الآية التى ساقها القدر على لسان فضيلة المفتى، تؤيد النزعة الاشتراكية، التى تجعل درجات الناس فى المجتمع على قدر ما عملوا. فهى فى الحقيقة تؤدى إلى عكس ما يريد أن يؤيده من النظام الرأسمالى القائم. وليس من الحكمة على كل حال، أن نترك صاحب الحق المغتصب يجوع ويعرى، وصاحب الحق المكتسب يلهو ويلعب. ثم نقول للمساكين المظلومين هذه الآية : (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض...) إذ لا سياق لها هنا البتة.. إن الآيات القرآنية لا ريب فيها، والأحكام الفقهية لا غبار عليها، ولو أنا نكتبها لسكان المريخ ما كان علينا بأس. ولكن الفتوى يقرأها سكان الشرق الأوسط، الذين طالبت إنجلترا بتحسين أحوالهم الاقتصادية، مخافة أن تجد الشيوعية بينهم مرتعا خصيبا. فهل يقف رجال الدنيا مع مبادئ الإنصاف، ويتمهل رجال الدين؟ وإذا قلنا : إن الإسلام يرفض تأميم المرافق العامة، ويمنع تقييد الملكية، ويكره وضع قيود كيت وكيت على المال، فأى إصلاح يقدمه أهل الدين للناس بعد هذا الموقف. إن ذلك يذكرنا بموقف البخيل الذى قال لضيف :ه سليم ما تكسر، ومكسور ما تأكل، وتفضل إلى الغذاء!!.152(1/140)
فماذا يأكل الضيف المسكين بعد هذا الشرط، إلأ أن يأكل بعضه؟!. وماذا تأكل الشعوب بعد تمنيات الخير المجردة، التى يقدمها المفتى إلأ أن تأكل بعضها؟. ورحم الله أمير المؤمنين " عمر " يوم قال : ولا تمنعوا الناس حقوقهم فتكفروهم. نعم، فإن أكثر ما أصاب الإنسانية من كفر، يرجع إلى دفن الحقوق تحت ركام من المظالم، وعدم قيام الدين بحركة إيجابية جريئة، تتفق مع أصوله العريقة وفقهه الصحيح، وتنقذ الناس باسم الله العلى الكبير.
آراء شخصية :
يعلم فضيلة المفتى ونعلم أن الاحتكار حرام. غير أنه يذهب إلى أن الحالة الاقتصادية فى مصر لا احتكار فيها. ومن ثم فلا حرمة على الأثرياء، ولا حرج على أملاكهم الضخمة!! ويقول فى الدفاع عن الطبقات الكبرى. ".. وليس هناك طبقة تحول بقوتها بين الناس وأسباب الغنى والثراء، وتمنعهم بحولها من التملك والشراء، وليس هناك احتكار من أحد للثروة، بالمعنى المفهوم من الاحتكار " ا. هـ. ولما كان هذا الكلام، ليس من قبيل الإفتاء العلمى الذى يعتمد على نص أو قاعدة، فقد اعتبرناه رأيا شخصيا فحسب. أما نحن، فنرى ـ بعد الرجوع إلى مصلحة الإحصاء، فى مسألة الأرض المزروعة. وبعد مراجعة عقود الشركات، فى الإنتاج المعدنى والأشغال التجارية والصناعية. وبعد استعراض المرافق العامة، ومعرفة الأيدى التى تديرها. وبعد المقارنة بين حالة الشعب المصرى ومتوسط دخل الفرد فيه، وبين حالة الشعوب المماثلة له ومتوسط دخل الفرد فيها. وبعد استقراء التاريخ الاقتصادى لمصر الحديثة فى القرن الأخير. فقد رأينا أن الثروة القومية فى مصر، مصابة بأخبث احتكار يمكن أن تنكب به أمة.153(1/141)
وأنه ليس أمرا طبيعيا أبدا، أن تعيش جمهرة الشعب فى مستوى منحط، عرفت أمم العالم بالتواتر حقيقته وعيرتنا به، لولا أننا نسارع الآن إلى التخفيف من شروره. إن هذه الفوضى الاقتصادية التى أفزعت المصلحين كافة، ليست كما يقول فضيلة المفتى، ترجع إلى ".. نواميس طبيعية وسنن اجتماعية، قضت بتفاوت الناس فى القوى والمدارك والعمل والإنتاج. ولهذا التفاوت آثاره الطبيعية فى الكسب والتملك.. وليس وجود طبقة عاجزة عن التملك بطريق الشراء، ما يسوغ حسبان القادرين عليه محتكرين "! ا. هـ. كأن الذين امتلكوا ملايين الأفدنة فى طول البلاد وعرضها، أخذوها بطريق الشراء المقترح، الشراء الذى يعجز عنه الآن بعض الناس!. فى فمى ماء وهل ينطق من فى فيه ماء؟! إن فضيلة المفتى أكرم عندنا، من أن يدافع عن قوم هو يعرف أن أرضهم لم تخرج زكاة منذ ملكوها. فلو أخذ منهم ما تجمد عليهم لبيعت أرضهم لحساب الفقراء. ولم هذا الرفق كله بأناس، لم يعرف عنهم فى الحرام إلا تبذير السفهاء، ولم يعرف عنهم فى الحقوق إلا بخل اللؤماء، ولم يعرف لأموالهم نسب إلا نسب اللقطاء؟. وفضيلة المفتى يعلم أن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاقب من امتنع عن إيتاء الزكاة مرة واحدة بمصادرة نصف ماله. فكيف الحال مع أغنيائنا، الذين امتنعوا عن أداء الزكاة، فلم يدفعوها إلى فقير قط؟. أليسوا جديرين بأن تصادر أملاكهم كلها؟. أو ليس تذكيرهم بهذا الحكم، أولى من تحريضهم على قتل الصائل على المال؟. أم أن فضيلة المفتى يرى السكوت على هذه الحال، ويؤثر أن يكتب للبؤساء المحرومين، كلاما يخضد به شوكتهم تحت عنوان "الفقر المحبوب "!!. إن هذا ما لا نرضاه تصويرا لموقف الإسلام الحق، من هذه المصائب الحائقة بالشعوب..154(1/142)
إيجار الأرض :
جاء فى السنة نهى عن اختزان لحوم الضحايا، وجاء كذلك حكم بإباحة اختزانها. وفسر الرسول الحكم الأول بأن الناس كانت بهم أزمة وحاجة، فحرم ادخار اللحم، فى أوقات يحتاج الناس فيها للضرورات العاجلة. حتى إذا زالت هذه الملابسات، أبيح الادخار لمن يشاء. وكلا الحكمين موقوت بملابساته، يحرم الادخار أيام الأزمات ويحل فى غيرها، وذلك معنى النسخ فى هذه المسألة. وجاء فى السنة نهى عن تأجير الأرض لزراعتها. وثبت ذلك عن الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : " من كانت له أرض ـ واسعة ـ فليزرعها، أو يمنحها أخاه، ولا يؤجرها إياه، ولا يكريها ". ثم جاء كذلك فى السنة، ما يفيد إباحة تأجير الأرض بثمن معلوم، أو بنصيب من ثمراتها. ونحن نقول فى كلا الحكمين الواردين، ما قيل فى لحوم الأضاحى سواء بسواء.. كان بالناس جهد، فكره الرسول العظيم أن يخضع كبار الملاك لنزعات الأثرة، وأن يميلوا إلى مضاعفة أرباحهم على حساب استغلال المحتاجين ولو كان هذا الاستغلال عن طريق لا شىء فيها ظاهرا. ومن ثم حرم المزارعة والمؤاجرة. فلما زال ما بالناس من جهد، وتكاثرت على المسلمين موارد الفىء، وتدفقت أسباب الغنى، لم يعد للتحريم موضع فنسخ، وأبيح للناس هذا النوع من المعاملة. وكلا الحكمين مرهون بملابساته، كما فى حالة الأضاحى التى ذكرناها أنفا. ونحن لا نزعم أن إجماع العلماء، منعقد على هذا التأويل الحسن، أو أن هذا هو التعليل الفرد، الذى فسروا به اختلاف النصوص. ولكنه تفسير ـ على كل حال ـ أصدق وأقوى مما قيل قديما. ونقل للناس فى هذه الأيام، على أنه هو وحده الفقه!.155(1/143)
ولو راجع المحقق المنصف جملة الآثار التى رويت فى هذا الموضوع، لما وجد مناصا من هذا الرأى الذى ذهبنا إليه. وعلى هذا، فإن العلاقات بين الملاك والمستأجرين، تخضع فى تكييفها للحالة الاقتصادية العامة. وتستطيع أية حكومة ـ باسم الإسلام ـ أن تتحكم فى قيمة الإيجار رفعا وخفضا، أو أن تجعله إيجارا اسميا إلى حين، فيزرع المالك طاقته، وتتصرف الحكومة فى الفاضل عنها، فتمكن الفلاحين من زراعته لحسابهم برسم محدود، يحفظ للمالك الأصيل حقه فى ملكه ثابتا لا شبهة فيه ـ وإلى أن تنكشف عن الناس الضوائق، تعود الإباحة المطلقة للإيجار والمزارعة. وهذا الذى شرعه الدين الحنيف لاستغلال الأرض، اقتربت منه النظم المدنية قليلا فى استغلال المساكن، فأعطت الحكومات نفسها، حق تقييد الإيجارات لبيوت السكنى. وكلا التقييدين يخرج من نبع واحد، هو رعاية المصلحة للطبقات المحدودة الدخل، والجمهور الغفير من الفقراء والمساكين! فلماذا نحاول بالفتوى، تجريد الإسلام من هذه الفضيلة؟؟.
