الإسراء والمعراج فى ضوء السيرة النبوية
بين يدى.. القصة
أخذت الدعاية للإسلام تنتشر فى مكة وتعمل عملها فى أصحاب الأفئدة الكبيرة، فسرعان ما يطرحون جاهليتهم الأولى ويخفون إلى اعتناق الدين الجديد. وكانت آيات القرآن تنزل على القلوب التى استودعت بذور الإيمان كما ينزل الوابل على التربة الخصبة " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج". ورأت قريش أن أمر الإسلام ينمو ويعلو. وأن وسائلها الأولى فى محاربته لم تمنع انتشاره أو تنفر أنصاره. فأعادت النظر فى موقفها كله لترسم خطة جديدة أقسى وأحكم، وأدق وأشمل. وتمخض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم أو يحمى أحدا منهم حزبا واحدا دون سائر الناس. ثم اتفقوا ألا يبيعوهم أو يبتاعوا منهم شيئا، وألا يزوجوهم أو يتزوجوا منهم. وكتبوا ذلك نى صحيفة، وعلقوها فى جوف الكعبة توكيدا لنصوصها. ولا شك أن المتطرفين من ذوى النزق والحدة نجحوا فى فرض رأيهم وإشباع ضعفهم. فاضطر الرسول ومن معه إلى الاحتباس فى شعب بنى هاشم. وانحاز إليهم بنو المطلب. كافرهم ومؤمنهم على سواء. ما عدا أبا لهب فقد آزر قريشا فى خصومتها لقومه. وضيق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقل الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه. وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب، وعضتهم الأزمات العصبية حتى رثى لحالهم الخصوم. ومع اكفهرار الجو فى وجوههم فقد تحملوا فى ذات الله الويلات. ولم تفتر حدة الوثنيين فى الحملة على الإسلام ورجاله وفى تأليب العرب 010(1/1)
عليهم من كل فج. قال السهيلى: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من الطعام قوتا لعياله فيقوم أبو لهب فيقول: " يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا. وقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فأنا ضامن أن لا خسار عليكم ! فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع. وليس فى يده شىء يطعمهم به. ويغدو التجار على أي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس. حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعا وعريا. وقد أحزنت تلك الآلام بعض ذوى الرحمة من قريش. فكان أحدهم يوقر البعير زادا ثم يضربه فى اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين، فيخفف شيئا مما بهم من إعياء وفاقة... كم بقيت هذه الضائقة؟ ثلاث سنين كالحة. كان رباط الإيمان وحده هو الذى يمسك القلوب ويصبر على اللأواء. وفى أيام الشعب كان المسلمون يلقون غيرهم فى موسم الحج. ولم تشغلهم آلامهم عن تبليغ الدعوة وعرضها على كل وافد. فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورها عمقا وفروعها امتدادا. وقد كسب الإسلام أنصارا كثرا فى هذه المرحلة، وكسب إلى جانب ذلك أن المشركين قد بدأوا ينقسمون على أنفسهم ويتساءلون عن صواب ما فعلوا. وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة ونقض الصحيفة التى تضمنتها. وأول من أبلى فى ذلك بلاء حسنا هشام بن عمرو. فقد ساءته حال المسلمين ورأى ما هم فيه من عناء، فمشى إلى زهير بن أبى أمية، وكان شديد الغيرة على النبى والمسلمين وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟. أما إنى أحلف بالله : لو كانوا أخوال أبى الحكم يعنى ـ أبا جهل ـ ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبدا!.011(1/2)
فقال: فماذا أصنع وإنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لنقضتها!. فقال: قد وجدت رجلا. قال: ومن هو؟. قال: أنا. قال زهير: أبغنا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم أسرع!!. قال: ما أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال: من هو؟. قال: أنا. قال أبغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟. قال: زهير بن أبى أميه. قال: أبغنا رابعا. فذهب إلى أبى البخترى بن هشام وقالله نحوا مما قال للمطعم. قال: أبغنا خامسا. فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلمه وذكر له قرابته، قال: وهل على هذا الأمر معين؟ قال: نعم وسمى له القوم.. فاتعدوا (خطم الحجون) الذى بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعهدوا على القيام فى نقض الصحيفة فقال زهير؟ أنا أبدؤكم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت. ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة !!. قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق.012
