بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
على الرغم من تغير الظروف التى اكتنفت الطبعة الأولى من هذا الكتاب. فإن ما به من حقائق علمية وتاريخية يجب ألا يغيب عن بال المسلم. إن معرفتها ضياء يكشف له طريق الجهاد وثمرته، وطبائع الناقمين على الإسلام وأمته الكبرى وما بد من هذه المعرفة على اختلاف الأمكنة والأزمنة، وتبدل الملابسات والأحوال فإن المسلمين أوتوا- خلال هزائمهم الماضية- من طيبة بلغت حد الغفلة. بل لقد لدغوا مرارا من جحر واحد. وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ! كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن من حق الإيمان علينا ألا نسأم من تبصرة المسلمين بمواطن الأفعى! وأن نحذرهم بشدة من تكرار الإصابة. خصوصا إذا كان عدوهم قد بدل زيه وتعلم كيف يخفى شراكه وكيف يحتال لبلوغ اربه، وقد يسبق إلى بعض الأذهان أن الاستعمار فى طريقه إلى التلاشى. وأن الإنسانية فى طورمن تاريخها النير لا يسمح له بالبقاء أكثرمما بقى... وأن ذيوله المتخلفة فى أفريقيا وآسيا منتهية لا محالة... ونحن- المحامين عن الإسلام- كنا نود لو صحت هذه الأمنية، وظفرت أرجاء العالم بحظوظها من الحريات الكاملة وفى مقدمتها الحرية الدينية. بيد أننا نعلن آسفين أن هذه الأمنية لا تعدو آفاق الخيال. وأن أزمة الحرية فى العالم لا تزال خانقة، وأن حرية اعتناق الإسلام بالذات والاستظلال بعقائده وشرائعه حرية منكورة مطاردة فى أغلب القارات الخمس. فكيف يستريح لهذا الوضع مؤمن؟ أو كيف يهادن قوى الشر التى تسانده؟ إن الأمة الإسلامية الكبيرة تضم أعدادا كثيفة من المستضعفين فى الأرض.
ص_004(1/1)
والعوائق دون تجمعها على دينها لا حصر لها. وربما ظفرت شعوب منها بحريات سياسية لها قيمتها، لكن ظفرها بحق الحياة وفق شعائرها وشرائعها بعيد بعيد. وقد كان الاستعمار الصليبى الخصم العنيد اللدود للإسلام وكتابه ونبيه وأتباعه. ! ثم ظهرت الشيوعية أخيرا واستطاعت أن تكسر الصليبية فى وقعات شتى وأن تنازعها السيادة على أرجاء العالم، من الدين كله معروف!!. ونحن الذين والينا الله ورسله وثبتنا على معالم وحيه لن ننكمش قيد أنملة عن مواجهة العدو الجديد. والقلوب التى أبغضنا بها كفر الغرب هى التى نبغض بها كفر الشرق. وما ظلت تخفق بين أضلاعنا فهى حزب للرحمن وحرب على الشيطان، (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين). وقد تستطيع تيارات الإلحاد الأحمر أو الأصفر أن تهب على بلاد الإسلام المنكوبة لكننا لن نأذن لها بقرار ولن نتوانى عن الاشتباك معها بكل ما لدينا من قوى حتى ترث الأجيال اللاحقة ما ورثناه عن الأجيال من تراث النبوة وتعاليم الحق. ومن المحزن أن يكافح الإسلام فى جبهتين متراميتين ضد الشيوعية الزاحفة أو الصليبية الحقود. وأيا ما كان الأمر فليس أمامنا إلا أن نحيا بإيماننا أو نموت دونه. وسيرى القارئ أن هذا الكتاب قد تحدث عن أحد العدوين فقط ووصف مآسيه. والأمل فى الله يتيح لنا فرصة قريبة للحدث عن الآخر وهو حديث طويل ذو شجون. محمد الغزالي
ص_005
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى(1/2)
اطلع بعض الصحاب على نبذ من هذا الكتاب، ثم قالوا: إنك لا تزال عنيفا...! ا ففزعت لهذا الاتهام، وتحيرت فى بواعثه وشواهده!. إن العنف خليقة مرذولة ما أحب أبدا أن أتصف بها. ثم إن العنف أول مظاهر العدوان، ولست أضيق بشىء فى حياتى كما أضيق بالمعتدين وسيرتهم. لوددت أن الأرض تصفر منهم، وتخلو من أشباحهم، حتى تهدأ الحياة، ويستريح الأحياء... لكن لماذا اتهم بالعنف؟ أو أنسب إلى خلق أبغضه؟ هل شدة السخط على الباطل، ورفع العقيرة فى استنكاره يعدان عنفا؟ ما أظن ذلك حقا! إن المستقيم مع طبائع الأشياء أن تغضب إذا وجدت حقا ينهب أو حقيقة تغير. والمستقيم مع طبائع الأشياء أن يشتد غضبك إذا وجدت الناهبين والمغيرين يمضون فى طريق الحياة، وكأنهم لم يصنعوا شيئا يؤاخذون به!! فإذا بلغ الجور على الحقوق، وبلغ التحريف للحقائق مرحلة أنكى وأحرج فماذا تصنع؟ ماذا تصنع؟ إذا استحر القتلى فى المدافعين عن أوطانهم وعقائدهم واعتبروا مجرمين؟ واعتبرت قضاياهم ليست أهلا للنظر فيها؟ وذلك فى الوقت الذى يتبجح فيه القتلة، ويلبسون شارات العدالة والرقى؟؟ ماذا تصنع إذا تواطأت عشرات الدول على إبقاء السجين يرسف فى قيوده، والبرىء يتشحط فى دمه، والأحرار المكافحين يتساقطون لفيفا بعد لفيف، واللاجئين المطرودين يهلكون فوجا بعد فوج؟؟.ص_006(1/3)
ماذا تصنع إذا رأيت الخناصر قد انعقدت على محو رسالة كبيرة كالإسلام، و إهانة أم شتى لأنها تعتنق الدين الحنيف؟ والضن عليها بالحياة ما لم تنحرف عن شرائعه، وتتنكر لتعاليمه! فإذا بدا أنها مستمسكة به، أو أن الأحوال فيها تؤذن ببقائه، أو بعض الوفاء له، شنت عليها الحروب حامية وباردة!! ماذا تصنع والحالة هذه؟ أتبتسم ابتسامة الرضا، أو ابتسامة المداهنة؟ إن اللطف ـ مع هذه المآسى ـ مرض ينبغى علاجه!! والعنف فى التعبير أقل شىء يقدمه كاتب فى فؤاده غيرة على الحقائق التى يجب أن تعرف، والحقوق التى يجب أن تصان..! ولا أدرى، أهى طبيعتى، أم طبيعة الإسلام فى نفسى، تلك التى جعلتنى أهش مثلا لتصريحات البطريرك المارونى " بطرس المعوشى " فى مأدبة الإفطار التى أقامها لعلماء المسلمين بلبنان فى رمضان سنة 1ص6 هـ. لقد روت الصحف بأنه دعا إلى توحيد الصفوف بين المسيحيين والمسلمين، ونوه بتوثيق التعاون بين الفريقين، وأعلن تمسكه بالميثاق الوطنى المعقود بين أهل لبنان سنة 1943 م، كما ندد بموقف رجال السياسة الذين يحاولون تفريق كلمة الشعب اللبنانى، وسلخه من أسرة الدول العربية... هششت لهذه التصريحات مع علمى بأن الميثاق الوطنى المشار إليه جعل المسلمين فى لبنان أقل من النصف، نتيجة إحصاء زوره الفرنسيون لغرض ظاهر!! نعم، ومع علمى بأن نسبة الموظفين المسلمين فى الأجهزة المدنية والعسكرية للدولة عشرة فى المائة، أو يزيدون قليلا..!! ومع هذه الغرائب المثيرة فقد رحبت بمبادئ التعاون المقترح، ورجوت من وراءه سلاما كريما. بيد أن ساسة الغرب والرجال الذين يعملون معهم أو لهم، لا يريدون هذا، أو لا يكتفون به!. أى يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!!.ص_007(1/4)
يجب أن تجر الدول العربية كلها إلى جانب الاستعمار الغربى، وأن تعمل فى حقله، وأن تقاتل تحت لوائه. وهذا الاستعمار هو طارد المسلمين من فلسطين وواهبها لليهود. وهو طارد المسلمين من الجزائر وواهبها لفرنسا. وهو كاسر جناح المسلمين فى لبنان والحبشة مع كثرتهم . وهو الذى يرهب اليوم الشعوب المتحررة، ويراودها عن عقائدها وشرفها... وهو الذى يبسط يده بالأذى حينا، وبالرشوة حينا، ليقيم حجابا بين حاضر المسلمين وماضيهم، فأما عاشوا مرتدين أتباعا لغيرهم.. وأما.. فلا حق لهم فى الحياة!. أهذا وضع يقبله كريم، أو يرتضيه إنسان ما؟! لقد بنينا فى الماضى حضارة من أزكى الحضارات التى عرفتها الدنيا، أو ذاك ما نزعمه على الأقل فيما لدينا، وفيما صنع أسلافنا!!. فمن العبث فتنتنا عن مواريثنا المقدسة بالقسر. وقد حكى التاريخ قصة صراع طويل دام بيننا وبين غيرنا، فهل من الحكمة استدامة هذا النزاع، واستبقاء ثاراته، تهيج الأحقاد، وتقطع الأكباد؟ إن السياسة التى رسمتها دول معروفة لاجتياح الإسلام، وفض مجامعه، واجتثاث جذوره من أرضه، هذه السياسة لن تنتج إلا البلاء لأصحابها، فإن الإسلام لن يموت، وأهله الذين يبادون تارة، ويطردون من مدنهم وقراهم تارة أخرى، سوف ينسلون من يغضب لهم يوما ومن لا يتهم بعنف إذا ملأ يديه بالقصاص الرهيب!! إن مستقبل العالم يكتنفه الشؤم من كل ناحية، ما بقى الاستعمار ماضيا فى خطته الآثمة: يسترق العباد، ويستغل البلاد. وما بقى على الخصوص فى بلاد المسلمين، يجتهد فى تمزيق أوصالهم، وافساد ضمائرهم وأفكارهم، وتقديم حقوقهم هدايا للطامعين والجائعين!!.ص_008(1/5)
والكاتب المسلم لا يلام إذا غدا أو راح وهو يهدر ويزمجر مشيرا بيديه كلتيهما إلى وجوه البغاة يستنزل عليها اللعنة، ومستفزا قومه كى يرجعوها وعليها صفرة الخزى، إن لم يرجعوها وعليها لطمات القمع والتأديب... أهذا هو العنف الذى يلاحظ على؟ ليكن، فما يستحب العنف فى موطن استحبابه فى هذه المواطن! وقديمآ قال سعد بن ناشب: تفندنى فيما ترى من شراستى وشدة نفسى أم عمرو، وما تدرى فقلت لها: إن الكريم وإن حلا ليلفى على حال أمر من الصبر وفى اللين ضعف والصلابة شدة ومن لم يهب يحمل على مركب وعر وما بى على من لان لى من فظاظة ولكننى فظ أبى على القسر أقيم صفا ذا الميل حتى أرده وأخطمه حتى يعود إلى القدر والفارق بين هذا الشاعر الفارس وبيننا أنه كان يجدع بسيفه أنوف المعتدين، ثم يودعهم بنبرات عالية جافية قائلا: شاهت الوجوه... أما الكاتب المسلم فهو يدع الحزن يأكل قلبه لمنظر أطفال اللاجئين فى العراء، ثم..." يبكى. ومن شر السلاح الأدمع!!"، كما قال أبو الطيب: والحبرات سلاح مفلول. لا يرد طاغية بل لعله يسر الطغاة... والكاتب المسلم يقف على أطلال القرى الخربة فى الجزائر بعد ما عطلت مغانيها، ويبس دم القتلى فى أرجائها، وشرد الناجون من أبنائها، بين مفجوع يطلب الثأر، أو مهزوم يطلب المأوى، يقف الكاتب المسلم على هذه الأنقاض، ثم يرسل بصره منص_009(1/6)
وراء المسافات الشاسعة، ليسائل الساكنين فى ناطحات السحاب: أهذا ما أوعزتم به، ورضيتم عنه؟ ألهذا صنعتم السلاح، وأعطيتموه فرنسا!. ثم يسائل الفرنسيين أنفسهم: أهذه الهمجية المجنونة هى وصايا حضارتكم فى معاملتنا نحن المسلمين؟!. إنكم إذا بطشتم جبارين، إنكم تأكلون لحومنا فى ضراوة مفزعة. إذا لم يكن لكم رب تتقونه، أما تخشون أن تدور عليكم الليالى فتدفعوا ثمن هذا كله؟ لكن ما جدوى التساؤل المفجوع هنا، والبكاء الضارع هناك؟ إن محو هذه المآسى منوط بأعناقنا نحن. أما زبانية الاستعمار فلا يسوغ لهم ملام، ولا يوجه لهم كلام، ما موضع العتاب بين قطيع أعزل، وقافلة ذئاب؟. *** إن ألوف الأغرار ينظرون فى بلاهة إلى الحروب الاستعمارية فى الشرق الإسلامى! يحسبونها حروبا مجردة من النزعات الدينية المنحرفة. ونحن الذين لمسنا ألوف الأدلة على ما فى سياسة الغرب تجاهنا من أحقاد صليبية، لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة يؤكد لدينا هذا اليقين. ولكننا فى هذا الكتاب نكشف النقاب عن جوانب يختلط فيها الضغن الأعمى بالجشع البالغ، ونعرض هذه الصور أمام الأعين المتألمة، ليعرف الواهمون أنهم أمام حرب تريد طحن أرواحهم وأجسامهم، تريد محق دنياهم وأخراهم، تريد استلال الإيمان من قلوبهم، واستلال العافية من أبدانهم، تريد فرض جاهلية حديثة فى أغلب أقطار العالم. بعد أن يذوب الإسلام فى القارتين القديمتين، وبعد أن تتحول شعوبه إلى عبيد لعبيد الآلات... إن ثورات الضغينة الخسيسة على الإسلام ومعتنقيه تكمن وراء حقل السياسات الأجنبية كلها. ومحاولات الساسة فى أوروبا وأمريكا علاج قضايانا المختلفة لا تنفصل أبدأ عن محاولاتهم توهين أمرنا، وخذلان جانبنا، تمشيا مع مشاعر الحقد الدينى علينا...ص_010(1/7)
ولطالما تجاهلنا هذه المعانى، ورغبنا فى نقل المعركة إلى ميدان آخر، ميدان لا تشم فيه رائحة التعصب لدين، أو التعصب ضد دين. بيد أن ساسة الغرب وزبانية الاستعمار أبوا إلا إكراهنا على مواجهة هذه الحقيقة المرة، فنحن نقف أمامها بعد أن حبسنا هؤلاء فى نطاق من الصور الداكنة، يحيط بنا عن يمين وشمال، توحى كلها بأننا أمام غارات صليبية جديدة لم تغير هدفها القديم و إن تغيرت أحيانا الوسائل... وحاشا للنصرانية التى جاء بها عيسى ابن مريم أن تكون سر هذا الحيف، إن الصليبية المعتدية ليس إلا وثنية أخفت طبيعتها فى غلاف سماوى ، غيرأن هذا الإخفاء ما لبث أن تلاشى، ودل السلوك الشائن على أن المستعمرين ليس لهم دين إلا دين السطو والفتنة. وعيسى، وسائر الأنبياء أبرياء من هذا الظلم المبين... ولما كان المعتدون علينا يسوغون مظالمهم بأنها رد على حركة الفتح الإسلامى الأول، وأنهم يمنعون قيام تجمع عربى إسلامى لأن هذا التجمع خطر، ومن ثم يجب سحقه قبل أن ينشأ، لذلك عرضنا مرة أخرى لعنصر القوة فى ديننا وطبيعة السلام فى إسلامنا. ومع أنه سبق لنا بسط القول فى هذا الموضوع فلن نسأم من تكرار الخوض فيه حتى نكشف شبهات المرجفين ونفضح طوايا الأفاكين ... إن القتلة لا يستكثر عليهم الكذب، واللصوص لا يستبعد منهم الافتراء والتزوير، والمستعمرين لا يستغرب منهم أن يجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق... وإلا فكيف يعتبر بقاء الفرنسيين فى الجزائر شيئا طبيعيا لا تسئل عنه، فإذا جاء جيش من أهل الأرض أو أهل السماء وأجلاهم عنها بالسيف ـ بداهة ـ عد ذلك تهجما كريها وفتحا ظالما .ص_011(1/8)
وانطلق الكذبة فى كل فج يعيبون السيف، وينكرون امتشاقه! بأى وجه يكون فتح الرومان لمصر عملا مشروعا، وحرب العرب للرومان عملا منكورا؟! إن تعاون أوروبا وأمريكا على استغلالنا واستغلالنا ليس إلا عودا على بدء، و إلا استئنافا للضيم القديم. وكل قوة تفل شوكتهم فهى مقدورة مشكورة. فكيف إذا كانت قوة يمليها العدل المطلق، وتسرى فيها النزاهة الرائعة، لأنها قوة فى يد نبى وصديقين وشهداء وصالحين؟ لقد أثبتنا هنا فصولا أخرى عن الإسلام والسلام، بعد ما سردنا أحداثا مخزية عن أفاعيل الاستعمار، ليعرف المذهولون أى عدل مضاعف كان لدينا، وأى حيف مضاعف وقع علينا!. وأخيرا عرضنا لحركة الارتداد الخلقى ، والثقافى والتشريعى ، التى أحدثها الغزو الأجنبى فى بلادنا، وأدارها وفق سياسة مرسومة رتيبة... وهى حركة تزعج كل مؤمن، ومن حقنا أن نقلق على مستقبل الإسلام منها. إن الاستعمار دائب على تخريج أجيال ملحدة، وهو يغذى فى إلحاح كل عمل يطرد الإيمان من القلوب، ويشيع المنكر والفحشاء فى المجتمع. وغايته التى ظهرت من طول سعيه لها ـ مع شدة خبثه وتكتمه ـ هى القضاء على الإسلام فى أوطانه، وردم المنابع التى تمد الناشئة بتعاليمه، وتبصرهم بحدوده وحقوقه!... ومن القصور أن تحسب أهداف الاستعمار الصليبى منتهية عند بث الرذائل فى المجتمع، ونشر التفكك فى شتى نواحيه، كلا، إن الأمر لديه أكبر من ذلك. وسترى فى هذا الكتاب أن المقصود هدم رسالة محمد من الألف إلى الياء، وخلق نفر من الكتاب يؤلفون الرسائل ويدبجون المقالات، وملء نفوسهم: أن محمداً هذاص_012(1/9)
رجل دعى، وأن قرآنه كتاب بشرى، وأن التعلق به رجعية بالية، وأن الخروج عليه طريق التقدم والارتقاء. وذلك كله طبعا لحساب الصليبية الغازية، وتحقيق لمآربها التى لم تتغير على ترامى الأعصار... *** إن للاستعمار أحقاد دينية، وأطماع دنيوية، وكل أهاب يغطي هذه السوءات فهو جملة أصباغ وفى هون، يجيدها ممثلو الروايات فى أدوارهم الضاحكة، أو الباكية. والدنيا لم تعرف أناسا أوتوا المقدرة على إخفاء أحد النيات وراء المعسول من الكلمات كما عرفت ذلك فى تجار الاستعمار الحديث... إننا من سبعين سنة ـ نحارب تيارات الإلحاد والتكفير التى تنحدر إلينا من عواصم الغرب، ونكفكف فى جهد مضن موجات الفسق والمعصية التى تلطم مجتمعنا بإصرار، والتى تتحسس السدود الضعيفة لتنساب منها كى تفسد علينا ديننا وتاريخنا والله يعلم فداحة مصابنا من هذه الناحية. إن بلاد الإسلام فى أسوأ ما مر بها من ظروف ـ لم تكن طيعة لعوامل الشك والتحلل، ولا لينة أمام فنون الإغراء الجنسى، ولا مسعورة فى التعلق بتراب الدنيا، ولا مصروفة عن مرضاة الله، كما زين لها ذلك كله الاستعمار الحديث... (ولا نشك أن مصابها من هذه الناحية هو الذى زين لبعض بنيها أن ينخدع بالإلحاد الأحمر وأن يعتنق كثيرا أو قليلا من مبادئه السفلى...) ونحن المسلمين لن نتحول قيد أنملة عن قواعدنا الدينية، ولن نستسيغ بتة أى لون من ألوان الإلحاد مهما كانت صبغته ...ص_013(1/10)
ألا قبح الله الإلحاد كله، ووقى المسلمين غوائله أيا كان مصدره، ورد العافية إلى أمتنا فى معاشها ومعادها، حتى تعود إلى ميدان الحياة مرة أخرى رحمة للعالمين، وبركة للناس أجمعين. لكن تلك الأمنية الحلوة لن تتحقق ما بقى الاستعمار ينشب مخالبه فى مقاتلنا، وينقض غزلنا كلما قويناه، ويعفى علينا الصراط كلما سلكناه. وكتابنا هذا يتضمن جملة ضخمة من الأدلة والاحصاءات والأسانيد الوثيقة لم أستطع تنسيقها عالى نحو فنى يرضى أذواقا معينة، لأن الحياة التى أحياها والطريقة التى أكافح بها لا يعينانى على هذا. بيد أن ما جمعته فيه من حقائق وما أثرته من تعليقات، يبلغ به ما أريد! والذى أريده، أن ترسخ فى الأذهان هذه الكلمة: إن الاستعمار أحقاد وأطماع! وأن مستقبلنا لن يضىء إلا إذا نجا من حقد الحاقدين، وطمع الطامعين.
محمد الغزالى * * *
ص_014
1ـ كيف يفتكون بنا...(1/11)
رسالات السماء والأجناس التى حملتها: "الناس معادن" تكشف المعاملات عن سرائرهم وهم آحاد، وتكشف السياسات عن طبائعهم وهم جماعات. ومعادن الأمم تتكون من جملة السلوك العام لأفرادها، مع ما ينضم إلى ذلك من خصائص الجنس، ومستويات الثقافة، وأنصبة المنفعة التى تحرص كل أمة على تحصيلها لنفسها... ومعدن الأمة له أثر كبير " فيما تحمل " من رسالات، فإن الأمة التى لها خصائص كريمة تصل برسالتها إلى مدى بعيد، والأمة التافهة تكبو بالرسالة التى تحملها، وتقف بها دون الغاية المنشودة…! إذا التقت طبيعة أمة ما مع طبيعة الرسالة التى تحملها كان هذا الالتقاء قوة كبيرة للأمة ورسالتها معا. وتعزز ثمرات الخير الناشئة عنه إذا كانت هذه الرسالة قائمة على الإيمان والحق، محكمة السير فيما تقدم للعالم من بر ورحمة! ولكن هل هذا الالتقاء ميسور دائما؟ إن الأمم قد تكون لها طبائع شرسة إلى جانب نواحيها الأخرى الطيبة، فإذا اعتنقت دينا كله. رفق وبناء، فهل تهب له نواحيها الطيبة، وتطوى له طباعها الرديئة، وتؤدى الأمانة كاملة فى عرضه وفرضه؟؟ إن التاريخ يسجل تفاوتا كبيرا لمسير الرسالات الكبرى فى الأرض، وهو تفاوت يجب أن نلحظه حين ننصف الأديان من اتباعها، وحين نذكر ما لها وما عليها... لقد اعتنق العرب الإسلام، فاستطاع هذا الدين فى فجر دعوته أن يذيب العصبيات المفرقة التى أكلت هذا الجنس، وبددت قواه، واستطاع أن يحول تهوره إلى شجاعة حكيمة، واعتداده بنفسه إلى اعتداد بالحق ورسالته فحسب..! من ثم انتفع الإسلام بالعرب، بعد أن هذب معدنهم، وصقل رونقه، فإذا هو يطوف بالمعمور من أرض الله فى سبعين سنة، ويؤسس حضارات عليها طابع الخلود..!ص_015(1/12)
ثم تحركت العصبيات المكبوتة، وتفلتت من قيود الدين، ورجعت إلى العرب طبائعهم فى الجاهلية، مع حرصهم فى الوقت نفسه على استبقاء الإهاب الإسلامى، وظواهر التقى والإيمان. وتفرقوا شيعا فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر! فكانت عودة الحياة إلى هذه العصبيات المفرقة سببا فى انهدام الدولة الإسلامية الكبرى، بل كانت سببا فى انسلاخ أقطار وأقوام عن الإسلام جملة. *** واعتنق الترك الإسلام، وكانوا أول عهدهم أصحاب بداوة أنقذت الإسلام من عصور الترف والانحلال التى وصلت إليها أمته ودولته. والجنس التركى كغيره من الأجناس له محامده ومثالبه، أنه شجاع تتغلغل عواطف الإيمان فيه إلى غور بعيد، بيد أن حماسه مشوب بحمق، وشجاعته تصحبها عنجهية، وهذه الخواص التى عرف بها الترك أفادت الإسلام وأضرته. أفادته فى مقاتلة أوروبا بحمية أربت على حمية الصليبيين، و إصرار كسر شوكتهم عدة قرون وصليبيو أوروبا ـ كما رأيت وسترى ـ وحوش، والقسوة التى لقيهم بها الترك كانت تأديبا قامعا لهمجيتهم. إلا أن سياسة الأتراك هذه وخلافتهم العسكرية أضرتا بالإسلام فى داخل بلاده وخارجها: ففى الداخل ذلت الأجناس المحكومة لعنجهية الجنس الحاكم وسيرته الخالية من الحكمة والرشاد، وفى الخارج تحولت الحرب الدينية إلى قتال ثارات وفتك، وغارات متبادلة. والإسلام برئ من هذه الحروب ـ وإن حمل الصليبيون وحدهم تبعاتها فى القديم والحديث ـ فإن حروب الإسلام يجب أن تلزم الدائرة المضروبة حولها فى كتاب الله وسنة رسوله. ومهما أسف الأعداء، وغلت مراجلهم بالحقد، فإن أسلوب الدعوة الإسلامية تأخير القتال بحيث لا يجئ إلا بعد استنفاد الوسائل السلمية فى تأمين الحق، ورد المظالم، وتأديب الطغاة...ص_016(1/13)
على أن تعاليم الإسلام ـ التى ضمن الله لها السلامة، وكتب لها البقاء ـ ظلت أولا وأخرا ترشد أتباع الإسلام إلى الحق إذا انحرفوا عنه، وترد شذوذ بعضهم إذا حمله الشطط على فعلة لا تليق. وذاك على عكس الأحوال التى سادت الصليبية والأجناس التى اعتنقتها، أو التى تناثرت منها الآن فى أوروبا وأمريكا. إن الناظر إلى أقطار الغرب قد تخدعه مظاهر المدنية التى بلغتها، وقد يظن أن نظافة القوم فى وجوههم وملابسهم فيض من نظافة ضمائرهم وأرواحهم، وهذا خطأ شديد، ووهم بعيد فالقوم من أقذر أهل الأرض ضمائر وأرواحا، وتقدمهم البادى فى مضمار العلوم والكشوف الكونية لم يخلعهم عن طبائعهم القبلية الأولى يوم كانت تسكن أوروبا قبائل الغال والقوط والوندال والسكسون وغيرهم، بل لعل تطور وسائل الإبادة والفتك زاد ضراوتهم، ووسع المجال أمامهم لإرواء ظمئهم إلى العد وان والسطو... وأفعالهم فى المستعمرات التى سقطت بين براثنهم تدل دلالة حاسمة على صدق الحكم. *** إن الأوروبيين يملكون الآن وسائل شتى لإخفاء فضائحهم، وسيطرتهم على العالم تمكنهم من ارتكاب أبشع الجرائم فيه، ثم تفرض الرقابة على الأنباء، فلا يدرى الناس شيئا عن الركن البائس من أركان الدنيا، الذى بطش الأوروبيون به، وأحلوا مقتهم بأهله ! هل درى الناس أن جزيرة " مدغشقر " ثارت بعد الحرب العالمية الثانية تطلب حريتها، فكان جزاء الثائرين أن تحركت القوات الفرنسية، وقتلت من الأهلين ثمانين ألف نسمة! يا لله ثمانين ألف نفس فى ضربة واحدة! لقد داخ الثوار إثر هذه المجزرة، وساد الجزيرة الصريعة صمت مطبق، وقضى على حركة التحرر فيها قضاء لا يعرف مداه، وركنت بقية الأحياء إلى الخنوع وهم فى فزع لمقتل الآباء والأبناء، والأمهات والبنات بهذه الصورة المسرفة!!. أما الفرنسيون فقد استأنفوا حمل مشعل الحضارة مع غيرهم من مؤسسى هيئة الأمم المتحدة..!ص_017(1/14)
وماذا حدث فى " كينيا "؟ أن قبائل " ماوماو " ثارت هى الأخرى تطلب حريتها من الإنجليز المحتلين، واستطاعت هذه القبائل أن تكون جيشا على شىء من النظام والدربة، له قائد برتبة " جنرال "، ودارت رحى القتال بين البيض والسود، وبين قبائل الإنجليز السكسون، وقبائل الزنوج الإفريقيين، وكانت حربا لا تكافؤ فيها ولا شرف. كان قادة " الماوماو " يشنقون إذا سقطوا فى الأسر، وضرب المستعمرون الأقوياء نطاقا حول وسط أفريقيا. ثم شرعوا فى صمت يبيدون أهل البلاد، ويقتلونهم بالعشرات والمئات، حتى تم لهم الإجهاز على الثورة والثائرين. *** قال الأستاذ محمد شاهين حمزة: " لقد أعلن ناطق عسكرى منذ أيام أنه لم يبق من هؤلاء سوى 250 أو 300 على الأكثر.. "، إذن لقد أبيدت عشرات الألوف من هؤلاء ا!لطالبين بحقوق الإنسان، ولعل كثيرين لا يعلمون أنه ـ حين كانت هذه الجماعات تباد بمختلف الوسائل ـ أذاع الإنجليز فجأة أن وحوشا مفترسة تأكل البشر قد ظهرت بكثرة، وانتشرت فى مواطن أولئك المجاهدين، وأنها تفتك بهم فتكا ذريعا، وأن حملات عسكرية وجهت لإبادة هذه الوحوش، ونجحت فى إبادتها، وأغلب الظن أنه لم تكن ثمة وحوش، لكنهم أرادوا تغطية جرائمهم البشعة أمام العالم، فاختلقوا هذه المزاعم ليلصقوا بالوحوش البريئة تهمة إبادة البشر، على حد المثل " رمتنى بدائها وانسلت ".. " لقد كانوا وحدهم الوحوش التى أكلت البشر ". إن فى دماء الأوروبيين وحشية بدأ الستار ينكشف عنها، وظاهر من سياسة دولهم أن القساوة الموغلة ديدنهم فى حروبهم التى تشتعل بينهم، أو التى يشعلونها ضد غيرهم، وهنا نسأل: أليس الأوروبيون نصارى، يؤمنون بعيسى بن مريم الإنسان الرفيق الرقيق الوديع، النبى الذى قال: (و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا).
ص_018
ألم تؤثر هذه الرسالة شيئا فى اتباعها؟ ألم تكفكف قليلا أو كثيرا من سوء طباعهم، وشراسة أخلاقهم؟ * * *(1/15)
صليبية الغرب ليست ديانة عيسى بن مريم:
والجواب أن الصليبية التى تهيمن على الأوربيين والأمريكيين شىء آخر غير النصرانية التى لها كتاب منزل، ومنهج سماوى مقدس، أنها شىء آخر يغاير تعاليم عيسى أتم المغايرة، و إن كان جمهور القساوسة والرهبان يمارى فى هذه الحقيقة, لأنه ينسج صلته بعيسى بن مريم على نحو يوائم الصليبية المحدثة الجامحة، ثم ينسب هذا الدين المحرف إلى عيسى نفسه. وعيسى برىء من هذا الشرود، إن الله يقول فى رسالة عيسى: (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين). وتلك كلها معان فقدت، أو ضاع منبعها فى الصليبية التى تعرف الآن، والتى يزعم أنها هى النصرانية الأولى. *** ولهذه الصليبية الغالبة خواص لابد من كشفها. منها، أنها انسجمت مع طبائع الغربيين الذين اعتنقوها، وأرخت العنان لما يكمن فيها من قسوة. ومنها، أنها نقضت الإحساس بمعنى الجريمة وعقباها السيئة. ذلك أن نظرية الفداء، وما تضمنته من أن عيسى قتل كفارة لخطايا بنى آدم، جعلت الألوف المؤلفة من مصدقيها يستهينون بالآثام المحظورة، ويقدمون عليها وهم آملون أن تحمل عنهم!! وهذه العقيدة كانت سبب مصائب كبيرة حلت بالأمم المهزومة، ولعل شوقى كان يغمز أساسها ببيته اللاذع: يا حامل الآلام عن هذا الورى كثرت عليك باسمك الآلام!!ص_019(1/16)
ثم إن هذه الصليبية كانت تعانى ما يسميه علماء النفس " عقدة الضعة "، فهى تعرف مجافاتها للعقل، وبعدها الساحق عن منطقه السليم، ومن ثم فهى تستعيض عن الهدوء فى عرض نفسها، والجدال بالتى هى أحسن، تستعيض عن ذلك بغضب ظاهر على المذاهب والأديان الأخرى. كان عاطفة الحنق على المخالفين سوف تضفى عليها حقا فاتها من ضعف الدليل، وانهيار الحجة. وهذا يفسر سياسة البطش الشنيع التى اتبعتها الصليبية ضد غيرها، بل التى اتبعتها ضد الإسلام خاصة..!!! وقد التقت الطبيعتان. طبيعة الغربيين الهمجية، وطبيعة الصليبية هذه، التقتا فى الغزو الاستعمارى الأخير للأقطار الإسلامية.. ونحن نختار أحداث الجزائر مثلا ناطقا بصدق ما قلناه آنفا. كتب الأديبان الفرنسيان " كوليت وفرانسيس جانسون ": " لعل العبث بالدين الإسلامى كان هو المجال المفضل لدى القائد " روفيجو " فقد وقف هذا القائد الفاجر، ونادى فى قومه: إنه يلزمه أجمل مسجد فى المدينة ليجعل منه معبدا لإله المسيحيين. وطلب إلى أعوانه إعداد ذلك فى أقصر وقت ممكن. ثم أشار إلى جامع القشاوة لأنه كما قال ـ أجمل مساجد الجزائر طرا ـ وهو فى وسط المدينة، وفى قلب الحى الأوروبى، وبالفعل تحدد ظهر يوم 18 من ديسمبر سنة 1832 لإنجاز هذا العمل، وتحقيق تلك الرغبة. ففى الميعاد المحدد تقدمت إحدى بطاريات الجيش، وأخذت أهبتها للعمل فى ميدان السودان. وخرجت من بينها فرقة من سلاح المهندسين، فهاجمت أبواب المسجد بالبلط والفئوس، و إذا داخل المسجد (4000) أربعة آلاف مسلم، اعتصموا جميعا خلف المتاريس، فاندفعت نحوهم القوة العسكرية، ودحرتهم بالسناكى، فخروا بين صرعى وجرحى تحت أرجل الجنود، واستمرت هذه العملية طوال الليل! حتى إذا كان الصباح، كانت القرارات قد صدرت، وصار المسجد الجامع (كاتدرائية الجزائر). وما أن انتهى الجنود من هذا العمل، حتى استداروا على أعقابهم صوب مسجد القصبة، الغنى بذكريات الإسلام، وأيامه(1/17)
المجيدة، فدخله القواد والضباط والجنود، وأقاموا فيه شعائرهم الدينية، حتى إذا انتهى القداس، شرع القساوسة فى تمجيد " إله الجيوش "، وترتيل " نشيد الغفران ").ص_020
ولعمر الحق إذا ساغ للجنود الجهلة، ولضباطهم العابثين، أن يأتوا مثل هذه الأفعال النكراء، فكيف يسوغ للقس " سوشيه "، وهو الوكيل العام لأسقف الجزائر، أن ينضم إليهم، ويتزعم طابورهم؟ لقد وضع هذا القس سنة 1839 كتابا أسماه " رسائل مفيدة ومشوقة عن الجزائر "، وجه فيه الكلام إلى عاهل فرنسا فقال: إن مسيو " فاليه " رجل عميق التفكير! ذو ضمير حى! لا تنقصه الحيلة! إنه! يحكم الجزائر كأكثر الملوك إطلاقا فى الحكم! إنه الرجل الذى ليس لهذه المستعمرة غنى عنه! إنه يرغب أن يستتب الدين المسيحى وأن يحترمه الجميع! إنه يريد أن يضاعف من عدد الصلبان والكنائس! فى الجزائر! إن مولاى يستطيع أن يفعل ما يشاء مع رجل مثل المسيو " فاليه " الذى اختارأجمل مسجد فى قسطنطينة ليجعل مه أجمل كنيسة فى المستعمرة... " ا. هـ * * * مآسى لا تنسى... وقد وقع الاختيار على القس سوشيه هذا ليكون راعيا للكنيسة التى كانت مسجدا، وما أن أطلقت يداه ليعد لنفسه منبرا للوعظ فيها، حتى استولى على منبر الرسول محمد، أتى به من مسجد يقال له " المقدس "، وهو آية فى فن النقش العربى، وعلى هذا المنبر النفيس، وقف سكرتير الحاكم " بوجو " يقول: " إن آخر أيام الإسلام قد دنت، وفى خلال عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا الشك فى أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك على أي حال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد، أما العرب فلن يكونوا ملكا لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعا "... *** أرأيت هذه السخائم المشتعلة يمدها بالوقود تدين وحشى كاذب؟ تلك هى الصليبية الفرنسية، قادها ضد مصر " لويس التاسع " من سبعة قرون، ثم عاد يكسوه العار، وقادها خلفاؤه ضد الجزائر من قرن وثلث، ولا يزال(1/18)
القتال ناشبا بين المغيرين والمدافعين إلى يوم الناس هذا، وهو قتال مرير المذاق، ندفع نحن المسلمين مغارمه الفادحة من آلاف المهج الهالكة، وعشرات القرى المدمرة. والعالم الغربى يشهد المأساة الشائنة وهو يضحك!! إن قتل المسلمين (جملة وتفصيلا) بعض ما تواضع عليه ساسة أوروبا وأمريكا، والخلاص من دينهم هو أمنيتهم الحبيبة، هو أمنيتهم التى يسعون لتحقيقها جهرة واغتيالا..!ص_021
لكن هل تحقق بعد ما يشتهون؟ إنه منذ أكثر من قرن وصوت الشيطان يتردد ـ كما سمعت ـ يزعم أن آخر أيام الإسلام دنت، وبعد عشرين عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح!! وقد مضت عشرون، وعشرون، وعشرون... وأهل الجزائر يأبون الفتنة فى دينهم، ويستعصون على الإلحاد والفسوق الذى تبثه فرنسا بينهم. أما فرنسا نفسها فقد أصبح ثلثها شيوعيا.. يرى أن الله خرافة وأن المسيح لقيط..! والثورة اليوم ناشبة فى أنحاء الجزائر، والثوار ـ بوسائلهم المحدودة ـ يستميتون فى مدافعة العدو البغيض، والأنباء الكئيبة تصدع الصخر، بيد أن العالم الصليبى يتلقاها بغير اكتراث، إلا قليلا من ذوى القلوب الكبيرة، فقد نشرت مجلة " الأديب " هذه النبذة: تهتم الصحف الفرنسية اهتماما كبيرا هذه الأيام بالحالة فى الجزائر، بمناسبة عرض القضية الجزائرية على الأمم المتحدة، وتخصص هذه الصحف صفحات كثيرة عن الوضع الجزائرى ، ولكن عددا قليلا من هذه الصحف يتحدث بتجرد ونزاهة، ويعنى بإظهار الأمور على حقيقتها، ومن هذه الصحف القليلة الحرة صحيفة " فرانس أوبسرفاتور "، المعروفة بتجردها ونزعتها الديمقراطية الصحيحة. وقد نشرت " فرانس أوبسرفاتور " فى عددها 348 رسالة من مراسلها فى "بيسكرا" بالجزائر" يتحدث فيها عن حالة التوتر الفظيعة التى تعيش فيها المدن والقرى والناس. يقول المراسل: " إن " بيسكرا " نفسها تعيش فى حالة حصار حقيقى ، فهناك مصفحات ودبابات تحاصر الأحياء العربية فى المدينة، ويقف الجنود السنغاليون(1/19)
فى حالة الاستعداد عند مدخل كل شارع من الشوارع الأوروبية، وقد كف السكان المدنيون عن دخول دور السينما، وانقطع كل اتصال بين فئتى السكان " ثلاثة آلاف فرنسى ، وزهاء خمسين ! ألف مسلم ". والفرنسيون القليلون الأحرار الذين يحاولون إبقاء العلاقة مع المسلمين مشبوهون، وبريدهم مراقب، وقد طرد بعضهم، وسجن البعض الآخر! وينتظر الأوروبيون بقلق يوم السبت الذى اعتاد أعضاء جبهة التحرير الجزائرية أن يغتالوا فيه بعض الأشخاص الذين يظهرون عداء شديدا لمبدأ استقلال الجزائر؟ ويظلص_022(1/20)
المسلمون بدورهم فى حالة إرهاب وذعر من البوليس وأعضاء الميليشيا، الذين خلقهم البوليس لمجابهة الإرهابيين (!!) وقد حدث أن جبهة التحرير أمرت باغتيال رجل يدعى " دوغليون "، فكانت النتيجة أن البوليس الفرنسى قبض على أحد عشر شخصا كانوا يسيرون صدفة فى الطريق، وحصدهم بالمدافع الرشاشة، وكان بينهم طالب فى الثالثة عشرة اسمه " عادلى على بن عباس " وجميع الباقين متزوجون ولهم أولاد. وفى ضاحية تبعد كيلو مترا واحدا عن " بيسكرا "، واسمها " العالية "، قتل فى الوقت نفسه مسلمان، وفى " فيلياشا " التى تبعد كليو مترين قتل خمسة مسلمين. وهكذا يبلغ عدد المسلمين الذين قتلوا ثأرا للفرنسى " دوغليود " ثمانية عشر، والواقع أن جبهة التحرير أمرت بقتل هذا الشخص، لأنه كان قد تسبب قبل أيام فى قتل مسلمين وجدا مذبوحين بعد أن أطلقت السلطات سراحهما. وهكذا تخلق السلطات الفرنسية فى مدن الجزائرـ ولست " بيسكرا " إلا حالة واحدة ـ جوا من الإرهاب الفظيع، لا يمكن أن يخلق إلا النقمة والحقد والكراهية، ما يجعل حل القضية الجزائرية أمرا مستحيلا. ولا شك فى أن أفظع ما فى هذا الإرهاب خلق معسكرات الاعتقال، ولا سيما فى " سان لو " و " لودى "، وكان" موليه " قد وعد بإطلاق سراح المعتقلين، ولكن عدد هؤلاء تضاعف منذ تولى " موليه " السلطة. وفى هذه المعسكرات يحشر من يسمون " بالمعتقلين السياسيين ": الذين يوضعون تحت المراقبة الشديدة فى انتظار محاكمتهم، وقد يستمر هذا الانتظار عدة أسابيع، بل عدة أشهر، يعانى المعتقل فى أثنائها ألوانا من التعذيب، أصبحت معروفة. ويضم معتقل " لودى " 120 معتقلا كلهم من الشيوعيين، أو من نقابة العمال، ومعظم هؤلاء من الأوروبيين، ولذلك كانت أحوال المعيشة والمعاملة فى هذا المعتقل أفضل منها فى المعتقلات الأخرى. وأما معتقل " سان لو " فيضم 1300 سجين من المسلمين يعاملون أسوا المعاملة، ويموت بعضهم من الجوع والتعذيب.ص_023(1/21)
وهناك عدة معتقلات أخرى تضم زهاء ثلاثة آلاف معتقل ؛ وتبقى بعد ذلك المعتقلات التى يديرها العسكريون إدارة مريعة تخالف كل ما هو بشرى . تلك هى لوحة موجزة عن نظام الإرهاب والاعتقال السياسى فى الجزائر التى يأخذون عليها أن تطالب باستقلالها وحريتها !! " أ . هـ * * * والذى سطرته الصحيفة الفرنسية من فعال قومها ، لو كان منكراً حدث فى يوم من الأيام ثم انتهى لهان الخطب ، ولكن الداهية التى تضرم الأحزان فى الأفئدة أن هذه المآسى تتجدد على الأيام ، وتتغلغل فى الماضى الأسود أكثر من مائة وثلاثين سنة.. اتون يصلى المسلمون ناره ، فما تنقلهم الأحداث الرهيبة من ميدان إلا ليدخلوا ميدان آخر ، وما تندمل جراحهم من مأساة إلا نكأت الجراح مأساة أشد ، وذلك كله ليكون المسيح إله الجزائر ـ كما صرحوا ـ ، ولتكون أرض الجزائر الغنية طعمة للصليبيين الجياع إلى السحت ، المنهومين الذين لا يشبعون أبداً من سرقة ولا غضب..! وقد تحركت بعض الضمائر فى فرنسا نفسها ، واستنكرت هذه الوحشية فى معاملة المسلمين ، غير أن الذين استحيوا من فعال قومهم قليل لا يؤبه لهم ، وكأن هذا النفر الغاضب على مصائب الإنسانية المجردة فى القطر البائس إنما أراد أن يوضح للعالم كله : أن الكثرة الساحقة فى فرنسا ترتضى هذا العذاب وتؤيده ، وترفض التراجع عنه ، أو التخفيف منه . وتلك على كل حال هى الحقيقة . فإن النواب الفرنسيين منحوا ثقتهم الحكومة أكثر من ثلاثين مرة كلما طرحت مصيرها بين النواب ، وهى الحكومة التى تباشرها هذه الأيام حرب الإبادة ضد مسلمى الجزائر ، ولا يمر يوم إلا وفى طياته جانب من الأحزان التى تطحن القلوب فى البلد المجاهد المحروب . إن فرنسا ، بل الاستعمار كله هو الذى يحمل هذا الجرم ويطالب ـ وإن طال المدى ـ بالقصاص ..! * * *ص_024(1/22)
ومن بين الكتاب الفرنسيين الذين حاربوا مظالم قومهم، وناشدوهم الانصاف، وتجفيف المآقى الدامية الأديبان " كوليت " و " فرانسيس جانسون " وقد نشرا أخيرا مؤلفا عن الجزائر الثائرة ترجم إلى العربية، وقدم له وزير الإرشاد بمقدمة جاء فيها: " سيرى القارىء فى هذا الكتاب كل ما أورده المؤلفان من صور يقشعر لها البدن، بل يجمد لها القلب، وسيسائل نفسه ـ كما ساءلت نفسى ـ عند كل فقرة: هل هذا حدث فعلا، أو أنه خيال قصاص؟ لكنه سيرى أن التساؤل لا محل له، فالمؤلفان لا يرويان عن شاهد، إنما ينقلان عن تقارير لجان رسمية، أو من رسائل مكتوبة بخط قادة، أو ضباط، يتركون أنفسهم فيها على سجيتها وهم يتحدثون إلى زوجاتهم، أو ذوى قرباهم، فقد جاء مثلا فى أحد التقارير الرسمية: " بناء على تعليمات الجنرل " روفيجو "، خرجت قوة من الجنود فى مدينة الجزائر ليلة السادس من أبريل سنة 1832، وانقضت قبيل الفجر على أفراد القبيلة، وهم نيام تحت خيامهم، فبغتتهم جميعا دون أن يستطيع أحد منهم الدفاع عن نفسه، وقد لقى الجميع حتفهم بغير ما تمييز بين رجل وطفل، ولا بين رجل وامرأة، وعاد الفرنسيون من هذه الحملة وهم يرفعون رؤوس القتلى على أسنة رماحهم! " . ويقول الجنرال شان جارنييه: " إن رجاله وجدوا التسلية فى جزر رقاب المواطنين من رجال القبائل الثائرة فى بلدتى " الحواش " و " بورقيقة "، كما جاء فى تقرير رسمى: " إن كل الماشية قد بيعت إلى قنصل الدانمرك، وعرض باقى الغنيمة فى سوق باب عزون، حيث كانت ترى أساور النساء محيطة بمعاصم مقطوعة، وأقراط تتدلى من لحم آدمى، وقد بيعت هذه المصوغات، ووزع ثمنها على ذابحى أصحابها، وفى ليل ذلك اليوم أصدر البوليس أوامره إلى أهل المدينة بإضاءة الأنوار فى حوانيتهم علامة على الابتهاج!! ". وقالت إحدى اللجان الرسمية الفرنسية فى تقرير لها ـ كتبته بعد تحقيق أجرته إثر بعض هذه المذابح ـ :ص_025(1/23)
" لقد ذبحنا أناسا كانوا يحملون تراخيص بالتنقل، كما قضينا على مناطق بأكملها، اتضح فيما بعد أن ضحايانا فيها كانوا أبرياء، وقد حاكمنا رجالا عرفوا بالقداسة بين عشيرتهم، وآخرين لا تنقصهم صفة الاحترام بين ذويهم لمجرد أنهم مثلوا أمامنا سائلين الرحمة بزملائهم، وقد وجدنا قضاة ليحكموا عليهم، ورجالا متمدينين ليشنقوهم! ". وقد كتب الماريشال " سانت أرنو " إلى أهله يقول: " إن بلاد " بنى منصر " بديعة، وهى من أجمل ما رأيت فى أفريقيا، فقراها متقاربة، وأهلها متحابون، لقد أحرقنا فيها كل شىء، ودمرنا كل شىء ". وقال لزوجته فى خطاب: " إنى أفكر فيكم جميعا، وأكتب إليك يحيط بى أفق من النيران والدخان، لقد تركتنى عند قبيلة البراز، فأحرقتهم جميعا، ونشرت حولهم الخراب، وأنا الآن عند السنجاد، أعيد فيهم الشىء نفسه، ولكن على نطاق أوسع ". وكتب " مونتياك " فى كتاب له أسماه " رسائل جندى " يقول: " لقد كانت مذبحة شنيعة حقا، كانت المساكن والخيام فى الميادين والشوارع والأفنية التى انتشرت عليها الجثث فى كل مكان، وقد أحصينا فى جو هادىء- بعد الاستيلاء على المدينة- عدد القتلى من النساء والأطفال، فألفيناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب يسير هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة... ". أ. هـ * * * * وقد اشمأز من هذه الجرائم التى تذهل قساة القلوب، بعض الذين شاركوا فيها، أو أمروا بتنفيذها، مثل القائد الفرنسى " الكونت هيريسيون " الذى قال : " فظائع لا مثيل لها! أوامر بالشنق تصدر من نفوس كالصخر، يقوم بتنفيذها جلادون قلوبهم كالحجر، بالرمى بالرصاص أحيانا، وباستعمال السيف أحيانا أخرى، فى أناس مساكين، جل ذنبهم أنهم لا يستطيعون إرشادنا إلى ما نطلب إليهم أن يرشدونا إليه!". ومع ذلك فإن الميل إلى سفك الدم، وحب التعذيب بازهاق الأرواح جملة، وبإبادة القرى والقبائل، وحرق البيوت، والتمثيل بالموتى، والإجهاز(1/24)
علىص_026
الجرحى، والفتك بالأ طفال والشيوخ والنساء، والاتجار بأعضائهم المبتورة، وحليهم ومتاعهم الغارق فى دمائهم، هذا الميل لم يجد فى كل الذى رويت لك طرفا منه ما يشبعه أو يرضيه، فأخذ الفرنسيون يتفننون فى ابتكار وسائل أخرى لم يسمع بها تاريخ البشرية، على كثرة ما أمتلأ به هذا التاريخ من الفظائع والآثام. فهدتهم أخيرا غريزة التدمير والتخريب النامية عندهم إلى طريق أسموها هم أنفسهم " بجهنم "، وخلاصة هذه الطريقة: أن يسد الجنود الفرنسيون باب الكهف أو المغارة التى يلجأ إليها الجزائريون بنسائهم وأطفالهم ومواشيهم فرارا بأنفسهم من الموت والقتل والحرق، ثم يشعلوا فى بابها نارا كبيرة، فيختنق القطيع " البشرى " داخل المغارة مع قطعان الماشية التى صاحبته إلى جوفها، فإذا انبلج نور الصبح، ذهب الفرنسيون ليروا آثار ما قدمت أيديهم. وإليك وصف ما رأوه فى أحد تلك الكهوف: " فى مدخل الكهف انتشرت هياكل ثيران وحمير وخراف حدت بها الغريزة صوب مخرج الكهف بحثا عن الهواء الذى عدم فى الداخل، وتكدست بين هذه الحيوانات ومن تحتها جثث رجال ونساء وأطفال، وشوهد رجل ميت وهو جاث على ركبتيه وقد أمسكت يداه قرن ثور محترق، وبجواره امرأة تحتضن بين ذراعيها طفلها الميت، مما يدل على أن هذا الرجل قد اختنق وهو يدافع عن امرأته وطفله ـ اللذين اختنقا أيضا ـ شر هجوم الثور عليهما ". * * * طبيعة قديمة جديدة: هذه الفظائع المروعة ليست فى الصليبية الغربية سجية محدثة، إن القوم يسيرون على النهج الذى سلكه آباؤهم قبل، فالخلف والسلف على اختلاف الأمكنة والأزمنة، تحركهم طبائع واحدة، وتحدوهم غاية واحدة، أنهم مع خصومهم لا يعرفون للحرب أدبا، ولا للرحمة موقعا، إلا إذا تكافأت القوى، وخافوا الثأر العاجل، فهم عندئذ يعاملون العدو بحذر، اتقاء للعقوبة لا اتقاء لله، أما إذا أمنوا الثأر فلن يتوقع منهم إلا بطش الجبابرة. هل استخدام القنبلة الذرية يومئ إلى ذرة(1/25)
من الحس الإنسانى؟ص_027
إن هذه القنبلة تنزل فتحصد الرجال المقاتلين، ثم تحصد معهم الشيوخ الفانين، وجماهير النسوة والأطفال ممن لا شأن لهم بالحرب أبدا، ثم قطعان البقر والغنم والدواجن التى تعيش لسوء حظها مع هؤلاء! بل الحشرات، وأنواع النبات! إنها تجتث الحياة اجتثاثا حيث تنزل بلعنتها الماحقة، ومع هذا الشر المستطير فإن الأمريكان أنزلوه بمدينتين يابانيتين فى الحرب الأخيرة، وهو نوع من القتال لم يعرفه أدب الحروب من بدء الخليقة، ولولا أن سر الذرة فضح، وعرفه الآخرون لاستخدم هذا التفوق فى قهر الناس، وتغليب الهوى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). إن وحشية الفرنسيين فى الجزائر لا تزيد ولا تنقص عن وحشية غيرهم فى شتى المستعمرات، وخاصة التى يعيش فيها مسلمون، وهى تجديد للأساليب القديمة التى اتبعها آباؤهم فى إبادة الأجناس، واستئصال المخالفين فى الرأى والعقيدة. وهل محى الإسلام من الأندلس محوا إلا بالحديد والنار، وما سجله التاريخ لمحاكم التفتيش من همجية وعار؟ هل حدث مثل ذلك أو بعضه أو شئ منه فى تاريخنا؟ كتب الأستاذ " محمد شاهين حمزة " يروى مخازى هذه العهود: " لم تقم فى الشرق محاكم مثل محاكم التفتيش التى قامت فى بلاد عديدة من أوروبا، مثل أسبانيا و إيطاليا وفرنسا والبرتغال وألمانيا لسجن حرية العقيدة والفكر، ومطاردة الضمائر والعقول…، وإصدار أحكام تتقزز النفس منها اليوم وهى تقرأها فى صحائف التاريخ السود، أحكام منها الإماتة حرقا فى أحفال عامة يحضرها الملوك والوزراء والأعيان..، والدفن بالحياة بوضع المحكومة عليهم فى مقابر تترك فيها فتحات صغيرة ليراهم الناس منها وهم يدنون من الموت رويدا رويدا!. أجل ليتفرج الناس جميعا على أولئك الذين يحرقون! وهؤلاء الذين يدفنون أحياء، ليعذبوا بهذا الاختناق!.. والويل لمن ينظر ثم يتأفف أو يتحسر. فإذا كان المحكوم بموته امرأة، عريت وشدت إلى مقبرة وتركت ليلا(1/26)
ونهارا حتى تموت أو تجن.. أما حين تكون فى طور التحقيق فإنها تعرض لكلاليب ذات رؤوس حادة تسحب الثديين من الصدر! كانت هذه المحاكم تستعين فى تحقيقاتها للحصول على إقرارات صحيحة أو مزيفة بوسائل عديدة من التعذيب منها:ص_028
حرق الأقدام... واستعمال السياط فى الأقفية... والتعليق فى السقف مع ربط كل يد وكل قدم إلى حبل يشدها فى اتجاه مضاد... وغرز المسامير فى الرؤوس... وسل اللسان من الحلق بآلات خاصة... وتهشيم الأسنان بأجهزة معينة... ووضع الأقدام فى أحذية حديدية عرضت للنار حتى حميت وأحمرت... والكى فى أى مكان من الجسد... واستعمال أحذية ذات مسامير داخلية حادة، يؤمر المتهم بلبسها والمشى فيها، أو الجرى والسوط من خلفه... ومشانق تشنق المتهم نصف شنق... وتسديد حربتين إلى عينى المتهم تنفذان من مؤخرة الجمجمة... وتوجيه حربة إلى القلب، وأخرى إلى المعدة أوالأمعاء... وطى الجسم وكسر عظامه بآلات خاصة... وحلق الرأس وتعرضه لآلة تسقط الماء البارد عليه نقطة نقطة... وسلق مواضع من الجسم أوسلخها بوضع اسفنج مغموس فى ماء مغلى عليها... وتعريض الرؤوس لمطارق ثقيلة ساحقة... وصب الماء فى الجوف من الفم أثناء الوخز بالدبابيس فى الأعصاب والشرايين... ووضع آلة على فم المعذب حتى لا يخرج أنينه، فإذا أغمى عليه أنعش بشراب معين، ثم أعيد إلى التعذيب من جديد، وإذا مات فى أثناء التعذيب ألقى به بين المعذبين الآخرين زيادة فى إيلامهم و إرهابهم. " أ. هـ *** هل صنع إنسان فى الشرق مثل هذا؟ إن الإنسان لم ينحط فى الشرق قط كما انحط فى الغرب فى أزمنة مختلة، وفى دورات متعددة من التاريخ، ولا علا فيه جانبه الحيوانى المفترس، كما علا فى ربوع الغرب، واستبد وسيطر.ص_029(1/27)
كانت سلطة ديوان التحقيق أو محاكم التفتيش هذه مطلقة لا حد لبطشها ولا لجبروتها فى كل الأعم التى قامت فيها، لكنها فى أسبانيا ـ حيث كثر المسلمون ـ كان أفظع منها فى أى دولة أخرى. وبلغ المنفيون من أرضهم فى بلاد الأندلس مليونى يهودى، وثلاثة ملايين مسلم، أما عدد الذين أعدموا والذين سجنوا والذين عذبوا فى معتقلاتهم فقد كانوا مئات الألوف. ويقرر التاريخ أن هؤلاء المسلمين كانوا نخبة أهل الأ ندلس مقاما، وأمهرهم صناعة، وأغزرهم علما، وكان ما حدث لهم سببا من أسباب النكسة التى أصابت الحضارة فى ذلك العصر. وما يعنى الصليبية من ازدهار الحضارة أو اندثارها؟ إن الذى يعنيها أولا وأخرا هو التنفيس عن سخائمها الوبيلة، تلك السخائم التى التقت فيها وحشية الجنس بوحشية المبدأ، والتى جعلت قتل عداها إجابة لشهوات النفس، وسيلة لمرضاة الله (!) فى وقت واحد.. وقد تم إفناء المسلمين فى " أسبانيا " بهذه الأساليب، واستراحت الصليبية بعد ما خلا لها الجو!! وهى اليوم تكرر المأساة القديمة فى " الجزائر "، غاية ما هنالك أن محاكم التفتيش كانت السلطات الرسمية تعقدها وتقدم المتهمين إليها، أما الفرنسيون الذين استوطنوا الجزائر، فهم يكونون المحاكم من تلقاء أنفسهم، ثم يصدرون أحكام ا لإعدام وينفذونها. * * * دم لا ثمن له.. فقد حدث فى أعقاب الحرب العالمية الثانية أن ثار الجزائريون مطالبين بحريتهم. ففى 8 مايو سنة 1945 تبودل إطلاق النيران فى " سطيف " بين المتظاهرين والبوليس الفرنسى أثناء العرض الذي أقيم احتفالا بالانتصار فى الحرب، وأعلنت الأحكام العرفية على أثر ذلك، وأقبل الطراد " ديجواى- تروان "، فأمطر مدينة "خزاطة " وابلا من قنابله الثقيلة، وقامت قوات الجيش بالحملات التأد يبية، وشنق الوطنيين من غير محاكمة، ورأت الحكومة أن تلزم الصمت بإزاء هذه الحوادث، وأوفدت لجنة للتحرى سرا عن أسباب المظاهرات ومصدرها، بيد أنها لم تلبث أن أصدرت(1/28)
الأوامر بوقف أعمال اللجنة بعد مضى ثمان وأربعين ساعة من بدئها.ص_030
ولعل ما حدا بالحكومة إلى إصدار أوامرها على هذا النحو ما أثبتته اللجنة: من أن جماعات المزارعين الفرنسيين كانوا يعطون أنفسهم حق محاكمة الوطنيين و إعدامهم رميا بالرصاص، أو ما جمعته اللجنة من معلومات عن عدد القتلى من الوطنيين والأجانب، إذ قالت: " إن عدد القتلى الأوروبيين كان 102 قتيلا على وجه التحديد، أما عدد القتلى من العرب فقد قيل أولا بصفة رسمية: إنه 1500، غير أن الجيش أعلن أنه يتراوح بين 6000 و 8000. ثم جاءت إحصاءات أخرى تقول: إن العدد 30000، وبعد إعادة النظر فى حقائق الأمور تبين أن العدد الصحيح هو 40000 قتيل وقد أيده القنصل الأمريكى ببيانات من عنده. أربعون ألف قتيل يحصدون هكذا فى غداة واحدة؟ أربعون ألف مسلم يذهبون هكذا بين عشية وضحاها؟ أربعون ألف مسلم يتعاون الفرنسيون على قتلهم جملة واحدة فى محاكمات يعقدها السكارى والماجنون والسفلة أو بالافتراس السافر فى وضح النهار؟ أربعون ألفا..؟ أتظن وباء الطاعون لو انتشر بالبلد البائس أكان يغتال هذا العدد بهذه السرعة؟ ويجىء القساوسة الكاثوليك ـ بعد هذه المجزرة ـ لينصروا اليتامى من أبناء وبنات الشهداء، وليقولوا لهم وهم يحشرونهم فى أحد الملاجىء: " الله محبة " و، على الأرض السلام " و" للناس المسرة "!! على ركام من الأشلاء ذاهب فى الطول والعرض، وبعد أمواج من الرعب يخلفها هذا السيل المشئوم من الدماء، يجاء بالأولاد التائهين فى أنحاء الأرض ليسمعوا ـ وقلوبهم قد فطرها الثكل والفزع ـ إن الله محبة!!! وتمضى الإرساليات التبشيرية تؤدى رسالتها "النبيلة " على ذلك النحو النشيط فى إخراج المسلمين من دينهم، أو إخراجهم من أرض الجزائر، مثل ما صنع الأسبان قديما بأهل الأندلس!ص_031(1/29)
وفى وسط الضجيج العالى لحضارة الغرب تخترق آذان العالمين صيحات الهول، يطلب فيها الجزائريون النجدة؟ إن دماء أربعين ألف مسلم لا تطفىء نار الوحش الظامىء إلى المزيد! ويتضاحك الإنجليز والأمريكان وهم يؤيدون حليفتهم العاهرة وهى تقول: إنها ستمضى فى أداء رسالتها بالجزائر إلى آخر الشوط...! إن ارتقاب العدل من هؤلاء عبث، فمتى تجيء عدالة السماء، متى نصر الله..؟ * * * مطلوب من المسلمين أن يكفروا بدينهم.. ونحن نعرف ما يتركه ترادف المآسى والمخازى على النفوس من آثار غائرة، ونعرف أن هناك من يضعف عن احتمال هذا العذاب الموصول.. إن النفوس ليست سواء بإزاء الضغط الذى يعرض لها، وكم يختلف رد الفعل للعمل الواحد! إنك تلقى الكرة على الأرض بقوة فترتد إلى أعلى، وكلما ازددت شدة فى رجم الأرض بها كلما ذهبت فى الجو صعدا، لكنك تلقى على الأرض كوبا من زجاج فيتناثر ألف قطعة، وتنتهى كل قطعة إلى مكانها لا تتحرك عنه.. وجماهير المسلمين تحت ضغط الاستعمار الصليبى العاتى ، تفاوتت معادنهم فى تلقى أوصابه ، وتحمل فتنه، منهم من زادته البأساء قوة يقين، ونفخ الاضطهاد فى روحه كما تنفخ الرياح فى الجمر المتقد، لا تزيده إلا لهبا، وأولئك ولله الحمد كثير! ومنهم من أصابه الوهن، وأخذت شكيمته تنكسر تحت اللطمات التى تناولته من كل جهة. ومنهم من رأى الابتعاد عن الإسلام، إن ظاهرا و إن باطنا يحسب أن هذا الابتعاد قد يخفف البلاء النازل به.. وقد أخذ هذا الفريق يحس خطأه، ويتعلم من سلسلة الأحداث التى استهدفته أن ذلك أيضا ما يغنيه!. تقول: كيف؟ وهدف الصليبية القضاء على الإسلام، وهى قد بلغته مع هؤلاء الذين نزلوا عند إرادتها، وبدا فى منطقهم وسيرتهم أنهم تركوا الإسلام فعلا؟ والجواب: أنك ذكرت المبدأ، ونسيت طبيعة أصحابه! فلأعد بك إلى ما قاله ممثل فرنسا- وهو يخطب فى المسجد الذى حوله إلى كنيسة! إنه يقول: " أما العرب فلن يكونوا ملكا لفرنسا إلا إذا(1/30)
أصبحوا مسيحيين جميعا.. "!ص_032
أى أنهم إذا تنصروا فسوف يسمح لهم أن يبقوا فى الجزائر رقيقا لفرنسا، إن العرب جنس وضيع، والأجناس المتأخرة الرتبة، أو الملونة الجلدة لا ينبغى أن تتآخى ـ ولو تنصرت ـ مع الجنس الأبيض، مع الأوروبيين السادة. إن الفرنسيين قد يتفضلون على العرب- إذا تنصروا- بأن يجعلوهم ملكا لهم، وهذا شرف عظيم! وهذا هو منطق الصليبية والصليبيين! هو منطقها فى كل مكان. ألم يتنصر الزنوج فى أمريكا ومع ذلك يعيشون منبوذين مهانين؟ حسبهم من الشرف أن منحوا حق الحياة ليخدموا الجنس الأعلى! ومن ثم فنحن نقول للواهنين المرتدين على أعقابهم، خاب فألكم! إن ترككم للإسلام- فزعا من الأذى النازل بأهله- لن يفيدكم شيئا، سيقتلكم الاستعمار المسعور إن شاء، أو يستحييكم لتعيشوا له هو، لا لأنفسكم، ولا لذراريكم..!! أثبتوا على عقائدكم خير لكم، وتأسوا بالسابقين الذين نزل فيهم: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين). *** إن كثيرا من الكتاب والمفكرين والساسة فكروا فى عزل الإسلام عن ميادين الكفاح ضد الاستعمار، يحسبون أن هذا العزل قد يخفف من وطأة الاستعمار عليهم. وهذا أفحش خطأ يمكن أن يرتكبه امرؤ ضد ربه ونفسه وبلاده. إنه مع انعدام جدواه- كما أبنا- انتصار جزئى للصليبية الغازية، بل انتصار خطير، فهو يبعد من ميدان المقاومة أهم سلاح فيها، سلاح العقيدة الدافعة، وهو يضيع من أيدينا فى التراب أنفاس الحقائق التى عرفها العالم- وهى الإيمان بإله واحد حى قيوم- وهو قبل ذلك وبعد ذلك يحرمنا من السناد الوحيد الذى نرقب نصره، ونرمق عونه، بعد ما تخلى عنا كل شىء! وهو الله جل جلاله.. إن القادة الذين يعزلون الإسلام عن ساحة الكفاح العام، لن يكسبوا خيرا عاجلا، وسيفقدون كل ربح يمكن أن تفد به الأيام.ص_033(1/31)