سماحة الإسلام لا كرازة الرأسمالية :
قال الإمام الجليل ابن حزم : " فرض على الأغنياء من كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم ولا فىء سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذى لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة!!! ". ثم ذكر ابن حزم من الدلائل على ذلك، ما بسطنا كثيرا منه فى كتاباتنا السابقة، وكان فيما رواه قول :ه " صح عن أبى عبيدة بن الجراح، وثلاثمائة من الصحابة، أن زادهم فَنِىَ، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم فى مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء "!! فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة لا مخالف لهم منهم. هذا. وقد سَخِرَ ابن حزم ممن يقول : نسخت الزكاة كل حق فى المال، ولم يجعل لرأيهم ولا لروايتهم قيمة.1ص(1/144)
ويُروى أن المسلم المحتاج يقاتل لسد حاجته، ولا يباح له أكل الميتة، ما دام هناك فضل طعام عند مسلم أو ذمى. قال : " فإن قُتل، فعلى قاتله القود والقصاص. وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية : " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ". ومانع الحق باع على أخيه الذى له الحق ". فهذه هى روح الإسلام، فأين ـ من هذا الكلام المشرق بأدلته ـ ما يقال اليوم لأغنياء المسلمين، وهم يعيشون فى أشد الشعوب حاجة، ويكسبون من أظهر الأبواب ريبة، ويقعدون عن الواجبات المطلوبة، ثم يقال لهم ـ والحالة هذه ـ : " دافعوا عن أموالكم، من قُتل دون ماله فهو شهيد ". إن هذا المسلك، وضع للنصوص فى غير مواضعها، ودخول للبيوت لا من أبوابها ولا من نوافذها، بل من فجوات تصنع فى جدرانها. يجب أن يكون هدفنا الفذ : أن نخدم الإسلام وحده. فليس من الإنصاف للدين، ولا من الاحترام للحق، أن نحارب الرأسمالية لنخدم الشيوعية، أو نحارب الشيوعية لنخدم الرأسمالية. بل يجب أن نقسم عداوتنا قسمة عادلة، فى خصومة الشيوعية الكافرة والرأسمالية الفاجرة معا. ولذلك سنحارب ـ بقوة وعزم ـ مَن يناصرون الشيوعية، ومن يحاربونها ليدعموا المظالم الرأسمالية. ولن تأخذنا هوادة فى منابذة الجميع على سواء. وقد اختلطت على العامة أسماء المذاهب الاقتصادية، ولكن العامة إن عذروا، فلا عذر للخاصة. فالشيوعية شىء غير الاشتراكية وغير الرأسمالية.157(1/145)
بل إن عداء الروس الحمر للاشتراكية، أشد وأقسى من عدائهم للرأسمالية، فهذه تحمل عناصر فنائها، أما الاشتراكية فمنافس خطر، أمام ما فى الشيوعية من تطرف وإلحاد.
الحلال و الحرام :
إذا أحل الإنسان الحلال، وحرم الحرام، واتقى الشبهات، فقد استكمل إيمانه، واستبرأ لدينه وعرضه، وأحكم الحصار على دسائس شهوته وجماح طبيعته، أما إذا فعل ما يهوى، وترك ما يثقله، وتعدى حدود المباح، وانتهك حرمات الله، فهو حيوان دميم، أو شيطان رجيم. وقلما يبقى معدن الدين فى قلب استحوذ عليه الهوى، واستقل بتصريفه الشيطان، كالإناء الواحد، إذا دخل فيه الماء، خرج منه الهواء. والقلب الإنسانى، لا يجتمع فيه باعثان متنافران، ولا يصدر عنه مسلكان متضاربان. والإسلام يدير شئونه التشريعية كلها على الحلال والحرام!، ويوجب أن تقوم الحياة، على رعاية هذه الأصول الدقيقة. وإن كانت الطبقات المأكولة، فى الشرق الإسلامى، هى وحدها التى تستمع فى المساجد للوعظ العام فى الحلال والحرام! فإذا أطاعت ماسمعت نفذته فى دائرة القروش والمليمات. أما الطبقات الآكلة، فلا تبالى ما تفعل وما تترك.! ولعلها تستغرب أن يسألها الدين، عن كل حجر فى تلك القصور المشيدة وعن كل قيراط من هذه الأرضين الزاهرة. أمن حلال هو أم من حرام؟؟. والحق أن هذا التساؤل من صميم الدين. ولا يُعَدُّ المجتمع نقيا نظيفا، إلا إذا فسر تصرفاته المالية كلها، تفسيرا لا خفاء فيه ولا مواربة!. بل إن هذا أقل ما يتصور فى دين يرفض العبادة من شخص يأكل الحرام، ويقول : " أيما لحم نبت من سحت، فالنار أولى به "!!158(1/146)
حرب لا هوادة فيها على كل كسب مريب :
لم يستثن الإسلام بشرا من ضرورة الخضوع لأحكام الحلال والحرام، وتحرى الأرزاق الطيبة فى إقامة المعايش. الخاصة من الأنبياء، والعامة من المؤمنين، موقوفون جميعا عند هذه الحدود التى رسم الله لعباده!. " إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبا "، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) وذكر النبى- صلوات الله عليه وسلامه ـ الرجل ـ من طلاب المال بأية وسيلة ـ يطيل السفر أشعت أغبر، يمد يديه إلى السماء : يارب، يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغٌذى بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟ ". إن جامعى الثروات من الغصب والسرقة والرشوة واستغلال النفوذ، قوم محرومون من عناية السماء، وإن كانت لهم فى الأرض وجاهات. وكثير منهم قد يغطى هذه السيرة الدنيئة، بركعات يؤديها وكلمات طيبة يرددها.! وهيهات، فإن الإسلام يسأل المسلم إذا وقف بين يدى ربه مصليا، عن الأرض التى وقف عليها، وعن الأكل الذى يملأ معدته، وعن اللباس الذى يكسو بدنه. أكل أولئك ـ أولا ـ من حلال أم من حرام؟. فإن كانت سحت، لم تقبل له صلاة.. وفى ذلك يقول الرسول الكريم : " والذى نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام فى جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما ". ويروى عنه كذلك : " أنه من أصاب مالا من حرام، فلبس منه جلبابا لم تقبل صلاته، حتى ينحى ذلك الجلباب عنه إن الله أكرم وأجل من أن يقبل عمل رجل أو صلاته، وعليه جلباب من حرام ".159(1/147)
فكيف إذا أحاطت سوأته ألفاف موشاة، نسجت خيوطها من أرزاق الكادحين، وحقوق المحرومين؟. وكيف إذا لم يملأ جوفه من حرام فحسب بل اكتنز وادخر، ما يكفى لملء بطنه ألف ألف مرة؟. إن استفتاء الإسلام فى هذا، ليس بالشىء الذى يتطلب البحث فى المجلدات، واستقراء الصحيح والضعيف، من الأخبار والروايات. *** لقد طالبتْ بعض الهيئات السياسية والدينية "كرابطة المستقلين " وحزب "مصر الفتاة" وجماعة " الإخوان المسلمين " بتقييد الملكيات، واقترحت للثروة الزراعية حدا أعلى من الأفدنة، على أن يؤخذ ما زاد، بثمن تدفعه الدولة على آجال بعيدة المدى، ثم يوزع على العمال وصغار الملاك. ونحن ندع للراشدين من ساسة الأمة، رسم الحدود العليا والدنيا للأملاك كما ندع لهم تقدير الثمن الذى يرونه لما زاد فيها. وغاية ما نلفت النظر إليه أن للإسلام حكمه الحاسم فى الأساليب التى كونت بها إقطاعيات من الوزراء والموظفين على أموالهم، كيف جمعوها؟. وقيل : إن الأثر الرجعى لهذا القانون، سيمتد عشر سنين إلى الوراء فإن كان القانون المدنى قد قرر مطاردة الجريمة والمجرمين، فى حدود ضيقة من الأعوام والأشخاص! فلا يجوز أن ننسى أن القانون الإلهى فى حسابه الشامل، يمد الأعوام قرونا، ولا يأخذ مجرما ويترك آخر. ولن يُعجزنا التنفيذ العملى لهذا التشريع العادل الرحيم.. إن أردنا التنفيذ !!