قال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتمت !!. قال أبو البخترى: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها. قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك!!. وقال هشام بن عمرو نحوا من هذا. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل . فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا كلمة " باسمك اللهم ". وكانت العرب تفتتح بها كتبها..013(1/3)
عام الحزن
انطلق المسلمون من الشعب يستأنفون نشاطهم القديم بعد ما قطع الإسلام فى مكة قرابة عشرة أعوام مليئة بالأحداث الضخمة. وما أن تنفس المسلمون من الشدة التى لاقوها حتى أصيب الرسول بوفاة زوجه خديجة. ثم بوفاة عمه أبى طالب. أى أنه نكب فى حياته الخاصة والعامة معا.. إن خديجة من نعم الله الجليلة على محمد. فقد آزرته فى أحرج الأوقات. وأعانته على إبلاغ رسالته. وشاركته مغارم الجهاد المر. وواسته بنفسها ومالها. وإنك لتحس قدر هذه النعمة عندما تعلم أن من زوجات الأنبياء من خن الرسالة وكفرن برجالهن وكن مع المشركين من قومهن وآلهن حربا على الله ورسوله ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين). أما خديجة فهى صديقة النساء. حنت على رجلها ساعة قلق، وكانت نسمة سلام وبر رطبت جبينه المتصبب من آثار الوحى. وبقيت ربع قرن معه، تحترم قبل الرسالة تأمله وعزلته وشمائله، وتحمل بعد الرسالة كيد الخصوم وآلام الحصار ومتاعب الدعوة، وماتت والرسول فى الخمسين من عمره، وهى تجاوز الخامسة والستين، وقد أخلص لذكراها طول حياته. أما أبو طالب فإن المرء يحار فى أمره! وبقدر ما ينحنى إعجابا لنبله فى كفالة محمد، ثم لبطولته فى الدفاع عنه حين نبىء، وحين صدع بأمر ربه وأنذر عشيرته الأقربين. إنه بقدر ذلك يستغرب المصير الذى ختم حياته. وجعله يصرح قبل موته أنه على ملة الأشياخ من أجداده. وقد حزن رسول الله لموت أبى طالب حزنا شديدا. ألم يكن الحصن الذى تحتمى به الدعوة من هجمات الكبراء والسفهاء؟ وها قد ولى الرجل الذى سخر جاهه وسلطانه فى الذود عن أبن أخيه وكف العوادى أن تناله. .014(1/4)
إن قريشا أصبحت لا تهاب فى محمد صلى الله عليه وسلم أحدا بعده!!. روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " وذلك انهم تجرأوا عليه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه . وعن ابن مسعود قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس. فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بنى فلان فيضعه بين كتفى محمد عليه الصلاة والسلام إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبى صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. فأستضحكوا. وجعل بعضهم يميل على بعض. وأنا قائم أنظر، لو كانت لى منعة طرحته عن ظهره والنبى صلى الله عليه وسلم ساجدا ما يرفع رأسه حتى انطلق انسان فأخبر فاطمة. فجاءت ـ وهى جويرية ـ فطرحته عنه. ثم أقبلت عليهم تشتمهم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم. وكان اذا دعا، دعا ثلاث مرات، وإذا سأل، سأل ثلاثا ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاثا. فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته. ثم قال: " اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعه والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبى معيط وذكر السابع ولم أحفظه. فوالذى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق. لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم "بدر" ثم سحبوا إلى القليب ( قليب بدر) . لقد مضت مكة فى طريق الكفر حتى أوغلت فيه وبلغت نهايته، فهى الآن تستمرىء تلويث الساجدين بالأقذار. وتتمايل ـ ضحكا ـ من منظر الأنجاس، وهى تسيل على كتفى المصلى. لم يبق فى هذه القلوب مكان لذرة من الخير. والبنت ـ فى المجتمع العربى ـ تعيش فى كنف أبيها، وتفخر بقوته015(1/5)
وتأنس بحمايته. فما يحز فى قلب الرجل الذى يرى نفسه فى وضع تدفع عنه ابنته. وقد كظم محمد صلى الله عليه وسلم على ألمه، وتحمل فى ذات الله ما لقى إلا أنه أخذ يفكر فى التوجه برسالته إلى قرية أخرى، علها تكون أحسن قبولا وأقرب استجابة، فاستصحب معه "زيد بن حارثة" وولى وجهه شطر "ثقيف " يلتمس نصرتها017