ولا يجوز أن نستطيل الزمان، فقد ظلت أوروبا ـ فى العصور الوسطى ـ تلاحقنا بحملاتها مائتى سنة، وهلك منا نحن المسلمين خلق كثير، ولكن النبات آتى ثمراته الحلوة، فارتدت الذئاب مدحورة، وسلم لنا ديننا، وسلمت لنا بلادنا، ولقى المعتدون العقاب الذى يستحقون. وعلى هدى هذا الكلام ندرك الخطل فيما رواه مؤلف " الجزائر الثائرة " من آراء لبعض الثائرين، لا تعطى صورة صحيحة عن الواقع: " سألت بعض الجزائريين عن مدى علاقة الإسلام بالكفاح القائم، فأكدوا لى أن الحرب التى يشنها الشعب الجزائرى على الاستعمار الفرنسى إنما تجد عاملها المحرك فيما فرضه الاستعمار من أوضاع اضطرتهم إلى حمل السلاح. و إن ما بسطته فرنسا عليهم من سيطرة تامة، وما أوقعته بهم من ظلم وضيم فى كل مكان، حملهم على مواجهة ذلك العنف الذى كانوا ضحية له منذ سنين طوالا بعنف آخر، و إن هدفهم الأوحد أن يتولوا زمام أمورهم، ويقرروا بأنفسهم الأسس المنظمة لوجودهم الجماعى ، وأن سلوكهم سبيل الكفاح له غايات تحررية، فهو عمل سياسى لا غير ". يعنى بذلك أن الثورة ليست حربا دينية، وأن التعصب للإسلام ليس هو الذى يشعلها. يقول الكاتب الفرنسى: " إنى أميل إلى الأخذ بهذا الرأى، إذ ليس الكفاح القائم صراعا بين الإسلام والمسيحية- هذا على الرغم من أن المسيو" جورج بيدو " وزير خارجية فرنسا عمل المستحيل لخلق فتنة من هذا القبيل، عندما أعلن على الملأ، وفى مناسبات عدة: أنه يجب ألا يسمح للهلال بالتغلب على الصليب، فهو ليس نضالا بين دين وآخر، كما أنه ليس حربا بين جنس وجنس آخر، أو بين مدينة وأخرى أو بين الشرق والغرب، بل هو كفاح مجتمع مظلوم، ضد المجتمع الذى أوقع عليه هذا الظلم، وثورة هذا المجتمع على السيطرة والاستغلال اللذين كان عرضة لهما حتى اليوم. و إذن فإن الحرب فى شمالى أفريقيا ليست حربا دينية، ولا حربا بين جنسين، وإنما هى حركة تحرر بحت، وسواء أكان الجزائرى المسلم من العرب، أم(1/32)
من البربر، فإنه لا يلجأ فى محاربتنا إلى استخدام عامل الدين، أو عامل الجنس، إن مشكلاته تشبه مشكلاتنا، وعندما يطلب وسائل مادية تمكنه من الحياة، ويعلن رغبته فى الحصول علىص_034
أيسر الحريات الإنسانية والحقوق العامة، فإنه يتعين علينا ساعتئذ أن نكف عن إثارة موضوع الإسلام، فليس الإسلام سببا لما وصلت إليه الأمور من سوء. إننا نحن السبب فى ذلك، وآن لنا أن نعترف بهذه الحقيقة ونقرها ". *** إن النزعة الإنسانية فى هذا الكلام، وصبغة الانصاف التى تترقرق فى صفحته، أمر يستحق الثناء من الأعماق، ولنا عليه تعليق يسير. إن اقتران الثورة الجزائرية بمشاعر إسلامية ليس شيئا يعاب! لماذا يعاب امرؤ إن آمن بالله، وبرسول معين؟ ولماذا تعاب جماعة من الناس إذا أقامت حياتها على تعاليم هذا الإيمان؟ ظهيرا لرد العدوان إذا شنه البغاة، وسياجا لحفظ الحقوق إذا امتدت إليها أيدى الطامعين، فأى شىء يعاب فى هذا؟ لماذا يطلب منا نحن المسلمين أن نتخلى عن صلتنا بالله، وهى صلة لا عوج فيها؟ ولماذا نكلف بإعلان براءتنا من الإسلام عندما نثور لاسترجاع حقوقنا المغصوبة؟ كان هذا الإسلام معرة! أو كأننا ما بقينا عليه فلن نستحق انصافا ؟؟ إن هذه النسبة الروحية من حقنا ونحن نملأ بها أفواهنا: أنا ابن دارة معروفا بها نسبى وهل بدارة ـ ياللناس ـ من عار؟ حسب هذه النسبة شرفا أنها تجعلنى طبيعيا فى معاملة الآخرين، فلست- بسبب اختلاف الدين- أكن حقدا وضيعا على الآخرين، أو أتمنى لهم الشر، وأتربص بهم الدوائر.. حسب هذه النسبة شرفا أنها تعلمنى بل تلزمنى العدل مع من يخالفنى فى الدين، وأنها تحضنى ـ إلى جانب العدالة الواجبة ـ أن أكون برا بمن يسالمنى من الكافرين.. مهما شط كفرهم، وابتعد عما أراه الحق المبين! لكن الصليبية ترى الفتك دينا، وترى وجود غيرها إلى جوارها منكرا، وذاك ما أضراها علينا، وأغرى الوحوش من أتباعها باستئصالنا. والكاتب يقول: إن هناك اتجاها(1/33)
فى الجزائر يرى أن الجزائرين إنما أحسوا الظلم بوصفهم مسلمين، فقد كان الإسلام هدفا لهجمات المستعمر منذ أول أيام الغزو، وذاك ما دعاهم إلى اللجوء للإسلام عندما أرادوا أن يتحرروا ثم يقول:ص_035
" وإقرارا للحق يتعين علينا أن نعترف ـ نحن الفرنسيين ـ بأن غزونا للجزائر اتخذ مظهر حرب صليبية"..! إنه لكذلك يا سيدى! فلماذا نلام إذا أصررنا على إسلامنا وتشبثنا بالبقاء عليه؟ ولماذا يستغرب منا أن نستمد من هذا الدين روح الكفاح المر، أو يعاب علينا أن استدفأنا بعقيدته فى العراء، واستلهمناها الحماس والتحمل والمصابرة، وأنسنا بها عندما استوحشنا فى عالم سادته قوانين الغاب، حتى إذا مات منا مجاهد أو ضرج فى دمائه شهيد قلنا له: أذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض، ثم التفتنا إلى من خلفه فى مكانه لنقول له: أد واجبك كما أداه أخوك.. هذه طبيعة ديننا. أما طبائعنا، فإن العالم ما رأى أرحم من حضارة العرب، أو أزكى منهم ضمائر فى معاملة الأجانب.. *** وإذا ذكرنا ما فى طباع الترك من جفوة عسكرية، فلنذكر أن ضوابط الإسلام الدقيقة ألزمتها حدود العدل، ولم تترك مجالا للعصبية الدينية أن تستحمق أو تجور. لقد كان الترك قادرين أن يستأصلوا أقباط مصر، بل فكر أحد سلاطينهم فى هذا، بيد أن شيخ الإسلام رفض هذه السياسة رفضا باتا، فوقف الحاكم المتحمس عند حدود الدين كما بينها له الفقيه المسلم لم يتجاوزها! وكان الترك قادرين على استئصال نصارى الشام، كما استؤصل مسلمو الأندلس، فما فعلوا شيئا من ذلك، بل دللوهم حتى زادت أموالهم وأولادهم إلى حد بعيد، فأين الثرى من الثريا؟ ولك أن تسأل: بل يجب أن تسأل: ماذا فعلت الكنيسة بعد ما افتضحت فى أرجاء الدنيا سلسلة الآثام التى ارتكبها الفرنسيون فى الجزائر؟ والإجابة الفذة: لا شىء ؟! أحزابها السياسية هى التى تؤيد السفاحين فى الجمعية الوطنية الفرنسية، وتناصر غشمهم وقحتهم.ص_036(1/34)
ووعاظها يقولون أحقر كلام يمكن أن يقوله إنسان فى هذا المجال، إن الكنيسة تنادى بالمحبة (!) قائلة: " إن إنكار الذات وحب الناس كفيلان بحل كل معضلة كفيلان برفع الظلم عن المظلوم وتوطيد أركان العدالة " هذا صحيح. يقول المؤلفان الفرنسيان: ".. ولكن كيف يحدث ذلك التبدل العجيب؟ بالابتهال إلى الرب؟ وهل للجزائريين أن ينتظروا حلول نعمة الله تعالى فى نفوس المستعمرين؟ انه كان أجدر بالكنيسة ـ بدل أن تنادى بمحبة المغلوبين على أمرهم للذين غلبوهم ـ أن تقرر فساد النظم السياسية التى تبقى على الظلم الاقتصادى والاجتماعى. كان الأجدر بالكنيسة أن تعلن أن ثورتهم الخارجة على القانون ـ كما يقال ـ إنما تجد مسوغاتها ومشروعيتها فى بقاء تلك النظم الظالمة. لكن الكنيسة لا ترى سبيلا لتحقيق ذلك إلا بالمحبة وإنكار الذات، وعندما أرادت التقدم بحلول عملية، طالبت فرنسا بأن تواجه مسئولياتها ـ بعد نوم طال أمده ـ فتقدم للجزائر حاجتها من العون المالى لتستطيع رفع مستوى معيشة أهلها. وكأن الكنيسة بذلك تدعو إلى سياسة استعمارية من طراز جديد، والمراد بتقديم هذا العون المالى هو إحداث انفعال نفساني من شأنه تهدئة الخواطر، ضمانا لصيانة المصالح الفرنسية، وهذه حيلة كانت تصادف نجاحا منذ سنوات مضت، أما اليوم فهناك وعى قومى.. هناك جبهة التحرير الوطنى ". ***ص_0ص(1/35)
2ـ تهويد وتنصير محو الإسلام من شرق أفريقية ووسطها.. كانت أفريقية العربية أسرع من أفريقية السوداء إلى التخلص من ربقة الاستعمار والفكاك من قيوده. بل لعلها فى الجملة كانت أعصى على الغزو الأجنبى، وأقسى مقاومة وأبعد استسلاما. وذلك أن الإسلام كان فيها أنضر ثقافة وأشيع معرفة وكانت ملامح الأمة فيه من الوضوح والرسوخ بحيث صعب على الغزو الأجنبى أن يجد امتداده، ويرسخ أقدامه.. أما أفريقية الوسطى من شواطئ المحيط الهندى شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسى غربا، فإن الاستعمار الصليبى ذرعها طولا وعرضا واستطاع أن يجد المجال الرحب لنفث سمومه وإدراك مراميه..! لكن من الظلم القبيح أن نرسل الكلام على عواهنه فى هذا الصدد.. فإن الإسلام دين الكثرة الكبرى فى هذه الأرجاء الفيحاء. والمسلمون الذين نكبوا بالاستعمار كما نكبنا ما فرطوا فى عقائدهم، ولا تراخوا فى الذود عن حماهم، ورد المغيرين بكل ما لديهم من طاقة... واليوم أمكنهم الاستقلال بأمورهم من الصومال وتنجانيقا وكينيا إلى غينيا والسنغال والنيجر. أما الضعف المعنوى الذى غلب على أفريقية الوسطى فنحن العرب الذين نسئل عنه ونلام عليه! . إن الإسلام رشح إلى هذه الأقطار من خلال الرحلات التجارية أو السياحات الصوفية دون أن توضع له خطط منظمة أو تتعهده أمداد متصلة. ولولا أن الإسلام دين الحق الذى تتمسك به الفطر، وتهوى إليه الأفئدة، ما بقى له اتباع فى هذه الآفاق، لقلة الدعاة والمعلمين. ومع ذلك فإن المسلمين فى وسط أفريقية وشرقها وغربها معتزون بعقائدهم مدافعون عنها.ص_038(1/36)
وربما كان تخلفهم الثقافى والعمرانى سببا فى كلب الاستعمار عليهم، غير أننا وإياهم نحمل أوزار ذلك التخلف المعيب. ولندع التلاوم على ما مضى، ونستقرىء ما وقع من أحداث نتجت عنه، كى نستطيع حماية الحاضر وضمان المستقبل.. لقد اهتبل الاستعمار الفرصة فى تلك الأراضى البكر، وقرر أن يعمل بأقوى وأسرع ما يستطيع ليقهر الإسلام فى هذه الأوطان، وليعوق تقدمه وليدخل الجماهير من الوثنيين فى المسيحية، كى تخدم أغراضه وأحقاده.. وخطط الاستعمار تسير على هذا النحو: ا- حرمان المسلمين من التعليم العام، وعزلهم وراء سجن من القصور العقلى يمنعهم من المشاركة فى بناء المجتمع، وترقية العمران. ومع هذا الحرمان من فنون الثقافة الإنسانية أعلن الغزاة حربا على التعليم الإسلامى الخاص الذى كانت تقدمه مكاتب تحفيظ القرآن. وبذلك يشب المسلمون بعداء عن كتاب ربهم وعن لغة الوحى الأعلى، ويفقدون صلاحية البقاء الأدبي من كل ناحية. 2- حرمان المسلمين من الوظائف الحكومية صغراها وكبراها، وتجريدهم من أنواع السلطة التى تمنحهم فضل قوة وبروز.. فمن أراد تولى منصبا من المسلمين فيجب أن يرتد عن دينه، حتى يظفر به.. وللسلطة إغراء يراود نفوسا كثيرة، وقد باعت أسر شتى إيمانها حتى تبقى لها الإمارة وحتى ينال أبناؤها بعض الوظائف . 3- لكن جمهرة المسلمين الكبرى بقيت مع هذين الأمرين حريصة على دينها مستمسكة به! وهنا يلجأ الاستعمار، والموالون له من الحكام الوطنيين إلى القسوة وفى فتنة الناس عن دينهم الحبيب.. وكان الاستعمار وأعوانه فى سباق مع الزمن، فهم يخشون أن يكون طول الأمد سببا فى انهيار سياستهم الصليبية، ومن ثم يشتطون فى أخذ المسلمين بالعنف كى يردوهم عن دينهم. ولا يبالون فى هذا بسفك الدم مهما غزر، واتلاف النفوس مهما كثرت.ص_039(1/37)
ويعتبر حكام الحبشة نموذجا للتنصير المسلح فى شرق أفريقية ووسطها. لقد تواطأ الاستعمار البرتغالى والفرنسى والإنجليزى منذ قرن على تدويخ الإسلام فى هذه المناطق، وعلى تحويل اعتلال أهله إلى موت مؤكد. غيرأن المريض غالب الفناء وقاوم ببسالة مشكورة.. . لكن ما يجدى هذا كله مع حرب الإبادة الناشبة هناك منذ زمن طويل؟ وإليك نماذج من الصراع الضارى لحمل المسلمين على ترك دينهم، لنقله مما وقع فى الحبشة خلال ربع القرن الأخير . 1ـ مذبحة فى مقاطعة القراقى: بعد عام من عودة هيلاسلاسى ، وبعد أن أتم مبدئيا استئناف برامجه لتنصير المسلمين، جاءت الهيئات التبشيرية السويدية بإيعاز منه إلى مقاطعة القراقى الإسلامية الصرفة، فهب الشيخ عبد السلام شيخ المقاطعة يطالب عن طريق القانون، بمنع دخول المبشرين فى مقاطعته الإسلامية تجنبا لما قد يحدث من أضرار لأولئك المبشرين، فاتهمته السلطات الحبشية بأنه يبيت نية العدوان على المبشرين وزجت به فى السجن. وعند ذلك احتشد مسلمو تلك المقاطعة أمام بيت الحاكم الأمهرى ، وطلبوا منه الإفراج عن الشيخ فأغلظ لهم فى القول وهددهم بإطلاق النار عليهم إذا لم يعودوا إلى منازلهم، فرفضوا العودة وطلبوا منه التفاهم. ودخل إلى حصنه بعد أن أمر جنوده البرابرة أن يتصرفوا تصرفا جازما، وعاد الجنود ينزلون على أولئك المسلمين العزل ضربا بكعوب البنادق، تلاه إطلاق النار، وما هى إلا لحظات حتى تفرق المجتمعون مخلفين وراءهم 78 رجلا بين قتيل وجريح. وقضى على الشيخ فى السجن بطريقة غامضة، وانتقم الأهلون بإحراق مراكز التبشير، فانتقم هيلاسلاسى منهم بمنح 25 ألف هكتار من أخصب أراضيهم الزراعية ـ وهى جل ما يملكون ـ للمبشرين السويديين. وتشرد من نجا من الرصاص بعد أن انتزعت أراضيهم التى هى مصدر حياتهم، وأصبحت تلك القرية اليوم مسيحية بعد أن كانت إسلامية صرفة. ***ص_040(1/38)
2ـ ابادة قبائل رايا: كان ذلك فى أكتوبر فى عام 1942 وكانت التهمة هى التعاون مع الإيطاليين فى عام 1935 عند غزوهم للحبشة، وهى تهمة لا أساس لها من الصحة، اختلقت اختلاقا ليبرر بها ذلك القتل الذريع الذى أوقعته القوات الحبشية المسلحة من الإبادة والتدمير على قبائل " رايا " الإسلامية.. كان الهجوم فجائيا ومباغتا لقرى مسلمة لم تكن تتوقع ذلك العدوان الأثيم، وأمطرت الطائرات البريطانية التى ساعدت هيلاسلاسى كثيرا فى جرائمه البشعة لتحطيم المسلمين الذين كانوا قد استعادوا قواهم بعد أيام الحكم الإيطالى ـ أمطرتهم بوابل من قنابلها المدمرة فحصدت الأ برياء من الأطفال والرجال والنساء حصدا، وأتت على اليابس والأخضر. ودخلت قوات الحبشة المقاطعة فأمعن البرابرة المعتدون فى الفتك والتدمير، وأحرقوا المساكن والمساجد وأصبح سكان المقاطعة المسلمون فئة مشردة لا معول لهم ولا مأوى ولا أرض بعد أن انتزعت أراضيهم وقسمت على المسيحيين الذين كانوا قطاع الطرق أيام الحكم الإيطالى وأطلق عليهم هلاسلاسى " أربنيوت " أى المكافحون. ونهبت أراضى الأوقاف التى هى أملاك مقدسة فى جميع البلدان، وترتب على ذلك أن تشرد خمسمائة طالب علم فى المعاهد الدينية كانوا يعتمدون فى معيشتهم على حاصلاتها، ولقد كانت " رايا " قبلة التعاليم الإسلامية فى الحبشة ومنها نبغ علماء كثيرون ألفوا الدواوين الشعرية باللغة العربية الفصحى وفى التوحيد وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أثر هذه الحوادث الرهيبة أغلقت معظم معاهدها الدينية وتدهورت حركة التعليم فيها. وكان السبب الحقيقى لهذا الهجوم الغادر هو القضاء على الممالك الإسلامية فى الحبشة، قبل أن تتمكن من المطالبة بحقوقها الأساسية العادلة، ويقدر عدد القتلى بأكثر من ألف شخص بين رجال وأطفال ونساء.. ولم تكن " رايا " وحدها فى هذا المصير المشئوم. فقد حدثت نفس المأساة لسائر الممالك والأقاليم الإسلامية فى الحبشة. *(1/39)
* * 3ـ مباغتة سلطنة أوسا: فى ليلة السبت 21 ربيع الثانى 1363 هـ الموافق 1944 م تقدم جيش الأحباش البرابرة ليلا والناس نيام، والسكون مطبق يقودهم خائن واحد من الدناكل كان يعرف مسالك البلاد.ص_041
ويقول شاهد عيان عندما يحكى ذكريات تلك الليلة المشئومة، أنه سمع أصوات السيارات من بعيد فاستيقظ وكانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وفى نفس الوقت حضر رجل اسمه " الحاج أحمد حسين " وناداه، فخرج إليه فقال الرجل: "إنها الحرب.. لقد باغتنا العدو " وعد الرجلان سبعين سيارة كانت تطفىء أنوارها بعد أن تصل أماكن التجمع وكان قد وصل قبلها ضعف هذا العدد. ! ولم تمر دقائق قليلة إلا وأصوات المدافع الرشاشة الكثيرة تحيل الوادى إلى بركان والطلقات النارية تخترق الظلام كضوء الشمس الذى يخترق السحب الكثيفة، وصار الوادى كله جحيما فى لحظات. وعند الزحف من المطار إلى المدينة انقسم الجيش إلى قسمين: قسم اتجه إلى مقر السلطان، وقسم آخر إلى بيت ابنه الأكبر، فالقسم الذى اتجه إلى مقر السلطان كان أشد وأعنف فى هجومه واستولى بغتة على مخزن الأسلحة، فبقى جنود السلطان عزلا لا يحملون سلاحا من الأسلحة الهائلة التى كانت بالخزن والتى خلفها الطليان، فهاجم البعض منهم جنود الأحباش بالمدى والأسلحة البيضاء، غير أن رشاشات الأعداء قضت عليهم قضاء تاما وفر البعض الآخر إلى الغابات مع ابن السلطان، وركز الأحباش بنادقهم ومدافعهم الرشاشة على جميع بيوت رجال السلطان وضباطه، وفى غمرة المفاجأة والذعر هب كثيرون يفتحون أبواب بيوتهم فالقتهم طلقات العدو مدرجين بدمائهم، نساء ورجالا وأطفالا مزقت أجسادهم قبل أن يغادروا فراشهم، وأمهات أطاش الفزع والرعب صوابهن، فهرعن يهربن بأطفالهن ولكن نيران العدو عاجلتهم وانتشرت جثثهم على الممرات والطرق وجعلت دماء الأطفال الأبرياء تختلط بدماء أمهاتهم، وفيما كانت المعركة قائمة كالجحيم خرج رجل من رجال السلطان يسمى " دهرى(1/40)
أحمد " من بيت مجاور ودخل إلى حيث السلطان المريض راقدا فى فراشه وقال له: " وصل الضيوف " ثم أخذ بندقية كانت فى غرفة السلطان، واستقر خلف دولاب بجانب سرير، وفى نفس الوقت خرجت زوجة السلطان من منزلها الملاصق وأسرعت تجرى حيث يرقد زوجها، وعندما وصلت الباب رأت جماعة من الجنود يتجهون نحوها، ثم تقدم بعضهم يريد إزاحتها من الباب بينما اجتمع البعض الآخر يطلقون مدافعهم على حصن السلطان وقصره من كل جانب، ولكن كأنما الرعب والفزع ورؤية الموت عيانا مدها بقوة خارقة فأمسكت بمصراعى الباب بشدة ولم تمكن أحدا من الدخول رغم أن ثلاثة من الجنود كانوا يجرونها من ذراعها. ثم انهالوا عليها بالضرب والركل الذى لم يزدها إلا تشبثا وعنادا،ص_042(1/41)
وعند هذا أمر الكابتن قائد الفرقة رجاله أن يتركوا المرأة ويتراجعوا، ثم أخرج مسدسه وأفرغ فى صدر المرأة كل ما فيه من الرصاص، وعندما كانت المرأة منكمشة فى دمائها تخطاها الكابتن ودخل غرفة السلطان ليخر فى نفس اللحظة صريعا برصاصة من " دهرى أحمد " خادم السلطان الذى كان قابعا يحمى سيده حتى الموت، ودخل خلف الكابتن إلى السلطان جندى برتبة ميجر، وكان هدفا للخادم المخلص الذى ألحقه بقائده الكابتن، ولكنه فى نفس الوقت أصيب برصاصة اخترقته من جانب إلى آخر وحمل الجنود الأحباش السلطان المريض فى سيارة من سياراتهم وطلع النهار ـ على بلدة أوسا ـ التى احترقت أكثر بيوتها، على أكثر من خمسة وتسعين جثة من النساء والأطفال وعدد مضاعف من الرجال منتشرة بين الممرات وفى جوانب البيوت وداخلها، لقد كانت هذه الحرب خديعة وخيانة دبرت بإحكام بالغ ونفذت بدقة، كانت عملية أريد بها اغتيال خسيس فى حرب خاطفة على رجل كانت نياته دائما صافية يعمل فى النور، بينما كان أعداؤه الكفرة يكيدون له فى الظلام، ويظهرون له خلاف ما يبطنون. وهكذا تعرضت " أوسا " آخر السلطنات الإسلامية لهجوم غادر ينافى أبسط مبادىء الاتفاقيات والجوار وراح ضحيتها السلطان " محمد يايو " فى سجن " ألم بقا " بأديس أبابا بعد أن قبض عليه كيلة وغدرا، ولكن سلطنة " أوسا " لم تذهب لقمة سائغة للأحباش لأن أحد أقارب السلطان وهو السلطان " على مرح " أخذ الأمر بيده وتصدى للأحباش وبدأ يناوئهم، وتراجع الأحباش مؤقتا خشية أن يتصل السلطان الشاب الجديد بالعالم الإسلامى أو يخرج القضية إلى الرأى العام العالمى فيفضح أساليب الأحباش الوحشية وفظائعهم. وهم لم ينجحوا إلا بالتستر وراء الستار الحديدى الذى أخفى كل ما فى البلد من فوضى و إرهاب، ينال فيه القوى أقصى ما يستطيع من الضعيف بالقوة وبالصورة التى لا يوجد لها مثيل فى عالم اليوم، أما أموال السلطان وهى طائلة جدا فقد نهبتها الحكومة الحبشية(1/42)
وجنودها البرابرة وهى عبارة عن لآلىء وجواهر وفضيات يزيد ثمنها عن مائتين وخمسين ألف جنيه استرلينى علاوة على عشرة آلاف من الجنيهات الذهبية، أما المواشى ما بين إبل وأبقار وأغنام ويزيد عددها عن خمسين ألف رأس فقد نهبت عن آخرها، وقد أثرى الجنود الأحباش الحفاة بما غنمو، من الغنائم الطائلة من سلطنة " أوسا " ولا حول ولا قوة إلا بالله. ***ص_043
4ـ مذ بحة كمباشا: وما أسهل أن تنسب الحوادث التى ترتكب ولا يعرف فاعلها إلى المسلمين، وهاكم حادثة وقعت عام 1946 م فى قرية صغيرة من قرى " كمباشا "، وجد جندى أمهرى قتيلا فبعثت حكومة " هيلاسلاسى " كتيبة مؤلفة من مائة رجل بكامل أسلحتهم إلى القرية ليلا وقتلوا منها أكثر من ثمانين شخصا منهم الشيخ والطفل والمرأة، وأحرقوا الأكواخ عن آخرها، ونهبوا المواشى، وزجوا بالعشرات فى السجن، وذلك قبل أن يتحروا عن الحادث. وهكذا ذهب أولئك المساكين ضحية الخيانة والانتقام والحقد والكراهية، وهذا واحد من مئات الأمثلة التى حدثت ولا زالت تحدث فى كل وقت وحين. وبعد مضى سنتين ظهر أن القاتل كان زميلا للقتيل من القرية نفسها اتهمه بأنه على علاقة بامرأته.! * * * 5ـ إحراق قرية جرسم: فى " جرسم " ـ إحدى مقاطعات هرر ـ ثار الشيخ " عبد القادر آدم " عام 1947 ضد الضرائب الفادحة التى فرضت على هذه المديرية، وضد الأوامر التى كانت تقضى بأن تخبز نساء المركز المسلمات جوالا من الدقيق كل يوم للعسكر ويحملنه إليهم، فيلقين الاعتداء على كرامتهن من الجنود البرابرة. وبعد أن دخل رجال الثورة الغابات للمقاومة، جمعت الحكومة الحبشية الشيوخ والأطفال والنساء فى أكواخ كل عشرين أو ثلاثين منهم فى كوخ، وهو بيت يبنى عادة من الحشيش أو القصب وسكبت عليها صفائح البنزين فأحرقت جميعا بمن فيها. والذى أمر بهذه الجريمة المروعة لا يزال موجودا وهو زير الحربية الرأس " أيبرا أرقاى " أما المواشي فقد أبيدت بالسم والرصاص، وكان(1/43)
هذا العمل انتقاما من الرجال الذين لجأوا إلى الغابات، ومن جهة أخرى لبث الرعب فى القرى المجاورة. ولا يقل ما أبادته الحكومة البربرية فى تلك القرية من الشيوخ والأطفال والنساء عن خمسمائة من الأنفس البريئة. ***ص_044
6ـ تدمير قرية بجوا: فى سبتمبر سنة 1947 جردت حكومة الحبشة النصرانية، إحدى حملاتها المعتادة على قرية بجوا بمقاطعة (ولو) الإسلامية، وذلك لرفض المسلمين العمل فى مزارع الحكام بدون أجرة، ورفضهم دفع ضريبة الكنيسة العليا (منفسائى قوبائى)، فقوبل هذا الرفض القانونى بوحشية وفظاعة، ألم يعتادوا تسخير المسلم فى جميع أمورهم؟! ! ألم يبن مجلس الكنيسة كنائسه ومراكزه التبشيرية ضد الإسلام بأموال المسلمين؟! فلماذا يرفضون اليوم إذن؟ أيريدون تدمير الكنيسة؟.. حرام ثم حرام! أبيدوهم إذن، هكذا تساءل الأمبراطور ثم أصدر أوامره بالإبادة المعتادة، فأبيدت (بجوا) أسوأ إبادة وأحرقت مساجدها وزج بكثيرين من مشائخها فى السجن المشهور (آلم بقا) أى (نهاية الحياة) الذى هو مأوى الأبرياء من المسلمين الأحرار. * * * 7ـ مأساة هرر: فى عام 1947 حاول مسلمو هرر مصادمة الظلم والحد من الوحشية المتمادية والمطالبة بحقوقهم العادلة ومساواتهم بالمسيحيين، وجن ذلك جنون هيلاسلاسى، إذ كيف يعقل أن يطالب المسلمون بحقوق عادلة وبمساواة؟ إن هذا لوقاحة لن تسمح بها حكومة جلالة الإمبراطور، ولذلك جرد ثلاثة ألوية من الجيش اقتحمت المدينة وأعملت السلب والنهب والتعذيب. واستبيحت المدينة ثلاثة أيام متوالية تعرض خلالها الأهلون إلى أفظع أنواع النهب والسلب وهتك الأعراض على مرأى من الآباء والأزواج والعبث على ظهور الأبرياء بالسياط ودق خصيات الرجال، واستخدمت كل وسائل العنف والتعذيب، وصودرت المتاجر والمدارس والمزارع واعتقل الآلاف ووضعوا فى معسكرات التعذيب وأخذت أوقاف المساجد وضمت إلى الكنائس وأرسل الزعماء إلى المناطق النائية، واستخدمت كل وسائل(1/44)
التعذيب فى الاستجواب واستمرت هذه الأعمال الفظيعة سبعة أشهر كاملة قتل فيها من قتل وهلك من هلك بسبب الجوع والبرد. ولاذ بعض الهرريين بأماكن نائية يخفون أنفسهم وينكرون الانتماء إلى عشيرتهم ويلبسون القبعة بدلا من طاقيتهم المعتادة التى تميزهم وذلك أملا فى النجاة من التعذيب.ص_045
وفى تلك الأيام، قدم وفد من مسلمى هررإلى القاهرة ليعرضوا شكواهم على العالم الإسلامى، فلم يجدوا سندا ولا نصيرا، والظروف لم تكن فى صالحهم. وقد جاء ذكر هذه الحادثة فى كتاب " الإمبراطورية السودانية فى القرن التاسع عشر " من تأليف الدكتور محمدصبرى- عام 1948، قال فيها: (نشرت جريدة الأساس بتاريخ 29 أغسطس عام 1948 تحت عنوان: " وفد مسلمى الحبشة عند فضيلة الأستاذ الأكبر " مقالا جاء فيه: " استقبل فضيلة الأستاذ الكبير شيخ الأزهر فى مكتبه أمس وفدا من مسلمى الحبشة من أهالى مقاطعة هرر، وتحدثوا إلى فضيلته فى بعض شئون المسلمين بالحبشة وخاصة من مقاطعة هرر، وقدموا إليه مذكر ة حالتهم الدينية والثقافية فى تلك البلاد،. كما قال الكاتب: " إن جريدة البلاغ نشرت فى عدد 7 سبتمبر 1948 تحت عنوان: "المسلمون فى هرر يعرضون شكواهم من الحكومة الحبشية " ما يأتى: " جاءنا وفد من مسلمى هرر وقدموا لنا شكوى طويلة ختموها بما يأتى: " لقد تقدم المسلمون إلى حكومة الحبشة عدة مرات بمطالبهم فكان مصيرهم التشريد ولما لم يجد المسلمون من وسائل السلم والتفاهم ما يحقق بعض مطالبهم العادلة ومعاملتهم بالمساواة مع مواطنيهم كأبناء بلد واحد حاولوا الدفاع عن حقوقهم المدنية والسياسية أمام اللجنة الدولية التى ذهبت إلى الصومال لتحقيق أمر المستعمرات الإيطالية السابقة، فذهب وفد منهم إلى مقديشو عاصمة الصومال، وكان يمثل جميع المقاطعات التى يسكنها أكثرية مسلمة، فكان نتيجة هذا العمل أن ازداد اضطهاد الحكومة الحبشية للمسلين، وأرسلت جنودها الحربيين المسلحين بالبنادق والمدافع(1/45)
الرشاشة إلى ديار المسلمين عامة، فأخذ الجنود ينهبون أموالهم ويأخذون من أمتعة وحلى النساء، ثم يشبعون الرجال بالضرب ويسوقونهم إلى السجون. وقد قامت مظاهرة فى مدينة هرر يطالب فيها المتظاهرون بالانفصال عن الحبشة والانضام إلى الصومال الكبرى عندما يقرر ذلك، فاعتقلت الحكومة الحبشية زعماء الحركة تحت ستار التفاهم معهم، ونقلتهم إلى جهة مجهولة، كما ذهب ضحية هذه الحركة عدد كبير من المسلمين، واعتقل نحو ثلاثة آلاف تجرى الآن محاكمتهم فى " أديس أبابا "، ويلاقون الكثير من التعذيب والتنكيل، كما نفت الحكومة نحو خمسمائة من أبناء هرر إلى جهات غير معلومة. وقطعت المواصلات بين الجهات التى يسكنها المسلمون كهرر وعروس وولو.ص_046(1/46)
ونحن مسلمى هرر خبرنا الحكومة الحبشية، ولاقينا على أيديها أسوأ ما عرفته البشرية من صنوف التعذيب والتنكيل والظلم والاضطهاد وحاولنا أن نصل معها بطريق التفاهم السلمى إلى حقوقنا فكان جزاؤنا النفى والتشريد، لم نجد أمامنا بعد هذا كله إلا أن نتقدم إلى العالم العربي الإسلامى خاصة والإنسانى عامة بشكوانا هذه راجين الإنصاف فى قضيتنا العادلة وذلك لا يكون إلا أن نفصل عن حكومة الحبشة ونضم إلى الصومال الكبرى عندما يقرر ذلك إن شاء الله. وغير خاف أننا كنا دولة " إسلامية " دام سلطانها خمسمائة عام تقريبا والتاريخ شاهد على ذلك، ولقد كنا ولا نزال مختلفين عن الشعب الحبشى عامة فى اللغة والدين والأدب والأخلاق والعادات، هذا كله علاوة على سوء معاملة الحكومة الحبشية التى أوضحناها فى هذه المذكرة ". وإلى هنا انتهى ما جاء فى كتاب " الإمبراطورية السودانية فى القرن التاسع عشر " للدكتور محمد صبرى وهذه النبذة تعطى صورة واضحة لما حدث هناك من الظلم وا لإ بادة والتشريد. * * * 8ـ قتل أربعين مسلما في عرقبا: فى فبراير من عام 1949 قام نزاع بين عشيرة إسلامية من قبيلة (عرقبا) بالقرب من (أيفات) فى شكال مديرية (شوا) وبين المسيحيين النازحين هناك سببه أراض زراعية انتزعتها الحكومة من المسلمين ومنحتها للمسيحيين، فقام المسلمون يدافعون عن أملاكهم وبذلك حدث التصادم بينهما. وتدخلت الحكومة وجردت إحدى حملاتها المعتادة لتأديب المسلمين بالطبع، وأبادت الحملة كثيرا من أفراد العشيرة الإسلامية وسلمت الأراضى للمسيحيين وقد حكى جندى من جنود الجيش لشاب كان يظنه مسيحيا فقال له: " إن أولئك القوم شجعان إلى حد كبير فقد قاوموا فرقتنا بالرماح والسيوف وقتلوا منا خمسة جنود، ولكننا استطعنا إبادتهم فقتلنا منهم أربعين شخصا وفصلنا رؤوسهم عن أجساهم وتركناهم فى العراء حتى يتعظ كل من تسول له نفسه بمعارضة إرادة الإمبراطور المقدسة "! ***ص_047(1/47)
9ـ مأساة (داوى) قبلة العلوم الإسلامية بالحبشة: صمدت سلطنة (أوسا) بفضل رجالاتها وأبنائها المشهورين بالبطولة فى الحرب وبطبيعة أراضيها المنيعة وأكثر من أى شىء آخر بالتأييد الأدبى من قبلة العلوم الإسلامية فى الحبشة (داوى)، فقد كان المسلمون جميعا يدركون أن سلطنة "أوسا" هى المعقل الأخير وسلطانها هو الحاكم المسلم الوحيد الباقى فى الحبشة كلها، وبطبيعة الحال نال تأييد المسلمين عامة و (داوى) خاصة، وكان السلطان يطبق فى بلاده أحكام الشريعة الإسلامية ويتجه إلى (داوى) مستوضحا أحكام الشريعة ليجد الأجوبة الصحيحة من علمائها ولا سيما من المفتى " محمد أمانى ". وشغل هذا التعاون بال الحكومة الحبشية التى رأت فيه شرارة قد تنطلق منها نهضة إسلامية جديدة، وكان لابد من إيجاد حل. وأكثر الحلول نتائجا ـ كما هو فى الحبشة دائما ـ الضربات الشديدة التى تسحق بقوة أى تكتلات إسلامية وتضيع معنويات المسلمين، وكان تطبيق هذا مع سلطنة " أوسا " غير مستطاع فى تلك الظروف، فإذن فلتكن (داوى) الضحية، وبدأت الحكومة الحبشية تجس النبض فى (داوى) والبلدان الإسلامية المحيطة بها فأوعزت إلى بعض المسيحيين للتحرش بهم، فأغاروا على بعض القرى والمراعى الإسلامية، وقتلوا ثلاثة من الشبان، واستولوا على المواشي، فهب المسلمون بسرعة إلى حمل السلاح وتجمع من الفريقين عدد هائل، وبدأت الاصطدامات التى كان الكل يترقبها أن تتحول إلى حرب طاحنة. وفى نفس الوقت والاصطدامات مستمرة أقبلت قافلة من سيارات الحكومة متجهة إلى (ديسى) فظنها المسلمون مددا وعونا للمسيحيين، فبدأ بعض الشبان إطلاق النار عليها، وكادوا يقضون على القافلة لولا أن قام رجل من تلك الجهات واسمه "دجياش يوسف" ووجه نداء إلى المسلمين المهاجمين صائحا فيهم: أن أوقفوا إطلاق النار وألا هلكتم جميعا، فهذا ابن الملك وولى عهده، ذاهب إلى مقره وما جاء لحربكم، فأو قفوا هجومهم فى الحال. وتفرق المهاجمون(1/48)
ونجا الأمير الحبشى لحسن حظه، ولكن ما أن انتشر الخبر حتى تحركت فرق الجيش من جهات العاصمة وديسى لشن هجوم على المسلمين، وانتشر الخبر بسرعة مذهلة، وتحدث عنه المسلمون فى كل مكان واستولى الذعر على الإمبراطور، فأمر بإيقاف الجيش عاجلا وطلب أن يعمل شيوخ المسلمين وقساوسة المسيحيين على إيجاد صلح بالطرق السلمية.ص_048
واجتمع الشيوخ والقساوسة وأعيان الطائفتين وعقد صلح سمي صلح (غدم) نسبة إلى مكان الاجتماع الذى يقع فى جهات (جمزا) واتفق الجانبان على أن يفرض 000. 50 دولار حبشى على أى من الجانبين يخرق الصلح، وكان ذلك فى أبريل من عام 1953. واستمرت الحال فى هدوء نسبى مدة، ثم تسلل بعض الأحباش إلى قرية إسلامية وقتلوا فتاة وجرحوا صبيا آخر واستولوا على بعض المواشى وأصبح المسلمون فى خطر، وأبلغوا السلطات الحبشية بما حدث، ولكنهم لم يجدوا أى جواب، وأخيرا رأى رؤساء المسلمين ومشايخهم أن يدعوا الأزمة تمر بدون تشدد لأن حالتهم لا تسمح ببدء القتال إلا فى حالة دفاع لا مفر منه إذا قام المسيحيون بهجوم منظم. ثم حدثت فترة من الهدوء والسلام، وبدأت الأحداث الخارجية تحظى باهتمام زائد فى الحبشة بصورة لم يسبق لها مثيل، فقد كانت الدعوة إلى (صوماليا الكبرى) فى أقوى مراحلها، وكان تجاوب المسلمين مع هذه الدعوة يتجلى فى صورة نشوة غامرة لا تحفظ فيها، وصار رجل الشارع المسلم يبدى سخطه وتذمره ويتوعد السلطات الحبشية مما ينالها على أيدى الصوماليين ومسلمى الحبشة عندما يبدأ الزحف المقدس، وكانت الكلمات والشتائم والسباب هى الوسيلة الوحيدة للتنفيس عن النفس والتعبير عن السخط وذلك بالنسبة لرجل الشارع المسلم. وكان رد الفعل عند الأحباش يظهر فى صورة هستيرية مجنونة تخيل لهم أن كل من فى الحبشة يعمل على هلاكهم والفتك بهم، وزاد الطين بلة أن إذاعة القاهرة كانت تدعو الصوماليين إلى الاتحاد والعمل بجد ليتبوأوا مقعدهم بين الأمم، وينالوا مكانتهم(1/49)
بين الشعوب الحرة سيما وقد أوشكت وصاية إيطاليا باسم الأمم المتحدة أن تنتهى. وبدأت السلطات الحبشية تتودد إلى المسلمين وتعمل جاهدة ضد ما أسمته "الدعاية المغرضة الخارجية التى تهدف إلى خلق الفتن وتمزيق وحدة الإمبراطورية " وبدأت ظاهرة كريبة هى إغداق الألقاب على أشخاص نكرات من المسلمين، وخلق زعامات مهلهلة، وتعيين عدة رؤساء فى أصغر القبائل والوحدات مما ساعد على خلق الحزازات والتنافس على لا شىء. وجعل الناس يتذمرون والرؤساء أنفسهم يطالبون بالإعفاء من مناصبهم والتنازل عن ألقابهم بعد أن ظهر لهم ما خسروه بسبب هذه التوافه. وفى نفس الوقت بدأ فصل جديد فى تاريخ الاضطهاد والتعذيب لمسلمى هذه المنطقة من الحبشة، فعلى حين غرة وبلا مقدمات- كالعادة- توغلت فرقة من رجالص_049(1/50)
الجيش إلى داخل البلاد وحاصرت بيت ابن زعيم مسلم يسمى " حسن آمى "، ولكن الفرصة مكنته من الهرب فاعتصم بجبل قريب تغطيه أجمه كثيفة فأطلق جنود الأحباش النيران على زوجته، وجروا جثتها العارية المضرجة بالدماء إلى الخارج وأشعلوا النار فى البيت. وهرع الشاب إلى البيت المشتعل فوجد الجنود البرابرة قد غادروه، ووجد زوجته جثة هامدة عارية، فتتبع الفرقة سريعا ولحق بهم وبدأ فى إطلاق النار، وفجأة وتحت ستار الظلام انضم ستة من زملائه الشبان وقتلوا الضابط الذى كان يقود الفرقة واسمه (شامل) وتمكنوا من إسكات المدفع الرشاش، وتملك الفرقة الفزع واضطربت قيادتها فهجم عليها الشبان المسلمون وكان عددهم قد زاد أثناء المعركة إلى عشرين ومزقوها شر ممزق. وفى أثناء تراجع البقية الباقية من الفرقة استمرت المطاردة ثلاثة أيام، وكان الأحباش قد توغلوا فى داخل البلاد فى جهات لا يعرفون مسالكها اعتمادا على قدرتهم وسمعتهم التى توهموا أنها تجعل أشجع المسلمين يرتجف وينفطر قلبه هلعا وخوفا منهم، وفى اليوم الثالث قضى على الفرقة الحبشية، إلا أن أفرادا قلائل تمكنوا من النجاة بالهرب، واستولى المسلمون على أسلحة العدو واعتصموا بالجبال وتوغلوا فى الغابات. وتحرك الجيش الحبشى من أديس أبابا و " دبرى برهان " وذهب الملك بذاته لمقابلة الضباط فى تلك المنطقة ولإعطائهم الأوامر النهائية، ثم انقض الجيش على البلاد بقيادة الكولونيل ـ جنرال حاليا ـ " أيى جمدا " فاحتل القرى الإسلامية بسهولة واستباح كل بيت ونهب كل شىء واعتدى على كل امرأة شريفة، وكان الجنود الأحباش يعبثون مع الفتيات أمام آبائهن وأمهاتهن المقيدين حتى هلك الكثيرات منهن، وأخذوا كثيرا من المشايخ والعلماء من خلواتهم ومعابدهم، ثم جردوهم من ثيابهم وألقوا بهم فى الحفر، ووضعوا عليهم الشوك ثم ساروا عليهم بأحذيتهم العسكرية، ومازال الكثيرون منهم لا يستطيعون استعمال أيديهم إلى اليوم لما نالها من(1/51)
عطب، ولم ينج من التعذيب أحد حتى الأطفال قضت عليهم الركلات بالأحذية وهلك الكثيرون من جراء العطش والجوع فى معسكرات التعذيب. وفى تلك الأيام ظهرت صور من التعذيب تفوق ما تصوره العقل. فقد حصل أن هرب شاب من أبناء الزعماء واسمه محمد عبده إلى حدود سلطنة (أوسا) حيث يستحيل على الأحباش إرجاعه من هناك، فقبضوا على والده وربطواص_050
منفذ بوله بالأسلاك إلى أن مات بعد أن انتزعوا أظافره وهشموا ذراعيه وفقأوا عينيه مقدما، وتحولت المقاطعة إلى معسكرات للتعذيب. لعدة أيام، ومحيت قرى كثيرة من الوجود كما التهمت النيران كل ما رأى الأحباش تحويله إلى رماد، ولم يكن الهجوم فى أول الأمر بأقل فظاعة من التعذيب الذى تلى فيما بعد. لقد هجم الأحباش على القرى والمزارع بسرعة بينما كان الناس يترقبون منهم أن يتعقبوا الذين حملوا السلاح فى الجبال، ويستعملوا قاذفات اللهب ضد المشافي والنساء والأطفال الذين اختبأوا بين الصخور والأشجار، وطحنوا الأكواخ والبيوت بمن فيها بالدبابات والسيارات المصفحة، ولم يكفهم هذا بل حولوا المجزرة إلى لعبة صيد يتلذذون بها فكانوا يوقفون إطلاق النار ثم يطاردون فرائسهم عبر الحقول بسياراتهم حتى يسحقوهم واحدا واحدا عندما يتعثرون أو يكلون ويقعون على الأرض، وكان بعض الأطفال يتسلقون الأشجار أملا فى النجاة ولكن جنود الأحباش البرابرة كانوا يصيدونهم كالعصافير جاعلين منهم أهدافا فى مباراة الرمى يتسابقون إليهم ويقتلونهم كالعصافير. ومرت أربعة أيام ومعسكرات التعذيب تجرى بأفظع وأقذر عمليات التنكيل والإذلال، فبكى الرجال وتضرعوا إلى الله، ثم طلب العلماء وأعيان البلد أن يبحثوا عن " الحاج على " ذلك الرجل الطيب الذى كانوا ينظرون إليه فى وقت الملمات والذى كان لسان حالهم لدى الأمهريين القساة. وكان الحاج على بن الحاج يحيى هذا يأخذ على عاتقه مهمة الاتصال بالسلطات فيما يختص بالضرائب فيجمعها ويدفعها للأمهريين، ويقبض(1/52)
على المجرمين ويسلمهم إلى المختصين، وذلك حسب الاتفاق القديم الذى يترك للمسلمين إدارة شئونهم الداخلية ولا يسمح للجيش أو البوليس الحبشى بالدخول إلى البلاد أبدا، والحاج على هذا واحدا من الرجال القلائل الذين كانوا يجيدون اللغة الأمهرية لغة الأحباش المسيحيين فى تلك المنطقة، أما شعب هذا البلد فكانوا على العموم مغايرين للأحباش فى كل شىء: فى اللغة والدين، وفى طريقة المعيشة والعبادة، بل إن مشايخ هذا البلد وعلماءه لم يروا بأعينهم كافرا أبدا. وقال الكولونيل " أيى جمدا ": إن أحضرت لكم هذا الرجل فهل تسلمون أولادكم الثائرين؟ فقالوا له: آت به ونحن نتفاهم معه، وسأل عنه الكولونيل الجيش فقيل له: إنه فى (دلتا) ولكنه لم يكن هناك وسكوا عنه فى (ديسى) ثم علموا أنه فى أديس أبابا، إذ كان قد هرع إلى العاصمة عندما سمع أن الجيش هجم على البلاد،ص_051(1/53)
ووصلت برقية إلى أديس أبابا واتصل وزير الداخلية" أتو مكنن هبنى ولدى " بالإمبراطور حالا فى نفس الليلة، وفى الصباح استدعى الإمبراطور الشيخ وقال له: " كيف يعذب الشعب وأمثالكم موجودون؟ اعملوا شيئا لأن البلد كانت ولا زالت تحت أيديكم ". ورد عليه الشيخ: اعطنى الأمان لأسوى الأمور.. أعطنى عفوا شاملا وسأجعل الثوار يرمون أسلحتهم ويعودون. وتم كل شىء على وجه السرعة وتسلم الشيخ من يد الإمبراطور مرسوما يعلن فيه العفو الشامل ويدعو إلى تسليم الأسلحة والعودة إلى المدن، واستقل إحدى سيارات الجيش بصحبة ضابط خاص واتجه إلى البلاد، وبوصوله اجتاحت البلاد موجة عن الأمل وتنفس المسلمون الصعداء، وبدأوا يرهفون آذانهم يترقبون الفرج على يديه، ودعا الشيخ كل من حمل سلاحه، وخرج إلى الغابات: أن يعود إلى البلاد ويسلم أسلحته، وطمأنهم بعفو شامل من الإمبراطور فعاد الهاربون. وأقبل الشبان من كل جانب واضعين ثقتهم فى الشيخ، وسلموا أسلحتهم، ومن أوائل من استجاب لنداء الحاج على " محسن أمرا " ذلك الشاب الذى ابتدأت المأساة بمحاولة القبض عليه، وسلم الأسلحة والخيمة التى استولى عليها فى المعركة، فكيف قابل الأحباش هذا العمل؟ لقد جمعت السلطات كل الذين سلموا أسلحتهم وألقوا بهم فى!السجن وفجأة وصل ثلاثة أشخاص من الأحباش قيل أنهم من كبار القضاة فى المحكمة العليا، وأسرع " الحاج على " إلى العاصمة ليطلب من الملك أن يبر بوعده ويطبق العفو الشامل حسب ما أعلنه رسميا، ولكنه قال للشيخ البرىء أنه حاكم دستورى لا يستطيع أن يبت فى مثل هذه الأمور التى هى من اختصاص العدالة والقانون، كأن عندهم عدالة وقانونا ! وبدأ الأحباش يلصقون التهم بواسطة بوليس خاص وفرق من الجيش والحرس الإمبراطورى ، وكان المترجم والدفاع منهم، والمتهمون كلهم مكبلون بالسلاسل، ولم تأخذ المهزلة وقتا طويلا: استجواب سريع ثم الحكم بالموت ـ بالموت ـ بالموت ـ أنت شاركت.. أنت عاونت ـ(1/54)
فلا دفاع، ولا استئناف بل شنق سريع، وتجددت موجة التعذيب بأقصى مما كانت عليه من قبل. استشهد الكثيرون من الشبان المسلمين فى الظلام قبل أن يقدموا حتى للمحاكمة الصورية، وأعلن البعض من الأبرياء إنهم مجرمون عندما اشتد عليهم التعذيب،ص_052
وكان يسمح لأفراد الجيش والبوليس الذين ادعوا أنهم فقدوا أقاربهم وأصدقاءهم أن يتسللوا فى الليل إلى حيث كبل الأبرياء وأن ينتقموا بأيديهم قبل أن تسقيهم العدالة الحبشية كأس المنون. ومن بين أكثر من 500 شاب نقلوا إلى السجن فى " أديس أبابا " أعاد الأحباش 55% إلى بلادهم ليشنقوهم على الأخشاب كل أربعة أو خمسة على خشبة فى نحو اثنى عشر قرية، وعروهم من الملابس عدا ما يستر عوراتهم للتحقير والتقليل من قيمتهم والصاق الهمجية بهم. كان هذا فى الوقت الذى زار فيه الإمبراطور الجمهورية العربية المتحدة وحين كان يبتسم ويتودد إلى الرئيس جمال عبد الناصر باسم الأخوة الأفريقية وباسم فضل الحبشة على الإسلام فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يدرى أحد ماذا حصل لبقية الشبان الذين ألقوا فى السجون، ولو أن المرجح أنهم أبيدوا بالجملة وبمختلف الطرق، وكان الأحباش انتهازيين بكل ما فى هذه الكلمة من قذارة، فقد اتهموا المسلمين بخرق صلح (غدم) وأجبروهم على دفع الخمسين ألف ريال المتفق عليها. وبعد أن تسلموا المبلغ أجروا المحاكمات الصورية وأعدموا الشبان مع أنهم هم البادئون بالعدوان والبادىء أظلم. هذا والضابط الذى كان يحمل وثيقة الصلح " كابتن ورقنه " لم يظهرها، بل أظهر رسالة أخرى تتضمن اتخاذ خطوات تساعد على السرعة وانتهاء مهمة القبض على أكبر عدد ممكن من الذين يستطيعون حمل السلاح بين المسلمين، وبتنفيذ أحكام الإعدام انتهى الفصل الأول من المأساة، وبدأ الفصل الثانى الذى لا يقل عنه وحشية وفظاعة، والذى لا زال مستمرا إلى هذا اليوم، ولا أحد يدرى متى يكون الخلاص منه. استولى الجنود الأحباش على الأراضى(1/55)
وعلى بيوت المسلمين وزوجاتهم، بل وعلى الرجال أنفسهم فى كثير من الحالات، إحدى وعشرون امرأة وفتاة مسلمات سباهن جنود الأحباش ونصَّروهن قهرا ولا زالوا يعاشروهن إلى اليوم فوق أراضى استولوا عليها من آبائهن وأزواجهن.ص_053
وأكثر من ثلاثمائة بيت سخر المسلمون رجالا ونساء فى بنائها، بعد أن أجبروا على قطع الأخشاب من غابات قرب (سمبترا) وحملوها على أكتافهم ورؤوسهم إلى (كرافودى) و (داوى) حيث تم الاستيلاء على أراضيها لحساب أفراد الجيش الحبشى. ومازال المسلمون حتى اليوم فى تلك المنطقة يجلدون ويجبرون على خدمة هؤلاء السادة البرابرة فى قطع الأخشاب والحشائش وبناء الأسوار وشق الطرق وتعبيدها. ومازالوا إلى اليوم يقبضون على أى رجل مسلم ويقولون له كنت كذا وكذا حتى فى أيام الاحتلال الإيطالى تملك بندقية أو مسدسا فسلمها و إلا فادفع قيمتها، والويل له لو تأخر. * * * وبعد، إننا نكتب هذه الصور وهى جزء من الواقع حتى يعلم المسلمون وكل ضمير فى العالم عنا بعض الشىء وأن الناس هناك يمنعون من القوت الضرورى، وأن الجوع والموت يغشاهم، والحالة لم تعد مستطاعة والانفجار محتمل فى أى لحظة والوقت ضيق، فلتبادروا أيها المسلمون فى كل مكان بسرعة معاونة إخوانكم إن أردتم بقاء الإسلام فى الحبشة . * * * 10ـ حكومة الحبشة تحاول إبادة القبائل الصومالية فى منطقة (أوجادين): أعطى أحد المجاهدين صورة عن هذه المحاولات فقال: " جمعتنى الصدفة يوما فى غرفة واحدة فى قطار " أديس أبابا- جيبوتى" مع ضابط حبشى من ضباط الحدود. فحدثنى كثيرا عن مغامراته مع القبائل الصومالية فى أوجادين، وكان يظننى مسيحيا مثله مما جعله يرفع الكلفة بيننا ويطلق العنان للسانه مطريا رجال الحدود وعظائم أعمالهم الوحشية، وقال: إن الصوماليين قوم شديدو المراس متهورون فى شجاعتهم ولديهم كثير من الأسلحة النارية الحديثة التى نالوها من الإيطاليين مما جعل كسر شوكتهم مغامرة خطيرة على(1/56)
رجال الحدود الذين ينتصرون عليهم أحيانا بشق الأنفس، بالحيل والخداع تارة، والأطماع والتساهل تارة أخرى، وبالقوة واستعمال الأسلحة الفتاكة أحيانا كثيرة، فتقتل إبلهم ومواشيهم التى هى عماد حياتهم كى يستسلموا ولكنهم لا يستسلمون، وأحيانا تحرق بيوتهم وتدمر مساجدهم بالمدافع فيستسلم بعض منهم عندما تضيق عليهم الحياة.ص_054
فقلت له متصنعا العجب من أعماله البطولية: لماذا تبذل حكومتنا النفس والنفيس فى مقاتلة هؤلاء الصوماليين؟! فأجاب القائد بغرور ظاهر قائلا: " إن ما تنفقه الحكومة من الأموال الطائلة وما تبذله من نفوس جنودها راضية فى قتال الصوماليين لا يساوى شيئا بجانب استيلائنا على هذا البلد الذى اكتشف فيه كنوز من البترول والذهب والحديد والكبريت والملح الجبلى الذى سيدر أرباحا طائلة على الدولة عندما يتم استغلاله. وهذه المحادثة القصيرة بين مجاهد مسلم وضابط مسيحى مستعمر تلقى ضوءا على ظلم حكومة الحبشة واعتداءاتها المتكررة على القبائل الصومالية فى منطقة أوجادين التى استولت عليها بمساعدة الفرنسيين والبريطانيين تحقيقا لأحلامها الاستعمارية وطمعها فى نهب مواردها الطبيعية0 وفى السنوات العشرين الأخيرة حدثت على القبائل الصومالية اعتداءات وحشية من برابرة الأحباش، أبيدت فها عشائر وقرى بأكملها، وهذه الحوادث كثيرة يصعب ذكرها جميعا هنا ولكننا نورد ثلاث حوادث على سبيل المثال: ا- فى سنة 1955 علق بعض المشايخ راية دينية فى مسجد (جقجقا) بمناسبة دينية كما هو معتاد فى كثير من البلدان الإسلامية، وتدخل البوليس الحبشى وأمر بإنزال الراية وتعليق العلم الإثيوبى المسيحى فى المسجد، ورفض الصوماليون بحجة أن المسجد ليس مقرا حكوميا، وبدأ بذلك الاشتباك الذى راحت ضحيته عشرات من الأرواح وسجن الكثيرون من المشايخ. 2- وفى أواخر عام ص5 1 هـ الموافق عام 956 1 م هاجمت القوات الحبشية المسلحة قبيلة (عيسى) الصومالية وقتلت منهم عددا كبيرا(1/57)
من رجال وأطفال ونساء وشيوخ بقصد انتزاع الأسلحة منهم. وأذاعت محطة لندن نبأ هذا العمل الوحشى الذى قصد به الإبادة والتشتيت، ولم تخجل إذاعة أديس أبابا من ترديده وذكرت أن قبائل عيسى كانت هى المعتدية. 3- وفى يوم 29 رمضان ص8 1 هـ والمسلمون يستقبلون عيد الفطر المبارك والزحام مشتد حول الآبار تعطلت آلات رفع المياه الخاصة بأفراد الجيش فى قرية (قبر دهر)ص_055
بالقرب من حدود الصومال البريطانى (سابقا) فورد جنود الأحباش على الآبار الخاصة بالصوماليين المسلمين فطردوا الفتيات والنساء واعتدوا عليهن بالضرب، وكان بالقرب منهن بعض الشبان الصوماليين الذين لم يستطيعوا أن يتحملوا منظر هؤلاء الجنود وهم يعتدون على النساء، فاشتبكوا معهم بالأيدى والعصى، وهرب الجنود إلى ثكناتهم وعادوا بأسلحتهم الفتاكة وقاموا بهجوم مفاجىء على القرية بأكملها، مستعملين المدافع الرشاشة وأنواع الأسلحة الأخرى، وبطبيعة الحال لم تقع معركة يتقابل فيها فريقان، بل مطاردة أشبه ما تكون بصيد الحيوانات فى الغابات لأن الصوماليين لم يسعهم إلا الفرار أمام زحف الجيش المسلح. وفر الصوماليون رجالا ونساء وأطفالا مسافة تزيد عن 25 كيلومترا حتى وصولوا إلى غابة على الجانب الأخير من حدود الصومال البريطانى (سابقا) واحتموا فيها بعد أن سقط منهم 36 قتيلا وجرح كثيرون. وعاد الفارون بعد ثلاثة أيام إلى منازلهم بعد أن تفاهمت السلطات البريطانية مع حكومة أديس أبابا بشأنهم لا ليحتفلوا بالعيد، ولكن ليشيعوا جنائز شهدائهم التى تعفنت، وخيم على المنطقة جو مظلم يسوده القلق والتوتر، ولن ينتهى هذا ما لم تفصل منطقة أوجادين خاصة والمناطق الإسلامية فى الحبشة عامة عن الاستعمار الأمهرى الغاشم وتصبح جزءا من صوماليا الكبرى أو تصبح صوماليا الكبرى جزءا منها. * * * مجازر أوجادين: كتب شاهد عيان عن الحوادث الأخيرة فى منطقة أوجادين قال: " وقعت على قبائل "أ عيسى" مصائب كبيرة فى(1/58)
الأسابيع القليلة الماضية وسالت دماء الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال أنهارا فى مناطق (أوجادين) والاضطرابات على قدم وساق، ففى كل ليلة يرفع الشباب أعلاما صومالية كثيرة وتنزلها القوات الحبشية قى الصباح، حصل ذلك حتى فى منطقة (ديرداوا) وارتكبت القوات الحبشية جرائم وحشية ضد القبائل الصومالية، وأقامت المجازر والمشانق بالجملة.ص_056
وقد أوقفت قبائل عيسى القطار بين " جيبوتى " و "ديرداوا " وغنموا حمولته، كما قطعوا الأسلاك الكهربائية والتليفونية انتقاما لما حل بهم من المجازر البشعة من القوات الحبشية، ويقال:! ! أكثر من خمسمائة شخص بين جريح وطريد اخترقوا الحدود إلى جمهورية صوماليا، وقد رفعت حكومة صوماليا احتجاجا رسميا إلى حكومة الحبشة وهد دت برفع شكوى إلى هيئة الأم المتحدة. وبعد استقلال صوماليا فى 1/ 7/ 1960 ألغت الحكومة الحبشية اتفاقية عام 1948 م مع الحمية البريطانية بصدد المراعى، ومعنى هذا أن القبائل الصومالية الرحل لا تستطيع دخول المنطقة الرعوية التى تسمى" المنطقة الاحتياطية"، ومن جانب حكومة صوماليا ألفت معاهد ة سنة 1908 وما قبلها، والتى أبرمتها السلطات الاستعمارية مع الحكومة الحبشية، وهذا معناه أن صوماليا لا تعترف بحدودها، وعلى العموم فإن الحالة جد متوترة فى هذه المنطقة ". هذا ما كتبه شاهد عيان، ونضيف إلى ذلك ما كتبته صحيفة "الجمهورية القاهرية" فى عددها رقم 26899 والصادر فى 2 1/ 2/ 0 38 1 هـ الموافق 5/ 8 /1960)، قالت بالحرف الواحد تحت عنوان " اشتباكات عنيفة بين القوات الصومالية والإثيوبية " ما يلى: " مقديشيو فى 4- أ. س أ ـ وقعت اشتباكات عنيفة بين بعض القبائل الصومالية ووحدات من الجيش الإثيوبى على الخط الحديدى بين جيبوتى وديرادوا، ولا تزال هذه الاشتباكات مستمرة ". " وتقول المصادر الموثوق بها أن هذه الاشتباكات بدأت منذ أسابيع، ثم ازدادت حدتها واشتركت فيها قبائل أخرى وأدت إلى قتل(1/59)
800 صومالى و1000 إثيوبى، ويرجع سبب هذه الاشتباكات إلى اعتراف هذه القبائل بجمهورية صوماليا " وكتبت جريدة (قرن إفريقيا) الصومالية فى عددها رقم 56 الصادر فى 3/ 9/ 1960 م ما يلى: " غزت قوات هيلاسلاسى عدة قرى ومدن صومالية " مسلمة " فى غرب الجمهورية، وقامت بعملية قتل ونهب و إرهاب كما قتلت مئات من الأطفال والنساء والرجال ونهبت آلاف الحيوانات، واشتركت أيضا الطائرات الحبشية فى عملية الإبادة التى قامت بها القوات الباغية، وفى (دجحبور) استدعى الحاكم الحبشى بعض زعماء قبائل الصومال وقال لهم بالحرف الواحد ما يلى:ص_057(1/60)
" إن حكومة الإمبراطور العظيم " هيلاسلاسى " النجاشى قررت ما يلى: ا- طرد جميع رعايا الجمهورية الصومالية من أراضى الإمبراطورية وحرمانهم من حقوق المراعى. 2- تأميم البرك الواقعة على هذا الجانب من الحدود وتوزيعها " على رعايا الإمبراطور "، واستمر يقول " إن الإمبراطور الذى يعطف على شعبه ويريد له الخير والسعادة اتخذ هذه القرارات ويرجو موافقتكم عليها " وفى (قبر دهر)، ورع المواطنون منشورات يطالبون فيها بالجلاء عن منطقة (أوجادين) وأعلن المواطنون عن عزمهم للتخلص من الاستعمار والسيطرة الأجنبية، وتفيد الأنباء أن السلطات الحبشية هناك ألقت القبض على 25 مواطنا بتهمة تحريض الشعب ضد الحكومة. ومن هنا يتضح لك أيها القارىء الكريم ما يقاسيه أبناء الصومال المسلمون الذين يطالبون بحقهم العادل فى الحرية والانضمام إلى إخوانهم فى جمهورية صوماليا، وفق الغد القريب إن شاء الله يتحقق هذا الأمل وتقوم جمهورية صوماليا الكبرى شاملة تحت لوائها لا منطقة (أوجادين) فحسب، بل سائر المناطق الإسلامية الرازحة تحت نير الصليبية الحبشية، وتتحقق بذلك الأمانى التى يصبو إليها المؤمنون بالعزة والكرامة، ويتحقق وعد الله الذى وعد به عباده المؤمنين (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا). ***ص_058(1/61)
استقلال مزيف.. يقوم على اضطهاد الإسلام والمسلمين.. فى السنين الأخيرة انتفضت الشعوب الأفريقية انتفاضة الحياة، وبدت كراهيتها الواضحة للاستعمار الغربى الذى جثم على صدرها دهرا طويلا. وقررت هذه الشعوب أن تسترد حرياتها المسروقة وخيراتها المنهوبة، وأن تعيش سيدة نفسها دون تبعية سافرة أو مقنعة للرجل الأبيض القادم من وراء البحار.. والمستعمرون لا ينقصهم الخبث كى يواجهوا هذه الحركة بالتفاف ماكر. إنهم حراص على استنفاد كل خير، فى كل شبر من أرض القارة البكر لصالحهم الخاص. وعندما تطلب ذلك قديما أن يحتلوا البلاد احتلالا مباشرا، وأن يقتلوا جماهير السكان بالجملة أو بالتجزئة، وأن ينصبوا حكاما من بنى جلدتهم لإقرار نفوذهم، لم يتورعوا عن شىءمن هذا كله!! لكن الزمن تغير والعصر تطور. ولابد أن يجرب الاستعمار أسلوبا آخر يضمن به مغانمه ويخفف مغارمه!! و إذن فمن المفيد تكوين حكومات أوروبية النزعة و إن كانت إفريقية الجنس! وهنا يجدر بنا أن نتفرس فى ملامح هذه الحكومات التى أذن الاستعمار بوجودها، ونغلغل البصر فى الملابسات التى اكتنفت ميلادها وصاحبت سلوكها. هناك استقلال أسوأ من الاستعمار، وأشد وطأة منه على الإفريقيين التعساء. أتظن جنوب أفريقيا المستقل دولة أفريقية مستقلة تعد بين دول القارة التى ظفرت بحريتها؟ عندما كنا طلابا فى المرحلة الابتدائية منذ أربعين سنة كان يقال لنا: إن الدول المستقلة فى إفريقيا مصر، وجنوب إفريقيا، وليبيريا.. ولا أدرى كيف اعتبروا جنوب إفريقيا دولة مستقلة؟ إن الإنجليز المحتلين، وشركاؤهم من الأوروبيين المغامرين هم أصحاب السلطة فى هذه البقاع المحروبة. أما أصحاب البلاد الأصلاء فغرباء مطاردون فى وطنهم...ص_059(1/62)