مصادرة تامة.. لحساب الفقراء :
ونثبت هنا رأى الإمام الغزالى فى الكسب الحرام ـ إذا تناقله الورثة ـ وكيف يتلخص منه شرعا؟ قال رضى الله عنه :160(1/148)
" مسألة : من ورث مالا، لم يدر أن مورثه من أين اكتسبه.. أمن حلال أم من حرام ـ ولم يكن ثمة علامة ـ فهو حلال باتفاق العلماء.. وإن علم أن فيه حراما، وشك فى قدره أخرج مقدار الحرام بالتحرى.. وإن علم أن بعض ماله كان من الظلم، فيلزمه إخراج ذلك القدر بالاجتهاد. وقال بعض العلماء : لا يلزمه والإثم على المورث!.. وكيف يكون موت الرجل مبيحا للحرام المتيقن المختلط؟. ومن أين يؤخذ هذا؟. فإذا أخرج الحرام فله ثلاث أحوال : إما أن يكون له مالك معين، فيجب الصرف إليه، أو إلى وارثه. وإن كان غائبا ينتظر حضوره. وإن كان للمال زيادة منفعة، تجمع فوائده إلى وقت حضوره!. وإما أن يكون لمالك غير معين، وقع اليأس من الوقوف على عينه. فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك. وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك ـ كغلول الغنيمة بعد تفرق الغزاة ـ فهذا ينبغى أن يتصدق به. وأما المال ـ الموروث ظلما ـ من الفىء ومصالح المسلمين، فيصرف إلى القناطر والمساجد.. الخ، التى يشترك فيها المسلمون، ليكون نفعه بينهم عاما. وينبغى أن يتولى ذلك القاضى، فيسلم إليه المال. فإن قيل : كيف يجوز التصدق بما هو حرام ـ والصدقة لا تصح إلا من كسب طيب؟!. فنقول : نعم، وإنما اخترنا خلافه، لأن الرسول أمر بالتصدق بالشاة المصلية التى قدمت له، لما علم أنها من حرام. ولأن الحسن سئل عن توبة الغال، فقال : يتصدق بما أخذ. ثم إن هذا المال بين أن يبقى مع صاحبه المزعوم، وبين أن يصرف فى وجوه الخير، إذ قد وقع اليأس من مالكه الحق. وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى ". انتهى كلامه ملخصا.161(1/149)
ويلاحظ على هذه الفتوى أنها ناسبت عصرها. أما اليوم، فالدولة مسئولة عن رفع اليد الظالمة، ورصد المال كله لمصالح الأمة جمعاء. فالوراثة فرع التملك، والسرقة لا تنقل ملكا. * * * ترى هل نشهد اليوم الذى تسود فيه العدالة؟ وينزل الناس ـ جميعا ـ حكاما ومحكومين ـ على حكم الدين؟. فلا يضيع على أحد حق، ولا يغتصب أحد حق غيره. ثم يترك له على مر الأيام؟
عالم فذ.. وفتوى رائعة :
حكوا أن لصا عدا على بيت ليسرقه، فبينما هو يتحين الفرص لانتهاب ما يستطيعه، سمع أصواتا مقبلة عليه، تكاد تفضح خبيئته. وإذا اللص الداهية، يصطنع لهجة رب البيت، ويصيح فى صوت حذر : من هناك؟!. وهذا الذى يتندر به الظرفاء من حوادث اللصوص، مثلته أصدق تمثيل الرأسمالية الجشعة، التى سرقت حقوق الفقراء، وغصبت أموال الشعوب، وطمست معالم الدين.! فلما تيقظ أصحاب الحق وحراس الحقيقة، وأحسوا بدبيبها وهى تفعل فعلتها، صاحت بهم ـ قبل أن يصيحوا بها ـ وقالت قولة ذلك اللص الأريب : من هناك؟!. بل إنها أوغلت أبعد من ذلك فى تمثيل روايتها، فذهبت إلى قضاة الإسلام تقول لهم : خذوا شفرتكم، واستعدوا لإقامة حد الله، وقطع يد السارق الذى ضبط متلبسا بجريمته..!!. ومن الغريب أن بعض علماء الإسلام. وقع فى الفخ الهازل، وانطلقت عليه الحيلة الماكرة، وحسب السارق مسروقا. فأخذ يعطف عليه، ويقول له ما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "... من قتل دون ماله فهو شهيد".162(1/150)
ثم حسب المسروق سارقا، فذهب يلعنه ويتوعده وينال منه.. لكن الراسخين فى العلم من رجالات الإسلام، أصدق فقها، وأحد نظرا، وأبصر بأحكام الإسلام، وأقدر على تطبيقها، من أن ينخدعوا بباطل أو يجوز عليهم تلبيس الماكرين. ومن هؤلاء العلماء الأجلة، الشيخ الإمام " محيى الدين النووى " رضى الله عنه وإليك الواقعة التى أفتى فيها، فأصاب الحق الذى تنزلت به آيات الله، من فوق سبع سموات. لما خرج " الظاهر بيبرس " إلى قتال التتار بالشام، أخذ فتاوى العلماء، بأنه يجوز له أخذ مال الرعية، لينتصر به على قتال العدو فكتب له فقهاء الشام بذلك. فقال : هل بقى أحد؟ فقيل : نعم، بقى الشيخ " محيى الدين النووى "، فطلبه فحضر فقال له : اكتب خطك وإمضاءك مع الفقهاء.. فامتنع!! فقال : ما سبب امتناعك؟ فقال الشيخ " محيى الدين " : أنا أعرف أنك كنت فى الرق للأمير "بندقدار" وليس لك مال ثم من الله عليك، وجعلك ملكا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصته من الذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حُق من الحلى. فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبنود الصوف، بدلا من الحوائص.. ـ بالملابس المجردة بدلا من الأوشحة الموشاة ـ وبقيت الجوارى بثيابهن دون الحلى. أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر بيبرس من كلامه، وقال ل :ه اخرج من بلدى دمشق. فقال : السمع والطاعة وخرج إلى " نوى". فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى دمشق. فأذن الظاهر بيبرس برجوعه. ولكن المفتى الكبير رفض العودة قائلا : لا أدخلها و " الظاهر بيبرس " بها.. فمات " الظاهر " بعد شهر. ***163(1/151)
هذه الفتوى الدقيقة فى فهمها لروح الإسلام ونصوصه، الجريئة فى طريقة إعلانها وأسلوب توجيهها، تعد فخزا لعلماء الإسلام لا ريب فيه. كما تعد كشفا حاسما للنزعة الاشتراكية، التى ينطوى عليها ديننا، والتى يستهدفها الاقتصاد العالمى فى العصر الحديث. مع أن القصة السالفة جرت ـ كما ترى ـ فى القرون الوسطى. ذلك حاكم عظيم انتصب لمحاربة الهمجية الجارفة، التى أشاعها التتار فى الأرض، والتى أصاب الإسلام ـ نفسه ـ منها بلاء كبير وشر مستطير طوى لواء الدولة العباسية الكبرى فى بغداد، ثم هو يوشك أن يطوى أعلام الإسلام المرفوعة فى بقية عواصمه، د مشق، و القاهرة، وغيرهما. ويريد هذا الحاكم ـ باسم الإسلام ـ وفى سبيل هذه الغاية النبيلة، أن يستولى على ما يشاء من أموال، وأن يصادر ما يريد من ثروات. فيتصدى له عالم باسم الإسلام ولوجه الله، ويقول : على رسلك، لا تلبس الحق بالباطل. نح مظاهر الترف من حولك، حتى إذا استنفدت ما يتمتع به الأغنياء من الكماليات النافلة، عُدت على جمهور الشعب، فصادرت ما عنده من ضرورات لازمة. ويوم تفعل ذلك، يعطيك الشعب قوته قرير العين، كما أعطاك دمه رضى النفس. أما الافتيات على أموال الفقراء القليلة، وترك الناعمين والمترفين يأكلون كما تأكل الأنعام، فذلك ما لا يرضى به الإسلام!. إن الفتوى حسن تطبيق، قبل أن تكون حفظ نصوص. وما أتيت الديانات إلا من حافظ غير حاذق، حفظ شيئا وغابت عنه أشياء!. وهذا الصنف من العلماء الأمجاد، أمثال "محيى الدين النووى"، يقطع كل لسان يزعم أن الدين مخدر للشعوب ـ كما يزعم الشيوعيون ـ. ويقطع ـ كذلك ـ الطريق على كل محاولة دنيئة، لاستغلال الشعوب باسم الدين، وتسخيرها فى مطامع الحكام المستبدين.164(1/152)
على أننا لا ننفى وجود طوائف من رجال الدين، ألصقت بالدين، تهما شتى، وعرضته لهوان ما كان ينبغى له. منهم من تكلم باسم الدين ـ كلاما مغلوطا، لأنه آخر ما وصل إليه تفكيره القاصر. ومنهم من عرفوا الحق وخافوا عواقب الجهر به، أو أخفوه بثمن من عرض الدنيا، وبهجة الحياة. وقد حمل القرآن الكريم على هذا الصنف من العلماء حملة شعواء : (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة...) وسر هذه القسوة فى عقاب هؤلاء الناكلين عن إبلاغ رسالات الله، أنهم جروا على الدين مطاعن، غام منها مستقبله. وكان حرصهم على منافعهم الخاصة، سببا فى كفر جماهير غفيرة برسالات السماء كلها. يقول "دالن " فى كتابه " روسيا السوفيتية " : " من الأسئلة التى لا بد أن تخطر على بال الباحث فى، روسيا " : كيف حال الدين فيها؟. والجواب الذى لا مرية فيه، أن موقف " روسيا " من الدين، هو موقف متقلب بين الرفض والقبول، وبين الإذن والمنع. ولم يبلغ قبول " روسيا " للدين ولا الإذن له، أن يكون حد العطف أبدا. أما السبب، فنجده فى تاريخ ما قبل الثورة. فالكنيسة المسيحية فى " روسيا " لم تكن مسيحية. كان فيها الجهل، وكان فيها العنف، وكان فيها الخبث والظلم، وكانت عدو الجديد، وعقبة التقدم ونصيرة الرجعية.165(1/153)
وكانت ـ إلى ذلك ـ أداة سياسية فى يد القيصر وأعوانه، يديرونها فى مكافحة طلاب التحرر. من أجل هذا وقف رجال الثورة من الكنيسة الروسية، وبالتبع من الدين، موقفهم من قيصر. فكفروا بالدين، كما كفروا بقيصر! وعادوا الدين كما عادوا قيصر.! فلم يكن (ماركس) ذا الدين، ولم يكن (تروتسكى) ولا (لينين). ولو أنهم آمنوا جانب الدين وقساوسته من بعد الثورة، ما أبهوا له، ولا احتفلوا به. ولكنهم كانوا يخشون أن تتحول الكنائس إلى أوكار، تعشش فيها مبادئ الرجعية ". ***** وهكذا كانت ثمرات عكوف القساوسة على إجابة أهواء القيصر، وفراغ أفئدتهم من الإيمان العارم، الذى أنطق " النووى " بما قرأت له آنفا، خدمة للدين، وخدمة للشعب. كانت.. أن كفر مئات الملايين بالدين ونبذوه وراء ظهورهم، وأصبحت الأديان جميعا ـ لا المسيحية وحدها ـ تعانى أزمة قاسية. فإن الكفر كالوباء الخبيث، عدوى لا تقف عند حد. ولاشك أن الإسلام يظلم إذا قيس بغيره. وطبقات المثقفين الذين لا يكترثون كثيرا لحقائق الأديان، يغمطون الإسلام حقه، إذا حسبوا تعاليم الإسلام حكرا على حفنة من رجال الكهنوت يتحكمون فى فهمها، ويضعونها فى خدمة الحاكمين. بيد أن موجة الإلحاد لم تلبث حدتها أن انكسرت، وأعقب مدها جزر. فإن النفوس لم تطبع على الزيغ والكفران، بل على العكس. لقد فطرت على محبة الله والحنين إلى معرفته. والنزول على أوامره. والذى حدث فى " روسيا " نفسها ـ على ضآلة حقيقته ـ يشير إلى ذلك. فقد قال " دالن " فى مؤلفه السابق : ".. ثم جاءت الحرب، فكان لابد من تغيير السياسة نحو الدين.166(1/154)
إن الناس على الحياة، وعلى الصحة، وعلى الأمل فى العمر الطويل، قد تحتمل الكفران، وتحتمل فراغ القلب من إيمان. أما والموت على الأبواب فلن تشجع على اقتحامه قلوب خربة. وأحصت الحكومة كم من السكان طل يتعلق بدين!. فوجدت أن المدن لايزال ثلثها من المؤمنين، وأن الإيمان فى القرى شمل الثلثين، فكان لابد للحكومة أن تنحنى ". ويظهر أن الدافع المباشر للعودة إلى الدين ـ إذا صحت ـ اعتباره ضرورة أخروية!. وهذا شىء ـ فى نظرى ـ لا يفيد الدين ولا يشرفه. إذ ما معنى ألا نعرف الدين، إلا وأقدامنا على أبواب الموت؟. إن الدين ضرورة اجتماعية، والاعتراف بذلك لابد منه. والناس يريدون أن يؤمنوا، ويريدون ـ إلى جانب ذلك ـ أن ينالوا فى ظل الدين حظوظهم من العدالة الاجتماعية الواجبة. أما تخييرهم بين قبول الظلم من يد الدين، أو قبول العدل من يد الإلحاد. فهذا أقبح ما يواجه الإنسانية من قسمة جائرة، بل هو إكراه للناس على الكفر بالدنيا والآخرة.! وهل وضع هذا التقسيم إلا كل مناع للخير معتد أثيم؟!.