فى الطائف.. عند ثقيف
ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقطن ثقيف. وهى تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلا، سارها محمد صلى الله عليه وسلم على قدمه ـ جيئة وذهابا ـ فلما انتهى إليها، قصد إلى نفر من رجالاتها الذين ينتهى إليهم أمرها، ثم كلمهم فى الإسلام، ودعاهم إلى الله. فردوه ـ جميعا ـ ردا منكرا، وأغلظوا له الجواب. ومكث عشرة أيام، يتردد على منازلهم دون جدوى. فلما يئس الرسول عليه الصلاة والسلام من خيرهم قال لهم: إذا أبيتم، فاكتموا على ذلك- كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكن القوم كانوا أخس مما ينتظر. قالوا له: أخرج من بلدنا، وحرشوا عليه الصبيان والرعاع فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة. و"زيد بن حارثة" يحاول ـ عبثا ـ الدفاع عنه حتى شج رأسه. وأصيب الرسول عليه الصلاة والسلام فى قدميه، فسالت منهما الدماء واضطره المطاردون أن يلجأ إلى بستان لعتبة، وشيبة، ابنى ربيعة، حيث جلس فى ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن. وكان أصحاب البستان فيه، فصرفوا الأوباش عنه. واستوحش الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الحاضر المرير، وثابت إلى نفسه ذكريات الأيام التى عاناها مع أهل مكة، إنه يجرر وراء سلسلة ثقيلة من المآسى المتلاحقة فهتف يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس... أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربى... إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى؟؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، غير أن عافيتك هى أوسع لى..!!. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح(1/6)
عليه أمر الدنيا018
والآخرة، أن يحل على غضبك، أو أن ينزل بى سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك " وتحركت عاطفة القرابة فى قلوب ابنى ربيعة فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يدعى " عداسا" وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مد يده إليه قائلا: باسم الله ثم أكل. فقال "عداس": إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة!. فقال له النبى: من أى البلاد أنت؟. قال: أنا نصرانى من " نينوى". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟. قال له: وما يدريك ما يونس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك أخى، كان نبيا وأنا نبى. فأكب "عداس" على يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه يقبلهما. فقال ابنا ربيعة، أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاء (عداس) قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: ما فى الأرض خير من هذا الرجل. فحاول الرجلان، توهين أمر محمد، وتمسيك الرجل بدينه القديم. كأنما عز عليهما أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم من الطائف بأى كسب !!.019(1/7)
النبى يحتاج لجوار!
وقفل الرسول عليه الصلاة والسلام عائدا إلى مكة، إلى البلد الذى لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة. وأكره الباقى على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعب الجبال. وقال زيد بن حارثة : كيف تدخل عليهم، وقد أخرجوك؟. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا.. ولابد أن أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش. ومن ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته. فبعث إلى "المطعم بن عدى" يعرض عليه أن يجيره حتى يبلغ رسالة ربه! فقبل " المطعم". واستنهض أبناءه فحملوا أسلحتهم ووقفوا عند أركان البيت الحرام. وتسنم المطعم ناقته ثم نادى: يا معشر قريش، قد أجرت محمدا عليه الصلاة والسلام، فلا يهجه أحد منكم!. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته " ومطعم " وأهله يحرسونه بأسلحتهم. وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أم متابع ـ مسلم ؟ قال: بل مجير!. قال: قد أجرنا من أجرت..!. وحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع. فقال يوم أسرى بدر: لو كان المطعم حيا لتركت له هؤلاء النتنى... كان المطعم ـ كأبى طالب ـ على دين أجداده، وكان كذلك مثله فى المروءة والنجدة، وقد أراد أبو جهل أن يتهكم بنبى يحتاج الى جوار! وكأنه يتساءل: لِمَ لمْ تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟. ولذلك قال ـ لما رآه ـ: هذا نبيكم يا بنى عبد مناف؟.020(1/8)