والتسمية الصحيحة أن مستعمرة جنوب إفريقيا انتقل إليها حكامها الأوروبيون، فبدل أن يعيشوا فى لندن وأمستردام عاشوا فوق ترابها المنكود، يستذلون أهلها عن قرب، ويسنون لهم القوانين المهينة، ويجعلون أنفسهم ملوك البلاد وملاكها. أما أصحاب البلاد الحقيقيون فهم أجراء طارئون لا وزن لهم ولا شرف.. والغريب أن هناك خطة لتستقل روديسيا، على هذا الغرار، فيملك الجنس الأبيض نواصى الأمور، ويشتغل الوطنيون بالخدمة. ثم يقال: إن الدولة مستقلة جديدة ولدت على الصعيد الدولى ، وإن إفريقيا التى كانت مستعمرات كلها وليست بها إلا ثلاث دول مستقلة قد أصبحت دولا مستقلة كلها وليس بها إلا جيوب من الاستعمار البرتغالى فى أنجولا ينتظر أن تنتهى!!. وبديهى أن هذا طراز من الاستقلال لا يقبله عاقل، فهو تخليد للهوان البشرى، وإضفاء صورة قانونية مزورة عليه كى يمر.. وإذا كانت التفرقة العنصرية تهدر كل قيمة لهذا الاستقلال المنتحل، فإن التفرقة الدينية لها هذا الحكم نفسه.. لقد لاحظنا أن الاستعمار الغربى عندما يشكل الحكومات التى تخلفه فى إدارة البلاد التى نالت " استقلالها " يجتهد فى محاربة الدين الذى تعتنقه الكثرة وفى سلب أنصاره كل طريق. إلى السلطة. إن الحكام الذين رباهم فى جامعاته أو فى كنائسه هم وحدهم موضع الثقة، ومناط الكفاية، وهم وحدهم بيئة الحكم، ومصدر التشريع. وقبل أن نعرض النماذج من القارة التى نعيش فيها نلفت النظر إلى حالة فيتنام الجنوبية. فإن البوذية هناك دين أربعة أخماس السكان، ولكن القلة الكاثوليكية هى التى تستبد بالدولة وتفرض عليها صبغتها، وتعامل جماهير البوذيين معاملة شائنة. إن الحريات الدينية مختنقة فى هذه البلاد. وعندما شرع الرهبان البوذيون يحرقون أنفسهم فى الميادين العامة كى يستصرخوا الضمائر لنجدتهم، كانت زوجة الحاكم الكاثوليكى تعدهم قطيعا من الدواب، وتقول: إنها تشم عند احتراقهم رائحة الشواء!! فأى استقلال هذا الذى(1/63)
يسمح لقلة ـ مهما كان شأنها ـ أن تبطش بسواد الأمة على هذا النحو؟ص_060
إنه للأسف الاستقلال الذى تسمح به دول الغرب لكثير من الحكومات فى العالم القديم! استقلال لا يسمح للأمم أن تفكر كما تحب ولا أن تعتنق ما تهوى، ولا أن تتبع ما تعتقد... لقد تغير شكل الحكم وبقى موضوعه، أو تغيرت الأدوات الفاعلة بعد الاطمئنان إلى النتيجة المنشودة. أى أن الاستعمار الخارجى ولى قفاه استعمار داخلى فى صورة استقلال تام. إن الحرية الحقيقية هى أن تستطيع جماهير الملونين فى وطنها ووطن آبائها أن تسود وتعز، فلا يكون للتفرقة العنصرية أى ظل. وإن الحرية الحقيقية أن تستطيع جماهير المتدينين بأى دين، سواء أكان الإسلام أم غير الإسلام أن تحيا وفق عقائدها دون مصادرة أو افتئات أو غربة! وأى استقلال يقوم على الاضطهاد الجنسى أو الدينى فهو استقلال مفتعل أو هو امتداد للاستعمار القديم . *** قلنا إن إفريقيا العربية كانت أسبق إلى استرداد حريتها من إفريقيا السوداء. بل كانت فى الجملة أعصى على أحقاد الغرب وأهوائه من بقية أجزاء القارة. والفضل فى ذلك للإسلام الذى جعل الشعوب العربية أعز نفسا وأشمخ أنفا من أن تقبل الاحتلال الأجنبى أو ترضى بالهزيمة الطارئة. من أجل ذلك نشبت ثورات التحرير فى إفريقيا العربية من أول يوم هبطت فيه قوات الغزو. قاتل المصريون إنجلترا، وقاتل الليبيون إيطاليا، وقاتل أبناء المغرب الكبير فرنسا. وظلت نيران المقاومة الباسلة مشتعلة حتى اضطر المهاجمون آخر الأمر إلى الانسحاب وهم كارهون. وكان العرب الثائرون فى وادى النيل والشمال الإفريقى كله يشعرون أنهم أبناء حضارة أرقى، ولغة أشرف، وديانة هى الحق كله.ص_061(1/64)
ومن ثم فقد أبوا بجفاء وكبرياء أن يهجروا لغتهم العربية، أو ينسوا تارخهم العريق، أو يفرطوا فى دينهم الطهور. وعجز الاستعمار مع طول محاولاته أن يقتل لغتنا أو ديننا.. و إن كانت له ذيول نعمل بعد إجلائه على إيرادها ذات المصير حتى تخلص لنا مواريثنا المادية والروحية دون شوائب.. أما أفريقيا السوداء فقد كانت حالتها على العكس من ذلك. ولنرجع قرونا إلى الوراء لنرى جذور مشكلتها. لقد استطاع المتطوعون من العباد والتجارأن ينشروا الإسلام فى أرجاء الصحراء الكبرى، وأن يسيروا مع مجرى النيجر والكونغو والنيل حاملين دعوتهم الكبرى ومدخلين أفواجا من الزنوج فى الإسلام. إلا أن هذه الدعاية الناشطة لم تمض فى الطريق حتى نهايته. وذلك لأنه لم تكن للدعوة أجهزة منظمة تتابع تقدمها وتزيح العوائق من أمامها.. ثم إن الأمة العربية التى كان يجب أن تغذى جهود المتطوعين سقطت هى نفسها فى حوزة السلطان التركى، فبقى الإسلام وحده فى أحشاء القارة السوداء ينمو كما تنمو الزراعات البدائية فى الأقطار المتخلفة. ومتى حدث ذلك؟ فى الوقت الذى شرع فيه الأوروبيون يكتشفون المجاهل، ويبعثون الرواد ليعرفوا حقيقة هذه الأجزاء المبهمة من أرض الله، وليضعوا أيديهم عليها كى تكون ملكا خالصا.. ولا شك أن اكتشاف أفريقيا السوداء أخرأهلها أكثر مما نفعهم، خصوصا فى القرون الخمسة الأخيرة، فإن الأوروبيين لم تكن لهم وظيفة إلا خطف الإنسان الإفريقى وبيعه فى الأسواق وتشغيله بأعمال السخرة. والعشرون مليونا من زنوج أمريكا هم أحفاد من بقى حيا من آثار هذه المأساة المزعجة. ووسط هذه الأحداث وفى أعقابها أخذت الدول الغربية تبعث بالمبشرين، سواء من الكاثوليك أو البروتستانت لنشر المسيحية، ونشر اللغات الأوروبية.ص_062(1/65)
ويجب أن نعترف بأن الإسلام لم يكن قد صفى الوثنية من قلب القارة ولا من أطرافها الأخرى.. نعم لقد دخل فى الإسلام كثيرون، ولكن جماهير كثيفة ظلت على وثنيتها لا لشىء إلا لأن الحق لم يلح لعينها، فهى لا تدرى شيئا.. واستطاعت المسيحية أن تنشر تعاليمها فى دائرة محدودة، واستطاعت ـ وهو المهم ـ أن تلحق نفرا من أذكياء الزنوج بمعاهد أوروبا ليكونوا بعد تثقفهم أولياء الغرب ومعابر لرغباته. لكن تاريخ الرجل الأبيض، وجشعه الموصول لم يعينا على نجاح خطته، فاستيقظت روح التمرد فى جنبات القارة السوداء، وقررت أن تكسر قيودها وأن تستعيد كرامتها مهما كان الثمن. *** وأسعف الأوروبيين مكرهم للخلاص من هذا المأزق، فتركوا أغلب دول أفريقيا ينال استقلاله بعد أن اتخذوا الضمانات لأمور ذات بال. إن الإسلام هو الدين الأول فى أفريقيا، وأتباعه يكونون ثلاثة أرباع القارة، وزحفه الهادىء على حساب الوثنيات القديمة يضاعف رقعته ويزيد قوته. والأوروبيون يكرهون الإسلام أشد الكره، ويتعصبون ضده أقبح التعصب. إنهم يسالمون الشيوعية ولا يسالمونه ، ويقبلون الوثنية ولا يقبلونه! و إذن فلابد من صياغة الأوضاع السياسية الجديدة للقارة بحيث تجمد النشاط الإسلامى إن لم تستطع سحقه. ومن ثم رأينا الكثرة المسلمة فى كثير من دول القارة محرومة من الحكم، كما رأينا الكثرة السوداء فى روديسيا وأفريقيا الجنوبية محرومة من الحكم! لماذا؟ لأن المستعمرين البيض يكرهون الإسلام وأهله، ويحبون أنفسهم ومنافعهم فقط. ***ص_063(1/66)
نريد بصراحة حاسمة أن نقول: لن تستقل شعوب أفريقيا استقلالا صحيحا إلا إذا كانت حكوماتها صورة صادقة لشعوبها وتعبيرا واضحا عن إرادتها وأملها. أما أن تفتح الشعوب أعينها على حكم يزدرى لونها أو دينها فليس هذا الحكم منها، وإنما هو عليها.. إن التفرقة العنصرية والدينية امتداد للسيطرة الاستعمارية القديمة وليس بشيرا أبدا بعهد استقرار وطمأنينة.. إن جهود دول غرب أوروبا ومن ورائها العون الأمريكى المادى والأدبى ـ دائبة على تدويخ الإسلام و إذلال أهله فى إفريقيا كلها. وقد دخلت إسرائيل هى الأخرى فى هذا المضمار الخسيس وشرعت بأساليب الختل والمكر تكيد للعرب، وللرسالة العظمى التى حملوها. وبين يدى وأنا أخط هذه السطور تقرير لطبيبة مسلمة غيور، شاهدت طرفا من المأساة التى يصنعها الاستعمار من وراء ستار، ثم عادت لتقص علينا بعض ما رأت.. قالت الدكتورة زهيرة عابدين: " دعتنى هيئة الصحة العالمية بالاشتراك مع هيئة إغاثة الطفولة الدولية ضمن ستة أطباء أطفال من جامعات مختلفة لزيارة بعض دول شرق وأواسط أفريقيا للاطلاع على ما يبذل من جهود صحية واجتماعية فى هذه البقاع. إذ يقوم المستعمر الآن بالتعاون مع هذه الهيئات وغيرها بنشاط متسع فى هذه الميادين خصوصا فى السنوات الأخيرة. وكأنه أراد أن يستبدل بالاستعمار العسكرى غزوا من نوع آخر تحت ستار العلم والخدمات ـ ولقد أثرت هذه السياسة فى القادة والشعب عموما وبات ينظر إلى مستعمر الأمس على أنه صديق اليوم الذى لا غنى عنه. لقد زرت إثيوبيا ثم كينيا ثم تنجانيقا ثم زنزبار ثم أوغندا وكلها دول نالت استقلالها حديثا تتطلع للنهوض وتحتاج إلى كثير من العون والإرشاد. فماذا وجدت؟ هب المستعمر ولبى، وهبت إسرائيل التى لم يكن لها أى أثر ولا نفوذ منذ عامين ونشطت وعملت جاهدة بشتى الأساليب الممكنة على التغلغل فى هذه الشعوب بأساليب أجمل منها الآتى: ا- الإكثار من دعوة الوزراء والقادة السياسيين(1/67)
وأصحاب النفوذ والسلطان الإفريقيين غالبا فى أثناء عودتهم من الخارج حتى لا تتحمل نفقات السفر إلى إسرائيل ثم تعملص_064
جاهدة على تشبيعهم بفكرة عبقريتها وقدرتها الإنتاجية وتقدمها ونشاطها فى مختلف الميادين وغير ذلك مما يشجعهم على فتح الباب للصهيونية بين جماهير الإفريقيين. 2- المبادرة بعرض خدماتها لكل مشروع تشتم رغبة الحكومة فيه أو حاجة البلاد إليه. والواقع أن الإنجليز والغرب عموما ما زالوا قابضين على السلطة الحقيقية حتى فى البلاد التى نالت استقلالها، فمثلا وزير الصحة هو وزير سياسى واسمى، فى حين أن مدير الصحة وهو إنجليزى يسيطر على معظم شئون الصحة وهكذا.. وهؤلاء المستعمرون يمهدون لتغلغل إسرائيل ويسهلون لها الأمر بكافة الطرق. 3- الإكثار من دعوة المبعوثين من أهل البلاد الإفريقية إلى برامج ثقافية (فى الغالب قصيرة) ليرجحوا ويقبضوا على السلطات المختلفة ويكونوا أد اة لتنفيذ رغبات إسرائيل أو سياستها. و إذا كانت هذه البلاد مفتقرة عموما إلى معونات كثيرة للإرتقاء بالتعليم على اختلاف أنواعه والنواحى الاجتماعية والصحية واستصلاح الأراضى وزياد ة الدخل.. إلخ. فإن مسلمى هذه البلاد خصوصا يقاسون ظلما اجتماعيا يدعو للأسف والحسرة. حتى فى البلاد التى تتمتع بأكثرية مسلمة كتنجانيقا وتعدادها حوالى 11 مليون منهم أكثر من 65% من المسلمين. الحاكم مسيحى وجل الوظائف الحكومية يشغلها مسيحيون . أما المسلمون فهم فى جهل وفقر وذل اجتماعى. ويرجع ذلك لسياسة المستعمر وأساليبه فمنذ دخل المستعمر هذه البلاد دأب على نشر المسيحية والقضاء على الإسلام (سواء لأغراض دينية بحتة بالرغبة فى الانتقام للحروب الصليبية أو لأغراض دينية ممتزجة بأغراض سياسية وهو الغالب) وذلك على النحو الآتى: تقوم بالتعليم مدارس تبشيرية يتجنبها عادة المسلمون الذين لبثوا فى حالة جهل فىص_065(1/68)
حين تخرج من هذه المدارس طائفة الإفريقيين الذين اعتنقوا المسيحية وأسندت إليهم القيادات وشتى الوظائف الهامة. وضع القيادات العليا فى يد أفريقى مسيحى حتى فى البلاد التى يكون المسلمون فيها الأغلبية كما قلت. ولقد علمت أنه أول ما دخل الإنجليز أوغندا عزلوا الحاكم المسلم ووضعوا قانونا بألا يتولى الحكم إلا مسيحى. إلى جانب هذا تغلغلت البعثات التبشيرية فى كافة أنحاء هذه البلاد تشيد المدارس ودور الحضانة (تربى الأيتام وأولاد الفقراء على المسيحية) والمستوصفات وتساندها الآن الهيئات المختلفة (هيئة إغاثة الطفولة الدولية، هيئة نافيلد وروكفلر.. إلخ) والجامعات وأهل العلم (أطباء، وعلماء..). كل هؤلاء يعملون على نشر المسيحية تحت ستار العلم ويساندون الهيئات التبشيرية بشتى الطرق المدروسة المنظمة وهكذا نجح المستعمر فى تحويل جل، بل كل القبائل اللادينية إلى المسيحية (فى أوغندا وتعدادها 8 ملايين أكثر من 85% مسيحيون الآن، وفى كينيا وتعدادها 8 ملايين أكثر من 65% مسيحيون)، ولم يبق سوى قبائل قليلة لا تعتنق ديانات سماوية. وهنا أريد أن أوضح أن المجهود التبشيرى مركز على بث روح تعصب وكراهية للمسلمين وكبرياء عليهم لا على روح دينية وخلق سليم فى مسيحية اسمية يسمح فيها بتعدد الزوجات.. إلخ. مادام الشخص مسيحيا بالاسم يذهب إلى الكنيسة ويحقد ويتعصب ضد المسلم ويشعر بأفضلية عليه. هذا وقد اتخذت أساليب شتى لإشعال روح الكراهية بين الإفريقيين المسيحيين والإفريقيين المسلمين من ناحية وبين الإفريقيين عموما والعرب المسلمين من ناحية أخرى. فنشطت دعاية كبيرة، أساسها استعباد وتسخير العرب للإفريقيين فى الماضى. فمثلا فى صالة الاجتماعات الشهيرة بأديس أبابا أول ما يسترعى النظر فى شباك زجاجى كبير بجوار السلم الداخلى رسومات ملونة تمثل العربى بعقاله يقود جماعة من الزنوج الإفريقيين مربوطا بعضهم ببعض بسلاسل. وصورة أخرى تمثل هؤلاء الزنوج وهم(1/69)
يفكون عنهم هذه القيود ويتخلصون من هذا العربى الظالم العاتى..ص_066
وحوالى نصف متحف تنجانيقا بدار السلام عبارة عن صور فتوغرافية ورسومات تصور هذا المعنى. ولقد قيل لى أن الإفريقى الآن يتعلم ويشبع بخطر المسلم (والمصرى خصوصا) ويقال له: إن خطر المسلم والعربى أكبر من الخطر الشيوعى. أما الأقلية من الإفريقيين المسلمين الذى ينالون قدرا من التعليم العالى (ثانوى أو جامعى) فالجهود منصبة على إفسادهم خلقيا. يوحون إليهم أن المدنية فى شرب الخمر والعرى والتسابق على المادة وغير ذلك مما يجعل تعاليم الإسلام فى الواقع أقرب للخيال منها للواقع ويجعل المسلم مسلما بالاسم لا غير. أما المسلمون الفقراء والجهلاء، فقد بدأ بعضهم بالإكراء وتحت ضغط الفاقة يتحول فعلا للمسيحية (كما علمت أن نسبة المسلمين فى تنجانيقا كانت حوالى 85% والآن هى حوالى 65% فقط). فالمسلم الإفريقى عموما معرفته بدينه سطحية بالنسبة لجهله باللغة والدين وسأعرض بشىء من التفصيل إلى التعليم والنشاط الموجود حاليا فى أوغندا حيال المسلمين: المدارس التى يرتادها المسلم هى: ا- أما كتاتيب بتحفيظ بعض آيات قرآنية للأطفال يجهل معناها التلميذ والأستاذ على السواء (إذ كلاهما يجهل اللغة العربية وثقافته بدائية). ويكتفى بحفظ الصلاة وبعض الآيات عن ظهر قلب. ولا تعلم أيا من العلوم الكونية، وأغلبية المسلمين الذين يتلقون العلم يذهب إلى هذه الكتاتيب. 2- مدارس ابتدائية أهلية (أقامتها هيئات إسلامية خاصة) وهى تحت إشراف رابطة التعليم الإسلامية وبعضها يتبع الطائفة الإسماعيلية ويعلم مذهبهم وبعضهم الطائفة الأحمدية وبعضهم السنية وبعضهم مدارس الشيعة. ولما كانت أغلبية الإفريقيين المسلمين هم من السنة فلا يغشون إلا مدارس السنة. وتدرس هذه المدارس البرنامج الحكومى للمدارس الابتدائية ولا تدرس المسيحية (وهذا هو ما يميزها عن مثيلاتها من المدارس الحكومية) ولكن لسوء الحظ فهى لا تدرس(1/70)
أيضاص_067
الدين الإسلامى أو اللغة العربية (فهناك مثلا مدرسة اسمها مدرسة البنات الإسلامية وفيها حوالى 400 بنت) وللأسف ليس فيها دراسة إسلامية أو لغة عربية، ولقد سألت المختصين عن ذلك فقالوا: أنهم لا يجدون المدرس الذى يمكنه القيام بهذه الدراسة. وهناك عدد محدود جدا من المدارس المماثلة الثانوية، وكل من المدارس الابتدائية أو الثانوية بمصروفات ومن المتعسر على أكثرية المسلمين الإفريقيين الانتفاع بها نظرا لفقرهم وصعوبة المواصلات إليها. وهناك المدارس الحكومية بمصروفات أيضا وتدرس الدين المسيحى ولا يتمتع بها إلا القليل من المسلمين، وأخيرا المدارس التبشيرية وهى الأغلبية وبمصروفات وتدرس العلوم الكونية وبجانبها تهتم كثيرا بتدريس الدين المسيحى، وبالطبع لا يكاد يرتادها المسلمون. إن اهتمامنا ببلاد متاخمة لنا ويستولى بعضها على منابع النيل أمر حيوى لا يحتاج إلى تبيان وأن التعجيل بالحد من نشاط إسرائيل وعدم توسعها وقبضها على زمام كل الأمور ضرورة لا مراء فيها وهذا كله لا يتأتى إلا إذا حاولنا أن نوثق روابطنا بهذه البلاد بمعاونتها فى نهضتها فى ميدان الخدمات الاجتماعية والصحية ونشر العلم والثقافة وشتى نواحى التقدم الاقتصادى (زراعى وصناعى وفنى.. إلخ). ***ص_068(1/71)
3- القتل والاستغلال أحسب تاريخ العالم لا يعرف فى سجله الطويل أسوأ من مدنية الغرب فى معاملة الآخرين، وتجاهل مصالحهم، ومصادرة حقوقهم. بل إنه لا يعرف أسوأ من هذه المدنية فى إراقة الدماء بغزارة، والتهام الحرمات بنهم، وتجسيم الأثرة الباغية تجسيما يحجب كل ما وراءه من خير وعدل، لا، بل إن هذه المدنية تتميز ببراعتها الفائقة فى فرض إثمها على أنه شرف، وإبراز شهواتها وكأنها قوانين نزيهة! فالخير ما عاد عليها وحدها بالنفع وإن كسر قلوب الآخرين، والعدل ما سوغ حيفها وإن شاء وجه الحق واستخفت معالمه تحت ركام من الأقذار..! الطابع الغالب على أبناء " أوروبا " إنهم قساة القلوب، وأن بطشهم بأعدائهم - أعنى من يرونهم أعداءهم- يتسم بالجبروت والفظاظة، وأن تدمير المدن، وإزهاق الأرواح، وإهلاك الحرث والنسل، أعمال ترتكب وكأنها مسلاة هينة، أو عبث مأمون الجزاء..! عندما غزا الإنجليز " أستراليا " أخذوا ينزلون بالبقاع الخصبة منها، ورسموا سياسة دقيقة لمنع سكانها الأصلاء أن يشركوهم فيها. وكلما تكاثر الغزاة اشتد دفع الأهلين عن الموارد العامرة إلى الصحارى المتلفة كى ينقرضوا فى صمت! وليتهم ينقرضون فى صمت يحسه المجرم وهو يواقع المنكر! إن المستعمر المجرم هنا ـ وهو يفعل فى الخفاء فعلته ـ يملأ الدنيا ادعاء بأنه رسول الحضارة والارتقاء والسلام! والذى فعلته " إنجلترا " فى " أستراليا " فعلت مثله " إيطاليا " فى " طرابلس ". فقد نزل المستعمرون الغرباء على السواحل النقية، وشرعوا يقاتلون العرب عليها، ويذودونهم عنها، فإذا رضيت بعض القبائل أن تعيش خدما للفاتح الغالب انتهزوا لها أول خطأ ـ أو اختلقوه ـ ثم حكموا على شباب القبيلة بالموت رميا بالرصاص، وطاردوا البقية إلى الصحراء، نساء وأطفالا وشيوخا، لتجد فى الرمال الغبراء قبرا يواريها إن لم تجد صدرا يستقبلها..!ص_069(1/72)
ولا شك أن فى الأمم من يسخط لهذا المصير، ومن يقاوم القتلة وهو يجدبونه إليه. وهنا تقع الطامة، فإن إطفاء ثورات التحرر تلقى أسلوبا من القمع والتمزيق يثير الرعب، أسلوبا انفرد به الاستعمار الغربى عن أعصار التاريخ كلها. نعم، نحن نعلم أن الرومان كانوا يرمون خصومهم للوحوش الجائعة تنهش لحومهم وتهشم أعضاءهم! ولكن من الخطأ أن نحسب زبانية الاستعمار الحديث أقل سفالة من قدماء الرومان. ففى إخماد الثورات المتكررة التى اندلعت نارها فى "فلسطين " ضد الحكم الإنجليزى ارتكب ما هو أقسى من ذلك وأنكى. ربما لم تستجلب سباع من الغابات لالتهام المعذبين المحكوم عليهم بالموت لا لشىء إلا لأن آلات التعذيب المستحدثة تسد مسدها، وبخاصة إذا أشرف على إدارتها رجال غاضت من قلوبهم معانى الرحمة، فهم ذئاب مسعورة فى صور أناسى! ألم تكن القرى الآهلة تسوى بالتراب إذا عثر فى بيت منها على رصاصة أو مسدس؟ ثم ألم يكن الشباب النضر يقاد إلى الموت أقبح قود ، وبعد طرق من التنكيل والإذلال طافحة بالهول؟ بلى! ولقد كان الموت يجىء بعد هذا الشقاء المر اختصارا لآلام فوق طاقة البشر، فهو أمنية، كما قال أبو الطيب: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا..! والاستعمار الغربى يستبد به جنون القتل كلما كان المسلمون هم ضحاياه، وكلما كانت بلادهم هى هدفه. إنه فى هذه الأحوال يستمرىء العدوان، وينتشى بالدم المسفوك؟ أليست شهوة الفتك والحالة هذه تحسب عبادة وقربة إلى الله؟ لذلك كانت ضراوة الإنجليز فى "فلسطين "، والطليان فى " طرابلس " والفرنسيين فى " الجزائر " متشابهة تنبع كلها من عين حمئة، عين تفور بالضغائن والثارات. وتذهل عن الحقوق والواجبات. و إنى ـ ساعة كتابة هذه السطور ـ استمع إلى رواية شاهد عيان يصف غزو الحلفاء الثلاثة، إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، لمدينة " بور سعيد ". قال: بذل الأهلون قصارهم فى رد الجنود الهابطين بالمظلات، واستطاعوا(1/73)
مغالبة الأفواج الأولى منهم، بيد أنهم بوغتوا بمئات الطيارات ترجم المدينة بقذائفها الحارقة، وكان الأفق مليئا بهذه الأسراب المغيرة تغدو وتروح وهى تفرغ الهلاك فى كل مكان! خمسمائة غارة فى هذا اليوم الأغبر ـ كما نطقت بذلك بلاغات العدو!!ص_070
وانضمت سفن الأسطول إلى هذا الهجوم، فأخذت تطلق مدافعها على المدينة اللاغبة ، فرأيت القصور والنار تخرج من نوافذها، ثم ما هى إلا لحظات حتى تندك فوق رؤوس ساكنيها. وسرى الرعب إلى الحيوانات التى تقطن المدينة، فانسابت تجرى فى شوارعها على غير هدى، غير أن الرصاص المنهمر لا يدعها تصل إلى مهرب! فأين المهرب للإنسان والحيوان فى هذا البلاء المحيط؟ ولذلك تجاورت فى الميادين والأزقة جثة كلب شارد، وإنسان بائس.. وكانت الجثث المتناثرة كأوراق الشجر الساقطة فى فصل الخريف تكسو الأرض المخضبة فى منظر يثير اللوعة. وأحيانا تجد كوما من الموتى وقع بعضهم على بعض فتساءل: أركموا هكذا بفعل فاعل؟ والظاهر أن يدا لم تمتد إليهم بعد مصارعهم! وإنما هى طبيعة البشر ساعة الروع، إن كلا منهم جرى إلى أخيه ليأنس به، أو يتعاون معه على مواجهة الصواعق النازلة من الجو، أو القادمة من البحر، فدهمهم الموت وهم جميع على هذا النحو. لله كم هى رخيصة دماء أولئك المسلمين؟ وحاول أبطال المقاومة الشعبية أن يوقفوا السيل! فانطلقوا شبه مجانين يدافعون ببنادقهم هنا وهناك. ولكن الأجانب من سكان " بورسعيد " وأشباه الأجانب من المحسوبين على مصر، انضموا إلى الغزاة، واختبأوا فى مساكنهم يتصيدون برصاص مسدساتهم أرواح الرجال الذين انتصبوا للدفاع عن بلادهم..! وكان بلاء المسلمين من هذه الخيانات فاجعا. أهكذا ينسى الجميل على عجل؟ أولئك الذين عاملناهم بتقاليد الضيافة والسماحة، يستديرون لنا فى المحنة ليغتالونا مع إخوانهم الصليبيين الغزاة؟ إن بقايا طعامنا لا تزال فى بطونهم، وآثار كرمنا لا تزال بين أيديهم ومن خلفهم، وها نحن(1/74)
أولاء نتلقى الجزاء العدل منهم! فلا غرو إذا أحس المسلم وهو يلفظ أنفاسه على طوار ، أو يسلم روحه تحت ردم، إن الدنيا تآمرت عليه وشاركت فى قتله..! قال إمام المسجد الذى يروى هذه المأساة: ولقد دخل الإنجليز والفرنسيون المسجد العباسى وشرعوا يحصدون المصلين حصدا، وأظن الجثث التى تراكمت فى المسجد تربو على مائتين!ص_071
على أنه من الرحمة التى تسجل لهم، إنهم بعدما دخلوا البلد المهيض وجدوا رب أسرة يشتد مع زوجه وأولاده يلتمس النجاة، فقتلوا الرجل وحده، وتركوا المرأة التى عجزت عن الحركة، لأن صغارها تشبثوا بجثة أبيهم ينادونه لعله يجيب! *** إن حضارة الغرب لا ضمير لها ولا قلب، إنها حضارة قطعان استغلت تفوقها العسكرى لتملأ الحياة فسادا ونذالة. وقد منحت " أوروبا " حق الحياة لبعض الأقطار المتخلفة، فهل منحتها هذا الحق لتسعد به؟ كلا! إنه كما استبقى فرعون نساء بنى إسرائيل بعد أن قتل ذكرانهم. إنه استبقاء لمصلحة السادة ومتعتهم لا خير فيه للعبيد أبدا. وستطالعك أنباء هذا الاستحياء فترى فيه ظاهرتين مقترنتين. الأولى: الأثرة الشرهة الماكرة المشربة بالفظاظة، والذاهلة عن حقوق الآخرين، بل عن وجودهم، فهى تنظر إلى الأقطار الخصبة لا على أنها ملك أصحابها، بل كما ينظر اللص إلى متاع أعجبه، فأول ما يفكر فيه: كيف يسطو عليه، ليستأثر به؟ وربما لم تكن للاستعمار حاجة عاجلة إلى هذه الصفقة الحرام، ومع ذلك يختلسها ويدخرها للمستقبل! وضعف المالك هو وحده الذى يحرك شهيته للغصب والنهب، على حد ما جاء فى أمثال العامة: " من اعتاد أكلك ، ساعة يشوفك يجوع ". والغزو الأوروبي يتسم دائما بهذا الجوع إلى التهام السحت، ووأود أصحابه الأول. وقد نبه القرآن إلى ذلك بوصيته للمسلمين أن لا يكونوا (كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). والظاهرة الأخرى: إلباس هذه القذارة النفسية ثوب العفة والترفع، ومداراة البراثن(1/75)
الملوثة فى قفازات من الحرير. وقد كنت استغرب كيف يرزق بعض الناس هذه الصفاقة فى فعل المنكر، والخروج على الناس فى ثياب الواعظين الأشراف! حتى وجدت أن من يستسهل المناكر لا يعجزه التزوير ولا استحسان السوء.ص_072
وقديما كان فرعون يقتل ويستذل ويدعى الألوهية، ثم يقول فى موسى الذى ينصحه : (أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)! والإنجليز الذين قتلوا الألوف فى " بور سعيد " لم يروا فى عملهم هذا نكرا. فلما اضطرت حكومة " مصر " إلى إخراج الرعايا الإنجليز من البلاد، قال وزير خارجية " بريطانيا ": إن مصر تعاملنا بقذارة (!) وبهذا الأسلوب الوقح الصفيق فى قلب الحقائق يسمى عمل أوروبا فى إفريقيا " استعمارا "، وهو أخطر ما عرفته البشرية من ضروب الاسترقاق والتخريب. وإليك خلاصات من كتاب " إفريقيا الإمبراطورية البريطانية الثالثة " تصف صنع الإنجليز بهذه القارة المظلمة أو المظلومة. ولنبدأ بجنوب إفريقيا: يتكون اتحاد جنوب إفريقيا من أربع مقاطعات خاضعة لنظام الحكم الذى وضع فى 31 مايو سنة 1915، والذى خول سلطة الحكم للبريطانيين والبوير، وقد منحت الحكومات البريطانية بعض الحقوق السياسية للإفريقيين والملونين، وكذلك حق الانتخاب. غير أن الذين قيدوا فى جداول الانتخاب 12.000 فقط من عدد الإفريقيين البالغ 1500.000. وفى " ناتال " توجد حقوق انتخاب صورية للسود، لم يمارسها فى الواقع سوى القليلين، هذا مع العلم بأن السكان الوطنيين يربون على تسعة ملايين نسمة.. ومنذ عام 1913 وأجود الأراضى يمتلكها الفلاحون الأوروبيون والشركات المتحدة، وتبلغ مساحة الأراضى التى يحويها اتحاد جنوب إفريقيا 462347 من الأميال المربعة، قد وزع حوالى 88% منها بين ما يزيد على 2.000.000 أوروبى، بينما هناك 000، 2000- إفريقى وآخرون من غير الأوروبيين يشغلون ما تبقى وقدره 2 ا% من المساحة الكلية للأرض. والغريب أنه قبل انحلال النظام القبلى كانت الأرض(1/76)
ملكا لجميع الإفريقيين، فلم يكن هناك نظام الملكية الفردية؟ بل كان ينظر للأرض باعتبارها هبة الطبيعة للجميع، يقوم رئيس القبيلة بالنظر فى جميع أمورها، وحل مشاكلها، ولم تكن الأرض تباع ولا تشترى...ص_073
وبصدور القانون الوطنى للأراضى عام 1913، قضى قضاء تاما على نظام الحياة الاقتصادية الكريمة للإفريقيين، كما أصبحت السيطرة على الإفريقيين فى يد وزير أجنبى يسمى وزير الأعمال الوطنية. ولقد كان هذا القانون حجر الأساس للناحية الاقتصادية وعليه بنى نظام التقسيم فى اتحاد جنوب إفريقيا. ومنذ ذلك الحين والإفريقيون يضطرون للعمل بالقوة، فى نظام من السخرة يوجب أن يقضى تسعة أعشار السود حياتهم فى عمل جسمانى، أو يدوى، يستغرق يومهم بأكمله. ويلاحظ أن الكثير من الأراضى المحلية المخصصة للإفريقيين غير صالحة للزراعة أو الرى، ومع ذلك يحرم القانون عليهم امتلاك أراضى أخرى؟ كما يقضى بغرامة قدرها مائة جنيه أو السجن مدة ستة أشهر للأوروبى الذى يسمح لأى إفريقى يرعى قطيعه فى أراضيه الخاصة به!! وكان من نتائج هذا النظام الاقتصادى أن بلغ فقر الإفريقيين أشده، فشكلت حكومة برئاسة " وليم بيومنت " لبحث الحالة، وأوصت بتخصيص 8.000.000 فدان لصالح الملايين المشردة من الإفريقيين ولكن هذه التوصية لم تنفذ، بل صدر قانون سنة 1932 واعتبر تأجير الإفريقى لأرض خارج نطاق المنطقة المخصصة لبنى جنسه جريمة يعاقب عليها بالجلد أو السجن. والغرض من ذلك ألا تسنح الفرصة للإفريقى بتحسين حالته المادية. وعلى العموم كانت القوانين تفرق دائما بين البيض والسود، وتعاقب من يخالفها بالسجن أو الغرامة. وترتب على ذلك الظلم وتلك المعاملة القاسية أن هرب الكثيرون من الإفريقيين إلى المدن، وتملك اليأس الآخرين، وهم حوالى 000. 2.000 فعاشوا عبيدا للأرض التى حرمت عليهم القوانين امتلاكها. ولابد لكل إفريقى يعمل بأرض أوروبى أن يشتغل مدة 180 يوما فى العام، يحددها السيد(1/77)
كما يشاء ليربطه بالأرض طوال العام. ويفضل السيد أن يصطحب الأسود أفراد أسرته للعمل معه، وبعض هذه الأسر يتقاضى أجورا زهيدة جدا، أما الكثرة فلا تتقاضى شيئا.ص_074
وليس للإفريقى حق مغادرة الحقل الذى يعمل به، إلا بأمر سيده، ومن يهرب يقبض عليه، ثم يرد إلى سيده بعد توقيع العقوبة عليه إما جلدا وإما سجنا. وفى حالة بيع الأرض تنتقل بما فيها من عمال إلى السيد الجديد، ومن هذا يتضح أن كل القوانين توضع لصالح الرجل الأبيض. وفى حكومة " أورنج " الحرة، يعاقب العامل الذى يفسخ العقد مع سيده بحرمانه من محصول البقعة الخاصة به من الأرض.. وتدل الأبحاث والإحصاءات على أن الأمراض متفشية بين أغلب الوطنيين، وأن نسبة الوفيات مرتفعة جدا بينهم. وتفكير الوطنيين بدائى، ولا يوجد اتجاه نحو تعليم أطفالهم، بل إن بعض البيض يمنعون هؤلاء الأطفال من التعليم. وإذا كان هناك وجود للمدارس بالنسبة للسود، فإنهم سوف يعجزون عن شراء أتفه الضرورات لدخولها. والعجيب أنه يتحتم على جميع السود سداد المصروفات المدرسية إذا رغبوا فى التعلم، بينما يعفى منها جميع البيض. وحالة الفقر المدقع بالإضافة إلى ضرورة تسديد الضرائب المقررة تدفعهم إلى العمل لدى البريطانيين بأجور زهيدة لا يكاد يتصورها العقل. *** وعلى كل إفريقى من الذكور بين الثانية عشرة والخامسة والستين ـ سواء أكان يؤدى عملا أم لا عمل له ـ أن يدفع ضريبة الرأس، وقدرها "شلن "، وضريبة الكوخ، وقدرها عشرة " شلنات " سنويا..! والصبية الذين يرعون الأغنام نظير أجور زهيدة قدرها خمسة شلنات شهريا، ويدل مظهرهم على أنهم قد بلغوا الثامنة عشرة، يتحتم عليهم دفع ضريبة الرأس، وهذا يكون50% من الضرائب، فى الوقت الذى يعفى فيه فقراء البيض من أية ضريبة مباشرة. وقبل الحرب الأخيرة كان الأوربيون الذين يبلغ دخل الواحد منهم 500 جنيه أو أقل لا يدفع شيئا، كما أن الأوروبى لا يطالب بالضريبة قبل الحادية والعشرين من(1/78)
عمره.ص_075
وتستعمل عادة طرق وحشية فى جمع الضرائب، كأن تحاط مساكن السود بالجنود فى أوقات متأخرة من الليل، أو فى الصباح الباكر، ثم تطلب ايصالات السداد، فإذا لم تحضر فورا ضربوا وركلوا، ثم قذفوا فى عربات البوليس حيث يودعون السجون، ويسخرون فى رصف الطرقات، وأداء الأعمال الأخرى. ويتضح أن كثيرا من جرائم الإفريقيين ترتكب نتيجة للبطالة التى تواجههم عقب خروجهم من السجن، وشدة الحاجة للمال اللازم لقضاء ضرورات الحياة، كما أن الجهل عامل آخر للجرائم، ولكن الحكومة لا تحاول بناء مدارس لتحارب الجهل، بدلا من بناء السجون لهؤلاء التعساء..! وينص القانون على ألا ينتقل الإفريقى من بلدة إلى أخرى لأى سبب من الأسباب دون تصريح خاص. ويحتم نظام التفرقة فى جنوب إفريقيا: أن تحكم القلة من البيض الكثرة من السود. وقد أدى ازدياد مساحة الأراضى الزراعية إلى زيادة الحاجة للأيدى العاملة من الإفريقيين، وترتب على هذا حدوث صدام بين ملاك الأراضى من ناحية، وأصحاب المناجم من ناحية أخرى، إذ كلاهما يريد احتكار السود له، ونتيجة لذلك وضع نظام خاص لتوزيع العمال حسب الحاجة كما يقررها السادة، أما الزائدون فيردون للعمل من حيث أتوا!. لقد أدى التقدم الصناعى إلى القضاء على مجتمع" البانتو " القبلى ، وفى خلال السنين العشر الأخيرة كثرت هجرة الإفريقيين إلى المدن حتى أصبح من يقطنها منهم يزيدون على مليونين، وهم يقومون بخدمة الأوروبيين نهارا، ثم يعودون للجهات المخصصة لهم فى المساء، بوسائل النقل التى أعدت لهم وحدهم! فالقانون يحرم عليهم الوسائل الخاصة بالبيض. كذلك تخصص للسود والكلاب مصاعد فى العمارات الكبيرة. ويحرم القانون السود من الجلوس على مقاعد البيض بجوار البحيرة، ومن يخالف القانون يجلد أو يزج فى السجن. والأحياء الوطنية قذرة للغاية، والبيوت لا تتعدى أن تكون أكواخا من الطوب القديم، يعيش فيها الأصحاء من الصبية، يأكلون وينامون فى نفس(1/79)
المكان مع المرضى بالسل.ص_076
وقلما توجد أسرة لم يمرض أحد أفرادها منه! والمرض عموما منتشر بين الوطنيين بنسبة كبيرة، والعلاج يكاد يكون منعدما. ففى بعض الأحياء يوجد طبيب واحد لعلاج أربعين ألفا من السكان. ولا يوجد علاج بالمجان، لذلك نجد أن 65% من الأطفال يموتون قبل أن يصلوا إلى سن الثانية من عمرهم، وتصل نسبة الوفيات عادة إلى 50%. وتظهر التفرقة بين البيض والسود حتى فى الموت، إذ يخصص للأخيرين مدافن بعيدة. إنه لمن العسير أن يتصور من لم ير بنفسه الحياة فى جنوب إفريقيا ما يجرى هناك من عنف وتعسف فى المعاملة. وحدث عن قسوة رجال البوليس وكبتهم للحريات، وكيف تنهب الأموال التى كسبت بعرق ودماء الملايين من السود، بدلا من استغلالها فى تحسين حالهم. وإذا جرؤ إفريقى على نقد هذا النظام، وقف عند حده، بالزج فى السجن، أو النفى دون محاكمة.. *** ويعمل بمناجم الذهب "بالترنسفال " ما يقرب من 400000 إفريقى و20000 أوروبى، ويعمل حوالى نصف الإفريقيين بالقوة، كما يرحل حوالى 63000 بالقوة أيضا إلى عدة جهات، مثل " نيوزيلندا " و " روديسيا " الشمالية، و" تنجانيقا "، كذلك يمكن إحضار 100.000 عامل سنويا من مقاطعة جنوب شرق إفريقيا البرتغالية بـ " موزمبيق " للعمل بالمناجم. ويمكن القول بأن جميع هؤلاء العمال مسخرون، لأن ما يصرف من أجور لهم ضئيل جدا، فبينما يتقاضى الأوروبى عشرين شلنا يوميا، يتقاضى الإفريقى 2.8 من الشلنات مضافا إليها الغذاء. ويصل متوسط ما يتقاضاه الأوروبي خمسة وأربعين جنيها شهريا، أما السود فليس لهم متوسط يذكر. ومن العجيب أن أرباح شركات التعدين باهظة، وتزيد على خمسين مليونا من الجنيهات سنويا، حصة الحكومة منها 27.000.000 جنيه، ويوزع على أعضاء الشركة ما ينوف على 17000000 من الجنيهات. ورغم أن هذه الثروة إنما يأتى بها العمال الإفريقيون، لم تزد أجورهم منذ عام 1914 حتى اليوم.ص_077(1/80)
ولقد كان مستوى المعيشة فى جنوب إفريقيا قبل الحرب العالمية الثانية أكثر جهات العالم ارتفاعا، ومازال كذلك حتى اليوم، ويضطر العامل الإفريقى إلى شراء ضروراته من الأسواق الأوروبية، ومع ذلك لا يتقاضى أجورا أوروبية. وليس هناك قانون يمنع الإفريقيين من تكوين الجمعيات التجارية أو الصناعية، غير أنهم لا ينتفعون بمثل هذه المشروعات أمام البيض الذين تعمل القوانين على حماية منتجاتهم وتجارتهم، وعلى دوام استيطانهم للبلاد التى غلبوا عليها.. *** وينشر البريطانيودن نظمهم فى المقاطعات التابعة لهم فى هذه الجهات بسرعة، حيث يحلمون بتكوين حكومة" دومنيون " جديدة للبيض هناك، وتقع مسئولية الحكم حاليا بأيدى الموظفين الإنجليز، كما يرتبط الإفريقيون إلى حد كبير بروديسيا الجنوبية، ويخشون أن يتسع هذا الارتباط فيشمل تطبيق النظم المتبعة فى الجنوب، وهم محقون فى هذا، فلقد أصبح 000. 20 أوروبى يسيطرون فعلا على أجود الأراضى فى روديسيا الشمالية، بينما تسيطر الشركات الأجنبية على السكك الحديدية وطرق المواصلات الرئيسية وجميع منابع الثروة. ويعيش المليون ونصف من السود فى المنطقة الموبوءة بذباب " التسى تسى "، مما يضطر الأهالى إلى الهجرة بحثا عن العمل فى مناجم النحاس، بينما يرحل آخرون إلى روديسيا الجنوبية واتحاد جنوب إفريقيا للعمل لتسديد الضرائب، وتتبع فى " روديسيا " الشمالية نفس نظم التفرقة بين البيض والسود المتبعة فى روديسيا الجنوبية وجنوب إفريقيا. *** إن استغلال الأراضى الإفريقية هو الدافع الأول للاستعمار الأوروبى، ولولا هذا الغرض لما تمكن البيض من استيطان هذه المناطق الحارة، مهما عظم الأمل فى كثرة الأرباح. فمثلا فى روديسيا الشمالية يملك 20.000 من المستوطنين مساحة قدرها 2.000.000 فدان من الأراضى الزراعية يزرع منها فعلا 100.000 فدان فحسب. وقد أخذ فى إعداد مليونين من الأفدنة للأعمال الخاصة بالمناجم، بينما تسيطر شركة(1/81)
اتحاد جنوب إفريقية البريطانية وفروعها على ما يقرب من 6.250.000 فدان تحتوى على مراكز التعدين.ص_078
والنحاس هو "الملك " فى شمال روديسيا حيث يكون 90% من صادرات المستعمرة، ويقدر الصادر منه فى النصف الأول من عام 1940 بما قيمته ستة ملايين من الجنيهات، وقد اكتشف النحاس عام 1925 فقط، ولكن إيراده خطا خطوات واسعة. ففى عام 1935 قدر الصادر منه 0 00. 5.000 جنيه زادت عام 9ص 1 فبلغت 11.000.000 جنيه، ولقد بلغ الصادر منذ الحرب الأخيرة 300.000 طن فى العام، فلحقت بذلك الحمولات الكندية التى كانت أعلى حمولات العالم إلى مدى قريب. والرصيد فى المقاطعة حوالى 000. 750 طن، ويستخدم فى الصناعة عدد من الإفريقيين يتراوح بين 0 0 26.0 و 00 28.0 ومن الأوروبيين ما بين 3500 و 0 380. وأغلب الأوروبيين يأتون من جنوب إفريقيا وروديسيا، ويتقاضون مرتبات بين أربعين وسبعين جنيها شهريا. بينما متوسط ما يتقاضاه الإفريقى من العمل مدة ثلاثين يوما ستين شلنا فقط، والكثيرون يتقاضون ما يزيد قليلا على تسعة وأربعين شلنا شهريا، إذ أن الأجور تزداد حسب نوع العمل: فوق الأرض أو تحتها. ويصرف حوالى مليون جنيه سنويا للموظفين الأوروبيين، بينما عشرة أضعافهم من الإفريقيين يتقاضون 250.000 جنيه فقط. *** ويحتج الأوروبيون المستوطنون شمال روديسيا غالبا على شركة جنوب إفريقيا البريطانية التى تفرض سلطانها على المناجم، فتصل أرباحها حوالى 000. 500 جنيه سنويا وأكثر، وتتحكم فى 2.708 ـ أميال من السكك الحديدية ـ كما يخشون قوة الإنجليز الذين يعملون لصالح بلادهم، والذين قد يندمجون فى الشمال والجنوب، وتصبح أمور التعدين كلها فى أيديهم . *** أقرأت هذه الحقائق كلها؟ هذا هو مسلك حضارة الغرب الصليبى نحو الأقطار التى نزلت بها. لو أن إفناء أهل البلاد الأصلاء كان أجدى على الفاتحين لأفنوهم جميعا.ص_079(1/82)
أما وهذا الإفناء السريع يحرمهم الألوف المؤلفة من ا لرقيق الكادح الذليل، فلا حرج من استحيائهم ، على أن لا يتجاوز محياهم هذا النطاق المهين... *** ولا جدال فى أن الدين الذى يملى هذا السلوك ليس النصرانية، أو غيرها من شرائع الله، إنما هو دين الهوى وحده، الهوى الذى قال الله فى عبيده: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله). (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). هذا الهوى الجامح الظلوم هو سر المآسي التى قارفتها أوروبا عندما مال ميزان القوى إلى جانبها، وملكها زمام الغزو والفتح فى آفاق العالمين... لكن الغرب مع ذلك لا يزعم أنه مسيحى فحسب، بل إنه ليحتضن هذه المسيحية، ويستصحب رجال الكنيسة معه وهو يخترق أعماء القارات المظلمة، فما مبعث تلك الهمجية التى تقارن زحف الصليبيين حيث كان؟ مبعث ذلك أن الدين لدى "الأوروبيين " عصبية محركة، لا عقيدة واعية. والدين عندما يكون عصبية يكون أول شئ يتحمس له الإنسان، وآخر شىء يعمل به! ولا قيمة لعاطفة التدين ولو كانت بأرقى الأديان وأصحها إذا قامت فى النفس على هذا النحو المبهم. إن الدين علاقة بين الإنسان والرحمن، تزكو بها النفس وتستنير، وهو لذلك علاقة بين الإنسان والإنسان، أساسها التآخي والتراحم، علاقة إن لم تصل إلى قمة الفضل، فلا يجوز أن تهبط عن مستوى العدل. وإذا قام دين ما بعيدا فى هديه العام عن معانى العدل والفضل جميعا، فهو ليس بدين، ولكنه لعنة ماحقة، وأتباعه لن يكونوا رسل رحمة، بل زبانية عذاب.. والصليبية للأسف كانت محور عصبيات غاشمة، اتخذت الدين ستارا لمطامع شتى، ولذلك لم يجن العالم منها منذ اتقدت جذوتها إلا الدمار والبوار.ص_080(1/83)
وفساد الديانة اليهودية يرجع أيضا إلى هذه الحقيقة، إذ أنها تحولت عن أصلها السماوى إلى عصبية جنسية، يتعارف أبناؤها عليها، كما يتعارف اللصوص على كلمة السر. وكراهية الناس طرأ لليهود مبعثها إحساسهم بهذه الأثرة الجنسية، وما تطفح به من حقد ودناءة. وفى عصرنا هذا التقت النصرانية واليهودية على محاربة الإسلام،وحصار أهله، وتمزيق شمله، ترى ماذا جمع بين النقيضين؟ أهو العامل المشترك فى كلتا العصبيتين؟ إنه هو. عصبية تتوارى فى مسوح الدين، ولبابها الهوى والظلم. يضاف إلى ذلك أن طبيعة النصرانية باعدت بينها وبين الامتزاج بالعقل والضمير. إن الإنسان عندما يحقن بسائل ما ينساب هذا السائل فى دمائه كلها، لكن هل يمكن أن يحقن الإنسان بمادة صلبة؟ إن دخولها فى عروقه مستحيل! كذلك استحال على العقل أن يقبل كون الله ثلاثة، واستحال على الضمير أن يقبل التضحية برجل فداء غيره من المذنبين، فبقيت هذه التعاليم خارج الإنسان الأوروبى الذى بقى يتصرف بمشاعره وأفكاره الخاصة، دون التقيد بدين لم تمتزج أسسه بنفسه إلا زعما أو وهما. وذاك سر ما تنطوى عليه الحضارة الغربية من مآثم ومظالم، وسر انهيارها بالحروب المدمرة كلما قامت فى فترة سلام. وقد ألف الأستاذ " جودا " أستاذ الفلسفة الإنجليزية كتابا قيما سماه: " سخافات المدنية الحديثة " قال فيه: " إن المدنية الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق، فالأخلاق متأخرة جدا عن العلم، ومنذ النهضة ظل العلم في ارتقاء، والأخلاق فى انحطاط، حتى بعدت المسافة بينهما، وبينما يتراءى الجيل الجديد للناظر فتعجبه خوارقه الصناعية، وتسخير المادة والقوى الطبيعية لمصالحه وأغراضه، إذ هو لا يمتاز فى أخلاقه، فى شرهه وطمعه، وفى طيشه ونزقه، وفى قسوته وظلمه عن غيره، وبينما هو قد ملك جميع وسائل الحياة إذ هو لا يدرى كيف يعيش، وتوالى الحروب الفظيعة الهائلة دليل على إفلاسه، وأنه يربي نشأه لتموت، وقد خولت له(1/84)
العلوم الطبيعية قوة قاهرة، ولكنه لم يحسن استعمالها، فكان كطفل صغير أو سفيه أو مجنون، يملكون زمام الأمور، ويؤتون مفاتيح الخزائن، فهم لا يزيدون على أن يلعبوا بما فيها من جواهر"..ص_081
وقال فى موضع آخر: " إن فيلسوفا هنديا سمعنى أطرى حضارتنا، وأقول إن أحد سائقى السيارات قطع ثلاثمائة أو أربعمائة ميل فى ساعة واحدة على الرمال، وطارت طائرة من موسكو إلى نيويورك فى عشرين أو خمسين ساعة، فقال ذلك الفيلسوف الهندى: " إنكم تستطيعون أن تطيروا فى الهواء كالطير، وأن تسبحوا فى الماء كالسمك، ولكنكم إلى الآن لا تعرفون كيف تمشون على الأرض ".. - وقال فى موضع ثالث من هذا الكتاب: " انظر إلى الطيارة التى تحلق فى السماء، يخيل إليك أن صانعيها فى علمهم ولباقتهم فوق البشر، والذين طاروا بها أولا كانوا فى علو عزمهم وجرأتهم أبطالا، ولكن انظر الأن إلى المقاصد السيئة التى استخدمت لها الطيارة، وتستعمل لها فى المستقبل.. إنما هى قذف القنابل خصوصا الذرية، وتمزيق جثث الإنسان، وخنق الأحياء، وإحراق الأجساد، وإلقاء الغازات السامة، وتقطيع المستضعفين الذين لا عاصم لهم من هذا الشر إربا إربا. وهذه إما مقاصد الحمقى، أو مقاصد الشياطين . إن الفلسفة المادية هى دين الغزو الأوروبى فى القديم والحديث، والقوم على اختلاف مواطنهم وحكوماتهم تجمعهم فكرة السطو على أموال الآخرين، وهم يخرجون من بلادهم يراودهم حلم واحد، كيف يثرون من أقصر طريق؟ كيف يجمعون الثروات الضخمة؟ كيف يرضون أطماعهم فى التشبع من هذه الدنيا، والامتلاء منها إلى حد البطنة المردية؟ وليس فى حسابهم أبدا أنهم واجدون فى هذه المحاولات أقواما لهم حقوق يجب احترامها، كما أنه ليس فى حسابهم أن للسلوك الإنسانى حدودا يجب التزامها، والدين الذى يعتنقونه لا يفهم إلا أنه ذريعة لتقريب مأربهم، واستباحة خصومهم، لا وظيفة له إلا هذا. ولو تتبعت أحوال " المستعمرين " حيث حلوا، من أعصار خلت(1/85)
أو فى هذه الأيام، لوجدت الهدف هو الهدف، ما تتغير من سياستهم إلا الأساليب والأسماء، أما الحقائق والغايات فهى هى.... * * * عندما دخل نابليون بجنوده مدينة القاهرة اتخذ هو وقومه سياسة جديدة اجتهدوا أن يكفكفوا فيها لصوصيتهم المأثورة، وأن يلبسوا زيا يخدعون فيه الناس عن حقيقتهم،ص_082
فادعى نابليون الإسلام، ثم زعم أنه هو وجيشه ما جاءوا إلا ليردوا للشعب حقوقه التى غصبها المماليك، فماذا كان من أمرهم؟ كان من أمرهم أن قاموا من كبيرهم إلى صغيرهم، بأخس أعمال اللصوص.. ابتداء من نابليون إلى أحقر جندى، إنهم لم يستطيعوا أن يتخلوا عن طباعهم مهما حاولوا. لقد وجدوا أمامهم قصور المماليك والأغنياء بعد أن تركها أصحابها وفروا هاربين بأنفسهم، وكانت تلك القصور تحوى الأموال الطائلة، والجواهر الثمينة، والتحف النادرة، والمصوغات الغالية، والأمتعة النفيسة، ومختلف أنواع الفرش والأثاث والأوانى، عدا السيوف والدروع وأدوات الحرب. فماذا فعل الشرفاء، الذين جاءوا ليردوا إلى الشعب حقوقه المغصوبة؟ كان من أمرهم أن انطلق الجميع إلى هذه القصور بحجة البحث عن السلاح فنهبوها، وأخذوا ما فيها من الأموال والجواهر، والمصوغات والنفائس الغالية، بل إنهم فعلوا أكثر من ذلك، فقد كانوا يدخلون البيوت المسكونة بأفراد الشعب الذين لم يهاجروا، بحجة البحث عن السلاح أيضا، فيسرقون كل ما يجدون عند هؤلاء المساكين من مال قليل، أو مصوغات متواضعة. * * * ولم تقف نذالة هؤلاء الحقراء عند هذا الحد، فإنهم قد علموا أن بعض زوجات الأمراء، ونساء كبار المماليك، لم يستطعن الهرب مع أزواجهن، فاضطررن إلى الاستخفاء فى أماكن مجهولة خوفا على حياتهن.. فأمر نابليون الهمام أن ينادى بالأمان لهؤلاء النساء الضعيفات، ولكن عليهن أن يدفعن ثمن هذا الأمان.. على كل منهن أن تصالح على نفسها بمبلغ من المال؟ لكى تعود إلى قصرها أو بيتها. ولم ير الناس فى تاريخ الهمج أو اللصوص(1/86)
نذالة مثل هذه النذالة!.. وأخذ النساء يظهرن، ويصالحن على أنفسهن بأموال طائلة... ولكن هل وقفت الخسة مع النساء عند هذا الحد؟. ذكر الجبرتى أن زوجة رضوان بك- أحد كبار المماليك- ظهرت من مكانها الذى كانت تختبىء فيه… وصالحت على نفسها وبيتها بثلاثمائة وألف ريال فرنسى، وأخذت منهم ورقة بهذا الأمان،… ولم تكتف بذلك، بل ألصقتها على باب بيتها؟ ليعرف الجنود الشرفاء أنها دفعت الضريبة فيكفوا عنها.. ولكن ذلك لمص_083(1/87)
يفدها بشىء.. فبينما هى فى منزلها آمنة مطمئنة، فاجأها جماعة من العسكر ومعهم ترجمان، فقالوا لها: لقد بلغنا أن عندك أسلحة، ونريد البحث عنها.. فأخبرتهم أنه ليس عندها سلاح.. فقالوا: لابد من التفتيش.. ففتشوا، ووجدوا ملابس ثمينة جدا لزوجها وأمتعة غالية.. قال الجبرتى: " ثم نزلوا إلى تحت السلالم، وحفروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة، وحجاب ذهب فى داخله دنانير ". وكان هذا كله هو المطلوب، فأخذه لصوص الاحتلال وأخذوا معهم السيدة المسكينة وانصرفوا، وهم يسخرون بورقة الأمان التى علقتها على باب بيتها... ومكثت عندهم فى الاعتقال هى وجواريها ثلاثة أيام، ولم تعد إلا بعد أن اشترت لنفسها منهم أمانا جديدا بالمال. وذكر الجبرتى أيضا أن " الست نفيسة " زوجة مراد بك، ظهرت وصدقتهم، وصالحت على نفسها وأتباعها بمبلغ قدره عشرون ومائة ألف ريال فرنسى، ومضت إلى بيتها مطمئنة إلى الأمان الذى أمضاه لها نابليون قائد القوات الفاتحة.. وما لها لا تطمئن وهى زوجة الفارس القائد الذى كان يقود جيوش مصر فى وجه نابليون.. الفارس القائد الذى عرفت عنه أن من تقاليد الفروسية احترام النساء. نعم ذهبت مطمئنة، وهى تعلم أن تقاليد الفروسية تأبى على أربابها الأمان للنساء بالمال... وأن ذلك القائد الفرنسى النذل إذا رضى لنفسه أن يبيع الأمان للنساء فقد يكون له بقية من شرف الجندية تأبى عليه أن يعود فيه مرة أخرى. ذهبت إلى بيتها وهى مطمئنة على نفسها من أجل هذه المعانى كلها، ولكن هل كان هؤلاء الأنذال عند ظن النساء بهم؟ لقد أرسلوا إليها يطلبون منها إحضار زوجة عثمان بك الطنبرجى.. ويتهمونها أنهاتخفيها فى منزلها، أو فى مكان ما.. وهكذا انقلبت مهمة جنود الجمهورية الفرنسية لا إلى البحث عن جنودالمقاومة السرية، أو البحث عن القواد المختفين، بل إلى البحث عن النساء، لكى يرغموهن على شراء الأمان لأنفسهن بالمال.. فهل وجد إنسان أحط من هذه المروءة؟! وذعرت(1/88)
السيدة الفاضلة من هذا الطلب، وقررت أنها لا تعرف مكان السيدة المطلوبة... ولكنهم رفضوا تصديقها، وأبوا ألا أن يفتشوا البيت، بحثا عن المال تحت ستار البحث عن السيدة...ص_084
فأرسلت فورا تستنجد بشيوخ الأزهر، فحضر لها بعض الشيوخ على عجل...ولم يتمكن الجنود اللصوص- أمام الشيوخ- أن ينهبوا شيئا مما وجدوه فى القصر، ولم يجدوا السيدة المزعومة، فأغتاظوا وقرروا أن يعتقلوا صاحبة القصر التى صالحت على أمانها بالمال من قبل،.. فحاول الشيوخ أن يمنعوا هذا الاعتقال، فأبوا وأصروا على أخذها... وهنا لم يجد الشيوخ الفضلاء بدا من مرافقة السيدة الكريمة إلى معتقلها، وهم مذهولون من أن يروا النساء يعتقلن لأول مرة فى تاريخ مصر بدون سبب وعلى هذه الصورة المهينة... ونظر القائمقام " دبوى " قصتها، فلم يثبت عليها شراء مما اتهمت به... فطلب الشيوخ إطلاق سراحها، ولكن القائمقام رفض أن يفرج عنها ولفق لها تهمة جديدة، هى أنها أرسلت أحد الخدم إلى زوجها بملابس وأمتعة، ووعدته إذا نجح فى الوصول إليه أن تكافئه مكافأة حسنة، ولكن الجنود قبضوا على الخادم قبل أن يؤدى مهمته، واعترف لهم بكل شىء... فأنكرت السيدة ذلك الاتهام الجديد بشدة، وطلبت مواجهتها بهذا الخادم، فوعدوها بذلك.. ومضت الساعات وانتهى النهار، ولم يحضر الخادم المزعوم... وهنا طلب المشايخ إطلاق سراحها.. ولكن القائمقام " دبوى " رفض ذلك بشدة. وعاد المشايخ إلى طلب الإفراج، على أن تحضر إليهم فى اليوم التالى، وضمنوا له ذلك. ولكن القائد الشهم رفض رجاءهم مرة أخرى. وعز على المشايخ أن تهان سيدات مصر هذه الإهانة البالغة، فعرضوا على القائد أن تذهب هى لتبيت فى بيتها ويبيتوا هم عنده عوضا عنها، وضمانا لها... ولكن الضابط الذى يمثل شهامة الفرنسيين، رفض أن يقبل هذا العرض النبيل. وظل المشايخ يعالجون الأمر معه بكل وسيلة، ولكن نذالته أبت عليه أن يستجيب لأى مكرمة.. فلما يئسوا منه تركوها(1/89)
ومضوا وأرسلوا إليها بعض كرائم السيدات المسلمات ليقضين الليل معها... وسمع نساء الفرنج المقيمات بمصر هذا التصرف الدنىء، فذهب بعضهن وانضممن مع النساء المسلمات فى المبيت مع السيدة الكبيرة فى معتقلها...ص_085
ولما أصبح الصباح ذهب كبار المشايخ إلى نابليون بونابرت نفسه، وكلموه فى الإفراج عن السيدة التى باع لها الأمان بالمال من قبل... فرضى قائد فرنسا العظيم أن يطلق سراحها، ولكن بعد أن يبيع لها الأمان مرة أخرى بالمال!.. وحدد بنفسه المبلغ: ثلاثة آلاف ريال، فدفعتها السيدة وانصرفت.. قال الجبرتى: " وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضى ، وأقامت فيه، لتكون فى حمايته ". *** ولا شك أن القارىء فى دهشة مما يقرأ، فانه اعتاد أن يرى نابليون فى هالة من المجد والعظمة، كلما قرأ عنه كتابا من كتب التاريخ.. لا شك أنه فى دهشة بالغة لا يكاد يصدق معها أن هذا الرجل الذى يجعله الفرنسيون مصدر فخرهم، وعنوان مجدهم، ينحط فى انسانيته ومروءته إلى هذا الدرك المعيب.. ولكن مع الأسف الشديد هذا هو الواقع المر الذى نجده فى مذكرات الجبرتى التى كان يكتبها يوما بيوم يسجل فيها ما رأى من حوادث تلك الأيام، وهو عالم ثقة، ومؤرخ صادق... ولا ندرى لماذا اجتنب المؤرخون أن ينقلوا للناس ما ذكره هذا المؤرخ فى مذكراته اليومية عن هذا الرجل وجنوده من صور عجيبة.. نعم صور عجيبة لم يقف فيها العجب عند بيع الأمان للنساء مرة ومرة، بل تعدى ذلك إلى بيع الأمان للخيول والثيران!.. فهذا المحارب العجيب، يطلب إلى الناس أن يقدموا له كل ما يملكون من خيل وجمال، وأبقار وثيران... ومن عز عليه أن يقدم ذلك فعليه أن يشترى الأمان لماشيته، أى أن يصالح عنها بالمال، وفى ذلك يقول الجبرتى بالحرف الواحد: " وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال، والسلاح، فكان شيئا كثيرا.. وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات... وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بجهة سوق(1/90)
السلاح وغيرها، وأخذوا ما وجدوه فيها... وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق ما لا يحصى ". ولا نريد أن نعلق على تلك المخازى ، فإن خير تعليق عليها هو أن نسردها كما هى. *** لم يقنع نابليون ورجاله بالأموال الطائلة التى نهبوها من بيوت الأمراء، وغصبوها من ضعاف النساء، ولا بما فرضوه للمصالحة على الخيول والثيران، بل لجأوا إلى امتصاص دماء الأهالى بأسلوب يدعو إلى السخرية والمهانة.. كان نابليون قد ألفص_086(1/91)
مجلسا من الأهالى والشيوخ ليحكم به البلاد، يسمى الديوان.. فدعا أعضاء الديوان يوما، وطلب منهم أن يجمعوا له خمسمائة ألف! ريال " سلفة " من التجار.. وهذه السلفة على هذا النحو تبين لك أن القوم وعلى رأسهم نابليون، لم يكن لهم أقل إحساس بالكرامة، فراحوا يستجدون الناس، أو يتسولون باسم "السلفة". وليت هؤلاء المتسولين كانوا مهذبين فى طلبهم، بل كانوا فى منتهى الصفاقة وقلة الحياء، فإن التجار حين ضجوا منها، فرضوها عليهم بقوة الحديد والنار.. فتوسلوا وتضرعوا لكى يخففوا عنهم " سلفتهم " المشئومة، فرفض المتسولين وأبوا إلا أن يأخذوا " السلفة " كاملة غير منقوصة.. ولكن هل وقف أمر السلفة عند هذا الحد. لا، فإنهم بعد ما قبضوها لم يلبثوا أن طلبوا سلفة جديدة.. طلبوها بعد الأولى بيومين اثنين فقط، مما لم يسمع بمثله فى التاريخ، فقد كانت الأولى يوم سبت، قال الجبرتى: " وفى يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق، وقرروا عليهم دراهم على سبيل السلفة... مبلغا يعجزون عنه... وحددوا لهم وقتا مقداره ستون يوما يدفعونه فيه، فضجوا! واستغاثوا؟ وذهبوا إلى الجامع الأزهر، والمشهد الحسينى، وتشفعوا بالمشايخ، فتكلم المشايخ لهم، ولطفوا السلفة إلى نصف المطلوب ". *** واستمر الفرنسيون على هذه " البلطجة " يأخذون المال من الناس جبرا باسم السلفة تارة.. وغصبا وسلبا تارة أخرى.. وكانت جنودهم قد تفرقت فى قرى الريف ومدن الأقاليم فكانوا يصنعون مع أهل القرىا ما يصنعه زملاؤهم مع أهل القاهرة، من أخذ المال بأساليب " البلطجية " الذين يعيشون " تلقيحة " على عباد الله، يغتصبون أموالهم بكل وسيلة من وسائل القوة والتهديد.. ويطول بنا القول إذا رحنا نسرد كل ما كان منهم، فنكتفى بذكر حادث واحد هو صورة مكررة لما كان يحدث فى ذلك الوقت.. نزلوا بجهة الخانكة وأبى زعبل بعساكرهم وضباطهم، قال الجبرتى:! وطلبوا من الأهالى (كلفة) فامتنعوا ".. والكلفة هى(1/92)