و أخيرا :
يسرنا أن نثبت فى كتابنا هذا بحثا قيما نشرته مجلة الأزهر للأستاذ الكبير الشيخ " محمد عرفة " عضو جماعة كبار العلماء... والبحث المذكور هو تدعيم فقهى موفق للفكرة التى انتصرنا لها من قديم، والتى لمس القارئ دفاعنا الحار عنها. وقد أعلن الكاتب الجليل رأيه هذا، بعد أن نجح الجيش المصرى فى طرد الملك "فاروق " من البلاد، وشرع يقسم أملاكه وأملاك أشباهه من أصحاب الثروات الزراعية الكبرى. وقد كان هذا البحث العلمى، بعيد الأثر فى دوائر المتاجرين بالفقه الإسلامى.167(1/155)
أولئك الذين خرسوا، والمظالم الفادحة تحز فى الأعناق، وتركوا الملوك السرقة، والملاك المتخوضين فى مال الله بغير حق يفعلون ما يحلو لهم بغير نكير..! فلما انفجرت الثورة، وبدأ توزيع الأملاك، أخذوا يتهامسون فيما بينهم إن هذا بعيد عن الإسلام! كأن الأوضاع الأولى قامت، وبها ذرة مما يوافق الإسلام!!
تحديد الملكية فى الإسلام :
" لقد تغيرت أوضاع، وتبدلت نظم، وسنت قوانين فى هذا العهد الجديد. ومن القوانين التى سنت، قانون تحديد الملكية الزراعية. والناس يتساءلون عن رأى الفقه الإسلامى فيه. وهل فى ذلك شىء، سلف عن الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين؟. ونحن سنبين أن الإسلام يمنع التفاوت الكثير فى تملك الأرض و يحرص على ألا تتجمع الأرض فى جانب من الأمة، يكون فيه الغنى والعزة والقوة، وتحرمها الجوانب الأخرى، فيكون فيها الفقر والعجز والضعف.!! وما وقع فى مصر إلى الآن من الملكيات الكبيرة، حتى صار رجل واحد يملك آلاف الأفدنة، وعنده من عبيد الأرض مثل هذا العدد، يزرعونها ويؤدون له غلاتها لم يكن بإذن الإسلام، وعلى الرغم من تعاليمه وقع. سوء توزيع الأرضين مما يمقته الإسلام، وهو يقى الأمة إياه قبل أن يقع، لأن الوقاية خير من العلاج، ويعالجه إذا وقع لأنه يحسم استمرار الفساد. وقد عالجه الإسلام قديما، بمثل ما عالجته الدولة اليوم، فالتاريخ يعيد نفسه. قد يستغرب السامع هذا الذى أقوله، من أن الإسلام نزع بعض الأرضين من أيدى مالكيها، بعد أن رآها تتجمع فى جانب من الأمة، وتصفر منها جوانب أخرى!. ومن أنه منع ذلك قبل أن يقع، ولكن الغرابة ستزول عندما نورد من الآثار ما يدل على ذلك. روى عن " يزيد بن أبى حبيب " أن عمر كتب إلى " سعد بن أبى وقاص "، رضى الله عنهما. يوم افتتح العراق : "أما بعد فقد بلغنى كتابك، أن الناس قد168(1/156)
سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك فى العسكر من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك فى أعطيات المسلمين، فإنا لو قسمناها بين من حضر، لم يكن لمن بعدهم شىء ". علم من قواعد الإسلام ومن عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أن ما غنمه المسلمون من مال وأرض، يقسم أربعة أخماسه على المجاهدين، وقد قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة أخماس أرض خيبر على المجاهدين. فلما فتح المسلمون العراق بقيادة، سعد بن أبى وقاص "، سأل المقاتلون "سعدا " نصيبهم فى الأرض وطلبوا أربعة أخماسها فمنعه " عمر "، وقال : أما ما غنموه من منقول فاقسمه بينهم، وأما الأرض والأنهار فلا تقسمها، واتركها بأيدى عمالها ليزرعوها، ويؤدوا خراجا يقسم على المسلمين. وعلل عمر ذلك : بأنه لو قسمها بين من حضر، لم يكن لمن بعدهم شىء، فجعلها باقية على حالها، يملكها المسلمون جميعا. وقسم خراجها بين المسلمين، مخافة أن يحوزها المقاتلون، فلا يبقى شىء لمن يأتى بعدهم من المسلمين. فأنت تراه قد منع من تكدس الأرض فى جانب من المسلمين، وإخلاء الجانب الأخر منها قبل أن يقع. وورد هذا المعنى فى حديث آخر عن إبراهيم التميمى، قال : " لما افتتح المسلمون السواد، قالوا لعمر : قسمه بيننا فإنا افتتحناه عنوة، قال : فأبى. وقال : فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم فى المياه.169(1/157)
قال : فأقر أهل السواد فى أرضيهم، وضرب على رءوسهم الجزية وعلى أراضيهم " الطسق " أى الخراج، ولم يقسم بينهم ". ولم يكن ذلك بأرض السواد بالعراق فحسب، بل وقع مثله فى أرض مصر نفسها. " حدث سفيان بن وهب الخولانى. قال : لما افتتحت مصر بغير عهد، قام الزبير. فقال : يا عمرو بن العاص اقسمها، فقال عمرو : لا أقسمها. فقال الزبير : لتقسمنها كما قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيبر. فقال عمرو : لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى " عمر "، فكتب إليه عمر : أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة. قال أبو عبيد القاسم بن سلام، الذى روى هذا الحديث، فى كتابه الأموال : " أراه أراد أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين، ما تناسلوا يرثه قرن عن قرن، فتكون قوة لهم على عدوهم " . فهذه روايات متضافرة على معنى واحد، وهو أن " عمر " منع المقاتلة، ما كانوا يرونه حقا لهم بمقتضى الكتاب وعمل الرسول، من قسمة أربعة أخماسها عليهم.. لئلا يحوزها الحاضرون، ولا يبقى منها شىء لمن يأتى بعدهم. ولم ينفرد بذلك عمر، بل روى مثله عن " على " و " معاذ بن جبل ". " روى عن عبد الله بن قيس الهمدانى، قال : قدم عمر الجابية، فأراد قسمة الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ : والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم فى أيدى القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يآتى من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم " . وأشار بمثل ذلك " على"، حين استشاره " عمر ". فهؤلاء النفر من جلة الصحابة : "عمر"، و "على"، و" معاذ بن جبل "، اتفقوا على منع المقاتلة عن قسمة الأرض بينهم، رعاية لمصلحة بقية المسلمين. لئلا يحوزها المقاتلة ولا يبقى شىء لمن يجىء بعدهم.170(1/158)
وقد وافقهم الصحابة، وجرى العمل عليه فى أيام " عمر " والخلفاء من بعده.. فقد منعوا التفاوت الشديد فى امتلاك الأرض، قبل أن يقع. وأما أنه عالجه بعد أن وقع، فقد ورد عن " قيس بن أبى حازم" قال : " كانت بجيلة (وهى قبيلة من المسلمين) رُبْع الناس يوم القادسية، فجعل لهم "عمر " ربع السواد، فأخذوه سنتين أو ثلاثا. فوفد "عمار بن ياسر " إلى " عمر " ومعه "جرير بن عبد الله البجلى "، فقال عمر لجرير : يا جرير، لولا أنى قاسم مسئول، لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا، فأرى أن ترده عليهم. ففعل جرير ذلك، فأجازه " عمر " بثمانين دينارا ". ***** وورد أن امرأة من بجيلة يقال لها : أم كرز، قالت لعمر : " يا أمير المؤمنين إن أبى هلك، وسهمه ثابت فى السواد، وإنى لم أسلم. فقال لها : يا أم كرز، إن قومك قد صنعوا ما قد علمت ـ أى من تسليم الأرض ـ قالت : إن كانوا قد صنعوا ما صنعوا فإنى لست أسلم حتى تحملنى على ناقة ذلول، عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفى ذهبا. ففعل عمر ذلك، فكانت الدنانير نحوا من ثمانين دينارا ". وحادثة قبيلة بجيلة، تشبه ذلك القانون الذى أصدرته الدولة، بتحديد الملكية الزراعية، فهما يجتمعان، فى أنهما أخذا الأرض ممن كانت تحت أيديهم بعوض يؤدى لهم، نظرا لمصلحة المجتمع. فقد قال عمر : لولا أنى قاسم مسئول لكنتم على ما جعل لكم، وأرى الناس قد كثروا فأرى أن ترده عليهم، مع شىء من الفوارق : * منها أن عمر نزع الأرض كلها. والقانون ما زاد على مائتى فدان، وأبقى له مائتين، وهذا الفرق لا يؤثر، لأنه إذا جاز أن تنزع الأرض كلها ممن هى بيده، فلأن يجوز أن ينزع بعضها ويبقى بعضها من باب أولى.171(1/159)
* ومنها أن " عمر " جعلها وقفا على المسلمين، يزرعها من يزرعها على خراج يؤديه، يصرف على المسلمين. أما القانون فقد ملكها لغيرهم من الفقراء. * ومنها أن " عمر " فعل ذلك والعهد قريب، والتراحم والإيثار بين المسلمين، وهذا يجعل مهمته سهلة. أما القانون فيفعل ذلك وقد بعد العهد، وفنى عليه الكبير ونشأ عليه الصغير، وقد تغيرت نظرة المسلمين بعضهم لبعض، فصارت نظرة استغلال، لا نظرة أخوة وتعاون، وهذا ما يجعل المهمة شاقة. ولعل فى هذا التدريج الذى جعل تنفيذه على خمس سنوات ما يخفف من وقعه. ولعله إذا فهم الإقطاعيون أن هذه الكظة كانت تضر بهم ولا تنفعهم، وكانت تحرم كثيرا من إخوانهم ما خلقه الله لهم، خف وقعه و زال ألمه. تأملوا فى هذه الوقائع التى تتعلق بالأرض، تتبينوا المبادئ الإسلامية من خلالها، تلك المبادئ التى كرست فى نفوس المسلمين الأولين، وظهرت منهم أعمالا حكيمة وقضايا عادلة. يرى الإسلام أن المجتمع الإسلامى كأسرة واحدة، وليس من العدل أن يختص بعض الأسرة بالأرض، ويحرم الباقون. وقد فهم ذلك "عمر"، بل إنه لم ينظر لمن حضر فقط، بل نظر للحاضر ولمن تلده الأرحام. انظر إليه حين يقول : فما لمن يأتى بعد؟ كره أن يحوز الأرض المقاتلة الذين بذلوا دماءهم وأموالهم فى الجهاد، حتى دانت لهم الأرض، فيولد من يولد، ويدخل فى الإسلام من يدخل، فيجد الأرض قد حازها من حازها، ولا يجد ما يملكه. ماذا يكون حكم " عمر " حين يجد قوما لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، إنما ملكوها إقطاعا غير شرعى، أو ورثوها عمن ملكها كذلك، وحازوها ومنعوها عن بقية المسلمين، وقد أساءوا التصرف فيها، فلم يراعوا حق الله، ولا حق الفقراء فى هذه الأموال!.172(1/160)