فرد عليه عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون منا نبى وملك؟. فلما أخبر رسول الله بسؤال أي جهل ورد عتبة قال: أما أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنما حميت لنفسك ـ وذلك أنه قالها عصبية لا إيمانا ـ. وأما أنت يا أبا جهل فوا الله لا يأتى عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكى كثيرا. وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتى عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تنكرون.. وفى هذا التعليق ما يدل على ثقة الرسول عليه الصلاة والسلام من المستقبل مهما اكتنفته ـ فى الحاضر ـ من الآلام. عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ليستأنف خطته الأولى فى عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله. وبينا هو ماض فى جهاده، إذ وقعت له قصة الإسراء والمعراج..021(1/9)
القصة.. وحكمتها
يقصد بالإسراء.. الرحلة العجيبة التى بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس. ويقصد بالمعراج، ما أعقب هذه الرحلة من ارتفاع فى طباق السموات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق، ولا يعرف كنهه أحد، ثم الأوبة ـ بعد ذلك ـ إلى المسجد الحرام بمكة. وقد أشار القرآن الكريم إلى كلتا الرحلتين فى سورتين مختلفتين. ذكر قصة الإسراء وحكمته بقوله: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". وذكر قصة المعراج وثمرته بقوله: " ولقد رآه ـ يعنى جبريل ـ نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى ". فتعليل الإسراء ـ كما نصت الآية ـ أن الله يريد أن يرى عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج، أن الرسول عليه الصلاة والسلام شهد ـ بالفعل ـ بعض هذه الآيات الكبرى. وقد اختلف العلماء ـ من قديم : أكان هذا السرى الخارق بالروح وحده، أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير. وللدكتور محمد حسين هيكل رأى غريب، فقد أعتبره استجماعا ذهنيا ونفسيا لوحدة الوجود من الأزل إلى الأبد، فى فترة من فترات التألق النفسانى الفذ، الذى اختص به بشر نقى جليل مثل محمد صلى الله عليه وسلم. وفى إبان هذا التألق الذى استعلى به على كل شىء ـ استعرض حقائق الدين والدنيا، وشاهد صور الثواب والعقاب... الخ. فالإسراء حق.. وهو ـ عنده ـ روحى لا مادى، ولكنه فى اليقظة لا فى022(1/10)
المنام، فليس رؤيا صادقة كما يرى البعض، بل هو حقيقة واقعة على النحو الذى صوره، ثم قال فيه بعدئذ :" وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية ". والحق، أن الحدود بين القوى الروحية والقوى المادية، أخذت تضمحل وتزول، وأن ما يراه الناس ميسورا فى عالم الروح ليس بمستوعر فى عالم المادة. وأحسب انه بعد ما مزق العلم من أستار عن أسرار الوجود، فإن أمر المادة أضحى كأمر الروح، لا يعرف مداه إلا قيوم السموات والأرض. وإن الإنسان ليقف مشدوها، عندما يعلم أن الذرة تمثل فى داخلها نظام المجموعة الشمسية الدوارة فى الفلك، وأنها ـ وهى هباءة تافهة ـ تكمن فيها حرارة هائلة، عندما أطلقت، أحرقت الأخضر واليابس. إن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرى به وعرج. كيف؟ هل ركب آلة تسير بأقصى من سرعة الصوت كما اخترع الناس أخيرا؟. لقد امتطى البراق ـ وهو كائن يضع خطوه عند أقصى طرفه، كأنه يمشى بسرعة الضوء.. وكلمة " براق " يشير اشتقاقها إلى البرق، أى أن قوة الكهرباء سخرت فى هذه الرحلة. لكن الجسم ـ فى حالته المعتادة ـ يتعذر عليه التنقل فى الأفاق بسرعة البرق الخاطف؟ لابد من إعداد خاص، يحصن أجهزته ومسامه لهذا السفر البعيد. وأحسب أن ما روى عن شق الصدر، وغسل القلب حشوه، إنما هو رمز هذا الإعداد المحتوم.، وقصة الإسراء والمعراج مشحونة بهذه الرموز، ذات الدلالة التى تدق على السذج. إن الإسراء والمعراج، وقعا للرسول عليه الصلاة والسلام بشخصه، فى طور بلغ الروح فيه قمة الإشراق وخفت فيه كثافة الجسد حتى تفضى من أغلب القوانين التى تحكمه. واستكناه حقيقة هذه الرحلة، وتتبع مراحلها بالوصف الدقيق، مرتبط بادراك العقل الإنسانى لحقيقة المادة والروح، وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص !023(1/11)