الاسم الذى تستروا به للغصب والنهب فى الريف كما تستر زملاؤهم بمهزلة " السلفة " فى القاهرة.ص_087
ورفض الأهالى هذه " التلقيحة " وسخروا من هذه " الكلفة " وأبوا أن يدفعوا شيئا لهؤلاء البلطجية.. فما كان من اللصوص الأخساء- ضباطهم وجنودهم- إلا أن أعلنوا القتال على القرية الآمنة، وسلطوا عليها مدافعهم، وأنزلوا بها الخراب والدمار، وأشعلوا فيها الحرائق ونهبوا ما استطاعوا منها، وارتحلوا.. *** ولم يقف جشع هؤلاء فى سلب المال عند حد، ففكر نابليون فى مصادرة أملاك الناس، وابتزاز أموالهم، ولكن باسم القانون، وتحت ستار النظام. لم يكن للدولة فى ذلك العهد البعيد دواوين، ولا سجلات تضبط للناس ما يملكون من البيوت والأراضى.. وما وجد من تلك السجلات كان على حال غير منظمة، علاوة على أن الأهالى لم يكونوا يهتمون فى تلك الأيام البعيدة بتسجيل ما يملكون فى تلك السجلات.. وانتهز نابليون تلك الفرصة، وأصدر قانونا للغصب والنهب، نكتفى بذكر مضمونه دون التعليق عليه: أولا: على أصحاب الأملاك أن يقدموا حججهم التى تثبت ملكيتهم لما يضعون عليه أيديهم.. فإذا لم يستطع المالك أن يقدم تلك الحجج، صودرت أملاكه فورا. وإذا علمنا أن الأهالى فى الأزمنة البعيدة ما كانوا يهتمون بحفظ تلك الحجج لديهم، أدركنا مبلغ ما صادر نابليون من أملاك الناس وأراضيهم.. ثانيا: إذا قدم المالك ما لديه من الحجج لا يكتفون بها، بل يؤمر بالكشف عليها فى السجلات نظير ضريبة يدفعها. فإذا دفع الضريبة، ولم توجد الأملاك مقيدة بالسجلات صودرت أملاكه فورا. ثالثا: إذا وجدت الأملاك مقيدة فى السجلات، لا يكتفون بذلك، بل يطلبون إليه أن يحضر الشهود الذين يشهدون بأن المالك يملك هذه الأملاك بطريق البيع أو الميراث، ويلزمونه دفع ضريبة لسماع هؤلاء الشهود. فإذا لم يستطع المالك إحضار الشهود لوفاتهم أو لوجودهم فى أقطار بعيدة، صودرت أملاكه فورا. رابعا: إذا حضر الشهود، كانت شهادتهم(1/93)
ترد فى الغالب وتصادر الأملاك! ***ص_088
* وإليك قانونا آخر: أولا: إذا مات شخص ما، وجب على أهله أن يدفعوا على موته ضريبة.. ونحن نورد لك نص ما قاله الجبرتى فى ذلك فإنه أمر لا يكاد يصدق: " إذا مات الميت يشاورون عليه (أى يخبرون عنه) ويدفعون (معلوما) لذلك ". ثانيا: تفتح تركة الميت فى ظرف أربع وعشرين ساعة، فإذا مضت تلك المدة ولم تفتح التركة صودرت فورا " ولا حق للورثة فيها " على ما قاله الجبرتى.. وإذا علمت أن تقاليد بلادنا الشرقية كانت تتشبث بإقامة المأتم فى تلك الأيام البعيدة لمدة سبعة أيام أو ثلاثة على الأقل، وأنه كان لهؤلاء الأجداد من الآنفة ما يصرفهم عن تعجل النظر فى تركة المتوفى.. إذا علمت ذلك أدركت مبلغ التركات التى صادرها هؤلاء بقوانينهم الهمجية. ثالثا: إذا فتحت التركة فى الموعد المقرر، يجب أن يكون فتحها بإذن رسمى، ويدفع على ذلك الإذن ضريبة مقررة. رابعا: على كل وارث للتركة أن يثبت وراثته، وأن يدفع على ذلك الثبوت ضريبة.. خامسا: إذا قبض كل وارث ما يخصه، يجب أن يدفع عنه ضريبة مقررة. سادسا: إذا كان الميت مدينا، وجب على الدائن أن يثبت دينه، وأن يدفع على هذا الإثبات ضريبة، ويأخذ ورقة يتسلم بها الدين.. فإذا تسلم الدين دفع عليه ضريبة أخرى. وكذلك قرروا ضريبة على من يريد أن يسافر من مكان إلى آخر، لا أجرا للركوب، فإن المسكين كان يسافر على دابته أو جمله أو على سفينة من سفن النيل، بل يدفع تلك الضريبة مقابل الإذن له بالسفر. وكما فرضوا على الموت ضريبة فرضوا للحياة ضريبة أخرى، فعلى كل من يولد له ولد أن يدفع عليه مبلغا " معلوما ". ولندع الجبرتى يحدثنا عن تلك العجائب بأسلوبه الرائع: " والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا، وكذلك المولود إذا ولد "، ويقال له: " إثبات الحياة ". ويطول بنا القول إذا رحنا نستقصى الوسائل التى ابتدعوها لاستنزاف أموال الشعب،ص_089(1/94)
ويكفى أن نعلم أنهم كانوا يفرضون الضرائب- كما يقول الجبرتى- " على المبايعات، والدعاوى، والمنازعات، والمشاجرات، والاشهادات ، والمؤجرات وقبض أجر الأملاك " وغير ذلك مما يطول استقصاؤه.. فلندع هذا الاستقصاء، فإن ما ذكرناه كاف للدلالة على أن ما ارتكبوه اليوم فى بورسعيد من السلب والنهب إنها هو امتداد لما ارتكبوه من قبل فى القاهرة منذ مائة وستين عاما، وهو فى الحالين وحى خصوصية النذالة فيهم، وتوجيه دواعى الطبع الخسيس.. *** لا أدرى لماذا لم تنشر هذه الصحائف السود عند دراسة الحملة الفرنسية على مصر؟ إن المعلومات التى تحشى بها أذهان التلامذة تغاير هذه الحقائق المخزية! حتى ليظن القارىء أن غزو فرنسا لمصر كان بركة علمية وشعلة ثقافية! ولا شك أن ذلك التاريخ المزور هو أثر الاحتلال البريطانى فى صياغة العقول الجديدة وتكوين أفكار معينة بها والظالمون بعضهم لبعض ظهير.. والحق أن ما أثبتناه هنا قل من كثر من فظائع الفرنسيين بمصر يوم احتلوها حتى تم جلاؤهم عنها بعد مقاومة شعبية عامة. وقد تناول الأستاذ ساطع الحصرى هذا الوضوح كاشفا جوانب مما استخفى من هذه المآسي. فقال: " أخذت قيادة الحملة تفرض على الأهالى- على الدوام- أنواعا شتى من الضرائب والقروض والغرامات، وصارت تكثر من مصادرة الأموال والذخائر ومن تسخير الدواب والجمال، ومن إرهاق كواهل الناس بسلسلة طويلة من التكاليف. وكان قواد الحملة يقدمون- من وقت إلى آخر- على هدم عدد كبير من المبانى- بين دور وحوانيت ومساجد ومدارس وقصور، لغايات عسكرية بحتة لأ نهم كانوا يجدون ذلك ضروريا، تارة لتسهيل المراقبة على الأهالى مع منعهم من التترس والتحصن فى الأزقة، وطورا لحفر الخنادق، وتشييد القلاع، وتعبئة المدافع. كما أنهم كانوا لا ينقطعون عن قطع الأشجار وتخريب البساتين لتسهيل أعمال الضبط والمراقبة من جهة، والحصول على الأحطاب الضرورية؛ لصنع المراكب وتشييد الحصون وتقوية الخنادق(1/95)
من جهة أخرى.ص_090
ويجد الباحث فى اليوميات التى كتبها الجبرتى من تلك الحقبة من الزمن كثيرا من الصحائف التى تصف هذه التخريبات، وتذكر أسماء أهم القصور والمساجد والمدارس والحارات التى ذهبت ضحية لأمثال هذه الأعمال والتدابير العسكرية. غير أن تخريبات الجيش الفرنسي فى مصر لم تقتصر على الأموال والأشجار والمباني وحدها، بل تعدت كل ذلك إلى النفوس أيضا، فإن قواد الحملة عندما لاحظوا عدم انخداع الناس بالدعايات الساذجة التى كانوا قاموا بها تحت ستار الدين، أخذوا يسلكون مسالك القسوة والاعتساف، وصاروا يكثرون من أخذ الرهائن واعتقال الناس، وأقدموا على إعدام الكثيرين منهم لأتفه الأسباب، عقابا لهم أو تخويفا لأمثالهم، وقاموا غير مرة بأعمال تعذيبية وإرهابية فظيعة، لا تختلف كثيرا عن همجية القرون الأولى. وقد قابل الفرنسيون الثورات التى قامت فى البلاد على حكمهم الجائر بمنتهى الصرامة والوحشية: أنهم صوبوا نيران مدافعهم على مختلف أحياء المدينة، وأزهقوا أرواح الآلاف من الأشخاص، وسببوا حرائق كثيرة، واسترسلوا فى التعذيب والتخريب والسلب والنهب بشتى الصور والأساليب. يقول الجبرتى عن أحوال البلد عند بدء الاحتلال الفرنسى: " إنها كانت فى غاية الشناعة. جرى فيها ما لم يتفق مثله فى مصر، ولا سمعنا ما شابه بعضه فى تواريخ المتقدمين ". كما أنه يصف الفظائع التى ارتكبها الفرنسيون- من قتل ونهب وسلب عند ثورة القاهرة الثانية بقوله: " فعلوا بالأهالى ما يشيب من هوله النواصى، وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والأزقة، واحترقت الأ بنية والدور والقصور. ثم إنهم استولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال.. وما لم تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور ". ويصرح الجبرتى بأنهم لم يستثنوا من هذه الفظائع حتى العجزة والمسالمين قائلا:!(1/96)
والذى وجدوه منعطفا فى داره أو طبقته ولم يحارب، ولم يجدوا عنده سلاحا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ". وأصبح من بقى هناك على قيد الحياة " فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم ".ص_091
ويعترف المؤرخون الفرنسيون أن نابليون كان يصدر أوامر يومية كثيرة " توصى القواد بالإكثار من إعدام الأشخاص على أن تقطع رؤوسهم بعد ذلك ويطاف بها فى الشوارع إرهابا للناس "، لأنه كان يرى أن هذه " الطريقة الوحيدة لفرض الطاعة على هؤلاء ". وكان يضرب لهم مثلا بما يفعله هو فى القاهرة؟ ليقتدوا به فى مناطق حكمهم. وقد قال نابليون فى أحد أوامره اليومية: نحن نقطع كل ليلة ثلاثين رأسا. وكتب مرة إلى أحد القواد يبلغه بوجود قطع رؤوس ما لا يقل عن تسعة أو عشرة أشخاص. إن أمثال هذه الأوامر كثرت بوجه خاص بعد عودة نابليون من بر الشام خائبا مقهورأ، حتى أن قائد حامية العاصمة رأى أن يقترح عليه تغيير طريقة الإعدام بغية " الاقتصاد فى الرصاص "! ويعترف المؤرخون الفرنسيون أنفسهم بأن نابليون أمر بقتل الجنود الذين كانوا استسلموا خلال حملته على بر الشام- خلافا لأبسط قواعد الحقوق الدولية- وكان عدد هؤلاء الأسرى يزيد على ثلاثة آلاف. كما أنهم لا ينكرون أن الجنود كانوا يسترسلون فى السلب والنهب والتدمير دون أن يبالوا بنصائح ضباطهم وأوامر قوادهم فى هذا المضمار. ومن المفيد أن نرجع إلى نتائج محاكمة سليمان الحلبى- الذى قتل القائد العام كليبر- لنستدل منها على " العقلية " التى كانت سائدة بين ضباط الحملة وقوادها. وقد طلب النائب العام الحكم ب " تحريق يده اليمنى، وتخزيقه (خوزقته) حتى يموت فوق خازوقه ، وتظل جيفته باقية فوق الخازوق حتى تأكل رمته الطيور ". ونفذ هذا الحكم- بحذافيره- على يد جنود الثورة الفرنسية الكبرى! ***ص_092(1/97)
4- سماحة وجحود الإسلام يسعه أن تقوم إلى جانبه ديانات أخرى يتشبث بها أبناؤها، ويحيون ويموتون عليها. ومع ذلك لا يلقون منه عنتا، ولا ينالهم اضطهاد أو افتيات! ذلك أن اختلاف الدين ليس عنده مثار بغضاء أو علة اجتراء. كلا. فيخالف من يشاء! وليبق على يهوديته أو نصرانيته من يحب! بيد أن المطلوب منه اكنان المسألة لغيره، والابتعاد عن أسباب الجور والتحدى. فإذا فعل ذلك فحقه المقرر له أن يلقى الود مضاعفا، والأمان مبذولا، والإيناس والترحيب حيث يحل... أجل لقد شرع الإسلام فى معاملة أهل الأديان الأخرى قواعد العدالة، ومعالم المرحمة والتلطف! والفقة فى كتاب الله وسنة رسوله هو الذى جعل ابن حزم إمام الأندلس يقول: " إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، و إطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم- مع القدرة على دفعه رفقا بهم، لا خوفا ولا تعظيما، و إخلاص النصح لهم فى جميع أمورهم، ومدافعة من يتعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معه كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله.. "! وقد كان لهذه الوصايا السمحة أثرها فى إعزاز غير المسلمين وسط ديار الإسلام، فلم تبق القلة الحافظة على يهوديتها ونصرانيتها فحسب، بل دعمت كيانها، وزادت ثراءها، ورفعتها إلى مكان مرموق من الناحيتين المادية والأدبية معا. وبلغ من سناء الدرجات التى وصل إليها هؤلاء المجددون أن كان بعض علماء المسلمين يكتب إليهم يرجوهم البر بالرعية المسلمة (!)، ويناشدهم ألا يستغلوا وظائفهم فى إيذاء المسلمين والتشديد عليهم (!). قال الشعرانى- وهو من أقطاب المتصوفة فى القرن العاشر-: " كثيرا ما كاتبت اليهود والنصارى أصحاب المكوس فى تخفيف المظالم عن المسلمين! وأقول فى كتابى لهم: أسأل الله للمعلم فلان أن يرضى عنه ويدخله الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين؟ واضمر له سؤال التوبة(1/98)
عن الكفر ليصح دخوله الجنة!ص_093
وربما أنكر ذلك من لا علم له بطرق السياسة؟ فلو أنى قلت له: اسأل الله للمعلم فلان أن يتوفاه على الإسلام لنفر خاطره مني، ولم يقبل شفاعتى، كما ينفر المسلم لو قيل له: اسأل الله أن يموت البعيد على غير الإسلام!. قال الله عز وجل: (كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون). ثم يستأنف الشعرانى نصحه للمسلم قائلا: " فأعرف يا أخى طرق السياسة، وعود نفسك طيب الكلام، سواء أكان الخاطب صالحا أو طالحا والله عليم حكيم ". هذا أسلوب عالم مصرى مسلم، فى وطن المسلمون فيه كثرة ظاهرة، وغيرهم فيه قلة ظاهرة. وفى بلد الدولة فيه للإسلام، والحكم لأهله!. فانظر إلى روح الخطاب الموجه إلى موظفى الجمارك غير المسلمين، إنك تحسب الرقة فيه ذلة، والاستشفاع بلغ حد الملق. ولعل مجتمعا تثبت فيه هذه الأحوال هو أبعد المجتمعات عن ظنون التعصب وأوهام الغلو. اللهم إلا أن يكون تعصب القلة وغلوها!. أما الكثرة السائدة الحاكمة فهى لا تفكر البتة فى اضطهاد أو افتيات، بل لا تقيم شئونها أبدا على جعل الخلاف الدينى ذريعة إلى غمص فرد، أو إهانة طائفة أو إثارة بلبلة فى موازين الكفاية والإنصاف... وما نراه سر هذه السماحة الرائعة؟ والاعتدال الفذ؟ إنه الإسلام! الإسلام وحده...! الإسلام المحسن المجحود!.. *** ولكنك تغص بالحسرة عندما تلمح موقف " الآخرين " من هذا الدين وأهله. إن النصرانية لا تحسب محمدا إلا أعرابيا مفتريا، ولا تتحرك قيد أنملة عن سياسة النيل منه، والعداوة لرسالته، والإزراء على أتباعه. ويؤسفنا أن هذه السياسة العتيدة لم تقر للإسلام بحق الحياة إلا عن عجز، أو على غش. فإذا واتتها الفرصة للإجهاز عليه لم تضعها!ص_094(1/99)
وهذه محادة لم ينفرد الإسلام بها، فعندما كانت النصرانية لا تعنى إلا الكثلكة ضنت على المذاهب الكنسية الأخرى بحق الحياة إلى جوارها، وحكمت عليها بالموت، فما نجت إلا على كره من الجلادين. وقد تقول: إن ذلك ديدن صاحب الحق، فهو لا يطيق رؤية الضلال إلى جواره! والنصرانية ترى الإسلام ضلالة، ومن ثم فهى تبغى القضاء عليه، وإنقاذ الحياة منه! ونقول: إنه قلما يوجد صاحب مذهب لا يرى الحق مقصورا عليه، والباطل محصورا فى خلافه، وإذا كان ذلك رأى النصرانية فى الإسلام، فرأى اليهودية فيها نفسها أسوأ من ذلك وأدنى. ولو أخذت به لوجب أن تمحى من الوجود محوا (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). أجل سيحكم الله بين أولئك المختلفين يوم القيامة! أما فى هذه الدنيا فما يجوز استخدام القوة لإكراه قوم على اعتناق ملة يرفضونها، ولا استخدام القوة ـ كما تفعل النصرانية- لتعويق سير الإسلام، وطمس شعائره، وإخماد منائره. ولذلك يقول الله بعد الآية السابقة التى حكت مزاعم كل فريق فى صاحبه: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم). إن الإسلام دعوة إلى الله تتميز بالإخلاص الشديد له، والحفاظ البالغ على توحيده، والاحترام الواضح لجميع أنبيائه. ولو كان رجال النصرانية أهل كياسة وبصر لعدوا محمدا ـ على الأقل ـ واحدا من المصلحين الذين يستحقون التوقير والإعجاب!! حتى لو كان مرسلا من عند نفسه وليس نبيا من لدن الله!! خصوصا وهم ينسبون " البابوات " إلى درجة من القداسة والعصمة والإلهام الأعلى لم يدعها محمد صلى الله عليه وسلم لنفسه وإن كان هو فى تراثه الإنسانى البحت أعلى من هؤلاء قدرا، وأولى بمزيد من(1/100)
الحفاوة والإجلال...ص_095
لم يرزق قادة النصرانية هذه المرونة، بل على العكس التزموا وضعا واحدا لا يتغير كر الدهور واختلاف العصور، وهو الإنكار المستمر على الإسلام، والطعن القاسى فى أصوله وفزوعه... إن أمكنهم الإجهازعليه فلا معنى لبقائه. و إن بقى لظروف عصية فليس لأهله حقوق تقام. حتى حقوق الإنسان العادى، إنها تستكثر عليهم استكثارا، ويحرمون منها حرمانا...! وها قد مضت أربعة عشر قرنا على هذا الصراع العنيد دون أن تبدو له نهاية تؤذن بسلام. أما لهذه المآسى من آخر؟ أما للصلح من موضع!. إن له مواضع شتى لو أرادت الصليبية، وآثرت المودة بعد طول جفاء. إن الكلمة ليست لنا، وعبء إقرار السلم لا يقع علينا، فالتبعة الكبرى تحملها أقطار الغرب الصليبى، هذا الغرب الذى يعبث اليوم بمصاير البشر عبثا لم تعرفه القرون الآولى. ويستحيل أن تدعه السماء من غير عقوبة تكسر غروره، وتعدل صعره..! والمسلمون اليوم فى أعقاب فترة كلية من تاريخهم الطويل، لم ينفضوا بعد غبار الذل الذى لحقهم عقيب انهيار حكمهم، وطى لوائهم، أو هم يتهيأون لهذه الانتفاضة المرموقة، ويستعدون لما تفرضه من مغارم وضحايا. وحال المسلمين مع دينهم تستدعى كثيرا من التأمل. فهم خلوف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وهم أوزاع تنميهم قوميات شتى، يقدمون النسبة إليها على نسب الإسلام العريق. وهم مشتتو الأهواء والآراء أمام العواطف الفكرية والعاطفية الهابة من الغرب. وهم يخلطون بين التخلص من التقاليد الرديئة التى أودت حضارتهم والتخلص من بعض تعاليم الإسلام نفسه! وهم يخلطون كذلك بين الإفادة من نتاج الحضارة الحديثة، أو الانغماس فى متاعها، والانسراب مع نزواتها..ص_096(1/101)
على أن الحقيقة المخزية وسط هذه الحيرة النفسية والعقلية أن الاستعمار الغربى ماض فى طريقه بقسوة وصرامة، يجتث أصولهم، ويجتاح بقيتهم، ويرسم المؤامرات المهولة لإبقائهم إلى الأبد عبيد جبروته..! والحيوان فى هذه المأزق يستقتل للنجاة بنفسه، والإفلات من صياديه. فكيف بإنسان لا تزال على حياته مسحة من نضارة الإيمان القديم، والأصل الكريم؟. لذلك اضطرمت معارك المقاومة، ونشبت فى كل قطر حروب التحرير. وقد بدأت هذه الحركات المحنقة ثورات متفرقة لا يربطها نظام محكم، ولا تقيمها خطة موضوعة. كانت أشبه بدفاع الأفراد عن حياتهم خلال مدينة امتلأت باللصوص فجأة. واندلاع المقاومة على هذا النحو سهل على الغزاة أن يغلبوا كل فريق وحده. ومن ثم تمكن الاستعمار الغربى من احتلال أجزاء المغرب، وأجزاء وادى النيل، وأجزاء الجزيرة والشام والأ ناضول.. إلخ. إلا أن الأيام قاربت بين الأوصال المقطعة، والآلام وحدت صراخ المكلومين. فاتسقت الخطة لطرد الاستعمار، وتعاطف المصابون يحمل بعضهم بعضا، ويظاهره ضد العدو المشترك، وابتغاء النجاة من ظلمه وغشمه. و إلى هذه المرحلة من الخصومة القائمة لم يسمع أحد فى العالم كلمة صدرت عن معسكر المدافعين تشير من قرب أو من بعد إلى أن حروب التحرير هى حروب ضد النصرانية نفسها. بل إن ذلك لم يخطر ببال أحد، فقد كان " الماوماو " فى كينيا و "البراهمة " فى الهند، و " البوذيون " فى الصين، كان هؤلاء جميعا كالمسلمين فى بلادهم، يقاتلون دون حقوق الإنسان التى أهدرها الاستعمار الصليبى ، ويدافعون عن أموالهم وأعراضهم التى استباحها زبانيته! فما الذى جعل الصليبية الغربية تستجيش أحقادها الأولى، وتضرمها مرة أخرى ضد الإسلام وأهله. ما الذى جعلها تعتبر يقظتنا الأبية حركة ضد النصرانية. وعلام يدل هذا الاعتبار الآثم؟!ص_097(1/102)
إنه يدل على معنى كريه قاتم، يدل على أن التعصب الأعمى ملأ على القوم أقطار أنفسهم، وأغلق منافذ أفكارهم، فهم لا يعقلون إلا شيئا واحدا: أن يحرموا الإسلام حق الحياة، وأن يسلبوا أتباعه كل كرامة مادية وأدبية ينشدها البشر على ظهر الأرض... ولقد رأيت أن الإسلام منذ بدأ لم يفكر فى حرب النصرانية لإكراه أهلها على ترك عقيدتهم، ولو كانت فى نظره خرافة.. وأن المسلمين اليوم ما يدور فى خلدهم شئ من هذا. فما الذى ألب الصليبية الغربية وألهب ظهرها، فجعلها تستأنف حرب الإبادة ضدنا، وجعلها تشن عدوانها الرهيب فى صميم بلادنا وأطرافها على سواء..! لو أن قادة النصرانية عقلاء معتدلون لجعلوا من مطالبة المسلمين بحقوقهم البشرية فرصة لإرساء العلاقات بين الدينين على قواعد من العدالة والمرحمة، ولبرهنوا بهذا على رغبتهم فى الإسلام، واحترامهم لعقائد الآخرين.. لكننا نسجل فى حفيظة وغضب، أن شيئا من ذلك لم يحدث، بل يحدث نقيضه. فكانت السخائم الصليبية وراء مذابح المغرب وفلسطين، ووراء إهانة المسلمين حيث كانوا... *** وسمعت وزيرا مصريا يتحدث عن الصليبية الغربية التى شرعت تجند رجالها ضد قضايانا فقال: إن الحرب الدينية لم تخطر لنا على بال، و إن هذه الصيحات المغرضة التى انطلقت فى أوروبا تحرض على اغتصابنا هى صيحات عفنة منافقة. ثم استأنف كلامه، وكأنما يوجهه إلى أقباط مصر ونصارى الشرق عموما: إن الرجل الأبيض فى أوروبا يحرم إخوانه النصارى من الملونين والزنوج حقوقهم العامة، ويحرص دائما على امتهان كرامتهم وإنكار مصالحهم.. فإذا ثار الملونون والزنوج على هذه المعاملة، فهى ليست ثورة ضد المسيح وكنائسه، ولكنها ثورة على التفريق الجائر، والغرور الكاذب. وثورة المسلمين على الاستعمار الغربى لا تعدو هذا المنحى العادل. فإذا احتشدت الصليبية الغربية لقمعها، وإذا تنادت باسم الدين لإطفائها، فلا يسوغ لأتباع المسيح فى بلاد الإسلام أن ينخدعوا، ولا أن(1/103)
يزلوا..!،ص_098
وأتباع المسيح فى بلاد الإسلام ينبغى أن يكونوا آخر من يصدق هذه المفتريات، فإن البحبوحة المتاحة لهم فى كنفنا تفرض عليهم أن يعرضوا عن أضاليل هذه الصليبية المعتدية المتحدة من دول الغرب... واشتراكهم مع أوروبا فى دين لا يسوغ اشتراكهم معها فى عدوان. ومع التفسير المتأنى الواضح الذى ألقاه وزير مسئول عن سياسة مصر فى صراعها مع إنجلترا وفرنسا. ومع ما أظهرته الأحداث المتوالية من أن المسلمين أبرياء من التعصب الأعمى، فإن أصحاب القلوب المريضة لا يزالون ينظرون على أحن تستدعى الحذر. وبين آونة وأخرى تقرع آذاننا أنباء مثيرة عن إعداد صليبى واسع النطاق لا يرى متنفس ضغنه إلا فى انتكاث شملنا، وانفراط عقدنا، وذهاب ريحنا أخر الدهر. وإذا كانت تصريحات الوزير السابقة عن طبيعة النزاع بيننا وبين الاستعمار الغربى قد كشفت عن حقيقة مشاعرنا وأفكارنا، فإن تصريحات الجانب الآخر أماطت اللثام عن تعصب كالح، وحقد دينى غريب؟. فوزراء فرنسا لا يسمون أهل " الجزائر " المكافحة إلا " المسلمين " وهم بهذه التسمية يسوغون حملات الفتك والإفناء المسلطة على هؤلاء المكافحين البائسين. وعندما غزا المعتدون الإنجليز والفرنسيون واليهود "بور سعيد " وأنزلوا جنود المظلات على الشاطىء، وشرعت الطيارات والسفن تدك المدينة الأبية، وتنقص أطرافها، قال المذيع فى صوت" بريطانيا": إننا استولينا على كذا وكذا من أحياء المدينة، وبقيت نقطتان فى أيدى المسلمين !!. المراد إذن اجتياح المسلمين- بهذا الوصف- واستئصال شأفتهم...! والبواعث الكامنة وراء هذا التهجم لا يجوز تجاهلها، فظاهر أن إيقاد العداوة الدينية جزء خطير فى الحملة التى تشن علينا، والتى قد تتحول إلى حرب شاملة ضد القومية العربية . تلك القومية التى يراها الصليبيون طليعة يقظة للإسلام الذى يكرهون. وسرنى أن وزارة التربية والتعليم شرعت تلفت الأنظار إلى ذلك فى رسالة أصدرتها إدارة الشئون(1/104)
العامة بها.. جاء فيها :ص_099
" إن الدول الاستعمارية تهددنا وتتوعدنا.. وتحشد لنا جيوشها فى البر والبحر والجو، وتحبس عنا أموالنا المودعة أمانة فى خزائن بنوكها. وتحاول أن تقفل الأسواق التجارية فى وجه منتجاتنا الزراعية والصناعية، وتغرى بنا أتباع!ا من الدول التى لا رأى لها ولا إرادة،. وتعقد المؤتمرات، وتدير المؤامرات ، وترسل الجواسيس، وتحاول الوقيعة بيننا وبين كل من يريد أن يساعدنا.. لأن.. لأن للاستعمار فى بلادنا مطامع قديمة، وثارا موروثا، ومعارك متصلة منذ مئات السنين. فلم يزل الاستعمار منذ التاريخ البعيد يحاول محاولاته للسيطرة على بلادنا، واغتصاب أوطاننا، وانتهاب خيراتنا واستذلال أحرارنا ، وامتلاك أرضنا، لتكون ثمراتها له، وأهلها عبيده. ليس هذا التهديد والوعيد من أجل تأميمنا لقناة السويس، و إنما هى حجة يحتجون بها ليحققوا مطامع، ويدركوا ثأرا، وينشئوا معركة جديدة، يأملون أن ينتصروا فيها على العرب، فيحققوا حلم لويس التاسع ملك فرنسا، وريتشارد ملك بريطانيا فى التاريخ القديم. وهيهات..! إن الحرب الدائرة بيننا وبين الاستعمار الصليبى منذ التاريخ القديم لم تهدأ بعد ولن تهدأ حتى يقضى علينا ذلك الاستعمار، أو نقضى عليه.. وهيهات أن يقضى علينا، وإننا لقادرون بحول الله أن نقضى عليه.. لابد أن نقضى على الاستعمار، ليعيش العالم كله فى أمن وحرية وسلام.. إننا هنا، فى مكاننا هذا من العالم قوة ذات خطر، أنشأنا الله فى هذا المكان المتوسط بين القارات لتنبعث من بلادنا رسالات السلام والأمن والحرية للعالم كله، للإنسانية جمعاء. لقد آن الأوان ليؤمن الاستعمار بهذه الحقيقة، وما نراه يؤمن بها إلا إذا أشعرناه بقوتنا. إن القوة وحدها هى التى تقنع بالحق.. الحق وحده لا يمكن أن ينتصر بغير قوة تسنده. و إن هذه الحرب التى يحاول الاستعمار الصليبى أن يشنها على بلادنا، هى حلقة جديدة من سلسلة قديمة متصلة الحلقات منذ ثمانية(1/105)
قرون أو أكثر من ثمانية قرون منذ بدأ يجمع جموعه تحت راية الصليب ليغزو بلادنا، أو ينشىء مستعمراته الصليبية فى بيت المقدس، وعلى سواحل الشام، وفى وادى الأردن، وأرض البلقاء فى القرن الحادى عشر.. منذ حاول مرة بعد مرة فى التاريخ البعيد، أن ينفد من ميناء دمياط إلى أرضص_100
مصر، ليتخذها قاعدة صليبية، تحتشد فيها جنوده، وتتفرع عنها إلى الشرق والغرب، لتحطم مقاومة العرب، وتجليهم عن الشرق والغرب... منذ وضعنا القيد فى عنق لويس التاسع ملك فرنسا، فى القرن الحادى عشر، وسحبناه أسيرا على وجهه إلى معتقله فى دار ابن لقمان بالمنصورة، فلم نفلته إلا بعد أن افتدى نفسه بمال، وعاهد عهد القديسين أن لا يعود ولا يحاول... منذ تحالف الاستعمار الصليبى على إخوان لنا فى غرناطة من بلاد الأندلس، يسلقونهم سلق الدجاج فى القدور، أو يلقون بهم كجذوع الشجر فى النار الملتهبة، أو يقذفونهم أحياء من قمم الجبال، أو يرمونهم فى البحر بغير سفين ليسحبوا إلى الشاطىء الآخر إن أطاقوا، أو يموتوا غرقا. منذ وقف مكافحو البحر الجزائريون والمراكشيون على باب البحر، يمنعون كل سفينة غير سفن العرب أن تمر أو تؤدى إليهم الضريبة، وتعترف لهم بالسيادة البحرية.. بل منذ صارت الشام ومصر وشمال إفريقيا أرضا عربية، ومنذ ارتفع الأذان فى سهول الأناضول، ومنذ تحولت " أيا صوفيا " إلى مسجد.. منذ ذلك التاريخ البعيد، لم تزل الحرب دائرة بيننا وبين الاستعمار الصليبى.. ولم تكن دعوى الصليب التى زعموها فى ذلك التاريخ البعيد إلا عنوانا زائفا لخداع الملايين، فما كانت حربهم يومذاك دينية كما زعموا، فإن الأديان لا تقر الاعتداء على الحرمات، وهتك الحرائر، ونهب الحقوق، وسفك الدماء واغتصاب الأوطان، واسترقاق الأ حرار.. لم تكن دعوى الصليب يومذاك إلا زيفا وخداعا وتمويها، وإنما هو استعمار يتلون بلون ديني لينخدع الملايين من أهل الحماسة الدينية، فينساقوا وراء أصحاب المطامع(1/106)
الاستعمارية انسياق الأغنام وراء الراعى. حقيقة استيقنها المسيحيون من عرب المشرق يومذاك، فكانوا مع قومهم من المسلمين آلبا على الاستعمار الصليبى، لا يبخلون بالدم ولا بالمال ولا بالروح، حتىص_101
جلا الاستعمار عن أرض العرب مدحورا، وعادت أرض العرب للعرب يعيشون فيها إخوانا متحابين، أعزة سادة فى وطنهم العزيز.. واندحر الاستعمار الصليبى فى أولى جولاته، ولكنه لم ييأس... إن حلم "الويس التاسع "، و "ريتشارد"، وزعماء الصليبية الأولين لم يزل يداعب بعض الرؤوس هنالك، ولم يزل الأمل فى امتلاك أرض المشرق و إجلاء العرب عنها ينتقل فى الأجيال جيلا بعد جيل، كل جيل منها يحاول محاولة لتحقيق ذلك الحلم القديم، بعنوان جديد، غير عنوان الصليب. حتى كان القرن التاسع عشر.. وكان المسلمون يومذاك فى غفلة، فأتاحت غفلتهم لتلك الدول أن تثب وثبتها، وتحقق حلم الأجيال.. نعم: لقد تحققت أحلام ظل الحقد الدفين يغذيها طوال القرون السالفة. وصحونا فإذا نحن نجنى ثمار الذهول والتفريط. والغريب أن المسلمين بعد هذا كله لا يعرفون التعصب، و إذا عرفوه لا يحسنونه. والأغرب من ذلك أن المسلمين إذا هاجتهم دناءة خصومهم فتحركوا باسم الدين للرد عليهم، صاح هؤلاء الخصوم فى صفاقة لا مثيل لها: إن الهمجية الإسلامية تحركت، تبغى العدوان، وتريد لتنتشر بالسيف..! ولست أعرف للسيف موضعا أصدق، ولا محزا أجدر من عنق هذه الصليبية التى ما أحسنت يوما إلا اللدغ والاختباء. ولعل المسلمين- بعد أن يعوا عبر القرون الوسطى والأخيرة- يعرفون طبيعة الخصام الذى يواجهونه فى هذه الدنيا. ***ص_102(1/107)
قبل المعركة عندما انعقد مؤتمر " لندن " لبحث مشكلة قناة السويس- بعد أن استردتها مصر- كان هناك نفر من الناس يتابع مناقشات المؤتمرين وفى نفسه أمل أن ينتهى الأمر بسلام، وأن ينفض المجتمعون وقد استحيوا من اللجاجة فى مطمع فات إدراكه. فإذا لم يكن لديهم حياء غلبهم الوجل من مصاولة أصحاب الحق بعد ما تيقظوا له، واستمسكوا به. وكان أولئك المتفائلون يفرحون إذا جاءت الأنباء بأن دول الاستعمار قد خفضت من وعيدها وكسرت من حدتها، يحسبون أن ذلك التراجع إيذان بحل المشكلة على نحو يرضى أصحاب الحقوق، ويرد إليهم ما سلب منهم دهرا طويلا. وما دروا أن ذلك التراجع لا يعدو دائرة الألفاظ المرنة، والأساليب التى تصطنع اصطناعا لإخفاء أخبث النيات، وأحلك المقاصد.. وها قد انتهى المؤتمر، وانفضحت المؤامرة، وسقط القناع عن الوجوه الكالحة، واستيقن المترددون أن فى دول أوروبا لا تزال على حقدها القديم، وضلالها الأول. إنها- وقد سمنت من المال الحرام- لا تزال تتشهى المزيد. إنها- وقد ضريت على التهام ما أمامها- لن تكف إلا إذا أصابتها لكمة تهشم أسنانها، وتعجزها عن مد الفم ولى السحت..! ونحن منذ تداعى ساسة الغرب، وقرع جوارهم النابى آذان العالم، ومنذ نادى بعضهم بعضها للعدوان على مصر، وإعداد القوى فى البر والبحر والجو لمهاجمتها- نعرف أنه لا مكان لتفاؤل، ولا انتظار لمسالمة، وأنه من العجز ارتقاب الشرف من الغادرين، أو العفاف من الداعرين أو النصفة ممن أذوا أهل الأرض أجمعين. *** إن معركة مصر لم يكن بد من خوضها، سواء استرجعنا القناة أم تركناها لمن يأخذون القناطير المقنطرة منها. ذلك أن مصر جزء هائل من كيان العروبة والإسلام. والمعركة ضد العروبة والإسلام قد بدأت منذ زمن طويل.ص_103(1/108)
وهى ليست معركة ربح أو خسار لقطع من الأرض أو قدر من المال، بل هى معركة حياة أو موت. إنها معركة إبادة لجنس من الناس، له لغته ودينه وحضارته. والاستعمار من سنين طويلة قد أعد عدته لإفناء هذا الجنس وما يتصل به من فكر وحضارة. وقد بدأت حرب الإبادة هذه من حولنا يوم تقرر تهويد فلسطين، ويوم اجتمع عدد من الدول أكبر مما اجتمع فى مؤتمر " لندن " وسمح- فى رضا ورغبة- أن يطرد العرب من أرضهم شر طردة، وأن يرثها عن أولئك الأحياء المطرودين بنو إسرائيل الذين دللهم الاستعمار فى هذا العصر، وأسكنهم قصور العرب، وأطعمهم أقواتهم. أما العرب أنفسهم ففى الصحراء لهم متسع إن عاشوا، أو قبر إن هلكوا.. نعم، وبدأت حرب الإبادة فى الجزائر البائسة، بعد محاولات طويلة لتنصير المغرب كله، وتسميم الدم الإسلامي فيه! فلما استعصى الضحايا على عسف " فرنسا"، تحولت قوات حلف الأطلسى لقمع الشعب المكافح، وترضيته بالهون. ومنذ عامين ما يطلع صباح إلا وأصوات النعاة تقبض الأفئدة بمهلك عشرات الشهداء فى صراع لا يفتر بين المهاجمين والمجاهدين. ولو رصت أرض الجزائر بأحداث الشهداء ما كان فلك شيئا يستحق الذكر، أو يثير الأسى، أما أن تسترجع مصر قناتها، فذاك أمر تهتز له الأرض، ويحتشد له الساسة وتتعاوى من أجله الذئاب فى كل غاب. غاية ما هنالك من فرق بين عواء الحيوان والإنسان، إن هدير الوحش لا تستر نبراته ولا تطوى أغراضه، أما عواء الساسة فى مؤتمراتهم، فيمكن إخراجه للناس فى قالب غناء ملحون منغوم! وها هى ذى حرب الإبادة تتجه إلينا فى صورة تدويل للقناة أولا، وأخذ بخناقنا بعد فلك، فاما عشنا واما كتمت أنفاسنا.ص_104(1/109)
والعجب أن يمضى الاستعمار فى ختله قالبا الأسماء والمسميات جميعا، فهو يصف استعبادنا بأنه ضمان لسيادتنا، ويصف سرقة حقوقنا بأنها رعاية للعدالة فى نفعنا. وقد سرى هذا المنطق فى آفاق الحياة الحاضرة حتى كاد يطمس معالم الأخلاق. ما كان فى ماضى الزمان محرما للناس، فى هذا الزمان مباح صاغوا نعوت فضائل لعيوبهم فتعذر التمييز والإصلاح فالفتك فن، والخداع سياسة، وغنى اللصوص براعة ونجاح والعرى ظرف، والفساد تمدن، والكذب لطف، والرياء صلاح *** وإذا كانت الحرب ضد العروبة والإسلام قد اشتعلت فى ميادين شتى، فليس غريبا أن يطير شررها إلينا، وليس غريبا أن ينعقد مؤتمر " لندن " لينفخ فى ضرامها، ثم يرمينا بشعلها الحارقة. بل الغريب أن نبقى بمنأى عن هذه الحرب، ومصر هى معقد العروبة ومناط الإسلام. إن ابتعاد هذه الحرب عنا كان إلى أجل معدود، لابد بعده أن نصلاها، ويجب أن نواجه هذه الحقيقة دون تهرب أو إغماض... *** أى إسلام كان يرجوه الواهمون من مؤتمر " لندن "؟ أخشى أن أصارح بما يبطنه أولئك المتعلقون بالسراب حين أقول: إن حبهم للسلام وكراهيتهم للقتال هما سر هذا التأميل الخائب! أجل، فعدد غفير من الناس لا يزال ينفر من الموت، ويتشبث بأذيال الحياة، ولو كانت الحياة التى تتاح له على أنقاض دينه ومروءته، بل على أنقاض عزته وكرامته. وهذا الصنف الذليل هو الذى انتظر العافية من مجمع اللصوص فى عاصمة الاستعمار!ص_105(1/110)
وطالما صحت بهؤلاء الأغرار، إن الحرب التى تحذرون قد وقعت فعلا منذ تضافرت الصهيونية العالمية، والصليبية الغربية على إجلاء إخوانكم، واجتياح ديارهم.. ولو أنكم تيقظتم على هذا التحرش، وتنمرتم على وقع الأذى حين نزل بجيرانكم، لتهيب القراصنة وشركاؤهم أن يسترسلوا فى غيهم. إن مؤتمر " لندن " عرض لعلة أصيلة فى نفوس الذين دعوا إليه. وقد ذهبت شعوب إسلامية باسلة ضحية لهذه العلة الدفينة. ذهبت أمس كما يراد أن نذهب اليوم. فهل كنا نقابل هذا المؤتمر إلا بأزيز الغضب، وصحيات الاستنكار؟ إنه لو تمخض عن سلام لكان سلاما مريبا موقوتا، ولكانت هذه النتيجة أبعد ما تكون عن طبيعة الأشياء، فها هو ذا قد أسفر عن خبايا الداعين إليه، والموافقين عليه. فلنقلها إذن عالية ولتقولوها جميعا: مرحبا بالمعركة، المعركة التى فرضها علينا دهاقين اللصوصية العالمية المسلحة.. لقد كنت أحس غصة وأنا أقرأ وفيات الشهداء تجىء من الجزائرسيلا لا ينقطع، واقرأ إلى جانبها دعوة الكتاب البغايا إلى فتح بيوت الدعارة فى مصر. هذه الحال المستنكرة من التقطع النفسى والعاطفى والإلحاد الدينى والاجتماعى هى التى أوهنت بلادنا، وأطمعت عدونا وألبت السفهاء والعقلاء ضدنا.. ولعل أولى بركات التهديد الذى رمانا به مؤتمر لندن أن استخفت هذه الميوعة الحيوانية النجمة، وشرعنا نستعد لخوض المعركة التى اقتربت من ساحتنا! الا مرحبا بالمعركة... مرحبا بالمعركة التى تقسم أعباء الكفاح بالسوية على العرب فى كل مكان، وعلى المسلمين فى كل أفق... مرحبا بالمعركة التى ستغسل بلادنا من أوضار الضعف والاسترخاء، وتصبغها بلون جديد من البذل والفداء. ***ص_106(1/111)
ما هذه الصفاقة التى تجعل عشرين دولة تجتمع أياما وليالى لتتحدث فى سلب حريتنا، وخدش كرامتنا؟ أكانت تجرؤ على خوض هذا الأفك لو أنها ترهب عقباه؟ إننا وجدنا سر هذا التحدى الغريب. إنهم يحسبوننا مازلنا نحب الدنيا ونكره الموت، وجمن ثم ينادى بعضهم بعضا، هلم إلى الكلأ المباح، والأرض التى لا صاحب لها، هلم إلى تدويل القناة.. !! وذلك مصداق الحديث: ! يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بلى أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله.. وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت " . كان ذلك على عهد الملوك الفسقة ، وأمراء الخمر والنساء . أما اليوم فإن رئيس الدولة يقول: سأبذل آخر قطرة من دمى . وعندما تكون هذه الكلمة شعار المعركة الناشبة . وعندما ترسم السياسة العامة على أساس القتال لآخر رمق، فلتجتمع الدنيا كلها علينا فلن نخشى بأسها . * * *ص_107(1/112)
5 ـ سلام مسلح وصف " محمد " نفسه فقال: " أنا رحمة مهداة ". إنه ليس لعانا يطفح فؤاده بالسخط، ولا جبارا تنبسط يداه بالأذى، لا.. لا.. إنه بشر نبيل، طرق باب هذا العالم كما تطرق النعمة باب بائس، أو كما تطرق العافية كيان جسم معلول!. " إنما أنا رحمة مهداة". ومن نبع هذه الرحمة، وعنوانا عليها كانت الآية الأولى فى القرآن الكريم " بسم الله الرحمن الرحيم" ثم تتابعت آيات القرآن تصف للناس ما يشفى سقامهم، ويمسح آلامهم، ويقر علائقهم بالله جل شأنه على دعائم من الحق، ويقر علائق بعضهم بالبعض الآخر على أسس من اليقين والأخوة، والتواصى بالمرحمة، والتعاون على البر والتقوى. إن الإسلام يكلف المسلم أن يكون مصدر سلام حيث حل، وألا يكون مثار شر، ولا مبعث أذى لأحد أبدا. وأنظر ما روى عن أسود بن أصرم. قلت: يا رسول الله.. أوصنى. قال: تملك يدك؟ قلت: فما أملك إذا لم أملك يدى؟ قال: تملك لسانك؟ قلت: فما أملك لسانى؟ قال: لا تبسط يدك إلا إلى خير. ولا تقل بلسانك إلا معروفا ..! وتعاليم الأنبياء جميعا ـ وهى زبدة ما وعته نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية ـ لا يمكن أن تتضمن إلا النفع المحض للناس، وقيادتهم برفق إلى الصراط المستقيم، وحياتهم ـ وهم على الجادة ـ من أن يشرد بهم زيغ ، أو تغويهم فتنة! *** وفى الإسلام ـ كما فى غيره من الأديان السابقة ـ غيرة على الحق، وحرص على إبقائه متقد الشعاع ليهدى الحيارى، وحرص على إبقاء القافلة المؤمنة به متماسكة متضامنة لا يقع عليها حيف، ولا يتعرض أحد منها لظلم، وألا يكون الإيمان الذى تستمسك به سببا فى إهدار كرامتها، نعم إن الدين يستحيل أن يجىء به ما يعتبر تحرشا بالناس، أو تحديا لمشاعرهم التقية.ص_108(1/113)
ولكن السؤال الذى يجب أن نجيب عنه فى صراحة وحسم هو: ماذا يكون الأمر إذا تعرض الإنسان فجأة وهو خالى الذهن، سليم القلب، لنزوة باغية، أو ضربة قاسية؟ أيترك نفسه فريسة سهلة لهذا الهجوم الخسيس.. أم يضطر ـ مهما كان رقيق الطبع- ليقاوم، وليرد بغضب ما وجه إليه باستخفاف واستهانة؟ أو بتعبير آخر. هل السلام ترك الإجرام من غير نكد؟ وترك المعتدين من غير عقوبة؟ وترك المظلومين دون نصير يدعم جانبهم، ويصون دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟ إذا كان ذلك معنى السلام فليس الإسلام دين سلام، بل هو دين خصام وقصاص، غير أن العقلاء لم يشوهوا حقيقة السلام، فيجعلوها ترادف الرضا بالهوان، وقبول الدنية. وإنما فهموا السلام على أنه نبذ القتال فى كل مجال يعتبر القتال فيه هضما للحقوق المقررة، أو إساءة للحقيقة ولو فى أسلوب الدفاع عنها، فإن الدفاع عن الحقيقة له أساليب تناسبها سناء وشرفا. ومع أن الإسلام خير محض، وأمان مطلق، فإن موقف أعدائه منه جره جرا لأن يخوض معارك ما كان يريدها. وماذا عسى كان المسلمون يفعلون وهم يرون الوثنيين من عرب الجزيرة ينكرون عليهم حق الحياة، ويثبون على الجماعة المؤمنة بربها، فإذا هى بين شريد فار بدينه بعد أن صودرت أملاكه وأمواله، أو سجين فى عقر مكة، يذوق الهوان، ويحمل الضيم؟. إن القرآن الكريم ـ وهو يحذر سفك الدم ـ يعطى المسلمين إذنا بالدفاع عن أنفسهم فيقول: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله). وليس بمستغرب أن يحض الإسلام على القتال لفك الحصار المضروب على الأسر المؤمنة بمكة، ولا يعقل أن يكون تحريضه على استنقاذ هذه الأسر المعذبة مظنة رغبة طبيعية فى إراقة الدماء.. ومن ذا الذى يستسيغ هذا الاتهام وهو يسمع الآية الكريمة: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه(1/114)
القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا).ص_109
فالوثنيون لم يعلن الإسلام عليهم حربا لأنهم كفار يجب أن يهتدوا إلى الحق بالقوة، وأن يدخلوا فى الدين بالإكراه كلا، فإن الإسلام يقول لأتباعه فى ضرورة مسالمة هؤلاء الكافرين، وعدم التعرض لهم البتة : (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا). *** فإذا تركنا جانبا هذه المغازى التى كان العرب المشركون علتها الأولى والأخيرة، ونظرنا إلى موقف الإسلام من اليهود والنصارى، وجدنا الخطأ الذى وقع فيه عباد الأصنام قد وقع فيه أهل الكتاب من يهود ونصارى... فطالما تودد الإسلام لهؤلاء الأقوام، وأثنى عليهم، ونوه بالكتب التى نزلت على أنبيائهم، وبدأهم بإرسال الكتب وعقد المعاهدات. ولكن كثيرا من اليهود والنصارى كانوا من أحقادهم الخاصة فى شغل شاغل، فلم يكترثوا باليد الممتدة إليهم، بل حاولوا قطعها. أما اليهود فقد بلونا طبيعتهم الغادرة وعرفناهم: لا أمان لهم، ولا موثق... وأما النصارى فإن الرومان- وهم يومئذ أصحاب الدولة فى العالم المسيحى كله- ما كانوا ليسمحوا لأحد أن يخرج على مذهب الدولة، ولو كان مسيحيا مثلهم، وقد اضطهدوا أقباط مصر ونصارى الشام لهذه العلة، فكيف ينتظر منهم ترك الإسلام يمشى من غير نكير؟ إن الحرب التى دارت بين المسلمين والروم، دارت لتقرير حرية الاعتقاد، ولم يدرها المسلمون لحمل شعب ما على دخول عقيدة معينة. وقد كانت الدولة الرومانية وسائر الدول الصليبية التى قامت بعدها بحاجة إلى تقرير هذه الحرية، فيستفيد منها أتباع المذاهب النصرانية المختلفة، قبل أن يستفيد منها الإسلام نفسه. والمقرر فى تاريخ القرون الوسطى: أن رعايا الدولة الرومانية الذين دخلوا تحت حكم الإسلام وجدوا من سماحته ما لم يذوقوه أياما طوالا تحت حكم إخوانهم فى العقيدة...! ذلك أن مسالمة الآخرين وترك حرياتهم الوجدانية والعقلية عنصر(1/115)
أصيل فى سياسة الإسلام، وجزء خطير من تعاليمه العامة...ص_110
على أن الحروب التى اشتعلت ولا تزال تشتعل بين المسلمين من جانب، وبين الصهيونية والاستعمار من جانب آخر، ليست حروبا دينية يسئل عنها الإسلام، وهو إن سئل فجوابه الحاسم حاضر، لا يصحبه تردد ولا إبهام!. هل كانت الدولة الرومانية القديمة تنفذ تعاليم عيسى عليه السلام حين جعلت مصر مزرعة لها؟ وحين استعبدت أفريقيا وآسيا الصغرى لجبروتها؟ وهل كان الإنجليز والفرنسيون وحلفاؤهم يحترمون وصايا المسيح، وينقلونها للشعوب المغلوبة عندما كانوا يمزقون هذه البلاد وينهبون خيراتها؟ إن هذا الاستعمار الصليبى عار على كل دين. ويوم يقاومه الناس باسم الإسلام أو بأى اسم آخر فهم معذورون. والانتصار لقضاياهم واجب على كل ذى ضمير حى. ويوم تدك جيوش الفتح معاقل الروم- كما وقع قديما- أو يوم ترد الغزاة الفرنسيين والإنجليز، وتخلص الأمم من براثنهم- كما حدث فى بورسعيد- فهى جيوش سلام، لا جيوش عدوان.. إن الإسلام لا يشتهى سفك الدماء، ولا يندفع إلى امتشاق الحسام، إلا مكرها. وأمل الإسلام الحلو، ورغبته العميقة أن تتحول فجاج الأرض إلى آفاق سماوية، تموج بأناس يشكرون ربهم، ويذكرون نعمه، دون أن تشغلهم حروب، أو تستشرى بينهم عداوات.. وانظر ما روى عن أبى الدرداء.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى!. قال: ذكر الله لما.. ثم قال معاذ بن جبل: ما شىء أنجى من عذاب الله من ذكر الله ، لكن كيف الطريق إلى هذا الأمل الوادع؟ وإلى هذا السلام الشامل. أيمكن الوصول إليه مع بقاء الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي يملآن الدنيا فسادا وظلا ما؟! إن نبى الإسلام يبين مرة أخرى عن طبيعة السلام فى دينه، وعن طبيعة الرحمة فى رسالته،(1/116)
مع امتلاء الحياة بالأوغاد والظلمة فيقول: " لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتم فأثبتوا " .ص_111
نعم لن نتمنى قتالا، لأننا دعاة سلام، فإذا فرض علينا القتال فلن نفر أمام الزحف النجس، ولكن سنثبت حتى يفتح الله بيننا وبين المعتدين. *** وكما يحتاج المقرور إلى الدفء بعدما جمد البرد أطرافه، والعليل إلى الدواء بعدما برى السقام عظامه، تحتاج الشعوب المهانة إلى نجدات من القوة، ترفع عنها الأصر الذى أخزاها، وتكسر القيد الذى أضر بها.. إنها تستقبل القوة الوافدة عليها استقبال الظمأن للماء البارد، لأنها ترى فيها متنفسا من ضيق، وأمنها من ترويع. ومن هنا هش المسلمون ـ وهم أهل سلام ـ للقاء عدوهم، بعد ما أخذوا له الأهبة، وجمعوا السلاح. وانظر إلى القرآن الكريم كيف يذكر المستضعفين بآلامهم الأولى، وما لاقوا من تشريد واستباحة و إرهاق، وكيف يجعل من هياج هذه الذكريات فى دمائهم دافعا إلى خوض المعارك، وتأديب الطغاة. (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم). إنه قتال ليس فقط تأديبا لما وقع فى الماضى، فإن الماضى يغتفر لمن تلمح عليه بوادر التوبة، ولكنه حياطة للمستقبل كى لا يعود الطغاة إلى طبيعتهم الشرسة، يجب إذن أن تقلم أظفارهم، وتتقى غائلتهم.. من الذى ينطق بكلمة إذا بحث اللاجئون المشردون عن السلاح يستردون به حقهم المأكول؟ من الذى يجرؤ على استنكار إذا بحث الجزائريون عن السلاح يدفعون به الصائل الغشوم؟ من الذى يجد وجها يندد ببحثنا عن هذا السلاح إذا كنا نحمل السلاح لأسمى غرض فى الوجود؟ من الذى يتهم الإسلام بأنه دين تعصب وقتال إذا كان هذا هو الميدان الذى أكرهنا على خوض الحرب فيه..؟ص_112(1/117)
لقد كنت أقرأ تاريخ السيرة النبوية فيطوف بقلبى طائف من الرهبة لصرامة القصاص الذى وقع ببنى النضير، ثم أقول: هى العدالة فى عقاب المجرمين، وما ينبغي أن تدركنا رحمة مع من ظلم نفسه وغيره. فلما بلونا اليهود، وخيانات اليهود، ولما كوت قلوبنا مصارع الشباب العربي على أيدى اليهود والمذابح المهولة التى أوقعها بقرانا ومدننا اليهود، عرفت أن الإطاحة ! بهؤلاء الناس ليست عدالة فقط، بل هى رحمة أسداها أطباء البشرية للبشرية، أو يد تذكر وتشكر لمن أفاءها.. ولقد عرفنا أى نعمة جليلة ساقتها العناية لشمال إفريقية الذى نكب قديما بحكم الرومان وحديثا بحكم الفرنسيين، يوم انساب الفاتحون المسلمون فى أرجاء المغرب يطوون أعلام الاستعمار الروما ني، ويعيدون الحرية للشعوب المنكودة. كانت مصر وسائر إفريقية تئن تحت وطأة الرومان واستغلالهم، حتى هبت عليهم نسائم الفتح الكبير، فتنفست الصعداء. و إن الشمال الإفريقى ليتشوق اليوم إلى فتح جديد، يطرد به خلفاء الرومان، وتستعيد به الأمم المنكوبة مكانتها فى هذه الحياة. فإذا لم يجىء أصحاب رسول الله لاستنقاذ ضحايا فرنسا كما جاءوا قديما لاستنقاذ ضحايا الرومان، فإن أحفاد السلف الحر لن يستسلموا لا داخل أرض المغرب ولا خارجها، وسيقاتلون إلى آخر رمق.. والعاقبة للمتقين، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. *** لقد جاء عيد الميلاد المسيحى هذه السنة ودماء المسلمين تسيل مدرارا فى فلسطين والجزائر ومصر واليمن ، حتى أن قلوب بعض الأمم التى ليس لها دين سماوى، بل التى ليس لها دين قط، رقت لمصائبنا، وغضبت لما ينزل بنا، وعرضت علينا عونها، بعد أن أعلنت فى العالمين سخطها، وهاجمت المعتدين بأحد لسان.. فلننظر ما صنع الأب الأكبر للنصارى الكاثوليك، إنه لم يكترث أدنى اكتراث لأشلائنا المبعثرة، ولا لدمائنا المهدرة. إن عضلة لم تتقلص فى وجهه للأنباء المثيرة التى هزت أرجاء الدنيا، وجعلت أكثر من ستين دولة تبدى(1/118)
عطفها علينا.ص_113
الشىء الوحيد الذى هاجمه " البابا " وتحرك له، وهو ما قيل من أن ثورة نشبت فى المجر ضد روسيا، وأن عددا من القتلى سقط فى هذه الاضطرابات!.. ذلكم هو الحديث الفذ الذى قامت له " النيافة " وقعدت. أما ما عداه فلا يستحق النظر؟ إن لحم المسلمين رخيص، فلا حرج على الجزارين أن يعلموا فيه مداهم. أما غيرهم فيجب أن يعلوا الصوت باستنكارأى خدش يعرض له! وما يدريك أن الجزارين الذين يذبحون إخواننا إنما يأتمرون بأمر صاحب النيافة؟ إن الأحزاب الكاثوليكية فى فرنسا هى التى تملى سياسة البطش بمسلمى الجزائر! ومن المفارقات أن الشيوعيين هم الذين يعطلون سير القاطرات المحملة بالجنود لمقاتلة المسلمين... ولقد كان نداء البابا إلى العالم لمناسبة عيد الميلاد موضع دهشة ولمز من كل إنسان له عقل وعاطفة، وكان تجاهله لمآسينا وتستره على خصومنا مثار تساؤل مرير، بل كان لفتا قويا إلى أن الكاثوليكية تسخر لتسويغ الحيف، ومهادنة المعتدين. وتلك حقيقة تؤكدها الأيام، فإن التاريخ يعيد نفسه، وما يحدث اليوم صورة مكررة لما حدث من عدة قرون، بل ما حدث منذ أربعة عشر قرنا، عندما اشتبك الإسلام فى صراع دام ضد الرومان- وهم يومئذ نصارى- وما نشبت الحرب إلا لرفع النير من الشعوب المسجونة، والحريات المكبوتة، برضا القساوسة، أو بايعازهم. وقد كتب الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى تعليقا على نداء" البابا " قال فيه: " بالأمس احتفل العالم المسيحى بعيد الميلاد، وتعانق الرجال والنساء حتى الصباح بخوف مبهم من المجهول... و من روما ارتفع صوت البابا يحاول أن يخترق طريقه بين ضجيج"الجازباند " إلى قلوب الكاثوليك فى العالم. وليس أحب إلينا من هذا الخشوع الذى يعانيه المتدينون حين يسمعون كلمات رجل دين مقدس، فتخفق قلوبهم فجأة، وتتحرك طاقاتهم الإنسانية، ليقاوموا العدوان، وعناصر الشر التى تهدد الحضارة والتراث الدينى كله. من هنا تنبع مسئولية رجل الدين كرائد(1/119)
ومبشر وإنسان!ص_114
كنا نرجو منه هذا حتى يفيض الخشوع حقا من نفوس رعاياه، وتطمئن القلوب التى فى الصدور. فلا أحد من سكان هذا العالم يمكن أن يوافق الرجل المقدس على أن عوامل الشر تنبع من المجر.. وعلى أن مشكلة المجر هى التى تستحق منه كل هذا لاهتمام... لا أحد من سكان العالم يجهل من هم الذين يدبرون لقلب نظام الحكم فى المجر، وفى كل دول الاشتراكية! ولا أحد يجهل أين يكمن الخطر على مستقبلنا كله، ومن أين تنفجر المؤامرات.. أتريد الأحلاف العسكرية أن تكون هى سيوف الله المسلولة فى عصرنا هذا؟ أتكون سياسة التحضير للحرب، واغتصاب كل حقوق الإنسان، والقضاء على ملايين البشر، هى الدين الجديد "؟ *** ونقول نحن: نعم، إنها الدين الجديد القديم، فإن رؤساء الكاثوليك منذ قرون سحيقة يستكثرون الحياة على مخالفيهم فى الرأى، ولو كانوا من أبناء دينهم، فكيف يقرون السلام فى أرض الإسلام؟ لابد من اجتياحها إن أمكنت الأسباب، وإلا فعليها اللعنة إن ظفرت بالحياة على كره من آباء الكنيسة الحاقدين!!! إن العالم أحوج ما يكون إلى حضارة يسودها التعاون ويحدوها الإصلاح... والعصر الذى يظلنا، يوجب علينا أن نقدر مستقبل الإنسانية، وأن نقصى عنها نوازع الإثم، وأسباب الهوى، وأن ندع مكانا للحق المجرد يفصل فى قضاياها، فيربح المعنتين، ويكف الظالمين. وقد قال الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم). وهذا النداء يتجه إلى كل من له دين يردع عن المحارم، ويصد عن المظالم. هو نداء الله كيما تكون العلائق بين أصحاب الكتب المنزلة بعيدة عن الضغائن والثارات.ص_115(1/120)
وفى أكناف السلام العادل الرحب لا يتقاتل الناس على منازلهم فى الآخرة، وإنما تثور بينهم الفتن، وتعتكر الأحوال إذا هاجت المطامع، وعصف الغرور برؤوس الأقوياء، فحسبوا الدنيا حكرا لهم، واتخذوا عباد الله رقيقا لمأربهم. إننا نحن المسلمين نحمل فى هذه الحياة رسالة الحق والخير والنور، ونريد أن نعيش بها وادعين، وأن تكون أوطاننا بها مثابة للسكينة والسلام، والطمأنينة والوئام، فهل يفقه هذا صانعوا الحرب ومشعلو الضغائن حينا بعد حين؟ والرسالة التى أصطفى الله العروبة لأدائها، ليست بدعا فى تاريخ الحياة، ولا هى حدثا ترمقه الأبصار بدهشة، إنها التعاليم النبيلة التى سبق أن هتف بها موسى، وبشر بها عيسى، ودعا إليها الأنبياء قاطبة، وبذلوا الجهود المضنية لإقناع الناس بها، وسوقهم إليها. إن رسالة الإسلام ترديد لكل صوت كريم دوى فى القرون الأولى، وتوكيد لكل معنى جميل تنتعش به الإنسانية وتسمو. ولذلك يقول الله لنبيه محمد : (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك). ويقول لأمة الرسول العربى : (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم). وبهذه الوحدة فى المنهج والهدف، وبهذه الاستقامة على الجادة الممهدة والغاية الممجدة، يتآخى المؤمنون ويتعاونون على مرضاة الله وصيانة الحقوق. ولكن نفرا من أتباع الأنبياء قد يجهلون أو يجحدون الحدود التى وقفهم الله عندها، فإذا هم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض. وإذا هم يخضعون لسياسات جائرة تقوم على التظالم واستمرار البغى. وما بعث الله محمدا إلى الناس إلا ليرد إلى الوحى الأعلى كرامة أهدرها السفهاء، وبريقا طمسه البغاة.ص_116(1/121)