وقد بقى أن يقال : كيف يخالف "عمر" عمل رسول الله فى "خيبر" من قسمة الأرض أخماسا، وجعل الخمس لله وللرسول والفقراء، وأربعة أخماسها فى المقاتلة، ويذهب إلى حرمانهم، وجعلها ملكا للأمة، يزرعها من يزرعها على خراج يؤدى، ينفق منه على المسلمين؟! قلنا : ذلك فى وجو :ه * منها أن " عمر" ربما علم أن ما فعله الرسول، كان على التخيير لا على طريق ا لإلزام. * ومنها أن " عمر " تأول آية الفىء على ما ذهب إليه، وهى قول :ه (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رء وف رحيم). وقد قال ـ حين ذكر الأموال وأصنافها، والآيات الدالة عليها ـ : " استوعبت هذه الآية الناس ". ولعل " عمر " ذهب إلى المصلحة المرسلة، ورفع الضرر، وقد علل بذلك فيما روينا عنه. ورحم الله " عمر بن الخطاب "، فقد كان يعرف الأغراض العظمى للإسلام، ويحافظ عليها، وقد كان يعلم أن الشريعة عدل وإنصاف، فحيث وجد العدل والإنصاف، فثم شرع الله.173(1/161)
* وربما رأى فى النص والحادثة، تقييدا بالزمان والمصلحة وما لا بسها من حوادث، وكان يراعى المصلحة، ورفع الضرر عن الأمة. ولا أعلم ضررا أبلغ من التفاوت الكثير فى الملكية الزراعية. وبحسبنا أن ننظر إلى آثاره السيئة عندنا، فقد جعل فى الأمة طبقتين : طبقة أصحاب الأرض المالكين، وفيهم الغنى والقوة، وفيهم ما ينتجه الغنى من الترف والكبر والأشر والبطر والاستعلاء وكمط الناس. وطبقة الفلاحين، وهم الكثرة الكاثرة من الأمة، وفيهم الفقر والحاجة. وتتبعه أثاره من الجهل والمرض والذلة، والضعة والمهانة والاستخذاء وخلق العبيد، من الجبن والخور والصفار. ومثل هؤلاء لا يأبون الضيم، ولا يحمون الذمار، ولا يدفعون العار!. وإنما تولدت فيهم هذه الرذائل وما يتبعها، لأنهم يرون أن رزقهم وحياتهم، وعزهم وذلهم، بيد صاحب الأرض.. إن شاء أبقاهم وإن شاء أخرجهم، فرمى بهم إلى الطرقات حيث الجوع والعرى والموت، فيبذلون له ويخضعون. وهذه النفوس المريضة لا ينفع فيها علاج، لأنه كلما رفع المربون والعلماء من نفوسهم، وراضوهم على العزة، طغى على ذلك كله ما هم فيه من حالة اجتماعية فاسدة، ومن وضع يجعلهم محتاجين لمخلوق مثلهم. وماذا تنفع العظات والعبر، إذا كانت تبنى، والواقع يهدم، وإذا كانت تدعو إلى العزة، وواقع الحياة يدعو للذلة؟!. أما الآن، فإننا نأمل أن يصلح الله بتحديد الملكية الحالة الاجتماعية، وأن يحقق الله به كثيرا من العدل فى الجماعة، وأن يرفع مستوى المعيشة لكثير من الفلاحين، فيتعلموا بعد جهل، ويصحوا بعد مرض، ويأمنوا بعد خوف، وأن يشعروا بالعزة والقوة والحرية، وأن تربى فيهم أخلاق الأحرار من الغضب للحق، والإباء للظلم، والكراهية للاستعباد. فإذا استنصروا نصروا، وإذا استنفروا نفروا، وإذا أتاهم عدو مغير طاروا إليه زرافات ووحدانا ". ا. هـ.(1/162)
الفصل السادس :دروس من السماء:
قصة أمة :
إنها أمة واهنة القوى، ساقطة المستوى، كهذه الأمم المبعثرة فى ربوع الشرق، الباقية على خريطة العالم القديم، كأنها أطلال دارسة، لحضارات طال عليها الأمد، وانقطع بها الزمن، وأدبرت عنها الحياة. فهى ـ فى شيخوختها العاثرة ـ تذكر ماضيها فترجو، ويلحقها حاضرها فتكبو. إنها بين اليأس والأمل، وبين الحياة والموت، وبين رغبتها فى العيش الكريم، وتعثرها فى الأخذ بأسبابه. تواجه الدنيا بأمانيها، ويواجهها القدر بدروسه، وتنزل إلى ميدان الحياة برغائبها المجردة، فيفاجئها الميدان بعقباته المعترضة، ومتاهاته المحيرة. وقد وصلت ـ أخيرا ـ إلى ما تبغى، ولكن مثل ما يصل الفتى الغر إلى تحقيق أحلامه، بعد سنوات طويلات تترك تجاعيدها على جبينه. وبعد أحداث قاهرات تدع ندوبها فى فؤاده، وكفاح موصول المرارة والتجهم والمصابرة، لم يزل به حتى يغير منه كل شىء. فكأن الذى وصل إلى أخر الطريق، شخص آخر، غير الذى بدأ مراحله، ووقف على أوائله لا يعرف ما يكون، ولا يدرى ما يخبأ له.
هذه الأمم تموت حتما :
الأمة التى تقبل الخنوع وتعطى الدنية من نفسها، لن تحرم من مكان تعيش فيه، فإن سادة العالم لن يرفضوا الاستكثار من الخدم والأتباع. ولا ضير على الواحد منهم، إن سخر مستعمرة واسعة الرقعة، ليعيش ما فيها من حيوان، وما فيها من إنسان، سواسية فى العمل له والفناء فيه. بيد أن الشعوب الخادمة لغيرها، ليست إلا شعوبا ماتت فيها المواهب الإنسانية العليا، وارتكست فيها الملكات الذكية اليقظة.177(1/163)
فهى توصف بالحياة، كما يصف السادة بالحياة كلاب الصيد التى تلهث بين أيديهم، أو أبقار الحرث التى تعمل فى حقولهم!. أما هم ـ من الناحية الإنسانية المحضة ـ فأموات. وكل أمة تنكل عن حمل أعباء الحياة الحرة الأبية، وتنكص عن الإقدام فى ساحات الجهاد والتضحية، وتخشى عواقب المخاطرة والجرأة، فلابد أن تصدر عليها محكمة التاريخ، حكمها بالإعدام. وهكذا بدأ القرآن يقص أنباء هذه الأمة التى فرت من تكاليف الحياة فأدركها الموت! : (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا). فحقت عليهم كلمة العذاب، وماتوا فى الديار التى عجزوا عن الدفاع عنها، كما تموت ـ الآن ـ شعوب كثيرة فى المستعمرات، وفى الأمم المستقلة اسما، والمرتبطة مع قاهريها بمعاهدات!. فلما أراد الله أن يعلم هذه الأمة كيف تحيا، أشعرها أن دون نيل الحياة الكريمة. بذل النفس والنفيس، ودفع الضرائب المفروضة على الدم والمال فقال لهم : (.. قاتلوا في سبيل الله). ثم قال لهم : (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له). وهيهات أن تستطيع الأمم الخوارة، دفع ذلك الثمن الغالى! وكيف تدفعه من نفوس هى بها ـ فى الحق ـ شحيحة؟! ومن أموال هى بها ـ فى الخير ـ ضنينة؟ وبدأ القرآن يفصل حوادث هذه القصة الرائعة. فقال :178(1/164)
(ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين). لِمَ تموت الأمم : ومن هذه الآية، تعرف مجموعة من أحوال الشعوب المستضعفة، فهى تعرف المجد والحرية والاستقلال، ولكن كتابة تملأ الصحف، وهتافا يزحم الجو ومظاهرات تسيل بها الميادين، وأكفا يعييها التصفيق. فإذا جد الجد وكشف الأمر عن ساق ، وتلفت الوطن، يطلب الحماة الذين يغسلون عنه العار، لم يجد أحدا من هذه الجموع الحاشدة، الجموع التى تفر وهى تصيح : "يحيا الثبات على المبدأ ". وقد كان زعيم هذه الأمة خبيرا بشئونها. فلما تجمهروا حوله، وغلبتهم فورة الحماسة فصاحوا : نريد القتال، الويل للغاصبين!. قال لهم ـ فى تثبت المرتاب، ولهجة الحائر ـ : ".. هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟.. ". فازدادت هتافاتهم حدة، ولوحت أيديهم تهديدا : سندافع عن بلادنا إلى آخر رمق فإما استقلال تام، وإما موت زؤام : " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " فلما حانت الساعة الفاصلة، ودق النفير العام، لم تر ساحة الجهاد إلا علما ينشره النسيم ويطويه، على حفنة من الرجال!. هم بقايا الجماهير التى طلبت بالأمس الجهاد، ثم صفرت منهم اليوم ميادينه. (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) سماهم القرآن ظالمين مع أنهم مظلومون، فكيف جازت هذه التسمية؟.179(1/165)
إن الظلم نوعان : ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره. وكثيرا ما يكون النوع الأول، عاملا ممهدا لوقوع النوع الثانى. فالذى يقبل الذل والانحناء، يغرى الآخرين بالبغى والاعتداء!. وقلما يقع العدوان على ذى أنفة وحمية، فإن الباغى يعرف أن خسائره من وراء ذلك العدوان، أضعاف أرباحه، إن كان هناك ربح يجتنى فى مثل هذه المعركة. وقلما تتحرك الجيوش للهجوم، إلا على أمة يرجى منها أن تسلم وتلين، ولذلك كثرت حروب الاستعمار فى الشرق وحده، وصدق القائل : أنصفت مظلوما فأنصف ظالما فى ذلة المظلوم عذر الظالم! من يرض عدوانا عليه يضيره شر من العادى عليه الغاشم وسواء كان شرا منه أو دونه فهو ظالم لنفسه. وسياق الآية هنا يؤكد هذا المعنى، ويحفل الأم النائمة على المظالم أوزار ما تقاسى وتعانى.