ولذلك سنتجاوز هذا البحث إلى ما هو أيسر وأجدى، أى إلى تسجيل المعالم المتصلة بالإسلام باعتباره رسالة عامة وتشاريع محددة. قصة الإسراء والمعراج، تهمنا من هذه الناحية. ألم تر أن " علم النفس " لم يستبحر وينطلق إلا يوم تحرر من البحث فى الروح والخبط فى مدلولها؟؟.025
لماذا بيت المقدس؟
لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟. إن هذا يرجع بنا الى تاريخ قديم. فقد ظلت النبوات دهورا طوالا وهى وقف على بنى إسرائيل. وظل بيت المقدس مهبط الوحى، ومشرق أنواره على الأرض وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار. فلما أهدر اليهود كرامة الوحى وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثم كان مجىء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتقالا بالقيادة الروحية فى العالم، من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل، إلى ذرية اسماعيل. وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحول، مما دعاهم الى المسارعة بإنكاره " بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب ". لكن إرادة الله مضت. وحملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبى العربى تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها. فكان من وصل الحاضر بالماضى، وإدماج الكل فى حقيقة واحدة، أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين فى الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول فى إسرائه، فيكون هذا الانتقال احتراما للإيمان الذى درج- قديما- فى رحابه.. ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية فى هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة. إن النبوات يصدق بعضها بعضا، ويمهد السابق منها للاحق، وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بنى إسرائيل بذلك. " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم(1/12)
جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ".026
وفى السنة الصحيحة أن الرسول صلى بإخوانه الأنبياء ركعتين فى المسجد الأقصى، فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين. والكشف عن منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ليس مدحا يساق فى حفل تكريم، بل هو بيان حقيقة مقررة فى عالم الهداية، منذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء فى إبانه المناسب. فإن جهاد الدعوة الذى حمله محمد صلى الله عليه وسلم على كواهله، عرضه لعواصف عاتية من البغضاء والافتراء. ومزق شمل أتباعه، فما ذاقوا- مذ آمنوا به- راحة الركون إلى الأهل والمال. وكان آخر العهد بمشاق الدعوة، طرد " ثقيف" له، ثم دخوله البلد الحرام فى جوار مشرك. إن هوانه على الناس- منذ دعاهم إلى الله- جعله يجأر إلى رب الناس، شاكيا راجيا. فمن تطمين الله له، ومن نعمائه عليه، أن يهيئ له هذه الرحلة السماوية لتمس فؤاده المعنى ببرد الراحة. وليشعر أنه بعين الله مذ قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته. كان يقول: " إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى" فالليلة علم أن حظه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطفين الأخيار موطدة مقدمة. إن الإسراء والمعراج يقعان قريبا من منتصف فترة الرسالة التى مكثت ثلاثة وعشرين عاما، وبذلك كانا علاجا مسح متاعب الماضى، ووضع بذور النجاح للمستقبل. إن رؤية طرف من آيات الله الكبرى فى ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم فى توهين كيد الكافرين، وتصغير جموعهم، ومعرفة عقباهم. وقد عرف محمد فى هذه الرحلة أن رسالته ستنساح فى الأرض، وتتوطن الأودية الخصبة فى النيل والفرات، وتنتزع هذه البقاع من مجوسية027(1/13)