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). بيان الحق، والدفاع عنه، و إقرار الهدى والرحمة فى هذه الأرض المروعة، هو ما جاء به ديننا الحنيف، وشرح أصوله صاحب الرسالة العظمى، وهو ما نتشبث به نحن العرب، ونرى فيه مصلحة الشعوب كلها، لا مصلحة جنس معين من الناس. لكن بنى إسرائيل لا يفهمون هذا، وإذا فهموه تمردوا عليه، وجنحوا إلى أسلوب مشئوم من التخريب والإفساد، و إهلاك الحرث والنسل، و إشاعة الفوضى والفرقة. وهو أسلوب سيدفعون ثمنه من نواصيهم، ويحسون مغبته فى أنفسهم وأهليهم. لقد سبق أن أخذ الله المواثيق على اليهود: أن يصونوا الدماء ويتركوا المفاسد، ويطرحوا وساوس الشيطان فى صلاتهم بغيرهم. بيد أنهم أبوا إلا العيش فى ظلال الأثرة الضيقة، والخصومات الوضيعة ضد أهل الأرض جميعا، وضد من أكرمهم خاصة، ووسعوهم دهورا فى بلادهم دون أن يمسوهم بأذى، ألا وهم المسلمون والعرب. ولذلك يقول الله فيهم : (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). إننا نبغى السلام الشامل، فأى سلام تتسع له ضمائر المنصفين إذا تواطأت عدة دول على تشريد إخواننا، ونهب أموالهم، واستباحة حقوقهم؟؟. أى سلام يراد به تمكين الغاصب، و إسكات الشاكى، وتطمين المعتدى، وتوهين الباكى؟! كيف يوصف هذا الحيف بأنه عدالة؟ وكيف يرتقب من العرب أن يغمضوا العين على شوكة لا تفتأ تدمى وجوههم وجنوبهم. إن النزعة إلى السلام تغلب على عواطفنا، وتجعلنا نقبل على حاضرنا لنبنى ونعمر، ونقبل على مستقبلنا لننشئ ونؤمل.ص_117(1/122)
غير أننا ما نكاد نمضى فى طريقنا خطوات حتى تخترق آذاننا أنات الضحايا فى الجزائر، وصيحات إخواننا الأحرار الأبرار وهم يكافحون طغيان الاستعمار، ويذودون عن بلادهم وطأة الغزاة الذين لا يرعون حقا، ولا يحترمون شعبا. إن الاستعمار كارثة خلقية، ومأساة إنسانية، وجرح عميق فى صميم الإيمان، وتحد خطير لرسالات الله، وعمل يستحيل أن يبقى معه هدوء، أو تستقر عليه حال. وليس هناك منطق ينبغى أن يسمع فى هذا الشأن غير منطقنا نحن الذين نريد إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وتحرير المستعبدين، وإطلاق سراح المسترقين. إنه لا قيمة لقوة تجانب الحق، ولا لانتصار يجافى العدالة. ولا مكان لسلام يفرضه قطاع الطريق بعدما سلبوا الآمنين، وآذوا المؤمنين... وسيظل العرب أجمعون لائذين بدواعى النجدة، وأواصر الشرف، حتى يقتنع المهاجمون طوعا أو كرها بالعودة إلى عقر دارهم، والتخلى عن نتائج سطوهم وغزوهم. إننا نحن العرب نؤكد جلال الرسالة السلمية التى ننادى بها، ونريد أن نفرغ مع غيرنا من محبى السلام لإقامة حضارة نقية طهور... و إننا لنستغرب المزاعم الجريئة التى لا تستحى من افتراض فراغ بلادنا، فراغ يملؤه الدخلاء، ويسده الغرباء، أما أصحاب البلاد فهم عالة عليها، ومتطفلون فيها! أى نكر فى هذا الكلام؟ وأين- فى هذا الهزل- طريق السلام؟. *** ضحكت وأنا أسمع أحد الغافلين يقول. إن الإسلام انتشر بالسيف وقلت على الفور: لا يا صاحبى، التعبير الصحيح فى هذه القضية: إن الإسلام انتصر على السيف! و إذا كان منتهى كيد الفتنة المغلوبة على أمرها- بعد ما فل حدها- أن ترمى الإسلام بهذا الوصف، فلا على الإسلام من ذلك. لقد أدى الإسلام واجبه فى كسر شوكة العدوان، وفى قهر الضلال على التراجع، وعلى ترك المكاسب الطائلة التى حصل عليها.. فليسمع الشتائم والتهم من السلطان المعزول، أو من الوحش المقهور، فلأن يشتم وهو حى يؤدى رسالته النبيلة، أفضل من أن يبيد، ثم تسمع فيه كلمات(1/123)
الرثاء. نعم. وماذا يعود على الإسلام أو على الناس لو أن الرومان أفلحوا فى خنقه، أو أن الفرس تمكنوا من شنقه، ثم قال كلاهما بعد أن أهال التراب على جثته: كان دينا مسالما، وكان أتباعه طيبين!.ص_118
إننا زاهدون فى هذا الثناء، ونحن مستريحون لأن ديننا اقتصر على السيف!، و إن أشاع الظلمة والكذبة بعد ذلك: إنه انتشر بالسيف!. وقد رأيت أن أرجع إلى الاحصاءات لأعرف عدد الألوف التى قتلها الإسلام وهو ينتشر" بالسيف " كما يقولون!. وكتاب السيرة عفا الله عنهم قالوا: إن غزوات الرسول وسراياه بلغت بضعا وعشرين غزوة وسرية! لا شك أن هذا العدد ناطق بمدى تعطش الإسلام لسفك الدم، فلننظر كم عدد الضحايا المساكين فى هذه الحروب الطاحنة؟ سبعون مشركا قتلوا فى بدر، وبضعة عشر فى أحد، وثلاثة فى الأحزاب، وقريب من عشرة فى الفتح- أى فتح مكة- وعدد تافه فى حنين، وتطوى صفحة الحرب مع الوثنية بهذا العدد من الضحايا! ويجىء دور الإحصاء فى حرب الإسلام مع اليهودية، لم تلحق اليهود خسائر دموية تذكر فى موقعتى بني. قينقاع والنضير، وقتل منهم نحو ستمائة فى موقعتى خيبر وبنى قريظة.. أى أن استقرار الإسلام فى جزيرة العرب أخذ فى طريقه سبع مئات من القتلى، فى قرابة ثلاثين غزوة وسرية مع اليهود والمشركين! وفى ثلاث وعشرين سنة من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لأعدائه، وهذا السيل الغامر من الدم (!) لماذا أريق؟ أريق- ولا يجرؤ أحد على المراء- لأن عبدة الأصنام أبوا أن يمنحوا الإسلام حق الحياة إلى جانبهم، ووثبوا على المسلمين ينكلون بهم، فلما فروا بعقائدهم إلى المدينة، تبعوهم فى عقر دارهم، ليجتاحوهم عن آخرهم. فإذا عجزوا عن بلوغ مأربهم، وأفلح المؤمنون فى النجاة بدينهم، وإذا أصيب المهاجمون فى أثناء هذا الصراع بتلك الخسائر التى أحصيناها، فالويل للإسلام الذى انتصر على السيف؟ لأنه انتشر بالسيف! أرأيت وقاحة فى منطق الناس أسمج من هذه الوقاحة.. لقد تأمر(1/124)
اليهود والكفار على قتل هذا الدين، فكان بين أمرين لا ثالث لهما، ولا خيار فيهما، أما أن يسلم عنقه للذبح، ثم قد يقال على رفاته: رحمه الله، وأما أن يتأبى على الفناء ويصارع المعتدين، وقد تسقط- فى حومة هذا الصراع المفروض- جثث سبعمائة لص! فيم يلام الإسلام فى هذا وعلام يؤاخذ؟ص_119
إن المسلمين فى دفاعهم عن حياتهم ودينهم قتل منهم مثل هذا العدد، ذهبوا إلى الله مظلومين فى أعدل حرب يمكن أن تقع على هذه الأرض! ذهبوا إلى الله شهداء لم يصب واحد منهم وهو يسطو على أملاك الآخرين ومعتقداتهم، بل ذهبوا جميعا وهو يدفعون فى حرارة وشرف عن دينهم وحقهم. فهل هذه المئات من مجرمى اليهود والمشركين هى التى جاش لها حنان المستشرقين والمبشرين، وثارت لها ثائرتهم، وهم يتهمون الإسلام: إنه انتشر بالسيف؟ إن هؤلاء القتلى بالحق فى ربع قرن من الزمان يقتلهم الصليبيون اليوم فى ربع ساعة، وهم يطفئون مظاهرة تثور فى وطن محروب، طالبة الحرية، ومنادية بحقها فى الكرامة! فعلام هذا اللغط المفتعل كله؟ وممن؟ من أرباب حضارة لم تشهد الدنيا نظيرا لها فى الفتك بالأبرياء، والإطاحة بالحقوق: حضارة أوروبا وأمريكا، حضارة الحروب التى ملأت المآقي بالعبرات، وخلفت وراءها الألوف المؤلفة من الأرامل واليتامى، والضائعين والضائعات! *** وطريقتنا نحن المسلمين فى قراءة السيرة النبوية وكتابتها تستحق النظر، فنحن نستعمل كلمة " غزو " استعمالا بعيدا عن دلالته المعروفة. إن الجيش الغازى هو الذى يفصل عن بلاده، ويدخل فى ديار الآخرين، والغزو بهذا المفهوم الشائع قرين الهجوم ومرادف العدوان. فإذا طرقك أحد فى بيتك، وشن عليك عدوانا آثما، فكيف تعتبر أنت غازيا له؟ ومع ذلك فقد أولم مؤرخو السيرة باستعمال كلمة " غزو " حيث لا غزو هنالك البتة! خذ مثلا غزوة الحديبية، أهذا عنوان يتصل بالواقع من قريب أو بعيد؟ لقد خرج المسلمون لعبادة معروفة، هى زيارة البيت العتيق، ورفضت قريش(1/125)
تمكينهم من ذلك، ثم ردتهم بعد صلح رآه جمهور المسلمين شائنا، وكادوا يموتون فى أعقابه غما، فأين رائحة الغزو فى هذا الموقف؟ وخذ بدرا- وهى أكبر الغزوات، وأذيعها صيتا- إنها معركة إنجر المسلمون إليها جرا، وحملوا على خوضها حملا: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و إن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون).ص_120
صحيح أنهم قاتلوا بإيمان رائع، وثبات كريم، بيد أن ذلك لا يخفى الحقيقة البينة، وهى أنهم مغزوون لا غازون. وكذلك الحالى فى أحد، وفى الأحزاب. كان المسلمون يدفعون عن بلدهم عدوا سار إليهم أربعمائة ميل ليستأصل شأفتهم، ويدك دولتهم، ومع ذلك كله فنحن نعد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ونجعل فى طليعتها ء بدرا وأحدا والأحزاب.. إلخ!!.. والسر فى ذلك يرجع- فى نظرى- إلى حاجة المسلمين لما يثيرهم، فإن تغلغل السلام فى طبيعتهم الدينية، وبعدهم الغريب عن سورات التعصب والتحدى، جعل موجهيهم يتحايلون على دفعهم للقتال المشروع بهذا الأسلوب! ولو كان خطأ فى تبيانه للواقع. إنهم يعدون غزواتهم كما يعد المفلس أملاكه فى الوهم ليشعر أنه غنى، أو ليشعر الآخرين بذلك. والمسلمون بإزاء التعصب المستحكم، والعدوان المستمر أرادوا إشعار خصومهم أنهم لا يؤكلون بسهولة، فقالوا عن أنفسهم: إننا قاتلنا، وسنقاتل! والله يعلم أنهم أبعد الناس طرا عن حب القتال، وأعشق الأم لعهود السلام، وأبذل الأجناس لمشاعر الود و الرحمة. بل إن المسلمين ما أخذوا، ونال منهم أعداؤهم إلا لهذه الطبيعة الدينية الوادعة، هذه الطبيعة التى تؤثر السلام على الخصام، وتؤثر المرونة على الجمود، والتى ترمق المخالفين فى العقيدة- خصوصا أهل الكتاب الأولين- وكأنها تعتذر لهم!. وهذه الطبيعة الدينية فى أمتنا تحتاج إلى نظر على ضوء التجارب المستفادة من تاريخنا الطويل، وعلى ضوء ما كشفت عنه الأيام من طبيعة أعدائها، وطبيعة(1/126)
الأفكار التى تملأ أنفسهم، والمشاعر التى تسيطر عليهم. إذ من الخطر على رسالتنا أن نبنى سياستنا على السماحة المفرطة، بينما يبنى الآخرون سياستهم على خسف الأرض من تحتنا. نعم. ومن الخطر أن نطرح الحذر جانبا، ونسترسل مع سجايا الأمان والثقة، بينما يستدير خصومنا ليغرزوا خناجرهم فى ظهورنا. إن حب السلام أصيل فى أمتنا، وافتراضه فى كل أفق، وانتظاره من كل إنسان، عنصر شائع فى معاملاتنا جميعا.ص_121
ولقد أفزعنى أن هذه الحالة أفسدت لنا قضايا اجتماعية وسياسية كثيرة، وطالما هززت رأسى حيرة، ثم رددت أبيات الشاعر القديم: لو كنت من مازن لم تستبح أبلى بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا لكن قومى وان كانوا ذوى نفر ليسوا من الشر فى شىء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الباس إنسانا فليت لى بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا فى بلاد الإسلام تسمع خطبا تنضح بالدم، ثم ترى أفواها باسمة، وأيديا قصيرة! أما فى أوروبا وأمريكا، فتسمع خطبا تطفح بالمداهنة والمسالمة، ثم ترى أعمالا تشيب لها النواصى من جبروتها وفسقها! ولولا أن أعمال الصليبيين تنطق البكم، لظن الناس كلامهم عن السلام حقا، ولولا أن أحوال المسلمين وما نزل بهم من ظلم يغنى عن البيان، لظن الناس كلامهم عن الحروب رغبة فيها، وحرصا عليها..! *** وضحكت وأنا أسمع تساؤلا يشبه الغمز، فما الذى أخرج المسلمين من جزيرتهم ليفتحوا مصر وأفريقيا، والشام، وآسيا الصغرى؟ ولماذا لم يبقوا فى وطنهم الذى خلص لهم، ثم يدعوا مبادئهم تنتشر من تلقاء نفسها، إن وجدت من يقبل عليها أو يقبلها. قلت؟ يبدو أن المسلمين يطالبون وحدهم بما لم يطالب به أحد فى العالمين! وإلا فلماذا لم يوجه هذا الكلام إلى الرومان المحتلين لنصف الدنيا بالقهر؟ لماذا يعتبر وجود(1/127)
الرومان فى مصر والشام طبيعيا وينظر إلى وجود المسلمين فحسب على أنه شذوذ؟ أئذا احتل الفرنسيون المغرب، وأذلوا أقاليمه الثلاثة، كان ذلك عملا لا يستوجب سؤالا، فإذا ذهب جيش لقص أطراف " الإمبراطورية " الداعرة، ارتفع الصراخ: كيف يحدث هذا؟ إن ذلك هو منطق الصليبيين فى كل زمان ومكان، والحقد الخسيس فى الميدان العلمى، هو نفسه الحقد الخسيس فى الميدان السياسى، هو نفسه الذى يعتبر حربص_122
العرب للرومان فى مصر جريمة تاريخية، أما استيلاء الرومان على مصر، وتحويلها مزرعة تثمر القمح للسادة الفاتحين، فذلك عمل مشروع لا ترقى له شبهة!. لقد كان طرد الرومان من الأقطار التى امتلكوها فى أفريقيا وآسيا راحة كبيرة لأصحاب البلاد الأصلاء، وكان جزءا من السعادة التى خامرت قلوب الناس فى الشرق والغرب عقيب بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك مصداق قول الله فى كتابه العزيز : (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأى رحمة أثلج للأفئدة من أن ينزاح عنها كابوس الاستعمار الأجنبى المرهق، فتشعر بطعم الكرامة والحرية، وتمشى على الأرض لا ترهب بشرا، ولا تخشى ضيما، ولا تربطها صلة عبودية إلا بربها الذى سواها؟ ولا أعرف حروبا قامت على الشح فى سفك الدم والاقتصاد الدقيق فى تحمل الخسائر مثل الحروب التى خاضها الإسلام وهو يصفى الاستعمار فى الأرض. إن التاريخ يروى أن الجيش الذى خرج لفتح مصر يتكون من أربعة آلاف جندى فقط..، وأن هذا الجيش الذى يقاتل الروم فى أمنع معاقلهم- لما طلب النجدة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- أمده عمر بجندى واحد! ترى ما كان يمكن أن يفعله هؤلاء وحدهم لو لم تكن قوى الأمم! المستذلة تعمل معهم، وتنتظر مقدمهم؟ الذى لا يمارى فيه عاقل: إن تخليص هذه البلاد من الرومان حسنة مشكورة قدمها الإسلام للإنسانية! ويحسن أن نؤكد هنا مرة أخرى الفرق البعيد بين حرية العقل والضمير، وبين حرية الظلم والاستبداد. عندما يعرض الإسلام دعوته فمن حق(1/128)
أى امرىء أن يرفض قبولها، وأن يعرض عنها، وأن يبقى على ما أحب من معتقد، ولو كان هذا المعتقد تقديس عجل، أو عبادة صنم. ولسنا مكلفين أن نفتح الأجفان المغلقة بالقوة، ولا أن نستوقف الفارين عن الحق لنكرههم على اعتناقه، والله عز وجل يوصى نبيه أن يمضى فى طريقه، ويدع هؤلاء! (فتول عنهم فما أنت بملوم).ص_123
(فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون). ولكن ما العمل إذا اعترض هؤلاء طريق الآخرين؟ ما العمل إذا استمد هؤلاء من كفرهم مذهبا فى الحياة، يطوع لهم البغى، ويزين لهم الفساد فى الأرض، ويثير شهيتهم لأكل الشعوب المستضعفة؟ هل من احترام الحرية ترك هؤلاء يفعلون ما يحلو لهم، أم أن تركهم يعد خيانة لمعانى الخير فى هذا العالم؟. وهل إذا أمكن كسر شرور هؤلاء بالقوة، جاء من يبكى على قبر المغلوب، ويتألم لمصيره، لأن السيف كان هو الحكم فى هذا النزاع؟. أليست هذه دموع التماسيح؟ بلى، هى دموع التماسيح!. والذين يبكون اليوم لأن الإسلام انتصر على السيف، ثم يعكسون القضية ويقولون: إن الإسلام انتشر بالسيف، هؤلاء هم أحفاد الطغاة الأقدمين؟ ومستعمرو العصر الحديث هم مستعمرو العصور الأولى؟ وأفريقيا وآسيا التى نكبت قديما بمأسيهم، هى هى التى تنكب الآن بفعالهم المنكرة، والتى تريد أن تتحرر من قبضتهم بشق النفس. إن الإسلام لا يحارب الكفر، ولكنه يحارب العدوان! فليكفر من شاء من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فليس الإسلام مسئولا عنه، لكنه ينتصب مقاتلا يوم يتحول الكفر إلى جور يلتهم البلاد والعباد، هنا يتحرك، ويجب عليه ألا يهدأ، حتى يزيل الظلم، ويكف الظالمين. لو أن الذين بغوا فى الأرض مسلمون لوجب قتالهم حتى ينحسم بغيهم، ويفيئوا إلى أمر الله!. فكيف إذا كانوا كفارا يجعلون من كفرهم بالحق قاعدة يتكئون عليها لضرب(1/129)
أهل الحق حينا ولاختطاف خيرات غيرهم حينا آخر، إن هذا شأن الاستعمار أمس واليوم، فكيف يكون علاجه؟ أتطوى القلوب على مهادنته، والإخلاص لحكمه، أم تشحن بالبغضاء له، حتى يذوب ويتلاشى؟ص_124
لا، إن مقاومته دين ودنيا، وذاك ما صنع الإسلام قديما. لقد قاوم وقاتل حتى نجح آخر الأمر فى زلزلة الضلال المكين، وانتصر الإسلام على السيف، نعم انتصر على السيف الجائر، وهو لم ينتصر عليه بالكف العزلاء، ولا انتصر عليه بخشبة جرداء، إنما لطم القوة بالقوة، ورد التيار الكاسح بتيار مضاد، فكيف يقال فى وصف صنيعه: إنه انتشر بالسيف؟ وهب الأمم المتطلعة، والشعوب المسجونة، قدرت هذا الصنيع، وأعجبها مسلك أصحابه، ورأت دينهم مطلع فجر جديد، فدخلت فيه أفواجا، وأصبحوا لحملته أخوانا، فهل ذلك ذنب الإسلام؟. إنه ذنبه الأكبر عند الرومان الأقدمين، وعند المستعمرين المحدثين!! قال الأستاذ رشيد سليم الخورى منوها بالجهاد الإسلامى ومنددا بمظالم المستعمرين: فتى الهيجاء لا تعتب علينا وأحسن عذرنا تحسن صنيعا تمرستم بها أيام كنا نمارس فى سلاسلنا الخضوعا فأوقدتم لها جثثا وهاما وأوقدنا المباخر والشموعا! إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد، وأهجر يسوعا! "أحبوا بعضكم بعضا". وعظنا بها ذئبا، فما نجت قطيعا! " فيا حملا وديعا " لم يخلف سوانا فى الورى حملا وديعا غضبت لذات طوق حين بيعت ولم تغضب لشعبك حين بيعا إلا أنزلت إنجيلا جديدا يعلمنا أباة لا خنوعا؟ شفعت لنا أمام أب رحيم وما نحتاج عند أب شفيعا أجرنا من عذاب النير لا من عذاب النار أن تك مستطيعاص_125(1/130)
6- الحق والحرب لا تعتبر دعوة ما منتصرة إلا إذا بلغت أهدافها المرسومة، وأقامت أركانها الأصيلة، فإذا تخلت عن شىء من ذلك فإن انتصارها ينقص بمقدار الأجزاء التى تخلت عنها، وعندما نستيقن أنها تنازلت عن أركانها وأهدافها جملة، نحكم- دون تردد- أن الذى انتصر شىء آخر غيرها، وأن تسمى اسمها، ولبس زيها. فى العالم أشخاص لهم برامج واسعة فى الإصلاح، ما أن يلوا الحكم حتى ينسوا برامجهم، ويذهلوا عن ماضيهم، هل يمكن أن يعتبر هؤلاء ممثلين لرسالتهم؟ وبالتالى هل يمكن القول بأن رسالاتهم طبقت ففشلت؟ إن التعبير العدل فى وصف هؤلاء: أنهم خانوا رسالاتهم، وأن الرسالات تظلم بأمثالهم..! أعرف جماعة قتل القصر الملكى فى مصر رئيسها، لأن القصر ظن الجماعة ورئيسها خطرا عليه، ثم حدث تحول فى قيادة الجماعة، تغيرت على أثره سياستها، وتقرر بعده ولاؤها للقصر، فهل نعد ذلك نجاحا للقيادة الجديدة، واطرادا فى سير الدعوة الأولى..؟ لا...! إن دينا ما لا يوصف بأنه نجح فى الحياة إلا إذا سلمت أصوله كلها، ومبادئه وقواعده فى المعارك التى خاضها ضد خصومه، وإلا إذا حقق غاياته فى المجتمع تحقيقا ينطبق مع طبيعته السماوية، فلم تستطع شائبة من أهواء الناس أن تدخل فيه..! ونحن إذا رجعنا البصر إلى تاريخ الإسلام الأول، يوم كان الوحى ينزل، والنبى يبلغ، نجد المشركين حاولوا مرارا أن يلتقوا مع صاحب الرسالة- صلى الله عليه وسلم- فى منتصف الطريق أو ثلثه، فليترك بعض تعاليمه التى ينفرون منها، وعندئذ يؤمنون به، ويجتمعون عليه! وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا فى قوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل).ص_126(1/131)
والله عز وجل عصم نبيه عن كل مسلك يخالف الرسالة المنزلة، وأقامه على الحق لا يحيد عنه قيد شعرة: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا). وقد سرى هذا الحفاظ الدقيق من نفس النبى إلى نفوس أتباعه، فبقيت معالم الإسلام ثابتة منذ نزلت إلى يوم الناس هذا، ما شانها تحريف، ولا لحقها عوج. تختلف الدنيا بالمسلمين ما يختلفون، وينتصرون فيها ويندحرون، ويتقدمون ويتأخرون، ومع ذلك التفاوت فى أحوالهم فإن الإسلام مصون المنابع، محفوظ المصادر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وهذا وحده هو معنى انتصار الحق على الباطل- فى عالم الدراسات والنظريات. ولو أن المشركين أفلحوا فى دس شىء على هذا الدين شاب رونقه، وغير مجراه، ما جرؤنا على القول بأن الإسلام انتصر، إن الذى ينتصر فى مثل هذه الأحوال شىء آخر غير الدين، وغير الصراط المرسوم من رب العالمين! * * * نحن المسلمين نؤمن بعيسى بن مريم عليه وعلى محمد الصلاة والسلام، ونرى الرجلين من الأمناء الكبار على رسالة التوحيد، وعلى إقرار العدالة والعفاف فى الأرض، والأنبياء أخوة، جمعهم على هداية الناس هدف أكبر، يلتقون قاطبة عنده، أوجزه القرآن الكريم فى هذه الآية: (و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وقد أدى عيسى رسالته بأمانة، وجرى له ما يجرى لغيره من المرسلين عندما ينقلون للناس هدايات الله، ويحاولون فطام الجماعات عما ألفت من ظلم وظلام، وشرك وأوهام... ثارت الجاهلية ضده، وشرعت تكيد له، ولم يتزحزح هو عن موقفه، بل ثبت كالطود أمام عبث اليهود، وعسف الرومان.ص_127(1/132)
وهو لم يسقط القوة من حسابه فى مكافحة مضطهديه، ومضطهدى اتباعه، وكيف يقال أنه أسقطها، وقد جاء على لسانه- فيما يقرأ الآن من أناجيل-: " ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا"! إنه السيف يريد أن ينتصر على السيف، وهو إذا حمل السيف فالحق إلى جانبه، وخصومه من اليهود والرومان يوم يحملون السيف فى وجهه، فهم مبطلون جائرون... والأنبياء لا يحملون السيف أول ما يظهرون بين الناس، فأين أذن مكان الإقناع، والمجادلة الحسنة، وتحمل الأذى فى سبيل الله، ومصابرة الخصوم مهما أسفوا وتعنتوا؟ إن المأثور فى سيرة محمد وعيسى- عليهما السلام- من هذه الناحية يملأ القلوب احتراما وإجلالا، إلا أن محمداصلى الله عليه وسلم طالت به حياة، فقاوم سيوف المشركين حتى فل حدها، ورد كيدها، وأقام دولة الإسلام على أنقاضها، وذهب إلى الرفيق الأعلى وصحائف الوحى تتلى فى مليون ميل مربع من الأرض، ما يجرؤ كافر على اعتراضها! أما عيسى عليه السلام فإن حالة رسالته لم تصل إلى هذه المرتبة من التمكين. إن عواصف الإلحاد التى أثارها اليهود متواطئين مع الرومان، ومع بعض المنافقين من أتباع عيسى نفسه، عجلت بمصير الرسالة النبيلة، فلم يستطع هذا النبى الكريم أن يقاوم الجبابرة الذين قرروا قتله- كما تقرر قتل محمد!- فاستخفى عن الأعين حتى توفاه الله.. والمنتسبون إلى اسم عيسى اليوم يقولون: لا بل ألقى القبض عليه، واقتاده الشرطة لينفذوا فيه الحكم المقرر فقتل مصلوبا...! وسواء اقتنع الناس بالحق الذى سقناه، أم صدقوا إشاعة قتل عيسى، فإن هناك حقيقة لا يجرؤ أحد على إنكارها، وهى أن السلطات القائمة يومئذ كانت سيدة الموقف!، وأنها يوم أصدرت الأمر بقتل عيسى كانت تعنى القضاء على دينه، ومصادرة رسائله وكتاباته، وتمزيق شمل أتباعه واعتبارهم خارجين على القانون، وتنفيذ الحكم نفسه فيمن يحاول استئناف العمل بدعوة عيسى، والسير على المنهج الذى تركه. وذاك هو الذى حدث! وسواء رفع عيسى كما(1/133)
نقول أم قتل كما يقولون، فإن الجماهير التى عرفته وسمعته شملها الفزع، واستشعرت الوجل من الحكومة القائمة، وجنح المؤمنون الأوفياء إلى عبادة الله سرا، وهم متوجسون من انكشاف أمرهم.ص_128
والذين وفوا لعيسى بعد وفاته كثير، وقد ظلوا فى الظلام سنين عددا، وإيمانهم بالله جل شأنه وثيق، وتقديرهم لنبيه عيسى عظيم. على أن الدولة لم تخفف من ضغطها، ولا رجعت عن سياسة البطش التى تبعتها. وفى حومة هذا الصراع اليائس، وعلى طول المدى دون جدوى، أخذ تحول كريب يطرأ على بعض الاتباع، وهو تحول هدفه تقريب الشقة بين الجماعة المضطهدة والمجتمع الحاكم، ولو كان على حساب الديانة نفسها، وأعلن على هذا التحول ما ساد المسيحيين من بلبلة فكرية عامة بعد اختفاء عيسى، فإن حياة الظلام أخصب البيئات لرواج الإشاعات، وسيطرة الأوهام وتشويه الحقائق... ولما كان المجتمع الحاكم وثني العقيدة والسلوك، فقد أخذ المغلوبون على أمرهم يقتربون فى تصور دينهم وتصويره من خصائص الأمة التى يعيشون فيها. وللوثنية دعائم تقوم عليها، فهى تؤمن باله كبير بعيد، له أولاد يرمز إليهم بالأصنام- وهى الهة صغرى قريبة- وقد ندد القرآن الكريم بهذه الأفكار العليلة: (ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون). (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق). * * * وجعل عيسى ولدا لله، ثم إلها معه، كان حركة اقتراب من الديانة المضطهدة، نحو الديانة التى تقوم عليها الدولة... وبذلك انهزمت عقيدة التوحيد الخالص التى جاء عيسى بها، وشابها هذا الشرك الدخيل فزحزحها عن أصلها. ومن معالم الوثنية: أنها تتوسل بلهتها الصغرى، وترتقب الخير من التعلق بها- بوصفها ذات صلة خاصة بالله الكبير- ولذلك يعتبر هؤلاء أن الشركاء شفعاء! والقرآن الكريم ينفى أن يكون لأحد عند الله شأن من هذا القبيل: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل(1/134)
لله الشفاعة جميعا).ص_129
وقد سرى هذا المعنى إلى المسيحية الجديدة، فإن ابن الله جدير أن يكون شفيعا عنده، فكيف إذا كان هذا الإله قد حل فى ابنه؟ إن الاتصال به وحده يكون أجدى!! ومن مظاهر الوثنية تقديم القرابين لتكفير الخطايا، ولما كان إنشاء مذابح يتجمع حولها الخطاة، ويتزلفون فيها إلى معبودهم بنحر القرابين بين يديه، لما كان ذلك متعذرا بالنسبة إلى المسيحية، فقد اعتبر مقتل عيسى هو القربان الذى تكفر به كل خطيئة. والمهم هو الإيمان بهذا المقتل لهذا الغرض! فذاك سر الخلاص من الذنوب كافة! ولذلك يسمون عيسى " المخلص ". أليس هو القربان الذى فدى بدمه ذرية آدم؟ ويتبع ذلك شىء خطير. إن الوثنية تدع السلوك الإنسانى طلقا، يعب من مشتهياته ما يبغى، ويكفيه بعد - لاسترضاء الآلهة- كلمة اعتراف بها، أو اعتراف لها، ثم يخرج الإنسان من خطاياه كما يخرج من ملابسه!! وقد قامت النصرانية الجديدة على هذا النحو، فانفصل فى تعاليمها الرباط الوثيق بين العمل وجزائه، وبين الإنسان ومسئوليته، واقترن هذا العوج بعقيدة الصلب والفداء نفسها، ومن ثم تجد المجتمعات التى سادها هذا التحريف، لا تبالى ما تصنع، ولا ما تدع فهى تحيا كيف تشاء... ومن البديهى أن تخف حدة الخلاف بين الدولة الحاكمة وبن المسيحيين المعذبين، بعدما انتقلوا بديانتهم إلى هذا الطور المرضى. ومازالت دائرة الخلاف تنكمش حتى تنصرت الدولة نفسها بتنصر الإمبراطور الرومانى " قسطنطين ". والسؤال الذى لا نتردد فى الإجابة عليه بعد ذلك: هلا يعد ذلك انتصارا للدين السماوى النازل من عند الله! هل ذلك انتصارا لعيسى بن مريم؟ والجواب: كلا. بل ذلك انتصارا للوثنية! إنه سحق تام لكل ما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام من تعاليم ووصايا.ص_130(1/135)
لقد سألنى البعض: هل انتشرت نصرانية عيسى بن مريم بالسيف؟ فقلت له: لا.. لأن السيف قضى عليها! وفى ظله حورت الوثنية الحاكمة بقايا الديانة المأكولة فى شكل جديد، يوافق ما عليه الأمم. فأين مجال الصراع بين الحق والباطل؟ لقد ذابت شريعة عيسى وتلاشت أمام الضربات الأولى، وانفردت بالحكم هذه الأخلاط الجديدة من أهواء الناس، مصبوبة فى قالب دين سماوى! وذاك على عكس الإسلام: فإن الحرب التى نشبت بينه وبين الوثنية، لم تضع أوزارها حتى ديست مأثرها تحت الأقدام، وبقى القرآن حرفا حرفا تحمى صحائفه، بقى تقيم حدوده دولة مهيبة السلطان! وظاهر أن القدر الأعلى زود رسالة محمدصلى الله عليه وسلم بما يجنبها المصير الذى انتهت إليه رسالة عيسى، وإلا لتحول الإسلام إلى فلسفة جديدة يضيع منها التوحيد النقى، وتكثر فيها خرافات البشر، مثل ما حدث للدين الذى سبقه. وظاهر كذلك أن المسلمين على دين عيسى ابن مريم الذى بلغه عن الله، قبل أن يقحم الناس عليه مشكلات النبوة، والتثليث، والصلب، الفداء..! وأن عيسى عليه السلام- لو بعث حيا- ما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بأن قرآنه هو الصورة الصادقة للدين الحق منذ بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأن إنجيله- فى شرح العقائد، وتقرير الإيمان- لا يختلف بتة عن هذا القرآن... *** كان التحريف الذى دخل على ديانة عيسى شؤما على العالم كله، فإن الوثنيات الأرضية مهما تعصبت تحس أخر الأمر أنها تجانب الحق فى تقديسها لبعض أشياء هذا الكون، حيوانا كان أم جمادا. أما بعد أن تشتبك بعنصر سماوى وتلبس أهابا عليه طابع الوحى، فإن تعصبها لا ينفك عنها، وهو تعصب معزول عن البحث والتفكير، جرثومته الأولى: وراثة تقاليد تحيط بها مشاعر حارة، وخيالات مائعة... والصليبية المتخلفة عن تراث عيسى- وهى عليه غريبة- لم تقبل معايشة مبدأ أخر إلى جوارها، ولم تعرف سلاما فى خصومتها للآخرين... ولذلك حظرت على دعاة(1/136)
الإسلام منذ ظهر- كما حظرت على دعاة التوحيد من قبل- أن يرتفع لهم صوت حيث تسود...ص_131
وليتها إذ حظرت حرية العقل والضمير، أسكنها أن تبنى المجتمعات على الإخاء والسماحة والمساواة والعدالة، لقد فشلت فى ذلك فشلا يبعث على الأسى. فما قام باسمها إلا هاجمت فيه غرائز الاستعلاء والأثرة، وعربدت فيه طبائع الظلم والاستبداد والقسوة، خصوصا بين الأجناس المغلوبة على أمرها، أو التى عرفت بالمخالفة فى الرأى.. ومن أين فيء الصليبية بهذه الخلال العليا، وأساس نشأتها ما علمت؟ لقد نتج عن ذلك أن الإنسانية المتوارية فى هذه الأغلفة الصناعية من التدين المدخول، والكهانة الزائفة، تمردت بعد طول ركود، ثم كفرت بالدين كله. نعم مكثت هذه الصليبية نحو سبعة عشر قرنا تضم تحت جناحيها الألوف المؤلفة من البشر، وتسيرهم فى سراديبها المظلمة، فما قامت لهم حضارة، ولا ازدهر بينهم علم، ولا استفاد العالم منهم شيئا، حتى انفجرت النهضة الأوروبية الحديثة انفجارا أطاح بسلطة الكنيسة فى ميادين العلم والاجتماع، ثم أخذت هذه النهضة العلمانية تنتشر رويدا رويدا فى أنحاء الدنيا.. والتقدم الصناعى والرقى المادى فى الغرب لا صلة لهما بالدين، بل إن أردت الحق المجرد ما نما ونضجا إلا بعد التحرر من القيود الكنسية الثقيلة.. وهناك كثرة هائلة من البشر لا ترى فى الصليبية أبدا ما يملأ فراغها الروحى أو يوائم سلامتها العقلية، وهى لذلك كافرة بها كل الكفر. إلا أن الإنسان هو الإنسان، لقد ارتقى ماديا فى الغرب، وألفى نفسه بغتة وبيده مفاتيح الأسرار وقوى كونية كبيرة.. ماذا يصنع بها؟ وكيف يتصرف فيها؟. لقد وقف عليها بجهده الخاص فليستعملها فى منفعته وحده! وليشبع بها رغائبه فى المزيد من المتع، والمزيد من التسلط، والمزيد من الاستعلاء فى الأرض إا.. وهنا يجىء دور الصليبية التى انكمشت أمام أشعة العلم دهرا طويلا؟ يجىء دورها لا لتعلم الإنسان أن يحسن التصرف فيما منح من(1/137)
تفوق وتمكين، ولا لتقول: اتق الله فيما أوتيت، واستخدمه فى دعم الإخاء والسلام، كلا كلا، إنها لا تعرف شينا من ذلك، ولا تحب أن تعرف. لقد جاء دورها لترافق الغزاة وهم يبيدون الأجناس، وجاء دورها وهى ترمق المجتمعات وقد تحولت إلى مواخير، لتقول للناس: هيا إلى الاعتراف ونوال المغفرة..!!ص_132
طبيعتها القديمة هى هى فى استرضاء الغالبين وتملق الأقوياء، والنزول عن العقائد الصحيحة، والسير فى ركاب الآخرين.. حتى لو كان الآخرون خصومها السافرين؟ نعم، ولو !! لقد ملك اليهود المال والجاه، فلا بأس أن تتكاتف معهم لقتال الإسلام وإن كان اليهود- فى زعمها- قتلة عيسى، ومتهمى أمة بالإفك، نعم، وإن كان المسلمون يوقرون عيسى، ويبرئون أمه مما يشين..!! إن تدين الصليبية غريب، والفجوات العقلية بين فقراته، ثم بينها وبين النفس الإنسانية، تسمح بقبول المدهشات.. *** هناك قضية يثيرها دائما أولئك الذين يكيدون للإسلام منذ أيامه الأولى.. من اليهود وغير اليهود، ممن يرون فى الإسلام خطرا على أطماعهم، أو إضعافا لسلطانهم. وتقوم هذه القضية على دعوى أن الإسلام دين قام على القوة، واستند إلى السيف فى نشر مبادئه وتعاليمه، وأنه حمل الناس حملا عليها، ولولا هذه القوة القاهرة لما قدر لهذا الدين أن يقوم، ولو قام لما كان له هذا العدد العديد من الأتباع المؤمنين.. هذه هى القضية التى كثيرا ما يتخذ منها ذوو النوايا الخبيثة سبيلا إلى الطعن على الإسلام والنيل منه، وإظهاره بمظهر النزعات البربرية التى تهجم على الناس فتسلبهم حرية الرأى فيما يحملون عليه من قبل الغزاة الفاتحين. وعندى أن غاية هذه الدعوى لا تقف عند تشكيك الناس فى هذا الدين وصرفهم عنه، فإنها من هذه الناحية لا تستند إلى منطق، ولا تقوم على حجة، ولا تقع من العقل موقع الإقناع والاطمئنان ، حتى عند أشد الناس عداوة للإسلام وكيدا له. ذلك أنه لو كان الأمر أمر قوة وحدها لما كان لهذه الدعوى وجه(1/138)
تظهر به، وخاصة بعد أن بلغ من الذيوع، وبعد أن قطع من عمر الزمن قرابة أربعة عشر قرنا، فإن هذه القوة إن تكن قد أقامته فى أيامه الأولى فإنه يكون من غير المعقول أن تقوم هذه القوة تلك القرون الطويلة إلى جانبه تسنده وتحول بين الناس وبين الخروج منه. فما عرف الناس قوة تظل حارسة ساهرة لمبدأ من المبادئ ، أو نزعة من النزعات أكثر من سنوات معدودات.. أما أن تظل هذه القوة قرونا متطاولة من الزمن فذلك ما لم يكن ولن يكون أبدا..ص_133(1/139)
فإن القوة إنما تخدم غرضا ذاتيا يعيش فى نفس إنسان أو جماعة من الناس، ولن تتجاوز حياتها بحال حياة هذا الإنسان أو تلك الجماعة. ونفترض جدلا أن تقوم قوة ما لخدمة غاية من الغايات أجيالا متعاقبة، ونفترض جدلا أن هذه الأجيال قد تواصت فيما بينها على اتخاذ هذه القوة وسيلة لتحقيق الغاية التى تنشدها وتعيش لها. فهل حدث هذا فى المجتمع الإسلامى؟ وهل كانت القوة دائما إلى جانب الإسلام تحرسه وتدفع عنه؟ إن الأمر على عكس هذا تماما.. فالتاريخ يشهد شهادة لا شك فيها بأن دولة المسلمين التى قامت فى صدر الإسلام، والتى كان ما كان لها من قوة وسطوة.. قد تفككت، وعراها الوهن والضعف، وأصبح المجتمع الإسلامى إمارات ودويلات متخاصمة متنابذة، وخضعت كل دولة من دويلاته لقوى طاغية تضمر للإسلام كل عداوة وترصد له كل شر،. ومع هذا فقد بقى الإسلام فى قلوب أهله متمكنا قويا لا يتحولون عنه بحال، مهما أخذوا بالوان العنت والتضييق فى الرزق، ومهما عرضوا لصنوف المغريات بالمال والنساء من جانب المبشرين وغير المبشرين.. فتاريخ الاستعمار يؤلف كتابا ضخما أسود الصفحات لما كان يأخذ به المستعمرون الأمم الإسلامية بصفة خاصة، والعربية بصفة أخص، من بغى وإرهاق وتسلط قاهر على مقومات الحياة فى تلك الأمم، وخاصة ما يتصل بأخلاقها وتقاليدها المتصلة بالإسلام، والموروثة عن الأسلاف، وذلك ليضعفوا من الصلات التى تصل المسلمين بدينهم، وليوهنوا من الأسباب التى تربط العرب بأصولهم. ومع هذا كله فقد بقى الإسلام قويا متمكنا فى القلوب، لم يسلم للمسلمين شىء غيره من عدوان المستعمرين وبغى الباغين. وتاريخ التبشير فى المحيط الإسلامى كذلك يحدث عن أكبر هزيمة، وأظهر خيبة منيت بها حركة من الحركات، أو انتهت إليها دعوة من الدعوات. فما استطاعت هذه الحملات التبشيرية التى رصدت لها الأموال الضخمة وجندت لها العقول الجبارة- ما استطاعت هذه الحملات أن تختل مسلما عن دينه، أو(1/140)
تفتنه فيه..ص_134
بل كان المسلم الأمى الساذج يفحم بفطرته السليمة، وبعقيدتة السمحة الواضحة كل قائل، ويسكت كل ناطق، حين يرفع بصره إلى السماء قائلا: " لا إله إلا الله ". فإذا ادعت جمعية من تلك الجمعيات أنها استطاعت بحولها وبحيلها أن تخرج مسلما عن إسلامه، فقد كذبت وافترت لتخدع أولئك الذين يمدونها بالمال ليدوم لها هذا المدد.. فإنه وقد فاتها الكسب الديني، فلن يفوتها الكسب المادى من هذا المال ! الذى يتدفق إليها من كل جهة، وإنه لكثير. وقد يكون فى هذا القول مجال لمن يكابرأو ينكر، بحجة أننا ندافع عن الإسلام لأننا مسلمون! ولكن ماذا يقول مكابرأو منكر فى هذه الصرخات المدوية التى يرسلها المبشرون من كل مكان، مستعدين قوى الاستعمار على أى فرد من المسلمين يدخل عليهم فى مواطن التبشير بين اللادينيين، فإنه حينئذ ينقض غزلهم، ويفعل فى تلك المواطن وحده ما لا تفعله حملاتهم الكبيرة القوية المنظمة المستندة إلى قوة المستعمر وسلطانه *** نشرت مجلة " ايتودر " اليسوعية، التى تصدر بمدينة بروكسل، بحثا عن الحركة التبشيرية فى منطقة بحيرة تشاد فى إفريقيا الاستوائية، وهى منطقة تقع على مفترق الحدود بين المناطق الإسلامية وغيرها من مناطق اللادينيين والمسيحيين، تقول هذه المجلة: إن عدد سكان هذه المنطقة- منطقة بحيرة تشاد- يبلغ نحوا من مليونين ونصف مليون.. وكانت أغلبيتهم إلى سنوات قليلة من الوثنيين فإذا الآن بمليون وأكثر يصبحون مسلمين تحت تأثير الدعوات التى يقوم بها بعض الأفراد من التجار ومشايخ الطرق! وقد تحدثت المجلة عن حركة الزعيم " رياح " التى قامت فى سنة 1955 فى تلك المنطقة، وكان لها أثر فى نشر الإسلام فقالت: " حاربت فرنسا هذه الحركة حربا مبيدة قضت على أنصار هذا الزعيم، ولكنها لم تستطع أن تقتلع الجذور العميقة التى تركتها هذه الحركة فى أهل هذه المنطقة التى يسكنها الآن نحو أربعمائة ألف عربي، لهم شخصيتهم ونفوذهم،(1/141)
وأنظمتهم الاجتماعية ". وتستعرض المجلة الموقف الآن فتقدم الإحصاء التالى للوضع الدينى فى منطقة بحيرة تشاد: المسلمون: مليون مسلم. المسيحيون الكاثوليك واحد وعشرون ألفا. المسيحيون البروتستانت: ثمانية وعشرون ألفا.ص_135
تريد المجلة من هذا البيان أن تستثير الشعور التبشيرى والاستعمارى لينشطا معا فى هذه المعركة، وليقفا فى وجه الإسلام المندفع بمبادئه السمحة وحدها، دون أن تدفعه قوة من تلك القوى التى يملكها المبشرون والمستعمرون! وتذهب المجلة إلى استعداء السلطات الاستعمارية فى مدينة "برادرفيل" لا على المبشرين الكاثوليك، وطريقتهم التبشيرية المفضوحة، فإن ظهورهم بهذا المظهر السافر يحرك مشاعر المسلمين، فيترتب على ذلك قيام كثير من الفقهاء بمقابلة هذا التبشير بتبشير مثله، ثم تكون النتيجة: انتصارا للفقهاء، وهزيمة للمبشرين! وقد حدث هذا فعلا، فدخلت منطقة " وديون جور" بأكملها فى الإسلام.. وتخلص المجلة من هذا " إلى أنه من الخير أن يكف المبشرون عن التبشير، أو يجدوا لهم أسلوبا لا ينبه فقهاء المسلمين إليهم! ". هذه شهادة لم يرد بها أصحابها أن يخدموا قضية الإسلام.. ولكنها كشفت عن حقيقة لا مراء فيها هى أن الإسلام- كدعوة- لا حاجة له إلى القوة لينفذ إلى القلوب ويتصل بالعقول، وإذا كانت هنا دعوة، تحتاج إلى القوة، وإلى غير القوة، من وسائل الإغراء فلا شك أنها غير الإسلام! نقول هذا لنبين أن هذه الدعوى القائلة بأن الإسلام دين قام على السيف دعوى كاذبة مضللة لا يراد بها النيل من الإسلام وتعاليمه، بقدر ما يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم.. فتلك دعوى خبيثة يراد بها أن تنهزم فى نفسى المسلم معانى القوة، لأنه أراد أن يسقط تلك الدعوى فما عليه إلا أن يتجرد من كل سلاح، وما حاجته إلى هذأ السلاح إن كان دينه لا يستند إليه؟ هذه هى الحركة النفسية التى يقدر لها أصحاب هذه الدعوى الخبيثة الماكرة أن تنفذ إلى نفوس المسلمين، وأن(1/142)
تفعل فعلها فى تفكيرهم، فتصرفهم صرفا عن كل سبب من أسباب العزة، وبذلك يخلو لهم الطريق إلى إذلال المسلمين، والاستبداد بأوطانهم وبأرزاقهم! والذى يضاعف من أثر هذه الدعوة، أن كثيرا من المسلمين يدفعهم دينهم، ويغريهم هذا الكذب الصراح بأن يرثوا على هؤلاء المفترين، ويدخلوا معهم فى جدل، ليدفعوا عن الإسلام هذا الكذب الوقاح، وليدحضوا هذا القول المفترى! والرأى عندى أن لا حاجة للإسلام، ولا خير للمسلمين فى أن نقف من هذه الدعوى موقفا جادا.. فلندعها تمضى، ولندع المتخرصين بها يقولون ما يقولون..ص_136(1/143)
بل أقول باكثر من هذا، أقول: ليكن أن الإسلام قام على السيف فماذا يضيره من هذا، وما ينفعه إن لم يكن قام على السيف بعد أن سلك الإسلام طريقه، وقامت دولته؟ إن الذى كان يجب أن يكون موضع الطعن فى الإسلام لمن تسول له نفسه الطعن فيه أن يتجه بذلك إلى مبادئه وإلى أحكامه... أهى حق أم باطل؟ أهى خير للإنسانية أم هى شر ووبال عليها؟ وهل سعدت الإنسانية فى ظله أم شقيت؟ وهل هذه الملايين التى تدين بالإسلام اليوم مكرهة عليه، وواقعة تحت قوة قاهرة تحملها عليه، وتلجئها إلى التمسك به؟ هذا ما كان ينبغى أن يكون مدار هذه الدعوى، إن كان لابد من دعوى يدعيها أعداء الإسلام. أما تلك الدعوى التى تتجه اتجاها مباشرا إلى تجريد المسلمين من القوة، وخلق عقدة نفسية بينهم وبينها، فذلك هو الغرض الذى تحاول تلك الدعوى أن تحققه فى المجتمع الإسلامى، ليتعرى هذا المجتمع من القوة وأسبابها، وبذلك تستطيع أن تتسلط عليه، وتنفذ إلى صميمه. * * * * نبى الحق: ما جدوى الحقيقة إذا استخفت تحت أطباق من الجهل؟ أو توارت تحت حجب من الهوى، فلم يعرفها أحد ولم يظفر بها إنسان؟ إن الحقيقة التائهة أو الضائعة كنز مفقود فى بيئة يائسة، أو دواء مهمل بين طوائف من المرضى والمهازيل..! وكثير من الناس يجيء إلى هذه الدنيا ويخرج منها وهو محروم من معرفة الحق والاهتداء به. يقضى جل عمره صريع أوهام غالبة، أو أهواء طامسة، فما يدرى عن حقيقة الوجود إلا ما يدريه الأعمى عن مسير الأشعة ولمعان الشروق أو زهر الشفق! وغلبة هذه الجهالة تجعل المرء يتساءل: أهناك تنافر بين طبيعة الحياة وسيادة الحق؟ إن الأمم تفور كالقدر الطافح، فإذا ذهبت تبحث عن سر هذه الفورة لم تجد إلا ضلالا!ص_1ص(1/144)
والعصور تنقضى على بعض الأفكار الرجراجة فإذا الإشاعات- التى بها- تتحول إلى عقائد، والخرافات تنقلب إلى تقاليد يحوطها التعصب، ويساندها القانون! وعندما ترقب سلوك الأفراد والجماعات ترى أحيانا أن الحاجة هى الحق. الجائع الذى يطن فى أذنه نداء المعدة الخاوية يرى الرغيف أصل الحياة. والمظلوم الذى نزل به ضيم وتحرك فيه طلب الثأر يرى تشفيه أساس النظام. والطامع الذى تضطرم فى نفسه آمال عريضة يحسب أمنيته مبعث الاستقرار. فإذا تضخمت هذه المعانى- بتطورها من دائرة فرد أو أفراد، إلى دائرة أمة أو أم- كانت آثارها أوسع نطاقا، وأبعد آمادا. وهكذا تنكمش الحقائق، وتتلاشى تحت ضغط المأرب الخاصة، والمطالب المحدودة، وربما تلاحقت السنون، وتعاقبت الأجيال، والناس فى شغل بما يسيطر على أفكارهم الضيقة، فهم لا يدرون شيئا عما وراءه، ولو كان ما وراءه سر الحياة، وحكمة الوجود، وكنه المصير! وفى مجال البحوث النظرية، والعلوم الكونية، قد يغيب الحق لقلة المعرفة، أو شيوع الجهل، أما فى المجالات النفسية والخلقية والاجتماعية والسياسية، فإن الحق يغيب- على الأكثر- لغلبة الهوى، وسيطرة الشهوات. وقد يكون الحق قريب التناول، ولكن الغرض المستحكم يحيل قربه بعدا، ويجعل الأخذ به عسرا صعبا. وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالم، والعامة لا تعرف عن الحق شيئا، والخاصة تحلم به أملا مختصر الموضوع والعنوان. حتى إذا اتصل الملأ الأعلى بضمير النبى العربي أخذت لمع من الحق تبدو للبصائر الحائرة، والقوافل الجائرة لتدلها على الصراط المستقيم. وشرعت آيات القرآن الشريف تجلو الغشاوات التى صنعتها الأوهام، ونسجتها الغفلات، وتحذر العميان عقبى الضلال، وتغرى المستجيبين بخيرات الهدى: (و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا * و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا * قل آمنوا به أو لا تؤمنوا).ص_138(1/145)
آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن هذا التخيير عود إلى تحريك العقل، وإيقاظه من سباته، فإن بقى على جهله فلا انتظار لإيمان منه، وإن تحرك مع المعرفة الوافدة آمن. ولذلك يقول الله بعد: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا). والحق لا يصل إليه امرؤ مريض الغرائز شائه السريرة، كما لا يصل إليه فكر مضطرب المقدمات، متتبع للظنون والشائعات. لابد من نظافة القلب واللب معا، وسلامه الضمير والعقل جميعا. ولذلك يقول الله لداود عليه السلام: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون). وبعد أن يقول له: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ). يقول : (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير). ويقول فى أهل الجاهلية عموما: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين). واضلال الله لأهل الهوى- كإسقاط الأغبياء فى الامتحان- هو نتيجة عادلة لتفريطهم وتلاعبهم.. وليس إجبارا لهم على شرود- كما يظن السفهاء حين يتعرضون لفهم النصوص. ومن الظنون التى ذاعت ذيوعا هائلا- وهى لا تعدو أن تكون إشاعة ملفقة- القول بمقتل عيسى عليه السلام، ثم تأليهه على أنه رمز للفداء .ص_139(1/146)
وفيها يقول الله جل شانه: (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا). ومع هذا اليقين الجازم فإن جحافل من البشر مضت عليها عشرون قرنا وهى تصنع من هذه الإشاعة إيمانا يسانده السلاح... لقد بعث الله محمدا صلى اله عليه وسلم ، وليس للحق ظل يأوى إليه أحد فى شئون العقيدة، وأحوال المجتمع، وطرائق الحكم. كانت الجاهلية القائمة على الخداع والفتنة والسطو، البعيدة عن اليقين والصواب والهدى، تسود المشارق والمغرب، وتجعل لمسير البشر الف وجهة ليس بينها وبين الحق شبه قريب أو بعيد، فكانت رسالة محمد صلى اله عليه وسلم أن يغرس الحق فى النفوس والبيئات، وأن يقيم له شارات وركائز يعتز بها، ويأوى إليها... ليت الحق يغني عنه جوهره السليم، ورونقه الباهر، فيمنحه ذلك القبول بين الناس، بل- يمنحه فحسب- ضمان الحياة العزيزة، التى لا استهانة فيها ولا غشم. إن الأمر على العكس، فثبوت الحق شراء كير معرفته، غير الاقتناع به، غير الثبات عليه، غير الدعوة إليه، غير الدفاع عنه..! . لقد رأينا فى تجاربنا مع الأيام أن الحق غريب مستوحش، فقد نحسب خدمة الحق لا تعدو تقريره، وكشف النقاب عنه. وهذا خطأ ضخم، فإن تثبيت الحق كإحياء جسم ما، أو إدارة آلة ما، لابد له من جهود دائبة مضطردة ، وإلا أذابه الباطل، وجرفه فى تياره..! فى القضايا الصغيرة، قد يحلف الشخص زورا: أن ما قاله صحيح، ليغتصب مالا حراما، أو يستصدر حكما حائفا. وعلى ظهر الأرض كوف المحاكم لمتاعبة هذه المغالطات، ومحاولة حراسة الحق. وفى القضايا الكبيرة تقوم السياسة بين الدول على محور لا يمت إلى الحق بصلة. لقد استطاع اليهود أن يجيئوا بعشرات الدول معهم على أن العرب أصحاب فلسطين لا مكان لهم فيها!ص_140(1/147)
واستطاعت دول الغرب الثلاث- خلال هذه الأسابيع- أن تجلب بضع عشرة حكومة معها لتثبت أن مصر- صاحبة" قناة السويس"- لا تملك إدارتها، ولا تستحق السيادة المباشرة عليها..! ومن الممكن- تحت إغراء الدولار، أو وطأة القوة- جمع خمسين دولة للقول بأن لله ولدا، أو أن البعث بعد الموت خرافة... ودعوى القوى كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها! ولا شك أن الحق شىء وراء الرغبة والرهبة، والقلة والكثرة، والحاجة والاستغناء، والغرابة والألف. وأدوات البحث عنه والوصول إليه شىء غير السلاح، أو الرشوة، أو الخديعة، أو التغرير... بيد أن العالم قد تمضى عليه إعصار والعملة الرائجة فيه هذه الأدوات وحدها. ومن ثم يصاب الحق بأزمة تأخذ بخناقة، وتعرضه للتلاشي، حتى تجيئة النجدة على يد ملهم غيور! والعبء الذى حمله النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لا يتمثل فى أنه كشف الحق بعد خفاء، وعلمه للناس بعد طول جهل، إن ذلك- وإن عظم- قليل بالنسبة إلى حماية هذا الحق، ونفخ الحياة فيه حتى يقوى على الثبات فى عالم يموج بالأباطيل موجا، وتتوارثه عصبيات قائمة، وسلطات جاثمة. أى شعور كان يختلج فى فؤاد هذا النبى الكريم وهو يرمق القارات المعمورة على عهده، وهى تصحو وتغفو على نوع من العيش لا يعرف الله، ولا يقيم أمره، ولا يفكر فى لقائه. قارات يستبد بها الطيش، ويشيع فيها الجور، وتنتشر خلالها الكهانات الموقرة والحكومات المرهوبة والملوك المقدسون!. إن خدمة الحق فى هذا المجال ليست نصرته فى مجلس مناظرة أو تأييده بخطبة بليغة، أو مقالة ساحرة. كلا! فما غناء هذه الوسائل المعقولة فى عالم لا يعرف العقل؟ إن نصرة الحق- والحالة هذه- تحتاج إلى تكوين بيئة خاصة، بيئة تفقهه،ص_141(1/148)
وتحتضنه، وتفتديه، بيئة يتعهدها صاحبها كما يتعهد رب الأرض زرعه، حتى يستوى وينضج. وكذلك فعل النبى الكريم، فقد ربى بالوحى جماعة من الناس استنارت بالحق بصائرها، وكاثرت به الجماهير وهى قليلة، ولم تخش فى البقاء عليه والدعوة إليه بطش ذى سلطان، أو حنق ذى عدوان. وإلى هذه الفئة المؤمنة بالحق، الصابرة على وحشته ومرارته، وكل إبلاغ العالم كله رسالة الله جل شأنه. فمن آمن فله إيمانه، ومن كفر فعليه كفره. أما أن يمسك السكران بعصاه ليقطع الطريق فلا. أما أن يطلق الأقوياء جنودهم لإحياء ضلالة، أو وأد حرية، أو إقرار مظلمة فلا... إن الحق منذ نشأة الحضارات على الأرض عانى الآلام الهائلة من الذين ينتهكون حرمته، ويحتقرون حجته، لا لشيء.. إلا لأن أيديهم حافلة بأسباب البغى... والذين يقرأون القرآن يعلمون أن " السيف " ليست له إلا وظيفة واحدة، هى التدخل لتحكيم العقل وحده، عندما يراد ترجيح الهوى بالقهر، وتسويغ الحيف بالجبروت... إن ألف بينة وبينة لم تمنع الفرنسيين من تذبيح أهل الجزائر، وإنكار حقهم المبين. ولم تمنع الرومان قديما من استعباد أهل مصر، وجعلهم خدما ينقلون القمح من مزارعهم إلى السادة فى " روما ". فما تكون وسيلة التفاهم مع هذه النواصي الكاذبة الخاطئة إلا أن تجذ، ويراح العالمون من شرورها..؟؟!! *** على أن الإسلام ربما عذر القاصرين عن إدراك الحق لتعذر وصوله إليهم، وضعف وسائلهم الخاصة لبلوغ مستواه. ومن هنا حكم علماء المسلمين بنجاة أهل الفترة وأمثالهم، ممن لم يأتهم رسول، ولم تجئهم دعوة...ص_142(1/149)
لكن التبعة الكبرى تلحق دون ريب أولئك الذين كفروا بعد تعليم وإرشاد، وأولئك الذين استجابوا لوساوس الهوى فضلوا وأضلوا. أنظرإلى خسة العناد فى قوم يقول الله عنهم: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). هؤلاء قوم جحدوا الحق عن علم.. وهم لم يجحدوه فحسب، بل صدوا عنه، ونالوا منه، واعترضوا سبيله.. ! بل هم بعد ذلك كانوا سوط عذاب لمعتنقيه، ومصدر بلاء وفتنة للداخلين فيه.. فما يصنع أهل الحق بإزاء أولئك المعتدين إلا أن يكونوا منهم على حذر واستعداد؟ إن نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم جاء إلى الناس كما وصفه الله: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم). إنه لم يكلف بإكراه أحد على الدخول فى الحق، ولن يؤاخذ عن ضلال من ضل، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة.. ولكنه مكلف بعد شرح الحق أن يقيم حوله سياجا: يرد الغوائل، ويكسر هجمات السفهاء، ونزوات المجرمين. فإن إبقاء الحق نقى الجوهر، مكتمل الضوء، جهاد أقسى من إبرازه ابتداء للجاهلين، الغافلين.. *** إن الله عز وجل وضع للناس من معالم الهدى ما يريح بالهم، ويؤمن فى الحياة سيرهم، ولكن الدنيا لم تخل فى القديم، ولن تخلو فى الجديد من أفاكين يؤثرون الكذب على الصدق ولا يستحيون من الصياح به، ويؤثرون الجور على العدل ولا يخجلون من رمى العالم بأوزاره، وكى المستضعفين بنيرانه. وهذا الصنف من الناس لو استمكن من قيادة العالم، وسياسة أموره، لملأ آفاقه بالمآثم والمظالم، وزحم أرجاءه بالضحايا والمنكوبين.ص_143(1/150)
ولمثله يساق قول الله عز وجل: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به). وهذا الزجر عن القعود مقعد الوعيد والتهديد تأديب للأقوياء، وقمع لسطوهم حتىلا يستغلوا تفوقهم المادى فى الإيذاء والتضليل. والمؤسف أن أغلب الأقوياء يضريهم ما لديهم من عدة وعدد، فينطلقون فى الأرض يبثون فى نواحيها الهمجية والفوضى، وكلما استقامت أحوال أمة من الأمم احتكوا بها لأنهم- كما يقول القرآن الكريم: (وتبغونها عوجا). وقد كان جديرا بهم أن يقدروا نعمة الله عليهم، وأن يتخوفوا نتائج العبث بها واللعب فيها، ومن هنا يستطرد النظم الكريم، مخاطبا أولئك الغافلين: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين). نعم: إن الله خير الحاكمين، وفى كل صراع بين الحق والباطل يقرر الله حكمه الحاسم: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). وفى كل صراع بين الجبابرة والمستضعفين، يتأذن الحق بنصرة المظلومين وإن طال المدى ولذلك يقول الله لهم: (لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم). وذلك على شرط أن يعتصموا بالله ويستمسكوا بهديه ، ويعتزوا بحوله: (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد). ومن أدب الإسلام فيما ينشب بين الناس من نزاع، أن يتشبث المؤمن بالسلام، وألا يهيجه إلى القتال نزق طارىء ، أو هوى جامح.ص_144(1/151)
بل يجب أن يطاول، ويجنح إلى المعروف، وكلما وجد مجالا للصلح سار فيه، أو فسحة لأرجاء الصدام تمسك بها، حتى إذا لم يبق من سفك الدم بد، وحتى إذا حمل على الحرب حملا خاض غمارها وهو أثبت الناص جنانا، وأقواهم بنانا. وفى هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتم فاثبتوا ".والحقيقة أننا نواجه فى هذه الأيام ضروبا من الاستفزاز تستثير الحليم. بيد أن ذلك لن يفيدنا إلا ضبطا لأعصابنا، وبصرا بمواطىء أقدامنا، وحقيقة مطالبنا" فإذا طاش لب العدو، وانفلت من قيوده انفلات الوحش، تلقيناه بعزم لا ينثنى، وقوة لا تهن . وما يجوز لمؤمن أن يفرط فى ذرة من حقه رهبة من بطش، أو خوفا من عدوان، كلا. فقد نبه النبى صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة الكفاح الدامى فى المحافظة على الحقيقة والمحافظة على الحقوق. " جاء أعرابى إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم يسأله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ قال: لا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلنى؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟. قال: هو فى النار. قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: فأنت شهيد ". وليس أعدل من حرب تخوضها وقد أكرهت عليها إكراها، حملك الطاغون على أن تصلى نارها ذودا عن حماك المستباح، وجانبك المضيم ، وحقوقك المسترخصة. هذه الحرب يجب أن تخوضها وأنت تحس تأييد السماء، ورعاية الله جل شأنه، فأنت ترجو نصره، وترقب عونه، أما أعداؤك فهم يخوضونها وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقد أمر الإسلام ألا نألو جهدا فى كفاح المعتدين، وأن نبذل المال والدم والروح عسى الله أن يكف بأسهم، ويرد كيدهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنفق نفقة فى سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف ". وقال صلى اله عليه وسلم:! من جرح جرحا فى سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجىء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك ".ص_145(1/152)