زعماء بملك النصاب :
وجرثومة الذل كجرثومة الوباء، تنتشر عدواها انتشار النار فى الهشيم، حتى تخامر كل شىء. فمظالم الاحتلال الخارجى، تسندها مظاهر الانقسام الداخلى. وهذا الانقسام يتورع الأمة طبقات متنافرة، يعلو بعضها بالجاه، ويهبط بعضها بالفقر، وعندما يكون للرجل قوة ألف ثور يملكها، وألف حصان يركبها، وألف فدان يستغلها، فقد ترشح للزعامة، وكان حقا أن تعنو له الجباه، وأن يشار إليه بالبنان!!. وساد هذا التفكير المريض فى الأمة المستضعفة. فجاء سراتها يقولون للرجل الذى ساقته العناية لإنقاذهم : لقد عزمنا على الجهاد من أجل حريتنا المفقودة، فاختر لنا القائد الذى يلم شملنا، ويركز قوتنا، ويكسر بنا عدونا!.180(1/166)
فقال لهم الرجل الملهم : ما دمتم قد صدقتم العزم، فقد سنحت لكم الفرصة، وقد هيأت لكم الأقدار أكفأ رجل يحقق لكم أهدافكم، واشرأبت الأعناق لترى القائد الكبير، فإذا بهم يرون " طالوت "! ومن " طالوت " هذا؟ لقد عرفوه رجلا لا يملك من حطام الدنيا، إلا عقلا ذكيا، وجسما قويا، ويقال : إن له مواهب عالية!. وما قيمة هذه المواهب، إلى جانب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، عند فلان وفلان، ممن يجلون ويقدسون؟!. ورمت أنوفهم أن تخضع لزعيم من أبناء الشعب، وهم الذين طالما مرغت أنوفهم فى التراب، خضوعا للزعماء الأجانب!. وأبى الله إلا أن يكرههم على الحق، وأن يرغمهم على احترام المواهب وحدها : (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) فى ميزان الحقائق يرجع الناس بالكفايات والأعمال، لا بالوجاهات والأموال، وهذا منطق عادل. غير أن دون تطبيقه عوائق كثيرة من طبائع الناس أنفسهم، ومن طبائع الأحوال الاجتماعية التى يعيشون فيها ولذلك قلما يرجع إليه الناس. فإن العيون المجردة يأخذها منظر الهامة والقامة. وقد ينضم الذكاء القليل، إلى مظاهر الوسامة والفخامة، فيجعلك تطرق هيبة، ويجعل من العسير عليك أن تحرك لسانك ببيت الشاعر الجرىء : لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير وهذا البيت الحكيم لم يبلغ "فرعون "، ولعله لو بلغه لاتهم قائله بالنحافة والضعف!. فإن فرعون ـ قبحه الله ـ كفر بموسى، لأن موسى لم يدخل عليه فى زينة الملوك، وأبهة المترفين.181(1/167)
فقال للناس ـ في تبرير اعتزازه بنفسه وتطاوله علي نبيه ـ : "… أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه... ". والمنطق الفرعونى فى مقياس الحقائق يملأ أدمغة الكثيرين حين ينظرون لأنفسهم، وحين ينظرون للناس.! وقد رأيت الكثيرين من فقراء المواهب يشعرون بالسطوة الفارغة، مدفوعين إليها بقوة الدرجات التى يوضعون فيها، والمكاتب التى يجلسون إليها، والتليفونات التى يثرثرون معها، بل بالأطمعة التى يتناولونها. وتلك آفات، تصيب الأمم عند ذهاب ريحها، وانهيار حضارتها. وهذه أمة "طالوت " كانت تريده رجلا صاحب مصرف، يقرض منه بالربا أو يراهن به فى ميدان السباق، شأن اليهود فى تفكيرهم. ويريد الله لهم رجلا صاحب مصرف أخلاق، يهب منه الفضائل للمعدمين، وينفق من أرصدته التى لا تفنى، حتى يسترد النصر للمظلومين. إن الرجولة بجوهرها الحر، لا بقشورها التى تطير مع الريح. فليفهم ذلك الجاهلون.
فى ميدان المعركة :
واستعد القائد اللبيب لمنازلة الاستعمار فى معركة فاصلة، يحرر بها شعبا مسترقا، وينقذ أمة مسروقة. فكيف ينتقى الرجال الذين يخوضون معمعاتها؟. إن القلة النشيطة أفضل لديه من الكثرة العاطلة. وقد عرف طبيعة الأمة التى يحارب من أجلها. إن فيها كثيرين يسرهم الاكتتاب فى الجيش الخارج ليظهروا فى الاستعراضات الفخمة، وليرتدوا الملابس الأنيقة، ويمتطوا الخيول الراقصة.182(1/168)
فإذا التقى الجمعان، كان أكذب الناس عند اللقاء، أوجههم فى ميادين العرض المسالم والمناورات التمثيلية. فهل يأخذ رجاله من هذه الأخلاط الفاشلة؟ كلا!. إذا كيف يتخلص من الأدعياء الذين يضرون، أكثر مما ينفعون؟. إن أحلام الحرية فى ليالى الظلم والأسى، تسهل على الأكثرين. لكن حقائق الحرية فى أوقات الجد والفداء، تصعب إلا على الأقلين. فلابد أن يمتحن من يخرجون معه امتحانا قاسيا، يرد كثرتهم العاطلة قلة عاملة!!. فما إن فصل بهم، وتجاوز حدود الوطن السهل اللين، وتعرضوا معه جميعا لوعثاء الطريق وحرارة الجو، وغبار السفر وجفاف الرحلة الشاقة، حتى أصدر القائد أمره الغريب : سيصادفنا الآن نهر عذب، على كل جندى مخلص أن يستمع إلى أمر القيادة العامة، بعدم الشرب منه. لكن أبناء "الأعيان " الناعمين، الذين اعترضوا أول الأمر على قيادة " طالوت "، وكذلك من على شاكلتهم، ممن حسبوا الحرب رياضة ممتعة وسفرا لذيذا، رفضوا الانصياع لهذا الأمر، وآثروا ترك الجيش وقائد :ه " فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم... ". واستراح " طالوت " إلى هذه النتيجة التى كان يتوقعها، واعتبرها أول تباشير الخير، فقد انفصلت عنه فى هدوء، الصفوف التى كانت ستسلم سيقانها للريح، عند الصدمة الأولى مع الأعداء! فتشيع الهزيمة فى فرق الجيش كله.! غير أن أصحاب " طالوت "، راعهم أن يتضاءل الجيش الجرار إلى هذه القلة الضئيلة. فما عساهم يفعلون مع خصم يفوقهم عدة وعددا؟!. وأبدوا تهيبهم من مواجهة الموقف على هذا الوضع!.183(1/169)
لكن هذه البقية المؤمنة، لم تخل من رجال رسخوا فى الحق، وذهلوا عن كل شىء، إلا نصرته، وافترضوا كل رأى، إلا التراجع بعد هذه الامتحانات المتتابعة. ومات فى دمائهم كل طمع، إلا الأمل فى النصر أو القبر : " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله... ". واسترد الشعب المظلوم حرياته المفقودة، فى ميدان الكفاح وحده، بعدما أفلست وسائل الهتاف والتهريج، فى إفادة أى ربح. فهل من مدكر؟!. *****185
186(1/170)
الفصل السابع :إلى قوارين العصور الحاضرة قصة قارون القديم:
العصاميون والعظاميون سواء :
للغنى والجاه، نشوة تفعل بالرءوس فعل الخمر، عندما تطيش بألباب السكارى، ثم تصور لهم الدنيا أشباحا متراقصة، وحقائق متقطعة، ووقائع لا يمسكها العقل، إلا كما تمسك الماء الغرابيل!. وللأغنياء المتخمين نظرة خاطئة نحو سواد الناس. نظرة تبدأ من القمة التى وضعوا أنفسهم فوقها، وتهبط إلى السفوح التى تزدحم الجماهير عندها. يستوى فى هذه النظرة من ورثوا المجد ومن كسبوه!. كلاهما يقول : ".. إنما أوتيته على علم عندي... ". كما قال " قارون " ردا على قومه، حين حاولوا إيقاظه من نشوته، وإنقاذه من سكرته. العظاميون هؤلاء، ولدوا وولدت معهم الغشاوة الضاربة على عيونهم، لأنهم ـ وهم فى المهد ـ كانت ترمقهم العيون بالإجلال، وتناديهم الأفواه بالتدليل، وتحيط بهم الخدم، كما يحيط السدنة بالصنم!. فأنى لهؤلاء ـ إذا كبروا ـ أن يبصروا الحق ويحترموا الخلق؟!. والعصاميون من هؤلاء، ينبتون من صميم الطبقات الكادحة. فإذا نمت دوحتهم، وعظمت شوكتهم، لم يلبث النسيان الذى أدرك أبانا آدم فأخرجه من الجنة، أن يدركهم الآخرين، فإذا بهم يتنكرون لأصلهم القديم.187(1/171)
ألم تر إلى " نابليون " كيف بدأ فقيرا، ثم تحول إمبراطورا؟!. وكيف ذبح مليونا من الجنود فى معاركه، التى أشعلها لتدعيم مجده الشخصى!.. كم تشقى الشعوب عندما تستبد نشوة الجاه الكاذب بكبرائها... وكم يحتاج هؤلاء المخمورون بكثرة المال، إلى من ينكس رءوسهم، ويقلب أوضاعهم، كى يقيئوا ما بخزائنهم من كنوز، مثلما يحتاج السكير إلى من يقلبه ظهرا لبطن، حتى يُفرغ ما بمعدته من سوائل ونجاسات. فإذا تم ذلك، اعتدلت الرءوس المائلة، وتنبهت الأفكار الغافلة.. وتلك عظة نستخلصها من قصة " قارون " إذ قال الله في :ه (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين)
ضوابط :