الفرس وتثليث الروم. بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا فى أعقاب جيل. وهذا معنى رؤية النيل والفرات فى الجنة، وليس معناه أن مياه النهرين تنبعان من الجنة، كما يظن السذج والبلهاء، وقد روى الترمذى مثلا ان رسول الله قال: (إذا أعطى أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة ". فهل ذلك يدل على أن الريحان من الجنة، ونحن نقطف أزهاره من الحقول والحدائق؟. ذلك. والله عز وجل يتيح لرسله فرص الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه واستنادا إليه، إذ يواجهون قوى الكفار المتألبة ويهاجمون سلطانهم القائم. فقبل أن يرسل الله موسى شاء أن يريه عجائب قدرته، فأمره أن يلقى عصاه قال : " قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى * قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى * واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى " فلما ملأ قلبه إعجابا بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد: " اذهب إلى فرعون إنه طغى ". وقد علمت أن ثمرة الإسراء والمعراج إطلاع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى وربما تقول: إن ذلك حدث بعد الإرسال إليه بقريب من اثنى عشر عاما على عكس ما وقع لموسى. وهذا حق. وسره ما أسلفنا بيانه من أن الخوارق فى سير المرسلين الأولين قصد بها قهر الأمم على الاقتناع بصدق النبوة، فهى تدعيم لجانبهم أمام اتهام الخصوم لهم بالادعاء. وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم فوق هذا المستوى. فقد تكفل القرآن الكريم بإقناع أولى النهى من أول يوم، وجاءت الخوارق فى طريق الرسول ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معكرة، ولا معطلة للمنهج العقلى العادى الذى اشترعه القرآن.028(1/14)
وقد اقترح المشركون على النبى أن يرقى فى السماء، فجاء الجواب من عند الله قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟. فلما رقى فى السماء بعد، لم يذكر قط أن ذلك رد على التحدى أو إجابة على الاقتراح السابق. بل كان الأمر- كما قلنا- محض تكريم ومزيد إعلام، من الله لعبده.029
البناء يكتمل
وفى قصة الإسراء والمعراج تلمح أواصر القربى بين الأنبياء كافة. وهذا المعنى من أصول الإسلام. " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ". والتحيات المتبادلة بين النبى وإخوته السابقين، توثق هذه الآصرة. ففى كل سماء أحل الله فيها أحد رسله، كان النبى يستقبل فيها بهذه الكلمة : مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح!. والخلاف بين الأنبياء وهم صنعته الأمم الجائرة عن- السبيل السوى. أو بالأحرى صنعه الكهان والمتاجرون بالأديان. أما محمد فقد أظهر أنه مرسل لتكملة البناء الذى تعهده من سبقوه، ومنع الزلازل من تصديعه. قال رسول الله : " مثلى ومثل الأنبياء قبلى كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له! ويقولون. هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين".. والأديان المعتمدة على الوحى السماوى معروفة. وليس منها- بداهة- ما اصطنعه الناس لأنفسهم من أوثان وطقوس كالبرهمية، والبوذية، وغيرهما. وليس منها كذلك ما ابتدع- أخيرا- من نحل احتضنها الاستعمار الغربى، وكثر الأنصار حولها، ليشدد الخناق على مقاتل الشرق، ويعوق المسلمين الأحرار عن حطم قيوده، وإنقاذ عبيده، وذلك كالبهائية والقاديانية ومن الممكن- لو خلصت النيات ونُشدَ الحق- أن توضع أسس عادلة لوحدة دينية، تقوم على احترام المبادئ المشتركة. وإبعاد الهوى عن استغلال الفروق الأخرى، الى أن تزول على مر الزمن، أو تنكسر حدتها .030(1/15)
والإسلام الذى يعد تعاليمه امتدادا للنبوات الأولى، ولبنة مضافة إلى بنائها العتيد، أول من يرحب بهذا الاتجاه ويزكيه. وفى ليلة الإسراء والمعراج تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين، وهى أنه دين الفطرة. ففى الحديث ".. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن فقال : هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك...". إن سلامة الفطرة لب الإسلام. ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب. بيد أن ما ينطلى على الناس، لا يخدع به رب الناس... ! ويوم تكون العبادات- نفسها- ستارا لفطرة فاسدة، فإن هذه العبادات الخبيثة، تعتبر أنزل رتبة من المعاصى الفاجرة. والناس كلما تقدمت بهم الحضارات، أمعنوا فى التكلف والمصانعة، وقيدوا أنفسهم بعادات وتقاليد قاسية. وأكثر هذه التكلفات حُجُب تطمس وهج الفطرة. وتعكر نقاوتها وطلاقتها. وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه القيود باسم الدين، وأن تترك النفوس فى سجونها، مغلولة كئيبة... وفى المعراج شرعت الى!لصلوات الخمس. شرعت فى السماء، لتكون معراجا يرقى بالناس، كلما تدلت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا. والصلوات التى شرع الله غير الصلوات التى يؤديها- الآن- كثير من الناس. وعلامة صدق الصلاة، أن تعصم صاحبها من الدنايا، وأن تخجله من البقاء عليها إن ألم بشىء منها. فإذا كانت الصلاة- مع تكرارها- لا ترفع صاحبها إلى هذه الدرجة فهى صلاة كاذبة. الصلاة طهور، كما جاء فى السنة، إلا أنها طهور للإنسان إلحى، لا للجثة العفنة. إن التطهير يزيل ما يعلق بالقلب من غبار عارض، والأعراض031(1/16)