وقال صلى الله عليه وسلم: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ". وفى رواية: "من أريد ماله بغير حق، فقاتل فقتل فهو شهيد ". وعندما يعلن النفير العام يجب أن تتعاون الأمة كلها على كسب معركتها، وعلى النيل من عدوها بكل وسيلة على نحو ما قال الله فى كتابه: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد). إن الفوضى الدولية أخذت مرة واحدة تهدد العالم، وتملأ مستقبله بالغيوم والرعود، وهى فوضى ينشرها الأقوياء المغرورون، ليجعلوا العلاقات بين الأمم خاضعة لنوازع الهوى، ودوافع الشهوات، بعيدة عن وحى القانون، وضوابط الضمير، وأبعد من ذلك كله عن مرضاة الله، وهداية السماء... وهذه الفوضى مالت علينا تبغى اجتياح كل ما حصلنا عليه من أرباح وتقدم فى نهضتنا الحديثة، إنها عود للجاهلية الأولى بكل ما شأنها من سوءات وعيوب. إنها همجية فى وسائلها وتفكيرها، يمدها حقد دفين، وغل قديم ضد العروبة، وما تحوى العروبة من صحائف الوحى، ومنارات الحق... ألا فلنصح على الواقع الكالح، فليست المعركة معركة القناة، ولكنها معركة الحياة. وليست المسألة اغتصاب جزء من أرضنا، ولكنها الإجهاز على تاريخنا برمته، حتى لا يبقى فى هذه البقاع حياة ولا إيمان. فاتقوا الله وجاهدوا عوامل الشر. قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: " إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد فى سبيل الله ". * * *ص_146(1/153)
7ـ حول قيام إسرائيل... أكاد أجزم بأن الأمة العربية والإسلامية فى مطالع هذا القرن لم تكن تدرى شيئا عن الخطة الهائلة الموضوعة لتمزيقها والتهامها. فى سنة 1897 انعقد أول مؤتمر صهيونى عالمى لإقامة وطن قومى لليهود، على أرضنا طبعا..! فأين للرد عليه مقالات الأدباء وقصائد الشعراء وتحذيرات الساسة وتكاتف المجاهدين وتراص القوى المؤمنة لمواجهة هذا العدوان؟ لقد اجتمع هذا المؤتمر وانفض والأمة المقصودة به لا تعى من نبأه إلا القليل! قد يقال: كان حديث اليهود يومئذ أحلام طامع سفيه لا يؤبه له! ونقول: كيف؟ والاستعمار الغربى كان فى هذه الأثناء يجثم على صدر وادى النيل. ويطوى أرجاء المغرب الكبير. ويجعل من قناة السويس طريقا إلى ممتلكاته فى الهند وجنوب آسيا وأكناف الجزيرة العربية؟ أكان كثيرا على الاستعمار الذى أحرز كل هاتيك المغانم أن يقتطع فلسطين، ويقيم فيها اليهود؟ كلا. إنها غفوة دفع العرب والمسلمون ثمنها من دمائهم وكرامتهم. والغريب، أنه فى أثناء الحرب العالمية الأولى صدر وعد "بلفور " وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فى أرجاء الدنيا البعيدة اشتعلت داخل البلد المكروب، فلسطين، حرب أخرى لتنفيذ الوعد الخسيس. ولنقل القطر العربى من أبنائه إلى أعدائه ومع ذلك فإن ساسة العرب فى الحرب العالمية الثانية قاتلوا إلى جانب جزاريهم وكانوا حلفاء للغرب الذى قرر ذبحهم. وقبضوا المكافأة على هذا الهوان قيام إسرائيل ركيزة ضخمة للاستعمار الخئون ودوله الطامعة الجائعة.. وعلى كل حال فقد انكشف المخبوء واتضحت الخطة بعد تنفيذها.ص_147(1/154)
واستبان أن هناك حلفا غير شريف ضدنا، طرفاه الاستعمار والصهيونية. وأن النجاة من هذا العدو المبين تستدعى تغيرا كبيرا فى فهمنا للأمور. أى تستدعى مواجهة الخطر بكل ما لدينا من قوة ووحدة. وبكل ما فى رسالتنا من حق وجهاد. إن خطة الاستعمار قامت على أساس بين هو تمزيق الرقعة العربية والإسلامية. وجعل كل مزقة كيانا ماديا، ومعنويا لا صلة له بالآخر فى ميدان السياسة الداخلية أو الخارجية. ولما كانت روابط الدين واللغة والتاريخ والمصلحة توحى بالتجمع ذيادا عن الحياة الصحيحة لأمتنا، فإن الاستعمار أوهن هذه الروابط جميعا واجتهد إما فى إماتتها أو تأخير مرتبتها،. ونشأ عن هذا المسلك أن العربى فى فلسطين أصبحت له جنسية خاصة، تجعله غريبا عن أخيه فى مصر الذى أصبحت له هو الآخر جنسية خاصة. ومع أن العرب رفضوا التوزيع الطارىء على حياتهم الاجتماعية والسياسية، إلا أن هذا التوزيع الخبيث فرض نفسه فكان تهويد فلسطين يتم تلقائيا، ويتغلب على المقاومة الباسلة التى يبديها عرب الإقليم المحصور داخل حدوده الجديدة. إن القوميات الضيقة التى اخترعها الاستعمار كانت نكبة على الإسلام والعروبة معا. والفرق كبير بين أن تكون " يافا " مثلا جزءا من سوريا أو مصر. وبين أن تكون بلدا فى قطر عربى آخر تربطنا به صلات الجوار والقربى. وقد استبقى الاستعمار هذا التمزيق لأمتنا الكبرى حتى حقق مأربه من إقامة إسرائيل. ماذا كان يحدث فى منطقة الشرق الأوسط لو أن الوحدة العربية حقيقة واقعة لا أمل يتردد فى نفوس المصلحين؟ وأن الإسلام روح هذه الوحدة لا النزعات الجنسية، والدعوات المنحرفة ا! أو بعبارة أخرى: ماذا كان يحدث لو أن عصابات صهيون عندما هاجمت فلسطين وجدت دولة عربية واحدة لا سبع دول، وجيشا عربيا واحدا لا سبعة جيوش. الذى كان يحدث، أن هذه العصابات- لو وجدت من نفسها الجرأة على الهجوم- كانت ستدفع حياتها ثمنا لمغامراتها.ص_148(1/155)
فأما التهمتهم أسماك البحر، أو أكلتهم سباع البر وطيور الجو... ! ولما أمكنهم بتة أن يضعوا أقدامهم على شبر من تراب الأرض المقدسة. ولكن تقسيم الأمة العربية إلى أجزاء شتى، وإقامة حدود وهمية ليعيش كل جزء معزولا عن أخيه، هو ما جعل لفلسطين قضية خاصة بها. ثم هو ما جعل الأقاليم المحيطة بها تنكب بحكام يتاجرون بقضيتها المحزنة، ويودون التوسع على حسابها. ثم هو ما جعل إنجلترا- أم الخبائث فى ميدان الاستعمار- تبذر بذور الخيانة بين الدول السبعة والجيوش السبعة فإذا الحرب التى وقعت سنة 1948 تتمخض عن مهزلة شائنة، وإذا عملاء إنجلترا من الحكام والرؤساء يخوضون هذه الحرب لا ليحموا فلسطين، بل ليخلقوا من العدم إسرائيل... إن ضياع الوحدة العربية وضعف الجامعة الإسلامية فى هذه الفترة العصيبة من تاريخ العرب كانا العون الأكبر للاستعمار على غرس هذا الخنجر المسموم فى كياننا، وتركه يعمل عمله الخبيث فى التربص بالعرب والكيد لهم.... لقد كانت الوحدة الجزئية بين مصر وسوريا بداية هائلة لكبح إسرائيل وإذلالها وطى أعلا مها، فكيف لو كانت الوحدة العربية شاملة تضم بقية الأجزاء المفتعلة على هذه الرقعة الواحدة؟. إن إسرائيل كانت ستذوب من تلقاء نفسها. إنها ما كانت لتوجد لو كانت هذه الوحدة قائمة. وما كانت لتبقى لو أن هذه الوحدة نجحت فى اجتياز العقبات التى بثها فى طريقها الخونة والمستعمرون. إلا ما أحكم عظة القرآن الكريم: (و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين) 0 (إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون).ص_149(1/156)
ماذا حدث عندما بهتت معالم هذه الوحدة ثم انمحت؟ لقد اعتبرت فلسطين بعد أن عزلت عن شقيقاتها من بلاد العرب كيانا سياسيا لا صلة له بغيره، ووضعت تحت الانتداب الإنجليزى، وشرع الإنجليز الخبثاء يمهدون لمحو العروبة والإسلام منها. - وانتفض عربها الأحرار يقاومون ببسالة هائلة هذه المحاولات السافلة. ولكن خطة الإنجليز كانت أدق، وأسلحتهم أفتك. والخونة الذين ظاهروهم من حكام العرب كثير. ومن هنا تعرض المجاهدون الفلسطينيون لنكال فردى وجماعى يذيب الحديد. وعندما نلقى نظرة على أساليب التعذيب التى اتبعها الإنجليز لتهويد فلسطين يقشعر جلدنا لفظاعتها. قال المؤرخون المعاصرون لهذه الأحداث: تفننت السلطة البريطانية فى أساليب التعذيب ووسائله واستخدمت العلم وأدواته لإنزال أشد ما يمكن من الألم بأهالى فلسيطين، والتعذيب عندهم على نوعين: تعذيب فردى لإكراه الفرد على الاعتراف. وهو يجرى عادة فى سراديب تحت الأرض. وتعذيب عام يرتكب فى الجماعات لإرهاب الأهلين وإرهاقهم وهو يجرى على ملأ من الناس فى البيوت والطرق وساحات القرى فى الليل والنهار. ***ص_150(1/157)
* التعذيب الفردى ودرجاته: ا- الزنزانة: وهى سجن ضيق لا يكاد يسع الإنسان، وطعام السجين كسرة صغيرة من الخبز الردىء مع قليل من الماء. 2- الضرب: وهم يضربون الشخص بالسياط والأيدى والأرجل حتى يغمى عليه، وتتورم الرجلان من كثرة الضرب ثم يضعونه تحت صنابير الماء البارد زيادة فى إيلامه. 3- التهديد بالقتل: يخرجون المسدسات ويصوبونها إلى وجهه ويهددونه بإطلاقها عليه. 4- الزجاج والمسامير: يكرهونه على السير فوق قطع من الزجاج والمسامير ويكرهونه على القفز فوقها. فإذا توقف ضربوه بالسياط فلا يزال يقوم ويقع والدم ينزف من رجليه ويديه وسائر جسمه حتى يرتمى آخر الأمر منهوكا أو مغمى عليه.. وينزعون ثيابه ويضربونه بألواح من خشب فيها مسامير فيسيل دمه... 5- أو يجلسونه على خشبة " خازوق " ويربطون فى رجليه أثقالا من أكياس الرمل حتى يغمى عليه، 6- أو يربطون إبهامى رجليه بسلك من الحديد ثم يشدونه حتى تكاد إبهامه تنقطع. 7- أو يربطون أعضاءه التناسلية برباط متصل ببكرة من السقف ثم يجذبون الحبل شيئا فشيئا حتى يغمى عليه وكثيرا ما قطعوا عضوه التناسلى. 8- تقليع الأظافر والشعر بكلاليب خاصة، ويشدونه من شاربه ولحيته وينتفون شعره. 9- صب الماء فى الجوف، ويصبون الماء فى فمه بواسطة قمع خاصة حتى يملأوا جوفه وينتفخ كالقربة ويتألم أشد الألم. 15- الكى بالنار: ويحمون أسياخ الحديد حتى تلتهب كالجمر ثم ينسخونه بأطرافها ويأتون بالمسامير المحماة بالنار ويغرسونها تحت أظافره. 11- التعذيب بالكهرباء: يضعون فى يديه جهازا كهربائيا ويسلطون عليه تيارا كهربائيا أقل قوة مما يكفى للموت فيرتعد ويضطرب ويختلج ولا يستطيع أن يلقى الجهاز من يديه.ص_151(1/158)
12- الفعل الشنيع. 13- سلخ قدمى المعذب وصب الزيت المغلى عليها، ونسف الرجال بالديناميت كما حدث فى قرية الذيب. 14- ينقلونه إلى المستشفى حتى إذا شفى أرجعوه إلى التعذيب ثانية. - 15- يخفون الشخص الذى يظهر عليه أثر التعذيب وأحيانا يقتلونه ليخفوا أثر الجريمة. 16- التعذيب بالإغراق- يلقونه فى البحر حتى يشرف على الغرق لإكراهه على الاعتراف. 17- المسكرات والمخدرات: يجرعونها للقرويين كرها- يصبونها بحلوقهم ويحقنونهم بالمورفين ويشممونهم الكوكايين والهيروين كما جرى مع رفاق الشهيد المرحوم الشيخ فرحان السعدى. 18- يعدون سراديب خاصة للتعذيب فى دائرة المباحث الجنائية بالقدس وغيرها فلما يجىء دور الرجل المراد تعذيبه يأخذونه إلى أقبية التعذيب وهو معصوب العينين بعد منتصف الليل وبعد إغمائه من الألم ينقلونه إلى مخفر البوليس ثم إذا أفاق يعودون به إلى أقبية التعذيب. 19- يخفون المعذبين عن أهلهم وسائر الناس لكى لا يمكنوا أحدا من زيارتهم أو معرفة مكانهم، فإذا فرغوا من تعذيبهم وزالت آثار التعذيب من أجسامهم نقلوهم إلى سجن القدس أو عكا أو معتقل المزرعة. 25- منفذو التعذيب أكثرهم من اليهود ويتولى التعذيب ثلاثة من ضباط المباحث الجنائية من الإنجليز واليهود وهم: ركز، وربنصون ، وصوفر اليهودى. ***ص_152(1/159)
* التعذيب العام: عندما يعجز الجيش عن أن ينال من المجاهدين، ينقلب إلى الفلاحين المساكين الآمنين فى بيوتهم ينتقم منهم ويشفى صدره بتعذيبهم بالضرب الشديد بأعقاب البنادق والهراوات الغليظة بلا شفقة ولا رحمة وبدون تفريق بين الصغار والكبار والرجال والنساء. ويسمون هذا العمل عملية تفتيشية. ويرتكب خلالها من الفظائع أشكالا وألوانا. وكل القرى ذاقت فظاعة التفتيش ويتخلله تخريب البيوت ونسفها بالديناميت وإتلاف أمتعة الفلاحين ومؤنهم ونهب الحلى والأموال وترويع النساء والأطفال وقتل الآمنين على قارعة الطريق من رجال ونساء وأطفال. وقد اشتهر التعذيب العام فى القرى الآتية: كفر كنا (الناصرة)، كفر مند ا (الناصرة) أكسال وأندور (الناصرة) سخنين (عكا) حيث قتلوا رجلا اسمه عبد الله الأحمد، سحماتا (صفد) ترشيحا (عكا)، مدينة صفد، سلوا ن (القدس) يالوا (القدس) بيت محسير (القدس) الطيبة (بنى صعب). قوله، سلواد، دير نظام، الظا هرية، حلحول، بيت فجار، صفورية، كفر جمال، أم الفحم، سيلة الظهر، سيلة الحارثية ، قبا طية، حطين، الرينة، شعب، الكا برى، الذيب، قا قون، جلجولية، عرعرة، حجة، ا ليا مون، عرابة، يعبد، بلعا، عصيرة، أجزم، البعينة، طيرة بنى صعب، طيرة حيفا، ميثلون، عجة وقرى الخليل. وكل قرية تعلم من أنواع التعذيب ما يذكره أبناؤها بالتفصيل مما لا يمكن إنكاره، ويكفى مجىء لجنة دولية حيادية لدرس الوثائق والتحقيق فى القدس نفسها عن الفظائع التى ارتكبها الجيش البريطانى بالرجال والنساء والأطفال مما يقطع على الحكومة البريطانية السبيل فى إنكارها المستمر والحقائق راهنة، وقد استعمل الجيش أيضا طرق التجويع والتعطيش وإسقاء الناس بولهم ووضعهم فى الكلس غير المصفى ثم صب الماء عليه حيث تهترىء أجسامهم من فعل النار وانتقاء عدد من الشبان باليانصيب لقتلهم كطرق للتعذيب العام. أما عملية منع التجول ومنع النساء يوما أو يومين أو أكثر من النزول إلى(1/160)
السوق لمشترى حاجاتهم الضرورية وحبسهن فى بيوتهن فهى من المسائل العادية التى تتكرر كل يوم تقريبا.ص_153
لقد فعل الإنجليز كل المنكرات حتى يمهدوا لإقامة إسرائيل. وأخضعوا فلسطين لعسف متصل وإذلال مروع كى يطفئوا نار المقاومة التى ظلت مشبوبة أمدا طويلا، وأكرهوا الفلاحيئ الذين ماتت أراضيهم عطشا على هجرها أو بيعها لليهود. وبذلك يتم تهويد الأرض نفسها، مقدمه لتهويد ما فوقها. وهى خطة يتبعها الاستعمار الأوروبى فى بلاد كثيرة ليجعل نكايته بالأمم المستضعفة تأخذ الطابع القانونى !! ومع أن العرب فى فلسطين كانوا ينوءون تحت ضغط الإنجليز والصهيونية العالمية فقد بقوا إلى آخر رمق قادرين على رد الضربة بمثلها، وظل المجاهدون الأحرار رابطى الجأش فى وجه المقررات الدولية الجائرة. وظاهرى الصلابة فى الانتقام لما يصيب إخوانهم من بأساء وضراء. وإليك هذا النموذج لما حدث فى شمال فلسطين، وهو نموذج لمعارك الجهاد النبيل فى بقاع شتى من الأرض المقدسة. على أثر إعلان هيئة الأمم الموافقة على مشروع تقسيم فلسطين من 29 نوفمبر سنة 1947 قامت الاضطرابات فى جميع أنحاء فلسطين ومن جملتها " حيفا" وكان الإنجليز قد اتخذوا لهم مراكز حصينة فى جبال الكرمل للدفاع عن ميناء " حيفا " فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه المراكز ضمن الأحياء اليهودية بحكم طبيعة موقعها. وعلى أثر قيام الثورة العربية سلم الإنجليز هذه التحصينات بما فيها من أسلحة لليهود الذين أخذوا يمطرون الأحياء العربية بوابل من القذائف من هذه المراكز التى تسيطر على المدينة سيطرة تامة مما جعل فريقا من المجاهدين يقوم بعدة عمليات حربية كانت آية فى البطولة والتضحية إذا قورنت قوتهم بقوات اليهود ودباباتهم وأسلحتهم. نذكر منها ما حدث على أثر تعرض اليهود لقافلة قائد حامية حيفا محمد بك الحمد الحنيطى القادمة من لبنان والتى كانت تحمل أسلحة وذخائر للمجاهدين، وقتل من فيها وذلك فى يوم(1/161)
19 مارس سنة 1948 فقد قام المجاهدون فى حيفا بنسف عمارة سوليل يونيه وهى عمارة ضخمة كان يستعملها اليهود أوكارا لصيد الأبرياء وذلك فى 21 مارس سنة 1948. وأصيب أكثر من 65 يهوديا فى هذا الحادث... وكان هناك فى شارع الناصرة متاجر لليهود وكانت قلعة حصينة بنيت فيها الاستحكامات المنيعة. وقد تمكن المجاهدون من نفسها.ص_154
أما المشغل الصناعى- رابيدا- الذى حوله اليهود إلى مصنع ألغام بعد أن كان مصنعا للمكرونة والذى نسفوا بلغامه دار منظمة الشباب العربى وعمارة سلام ودائرة الشئون الاجتماعية وخلافها فقد تمكن المجاهدون من نسفه وتدميره تدميرا كاملا وقتل كل من فيه. كما قاموا كذلك بنسف أوتيل بوست والمطحنة الكبرى التى كانت فى شارع الحجاز وكانت من أمنع حصون اليهود، هذا عدا الهجمات المضادة التى كانوا يصدون بها اليهود مع الصعوبات التى كانوا يكابدونها لقلة السلاح والعتاد، ولانقطاعهم عن القرى المجاورة. وذلك نظرا للخطة الخبيثة التى وضعها الإنجليز حيث استولوا على مداخل المدينة ومنعوا عنها النجدات وأعطوا اليهود كامل الحرية للتصرف فيها بعد أن قاموا بتدريبهم على جميع أنواع الأسلحة وزودوهم بها وسلموهم المواقع الحربية الحصينة حيث استطاع هؤلاء الاستيلاء على المدينة بعد معارك عنيفة بين قوى غير متكافئة. وبالرغم من ندرة السلاح وقدمه مع قلة العتاد والذخيرة سطر العرب صفحات خالدة من البطولة وصور نادرة من التضحيات كانت امتدادا لشهور طويلة من النضال المتواصل. هذا وقد صمدت جوالة حيفا أمام جيوش منظمة. وسلاح حديث جبار وانتهت أيامها بعد أن عاشت فى لهيب من القنابل والمدافع وراجمات الألغام والمتفجرات التى دمرت معظم الأحياء والشوارع العربية وذهب فيها المئات الكثيرة من الشهداء والضحايا. * * * بكل ما عرفت الدنيا من غدر وخسة واغتيال واحتيال تضافر الاستعمار والصهيونية على سحق فلسطين وإقامة إسرائيل. بيد أن الجولة الثانية- ويومها(1/162)
قريب- ستثأر من ذلك كله: (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله). * * *ص_155
8ـ إسرائيل والاستعمار لو أراد أعدى أعداء بنى إسرائيل أن يفضح خباياهم ويكشف طواياهم، ما تحدث عنهم بأفضح مما تتحدث به أفعالهم، وتخبر عنه أحوالهم. لقد برهنوا من تلقاء أنفسهم على أن أضغان الشعوب عليهم عدل، وأثبتوا للعالمين أن ما نزل بهم من اضطهاد على مر العصور لم يكن إلا التأديب الحق لطبائع السوء، ومصادر الشر. فما حاف عليهم جبار استباح دماءهم وأموالهم، كما لا يحيف أحد يترصد للذئاب الجائعة، ويطارد الوحوش الضادية. إن بنى إسرائيل هؤلاء ما تجمع لديهم مال إلا سخروه فى الفتنة، ولا وقع بأيديهم سلاح إلا استعملوه فى الأذى، ولا التأمت لهم جماعة إلا تعاونت على الإثم والعدوان، ولا أسديت لهم نعمة إلا جحدوا صاحبها وكفروا حقه، ومن قديم قال الله لهم : (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون * وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون). إنهم هم الذين زرعوا أحقاد العالم عليهم، وجعلوا العصور تتوارث كراهيتهم، وجعلوا كل قوى مصلح يتقرب إلى الله بتقليم أظافرهم، وتشتيت شملهم. ولو أن الناس أمنوا جانبهم يوما، أو توسموا فى قلوبهم خيرا، ما أكنوا لهم الجفاء، ولا أظهروا لهم تلك البغضاء. فى عصر النبوة عاشت عصابات من اليهود إلى جوار المدينة التى استقرت فيها الدعوة الإسلامية، وآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرم جوار القوم بوصفهم أهل كتاب، فالإسلام يذكر موسى أطيب ذكر، ويمدح كتابه أجمل مدح: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء).ص_156(1/163)
وفى ظلال هذا النسب، بسط المسلمون أيديهم بالصداقة لبنى إسرائيل. بيد أن هؤلاء تظاهروا بالمودة وقلوبهم تغلى، وقبلوا مسالمة النبىصلى اله عليه وسلم وصحبه، ثم أخذوا يرقبون الأيام لعلهم يجدون ثغرة تشبع ضغنهم. وتألم المسلمون لهذه السياسة الخادعة التى اتبعها بنو اسرائيل، وحاولوا أن يطفئوا نارها بمزيد من الإحسان والتودد، ولكن اليهود بقوا على موقفهم، إذا أصاب المسلمين شر بدا عليهم الفرح، وإن مسهم خير ظهر عليهم الكمد، وان أقبل صديق نابذوه، لان جاء عدو عاونوه. وما رعوا مع المسلمين جوارا قائما، ولا احترموا ميثاقا معقودا. ومتى كان للذئاب المسعورة عهد إذا وجدت ضحية، وتاحت لها فرصة. من أجل ذلك تنزل الوحى الإلهى يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحذر هذه العلاقات المريبة، وأن يمنع هذا اللعب الشائن بالمعاهدات المبرمة، وأن يضرب اليهود ضربة توجع ظهورهم، وتلفتهم إلى أن الغدر شؤم، وأن طريق الخيانة ذل فى الدنيا وخزى فى الأخرى. قال الله عز وجل : (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) والغريب أن سيرة هؤلاء العابثين بعد أربعة عشر قرنا لم تتغير قيد أنملة عن طليعتها الأولى. الغدر هو الغدر، والخيانة هى الخيانة، والقسوة هى القسوة، وكل ما يسخط الله ويؤذى عباده، هو هو لم تنقضى ضراوته. انظر إلى قوله تعالى : (ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون) إنه إحصاء شامل يصم اليهود بخسة لا تتخلى عنهم، ولا يتخلون عنها. غدر فى كل مرة! لم يخطئوا مرة واحدة فيوفوا بعهود الله وعهود الناس! وها قد انقضت دهور، واستطاع اليهود فى غفوة الحق، وسكرة أهله، أن يقيموا لهم دولة، أو بتعبير أدق أن يقيم لهم المستعمرون دولة.ص_157(1/164)
وفرضت على العرب- وهم فى دهشة المفاجأة- هدنة، قسمت بلادهم، وشردت إخوانهم، وطعنت فى الصميم كرامتهم. ورضى القتيل، ولم يرض القاتل. فإن معاهدة الهدنة الجائرة وقف عندها العرب خافتين، أما بنو إسرائيل الذين اتصلت حدود دولتهم هذه بمصر والأردن وسوريا ولبنان، فإن عربدة الغدر جعلتهم بين الحين والحين يهجمون هنا أو هناك. واسمع إلى الإحصاء الرسمى لغدرات اليهود على حدود مصر وحدها. فى سنة 1949، وعقب اتفاق الهدنة مباشرة وقع 116 اعتداء. وفى سنة 1950 وقع 44 اعتداء. وفى سنة 1951 وقع 187 اعتداء. وفى سنة 1952 وقع 155 اعتداء. وفى سنة 1953 وقع 174 اعتداء. وفى سنة 1954 وقع 259 اعتداء. وفى سنة 1955 وقع 276 اعتداء.... إلخ. وتميزت اعتداءات بني إسرائيل خصوصا سنة 1956 وسنة 1957 بطابع منفر من الوحشية والغلظة، فإن تمزيق الجثث وبقر البطون، وارداء الأطفال والنساء والرجال بالجملة كان ديدنهم فى كل هجوم. فى ثمانى سنوات بعد عقد الهدنة نقضت هذه الهدنة مع مصر وحدها 1112 مرة!! ولو كان هؤلاء اليهود قطعانا من الكلاب أو الذئاب، أكانت تذبح أو تعض فوق هذا العدد؟؟ إن الغدر شيمة اليهود، كما أن المكر شيمة الثعالب، ولن يزالوا كما وصفهم الله من قرون : (ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون). ثم انظر كيف أن الكفر ملة واحدة، وكيف أن المسلمين أخذوا على غرة عندما أحاط بهم فى خريف سنة 1957، جيوش ثلاث دود، تضرب أرضهم من البر والبحر والجو!ص_158(1/165)
تحركت عصابات اليهود لتحتل غزة، والتقت على موعد بثمانية وثلاثين سفينة حربية إنجليزية وفرنسية، شرعت ترجم المدينة بقذائفها؟ لتكرهها على الاستسلام لبنى إسرائيل. وفى الوقت نفسه ظهرت ثلاث بوارج أمريكية لتنقل رعايا الولايات المتحدة، ومراقبى الهدنة، وموظفى وكالة إغاثة اللاجئين !! وذلك لتدور المجزرة بين المسلمين وحدهم. إن أمريكا دولة حريصة على دماء بنيها ومن على ملتهم، ومن والاهم !!! وما أن طلع الصباح الأخير حتى كان الجيش الإنجليزى يحتل غزة. ثم انقضت فترة الظهيرة، وأقبلت بعدها عدة سيارات تحمل اليهود الذين قيل عنهم: إنهم هزموا العرب، ودخلوا المدينة ظافرين !! أما فى خان يونس فإن المناضلين المسلمين ردوا اليهود مرة بعد أخرى، وألحقوا بهم خسائر فادحة حتى تدخل الإنجليز واستولوا على القرية الجريحة بعد أن استشهد فيها نحو ألف بطل. وكذلك الحال فى رفح ، وفى شبه جزيرة سيناء. كانت القوات الفرنسية والإنجليزية تمهد السبل أمام اليهود، وتستطيع بتفوقها الهائل أن تفتح المغاليق، وتزيح العوائق، ثم ينطلق اليهود بعد ذلك ليضعوا أيديهم على البلاد وأهلها. وتنطلق ألوف الإذاعات فى الوقت نفسه تنوه بانكسار العرب، وذوبان مقاومتهم أمام حماس اليهود، ونظامهم ورجحان كفتهم! كل ما تغير بعد هذه القرون الطوال أن بنى إسرائيل يشرعون أسلحتهم فى وجوهنا مستندة إلى الاستعمار الغربى ، بل إن هذا الحليف الجديد لا يكتفى بمساندتهم، بل يقويهم إذا ضعفوا، وينصرهم إذا انهزموا، ويغنيهم إذا افتقروا، ويؤيدهم فى كل مجال بما يطلبونه من خصام أو سلاح أو رجال.. وقد كان فى قدرتنا أن نكسر صولة اليهود لو أنهم هاجمونا وحدهم، غير أن عبء الكفاح تضاعف علينا، بعد المظاهرات المزدوجة التى رتبها الاستعمار الغربى مع بنى إسرائيل، وهذا العبء الثقيل لا يرتاع له مؤمن، ولا تتوجس منه أمة تعتمد على الله الكبير.. *** إن أمتنا من أزمنة قديمة كانت تبتلى بكثرة(1/166)
الأعداء، وطالما امتحنت بالحروب الطاحنة، تسعر ضدها فى أكثر من جبهة، ويشعل نارها خصوم أشداء الوطأة...ص_159
ومع ذلك ما أثر عنها قط أنها وهنت أو استكانت... وفى زمن النبوة شغل المسلمون بقتال أحزاب الوثنية، وعصابات إسرائيل... وفى زمن الصحابة شغلنا بقتال فارس والروم... ثم مشى تاريخنا إلى الأمام ثابت الخطو، فإذا هو يصطدم بزحفين همجيين ما كان يظن لليلهما نهار، زحفت التتار من الشرق، وزحفت أوروبا الحاقدة من الغرب... وبعد جلاد مر المذاق، خرجنا من هذه الغمة منصورين موفورين، ورددنا الفوضى المقبلة من هنا ومن هناك. وقد تنادى الأعداء علينا مرة أخرى، وتضافرت قوى الاستعمار مع عصابات اليهود لتقضى على بلادنا وإيماننا ومثلنا ومقدساتنا.. وها نحن نخوض المعركة التى فرضتها الأحقاد والأطماع... وعلينا أن نؤدى الواجب كاملا، لنخرج منها مثل ما خرجنا من معاركنا التاريخية القديمة. علينا أن نقوى صلتنا بديننا، ونوثق أواصرنا بربنا، وننمى إخلاصنا لما بين أيدينا من هدايات غالية.. فإن الإيمان الراسخ ليس قوة نفسية فقط، بل هو حصانة جماعية تعتصم بها الأمة والدولة ضد المتربصين والخائنين... ثم علينا أن نعبىء مواردنا المادية والأدبية كلها، وأن نبذل كل ما أوتينا من طاقة لدعم حاضرنا وتأمين مستقبلنا... والإسلام فى جهاده للطغاة والبغاة يستنفد كل مورد، ولحشد كل جهد... قال الله عز وجل: (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). عن أبى ذر رضى الله عنه، قلت: يا رسول الله.. أى الأعمال أفضل؟ فقال: "الإيمان بالله والجهاد فى سبيله ". وقال: " أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه "ص_160(1/167)
وروى الحاكم عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مقام الرجل فى الصف فى سبيل الله أفضل عند الله من عبادة ستين سنة.. ". إنه ما من حاكم صالح ولى أمور هذه الأمة إلا اعتمد فى سياسته على استثارة خصائص الخير فيها، وإحياء قواها الكامنة وحدها. خصوصا إذا هاجت الدنيا مطامع الأقوياء، واضطرمت الحياة بفتنهم ومأربهم. ومن هنا كان موقف الحياد بين شتى القوى الأجنبية أمرا لا محيص عنه.. بل هو فى هذه الأيام مقتضى الإيمان.. وقد حدث فى أخريات الدولة الفاطمية أن جنح بعض الحكام إلى الصليبيين، يستعين بهم على دعم سلطانه، وإعزاز شأنه، فكان جنوحه إلى هذه القوى الغازية الخائنة جناية على الدين وأهله، وخيانة للمسلمين ومصالحهم. فماذا جنى من هذه السياسة؟ إن الله دمر عليه وعلى من معه، وكانت الخيانة التى لجأ إليها هى التى خطت مصرعه. ثم أنقذ الله البلاد من عواقب هذه السياسة المعوجة، فانتصر أهلها المخلصون، وطردوا الأجانب أجمعين، وذهب من والاهم أدراج الرياح. إن نفوسنا تغزوها الحسرات عندما نسمع نفرا من ساسة العرب يبنون مستقبل بلادهم وذراريهم على محالفة الاستعمار الغربى! وعندما نسمعهم يستنكرون سياسة الحياد، ويقرون فى حرارة ورغبة أن تكون مواطنهم مسرحا لإنجلترا وفرنسا وأمريكا- وإسرائيل- (!) والحقيقة أن القوم نضبت خلال العزة والشرف من بين جوانحهم، أما عواطف الإيمان بالله، والغيرة على دينه وعباده، فقد انقضت من زمان سحيق. وإلا فأين هذا المسلم الذى يتسع ضميره لمصافحة الإنجليز والفرنسيين وأيديهم مخضبة بدمائنا؟! وأين هذا المسلم الذى يحالف الأمريكان ورئيسهم ما يفتأ يؤكد فى إسراف منكر أن إسرائيل خلقت لتبقى؟ وأن وجودها فى ضمانه وضمان بلاده التى تملك أعظم قوة فى العالم!ص_161(1/168)
إننا ننادى بسياسة الحياد! لا لعجزنا عن الثأر لما نزل بنا من لطمات مخزيات، فهل بلغ من رضا البعض بالدنية أن يركل بالقدم، ثم هو يتمسح بأذيال راكليه؟ ويريد الانضمام لمعسكرهم، والعمل فى صفهم؟ إلا فلنعلم علم اليقين أن الاستعمار الغربي أن قبل اليوم بعض الدولة العربية ذيلا له، فإلى حين قريب! وسوف يأبى عليهم حق الحياة ولو خدما! إن إنجلترا وفرنسا وأمريكا يكرهون الإسلام، ويمقتون أهله، ويصنعون لهم الشر حالا، وينوون لهم ما هو أقسى وأنكى مستقبلا. ذلك إلى جانب أن تاريخ الاستعمار القديم والحديث هو تاريخ النهب والسلب، والقرصنة وسفك الدماء وقتل الأبرياء.. مضافا إليها قدرا وفيرا من التبجح وقلة الحياء! اقرأوا معى- على سبيل المثال- هذه الفقرة من خطاب قائد الأسطول البرتغالى الذى استولى على مقاطعة " جوا " الهندية، منذ أربعة قرون.. وهو " ألبو كيرك " الذى كتب إلى ملك البرتغال يقول: ".. وبعد ذلك أحرقت المدينة- أى جوا-، وأعملت السيف فى كل الرقاب، وأخذت دماء الناس تراق أياما عدة.. وحيثما وجدنا المسلمين لم نوقر معهم نفسا، فكنا نملأ بهم مساجدهم، ونشعل فيهم النار، حتى أحصينا ستة الاف روح هلكت، وقد كان ذاك يا سيدى عملا عظيما رائعا أجدنا بدايته، وأحسنا نهايته "! عمل عظيم رائع!! أليس كذلك يا مستر دالاس؟ أكانت هذه الوقائع فى رأسك حينما وقفت فى أحد مؤتمراتك الصحفية، تنتصر للبرتغال فى قضية " جوا البرتغالية "؟ أليس كذلك يا أصدقاء مستر دالاس، ومحترفى الدعاية للأحلاف العسكرية فى ظل الدول الاستعمارية؟! أليس كذلك يا ساسة العرب؟ أجيبوا، إن كنتم صادقين؟ *** يجب علينا- نحن المسلمين- أن نتدلى من أبراج الخيال التى نعيش فيها وسط جو حالم من إيثار السماحة، واحترام حرية الفكر والضمير، وسط جو منص_162(1/169)
النظر إلى المخالفين فى العقيدة نظرة اعتذار لموقفهم، أو اعتراف بما انتهوا إليه، مهما كان رأينا فيه. نعم، يجب أن نتدلى إلى دنيا الناس هذه، لا لنتخلى عن فضائلنا، ونشارك الآخرين أساليب خصامهم! فمعاذ الله أن نقول هذا، بل لنرى- فحسب- حدود السجن الذى يحيا داخل ظلماته بعض المتعصبين، ولنرى- فحسب- مظاهر القسوة التى تقترن بأفئدتهم اقترانا لا فكاك منه! وهذه الرؤية ضرورية لاستكمال المعرفة بطبائع الملل والأجناس، وهى كذلك ضرورية لنعرف أطرافا من سير الأقوام الذين شنوا الحرب علينا، وقرروا اغتصاب أهم أراضينا منا... إننا نعتبر المخالفين فى العقيدة أندادا لنا فى الحقوق والواجبات، وفق القاعدة المشهورة: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ونحن نرى- من تقوى الله- برهم والأقساط إليهم، ونعرف أن ترويع المخالف فى العقيدة- مهما كثر المسلمون حوله، ومهما قل فى نفسه، أو فى نفره- لا يجوز ولا يقبل. ويكفى فى الدلالة على هذا ما يعرف القاصى والدانى أن نبى الإسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودى، أبى أن يبيعه نسيئة إلا برهن! ذلك والمسلمون فى الجزيرة العربية هم كل شىء، واليهود ليسوا بشىء فيها قط... فهل يعلم المسلمون الطيبون أن الأمر عند غيرهم- وأعنى اليهود خاصة- على العكس من ذلك؟ وأن من هؤلاء المؤمنين بالتوراة- كما يزعمون- أناسا ينظرون إلى مخالفيهم فى العقيدة وكأنهم من عالم الحيوان لا من عالم الإنسان. وأنهم- بعد الإيغال فى هذه النظرة- يتقربون إلى ربهم بدم هذا المخالف، يذبحونه، ثم يصفون دمه زجاجات، ثم فى الأعياد الدينية والمناسبات السعيدة (!) يخلطون دم الضحية بطعامهم وشرابهم، ليأكلوا هنيئا ويشربوا مريئا! هذا كلام لا نحكيه من عالم الأوهام، فإن القضية بحوادثها وشهودها ومحققيها سنضعها بين يدى القارئ الآن، وهى قضية شاءت الأقدار أن يكون ضحيتها رجلا نصرانيا مسكينا... والإنسان يملؤه الروع وهو ينقل المأساة، إننا نسمع فى الصحف ببعض(1/170)
الرجال فى الصعيد إذا فرطت امرأة فى عرضها قتلوها، وشربوا من دمها، ومع وحشية هذاص_163
العقاب، فأساسه مسح العار الذى يصيب شخصا أو أسرة خرجت ابنتها على تقاليد العفة، ونكست رؤوس أهلها بفعلتها... فهم يشفون غليلهم للهوان الشخصى الذى أصابهم، وهم فى ذلك الصنيع- كما قلت- وحوش. - بيد أننى ما تصورت أن يبلغ الهوس الدينى ببعض المتعصبين أن يشرب من دم خصومه فى العقيدة على هذا النحو الذى يصنع اليهود، ولا تصورت أن يكون من معالم التقوى فى دين ما تقديم قرابين بشرية يسترضى رب العالمين بذبحها! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ! لكن اليهود فعلوها، وسترى أنهم ما يزالون يفعلونها، وإليك تفاصيل المأساة، وان اقشعر لها البدن. ونحن نسجلها نقلا عن كتاب " الصهيونية أعلى مراتب الاستعمار ". وقد قال المؤلف تقدمة للحادثة: رأت بعض الحكومات حقنا للدماء، ستر بعض هذه الجرائم الفردية حتى لا توسع شقة الخلاف بين المواطنين، أو حتى لا تنقلب الثورة على اليهود إلى ثورة على النظام الرأسمالى كله، لكن هذا كله لا يمنع الحقيقة، وهى أن بعض المتعصبين المجانين من اليهود قد لطخ يديه فعلا بهذه الجرائم، حتى لقد اضطرت الحكومة الفرنسية إذ ذاك إلى حرق جميع النسخ المطبوعة من التلمود على أثر ما لوحظ فعلا من انتشار بعض هذه الجرائم البربرية فى فرنسا.. وفى سائر بلاد العالم ومن أشهر هذه الجرائم الشنيعة ما ذكره المؤرخ الفرنسى " شارل لوران " فى كتابه المثير " المسائل التاريخية عما جرى فى سوريا سمه 1845 " عن " مقتل الأب توما وخادمه إبراهيم عمار.. فى دمشق ". وقد لخص الدكتور يوسف نصر الله هذا الحادث فى مقدمة الترجمة العربية" للكتاب على النحو الذى ننقله هنا بالحرف الواحد... " وفى مساء اليوم الخامس من شهر فبراير سنة 1845 طلب الأب توما لحارة اليهود بقصد تطعيم ولد للوقاية من الجدرى فلبى الدعوة فى الحال. ولما أن شاهد أن الولد المطلوب لأجله مريض وفى(1/171)
درجة الخطر لم ير إجراء التطعيم موافقا، فرجع لديره وكان بالقرب من بيت الولد المريض دار " داوود هرارى " وكان هذا الرجل معدودا من اتقى اليهود فى الشام، وكان النصارى يبالغون فى اعتباره وتوقيره وإكرامه، حتى أنهمص_164
كانوا يقولون عنه يهودى نصراني صالح، وكان " داوود هرارى " صديقا للأب توما، فلما رآه مارا أمام داره استدعاه للدخول، فلبى الأب دعوته ودخل فوجد هناك أخا داوود وعمه واثنين من عظماء اليهود، فلما صار فى إحدى الغرف أغلق الباب، وانقض الجميع عليه كالذئاب الكاسرة، ووضعوا على فمة منديلا، وربطوا يديه ورجليه، ثم نقلوه إلى غرفة بعيدة عن مطل الشارع، والقوة هناك إلى أن أظلم الليل، وأخذوا فى الاستعدادات اللازمة لذبحه، فلما جاء حضرة الحاخام استدعوا حلاقا يهوديا اسمه " سليمان " وأمروه بأن يذبح القسيس، فخاف هذا الرجل وامتنع عن الإقدام على العمل، فجاء الرجل التقى بين اليهود... الرجل الوقور " داوود هرارى! صديق الأب توما بنفسه فأخذ السكين ونحره ". ويمضى الدكتور يوسف نصر الله فى تلخيص الحادث المروع من واقع التحقيقات الرسمية التى قدمها المؤرخ الفرنسى فى كتابه، ويذكر كيف ارتجفت يد القاتل وهو يذبح صديقه، فتقدم أخوه هارون فأكمل الذبح، وكان سليمان الحلاق قابضا على لحية الأب توما ، وكان الحاضرون يتناولون الدم فى إناء ثم يضعونه فى زجاجة بيضاء أرسلت فيما بعد إلى الحاخام باضا يعقوب العنتابي. وبعد أن تمت تصفية دم الذبيح على هذه الحالة نزعوا ثيابه عن جثته وأحرقوها ثم قطعوا الجسد قطعا وسحقوا العظام بيد الهاون، وطرحوا الجميع فى أحد المصارف المجاورة لمنزل الحاخام موسى أبى العافية، وظنوا أنهم بهذه الوسيلة قد دفنوا الحادثة فى قبر عميق، ولكن الدم البريء بقى يصرخ إلى الله كصراخ هابيل عندما قتله قابيل أخوه. فلما طال وقت رجوع الأب توما إلى ديره قلقت أفكار خادمه إبراهيم عمار، وبما أنه كان عالما بتوجه معلمه(1/172)
لحارة اليهود جاء إليها يسأل عنه، فدخل دار " داوود هرارى " وسأل من كان فيها عن سيده، فأدخلوه منزل بعض المتهمين وذبحوه كما ذبحوا معلمه، وكان الأب توما دعى لوليمة عند طبيب والى دمشق فى 6 فبراير، ولكنه لم يذهب فى الميعاد المحدد بسبب فقده قبل ذلك اليوم، وعدم رجوعه إلى الدير، وجرى البحث عليه إذ ذاك بدون فائدة... أما كشف الحادثة فكان على الصورة الآتية وهوأنه فى صباح اليوم الثانى- 6 فبراير- جاء الذين كانت عادتهم الحضور لسماع قداس الأب توما. فمن حضر منهم أولا ظن أنه نائم، ومن حضر أخيرا حسب أن القداس انتهى، والقسيس خرج لأشغاله، مع أن بعضهم قرع الباب فلم يجاوبه أحد، وبعضهم قال أنه شاهد الأب توما عشية أمس متوجها لحارة اليهود فقلقت أفكارهم، فأعلموا الباقين بالأمر، فوقع بين الشعب هيجان، وسار البعض إلى سراى الحكومة، وطالبوا بالفحص والتدقيق عن هذا الأب ".ص_165(1/173)
واشتغل قنصل فرنسا بهذه القضية، وأعطاها ما تستحقه من الأهمية، فظهر أثناء التحقيق أن الحلاق اليهودى دعى ليلا عند التاجر اليهودى " هرارى " فنظر إلى الأب توما مكتفا ومطروحا على الأرض، ثم جرى كما سلف، وعند وجود الجثة عثر أيضا على قطعة من الطاقية التى كان يلبسها الراهب وهى معروفة فى دمشق كلها. واعترف إذ ذاك سبعة من المتهمين قائلين إنه قبل الواقعة بأيام أخبرهم الحاخام باشا أنه يلزم الحصول على دم بشرى لاستعماله فى عيد الفصح القريب، فأجابه دواوود هرارى أنه سيتحصل على ذلك ولو كلفه من الأموال ما لا يعد. وكان المتهمون وقت اعترافهم محبوسين فى حبس الانفراد، واعترافاتهم جاءت متطابقة وبواسطتها أمكن استكشاف الجثة وبعض الملابس... ويختتم المترجم تلخيصه لهذه الوحشية قائلا: بعد أن تمت التحقيقات ثبتت التهمة ضد المتهمين، وتوفى أثناء المحاكمة اثنان منهم كما سنذكره، ونال العفو أربعة لأنهم أقروا بالحقيقة، وحكم على العشرة الباقين بالإعدام... وكاد ينفذ هذا الحكم لولا أن قنصل فرنسا رأى أن يعرض أوراق القضية على دولتلر المغفور له إبراهيم باشا الذى كان وقتئذ قائدا للجيوش المصرية لكى يجرى المصادقة عليها، ففى أثناء تلك المدة هاج يهود أوروبا وماجوا ، واغتنموا الفرصة فضاعفوا الوسائط الفعالة، وبذلوا الأصفر الرنان لإطفاء نيران الحادثة والتحصل على عفو عن المحبوسين وقيل إنهم قدموا 200 ألف قرش إلى وكالة فرنسا و 500 ألف قرش لأحد المحامين، ولكن لما خاب مسعاهم وطاح عملهم وثبتت التهمة وصدر الحكم، سافر اثنان من عظمائهم هما كراميو ومويز مونتفيورى منتدبان من قبل جمعية الاتحاد الإسرائيلى لإنقاذ المحكوم عليهم فوصلا مصر ورفعا عريضة لصاحب الدولة المغفور له محمد على باشا، التمسا بموجبها إعادة النظر فى الدعوى وتخليص المتهمين، فقبل دولته التماسهما مراعاة للظروف، وأصدر عفوا عن المجرمين إجابة لاسترحام عموم الشعب الإسرائيلى...(1/174)
ولا أبغى بالإشارة إلى هذا الحادث استثارة القراء واستفزاز مشاعرهم، فلو أني قصدت إلى هذا لقدمت عشرات الأمثلة والنماذج لهذه الجرائم العنصرية التى روعت أوروبا فى منتصف القرن الثامن عشر، بل لو أنى قصدت الإثارة لقدمت جريمة ذبحص_166
الأب توما وخادمه بكل تفاصيلها... بنص الاعترافات التى استخلصها المحققون من المتهمين أثناء استجوابهم، وهى تحقيقات لا ريب فيها حضرها قنصل فرنسا فى دمشق كما حضرها قنصل النمسا وغيرهما من ممثلى الدول الأجنبية التى كان بعض المتهمين- من رعاياها- قد استنجدوا بها... *** لو أن هذه المخزاة وقعت من مسلم لسجلت فى كتب التاريخ، ليقرأها التلامذة، ولأثبتت فى الجرائد السيارة ليطلع عليها الناس، ولطبعت الألوف المؤلفة من المنشورات ليعرف الغريب والقريب وحشية الإسلام، وكيف يجعل أتباعه أعداء الإنسانية جمعاء!! ولكن اليهود استطاعوا أن يطووا القصة، وأن يجعلوا الأجيال تنساها، نعم وعمل مالهم عمله فى إقناع السفراء والقناصل: بأن الصمت فضيلة، فما أن سارت الرشاء الإسرائيلية إلى جيوب الساسة الغربيين حتى خرست ألسنتهم، وانقطعت تعليقاتهم كأن لم يقع ضر بواحد منهم!! وامتلاك وسائل النشر والطى، والإعلان والكتمان أمر خطير فى صناعة التاريخ، وتوجيه أحداثه، وصياغة الأفكار صياغة خاصة فى فهمها وذوقها. وأوروبا وأمريكا تملكان الآن أدق الآلات لتحريف التاريخ الإ نسانى، ومحو ما تريدان محوه، وإثبات ما تريدان إثباته، فإذا استقرت إحدى الحقائق على الرغم منهما عملا على حصرها فى أضيق دائرة، إلى أن تتاح الفرصة لإزالتها من ا لأ ذهان. ونحن الآن فى سباق مع الطواغيت لإذاعة بعض ما انكشف من فضائح الاستعمار ومآسى التعصب، قبل أن يستطيعوا إخفاء ذلك كله عن الناس، ثم الظهور بينهم وكأنهم مثل عليا للنزاهة ونظافة الأيدى!! وقد اصطلحت اليوم الصهيونية العالمية مع الاستعمار الصليبى!! اصطلحا على قتل المسلمين فى فلسطين، وانتهاب(1/175)
مدائنهم وقراهم، واتفقت إنجلترا وفرنسا وأمريكا على إقامة دولة لبنى إسرائيل، بعد أن يطرد المسلمون العرب من أرضهم بالسيف أو بالمكر، والصلح بين الفريقين ليس صلحا بين دينين، فإن أديان الله لا تتواطأ على السرقة وسفك الدماء، ولكنه صلح بين عصابات من النخاسة على اقتسام الأسلاب، ونسيان كل مروءة وشرف...ص_167
وها قد تحركت غرائز الفتك فى بنى إسرائيل! والقربان الذى يتقرب أتقياء اليهود بذبحه ليس رجلا نصرانيا واحدا كما حدث فى القضية الآنفة، بل رجال مسلمون كثير!! رجال ونساء وأطفال هم زهرة الشباب العربى المسلم !! ودور الاستعمار الصليبى فى هذه المجزرة الجديدة أنه يضع السكين فى أيدى المتقربين إلى الله بدماء خصومهم، يضع فى أيديهم أدوات الهلاك كلها ثم يقول لهم: اصنعوا ما تحبون!! فإذا قاومت الضحايا البريئة، واستعصت على الموت، شد عليها هو الآخر؟ ليجهز عليها ؟ وليفرغ بسرعة إلى غيرها! أرأيت؟ فإذا تمت الفجيعة أسكتت صحف أوروبا وأمريكا إسكاتا مطلقا، وسكنت أسلاك البرق فما تهتز بنبأ، وخرست الإذاعات فلم تنطق بكلمة، على العكسى، تترأس حرم الرئيس روزفلت حملة جديدة كى تجمع الإعانات لإسرائيل، بوصفها الدولة الوحيدة فى الشرق الأوسط، التى تستحق الحياة!! إن اللصوص قتلوا موظفين أمريكيين فى إيران فقامت الدنيا وقعدت، ولم تهدأ الولايات المتحدة حتى سقطت الوزارة كلها، وألف الشاه وزارة أخرى. إن الدم الأمريكى غال ثمنه، أما الدم الإسلامى فهو وحده الذى يراق على الثرى كما تراق زجاجات الحبر الأحمر، بل هو وحده الذى تجمع الإعانات إغراء بإراقته، وإغراء على سفك المزيد منه!! كذلك يفعل بنا المستعمرون من أوروبيين وأمريكيين...!!! *** كان الخيال يذهب بى كل مذهب وأنا فى القاهرة استمع إلى فظائع اليهود يوم كانوا يحتلون قطاع غزة، ما أرجو من قوم مسخوا وحوشا، ثم جعلوا وحشيتهم عقيدة؟ لقد كنت أطالع الأخبار عن خنادق الموت التى عثروا عليها، ثم(1/176)
استشعر الغم الثقيل، ما هذا؟ هذه حفرة فيها قرابة سبعين جثة مذبوحة للشباب المختطفين من أهل غزة إ! وعاد بى الخيال إلى القضية التى وقعت من قرن وربع. ترى هل جثم رهبان اليهود وعبادهم على صدور هؤلاء الشباب وذبحوهم قربى إلى الله كما صنع ذلك الكاهن، أم أن الجنود تحولوا كلهم أتقياء يتقربون إلى ربهم بذبح الأسرى؟؟ إن حفرا كثيرة وجدت مليئة بجثث أخرى. وكان الأباء والأمهات يجهشون بالبكاء وهم يتعرفون على ذوى قرابتهم... ابكوا أولا تبكوا، ما جدوى العويل؟ من لم يتذأب أكلته الذئاب! وضحكت فى ألم ممض وأنا أقرأ حماقة بعض الحكام فى القطاع البائس وهم يطلبون من ضباط الهدنة التابعين لهيئة الأمم المتحدة أن يشرعوا فى تحقيق هذه الجرائم !!ص_168(1/177)
تحقيق؟؟ أما تزالون تعتنقون الخرافات، وتظنون الخير فى صناع الآثام! إن موظفى الهيئة اشتروا من زمان طويل بالمال أو بالنساء، أو دفعهم الحقد إلى التطوع دون رشوة بمحق الإسلام والمسلمين فى هذه الديار... إنها حرب دينية أيها الغافلون، استبحتم فيها واستبيح فيها كل شىء يتصل بكم، ولن تنتظروا إلا شيئا واحدا، أن يكافأ قتلتكم بمزيد من السلطان والتوسع والتمكين. وها قد صح ما توقعته، فإن دولة بنى إسرائيل بعد أن فعلت ذلك كله- بالسلاح الأوروبى والأمريكى- طلبت خليج العقبة لها بعد أن كان محظورا عليها، وكان الجواب على هذا الطلب الحبيب أن تحرك الأسطول السادس الأمريكى إلى البحر الأحمر، ليضمن حرية الملاحة " البريئة " لإسرائيل، وان تحركت فرنسا هى الأخرى لتطلب فتح قناة السويس أمام سفن إسرائيل! إن الاستعمار الصليبى يسارع فى هوى حليفته، هوى شريكته المدللة، التى تعاونه على تحطيم الكيان الإسلامى فى هذه البقعة الحساسة من العالم.... * * * * الصهيونية : الصهيونية، مذهب سياسى عنصرى مدمر، اتخذ من الدين سبيلا للتأثير على العقول، وامتلاك النفوس، ومن دعوى الاضطهاد والدموع سراديب يسلكها إلى العطف العالمى، شأن المذاهب الخبيثة التى تخالف ما بين وسائلها وغاياتها، تعطف إليها القلوب بأساليب تبدو طاهرة بريئة، ثم تنفلت فى صمت إلى أغراضها المدمرة، وأهدافها الرهيبة. تلك هى الصهيونية التى أرسى " التلمود " قواعدها، ومهد لها السبيل لتنطلق فى جنبات العالم الفسيح، وقد ارتكزت أول نشأتها على إثارة عواطف اليهود، وهيج الحنين فيها إلى " صهيون " أحد التلال التى تقوم عليها القدس حيث أقام سليمان هيكله، فمضوا مع القرون، وصحبوا الأجيال فى التماس حلمهم الذى ظلوا فى طلبه على مثل لهفة المرتقب، وحيرة الضال، فقد جاء فى دائرة المعارف البريطانية:ص_169(1/178)
" الصهيونية، هى التى خلقت مباشرة شعور الارتباط بصهيون، ذلك الشعور الذى قاد سبايا بابل إلى بيت المقدس فأعادوا تشييده. فالحركة الصهيونية اليوم هى أعظم، بل وأشهر حركة يعرفها التاريخ اليهودى منذ أقدم الأزمنة " لوسيان وولف عام 1915. وهكذا ظل الحنين ماثلا فى خواطرهم يزين لهم الجريمة للعودة إلى صهيون، ويناديهم بالعنف للسيطرة على فلسطين، وهذا نشيدهم المسمى " على ضفاف نهر الأردن " يجهر بما هو أعمق مما ذكرت: " مثل قصف الرعد الذى يشق لهيب السحب نصفين- يدوى فى آذاننا صوت صادر من صهيون وينادى قائلا: يجب أن تظل نفوسكم تواقة إلى الأبد لأرض آبائكم وأجدادكم، حتى ننقذ من يد الأعداء نهرنا المقدس، ونعود إلى ضفاف الأردن. فى ذلك المكان الذى يجرى فيه الغدير هادئا- ويهمس خرير الماء كالحلم اللذيذ- هناك سنحط رحالنا ويكون شعارنا: حسام أرضنا والاهنا ، وعند ضفاف الأردن- سنحط رحالنا. ألا فاطمئني أيتها الأرض المحبوبة، إننا لن نعرف الهوادة، بل سننهض وننفض عنا الكسل، فقسما باسمك المقدس لن نتنصل من القتال إذا ما دقت طبول الجهاد، وقسما بالسماء وآمالنا فيها سنكسر قيودك، ونرفع لواءك عاليا، وسنواجه العالم بأسره اعتزازا بكرامة قومنا، وإذا ما قرع نفيرنا ورفرف علمنا عندئذ سنحط رحالنا، وسيكون شعارنا: حسام أرضنا والاهنا ، وعند ضفاف الأردن- سنحط رحالنا. إذن فليقرع النفير، وليرفرف العلم حتى نحط رحالنا ". *** بهذا الأمل ظلوا يتخطون السنين، وكلما طال عليهم الأمد زادهم الحنين تصميما على بلوغ الغاية، ما أن شعروا بفضل من قوة حتى توسعوا فى معنى الصهيونية، فبعد أن كانت ترمى إلى " حشد شعب الله المختار فى مملكة إسرائيل " أصبحت تهدف كذلك إلى " احتلال العالم اقتصاديا " ليقع فى قبضتها، ويخر جاثيا أمام جبروتها، وإذن فقد احتضنت وليدا جديدا صار منه أمرها إلى تعديل فى الوسائل وتوسع فى الغايات، وبذلك شملت أغراضا ثلاثة: الإيمان(1/179)
بالعنصرية، والعمل على إنشاء دولة إسرائيل، والهيمنة على رأس المال فى العالم أجمع.ص_170
وهكذا حورت الصهيونية مطامعها حين واتتها الفرصة فى أواخر القرن التاسع عشر، فقد تولى قيادتها حينذاك الصحفى النمسوى اليهودى " تيودور هرتزل " الذى يعتبر بحق أبا للصهيونية الحديثة ومؤسسها. فقد أصدر عام 1895 كتاب " الدولة اليهودية " ودعا فيه إلى إنشاء دولة يهودية، لتكون نقطة الارتكاز التى يثب منها الشعب اليهودى إلى تحقيق غاياته جميعا، كما دعا إلى مؤتمر يهودى عام يضم أقباطهم وأحبارهم ليتخذوا قرارا أخيرا بشأن هذا الوطن المرجو، وقد كان هرتزل معدا لهذا المؤتمر عدته، فانعقد فى مدينة " بال " بسويسرا عام 1897 تحت رئاسته وتوجيهه، ولقد كان أبرز حادث فى هذا المؤتمر أن رسم للصهيونية الحديثة طريقا عمليا لتتجمع فى فلسطين بالذات لا فى الأرجنتين أو أوغندا كما كان مقترحا من قبل اعتمادا على أن الشعور الصهيونى مهيأ للانطلاق نحو صهيون فى حرارة وإيمان، ولهذا فإن تيودور صاح فى نهاية المؤتمر: " الآن أنشأنا الدولة اليهودية ". على أن هذا الاختيار لم يكن من قبيل الرجم بالغيب أو التنبؤ بالمستقبل، فإن الأحداث العالمية حينذاك قد جعلت من فلسطين صيدا ثمينا للصهيونية، لأنها كانت فى منطقة نفوذ " الرجل المريض " تركيا، وكان الاستعمار- الإنجليزى الفرنسى- ينتظر الفرصة ليثب على الرجل المريض فيزهق روحه وينعم بالميراث، ولم تعدم الصهيونية حيلة فى دفع الاستعمار إلى الحرب بما لها من بأس ونفوذ مالى مخيف. ولقد كان الزعيم الصهيونى هرتزل عمليا حقا، حينما ذهب إلى السلطان عبد الحميد ليساومه على شراء فلسطين بالمال كسبا للوقت، وليتفرغ النشاط اليهودى الرهيب إلى استخدام القوى المستعمرة فى تحقيق هدف صهيونى آخر، ولكنه باء بالفشل إذ رفض السلطان التركى العرض اليهودى فى تصميم وإصرار. لم يحزن تيودور لهذا الرفض فقد كان على يقين أن الصهيونية بنفوذها(1/180)
القوى قادرة على توجيه الاستعمار بإشارة من إصبعها، وهو الآن يتحفز للوثبة على الدول التى تخضع للحكم التركى، وما دام المال فى حوزة الصهيونية فإن الاستعمار واقع فى قبضتها لا محالة؟ لأن الإنفاق على حرب استعمارية كهذه ستجعل الذهب اليهودى السيد الآمر، فلو أن الصهيونية طلبت فلسطين ثمنا لذهبها لاستجاب الاستعمار فى رضا وقبول، وهذا هو ما حققته الأيام.؟ وقد أكد هذا المعنى الفيلسوف اليهودى كارل ماركس حين يقول:ص_171(1/181)
".. فاليهودى الذى لا يحسب له حساب فى فيينا هو الذى يقرر بقوته المالية مصير النمسا كلها، واليهودى الذى قد يكون فى أصغر الدول الألمانية محروما من الحقوق هو الذى يقرر مصير أوروبا بأجمعها " وكذلك حين يقول: " المال إله إسرائيل الجشع، وأمامه لا ينبغى لأى إله أن يعيش، إن المال يخفض جميع آلهة البشر ويحولها إلى سلعة ". وليس أبلغ فى إقناع القارئ أيا كانت عقيدته الدينية من أن يصغى إلى الصهيونية وهى تقدم إليه نفسها، وتفصح له بأقلام زعمائها عن مطامعها الرهيبة، وجناياتها التى تقطر دما فى كل مكان. وعليه حين يقضى فى أمرها أن ينصب من نفسه قاضيا عدلا، لا يجور فى الحكم، أو يميل مع الهوى، وحسبه فى ذلك أن يأخذ بما يستقيم له من دليل، وما يستقر فى قلبه من حجة، ليكون قضاؤه أدنى إلى الحق، وأخلق بالرضا والقبول. كان مؤتمر بال بعثا للصهيونية الحديثة، وتجديدا خطيرا فى وسائلها وغاياتها، الأمر الذى ضاعف من قوتها، وكفل لها الذيوع والانتشار، ذلك أنه أيد فى اجتماعه القرارات المعروفة " ببروتوكولات حكماء إسرائيل " أو " بقرارات مشيخة إسرائيل " تلك القرارات التى ظلت سرا دفينا فى صدور الصهيونيين، حتى عثرت سيدة مسيحية على نسخة منها عام 1952 فقام بترجمتها إلى اللغة الروسية الكاتب الروسي " سرجيوس نيلوس "، ثم ترجمت فيما بعد إلى اللغات الأخرى. وقد أدرك العالم حينئذ خطر تغلغل الصهيونية فى شتى الدول تغلغلا أثار فيه القلق والاهتمام، ومما هو جدير بالملاحظة أن النسخ المترجمة إلى أية لغة من لغات العالم كانت تختفى بعد ظهورها بأيام، وبدهى أنه لا مصلحة لأحد فى إبادتها سوى اليهود وحدهم. وقرارات حكماء إسرائيل جاءت مفصلة، ولست بمستطيع أن أسوق نصها للقارئ فذلك يخرج بنا عن الإيجاز والاختصار ولكنى أقدمها إليه فى خلاصة أمينة قد تفى بالغرض الذى نهدف إليه: . القانون هو الذى يكبح جماح النفوس البشرية، وما القانون إلا القوة، ومن هنا(1/182)
نستنتج أن الحق كائن فى القوة. وما دام الذهب فى عصرنا هذا أعظم نفوذا مما للحكومة الديمقراطية، وما دام الذهب فى حوزتنا- نحن اليهود- ففى استطاعتنا أن نشترى به كل ما نشاء ونسيطر به على من نريد.. شعارنا " القوة والرياء " وفى سبيل هذه السيطرة لا ينبغى أن نحجم عن اللجوء إلى الرشوة والخداع والخيانة فى سبيل بلوغ مأربنا.ص_172
. من مصلحة اليهود إشعال الحروب بين الدول حتى يتيسر نقل الحرب إلى الميدان الاقتصادى مما يضطر الفريقين المتحاربين إلى وقوعهما فى قبضتنا لتفوقنا فى هذا المضمار. . خلق الضائقة المالية للحكومات لتنمية روح الكراهية فى العمال للحاكمين، لنهيمن على الجهاز الحكومى، وذلك لأن فى أيدينا الصحافة وفى قبضتنا البرلمان. . سيحكم حينئذ الغوغاء وسيفضى حكمهم إلى الفوضي التى تديرها من وراء ستار قوة وكلائنا الذين يتخذون المحافل الماسونية أوكاراً لهم، بحيث ننقل الأفكار إلى الميدان التجارى والصناعى ، وهنا يجب أن نجعل من " المضاربات " قاعدة للتعامل، وحينئذ ستتسرب جميع الثروات إلى فوهة مضارباتنا فتبتلعها خزائننا. . سيكون الجهاز الحكومى فى شتى الدول فى قبضتنا لأنه يتوقف على الذهب الذى نملكه... ولضمان أن يستمر ذلك ينبغى ان نتذرع بكل الوسائل وفى مقدمتها جر الشعوب إلى الحرب... وتلهيتها فى السلم بفيض غامر من الأفكار المتعارضة وبموجات الانحلال مع تجريدها من كل أسلحتها وينبغى القضاء على المتفوقين والممتازين والعمل على انعدام الثقة، وبذر الخلافات، وتشجيع كل محاولة ترمى إلى الهدم والتحطيم، وفى هذا الجو نبشر بفكرة التعاون الدولى بقصد إنشاء مؤسسة تهيمن على العالم، وسيعهد لا محالة بإدارتها إلينا. . السيطرة على ثروة العالم عن طريق إنشاء الاحتكارات العالمية، والعمل على تقوية القوة البوليسية التى تخضع لنا داخل الحكومات، ودعم الصحافة ووسائل النشر التى نسيطر عليها وبهذين الجهازين الخطرين نعلن حكم الإرهاب(1/183)