وقد تسأل : ما سر النهى عن الفرح؟ ولم يكره الله الفرحين؟!. مع أن بشاشة النعمة تدع الوجوه نضرة، والشفاه مفترة.. طبيعة تلك فى النفوس لا يمكن تغييرها!. والجواب أن هناك نوعا من الفرح الخبيث، أشرب روح البطر، واختلط الشعور به بمشاعر أخرى من التمرد والانطلاق من كل قيد، ودفع أصحابه إلى الاستغراق فى المتع العاجلة. فهم لا يعرفون إلا لذاتهم المجردة، وإلا السعى الدائب لإشباعها!. ويقابل هذا النوع من الفرح البطر، الحزن اليائس الذى يوصد أبواب الضيق على من يصابون فى الحياة بأية كارثة، فيتركهم لا يستطيعون حراكا، ولا ينتظرون فكاكا. ولا ريب أن كلا الأمرين يضير الحياة البشرية، ويشيع فيها الفوضى الاجتماعية، فضلا عن أنه جهالة بقوانين القدر، التى ترجع إليها أمور الناس، فى الأفراح والأحزان جميعا.188(1/172)
ومن ثم ندرك معنى قول الله عز وجل : (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) هذا الفرح الذى تصدر عنه مظاهر الخيلاء والكبرياء، والذى تنبعث منه عوامل الإفساد للبلاد والعباد، هو الذى نُهى عنه " قارون "، ثم وجهت له بعد ذلك النصيحة المترتبة على حسم :ه (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) وثم شىء آخر لا يجوز إغفاله فى تنظيم المجتمع الإنسانى؟ إن تنعيم قوم ليس معناه إشقاء آخرين، وإن تسعير المواهب العليا بإكرام ذويها، لا يستلزم تجويع سائر الطوائف الأخرى، وإهانة بنيها. ولماذا يقع فى وهم الناس أن تكريم شخص مبنى دائما على تحقير شخص آخر. إن الله ـ تبارك وتعالى ـ فاوت بين الناس حقا، فيما آتاهم من ملكات عقلية وقوى أدبية ومادية. وقد أمرنا أن نرعى ذوى الكفايات، وألا ننقصهم أقدارهم. لكنه ضم إلى ذلك، أن الناس جميعا يربطهم نسب واحد، وتقرب بينهم أواصر مشتركة، وأن تجاهل هذه الحقيقة، قطع لما يجب وصله، ولذلك قال : (...ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وعندما حاول " قارون "، أن يستند إلى مواهبه المزعومة، فى تبرير عظمته وتسويغ أبهته، والانتفاخ بماله وجاهه. قال : " قال إنما أوتيته على علم عندي". وليكن ما قاله " قارون " صحيحا، فهل تسعير علمه هذا، وإعطاؤه حقه، لا يكون إلا بالبغى على قومه والاستعلاء فيهم؟ : " أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)189(1/173)
أجل إنهم لا يُسألون عن ذنوبهم، لأن إجابتهم المحتملة حاضرة لدى كل سؤال. وهذا النوع من الجرائم ـ جرائم الكبر والغطرسة والإفساد ـ يستند إلى وجهة نظر ثابتة أبدا عند مقترفيه. إنهم مستكبرون فى أنفسهم، محتقرون لغيرهم، لأنهم فى قمة الحياة وغيرهم فى سهولها. ولأنهم سعدوا فى الدنيا باستحقاق ذاتى موهوب، وغيرهم شقى فيها لأنه أهل لذلك ولما دونه. وَرَدُّ هؤلاء إلى الصواب، لا يكون إلا بالخسف والمسخ والعذاب. ألوان النزعات الاجتماعية :
وفى الأمة التى ظهر بها " قارون "، نجد أخلاطا من الناس، يمتاز كل خليط منها بوضعه وفلسفته وأحواله. وهناك أعوان الظلم، الذين يتملقون أربابه ويعيشون فى ركابه، يعيشون حواشى للجبارين، يزينون لهم المقابح، ويرتكبون معهم الفضائح. وهناك أنصار العدل الاجتماعى، وحماة الوحى الإلهى، الذين يستنكرون المظالم ويجتهدون فى مكافحة الطغيان، ويضعون على طرق الشر معالم الخطر حمراء، ويصيحون " بقارون " وغير :ه (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) وهناك العبيد الذين تسقط القوارع على رءوسهم، فلا يستيقظون، ويتخذ الكبراء من شعورهم حبالا، ومن جلودهم نعالا. وهم ـ مع ذلك ـ بالدون راضون، يحصدهم الموت وهم فى خدمة السادة أبدا، فتتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم. وهناك قوم أمرهم عجب، يقتربون من بعض هذه الطوائف وليسوا منها.190(1/174)
يرون المال فى أيدى غاصبيه من الحرام، فيتمنون لو كان فى جيبوهم الخاوية، ويشتهون أن يقعدوا أمام موائده الحافلة، وأن يشتركوا فى حفلات النعيم التى تقام، وأن يسيروا فى مواكب الجاه التى تزحف، وأن.. غير أن هذا كله خيال مفلسين، فلا الحرمان علمهم العفاف، ولا الحظ استجاب لأمانيهم. وهذا الفريق من الناس ـ إذا كثر ـ كان خطرا على الأمة التى تنكب به لأنه صنف من الفقراء يحسب عليهم، مع أنه لم يمنعه من العدوان والبغى إلا فقدان الوسائل، فالنفس تطمع والأسباب عاجزة. هذا الفريق ـ لما رأى موكب " قارون " خارجا ـ استيقظت فيه أطماعه وتحلب ريقه، ثم جرى بينه وبين الفريق الطيب المصلح، جدال طريف : (فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون) مصرع الطاغية :
إن المحكوم عليه بالشنق، يزداد وزنه قبل أن يلتف الحبل على عنقه، وربما قدمت له أطايب الطعام يزدردها قبل مهلكه. والطغاة الذين يحكم القدر بعقابهم، يزداد ضغطهم على الشعوب المنهوكة، وتتكاثر من حولهم مباهج العيش، وعناصر القوة؟. أفترى هذا دليلا على أن القدر يطوى لهم فى الغيوب صفحات سارة؟. كلا، إنه تسمين الذبيحة للضحية، حتى يقع السكين من جسمها على شحم ولحم… وكذلك أبطأت السماء على " قارون "، ثم قالت كلمتها الحاسمة : (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)191(1/175)
وتذكر الحمقى ممن كانوا يحسدون " قارون "، ويتمنون حظه، فضربوا كفا على كف من العجب، وشعروا بالراحة، لأنهم أفلتوا من مصير فاجع : (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون) إن المال نعمة من الله عليك، إذا سخرته فى إسعاد نفسك، وإسعاد الناس. وإذا كسبته من وجوهه الكريمة، ثم جعلته ذريعة لبلوغ منازل النُبل ومدارج الفضل، ليس فى تطلبه أى حرج، ما دام يؤخذ من منابعه النقية، ليوضع فى حقوقه الزكية : (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) ومن الذى لا يتطلع إليه فى هذه الحال؟!. أريد بسطة عيش أستعين بها على قضاء حقوق للعلا قبلى والجاه الذى يجعلك منيع الجانب، مكين القدم مهيب الحق، نعمة كبرى كذلك. وإنه لمن النوائب المؤذية، أن يكون الرجل قليلا مستضعفا مروعا بين الحين والحين. ولذا امتن الله على المؤمنين الأولين بما وهبهم من نصر وجاه. (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات) ولم يكن عيب " قارون " أن كان رجلا ذا مال وجاه، ولا عيب الذين تمنوا مكانه، أن طلبوا المال والجاه. إنما عيب " قارون " ومن يسيرون سيره أنهم توسلوا بالمال والجاه، للبغى والسطو، وإشقاء العباد وإشاعة الفساد. وهذه جرائم يجب استئصالها، ومصادرة أسبابها. وقد جاء الإسلام، فساق قصة هذا الجبار العنيد، ثم استخلص منها هذه النتيجة التى يقدمها للناس جميعا. (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا . . . )192(1/176)
حوار بين ممثلى الطبقات :
هذه قصة التقى فيها كبرياء الإيمان بكبرياء الطغيان، واصطدم فيها رجلان كلاهما يمثل فكرة خاصة بنى عليها حياته، وأقام عليها وجوده. هذا يعتز بما أوتى من مال وجاه، ويجعل منهما أساسا للعلو فى الأرض والغطرسة على الناس. والآخر يعتد بما أوتى من إيمان وخلق، ويرفض كل سيادة للباطل، تحقر المواهب الإنسانية، وتنكر مقاييس المواهب والكفايات. والقصة يستمع لها المسلمون كل أسبوع، فقد تواضعوا على أن تقرأ فى المساجد، قبيل صلاة الجمعة وعظتها. وكأن القدر شاء أن يضرب مثلا حيا متكررا، لذهول الناس عن توجيهات الوحى الأعلى. فألهم المسلمين أن يقرءوا هذه القصة فى مساجدهم، ليخرجوا من بعدها إلى العمل، فى بلاد لا تعرف فيها إلا كبرياء الطغيان، ولا تروج فيها إلا أحط المقاييس، ولا ترفع فيها إلا أقل الكفايات، وهم يحنون رءوسهم فى المساجد خشوعا مصطنعا لآيات الله، ويحنون رءوسهم فى المجتمع حقا للمتألهين فى الأرض، القوامين فيها بالجبروت والسطو والمظالم، كأنهم لا يعرفون لمن ستكون العاقبة فى يوم الناس هذا، أو يوم يبعثون.! جلس الرجل فى شرفة قصره، يمد بصره إلى الحدائق الغناء المترامية حوله، ويستمع إلى خرير الماء فى النهر وحفيف الأوراق فى الشجر، وصياح الطيور فى الجو، فيخال أنها أناشيد، تتغنى بمجده وتسبح بحمده، ثم يرجع البصر إلى الفعلة والخدم، المنبثين فى جنبات ضياعه الشاسعة وقصره المشيد، يتمنون رضاه، ويسارعون إلى إشارته، ويدينون له، وتهمس إليه نفسه أن كل شراء على ما يرام، وأنه فى ضمان وثيق من حاضره ومستقبله. ولكن خاطرا طاف بذهنه، عكر عليه الصفو. لقد ذكر رجلا آخر من عامة الشعب، كان إلى عهد قريب لا يعامله إلا معاملة الند للند، مع أنه أجير عنده، ولا يذكر له ذلك الغنى الحافل، إلا بقلة الاكتراث وسوء التقدير، أفبقى الرجل ـ ياترى ـ على موقفه العنيد هذا؟؟.193(1/177)