التى تلحق بالمرء فى الحياة فتصدىء قلبه كثيرة. ومطهراتها أكثر!. وفى الحديث " فتنة الرجل فى أهله وماله وولده ونفسه وجاره، يكفرها الصيام والصلاة، والصدقة، والآمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ". أما أصحاب القلوب الميتة، فالصلاة لا تجديهم فتيلا... ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم، أو يواريها الثرى.. وقد رويت سنن، أن رسول الله رأى فى هذه الرحلة صورا شتى، لأجزية الصالحين والطالحين. وتناقلت كتب السيرة رواية هذه الصور الجليلة، على أنها وقعت ليلة الإسراء والمعراج. والحق أن ذلك كان رؤيا منام فى ليلة أخرى من الليالى المعتادة، كما ثبت ذلك فى الصحاح .033(1/17)
قريش والإسراء
فلما كانت صبيحة هذه الليلة المشهودة حدث رسوت الله الناس بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى والذين كذبوا أن يقع وحى على الأرض،أتراهم يصدقون به فى السماء؟ لقد طاروا يجمع بعضهم بعضا، ليسمع هذه الأعجوبة فيزداد إنكارا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وريبة من أمره. وتحداه بعضهم، أن يصف بيت المقدس!، إن كان رآه هذه الليلة حقا؟. عن جابر رضى الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما كذبتنى قريش، قمت فى الحجر، فجلى الله لى بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه "!. ويقول الدكتور محمد حسين هيكل: " أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح فى هذا لما رأوا فيه عجبا، بعد الذى عرف العلم فى وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسى للتحدث عن أشياء واقعة فى جهات نائية. فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية فى الكون كله؟ ويستطيع ـ بما وهبه الله من قوة- أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده. ونحن لا نعلق كبير اهتمام لمعرفة الطريقة التى تم بها الإسراء والمعراج. كلا الأمرين حق، ترك ثماره فى نفس الرسول صلى الله عليه وسلم. فاستراح إلى حمد الخالق، وقل اكتراثه لذم الهمل من الجاحدين والجاهلين. ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أن كل يوم يمر بها هو خطوة إلى النصر القريب... ويزعم بعض الكتاب أن فريقا من المسلمين ارتد عقب الإسراء والمعراج إنكارا لهما. بل يزيد الدكتور " هيكل" أن المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار 034(1/18)
القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها. وهذا كله خطأ، فلا الآثار التاريخية تدل عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهى به، ولا ندرى كيف يقال هذا؟. مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه القديم، ينذر بالوحى كل من يلقى، ويخوض ـ بدعوته ـ المجامع، ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج فى منازلهم، ويغبر قدميه إلى أسواق " عكاظ " و " مجنة " و " ذى المجاز " داعيا الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدى القرآن، كان يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به ويتابعوه ويمنعوه. وكان عمه " أبو لهب " يمشى وراءه ويقول : لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب!. فيكون جواب القبائل: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردونه أقبح الرد. ومن القبائل التى أتاها الرسول عليه الصلاة والسلام ودعاها إلى الله، فأبت الاستجابة له "فزارة " و " غسان" و " مرة " و" حنيفة " و "سليم" و " عبس" و" بنو النضر" و " كندة " و"كلب " و "عذرة" و "الحضارمة" و"بنو عامر بن صعصعة" و" محار بن حفصة".... إلخ. ما وجد فى هؤلاء قلبا مفتوحا، ولا صدرا مشروحا، بل كان الراحلون والمقيمون يتواصون بالبعد عنه، ويشيرون إليه بالأصابع. وكان الرجل يجىء من الآفاق البعيدة فيزوده قومه بهذه الوصاة: احذر غلام قريش!.. لا يفتنك!!!. ومع ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ـ فى هذا الجو المقبض ـ لم يخامر اليأس قلبه، واستمر ـ مثابرا ـ فى جهاد الدعوة، حتى تأذن الحق ـ أخيرا ـ بالفرج.(1/19)