على كل من يقف فى طريق أهدافنا وبهما نهدد كيان الحكم بإثارة الفتن والقلاقل متى شئنا. . العمل على رفع ضعاف الأخلاق إلى مناصب الحكم ليستجيبوا فى يسر إلى رغباتنا. . إذا كان غير اليهود هم الذين يملكون أمر الحكم فى الشعوب فإننا نلى فيها أمر المال، وبهذا سيكون النضال المذهبى أو السياسى فى أى اتجاه وفى أية دولة يسير وفق مصالحنا وأهدافنا، وعلينا أن ننفخ فى " اضطهاد اليهود " فإنه السبيل لتجميع اليهود وربطهم بقيادتنا. " التزام السرية التامة فى كل نشاط سياسي لنا، لأن المبدأ الذى لا يذاع علنا يترك لنا حرية العمل من غير رقيب، وينبغى أن نعمل على تركيز السلطات الثلاث فى الدول فى أقل عدد من المرتشين.ص_173(1/184)
. يجب أن تقبض أيدينا على وكالات الأنباء العالمية، لأن الصحافة والنشر هما أداة السيطرة على الفكر العالمى ، وبهما لن يرى الناس أى خبر أو مقال إلا من الجانب الذى يريد. . زعزعة الإيمان والعقائد فى القلوب، حتى لا يقى على الأرض سوي اليهودية. . حتى لا نفاجأ بمؤامرة تهدد كياننا يجب أن ننتشر فى كل المنظمات السرية فى شتى أطراف العالم. . تكليف وكلائنا من أصحاب المراكز الهامة بتلويث غيرهم، وتشجيع ذلك الغير على الانحلال والرشوة، وإساءة استعمال السلطة.. فإن هذه هى الحبال التى تشدهم إلينا وتربطهم بنا. " تشجيع الاغتيالات الفردية، وذلك بأن نلقى فى روع المغتال أنه شهيد وبطل. . التزيين للدول بالاستدانة منا لنفلسها حينما نريد والاعتماد على البورصة وألاعيبها. . بعد كل هذا لن يبقى أمامنا سوى أن نخطو الخطوة الأخيرة نحو عرش صهيون وهو بحاجة إلى العنف. . وسيجلس ملكنا المحبوب على عرش سليمان ليحكم العالم، وستحف به نخبة من حكماء صهيون من نسل داوود تعاونه فى مهمته " الصمدانية "، وسيكون حكمهم حازما وعنيفا لخير الإنسانية، أما الملك فسيكون مثال العزة والمهابة والجبروت. إنه المسيح المنتظر من سبط يهوذا ونسل داوود. *** وهذه القرارات بما شرعت من وسائل إنما تسير لتحقيق مطامعها فى اتجاه مضاد تماما لتسلك الاتجاهات التى رسمتها الإنسانية وقررتها الأخلاق وتنزلت بها الأديان، فهى فى كل أمرها من وضع نفوس قد تجردت من الخير وترسمت خطا الشيطان. ويحسن هنا أن نشير إلى أنه ليس بين الصهيونية وبين دين موسى عليه السلام أية صلة أو أدنى نسب، لأن الأخير نحلة مقدسة تنزلت من السماء، والسماء فيما تنزل من وحى لا تفرق بين الناس، ولا تدعو إلى العنصرية الحاقدة المستعلية، وهى إذ تفضل طائفة على أخرى لا تتخذ من اللون أو الجنس سبيلا إلى التفضيل، وإنما سبيلها فى ذلك إيمان بوحدة الخالق، وحب الخير للبشرية جميعا.ص_174(1/185)
ورسالة موسى كان من أغراضها نصرة المظلوم والثورة على الظالم، فهى بهذا المعنى ردت إلى النفوس اليهودية الثقة التى كان قد أوهنها " فرعون " فاستعادت كيانها، وشعرت بوجودها. وليس من المنطق فى شىء أن يجمع دين سماوى أشلاء من نفوس مبعثرة لينفخ فيها بالبغضاء للعالم كله، أو ليغرس فيها الحقد المرير على البشرية جميعا، إنما حسب الدين فى ذلك أن يأسوا من جراحاتها، ويعيد خلقها من جديد، لتؤمن بالخير، وتعمر بالمحبة والإخاء، وتطرح الشحناء والبغض جانبا. فالحقيقة أن الصهيونية- فى قديم أمرها وحديثه- لا سند لها من دين موسى، وإنما هى أطماع سياسية عنصرية صنعت لها دستورا من مسخ التوراة وخيالات " التلمود " وأحلام الأحبار والحكماء من فلاسفة اليهود... إن تحولهم عن موسى إلى الصهيونية له سببان رئيسيان: الأول: أن بختنصر قد عصف بدولتهم التى أقامها سليمان ولم يكتمل عمرها تسعين عاما. الثانى: كانت وطأة البابليين عليهم فى السبى عنيفة مروعة. وقد أحس اليهود إحساسا عميقا بذهاب آمالهم فى الدولة وشعروا كذلك أن كيانهم الجماعى كأمة قد صدعته الذلة فى جحيم " بابل " فدفعهم هذا الشعور وذلك الإحساس إلى أن يفزعوا إلى أحبارهم وحكمائهم يلتمسون لديهم شيئا من العزاء الذى قد يخفف عنهم وقع ما يجدون، فوجد هؤلاء وأولئك ألا مندوحة لهم من أن يقولوا للمفجوعين الأذلاء شيئا.. أى شئ.. فنظروا فى تحريف التوراة فلم يجدوا فيه ريا لنفوس تلهث ظمأ، ولا مقنعا لأفئدة كاد يقتلها اليأس. فوضعوا لهم قصصا فى بعضها وعد من عند الله بإقامة دولة، وفى بعضها الآخر أنهم شعب الله المختار، وأنهم لا محالة سيحكمون العالم، وأن من عداهم من الناس خنازير وحشرات خلقوا لخدمتهم، وأن الدنيا كلها خلقت لهم وحدهم دون من سواهم من البشر، وهكذا طفق الأحبار يتخيلون لهم أحلاما يهدهدون بها السذج والدهماء، حتى استقر فى مخيلة هؤلاء بعد حين أن ذلك حقيقة لا ريب فيها، ووعد من الله لن(1/186)
يتخلف، وهكذا تحولت اليهودية إلى صهيونية بتدبير سياسى خطير، وتبييت عنصرى خبيث، وصدق الله إذ توعدهم بقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)ص_175
إنهم حرفوا التوراة تحريفا يتلاقى وآمالهم التى فى صدورهم، حتى استقام لهم بعد ألف عام تقريبا كتاب سموه " التلمود " أو كما يجب أن يسمى " دستور الصهيونية ". وهذا التلمود له منزلة خاصة فى النفس اليهودية، بل إن بعضهم يذهب إلى تفضيله على التوراة نفسها، ولدعم ذلك أسوق نصين من نصوص كثيرة تدور حول هذا المعنى من كتاب " فى الفكر اليهودى " الذى جمعه الدكتورج. هـ. هرتش، الحاخام الأكبر لليهود فى بريطانيا، وصدر له حايم ناحوم الحاخام بمصر: النص الأول " العمانويل دوتش 1868 ": " التلمود هو المؤلف الذى يتضمن القانون المدنى والدينى للشعب اليهودى، فهو عبارة عن ملحق لأسفار التوراة الخمسة الأولي، وقد استغرق هذا الملحق ألف سنة، وقد تضمن حكايات مجازية، وقصصا وأساطير عن الجن، و"أقصوصات خرافية ". النص الثانى " أ. مارى روبنصن 1892 ": " التلمود ذلك الكتاب الذى أحله اليهود المسجونون فى أحيائهم المركز الثانى فى حياتهم لم يكن مجرد كتاب فلسفة وتقوى، بل كان منهل الحياة القومية، والمرآة الصادقة لحضارة بابل واليهود، كما ترددت فيه أيضا الأحلام المخيفة والخرافات والأساطير وما إليها من أشباح سحرية وشذرات علمية اختلط فيها الخطأ بالصواب، وتأملات ونظريات جزئية اكتشفها التائه فى أسفاره التى لا محط لرحالها، فالتوراة ذاتها لم تبلغ ما بلغه التلمود ". والصهيونية تحارب كل فضيلة، وتقضى بأساليبها على كل من يدعو إلى التوحيد والمحبة والسلام، لأن ذلك كله يقف دون غاياتها ويهجن من وسائلها وهى تريد أن تمضى ولا تتوقف. فالأنبياء- من بنى إسرائيل- كذبوا من الصهيونية تكذيبا كله عناد ومخالفة، ومنهم من(1/187)
قتلته غيلة وغدرا، لأ نهم يدعون اليهود إلى غير أطماعها، وهى لا تريدهم إلا أشرارا حاقدين. والمسيح عليه السلام لقى الكثير من خيانتهم وغدرهم حينما أتى بالمحبة والسلام ليعارض العنصرية التى يدينون بها، وهذا " بولس الرسول " يقول فى رسالة له لأهل " رومية " (أصحاح 15): "لأن الكتاب يقول: كل من يؤمن به يجزى، لأ نه لا فرق بين اليهودى واليونانى لأن ربا واحدا للجميع، غنيا لجميع الذينص_176
يدعون به "، ثم يمضى فيخاطب اليهود: " يا قساة القلوب، يا غير المطهرين بالقلوب والآذان، أنتم تعادون الروح فى كل حين،. والسيد المسيح يعنيهم حين يخاطب " أورشليم " بقوله: "يا أورشليم يا أورشليم" يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدى ". أما محمد عليه الصلاة والسلام فإن مواقف الصهيونية منه بلقاء مشهورة، سجلتها كتب السيرة بما لا يدع لنا مجالا لعرضها، فمن نقض للعهد، إلى انحياز لجانب المشركين، مع أنها تزعم الاعتقاد بالوحدانية، وكثيرا ما حاكت حوله المؤامرات وهمت بقتله، ولم تدع سبيلا لإطفاء الإسلام إلا سلكته، فقد راعها من التنزيل أن ينفذ فى تصويره إلى خفى أمرها، فيفضح ما استتر منه بمثل قوله: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة). وقوله : (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). *** ونحن حين نتناول الصهيونية وأغراضها التى تعتمد فى جوهرها على العنصرية الجادة، والطموح إلى إرساء حكم عالمى من شأنه أن يسخر العالم قاطبة لشعب الله المختار!! لن نضطر فى هذا المقام إلى الاعتماد على القرآن والإنجيل كمرجعين هامين، وإنما ندع المصادر المقدسة لدى اليهود تتولى هذا الأمر فى وضوح وجلاء. " فالتلمود " يؤكد أنهم هم الناس، وأن من سواهم من البشر " خنازير وحشرات وأنعام" وسأكتفى بذكر فقرات منه :(1/188)
* " إنه لولا اليهود لارتفعت البركة من الأرض، ولاحتجبت السماء، وامتنع المطر". * "إن اليهود أبناء الله وأحباؤه، أما باقى المخلوقات فهى بذور حشرات وسائمة كالأنعام ". * " اليهود أحب إلى الله من الملائكة، وهم من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه، فمن يصفع اليهود كمن يصفع الله ".ص_177
. " إذا ضرب أممى " غير يهودى " يهودى. فالأممى يستحق الموت ". . "... والفرق بين درجة الإنسان والحيوان، هو مقدار الفرق بين اليهود وباقى الأمميين ". . إن النطفة المخلوق منها باقى الشعوب الخارجين على الديانة اليهودية هى نطفة (حصان) ". وهكذا.. وبمثل هذه الفقرات الناقمة وضع التلمود دستور الصهيونية، على أنه لم يفته أن يوثقه برباط مقدس يصل ما بينها وبين الله سبحانه، ليتقرر فى أذهان اليهود أن السماء إلى جانبهم، وليوقنوا أنهم شعب الله المختار، وقد غرس التلمود كذلك فى النفس اليهودية معانى شتى هى على تنافرها واضطرابها مزيج من الحقد والغرور، أما الحقد فلأن العنصر " الأفضل؟؟ " لم يتح له أن يسخر العالم لإرادته، وأما الغرور فلأن مواهبهم- فيما زعموا- من صنع السماء، ولهذا وقر فى قلوبهم أنهم سادة الدنيا وكبراؤها.. وأطرف تصوير لهذا ما سجله الحاخام " أربل " بقوله: " إن الخارجين عن دين اليهود خنازير وإذا كان الأجنبى " غير اليهودى " قد خلق على هيئة الإنسان، فما ذلك إلا ليكون لائقا لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا من أجلهم ". ثم يسترسل ليضرب هذا المثل: " إن مثل بنى إسرائيل كمثل سيدة فى منزلها، يستحضر لها زوجها النقود فتأخذها بدون أن تشترك معه فى الشغل والتعب ". وما دامت الصهيونية قد أرادت لبنى إسرائيل أن يصبحوا سادة مخدومين وسيدات مدللات، فعليها إذن أن تعدهم بوطن يعصمهم من التشرد والنجعة فى آفاق الأرض، لتشد من عزائمهم، وتدفعهم إلى العمل، وقد تولى ذلك دا سفر التكوين " فهو يحدد الوطن الذى وعدوا به بأنه: " من نهر مصر إلى النهر(1/189)
الكبير (نهر الفرات) " وقد أكد أمر هذا الوطن زعماء الصهيونية المحدثون بما فاضت به كتبهم وخطبهم، فها هو ذا " حاييم وايزمن " الزعيم الصهيونى المعروف يذكر فى كتابه " التجربة والخطأ " المحاورة التالية: " كنت أتحدث مع الدكتور بارنيسى ، فكان الرجل رغم يهوديته يدعو إلى امتزاج اليهود فى الأمم التى يعيشون فيها، وقد سالنى مرة عن جنسيتى، فقلت له: أنا يهودى، فتعجب لإجابتى، وحاول إقناعى بأن اليهودية دين لا جنسية، فأفهمته: أن اليهودية جنسية وقومية ".ص_178(1/190)
ويقول فى موضع آخر من كتابه هذا: " وفى سويسرا عرفت لينين وتروتسكى وبلنكوف وكانوا يهودا، لكنهم كانوا يحتقروننا نحن دعاة الصهيونية، ويقول لنا: إن اليهودى يجب أن يصلح وطنه أولا، لا أن يهرب منه ويدعو نفسه يهوديا، فكنت أبادلهم احتقارا باحتقار، وكرها بكره ". وإن بن "جوريون " رئيس وزراء إسرائيل قد أماط اللثام عن رسالة الصهيونية، وأفصح بجلاء عن مطامعها حين قال فى خطبة له: " تتميز دولتنا بأنها الوحيدة التى لا تعتبر غاية فى ذاتها، بل هى وسيلة فقط لتحقيق رسالة الصهيونية، وجمع اليهود المشتتين، فهى ليست دولة الذين يستوطنونها وحدهم، بل هى دولة الشعب اليهودى كله ". وقال فى اجتماع حربى عام 1952: " ألا فليفهم الجميع أن إسرائيل قد قامت بالحرب، وأنها لن تقنع بما بلغته حدودها حتى الآن، إن الإمبراطورية الإسرائيلية سوف تمتد من النيل إلى الفرات ". وأن " بيرنتشتين " الوزير الإسرائيلى السابق للتجارة والصناعة كان واضحا فى رسم أهداف الصهيونية حين خاطب اليهود بقوله: " على الشعب أن يقلل من استهلاكه، ويتكتل وراء زعمائه استعدادا للساعة الفاصلة التى نمحو فيها الدول العربية من الوجود ". والنص الأخير صريح فى أن الصهيونية تهدف إلى محو العنصر العربى من مملكة " سفر التكوين "، وهذا يفسر للعالم طريقة " الإبادة " التى نهجتها إسرائيل فى معالجة الأسرى ومن إليهم ممن يقع فى قبضتهم من العرب، على أن إخراج اللاجئين من ديارهم، واغتصاب أموالهم وتشريدهم بغير حق، يعتبر- ولا ريب- ضربا رهيبا من ضروب الإبادة البطيئة التى برعت فيها إسرائيل. وعلى الرغم من كل هذه الجرائم التى ترتكبها الصهيونية تحت سمع العالم وبصره، فإن فريقا مخدوعا من الناس لا يزال يصدق تلك الأكذوبة الكبرى التى أطلقها اليهود وهى أنهم مضطهدون فى الأرض ومحاربون فى كل مكان، ولهذا وغيره فإن بعض الدول تحبوهم عطفا خاصا مما ستدرك خطره عما قريب. ومن المقرر أن العالم فى(1/191)
شتى العصور كان يحنو على اليهود، ويترفق بهم، ظنا منه أنهم مضطهدون يضربون فى آفاق الأرض هربا من التعذيب والنقمة، وهو فى هذا لم يشأ أن يتعرف البواعث الحقيقية التى من أجلها كان هذا الاضطهاد، ولو أنه أولاها شيئا من عنايته، أو حاول أن يربط المسببات بأسبابها لآمن عن بينة أنه قد وضعص_179
الندى فى موضع السيف، وأحل النعمة فى منازل النقمة، لأن اليهود هم الطائفة الفريدة التى تزعم أن الاضطهاد يلاحقها فى كل مكان، وأن دموعها لا تجف مما ينزل بها من تشريد ونكال. ولقد حدث لهم هذا فى روسيا وأسبانيا وبولندا وألمانيا، فتعليله المستمد من طباع اليهود أن الخسة والغدر والخيانة والحقد والسرقة صفات صهيونية تلاحق اليهودى أينما كان. وهى من أبرز مميزاته التى تنطبع فى نفسه، والتى تظل راسبة فى أعماقه، ولا تظهر إلا وقت الحاجة. والصهيونيون فى كل شعب من شعوب الأرض هم مصدر نكبته، واختلاط أمره؛ لأ نهم يعملون فيها على الكسب الحرام ويتجرون فى أقواته وأرزاقه، حتى إذا امتلأت خزائنهم بالذهب سول لهم حقدهم أن ينزلوه من مثله العليا إلى الدنس حيث يعيشون. إننا لم نر على تعاقب القرون أن اليهود قد اعترفوا بالفضل لأحد، أو شكروا معروفا أسدى إليهم، فالأمة التى تبسط عليهم جناح رحمتها، وتلتقطهم من مفازات التشرد، لا يطيلون أمد انتظارها لتجد فيهم معاول هدمها وعناصر فنائها. والتاريخ يشهد أنهم النغمة النشاز فى لحن البشرية المتجانس، لأنهم ينطوون على طباع خبيثة تشذ بهم أن يألفوا أو يؤلفوا. ولهذا فإن الدول تضيق بهم كما يضيق المريض بدائه، فتجليهم عن أرضها لتحمى كيانها وتصون وجودها، وذلك- فى شرعة الأنصاف- تصرف تقتضيه الضرورة وعلاج وقائي مشروع. إن الصهيونية قد أعدت عدتها فى القرن التاسع عشر لتحقق الغاية الكبرى من نضالها الطويل، فقد حشدت قوتها وعبأت جهودها لتسيطر على التجارة والصناعة فى العالم حتى تهيمن عليه اقتصاديا وتتحكم فى " رأس(1/192)
المال الدولى " ولم يعد خافيا على أحد أنها أصابت فى ذلك حتى الآن نجاحا ما كانت هى نفسها تحلم به، وما ظنك بطائفة لا يزيد تعدادها فى العالم كله عن (13) مليون تملك ما يقرب من نصف رأس المال العالمى ؟ . وهذه النتيجة الرهيبة لم تصل إليها الصهيونية مصادفة، أو نالتها ثمنا للذكاء والسعى الشريف، وإنما سلكت إليها سبلا كلها تبييت وسرقة واستغلال، ذلك أنه إذا اعتكر الجو العالمى وماج بالفتنة يستيقظ فيها شره المال، فتحتكر الأسواق لتختان الأرزاق والأقوات، معتصرة فى هذا بكلتا يديها الغالب والمغلوب جميعا.ص_180(1/193)
إن اليهود فى أمريكا وفرنسا وإنجلترا ملوك غير متوجين، فإن نفوذهم الاقتصادى جعل منهم حكاما حقيقيين فى واشنطن ولندن وبارشى، وبيوتهم المالية هناك تتضاءل إلى جانبها خزائن بعض تلك الدول، وهذه عائلة " روتشلد " الصهيونية، تملك مصارف كبرى فى: لندن وفيينا ونيويورك وباريس وبرلين. إن الصهيونية بعد أن نجحت فى استعمارها الاقتصادى لدول الغرب، بدأت تفرض نفسها هناك، وتدس أنفها فى شئون الحكم. ففى " فرنسا " مثلا نجد الصهيونية تحكمها حكما يكاد يكون حقيقيا، فإن منصب رئيس الوزراء والمناصب الوزارية والجمعية الوطنية ومجلس الدولة والقضاء والصحافة والإذاعة والبيوت المالية والتعليم كل هذه المناصب التى تقرر مصير فرنسا فى الداخل والخارج كثيرا ما يتولى أمرها يهود؟ بل أنهم ليحتكرون بعضها كما تحتكر السلع فى الأ سواق. ولقد أصابت الصهيونية هذا النجاح لأنها اعتمدت على وسائل هى فى جل أمرها ترجع إلى ما برعوا فيه من إثارة الحروب، والفرقة بين الشعوب، وتسخير الحكام الضعفاء وإشاعة التحلل الديني والوطنى وكان سبيلهم إلى ذلك الجمعيات السرية ذات الطابع الإنساني كالماسونية وأندية الروتارى. وقد فطن الفاتيكان إلى هذا فأصدر مرسوما من المجلس الأعلى المقدمى بتاريخ 20 ديسمبر سنة 1955 قرر فيه الكرادلة ما نصه: " دفاعا عن العقيدة وعن الفضيلة، تقرر عدم السماح لرجال الدين بالانتساب إلى الهيئة المسماة بنادى الروتارى، وعدم الاشتراك فى اجتماعاتها، وأن غير رجال الدين مطالبون بمراعاة المرسوم رقم 684 الخاص بالجمعيات السرية والمحرمة والمشتبه فيها ". لقد اتخذت الصهيونية فى طورها الحديث موقفا إيجابيا يدنيها إلى الغرض، ويكفل لها الهيمنة والسلطان، فقد ربطت نفسها فى عجلة الاستعمار لا لتكون فى خدمته وإنما لتتخذ منه عملاقا اليا تسيره بإرادتها، وتسخره فى أطماعها، وهذا هو الاستعمار الإنجليزى يفزع من الصهيونية لا فى عام 1957 وإنما حينماص_181(1/194)
كانت إنجلترا سيدة البحار، وآمرة العالم فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، فمنحها وعد بلفور فى 2 نوفمبر سنة 1917، وإذا كان قاموس اللصوصية يجحد أن من مفرداته كلمة " الوعد " فأخلق بالصهيونية أن ترتاب فى وعد بلفور، حتى ولو كان صادرا من حليفها الاستعمار، ولهذا فقد تعمدت أن تسمعه اللغة التى كان يفهمها...، ففى المؤتمر الصهيونى الذى عقد فى فرنسا سنة 1923 وقف الصهيونى " فلاديمير جابونيسكى " يقول: " إذا رفضت بريطانيا أن تسلمنا فلسطين، فإن اليهود على استعداد لتحريك القوى التى تقضى على بريطانيا " وحينئذ استجاب صاغرا لرغبتها وقدم لها فلسطين؟؟.. وإذن فهناك حقيقة تؤكدها الأحداث الجارية فى العالم قديمه وحديثه، هى أن الاستعمار ظل الصهيونية يتبعها أينما سارت ويحل حيثما حلت، ومن الخطأ أن نفهم أنها تسير فى ركابه، أو تخدم غرضا من أغراضه. نعم، قد ترتضي الصهيونية- فى بعض الظروف- أن تكون مخلب القط للاستعمار، ولكن مخلب القط هذا لا يلبث أن يتحول فى النهاية بسحر صهيونى إلى مخلب أسد فاتك ليستولى على حظه الأوفى من الفريسة، وهكذا فإن أمر الاستعمار معها كله عجب: إن هو خرج فى أهاب المنتصر فهى إلى كسب واستعلاء، وإن جلل بالسواد والإخفاق فهى إلى دعة وطمأنينة، لأنها لم تتعود أن تخف إلى نجدة الصديق إذا نبا به الزمن، أو طرقته الحادثات. إن مثلها حين تخدم الاستعمار كمثل المروض الماهر للأسد الجائع، يلوح له من بعيد بقطع اللحم الشهى ليثير فيه غريزة الافتراس حتى يزأر ويهيج. والصهيونية فى كل أطوارها تزيد فى ضراوة الاستعمار لتطلقه على الشعب الذى تختار، لأن أحقادها المستعرة على البشرية لا ينقع غلتها إلا الدم، وإن طموحها للسيطرة لا يعرف طريقه إلا على الأشلاء. وستعلم الدول المستعمرة- إن عاجلا أو آجلا- أن احتطابها فى حبل إسرائيل سيحرمها الأمن والاستقرار، أو لعلها لمست فى العدوان الأخير على مصر أن الكارثة كانت وشيكة الوقوع،(1/195)
وأن هيئة الأمم المتحدة قد صنعت لها الخير الكثير... أو لعلها علمت كذلك أن الصهيونية حين تتصايح بالحرب، فإنما تحاول أن تخلق فى العالم جواص_182
من التوتر والقلق، الأمر الذى سيصرف الأنظار عن مشرطها الذى يعمل فى شرايين الشعوب، لتمتص الدم الذى يهب لها الدفء والحياة. إن الشرق الأوسط أمة عربية واحدة، عرف الحرية فأحبها، والتمس السلام فرفرف على ربوعه، وقد أقسم العرب أن يظلوا أعزاء بالحرية آمنين بالسلام. وإن بقاء إسرائيل فى صميم بلادهم، تلك الدولة التى تحترف الحرب، وتجنى على السلام، لمما يفرق وحدتهم، ويعكر عليهم صفو السلام. إنه لجدير بالعالم أن يفتح عينيه جيدا على حقيقة لا مراء فيها، وهى: أن للدول الكبرى مصالح حيوية فى الدولة العربية الكبرى تلك التى يسمونها " منطقة الشرق الأوسط ". وقد شاء الاستعمار أن يقحم فيها إسرائيل وهى- كما رسمت نفسها- تواقة إلى التوسع والاستعمار، وسيكون ذلك لا محالة فى نطاق الدولة العربية الكبرى. وقد عودتنا الصهيونية أنها لن تعدم الوسيلة لتجد مستعمرا آخر يعمل من أجل أهدافها، كما وجدته فى " إنجلترا وفرنسا ".. إنها ستجده... وستغريه كذلك بالاعتداء على الدولة العربية الكبرى كما أغرت هذين... وحينئذ لن تقف الدول ذات المصالح الحيوية موقف المتفرج فتندلع لسنة الحرب، الحرب الذرية لتأكل الأخضر واليابس. وأخيرا فليس للعلم أن يختار: فأما صهيونية تطلق حربا مجنونة من عقالها، وإما تطهير شامل للمجتمع من منابتها الخبيثة، حتى يرفرف على الأرض السلام، وتسود المحبة بين الناس... ***ص_183(1/196)
9ـ أمريكا الصليبية * مشروع أيزنهاور: لو أن الرئيس "أيزنهاور " أراد حقا إقرار السلام فى العالم على أسس تقابل بالارتياح التام لبنى مشروعه على تصفية الاستعمار، ورد الحقوق المسلوبة إلى أصحابها، وإعادة الجيوش المحتلة إلى مواطنها الأولى، وإعطاء كل شعب حريته المطلقة فى تقرير مصيره...!! ولو أن الرئيس المبجل إذ يفعل ذلك يتحدث عن قوات بلاده الضخمة، وعن خزائنها المفعمة لقبلنا منه ذلك الصنيع، وحمدنا له هذا الحديث..!! ولقلنا: إن الولايات المتحدة تقوم بعمل إنسانى مجرد تستحق به أعظم التقدير والثناء، وأنها تتحدث عن قوتها لإرهاب المعتدين، وعن مالها لمواساة المحتاجين..!! لكن مشروع الرئيس " أيزنهاور " يجئ وسط ملابسات تخذله، ويتضمن فروضا وعروضا لا يمكن التسليم بها... وإلا فما معنى أن يقال: إذا جاء جيش من المريخ أو من روسيا لمهاجمة الشرق فستنهض أمريكا لرده، وعلى دول الشرق أن تتهيأ مقدما لاستقبالنا، أو لاستقبال عوننا المالى... ومتى يقال ذلك؟ فى الوقت الذى تنكل فيه إسرائيل بعرب فلسطين، وفى الوقت الذى تفتك فيه فرنسا بإخواننا فى الجزائر فتكا ذريعا. وذلك كله يقع دون أن تقول الولايات المتحدة لزبانية الاستعمار الغربى: كفوا أيديكم...!! هل قتلنا برصاص الإنجليز والفرنسيين جائز؟ أما قتلنا برصاص الروس فمحظور؟ وهل ذلك مبلغ حنان أمريكا علينا؟ إننا لا ننكر موقف السياسة الأمريكية الأخير من قضيتنا فى الأمم المتحدة؟ لقد أيدت حقنا مع سبعين دولة أخرى استنكرت عدوان إنجلترا وفرنسا وإسرائيل علينا.. بيد أن هذا الموقف جاء بعد موقفين كريهين أردأ من الآخر...ص_184(1/197)
أولهما: رفض أمريكا الاشتراك مع روسيا فى سحق العدو.. وثانيهما: احتجاجها الشديد على انفراد روسيا لمقاومته.. إن أمريكا مريبة فى سياستها هذه. وإذا كانت تريد ضمان مصالحها وحدها، فلتعلم أننا لن نكون خدما لهذه المصالح، وإننا لم نلطم الإنجليز والفرنسيين لنعانق الأمريكان أو غيرهم إذا جاءوا بلادنا ممثلين لمصالحهم وحدها. إن الشرق لنا، وليس لأحد سوانا، ولن نأذن لقريب أو بعيد بتسخيرنا له، ولا بتسخيرنا فيه...!! إن هذا المشروع لا يرعى عدلا، ولا يقر سلاما، ولا ينتج خيرا- أعنى لنا نحن العرب والمسلمين- وربما وطد مصالح بعض الدول المستعمرة، وربما ضمن لإسرائيل مزيدا من الحماية وضمان المستقبل. بيد أننا نبحث فى ثناياه جاهدين: هل قدم لعرب فلسطين أملا فى حياة آمنة بعد أن مزقتهم الأطماع شر ممزق؟ أو هل اعترف بحق هذه المنطقة فى الخلوص بكيانها، والنجاة بنفسها من زعارع السياسات العالمية؟ فلا نرى شيئا من ذلك البتة... بل تجىء تصريحات الرئيس الذى وضع هذا المشروع كاشفة عن رأيه فينا وحكمه علينا... إنه يقول: لقد خلقت إسرائيل لتبقى، وإن بلاده تكفل هذا البقاء بقوتها ومالها، أى أن بلاده مصرة على إفناء فلسطين، وتشريد أهلها إلى الأبد... وعلى أنقاض هذه العروبة المضرجة بالدم، الممرغة فى الثرى يبنى السلام الأمريكى المنشود لشعوب الشرق الأوسط... ثم نرمق موقف " أمريكا " من قناة السويس" فنرى حق أصحاب القناة آخر شىء ينظر فيه، أما مطالب اللصوص الذين يتحلب ريقهم على المغانم الحرام، فهو الأمر الجدير بالتقديم والتقدير!! وإذن فلتدول القناة!! وتسرى عدوى هذا التدويل حتى ليقال فى صفاقة لا نظير لها: يجب تدويل قطاع غزة، وخليج العقبة!! وإذا قبل هذا المنطق السافل فستدول بلاد العرب كلها، وسيكون هذا التداويل عند الصلح الذى يلتقى فيه لصوص الأرض، وقد اقتسموا بينهم الضحية دون شجار ونفار...!! وذلك هو السلام، وذلك هو العدالة...ص_185(1/198)
وإلا فعلى العرب اللعنة، وإلا... فخذوا الطريق على الإسلام، دين السيف والعدوان، دين الهجوم والهمجية..!! والآن فلنلق نظرات فاحصة على المشروع الأمريكى كما كتبه صاحبه، وكما ترجمته إلى اللغة العربية سفارة الولايات المتحدة فى مصر... يرى " أيزنهاور " أن إنجلترا وفرنسا كانتا تحميان الشرق الأوسط من الهجوم الروسى عليه، وأنه بعد ما حصلت دوله على استقلالها الذاتى، وأخرجت الدولتان الكبيرتان منه، أصبح فى المنطقة فراغ يجب سده، فكيف يسد هذا الفراغ؟ يسد فى نظر الرئيس " أيزنهاور " بمعونة أمريكا، خصوصا أن المنطقة تعرضت فى الفترة الأخيرة لاضطرابات واسعة.. ونحن نتساءل: ما الذى صنع هذه الاضطرابات؟ أليس خلق أمريكا لإسرائيل بالقوة والإكراه؟ وركبتها العنيفة فى إماتة العرب الأصلاء، وإحياء الوافدين الغرباء؟ ثم لماذا يجىء دور الحماية الأمريكية بعد ذهاب إنجلترا وفرنسا؟؟ لماذا لا تمكن شعوب المنطقة من الدفاع عن نفسها بقواها وخصائصها؟ لماذا تحرم من السلاح الأمريكى تحمله جيوشها الحرة، فإذا أرسلت روسيا السلاح لهذه الجيوش التى تحتاج إليه غضبت أمريكا واستنكرت، وأرسلت ساستها لتهديدنا، أو لمحاولة اقتناعنا بأن روسيا تريد غزونا!! وأن أمريكا تريد حمايتنا؟ اسمع ما يقوله الرئيس: لقد بلغ الشرق الأوسط فجأة مرحلة جديدة حرجة فى تاريخه الطويل الهام.. ففى الماضى، كانت أمم عديدة فى تلك المنطقة لا تتمتع بالاستقلال الذاتى الكامل. وكان غيرها من الأمم يمارس سلطة كبيرة فى المنطقة. وكأن أمن المنطقة مبنيا إلى حد كبير على قوتها. ثم قال: " ولقد كان التطور نحو الاستقلال فى أساسه تطورا سليما، ولكن كثيرا ما ساد المنطقة الاضطراب، ولقد خلقت تيارات عدم الثقة والخوف الملحة، والغارات المتداولة غبر الحدود القومية قدرا كبيرا من عدم الاستقرار فى معظم دول الشرق الأوسط ". ***ص_186(1/199)
إن الزعم بأن فى الشرق فراغا يجب أن يملأ هو تعبير ملطف للقول بأن فى الشرق عبيدا يحتاجون إلى سيد، أو قاصرين يحتاجون إلى ولى، أو بتعبير أحنى: يتامى يحتاجون إلى كافل !! والكافل المطلوب لا ينبغى أن يكون من أهل المنطقة المغموطة ، يجب أن يكون من خارجها، فإذا لم يكن من إنجلترا أو فرنسا فليكن من أمريكا، والحذر كل الحذر أن يكون من روسيا؟ إن استيلاء روسيا على هذه البلاد يساوى فى خطره وضرره عودة هذه البلاد إلى أصحابها، وضياع مكانة الغرب فيها...!! وما تكون وظيفة هذا الكافل الأجنبى ؟ وظيفته أن يحتفظ بخيرات هذا الشرق القاصر للأقطار التى تفتقر إليها. وظيفته أن يستغل أوضاع المنطقة العسكرية والاقتصادية للجبهة الغربية وحدها. وتسأل: فما نصيب أهل البلاد؟ والجواب عند المثل العليا فى المجتمع الأمريكى، تلك المثل التى تخص بالكرامة والاحترام الرجل الأبيض فحسب، أما الأجناس الملونة فلها منزلة الخدم! تأكل الفتات المتروك، وتقعد أخيرا مزجر الكلب.. إن الزنوج الأمريكيين لا مكانة لهم فى وطنهم، فمن أين يتأتى احترام حقوق الإنسان فى أقطار الشرق إذا كان الأمريكيون سادته؟ ودعك من الجمل اللينة ليونة الأفاعى ، تلك الذى تتحدث فى خبث عن استقلال العرب، وحماية مصالحهم. إن اليهودى الواحدة أرجح لدى أمريكا من ألف مسلم. وإن بلاده لا يمكن أن تكون له. إنها لقتلته، والغالبين على أمره وحدهم؟ ثم يلف هذا القصد الوضيع فى أغشية مموهة بالكذب، تزعم أن المراد أبعاد روسيا فحسب عن الشرق إذن فأبعدوا جميعا، أن أهل هذه البلاد لا يريدونكم ولا يريدونهم!! لا سنبقى نحن! والغريب أن الرئيس أيزنهاور يحس أن مصالح روسيا التجارية نادرة فى تلك الأرجاء. وهو أمام هذه الحقيقة لا يتحرج من الكشف عن خبيئته السياسية الغربية فيقول فى صراحة: إن غرب أوروبا يرتكز اقتصاديا على الشرق الأوسط. ومن ثم يجب أن نضمن بقاء الشرق فى أيدينا باسم إنقاذه من التوسع(1/200)
الروسى!ص_187
وإليك كلمات الرئيس: " وليست رغبة روسيا فى السيطرة على الشرق الأوسط ناجمة عن مصلحتها الاقتصادية الخاصة فى المنطقة، فروسيا لا تستخدم قناة السويس أو تعتمد عليها إلى حد كبير، ففى عام 1955 كانت حركة المرور السوفييتية فى القناة لا تمثل إلا ثلاثة أرباع الواحد فى المائة من مجموع الحركة، وليس بالسوفييت حاجة إلى موارد البترول التى تمثل الثروة الطبيعية الرئيسية فى المنطقة، ولا يستطيعون تدبير الأسواق لهذه الموارد، بل الحق أن الاتحاد السوفييتى مصدر كبير لمنتجات البترول، فالسبب فى اهتمام روسيا بالشرق الأوسط هو سياسة السيطرة الغاشمة وحدها، فإذا راعينا غرضها المعلن ألا وهو صبغ العالم بالصبغة الشيوعية أصبح من السهل أن نفهم أملها فى السيطرة العاجلة على الشرق الأوسط (1). فلقد كانت هذه المنطقة دائما ملتقى طرق قارات نصف الكرة الشرقى، وقناة السويس تمكن دول آسيا وأوروبا من مواصلة التجارة التى لا غنى عنها، إذا أريد لهذه الدول الحفاظ على اقتصادياتها القوية المزدهرة. فالشرق الأ وسط هو باب الطريق فيما بين أوروبا- وآسيا- وأفريقيا. ويحوى الشرق الأوسط نحو ثلثى مصادر البترول المعروفة فى العالم الآن، وهو يسد عادة حاجات دول عديدة فى أوروبا وآسيا وأفريقيا من البترول. ودول أوروبا تعتمد بصورة خاصة على هذا المورد، وهذا الاعتماد يتصل بالمواصلات كما يتصل بالإنتاج. وقد ظهر هذا بشكل واضح منذ إغلاق قناة السويس وبعض أنابيب البترول، وفى الاستطاعة استنباط وسائل بديلة للمواصلات، وكذلك مصادر بديلة لتوليد القوى إذا كان ضروريا، ولكن هذه الوسائل لا يمكن اعتبارها احتمالات قريبة الأجل. وهذه الأمور تؤكد أهمية الشرق الأوسط القصوى، فإذا ما فقدت دول تلك المنطقة استقلالها، وإذا ما خضعت لسيطرة قوة أجنبية معادية للحرية، فإن ذلك يكون محنة لهذه المنطقة، ولدول حرة عديدة أخرى تتعرض حياتها الاقتصادية عندئذ لما يقرب من(1/201)
الاختناق فى الوقت ذاته. كذلك تتعرض أوروبا الغربية للخطر كما لو كان مشروع مارشال، ومنظمة حلف شمال الأطلنطى لم يوجدا، كما تتعرض الأمم الحرة فى آسيا وأفريقيا لخطر شديد، وكما تفقد دول الشرق الأوسط الأسواق التى تعتمد عليها اقتصادياتها. (1) وقد بين الشيخ الغزالى هذا فى كتابه الهام " الإسلام والزحف الأحمر " الذى اغضب التيار الشيوعى وسماسرته وأعوانه من الزعماء والذى يروى عنه الشيخ أنه كتبه ولا يدرى مصيره فيما بعدص_188(1/202)
وسوف يكون لكل هذا أثره البالغ الضرر، إن لم يكن الفاجع على حياة أمتنا الاقتصادية وعلى مستقبلنا السياسي ". أ. هـ وظاهر من خلال هذه الكلمات المنذرة القلقة أن الرئيس الأمريكى يبغى استبقاء الشرق فى الوضع الذى يجعله أبدا ذيلا للغرب، أو عونا له، أو محورا لسياسته المعروفة من بضعة قرون ! سياسة الاستعمار الذى بدأ أول أمره قهرا، ثم تدرج فى أسماء كثيرة على مر الأيام، دون أن يختلف المسمى المحروس بعنايته!! والذى يهدف فى إصرار تام إلى أكل الشعوب المستضعفة، والتهام حقوقها المادية والأدبية!!. ومشروع أيزنهاور إحدى المحاولات القوية لحماية دول غرب أوروبا، واستدامة مصالحها، و إبقاء الشرق المسكين يدر عليها السمن والعسل. الشيء السخيف فى قصة التدخل الأمريكى حكاية العون المالى المعروض على سكان الشرق الفقراء!. إن هذا العون بالنسبة لمصر مثلا ضرب من التناقض العجيب. فالولايات المتحدة كما تعرف الدنيا كلها جمدت أموالنا لديها- وكذلك فعلت إنجلترا وفرنسا- ثم هى تحيك الآن مؤامرة واسعة لاغتصاب نصف إيراد القناة. وهى من قبل ومن بعد تشارك فى فرض حصار اقتصادى خانق على بلادنا..!! فما معنى أن يجىء أحد الناس فيختلس ما أملك، ثم يضعه فى حافظته آمنا مطمئنا، ثم يقول لى: إذا شئت صدقة رميت لك بضعة دريهمات!! رميتها لك على الأرض لتنحنى فى ذلة وتلتقطها. ما هذه الصفاقة ؟! دعوا لنا أرضنا وبترولنا ومواردنا واحتفظوا بصدقاتكم.. ما نريدها! إنكم شبعتم من نهبنا، وأثريتم من سرقتنا. ولو حرمناكم حقوقنا التى تتحول إليكم جهرة واكتيالا ما بقى لكم فضل يبجحكم بالتطاول علينا..ص_189(1/203)
صدقات !! خلونا وأموالنا فهى تكفى وتغنى، وكلوا صدقاتكم إن كان لكم مدخر من مال. إن قصة الاستعمار الغربى هى قصة التلصص الذى لا يحكى له تاريخ الحياة نظيرا. ومهزلة هذا العون المعروض علينا ليست إلا بقية القحة التى عرف بها هذا الاستعمار. آه لو هبت الريح علينا رخاء، ومكنتنا الأقدار الطيبة من استغلال خيراتنا لأنفسنا، وكفت أيدى هؤلاء الخواجات عنا! إذن لمد الإنجليز والفرنسيون أكفهم إلينا يسألوننا العطاء، ويطلبون النجدة. لكنهم الآن يسرقون كل شىء من ظاهر أرضنا وباطنها، ثم يزعمون- ولهم الحق- إننا بحاجة إلى فضول ما يكسبون! قال الرئيس أيزنهاور: " إن الشرق الأوسط مهد ثلاث ديانات كبرى هى الإسلام والمسيحية واليهودية، فمكة والقدس أكبر من مجرد مكانين على الخريطة. لأنهم يمثلان ديانات تعلم أن الروح فوق المادة، وأن للفرد كرامته وحقوقه التى ليس لأى حكومة مستبدة أن تحرمه منها. وأنه لمن الأمور التى لا تحتمل أن تقع الأماكن المقدسة فى الشرق الأوسط تحت حكم يمجد الوثنية المادية ". هذا كلام نحب أن نسمعه، ونحب كذلك أن يطبق فى أوسع نطاق، ونتمنى لو أن قائله عنى كل حرف فيه. فنحن نكره الإلحاد و نحاربه، ونحن نرفض الفلسفات المادية، ونضع السدود أمام امتدادها. ونحن نسعى جاهدين لاسترداد حقوق الإنسان المسلم بعدما سلبها، واستكثرت عليه، ونريد أن نوطد حرية الفرد والجماعة فى منطقة عاش فيها الاستعمار، وأضاع فيها حقوق الأفراد والجماعات.. ولكننا نتساءل: إذا كان فى الشرق الأوسط إلحاد فمن مصدره؟ وإذا كان فيه فساد فمن صانعه؟ وإذا كانت فيه آلام ومآس فمن مرتكبها؟ إن ترويج الكفر والمعاصى كان حرفة الاستعمار الغربى منذ احتل بلادنا، وأن انتهاك الحرمات والمقدسات كان ديدنه الذى لا ينفك عنه، وحروب التحرر التى اشتعلت هنا وهناك، وقتال المقاومة اليائسة الدائر الآن فى الجزائر، كل ذلك إنما تهيجه بواعث الدفاع عن الحياة وعن العقيدة، أى(1/204)
بواعث المحافظة على الدنيا والآخرة، على الروح والمادة، وكلاهما مع الاستعمار الغربى هبا ووهم !!!ص_190
فماذا صنعت أمريكا المخلصة للأديان؟ لا شئ إلا تقديم سلاحها للمعتدين علينا !! إن مصر والجزائر ضربتا بأسلحة حلف الأطلسى !! نحن نعرف أن للمسيحية سوقا رائجة فى أمريكا، وأن الولايات المتحدة تحنو عليها، وتستمسك بها، وبين يدى إحصاء نشرته سفارتها ينطق بمدى ما بلغه نطاق التدين من سعة، فقد جاء فيه مايلى، ننقله بنصه: بلغ عدد الأفراد المسجلين لدى الكنائس المختلفة فى الولايات المتحدة سنة 1954: 97 مليونا و 482 ألفا و 1 71 شخصا. ونعنى بالأفراد المسجلين الذين يشتركون فى النشاط الكنسى بصورة فعلية. وقد زاد عدد هؤلاء بنسبة 2.8 بالمائة عن عددهم فى السنة السابقة، بينما لم يزد مجموع عدد السكان خلال عام 1954 عن السنة السابقة إلا بنسبة 1.7 بالمئة ، وبلغ عدد المسجلين فى مدارس الأحد أو السبت ص مليونا و 623 ألفا و 5 35 شخصا. كما قدم مجلس الكنائس المسيحية القومى خلال سنة 943 1: ص 1 ألف إذاعة دينية. وكل معونة للهيئات الدينية فيها اختيارية، فلا إكراه فى الدين ولا إلزام. ولا تقدم الدولة إلى الكنائس أموالا ولا معونات. وفصل الكنيسة عن الدولة من المبادئ الأساسية فى أمريكا. وقد بلغ عدد الكنائس سنة 1954: 5 35 ألف و 56 كنيسة، وعدد الطوائف 264 طائفة أو مذهبا، فقد وجدت جميع الملل والأديان على مر الحقب والأجيال طريقا إلى أمريكا وأقامت لها هيئات، وجمعت حولها الأنصار والمشايعين دون رقابة أو تدخل من الحكومة الأمريكية. وللكنائس الأمريكية عدة أعمال وواجبات بجانب الطقوس والعبادات وبث التعليم والوعظ والإرشاد. فهى مراكز ذات شأن لمختلف مظاهر النشاط وعديد نواحيه، ولها برامج ومناهج للنساء والرجال والشباب والولدان، بسبيل الدراسة أو الخدمة، أو فيما يتصل بمطالب الزمالة والرفقة والرياضة وقضاء أوقات الفراغ... وأكبر الطوائف الدينية(1/205)
فى أمريكا البروتستانت والكاثوليك واليهود. ويبلغ عدد الأفراد المنتمين إلى المذهب البروتستانتى 57 مليونا و 124 ألفا ، والكاثوليك 32 مليونا و 455 ألف، واليهود " ملايين ونصف مليون. وتشتمل الطوائف الدينية الأخرى الأرثوذكس الروس والأرثوذكس الأروام، والكاثوليك البولونيين الوطنيين، والأ رثوذكس العرب الشرقيين،، والبوذيين الأمريكيين،ص_191
والأرثوذكس الأوكرانيين، والمسلمين، والأرثوذكس السريان الأنطاكيين، وطوائف صغيرة أخرى تشمل مختلف الأديان والملل المعروفة فى العالم. ويحمى الدستور الأمريكى حرية الفرد فى اخيتاره كنسيته ودينه وعبادته وفقا لإملاء ضميره ووحى قلبه. وينص التعديل الأول الذى أدخل على الدستور على ما يأتى: " لا يجوز للكونجرس أن يقر قانونا يقضى بإقامة دين من الأديان أو منع أحد من حرية العبادة "... ويسرى هذا القيد أيضا على المجالس النيابية فى جميع الولايات المتحدة، وعددها 48 ولاية، إما بأحكام ونصوص فى دساتيرها أو بفتاوى فقهية. ويلقن التعليم الدينى ، أو اللاهوت، فى طائفة من الجامعات الكبرى وفى عدة معاهد دينية خاصة. وقد بلغ عدد طلاب المدارس الدينية سنة 1954- 1955: 5 28.76 طالبا، وعدد المشتغلات بالوعظ 1 579 امرأة، منهم 2896 راعية لكنائس محلية... وتتولى الطوائف المختلفة تنظيم الفرق والفصول لتعليم الصغار والكبار على السواء مبادئ أديانهم وتعاليمها.. ويمكن حوالى ثلاثة ملايين طالب من حضور الفرق والفصول ساعة أو أكثر فى الأسبوع لتلقى دروس دينية إذا شاءوا... ويؤخذ من السجلات التى تحفظها جمعية الكتاب المقدس الأمريكية لعام 1952 أن الكتاب المقدس لا يزال أكثر الكتب إقبالا على اقتنائه فى أمريكا وأشدها رواجا. وتقول الجمعية أيضا أن عدد النسخ المباعة من التوراة يتزايد عام بعد عام. *** ونحن نعرف أن " أيزنهاور " رجل متدين، وأنه يصحب الإنجيل فى سفره و إقامته. وربما كان صادقا فى جزعه على المسيحية إذا(1/206)
انتصرت روسيا. بيد أن ذكره للإسلام ومهبط وحيه مكة، يجعلنا نتساءل مرة أخرى: صحيح أن الرئيس الأمريكى يعترف به دينا- ولو باطلا- كما يعترف باليهودية؟ يبدو أننا لا مكان لنا فى هذا المجال، وأن ديننا ذكر عرضا أو سهوا، فإن السياسة الأمريكية إلى هذه الساعة لا تزال ترجح اليهود على العرب، واليهودية على الإسلام،ص_192
وهى لم تضع فى حسابها هذا الدين الذى يعتنقه جمهور كثيف من البشر، ينبغى - ولو وفق سياسة المنفعة- أن يجبر خاطرهم! بل على العكس، إن الحقد على الإسلام جار على سياسة أمريكا وعلى مصالحها الحلال والحرام، فضحت بهذا الدين وأهله إرضاء لليهود وآمالهم المجرمة، فى إفنائها وسكنى ديارنا من بعدنا. إن حديث أيزنهاور عن الديانات الثلاث غريب، ووددنا لو أنه محور السياسة الأمريكية، ولكن أين الروحانية، وأين القيم الخلقية؟ وأين المثل العليا؟ وأين رسالات السماء ومرضاة الله؟ وأين الاكتراث بيوم الدينونة فيما تبذله أمريكا من عون للاستعمار؟ وتأييد ظاهر لتهويد فلسطين وتنصير الجزائر، وتحويل البشر إلى قطعان يساقون، أو يبادون بالحديد والنار؟ ثم أين هى الشيوعية التى تحذرها أمريكا على بلادنا، وتخشى من وقوعنا فى براثنها؟ وكيف يصح فى الأذهان: أن سوريا مهددة بالمذهب المادى وفيها على ما يقال نائب شيوعى واحد ! أما فرنسا التى فيها خمسون ومائة نائب شيوعى فليست مهددة بالمادية، بل هى حليفة أمريكا ! وما يقال عن سوريا يقال أكثر منه فى سائر دول الشرق الأوسط، فالشيوعية فيها مذهب لا يجد له مستقرا، ولا يلتف حوله أتباع جادون، وإن وجدوا فقلة لا تذكر، ولا نسبة بينها وبين بقاع أوروبا التى قامت للشيوعية فيها سوق نافقة، وانضمت إليها جماهير غفيرة من السكان. إن المذهب المادى لا يجد له فى أقطار الإسلام بيئة خصبة، فهو إنما انتشر فى الفراغ الذى تركته المسيحية وراءها حيث حلت، وهو قد جاء عوضا عن ضالة تعاليمها فى العلاقات الاجتماعية(1/207)
والاقتصادية، وعلاجا للفساد الذى صاحب كهنوتها وتزمتها ودعاويها الباطلة. أما الإسلام فإن تراثه الروحى والثقافى، وشبكة تعاليمه الجامعة التى تمتد فى أقطار الحياة امتداد أسلاك الكهرباء فى مدينة متألقة ، فإنه لا يسمح للمادية الكافرة أن تقوم إلى جانبه. إن هذه المادية غريبة على النفس الإسلامية فكرا وعاطفة، وبرغم المآسى الداكنة التى عرضت لها فهى لم تجنح إليها، وهذه المآسي الموجعة هى من صنع الاستعمار الغربى، ومن ضراوته الشرسة فى بلادنا !!ص_193(1/208)
واسمع إلى ما يقوله " كوليت وفرنسيس جانسون ": " إن هناك نوعا من المنافسة قامت بين الإسلام والماركسية للعمل على تحرير الشعوب الإسلامية. ويقرر فريق من الجزائريين أن الإسلام يدعو إلى مبدأ تحررى هو العامل المحرك للثورة فى الجزائر، وهو العقيدة التى حفظت الشخصية الجزائرية من الاندثار، والتى أبقت روح المقاومة حية مشتعلة تكافح الفاتح الغاشم الذى اغتصب حقها، وأهدر كرامتها. والإسلام إما أن يثبت مقدرته على مساندة حركة التحرير القائمة إلى أن تبلغ أهدافها النهائية، وإما أن يوصلها إلى منتصف الطريق فتحرر الجزائر جزئيا، ويبقى عليها بعد ذلك أن تقوم بثورتها الحقيقية، وستتاح للشيوعية حينئذ فرصة للقيام بدور فعال. ويقرر الجزائريون أن الظروف الحاضرة تشير إلى أن الشيوعية لم تلق إلى الآن إلا فشلا ماحقا. فزيادة على أن للإسلام دخلا فى هذا الفشل، هناك سبب خاص أشرنا إليه آنفا وهو: وجود عدد كبير من العمال الأوروبيين فى الجزائر، هم الذين كونوا الحزب الشيوعى الجزائرى، ولم يتمكن هؤلاء العمال من الاندماج فى القومية الجزائرية، والتعبير عن مشكلاتها تعبيرا صادقا ". أ. هـ وكلام الكاتب الفرنسي يرمز إلى أجزاء من الحقيقة التى نعرفها نحن معرفة كاملة، فإن الإسلام وحده هو الذى أشعل نار الثورة ضد الفرنسيين القتلة، وستظل الثورة ناشبة ما بقى الإسلام قارا فى القلوب حتى تحقق آمالها، وسيظل وحده الدافع والمعبر عن هذه الآمال الكبار، ولن يكون للشيوعية مجال إلى جواره. والأمريكيون يدركون أن المسلمين فى أسوأ ظروفهم- وليس أسوأ فى الدنيا، مما يقع الآن بالجزائر- لم يتحولوا إلى الشيوعية، ومع ذلك فهم يؤيدون فرنسا، ويخذلون الجزائر ولعلهم يتهمون الجزائر بأنها شيوعية، ويقولون إن فرنسا لا تعرف الشيوعية أبدا، وبمثل هذا الكذب والافتراء يحاول الأمريكان أن نصدق محالهم ، وأن نقنع أنفسنا بأنهم يدفعون عن الإسلام، وثروته الروحية، وأهله الطيبين(1/209)
!!! أو أنهم يدافعون عن الأديان فى العالم !! فلا غرو أن تكتب صحائفنا منددة بهذه السياسة، ومتهمة أصحابها بما يستحقون: " إن مشروع أيزنهاور مشروع غزو، أخطر من غزو الإنجليز والفرنسيين لمصر، وواضح أن أمريكا تريد به أولا روسيا، لكنها تريد به أيضا هذا الشرق الأوسط،ص_194
وليس يهمنا ما بين روسيا وأمريكا، إنهما تتنازعان على سيادة العالم وزعامته، ومن وراء هذا خيرات العالم يستأثر بها الغالب منهما، لكن وطننا لا هذا الشرق " هو الذى يهمنا، وهو الذى من أجله نعنى بما يقوله الطرفان وبما يفعلانه. إن أمريكا تريد الشرق لتستعمره، وتريده لتضرب به روسيا، وتخفى هاتين الرغبتين فى غلاف من المزاعم والخرافات، وذلك شأن روسيا أيضا من ناحيتها حذوك النعل بالنعل. ومن أعجب ما تقوله أمريكا أن مشروعها هذا هو إعلان للسلام، فيا عجبا، مشروع كهذا ينطوى على كل صور التهديد والإثارة والتحدى يكون إعلان سلام، فكيف يكون العمل للحرب والتمهيد لها "؟؟. ** " إن آخر دعوى كنا ننتظر سماعها أن يزعم الأمريكان حمايتهم للأديان السماوية، وتحت دعوى هذه الحماية المنتحلة يتم إطلاق اليهود فى فلسطين كما تطلق الذئاب المسعورة على قطيع ليس له حارس، ويتم إطلاق الفرنسيين فى الجزائر ليحولوا قراها إلى مقابر، يهمد تحت ردمها مجاهد ثاكل، وذرارى ضائعون، وشعب يكمم فمه حتى يقتل فى صمت !!. حماية الدين من الشيوعية؟؟ حماية الشرق من المادية؟؟ أهذا هو الستار الذى تلقيه أمريكا على سياستها وسياسة حلفائها الذين شحنوا قلوبنا بالآلام، وحياتنا بالمصائب؟ إن الاستعمار الغربى الأفاك لم يعرف يوما ما بدين إلا دين السلب والنهب، دين الاجتراء والافتراء، وإن الظهور فى زى التدين مع هذه الفعال المنكرة هو غذاء الإلحاد فى العالم، وحجة الطوائف التى لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر من الشيوعيين المنتشرين فى الغرب، أو النابتين اليوم بيننا. نعم، فإن الضلال فى معرفة الله، والنفاق(1/210)
فى ذكر اسمه، يتركان وراءهما آثارا سيئة، ويرفعان الثقة فى الأشخاص والمبادئ ، وإذا كان ذلك بادى الضرر فى العلاقات الفردية، فهو فى العلاقات الاجتماعية والسياسية مثار كفران شامل، وصدود عن ا!لحق بعيد.. وتدين الأمريكان على هذا النحو الأكال للحقوق، هو الذى جعل الشباب الميال للشيوعية يزيد سخريته من الأديان، وكراهيته لرسالتها، ويصدق ظنونه فى أنها لاص_195
تعدو أن تكون وسيلة لتخدير الوعى، وسرقة الضعاف، وسيلة خلقها الأقوياء لأكراضهم الوضيعة فقط..! كتب أحد هؤلاء الشبان اليساريين تحت عنوان " الله والسياسة الدولية ": " كان موسولينى يقول أيام العلمين أنه يزحف إلى الإسكندرية ليحمى حمى الإسلام، وأن الغزو الإيطالى ليس عدوانا، بل هو فى الحقيقة نوع من الحج.. وكذلك كان الإنجليز يزعمون حينما كانوا يضربون قلاع الإسكندرية بعد حادثة الملطى كانوا يقولون: إنهم يحمون المسيح ورعاياه بقنابل الأسطول.. وأمريكا اليوم تقول أنها تحمى الشرق من الإلحاد بضربه بالأسلحة الذرية الصغيرة.. ما السر فى هذا الحرص الغريب من الدول الاستعمارية الكبرى على أدياننا؟ إنها أدياننا نحن فى النهاية، وأنبياؤنا الذين عاشوا لنا وماتوا لنا، وتركوا أرثهم الروحى بين أجدادنا.. لم ينزل القرآن فى نيويورك، ولا الإنجيل فى هوليوود، ولا التوراة فى كابرى. فلم هذا القلق كله من الإنجليز والأمريكان على تراثنا الديني؟ إن فى الأمر سرا ! ثم يقول: إن الله الذى يدافع عنه أيزنهاور ليس هو إله الإسلام، ولا إله المسيحية، وإنما هو عضو فى مجلس شركة الزيت العراقية، وقد أسقطناه من حسابنا من زمن طويل.. ويقول: إن الله الذى تتحدث عنه أمريكا، وتحميه بقنابلها الذرية هو الشيطان بعينه. إنها لعبة أسماء…." لما! وهكذا تتسع دائرة الإلحاد فى الأرض، لأن الصليبية الغربية تقرن حديثها عن المثل العليا بأفعال منكرة، وتتكلم عن الله الكلام الذى يصرف الضمائر عنه، ويغرى السفهاء(1/211)
بالتطاول عليه، وسياسة هذه الصليبية فى بلادها ومع أعدائها هى التى عكرت رونق الإيمان. وأطلقت عنان الشيطان، وجعلت مستقبل الأديان كلها فى مهب العواطف الهوج..! ومن حقنا أن نتعرف على أحوال الأمريكيين فى بلادهم العظيمة، فإن حماسهم فى حماية الأديان ينبئ عما يملؤها بلا شك من الصلاح والتقوى..ص_196
إن الذى يتطوع بنفسه وماله لمحاربة الإلحاد المادى لابد أن يقيم أموره على فيوض من الطيبة والعدالة والنبل يقتبس منها للعالم مثله العليا..!! فلننتظر إذن لنرى ما هنالك. بالأمس جلست استمع إلى الراديو، فقرعت آذانى قصة مثيرة، قصة زنجى وقف ينتظر السيارة ليعود إلى أهله، وبغتة أحاط به لفيف من الصبية الأمريكيين، ولم يشعر المارة إلا والرجل يرسل صرخة عالية ثم يهوى على الأرض، كان الدم ينزف من رأسه وكأن صاعقة نزلت به، وكان يهمس فى دهشة: ما حدث لى؟ حملته عربة الإسعاف إلى المستشفى حيث قضى نحبه، وهو يسأل: ماذا حدث؟ لقد مات أثر ضربة نافذة من قدوم هوى عليه، وهو لا يدرى ولا يتوقع !! وذهب الزنجى المسكين إلى قبره لا إلى بيته، لأن حماة الأديان لا يحترمون حق الحياة للملونين، إن الدين الفذ هو أن يسود الرجل الأبيض وحده فى هذه الحياة !! وأمامى الآن بحث وضعه الدكتور " ألفريد كنزى " مع فريق من زملائه جمعوا فيه حقائق جنسية عن المجتمع الأمريكى بمختلف طبقاته نقتطف منه النبذ الآتية: "... ومعابثة الجنس الآخر لون من التفريج الشائع بين الذين مضوا فى دراستهم إلى نهاية التعليم الثانوى، وبين الذين درسوا فى المعاهد العليا، فإن 92% منهم يمارسونه بطريقة ما قبل الزواج، فى حين أن 88% فقط من الذين اقتصروا على المرحلة الإعدادية يمارسونه ". قال: " وكلما صغرت السن كان الاتجاه إلى مجامعة الزميلات أكثر منه إلى مجامعة البغايا فى جميع الطبقات، وكلما كبرت السن زاد اتجاه الأعزاب من ذوى التعليم الناقص إلى البغايا عنه إلى الزميلات ". قال: " قد(1/212)
يدهش المرء إذا رأى الرقم الكبير الذى يشير إلى عدد الجامعيين الذين مارسوا الجماع قبل الزواج، لكن الدهشة تزول إذا حسب عدد المرات التى يمارس فيها طالب الجامعة هذا اللون من ألوان التفريج، فإن النسبة بين الجامعيين أقل منها بين أى طبقة أخرى ". قال:! وبين الذين لم يتزوجوا حتى سن الخامسة والعشرين نجد أن ممارسة الجماع مع البغايا وجدت إقبالا من 74% ممن درسوا حتى المرحلة الإعدادية، و 54% ممن أتموا المرحلة الثانوية، و 28% ممن واصلوا الدراسة إلى النهاية ". قال: " وتقتصر مجامعة الحيوان على الذكور الذين ينشأون فى الريف، أما أبناء المدن فلا يمارسونها إلا نادرا وفى فرص عابرة، ولهذا نجد نسبة الذين يقبلون على هذاص_197(1/213)
اللون من التفريج منخفضة جدا، فهى لا تعدو 14% بين الريفيين الذين بلغوا المرحلة الإعدادية، وحول 25% بين الذين استكملوا الدراسة الثانوية، و 26% ممن تلقوا دراسات جامعية ". قال: "... على أن 85% ممن لا يتلقون تعليما عاليا يرون فى الجماع قبل الزواج أمرا طبيعيا وعاديا لا علاقة له بالخطيئة، وهو يتفشى فى الأوساط التى لم تتجاوز فى تعليمها المراحل الإعدادية، حتى أننا لمن نعثر على فرد واحد فى مجموعتين أو ثلاث من المجموعات التى درسناها فى هذه الطبقة لم يمارس الجماع من الجنس الآخر عندما بلغ السادسة عشرة أو السابعة عشرة ". قال: " وهم متقلبون إلى درجة كبيرة حتى أن الواحد منهم لا يكاد يجامع الأنثى أكثر من مرة واحدة على أن أبناء الطبقة الدنيا لا يلبثون أن ينظروا- بعد الزواج- فى اشمئزازإلى هذا التقلب وإن بقى بعضهم بضع سنين بعد زواجه يمارس العلاقة مع غير زوجته إلى جانب ممارستها مع زوجته، وعلى النقيض من هذا أبناء الطبقة العليا إذ ما يكاد الواحد منهم يتعود الجماع مع زوجته حتى يشرع فى الاتصال بغيرها ".. هذه هى أمريكا حامية الإيمان وحارسة الأديان !! والتى تتوجس الشر من تسرب الشيوعية إلى الشرق الأوسط. إنها ترغب أن نحيا فى كنفها، وأن نقبل وصايتها علينا لننعم فى ظلال حضارتها الطيبة، حضارتها العامرة باليقين والعفاف والقسطاس المستقيم.. !! لو أن للغرب رسالة نبيلة يدعو إليها، ويعيش فى جوها، رسالة تغرى الآخرين بما تحويه من خير وكرامة، وبما تتضمنه من حق وأنصاف، لقلنا: دعوة ينبغى أن نستمع إليها، وأن نقارن بين ما فيها وبين ما لدينا. أما أن ننظر إلى أمريكا وأوروبا معا فلا نرى إلا الشر الزاحف، والرعد القاصف، والتحقير لأشخاصنا، والازدراء لحقوقنا، فبأى عقل نقبل هذه المعاملة، وبأى ضمير نرتضى هذه الأوضاع، وبأى وجه نقبل هذه المساءة ، مهما اجتهد أصحابها فسموها زورا حماية للدين، وكراهية للإلحاد. إن الإلحاد هو ما(1/214)
يفعلون، والدين الحق هو الذى يهدمون، والإسلام وحده هو الذى يكيدون وبه يمكرون.. !! *** وننتقل إلى دور الأمم المتحدة فيما يقع علينا نحن المسلمين من مآس ، وما يقع كذلك على أمثالنا من المستضعفين...ص_198
إن هذه المؤسسة جاءت فى أعقاب طوفان من الدم خلف وراءه سبعين مليونا من القتلى، عدا عشرات الملايين من المشوهين والمنكوبين، وعدا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التى أدركها الغرق أو الحرق. هذه الخسائر الجسيمة إنما نشأت من غليان الآثرة بين ساسة الغرب، ومن جريانهم وراء بريق المطامع الدنيئة، وتهارشهم على انتهاب العالم، ووضع اليد الجائرة على ما فيه ومن فيه.!! فهل اتعظ المحاربون بعد هذا الدمار الشامل؟ وهل ثابوا إلى رشدهم، وكفكفوا من غلوائهم ؟ وهل فكروا فى انتهاج خطة انصاف تمنع الشجار، وتحط الأوزار، وتصون المستقبل من متاعب الماضى؟؟ كلا كلا.. !! إن شيئا من ذلك لم يحدث، كأن العدالة حديث خرافة، وكأن التعاون على البر والتقوى أمر لا يليق بالدول الكبرى!! إن إنجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول المستعمرة لم تزك ضمائرها أبدا على ترادف الآلام ، كأن الجراحات التى أثخنتها ما زادتها إلا عتوا، وها هى ذى قد خرجت من حرب ضروس أثارها العدوان المحض، لتستعد لحرب أخرى تشبع نهمها إلى اللحم الحرام والمال الحرام، واسترقاق البلاد والعباد.. وفى سبيل ذلك تتخذ من مؤسسة الأمم المتحدة وسيلة للعبث بمقدرات الشعوب، ومن مكانتها فى مجلس الأمن حائلا دون إحقاق الحق... ولعل من أبشع مخازى العصر الحديث، أن هذه الأمم المتحدة- تحت تأثير أمريكا وإنجلترا وفرنسا- اعترفت بدولة إسرائيل، ومعنى فلك الاعتراف التواطؤ الخسيس على تشريد مليون عربى، والرضا بأن يهلكوا جوعا وضيعة ومسكنة فى العراء والغربة، بينما يحل مكانهم المستجلبون من يهود الأرض، فى حراسة الاستعمار الغربي وبتشجيعه وإيعازه !!! لقد باركت الأمم المتحدة هذا الضيم الصارخ واستراحت(1/215)