وشعر برغبة عميقة فى أن يستحضره، وأن يستذله، وأن يكرهه على الخضوع له. فما هى إلا ساعة حتى كان الرجل الآخر قادما يمشى، منتصب القامة برَّاق العينين ألاق الجبين. ومع أنه عرف لماذا جىء به، وأدرك من ملامح رب الضيعة الرحبة والقصر الفسيح، أنه يبغى قهره والنيل منه، فقد عزم أن يدخل معه فى الصراع إلى نهايته، موقنا بأنه لن ينهزم أمام بشر. ووقعت معركة الكلام بين الرجلين، فكانت مثلا لا يجوز إخفاء عبرته عن الناس : (و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب و حففناهما بنخل و جعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها و لم تظلم منه شيئا و فجرنا خلالهما نهرا * و كان له ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا * و دخل جنته و هو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) قال الرجل الفقير لمحدثه المترف : لو أنك إذا أردت أن تفخر على وقلت : أنا أكثر منك عملا وأعز خلقا، بدل : أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، لربما استحق الأمر تفكيرا منى واهتماما بك. أما وأنت تؤسس عظمتك الموهومة على هباء، فهيهات أن أعترف بها..! ولقد جاءك أكثر هذا المال كما يجىء أمثالك من القاعدين، على غير ذكاء خارق أو عزيمة ماضية. فما غبرت فى تحصيله قدما، ولا أعملت فى تأثيله يدا، ولا واسيت من كنوزه ضعيفا، ولا قضيت من خزائنه حقا. وقد يفهم فخرك بمالك وجاهك، لو جعلت منهما وسائل لكسب المعالى وصنع المعروف، وإفادة الناس.194(1/178)
وهناك من يجمعون المال من وجوه الحق، ليبذلوه فى وجوه الحق، كما يقول الشاعر فى صراحة لا غبار عليها : أريد بسطة مال أستعين بها على قضاء حقوق للعلا قبلى فإذا ضاقت ثروة الرجل، عن الوفاء بهذه الحقوق، يهم لنقص ماله، لكنه يبقى عزيز الخلق، كبير النفس، كما يقول الشاعر : إنى وإن قصرت عن همتى جدتى وكان مالى لا يقوى على خلقى لتارك كل أمر كان يلزمنى عارا ويشرعني في المنهل الرنق أما أن يأتيك المال من حيث لا تحتسب، فتقول : ورثته كابرا عن كابر، ثم تستخدمه فى إطفاء شهواتك، وإرواء نزواتك، فإن هذا لن يعرضك إلا لسخط الله، ولن يعرض مالك هذا إلا لمحق السماء. فقاطعه الرجل الغنى قائلا : ما هذا الذى تثرثر به أيها الأحمق، لقد تركتك تهرف طويلا لأسخر منك!. ما الذى تحدث به عن الله والسماء ومحق المال؟. أيسبق إلى وهمك أن هذا الثراء العريض ينال منه الزمن : ( و دخل جنته و هو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * و ما أظن الساعة قائمة.. ) . ثم هبنا بُعثنا إلى دار آخرة كما تقول : أتحسب أنك هناك تتطاول إلى مقامى، أو تصل إلى مكانى؟!. إن الفجوة التى تفصل بيننا ستظل باقية أبدا، وستبقى أنت الخادم الصغير وأنا السيد الخطير!. إنكم أيها السوقة من معدن غير معدننا نحن الكبراء : (.. و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) .195(1/179)
فرد الرجل الفقير مستنكرا :.. من معدن آخر؟!. لعلك خلقت من ذهب، وخلقنا من خشب!. لئن صح أن الناس يتفاوتون فى أصل الخلق، فما أراك إلا من معدن خسيس، وما أرانى إلا من معدن نفيس!! فإننى أعانى الكثير لأفهمك، كيف ترتفع عن هذا الغباء فى إدراك الحقائق العليا والدنيا؟. غير أننا ـ مع الأسف ـ نرجع إلى أصل واحد، وننبثق من نفس واحدة. إنك أيها الرجل من تراب مبدأ، ترد إليه قسرا، مهما تطاولت عنه كبرا. وقد يكبر الإنسان، بالروح الذى ينتسب به إلى الله، والمواهب التى تبذر فى تفكيره آثارا من الإلهام آية على. فكأن حياته شعاع ممتد على الأرض من بديع السموات والأرض. لكنك ـ أيها الغبى ـ أنكرت ربك، وجحدت نسبك. فلم يبق من خصائصك، إلا أنك تراب يوطأ بالأقدام، فانظر شناعة ما قلت آنفا : (..أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكنا هو الله ربي و لا أشرك بربي أحدا) لقد حررت نفسى من إسار الناس، لما علمت أننى عبد الله وحده. ولن أعترف بسيادة فى الكون، إلا لرب الكون، إننى رجل حر. فإذا حاولت أن تستعبدنى لعظمتك، فسأبصق على ألوهيتك. أعترف بأنك عبد لله، كغيرك من الدهماء أو العظماء فإذا رأيت حولك منه نعمة سابغة، وفضلا كبيرا، فقل : (ما شاء الله). لا ما شئت أنا.! وأردف الإقرار بسطوة الإرادة العليا، إقرارا ـ كذلك بجلال القوة العليا : (لا قوة إلا بالله) ثم اعلم أن السراء والضراء دول!!. لقد نام الصعاليك عن حقهم فأبطروك، والويل لك يوم يستيقظون!.196(1/180)
عندئذ يتحول غناك، إلى الأنفار الذين يشتغلون عندك، فتصبح فقيرا معهم، أو يصبحون أغنياء معك، أو يثبون عليك وثبة غضب، لما أوقعت بهم من مظالم، فيحتازون هذه الثروة دونك. وكم من شعوب تنبهت لمغتصبيها، وثارت بهم ثورة مدمرة لم تهدأ حتى آتت نتائجها كاملة، فإذا بهم يسمعون صوت السماء : (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا) فإذا حسبت أن من ترى من عبيد الأرض، سينامون على الضيم أبدا، فاعلم أن جبار السماء لن يسكت على هذه الفوضى : ( إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا * فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك و يرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا * أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ). إن للمظالم عمرا معينا، تفنى عنده وتبيد. وقد ترخى الأقدار العنان لبعض الناس، فيستبدون ويفسدون. وليس يحدث هذا عن إهمال معيب، بل إنه يحدث عن إمهال مقصود، يرتبط سره بسر الحياة نفسها، وسر الحياة قائم على الاختبار والتمحيص، وتكليف البشر أن ينشدوا الكمال فى أعمالهم وأنظمتهم، وأن يدفعوا ثمرة ذلك من دمائهم وجهودهم. فإذا تظالمت أمة، واضطربت أمورها، ولم يرجع ظالمها عن غيه، ولم ينتصف مظلومها لنفسه، تدخلت الأقدار فى مصير هذه الأمة، بما يؤدب ظالمها ومظلومها على سواء. وللقدر فى ذلك أساليب شتى. أما إذا نهض المظلوم وكافح، وهتف برب :ه ( أنى مغلوب فانتصر ) فإن ميزان الحياة يعود إلى الاستقامة والاعتدال، ويتخلص العالم مما عراه من توقف وارتباك. وفى قصة هذا الطاغية، ترى أن الحذر أتى من مأمنه. إن أرضه الشاسعة تخلف عنها الماء، فماتت عطشا، أو جاءها الماء.197(1/181)
ولكن لحقتها آفات السماء، فضاع المحصول، وذهبت الجهود لجمعه عبثا : (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها و هي خاوية على عروشها و يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا) وهكذا ذهبت الجنة، التى قال صاحبها عنها يوما : ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا ). ذهبت بما أوحت من جبروت، وأثارت من طغيان، وأحس صاحبها بالجزع إن كان مشركا. وبمن أشرك؟ لقد أشرك مع الله نفسه. أراد أن يكون معه إلها يستذل العباد والبلاد!. فلما حل به غضب الله الذى طالما أنكره، نظر إلى ماله فلم يجده، واستصرخ نفره فلم يدركه صريخ : (و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا * هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا و خير عقبا) فى فجر الحياة : كان الدين إلى جانب الطبقات الفقيرة، يتظاهران معا ضد الرأسمالية الباغية. فما الذى عكس الأحوال؟! فأصبحت الرأسمالية الآن تظاهر الدين، والاشتراكية تنابذه العداء!. ألا فليفهم الناس حقيقة الدين وطبيعة الدنيا، حتى تمحى من تاريخ البشرية هذه المفارقات !(1/182)