له..!! واليوم يجئ الرئيس الأمريكى " أيزنهاور " ليعلن أن سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط ستسير جنبا إلى جنب مع الأمم المتحدة، فهو يقول: " إن أفكارنا تتجه بطبيعة الحال إلى الأمم المتحدة كحامية للأمم الصغيرة، فإن ميثاقها يحملها المسئولية الأولى لصيانة السلام والأمن الدوليين، ولقد منحت بلادنا الأمم المتحدة تأييدها الكامل فيما يتصل بالحرب فى المجر ومصر، وقد تمكنت الأممص_199
المتحدة من تحقيق وقف القتال، وسحب قوات العدوان من مصر، لأنها كانت تتعامل مع حكومات وشعوب تكن الاحترام اللائق لآراء البشرية، كما هى ممثلة فى الجمعية العامة للأمم المتحدة "... أى أن إنجلترا وفرنسا انسحبتا من مصر احتراما للضمير الإنسانى!! وهذا والله وصف مضحك !! فإن الدولتين الباغيتين ما وقفتا القتال فى مصر إلا بعد التدخل الروسى، والخوف من تدمير لندن وباريس بالقذائف الموجهة، كالكلب اللص يدلف من باب البيت ونيته السطو، فإذا هو يلمح شبح العصا من بعيد توشك أن تقصم ظهره، فيستدير موليا الأدبار... ونباح الكلب وهو يجرى هاربا ليس إلا أسفا على ضياع فريسته! ولم يقل أحد أنه صراخ استغفار، وإعلان توبة!! ولم يقل أحد- إلا الرئيس أيزنهاور- إن انسحاب إنجلترا وفرنسا كان احتراما لآراء البشرية، ممثلة فى قرارات الأمم المتحدة... إن أمريكا تدافع عن صاحبتيها لأن آصرة الدم المشترك تجمع بينهم، والاحتقار لحاضر العرب ومستقبلهم يمزج بين سياستهم فى النهاية، وان اختلفت الوسائل !!! ولو بقى التحالف بين الروس والأمريكان كما بدأ فى الحرب العالمية الثانية لذهبت مصر كلها فى خبر كان، ولاجتمعت الأمم المتحدة لتبارك منح مصر لليهود...!! لكن الله جلت حكمته بث الفرقة بين الأقوياء، حتى يتيح للضعاف متنفسا يحيون به، ويتقون به البطش والحيف... *** من بضع سنين والسكان الأصلاء فى جنوبي أفريقيا يجدون ضيقا هائلا أوقعه بهم البيض النازحون إلى ديارهم، لقد رسم هؤلاء البيض(1/216)
الغزاة سياسة فى معاملة أهل البلاد تقوم على الخسف والعسف، وتنطوى على أخس مشاعر الاستعلاء والافتيات... قال الأستاذ محمد شاهين حمزة، وهو يستعرض السياسة المرسومة ضد الملونين: " أما فى جنوب أفريقيا فإن الأمر فيها أنكى وأتعس، غلو فى التفرقة ينحدر أحيانا إلى ما يشبه إنكار وجود الملونين أنفسهم، كأنهم ليسوا بشرا يستحقون قطرات من الحياة والآمان ". إنهم حين ينزل عليهم الغضب من سماء السادة البيض، يصب الغاز على أجسادهم وهم أحياء. ثم توقد فيها النار لحرقها، والغريب أن رئيس وزراء جنوب أفريقيا يدعو إلى التوسع فى التمييز العنصرى، حتى يشمل مناطق أخرى غير المناطقص_200(1/217)
التى يسود فيها هذا التمييز، والتى يعيش فيها الأجانب سادة، والأهلون عبيدا، بل " عبيدا بصق على وجوههم، وامتهنت آدميتهم " على حد تعبير الدكتور " مالان " رئيس وزراء جنوب أفريقيا المعروف باحتضانه لسياسة التفرقة. وعذر البيض فى شدتهم وقسوتهم، وفى إبائهم على السود أن ينالوا حقا ما، هو الخوف من أن يشتد ساعدهم يوما فيستردوا ما اغتصب منهم من أراض وخيرات. إن خمسة ملايين أوروبى يصرون على التحكم فى 192 مليون أفريقى، ويعملون على عدم تمكينهم من نيل أى حق إنسانى. وحدث أن عرض اقتراح على " هيئة الأمم المتحدة " ضد التفرقة العنصرية بجنوب إفريقيا فأيدته دول، وعارضته أخرى، وامتنعت طائفة عن التصويت، ومات الاقتراح فى الهيئة الموقرة، وظل الشقاء مضروبا على التعساء الذين خصتهم الأقدار بجلود مسودة. تريد أن تعرف الدول التى عارضت الاقتراح؟ ووقفت تناصر سياسة التفرقة العنصرية، وتعلن العداء لحقوق الإ نسان، وتدعو إلى إهدارها؟ إنها: بريطانيا، واستراليا، وكندا، وزيلندة الجديدة، وبلجيكا. أما الدول التى امتنعت عن التصويت، أى التى أيدت سياسة التفرقة بموقفها السلبى فهى: الولايات المتحد ة، والنرويج، وتركيا، والد نمارك، وفرموزا... وأما سياسة فرنسا فى هذه القضية وغيرها فقد شرحها أحد علماء القانون الفرنسي فى هذه العبارات: " إذا قلنا: سيادة الشعب، فلا يعنى هذا شعوب مدغشقر أو أفريقيا الاستوائية أو مسلمى مراكش... !، إن حقوق الإنسان والمواطن لا تطبق ولا تراعى إلا لصالح الشعب الفرنسى بالقارة الأوروبية. فالوطنى فى مدغشقر أو الهند الصينية مهما بلغت مكانته الاجتماعية وثقافته وعلمه لا يعتبر مساويا للفرنسى الأوروبى " *** هذه هى القاعدة التى نعامل بها، يسرونها حينا، ويعلنونها حينا، ودول الاستعمار مثنى وفرادى لا تتبع غيرها فى سياستها معنا. إذا انتظر الظماء الرى من السراب انتظر المعذبون الراحة منها، وفى السراب بريق لا يزال يخدع(1/218)
ويخلق الأمانى الكذاب، أما المجامع التى انتظمت هذه الدول فقد بداص_201
وجهها الكالح، وانكشفت خبيئتها السيئة، وظهر أن الأمم الصغيرة والضعيفة أضيع فيها من الأيتام فى مأدبة اللئام، بل إنها هى الطعام الذى يوضع على هذه المائدة الحرام... وإن ينس أحد، فلن ننسى أبدا، أن هذه الدول الكبرى جمعت أذنابها بالرغبة والرهبة لتميت قضية الجزائر، وتدع عربها يتساقطون قبيلا قبيلا بين أنياب الفرنسيين الوحوش، دون أن تسمع لهم شكاة. و إن ينس أحد، فلن ننسى أبدا، أن هذه الدول الكبرى قررت أن تبعثر عرب فلسطين لقى فى أرجاء الصحراء، وأن تستخرج اليهود استخراجا من بلاد يعيشون فيها آمنين وافرين، لتقيم لهم بين أظهرنا دولة تقسم كياننا، وتسود وجوهنا، وتذل ديننا ودنيانا... ثم إن الغربيين النازحين إلى أمريكا حملوا أحقادهم إليها، فإذا الدولة التى صنعت فى العصور الحديثة تسوس أمورنا معها، وكأن لها ثارات حفظتها القرون الطوال ! وأكدتها آلاف السنين !. لم هذا الطمع فينا، والتهوين لشأننا يا معشر الأمريكان؟ لم هذا التحامل علينا والخذلان لقضايانا؟ إن مشروعاتكم لبلادنا لا تحمل إثارة من حق أو نبل، ولن نعول بعد اليوم إلا على أنفسنا فى النجاة بأنفسنا... إن العرب لا يرجون من الولايات المتحدة إلا شيئا واحدا: أن تلزم الحياد الدقيق معهم، وأن تتركهم وشأنهم دون تأييد أو خصام . والعرب يعرفون أن مأساتهم قد وضع خطتها الإنجليز، ثم قام بتنفيذها الأمريكان، وأرصدوا من أموالهم وقواهم وحيلهم ما جعل أهل فلسطين يمرون فى أطوار سوداء من الآلام والأحزان. وقد شعر المشتغلون بالسياسة العربية بهذه الحقيقة دون جهد، ولهذا أذاعت الهيئة العربية العليا لفلسطين بيانا عن موقف الولايات المتحدة من قضايا العرب جاء فيه: من الغريب أن يغفل الرئيس" أيزنهاور" فى بيان سياسته الجديدة الإشارة إلى الشقاء الواضح والظلم الفادح الذى أصاب اللاجئين الفلسطينيين من جراء قيام(1/219)
الدولة اليهودية، وبقاء نحو مليون نسمة منهم مشردين يقاسون أشد ضروب المحن والرزايا،ص_202
بينما هو يتحدث فى مناسبات عدة ولا سيما فى بيانه يوم ذكرى وثيقة حقوق الإنسان فى 25 فى يسمبر (كانون الأول) سنة 1956، عن الشقاء الذى حل باللاجئين المجريين الذين لم يتجاوز عددهم خمسين ألفا، ويدعو دول العالم إلى إنقاذهم، ومد يد المعونة إليهم. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تجاهل بيان الرئيس "أيزنهاور" الشرور والمآسي التى نتجت والتى ما زالت تنتج من العامل الآخر الذى يتهدد الأمن والسلام فى الشرق الأوسط، وهو الاستعمار الغربى الذى يقوم بالعدوان السافر على شعوب هذه المنطقة ويقترف أفظع جرائم التقتيل والبطش والتنكيل فى الشعب الجزائرى والشعب اليمنى، وفى واحة البوريمى، وفيما يسمى " المحميات " البريطانية فى جنوب شبه الجزيرة العربية وشرقها كعمان والبحرين وغيرهما، و إذا كان الرئيس " أيزنهاور" معنيا حقا بسلامة الشرق الأوسط، إلى هذا الحد، فإننا نستغرب أن يقوم مشروعه على أساس دفع ما يتوهمه من خطر الشيوعية الدولية فحسب، ولا يتضمن أية إشارة إلى وجوب دفع الخطر الاستعمارى الذى هو العامل الرئيسى، والخطر الحقيقى على أمن هذه الأقطار وسلامها ! فقد كانت الدول الاستعمارية دائما ضد أماني العرب ومصالحهم، وعملت جاهدة خلال القرنين الأخريين على غزو بلادهم غزوا عسكريا واقتصاديا وروحيا، وعلى تحطيم صروح استقلالهم والقضاء على حريتهم، وما العدوان البريطانى الفرنسي الأخير على مصر وفلسطين، الذى استفظعته معظم دول العالم كما استفظعته الدول الشيوعية، إلا دليل صريح وبرهان ساطع على ذلك، كما أنه ليس فى الإمكان ولا من المعقول حمل شعوب الشرق الأوسط على ألا يشعروا بلهب النار المندلعة بشدة فى داخل بلادهم، وصرف أبصارهم وجهودهم إلى خطر بعيد. إن جميع المواقف التى وقفتها الولايات المتحدة من الأحداث والتطورات والوقائع التى وقعت فى فلسطين والشرق(1/220)
الأوسط، تدل على أن التصريحات التى يشير إليها الرئيسى " أيزنهاور " لم تصدر إلا لقصد الدفاع عن اليهود وحمايتهم فى أعمالهم العدوانية من جهة، وتثبيت قواعد الاستعمار وتحقيق أغراضه من جهة أخرى، فقد قام اليهود منذ صدور التصريح الثلاثى بسلسلة من الأعمال العدوانية الوحشية على العرب، أزهقوا فيها أرواح ألوف من الأهلين واللاجئين، ودمروا الممتلكات، ونهبواص_203
الأموال والثمرات، وشردوا ألوف العائلات، دون أن تتدخل الولايات المتحدة لوقف تلك الأعمال العدوانية، أو لمنع تكرار حدوثها، ونذكر هنا على سبيل المثال بعض حوادث العدوان الوحشى على قبية ، وفلامية ، وقلقيلية ، وجعبة، ونحالين، وحوسان ، والرهوة ، والقدس، وغزة، وخان يونس، والصحبة، وكفر قاسم، ومخيمات اللاجئين فى قماع غزة، وغيرها .. ،كذلك قام اليهود بأعمال عدوانية أخرى على الأراضى العربية كضمهم إلى المنطقة الواقعة تحت احتلالهم، بعض أقسام المنطقة الحرام فى القدس، وعلى الحدود السورية، والعوجة على الحدود المصرية. وكتحويلهم مجرى نهر الأردن، وتجفيفهم مياه بحيرة الحولة. ومما هو جدير بالذكر أيضا موقف الولايات المتحدة السلبى من الاعتداء البريطانى على واحة " البوريمى" التى هى جزء من المملكة العربية السعودية، فقد وقع ذلك العدوان بعد التأكيد الصادر عن الرئيس الأمريكى إلى جلالة ملك المملكة العربية السعودية. كذلك كانت سورية عرضة لسلسلة من الأعمال العدوانية من جانب تركيا، كما كانت سورية والأردن عرضة لمؤامرات استعمارية خطيرة ترمى إلى تقويض النظام القائم فيهما، وبسط السيطرة الاستعمارية الكاملة عليهما، بينما قام الاستعمار ولا يزال يقوم بأفظع الأعمال العدوانية فى الجزائر ومراكش وتونس واليمن وما يسمى بالمحميات فى جنوب شبه الجزيرة وشرقها، هذا وقد أنزل الاستعمار البريطانى فى أهل " كينيا" وغيرهم من شعوب أفريقية، وفى أهل" قبرص "، أشد أنواع الظلم، والأذى والاضطهاد.(1/221)
ففى جميع تلك الحالات لم تتدخل الولايات المتحدة لدفع العدوان، ولم تعمل لتحقيق رغبة الشعوب فى الحرية والاستقلال، بل تغافلت عن استعمال دول الاستعمار لقوات حلف الأطلنطى وأسلحته (التى استعملت فى اعتدائها على مصر وفى حربها لشعب الجزائر). إنه مما يدعو إلى الأسف الشديد أن يتجاهل الرئيس " أيزنهاور" الأعمال الهمجية التى اقترفها المستعمرون واليهود ضد الأديان والمقدسات، وأن يغفل عن الروح اليهودى المليء بالنقمة على الأديان السماوية والقيم الروحية والمبادئ الخلقية، والذى يعتبر كل ما هو غير يهودى مباحا مشاعا لليهود. ففى الوقت الذى حافظ فيه العرب والمسلمون، خلال ثلاثة عشر قرنا وزيادة علىص_204(1/222)
حرمة المقدسات المسيحية واليهودية فى فلسطين وسائر بلاد الشرق الأوسط وصانوها وضمنوا للمسيحيين واليهود ممارسة شعائرهم الدينية بكامل الحرية، فإن المستعمرين الغربيين واليهود قابلوا العرب من مسلمين ومسيحيين بالجحود ونكران الجميل، ثم بالعدوان الأثيم على العقائد والمقدسات الدينية. إن الاستعمار ينطوى بطبيعته على روح حرمان الشعوب التى تقع تحت سيطرته من حرياتها، ومن جملتها- بصورة تلقائية- الحرية الدينية. وكثيرا ما كان الدين الإسلامى وأحكامه ومقدساته عرضة لشرور الاستعمار وأنظمته وقوانينه، وطالما أصيبت المقدسات الإسلامية بالتخريب والتدمير بسبب الأعمال العدوانية التى ما فتىء اليهود والمستعمرون وقواتهم المسلحة يرتكبونها فى بلاد العرب والمسلمين. ولعل من المفيد أن نسترعى انتباه الرئيس الأمريكى إلى السياسة الدينية الاستعمارية التى تسير عليها الدول الاستعمارية فى البلاد الإسلامية ضد المسلمين، مثل سياسة فرنسا (الدينية) فى شمال أفريقية، و إلى الحقيقة القائمة وهى أن الدول الاستعمارية وفى مقدمتها إنجلترا هى التى قضت على الخلافة الإسلامية وقاومت إعادتها، وأقامت العراقيل والعقبات فى سبيل تقدم الشعوب الإسلامية وتطورها. وفى فلسطين المحتلة دمر اليهود المئات من مساجد المسلمين، وأحالوا عددا آخر منها إلى نواد وأماكن للهو كما فعلوا بجامع المنشية فى يافا (المعروف بجامع حسن بك)، وكذلك حولوا بعض المساجد الإسلامية إلى معابد يهودية، كما فعلوا بمسجد النبى داوود بالقدس. واستباح اليهود حرمة المقابر الإسلامية فدنسوها ونبشوا قبورها وبنوا على أنقاضها بيوتا ومستعمرات لمهاجريهم الجدد، كما استباحوا الوقف الإسلامى واستولوا على أراضيه وممتلكاته، وحرموا المسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ومن الاحتفال بأعيادهم ومواسمهم، كما جرت عليه عادتهم من قرون بعيدة، ووضع اليهود المحاكم الشرعية والأوقاف وما بقى من المساجد(1/223)
الإسلامية فى فلسطين المحتلة وجميع المؤسسات الإسلامية تحت إشراف وزارة الأديان اليهودية و إدارتها. واعتدى اليهود اعتداء منكرا على الحرم القدسى الشريف، المسجد الأقصى المبارك ، فقد أطلقوا عليه قنابلهم المدمرة والحارقة فى الهجوم الإجرامى الذى شنوهص_205
على القدس ليلة 9/ 0 1 رمضان 1367 هـ الموافق 6 1/ 17 يوليو (تموز) 948 1 م وأصابوه بأضرار جسيمة وقتلت القنابل فى ساحة الحرم الشريف نفوسا بريئة كثيرة. وبالإضافة إلى هذا الإجرام الفظيع، فإن اليهود يعلنون بوقاحة وجرأة يستمدونهما من مناصرة دول الاستعمار الغربية وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لباطلهم وتأييدها لمطامعهم، عزمهم على الاستيلاء على الأماكن المقدسة الإسلامية ولا سيما المسجد الأقصى المبارك ليعيدوا إنشاء هيكل سليمان مكانه، ويبذلون جهودهم لتحقيق هذه المطامع الخطيرة، ومنها محاولتهم العديدة للاستيلاء على (البراق الشريف) الذى هو الحائط الغربى للمسجد الأقصى المبارك خلال عهد الانتداب البريطاني، مما أدى فى حينه إلى وقوع معارك دموية بين العرب واليهود، وما أعلنه الزعيم اليهودى البريطانى اللورد ملتشت (السير الفرد موند سابقا) من أنه سيكرس ما بقى من حياته لإعادة بناء هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى، وما أعلنه الحاخام الأكبر روزنباخ فى كتابه الذى بعث به إلى رئيس المجلس الشرعى الإسلامى الأعلى بفلسطين خلال عهد الانتداب البريطانى مطالبا بإباحة حرية العبادة لليهود فى المسجد الأقصى... وتتعدى مطامع اليهود المقدسات الإسلامية فى فلسطين، إلى المقدسات الإسلامية فى الحجاز، فقد أعلن اليهود بصراحة عن رغبتهم فى ضم شمال الحجاز، بما فيه المدينة المنورة نفسها إلى دولتهم بحجة أن بعض القبائل اليهودية كبنى قريظة وبنى النضير وخيبر كانت تقطنها قبل أربعة عشر قرنا، وقد وسطوا الرئيس الأسبق روزفلت لإقناع المغفور له عبد العزيز آل سعود بتحقيق رغبتهم مقابل مبلغ(1/224)
كبير من المال، وكان طبيعيا أن يرفض الملك عبد العزيز ذلك العرض رفضا باتا، ثم أن الخرائط التى وضعها اليهود لدولتهم الكبرى تشتمل على جميع الأراضى العربية الواقعة ما بين النيل والفرات، وهى شمال الحجاز بما فيه المدينة المنورة. وبالإضافة إلى هذه المطامع اليهودية الوقحة فقد نشر الزعيم اليهودى الأمريكى "بن هخت " مقالا فى جريدة نيويورك تايمس فى شهر أبريل 1948، بلغ فيه الذروة فى الوقاحة والنذالة، إذ طالب بتشكيل جيش يهودى قوى لاحتلال المدينة المنورة وهدم المسجد النبوى الشريف والضريح الطاهر، لإرغام العرب والمسلمين على الخضوع لليهود والركوع على أقدامهم !.. لقد دلت سياسة أمريكا الاقتصادية حتى اليوم على أن دول الشرق الأوسط لم تنلص_206(1/225)
بمجموعها من المساعدات الأمريكية ما يمكن أن يقاس بالمبالغ الضخمة التى نالتها الدولة اليهودية بمفردها منها، فقد بلغت المساعدات المالية والاقتصادية التى قدمتها الولايات المتحدة للدولة اليهودية فى فلسطين المحتلة رقما كبيرا جدا، ولم تكتف الولايات المتحدة بما قدمته من المساعدات الضخمة للدولة اليهودية فراحت تحمل الدول الغربية على مواصلة مساعداتها لها، بل على زيادتها، وتضغط على جمهورية ألمانيا الغربية وتحملها على عقد اتفاقية التعويضات الإسرائيلية التى تقدم ألمانيا بموجبها لليهود نحو 3555 مليون دولار. ونورد فيما يلى بيانا بالأموال والمساعدات التى أغدقتها الولايات المتحدة على الدولة اليهودية منذ قيامها فى عام 1948 حتى أواخر يوليو 1956، وقد يكون ثمة مساعدات أخرى قدمت لليهود دون أن تعلن: ا- الهبة السنوية من الحكومة الأمريكية للدولة اليهودية من 35 إلى 55 مليون دولار.. 2- المساعدات الفنية من أمريكا لليهود من 6 إلى 14 مليون دولار سنويا.. 3- المواد الغذائية التى تهديها أمريكا للدولة اليهودية 7 ملايين دولار سنويا.. 4- القروض الأمريكية الرسمية للدولة اليهودية 164 مليون دولار.. 5- التعويضات الألمانية لليهود 3555 مليون دولار.. يضاف إلى ذلك أن رؤوس الأموال الأمريكية الموظفة فى الدولة اليهودية بلغت 214 مليون دولار، وأن بنك أمريكا منح اليهود قرضا فى 12 يوليو 1955 مقداره 30 مليون دولار. ويبلغ ما جمع من جباية اليهود فى الولايات المتحدة 3550 مليون دولار وهو معفى من الضرائب..؟ وبلغت قيمة تبرعات وهدايا المؤسسات اليهودية فى الولايات المتحدة 117 مليون دولار.. وبلغت تبرعات يهود الولايات المتحدة للدولة اليهودية فى النصف الأول من عام 1956 نحو 65 مليون دولار... ويبلغ مجموع هذه المساعدات مبلغا يتراوح ما بين 7668 و 7892 مليون دولار، أى ما يقرب من ثمانية مليارات (بلايين) دولار..ص_207(1/226)
وقد اعترف المسئولون الأمريكيون أنفسهم بصحة هذه الأرقام فى مناسبات عديدة، فمن ذلك ما أعلنه مستر " أندرسن " وكيل وزارة التجارة فى 15 مارس سنة 1953 من أن حكومة الولايات المتحدة وشعبها قدما ليهود فلسطين فى هذه المدة الواقعة بين سنتى 1948- 1952 نحو ألف مليون دولار، هبات وعطايا وقروض. وكذلك أعلن السناتور " رايلى " رئيس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الشيوخ الأمريكى فى 29 مارس سنة 1952 فى خطبة له فى مؤتمر مساعدة إسرائيل، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر الدولة اليهودية، القاعدة الأساسية للشئون العسكرية والاقتصادية والديمقراطية فى الشرق الأوسط... أشار الرئيس "أيزنهاور" فى بيانه إلى " مشكلة فلسطين ومشكلات العلاقات بين إسرائيل والدول العربية ومصير اللاجئين.. " وقال: " إن الولايات المتحدة مستعدة أن تفعل الكثير لمساعدة الأمم المتحدة على حل مشاكل فلسطين الأساسية. إن عرب فلسطين خاصة، والأمة العربية عامة، يعتبرون الولايات المتحدة الأمريكية مسئولة عن كارثتهم العظمى فى فلسطين، ويرون فيها شريكا لبريطانيا فى مقارفة تلك الجريمة الإنسانية التى لم يشهد التاريخ لها مثيلا، فإذا كانت بريطانيا قد مهدت السبيل لارتكاب تلك الجريمة بإصدارها وعد بلفور وبوضعها فلسطين فى ظروف سياسية واقتصادية وإدارية ساعدت على إنشاء الوطن القومى اليهودى، ثم على تحويله إلى دولة يهودية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هى التى نفذت فعلا تلك الجريمة ووضعت الخنجر المسموم فى يد القاتل اليهودى الأثيم بمساعداتها السياسية والمالية والعسكرية لليهود أثر الحرب العالمية الثانية، وتأييدها لهم فى الأمم المتحدة، ومجالات السياسة الدولية وبإغداقها عليهم الأموال بغير حساب، فقد وقفت الولايات المتحدة موقفا واضحا فى التحيز لليهود ضد العرب، وبالإضافة إلى الدور الخطير الذى لعبته فى إنشاء الدولة اليهودية بفلسطين على أنقاض أهلها العرب الذين شردوا(1/227)
فى الآفاق، فقد كانت الولايات المتحدة أول دولة فى العالم اعترفت بدولة العصابات اليهودية بعد دقائق معدودات من إعلان قيامها، رغم افتقارها إلى جميع الاعتبارات والمقومات التىص_208
تجعل منها دولة تستحق الاعتراف الدولى، مما دل دلالة صريحة على التواطؤ والتفاهم بينها وبين اليهود على قيام دولتهم القميئة الهزيلة التى لم تلبث أن سمنت من امتصاص دم عرب فلسطين، ونمت وترعرعت من العدوان على أراضيهم ونهب ممتلكاتهم وأموالهم، فالولايات المتحدة هى التى أطعمت اليهود من جوع، وهى التى حمتهم وآمنتهم من خوف، ووزرها ومسئوليتها لا يقلان بحال عن وزر بريطانيا ومسئوليتها فى كارثة فلسطين العظمى أمام الله والتاريخ وأمام الناس… وبينما عملت الولايات المتحدة على حرمان العرب من الأسلحة والمعدات التى طلبوا اشتراءها منها، وعلى الضغط على دول أخرى لمنعها من تزويد العرب بالسلاح ليدفعوا عن أنفسهم وبلادهم أخطار العدوان الاستعمارى واليهودى ، فإنها غمرت دولة العصابات اليهودية بفيض من الأسلحة والمعدات رأسا من بلادها أو عن طريق دول أخرى كفرنسا وبريطانيا اللتين لم تكونا لتستطيعا تقديم أى سلاح لليهود لولا سماح الولايات المتحدة لهما بالتصرف بالأسلحة الأمريكية المقدمة للدول الغربية لأغراض الدفاع بموجب حلف شمال الأطلنطى وإرسال الكثير منها إلى فلسطين المحتلة "... ***ص_209(1/228)
10- فى عالم البغال لا القول فى البغال " عنوان رسالة كتبها الجاحظ يستطيع أن يستوعب موضوعها من يشاء، فقد أخرجتها دار الكتب منذ شهور فى طبع أنيق... !! والعرب إذا رأت ما يستدعى الشتم نسبت صاحبه إلى ذلك الحيوان، وقالت عنه أنه بغل !! وسر هذا الوصف أن البغل حيوان مهجن، أمه فرس نزا عليها حمار، فخرج الولد يحمل طباعا غير ما يعرف فى طائفته، لو أن السيدة أمه واقعها حصان !! ولو تم، لخرج الابن جوادا كريما، أو على الأقل فيه أصالة الخيل وسمو مظهرها ومخبرها.. والبغال فى ميدان القلم والتوجيه العام كثيرون، وآثارهم فى إفساد الذوق والوعى شائعة منكرة !! هؤلاء نزت على أخلاقهم ومسالكهم- بل على نفوسهم وعقولهم أولا- أفكار دخيلة وآراء دنيئة تتصل بالحياة والإنسان، والوجود الأعلى، فكان هذا التلقيح الفكرى مغيرا طبائعهم كما تتغير الذرارى فى الواقع الحيوانى المختلط... إنهم لو نبتوا فى بيئتهم وحدها لشبوا مؤمنين بالله، يحترمون دينه وشرائعه، ويعرفون مكانة الفضائل فى دنيا الناس فيشيعونها، ويعرفون عقبى الرذائل فى تدمير المجتمع وتخريب الحاضر والمستقبل فيحاربونها... ولكن هؤلاء نتاج غريب فى أمتنا المؤمنة بربها، الغيور على حقوق الله وحقوقها، نتاج غريب، كما أن البغال بعد نزوان الحمير على أمهاتها نتاج تنكره الخيول، وقد تنكره الحمير أيضا...! إن أوروبا، قبح الله وجهها، كانت الوالد الروحى لهؤلاء الكتاب الشرقيين الذين يطلبون الآن فى قحة ظاهرة طى الإسلام فى أكفانه، وإراحة الناس فى فرائضه ونوافله، وإباحة الدعارة التى حرمها، وكذلك الخمر وسائر المناكر! ثم ردم الدعوة الإسلامية حتى تخمد أنفاسها تحت الثرى، فلا يسمع لها نداء، ولا يحترم لها عرف مقرر أو تقليد موقر أو تشريع مقترح أو خلق مستقيم... ودور أوروبا فى إخراج هذه الطباع الممسوخة هو دور الحمار فى تلقيح فرس أعدت خصيصا لهذا التهجين... كذلك صنع الغزو الثقافى، وكذلك أفلح فى(1/229)
إخراج أجيال البغال ليس بينها وبين أصلها العريق نسب محفوظ، ولا سبب ملحوظ... ***ص_210
لقد استفادت أوروبا- فى هجماتها الحديثة على الشرق- دروسا كثيرة من الحروب الصليبية الأولى، وهى فى حملاتها الأخيرة على الإسلام والمسلمين تتبع سياسة أحكم فى بلوغ مأربها، وتتخذ طرقا ماكرة فى القضاء على الإسلام وأتباعه دون ضجة كبيرة !! وهل أجدى عليها من أن تخلق جيلا من المسلمين أنفسهم يقضون على دينهم بأيديهم؟ إن ذلك يوفر عليها قدرا كبيرا من المتاعب والتبعات، وحسبها بعد أن تقف !متفرجة لترى- وهى طروب- كيف يمات الإسلام بغير يدها المباشرة !!! كان الصليبيون القدماء يهجمون فى غارات فظيعة، وليس على وجوههم نقاب،ولا دون نياتهم ستار، غرضهم البين القضاء على الإسلام بالسيف، فكان ذلك اللون من الهجوم يتبعه رد فعل شامل فى الأقطار الإسلامية، إذ يجمع متفرقها ويصحى نائمها، ويثير دوافع البقاء أمام وطأة الجزإرين، إن لم يتركوا من الإيمان أمام عدوان الكافرين.. ولذلك اشتدت مقاومة المسلمين لهذه الهجمات.. وما أخذوا على غرة مرة ألا تنادى قاصيهم ودانيهم لرد الطغاة، واسترداد ما غصبوا.. وكان ذلك من أسباب فشل الصليبيين آخر الأمر بعد قتال اتصلت وقائعه مائتى سنة.. !! وكان من أسباب فشل الصليبيين أيضا فى غزواتهم الأولى جهلهم بأحوال المسلمين وشئونهم السياسية والاجتماعية، وتكون صور غامضة أو محرفة عن قواهم المادية والأدبية. لقد كانوا يخرجون من أوروبا إلى عالم مجهول معتمدين على إمداد من الجيوش لا آخر لها، ومعتقدين أن تفوقهم العسكرى، وحماسهم الدينى يصنعان المعجزات، بيد أن ذلك لم يغن عنهم شيئا..! ثم أنهم كانوا يعتمدون على الطوائف النصرانية الموجودة بالمشرق، مرتقبين عونها وارشادها ، ظانين أنها تملك من الوسائل ما يجعلها عظيمة النفع لإخوانها فى الدين إذا أقبلوا هاجمين! وقد يصلحون على القليل جواسيس للجيوش الوافدة، إن لم ينتظموا جنودا فى(1/230)
سلكها، وقد خاب فالهم فى هذ الناحية لأسباب شتى.. *** ومن الفشل القديم، وعلى ضوء تجاربه غير الصليبيون الجدد خططهم، واتبعوا أساليب جديدة. إنهم يجيئون اليوم- كما يقولون- تجارا لا فجارا ! واحتلالهم للبلاد بالقوة إجراء قضت به الضرورة فقط، و إلا فهم ناس طيبون شرفاء!ص_211
وإذا ثار قطر يبغى حريته أطفئت ثورته بالحديد والنار لا لشىء إلا ليتفرغوا لأداء رسالتهم النبيلة. وما رسالتهم النبيلة؟ تجهيل المسلمين فى دينهم، والأشراف على المدارس لتخريج متعلمين أن لم ينكروا الإسلام فهم غرباء عليه! وعزل الإسلام عن التشريع والتوظيف، و إنشاء تقاليد جديدة فى الأزياء والعلاقات، وروابط الأسر والجماعات، وتقاليد بعيدة كل البعد عن الإسلام.. وبناء الدولة على نزعات قومية ضيقة تقسم الأمة الإسلامية سبعين أمة متدابرة! وهكذا... يمضى الغزو الجديد فى طريقه، استعمارا تباركه الصليبية، وصليبية يمهد لها الاستعمار!. الاستعمار يريد هدم الإسلام ليستريح من عناصر المقاومة الأبية التى يدفع لها الإيمان الحر.. والصليبية تريد هدم الإسلام ليخلو الجو للتثليث على أنقاض التوحيد، ولمبدأ الفداء بدل مبدأ الجزاء، وتتعاون الضغينة والمنفعة على بلوغ أهدافهما فى الأمة المنهزمة، وبذلك يلتقى شقا المقراض على كيانها ليجذه جذا.. أما الإحاطة بالإسلام وشئونه المختلفة، فقد وكلت إلى مئات المستشرقين الذين انكبوا فى جلد ومصابرة على ثقافة الإسلام الخصبة، وعلى تاريخه فى كل بلد، ثم ألفوا بعد ذلك مئات الرسائل والكتب، كانت لبنى قومهم شعاعا يسيرون على هديه وهم يفتحون البلاد، ويديرون دفة الحكم فيها.. ومع أن جمهور المستشرقين يمكن اعتباره موظفا فى وزارات الاستعمار المختلفة، إلا أن جهوده العلمية الضخمة تستحق الوزن الدقيق، خصوصا أنها جاءت فى إبان انحطاط المسلمين، وذهولهم عن دينهم، وركود ريح العلم بينهم. ومن المفارقات التى تثير الحسرة أن " الجامع الأزهر الشريف(1/231)
" رأى أن يوفد فريقين من علمائه لاستكمال دراستهم الإسلامية فى جامعات أوروبا، بل إن شيخ الأزهر الحالى آخذ إجازة " الدكتوراه " فى الشريعة الإسلامية من جامعة " باريس "! وبداهة أن العلم لا وطن له، بيد أنه مما يهيج الغضب فى نفس المسلم، أن يصل سقوط الحكم الإسلامى فى القرون الأخيرة إلى حد يدفن فيه العلم والعلماء، ثمص_212
يتوالى تراثنا الأدبى تحت أطباق من التراب، كأنه بعض آثار الفراعنة البائدين، حتى يجىء أخيرا رسل الاستعمار الغربى ليستكشفوا مادته، ويعيدوا على الناس عرضه..! والمستشرقون قبل كل شىء نصارى متعصبون لجنسهم ودينهم، وهم بموروثاتهم الفكرية والعاطفة، وبطبيعة العمل الذى يحترفونه خدام للدول التى غزت الإسلام فى عقر داره، والصور التى يقدمونها للإسلام، والتى ينشرونها بين العدو والصديق، ناضحة بما أكنوا فى أنفسهم من عداوة لهذا الدين، وبما بيتوا من شر لأهله.. والرأى السائد بينهم أن محمدا أدعى النبوة، وزعم أن الله يوحى إليه! وهم يتساءلون فى سخرية عن هذا الوحى: ما يكون؟ وما طبيعته؟ وكيف يتم؟ وبهذا العقل الناقد ينظر إلى الإسلام وحده! ثم يعتبر قرآنه كتابا إنسانيا لا صلة له بالسماء! وبهذا العقل نفسه ينظر إلى التوراة والإنجيل على أنها كتب سماوية مقدسة! وأن الوحى الذى نزل بها لا يسوغ أن يسئل عنه، ولا أن يقال: ما يكون؟ ما طبيعته؟ كيف تم؟ إن الغرض الذى ينبعثون عنه هو تجريح الإسلام وحده لحساب الاستعمار الصليبى الذى ظفر فجأة بمقدرات المسلمين فى الشرق والغرب.. *** ثم تجىء " مشكلة الأقليات " كما اخترعها الذهن الاستعمارى الواعى! وليست للنصارى فى ربوع المسلمين مشكلات تدرس، ولا مسائل تبحث، فهم عاشوا دهورا ينعمون فى ظل وارف من السماحة والتجاوز والعطف.. لكن الغزو الصليبى الذى لم يستفد منهم فى العصور الوسطى إلا قليلا يريد فى جولته الحاضرة مع الإسلام أن يستفيد منهم فى أوسع دائرة مستطاعة ، ومن ثم يزعم أن(1/232)
حماية النصارى حيث كانوا أمر يعنيه ويكترث له.. وكما دبر حادثة المالطى فى الإسكندرية ليحتل مصر، دبر حادثة دير القمر فى لبنان ليجعل من لبنان متكأ له وهو يعبث بمقدرات المسلمين، ويعرقل سياسة التحرر التى ينادون بها. والاستعمار يرى أن وجود هذه الطوائف مهما قل عددها مانع طبيعى من أن يكون الإسلام دينا للدولة! ومانع طبيعى من أن يصار إليه فى تشريع أو توجيه، ويرىص_213
الاستعمار- تمشيا مع أمنيته فى خفض الإسلام، وتهوين شأنه، و إذلال أبنائه- أن يكون لهذه الطوائف مركز ممتاز من الناحيتين المادية والأدبية، وهو يرفض- فى إباء (!)- أن يتساووا فى الحقوق والواجبات مع مواطنيهم المسلمين.. كلا، يجب أن يخرجوا بحظ الأسد فى كل قسمة، وأن ينالوا من المناصب، ويتوفر لهم من الثروات ما يجعل لهم مكانة ممتازة، مكانة الإشراف والوصاية على شئون الكثرة المهيضة..! فى هذا الغزو الشامل، بين شعبه الزاحفة، وقعت الأمة الإسلامية، ونشأ أبناؤها،لا يرون ولا يسمعون إلا ما يهين دينهم، ويخدش اعتباره، ويمنع إثبات معالمه وشعائره فى المجتمع والدولة، بل فى نفوس الأفراد..! وكانت القوة العسكرية أول الأمر سناد هذه الردة المنشودة، ثم وكل إلى المسلمين " المرتدين " أو المنحلين أو الناكصين على أعقابهم أن يحققوا أهداف هذا الغزو، وذاك ما نميط عنه اللئام الآن، ونحن نتفرس فى عالم البغال. وسترى أن الغزو الثقافى، وما يكتنفه من تأييد عسكرى خارجى، ومؤامرات داخلية شتى، إنما يقوم على طعن الإسلام فى صميمه، وتقويض أركانه جملة، بإيهام الناشئة أن محمدا أفاك، وأن دينه مفتعل، وأن التعلق بالإسلام تعلق بخرافات فات أوانها. وإليك نماذج من صور الأدب التوجيهى عند بعض كتابنا الكبار. وقبل أن نثبت هذه النماذج نريد أن نؤكد المقاصد القريبة والبعيدة لها. فهى لا تبغى إشاعة رذائل من النوع الذى يفارقه الشباب عند تفجر غرائزه، واضطراب إرادته، ولا تبغى بث دنايا من النوع(1/233)
الذى تسقط فيه المجتمعات فى فترات ضعفها وانحلال أمرها، إن هذا وذاك بعض أهدافها... ولكنه يجىء نتيجة طبيعية للمحاولات التى تقصد إليها قصدا، وتعمل لها عمدا، وهى محاولات الإتيان على هذا الدين من القواعد، وترك صغار القراء والمتعلمين يفهمون أن هذا الإسلام ليس له أساس من الحق، ومن ثم تنصرف الأمة المسلمة عن دينها هذا لا عن عصيان لأمره مع الاعتراف بأصله، بل عن تكذيب شامل لما جاء به من تعاليم وتقاليد وقوانين. ***ص_214(1/234)
أراد الدكتور زكى مبارك أن ينال إجازته العلمية من " باريس " فكيف يصنع الدكتور الزكى؟؟ رأى أن يسوق ألف دليل على أنه وعى جيدا دروس أساتذته، وأنة اقتنع بالفكرة التى يصرحون بها حينا، ويلمحون بها حينا آخر، فكرة أن القرآن من وضع محمد، وأنه ليس وحيا مصونا كالإنحبيل، أو التوراة " كذا ". فاسمع العبارات التى بثها بثا دنيئا وسط مائتي صفحة من كتابه " النثر الفنى " وتملق بها مشاعر السادة المستشرقين، الذين يوجهون العلم والأدب لخدمة المستعمرين ونصرة الصليبيين! قال الدكتور زكى مبارك: ". فليعلم القارئ أن هذا شاهد من شواهد النثر الجاهلى يصح الاعتماد عليه وهو القرآن، ولا ينبغى الاندهاش من عد القرآن أثرا جاهليا، فإنه من صور العصر الجاهلى: إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره... وهو- بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرده بصفات أدبية لم تكن معروفة فى ظنهم عند العرب- يعطينا صورة للنثر الجاهلى ، وإن لم يمكن الحكم بأن هذه الصورة كانت مماثلة تمام المماثلة للصور النثرية عند غير النبى صلى الله عليه وسلم من الكتاب والخطباء... ". وقال أيضا: " القرآن شاهد من شواهد النثر الفنى ، ولو كره المكابرون فأين نضعه من عهود النثرفى اللغة العربية؟ أنضعه فى العهد الإسلامى ؟ وكيف والإسلام لم يكن موجودا قبل القرآن حتى يغير أوضاع التعابير والأساليب!! فلا مفر إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطى صورة صحيحة من النثر الفنى لعهد الجاهلية، لأنه نزل لهداية أولئك الجاهليين، وهم لا يخاطبون بغير ما يفهمون " وقال أيضا: " والخلاصة أن القرآن نثر، وأنه دليل على أن العرب كان عندهم نثر فنى قبل الإسلام، فكان لهم بذلك وجود أدبى متين قبل أن يتصلوا بالفرس واليونان... وفى هذا قضاء على أوهام من زعموا: أن أول كاتب فى اللغة العربية هو ابن المقفع الفارسي الأصل، وأن العرب لم يكونوا يعرفون من النثر غير الخطب والأسجاع والأمثال.. ". وقال أيضا: "..(1/235)
لا يمكن الوصول إلى يقين فى تحديد العناصر الأدبية التى يحتويها القرآن إلاص_215
إذا أمكن الوصول إلى مجموعة كبيرة من النثر الفنى عند العرب قبل الإسلام، تمثل من ماضيه نحو ثلاثة قرون، فإنه يمكن حينذاك أن يقال بالتحديد ما هى الصفات الأصلية فى النثر العربي، وهل القرآن يحاكيها محاكاة تامة، أم هو فن من الكلام جديد. ". وقال: " ونحن مع هذه الحيرة لا نستطيع الفرار من الاقتناع بأن القرآن أثر عربى صرف، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى تلقاه وبلغه عربى، ولأ نه نشأ فى بيئة عربية وبلسان عربى مبين، وليس أمامنا أى دليل على أنه متأثر تأثرا محسوسا بأداب أخرى أجنبية، وإن كان هذا ممكنا، لأن العرب قبل الإسلام كانوا على اتصال قليل أو كثير بمن جاورهم من الأمم.. ". وقال: لا.. ولو تركنا المشكوك فيه من الآثار الجاهلية وعدنا إلى نص جاهلى لا ريب فيه وهو القرآن لرأينا السجع إحدى سماته الأساسية، والقرآن نثر جاهلى- كما أوضحنا ذلك من قبل- والسجع فيه يجرى على طريقة جاهلية حين يخاطب القلب والوجدان.. ". وقال أيضا: ".. النسيب من الموضوعات التى احتكرها الشعر عند العرب. وتلك نزعة طبيعية: فإن النسيب والغزل من أرق ألحان الغناء، وفلك يفرض أن يؤدى تلك المعانى فى كلام مقفى موزون، ولم نجد فى المجموعات الأدبية مختارات نثرية فى النسيب، لأن مصنفى المجموعات كانوا يفهمون أن الغزل لا يخرج عن الأنفاس الشعرية. غير أننا نجد فى النثر لأقدم عهوده نماذج غزلية، كالذى وقع فى القرآن وصفا للحور والولدان- نحو: (وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون). ونحو: (يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين). وكما جاء فى سورة الواقعة : (إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا). فهذه كلها أوصاف تدخل فى باب النسيب.ص_216(1/236)
وقال: " وقد تناقل الناس أن أبا العلاء المعرى وضع كتابا فى معارضة القرآن، فقيل له: إن كتابك لجيد، ولكن تنقصه حلاوة القرآن! فأجاب: حتى تصقله الألسن فى المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون! وليس المهم هنا أن نعرض لهذا الرأى برفض أو قبول، ولكن المهم أن نسجل أثر الترديد والتقليب فى حياة البلاغات ". ا. هـ ماذا يطلب أعداء الإسلام أكثر من هذا؟ وأين تبلغ أهداف الصليبية الغازية بعد هذا؟ هذه العبارة المليئة بالمطاعن والأكاذيب هى أثر الغزو التبشيرى الذى شنه الاستعمار علينا.. والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذى تلقى فيه صورة الوحى الإلهى كاملة غير منقوصة.. وهو أنقى ينبوع لهدايات الله، كما تنزلت على رسله الأكرمين، وكما بلغها إمام الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو المعجزة التى حاول المغرورون أن يتعرضوا لها، فارتدوا على أعقابهم يتبعهم الخزى ، وتتناول أقفيتهم الصفعات.. ومحاولة المستشرقين وأذنابهم أن ينالوا منه، ليست محل اكتراثنا، وليس هنا مجال تفنيدها، وكشف دخلها ودغلها. وكل ما يعنينا هنا إبراز الصلات الفكرية بين طراز من الأدب قدمه لنا بعض الناس وبين غايات الهجوم الصليبى الذى لقح هذا الطراز ونماه واحتضن أصحابه ومهد لهم فى المحافل! ولا ندرى هل رجع الدكتور زكى إلى الله بعد هذا الكفران المبين، أم مات على زيغه؟ لقد كتب بعد ذلك كتابات حسنة فى التصوف! وإن كان الرجل ظل يدمن الخمر حتى صرعه السكر، وقضى على حياته وهو نشوان.. *** ولنتجاوز الدكتور زكى مبارك إلى قنطرة أخرى من قناطر الغزو الثقافى الصليبى ، أعنى الدكتور طه حسين، فإن هذا الرجل كان بوقا عاليا لآراء المستشرقين، ودسائسهم العلمية، وضغائنهم الدينية...ص_217(1/237)
وإنى أعترف بأنى كنت مخدوعا فى تفرق أدبائنا- منهم الدكتور طه- إذ حسبت شرودهم عن النهج السوى ضربا من حيرة الباحثين فى اكتشاف الحقيقة، ولونا من الاجتهاد فى تلمس الصواب، قد يعذر صاحبه فى النتائج التى يصل إليها، وإن خرج على العرف، وأبعد عن المذهب... وسر خدعتى، أنى رجل لا أعرف غير اللغة العربية، ولم أقف على كتابات المستشرقين الكثيرة بلغاتهم الأخرى... فلما تكلم النقاد، وأماطوا اللثام عن المواطن الأولى للأفكار التى هاجمتنا، والتى تناولت الإسلام بالهمز واللمز، بل بالطعن والتجريح، عرفت أننا أمام عصابة مأجورة للشيطان، وأن المسألة ليست خطأ الأذكياء فى نشدان الحقيقة... نعم، لقد كنا أمام دواب ناشطة فى نقل المطاعن على القرآن الكريم، والسنة المطهرة... ناشطة فى تهوين التراث الإسلامى كله، وصرف المسلمين عن إعزازه والأخذ به... ناشطة فى إخراج أمة جديدة يحتقر تاريخها الماضى، ورسالتها الكبرى وترمق المدنية الغربية بدهشة المعجب، وفقر المتسول. لم يكن إلحاد هؤلاء الكتاب وليد عقول أعياها التفكير فضلت، بل كان إلحادهم وليد اتباع لتوجيهات السادة المستعمرين، وتلقينات الأساتذة المستشرقين! فإذا لم يسيروا وراء المستشرقين على نهج واحد، ساروا فى محاذاتهم بحيث لا يبعدون عنهم فى طريقة ولا غاية... *** ولقد نقلنا لك عبارات الدكتور زكى مبارك وهو يصف القرآن، وقبل أن ننقل لك عبارات الدكتور طه حسين المماثلة، نضع أيدينا على المصدر الذى نقل منه هذا، وذاك، كما حدده وأوضح معالمه الدكتور محمد البهى قال: هناك صورتان تعرض فيهما فكرة " بشرية القرآن ": ا- الصورة الأولى: أنه " انطباع " فى نفس محمد صلى الله عليه وسلم، نشأ عن تأثره ببيئته التى عاش فيها، بمكانها وزمانها، ومظاهر حياتها المادية والروحية... 2- والصورة الثانية: أنه " تعبير " الحياة التى عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم. بما فيها المكان، والزمان، وجوا نب الحياة ا(1/238)
لاقتصادية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية.ص_218
وإحدى الصورتين ملازمة للأخرى- فإذا كان انطباعا من البيئة فهو يعبر عن هذه البيئة وإذا كان تعبيرا عن البيئة فقد انطبع أولا فى نفس قائله، قبل أن يعبر به، وقبل أن يقوله... كلتاهما إذن تفصح عن: أن القرآن عمل خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم تأثر فيه كما يتأثر الإنسان، وعبر به عن المعانى التى كانت فى نفسه من بيئته، كما يعبر الإنسان عن أية معان تجول بنفسه قد تأثر بها، وانطبعت فى خاطره من الظروف التى تحيط به..، ويتوقف تفضيل إحدى هاتين الصورتين على الأخرى- لمن يرى بشرية القرآن- على أحوال البيئة التى يعلن فيها هذا الرأي- فإن كانت بيئة أجنبية أمكن مواجهتها بالصورة الأولى، وهى أن القرآن انطباع نفسى... أما إذا كانت بيئة إسلامية فيقضى الأمر أن يتبع فيها أسلوب اللف والمداراة- وهذا أليق بالصورة الثانية، وهى أن القرآن يعبر عن الحياة الجاهلية، أى حياة ما قبل الإسلام أصدق تعبيرا... . الصورة الأولى: ولا أريد هنا أن أنقل لأى مستشرق عبر عن بشرية القرآن، بل سأتخير واحدا يعد مثلا للاتزان بينهم، وهو المستشرق الإنجليزى جب،،؟؟ Gebb " أستاذ الدراسات العربية الآن بجامعة هارفارد بأمريكا الشمالية، وسنرى من النصوص التى ننقلها عنه هنا من كتابه " المذهب المحمدى" أنه آثر الصورة الأولى بأسلوب يبدو فيه تحبنب الألفاظ النابية، والصراحة المكشوفة! وملخص ما يقوله " جب " حتى الآن هو: ا- أن مكة كانت فيها حضارة، وزعامة، ولم تكن أرضا جرداء، ولم يكن سكانها حفاة غلاظا، بل كانت لديهم فطنة، وملكة فى السياسة، ومعارف واسعة بالناس والمدن. 2- وأن حياة محمد صلى الله عليه وسلم حياة مكية خالصة، بما فيها نشأته، ودعوته، وصراعه، فهى حياة محدودة، ودعوته عندئذ ليست دعوة عامة، بل لأناس معينين، واختياره الدعوة بأن تكون دينية. ثم اختياره هذه الدعوة الدينية بأن تكون فى صورة حكومة إلهية- من(1/239)
تحديد عوامل الحياة المكية وما دار فيها من اتجاهات سياسية، واقتصادية، ودينية...ص_219
3- وأن القرآن ليس جديدا كله على العرب (المكيين)، وأن ما فيه من مسيحيةلا يتعدى المسيحية الشرقية السريانية، وما فيه من يهودية لا يتعدى اليهودية المعروفة فى " المدينة ". وليست معارضة المكيين له بسبب تمسكهم بالقديم، أو بسبب الإيمان كما يذكر القرآن فى قوله تعالى: (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون). بل تلك المعارضة كانت بسبب المنافسة فى الزعامة السياسية، والخوف من انهيار حياتهم الاقتصادية. والقرآن، إذن الآن، ليس عمل إنسان أى إنسان، بل هو إنسان معين، عاش فى حياة خاصة تبلورت حياته الخاصة فيما قاله فيه. *** . الصورة الثانية: أما الصورة الثانية للرأى القائل ببشرية القرآن، وهى أنه تعبير عن الحياة التى وجد فيها " الرسول " صلى الله عليه وسلم. وهى حياة ما قبل الإسلام فيحكيها فى حركة! التجديد والمجددون فى الفكر الإسلامى " كتاب الشعر الجاهلى. " فكرة كتاب الشعر الجاهلى ": هذا الكتاب يقوم على فكرة واحدة، هى: أن الشعر الجاهلى لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام. أى لا يمثل الحياة التى عاش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، بما لها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع مفتعل، ولذا لا يعبر عن حقائقها. فهو فى جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التمرس السياسي، والنهضة الاقتصادية، والحياة الدينية الواضحة- مع أن حياة العرب فى الجاهلية كانت حياة حضارية.ص_220(1/240)
والعرب كما يقول: " لم يكونوا على غير دين. ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا، ولم يكونوا فى عزلة سياسية أو اقتصادية، بالقياس إلى الأمم الأخرى، كذلك يمثلهم القرآن. وإذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها مؤثرة فيها فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة! راقية، لا أمة جاهلية همجية. وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن ظهر فى أمة جاهلية همجية "؟. ا- وبما أن الشعر الجاهلى لا يصح أن يكون مرآة صافية للحياة الجاهلية- وهى الحياة التى نشأ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم!، وقام بدعوته وكافح من أجل الدعوة فيها- فالشىء الذى يعبر عن هذه الحياة تعبير صدق، وموثوق به كل الثقة، هو القرآن. " فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلى ". وإذا رجعنا إلى القرآن- هكذا يستنتج المؤلف- نجده قد صور العرب وحياتهم بما يجعلهم أمة سياسية تنشد أن تكون قوة ثالثة بين الفرس والروم، كما كانت أمة وسطا بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندى. وبذلك كانت مركزا للتجارة " العابرة " وعن هذا الوضع بين الشمال والجنوب أثرت، ونافست فى القوة، كما كان لها دين ومعتقد ناهض، وفى ذلك يقول: " لم يكن العرب إذن- كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلى- معتزلين، فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). فهذا الذى ذكره القرآن فى سورة الروم يراه المؤلف " عناية سياسية " أكثر منه تنبأ عن طريق الوحى بمصير الإمبراطورية الرومانية فى الشرق- ويستطرد فيقول: " وهو- أى القرآن- يصف اتصالهم الاقتصادى بغيرهم من الأمم فى السورة المعروفة: (لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف). وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام- حيث الروم،، والأخرى إلى اليمن(1/241)
حيث الحبشة أو الفرس...ص_221
وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم تحدثنا: أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة، ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد؟ وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوز الحيرة إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، فلم يكونوا إذن معتزلين- ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس، والروم، والحبش، والهند، وغيرهم من الأمم المجاورة لهم. أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية فى القرآن أنفع وأجدى من التماسها فى هذا الشعر العقيم الذى يسمونه الشعر الجاهلى؟.. أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين ".. ومعنى هذا القول: أن القرآن انطباع للحياة القائمة فى وقت صاحبه، وهو النبى صلى الله عليه وسلم ويمثل لذلك بنية خاصة فى عقيدتها، ولغتها، واتجاهها فى الحياة، وعاداتها، وهى البيئة العربية فى الجزيرة العربية . *** على أن الهجوم الصريح على القرآن الكريم لم يلبث أن اتخذ أسلوبا آخر، فإن المصارحة بأن القرآن أثر أدبى من وضع محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أنه صورة للنثر الجاهلى الفنى، أو أنه مرآة لما وصلت إليه الحياة الجاهلية من ارتقاء ثقافى واجتماعى وسياسى، كل ذلك لقى أعنف مقاومة من المسلمين، فقد استيقظ لرده السكران والصاحي، واجتمع على صده الطائع والعاصى ! فلم يجد الغزو الصليبى بدا من الإيعاز لرجاله بمحاربة القرآن على نحو لا يغرى بهذه المقاومة المهتاجة، فلتبق للقرآن قداسته الاسمية، ولتهجر تعاليمه وتشاريعه، ولتضرب الأسوار الغلاظ بين هداه وبين أمته، حتى لا تكون صلة ما بين ثقافة الأمة وسياستها وشئونها الاجتماعية، وبين هذا الكتاب الكريم.. وقد انصرفت الجهود إلى هذه المحاولة، فحولت القرآن إلى كتاب يستمع إليه فى أحفال الموتى، ولا يلتفت إليه فى أحوال الأحياء...ص_222(1/242)
ومضت سنون، والأفكار الهاجمة تقتحم كل حصن، وتبتذل كل قداسة، حتى اتسعت الشقة بين الواقع والواجب... ورأينا- ونحن محزونون- كيف نتناول شئوننا الدينية والثقافية والأدبية بكل استهانة... وكيف أن التيار الطارىء الغريب يريد أن يغير كل شئ فى حياتنا الفكرية والعاطفية، وأن يفصلنا فصلا عن ماضينا الطويل العريق، وأن يجعل بيننا وبين الإسلام بعد المشرقين... *** وقد كتبنا عن مظاهر الصراع بين التيارين اللذين يتنازعان البقاء والسيادة، وأبنا- من الناحية الإسلامية العامة- خطورة ترك التيار الأجنبى يعربد كيف يشاء ويطمس الحقائق الدينية والتاريخية خدمة للاستعمار الصليبى. ويسرنا أن نجد رجلا كبيرا من قادة الأدب والثقافة فى العصر الحديث، يؤازر القافلة المؤمنة و يهاجم بقلمه الواعى، هذه الحركات المجنونة فى عالم البغال! فلنثبت هنا رأى الأستاذ" عباس محمود العقاد " فى هذا الموضوع: " فى وسعنا أن نجمع اتجاهات الأدب العربى الحديث فى اتجاهين شاملين: أحدهما الاتجاه الطبيعى، والآخر الاتجاه المصطنع، أو الاتجاه الكاذب بالقول الصريح. وقد جاء فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحلال بين والحرام بين، ويجوز لنا قياسا على ذلك أن نقول أن الاتجاه الطبيعى بين، والاتجاه المصطنع أو الكاذب بين، وأن الفرق بينهما يخفى على ناظر يريد أن ينظر، لأن الكائنات الطبيعية- التى تنمو أمامنا تنمو طبيعيا، وتتجه أمامنا اتجاها طبيعيا- أكثر من أن تحصى.. إن البيئة الحية تقوم على كيان مستمر لا ينقطع عن ماضيه، ولا ينفصل عن أصوله وموروثاته، ولا تزال كل خلية فيه حافظة لسجل الحياة فى عصوره الماضية آلافا من السنين، يظهر منها ما يظهر ويستتر منها ما يستتر.. ومن علامات البنية الحية أيضا: أن تتغير على حسب الظروف، وأن تشتمل على قدرة متجددة، تتمكن بها من التوفيق بينها وبين ما حولها، ولا تستقر فيه استقرار الجماد..ص_223(1/243)
ولكنها تتغيرلتبقى، ولا تبقى لتمحو وجودها فى هذا التغيير... ولنضرب لذلك شجرة القطن مثلا، ونضرب لها ما شئنا من الأشجار مثلا بالقياس عليها. فإن شجرة القطن تتغير حسب المنبت، وعلى حسب الوسائل الزراعية، وعلى حسب العناية بتطبيق هذه الوسائل، ولكنها تبقى " قطنا " بعد هذا التغيير، ولا تزول منها هذه الصفة " الأصيلة " إلا إذا آذنت كلها بالزوال... وعلى هذا المثل يقاس الاتجاه الطبيعى فى كل بنية حية، ومنها آداب اللغات... فهى تتغير- كلما تغيرت- لتبقى لا لتفنى، أو لتنعدم فيها الصفات التى يتحقق بهاكيانها..وكل إنسان يبقى فيه شىء متشابه متقارب بين طفولته وصباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، ولكنه إذا انفصل كل الانفصال بين عهدين فقد زال..والاتجاه الذى يسمى اتجاها طبيعيا فى الأدب العربى واضح من هذه الأمثلة..فمن الواجب " أولا" أن يحافظ على كيان اللغة العربية، ومن الواجب مع ذلك أن تتصل الوشائج بينه وبين أصوله، ومن الواجب على الدوام أن يقبل التجدد وأن يكون بنية حية تتغذى بغذاء التربة التى ينمو فيها.. وهكذا اتجه الأدب العربى المطبوع فى العصر الحديث، فإن العناية فيه قد انصرفت قبل كل شىء إلى تصحيح اللغة وإحياء تراثها، ومتى راجعنا كتابات الأدباء خلال القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين وجدنا الكثير منها قائما على تصحيح العبادات والألفاظ والقواعد وتقديم المأثورات المهجورة أو التعريف بها على حقائقها كما كانوا يدركونها بعد النهضة الحديثة. ولما شعر الأدباء بمحاسن الآداب الأجنبية أقبلوا على ترجمتها وتعريبها أو صبغها بالصبغة العربية، وبالغ بعضهم فى ذلك فحاول أن ينقلها مسجوعة، وأن ينقل الأسماء الإفرنجية إلى الأسماء العربية، ثم تدرجت هذه المحاولة تدرجا- طبيعيا أيضا- حتى اهتدت إلى نهجها القويم.. وتقدمت النهضة فاستفادت من التقدم بعض الثقة أو بعض الأنفة، وعمدت إلى الابتكار والاستقلال بالرأى بعد الترجمة وبعد(1/244)
الاقتداء والتقليد، فلا تترجم إذا استطاعت أن تؤلف، ولا تلقى اعتمادها كلها على الترجمة فى جميع الأحوال..ص_224
ولما نشأت مشكلات النهضة التى لابد منها فى كل تطور- أى تطورات البنية الحية- كانت حلولها موافقة لسنة البقاء، ولم تكن موافقة لسنة الزوال... وإحدى هذه المشكلات مشكلة الفصحى والعامية، فإن الحل الطبيعى لها أن تبقى الفصحى فى ميدانها الذى لا غنى عنه، وأن تبقى العامية فى ميدانها الذى يناسبها، فلا تزول الفصحى لأنها لازمة للدوام من عصرإلى عصر، وللتعميم بين قطر وقطر، وللموضوعات المهذبة التى تحتاج إلى تعبير منتظم على قواعده المعهودة... أما اللهجات العامية فهى لا تدوم، ولا تتفق فى جميع الأقطار، ولا تصلح للتعبير عن موضوعات العلم العالية والمعرفة المهذبة... ولكنها تغني غناءها فى المسائل المحلية، والمسائل الموقوتة وتصلح لأفلام الصور المتحركة، وما جرى مجراها من تعبيرات فنية تنقضى لحينها، ولا تتطلب " الاستمرار " الذى لا غنى عنه فى لغات الثقافة، ومعاني الإنسانية الخالدة... وهى لا تتوقف على إقليم واحد، ولا فترة واحدة، ولا مسألة تذكر بالأمس وتنس اليوم أو غدا إذا امتد بها الأجل. والاتجاه المطبوع فى الأدب العربى يحسب- على هذا- حساب البقاء كما تحسبه كل بنية حية لها عمريتصل ولا ينقطع كل يوم لينبعث غدا مخالفا لما كان عليه. عندنا الشعر اليوم يتعدد ليبحث كل قسم منه عن موضوعه دون غيره: شعر الغناء، وشعر الوصف، وشعر التمثيل، وشعر الوجدان، وسائر أقسام الشعر فى تطوره الحديث، وموضع النقص فيه أنه لا يزال ينمو ليوافق كل قسم منه غرضه وموضوعه وليس النقص فيه أنه جامد أو فاقد الحياة... وعندنا القصة الاجتماعية، والقصة الفنية، والقصة الطويلة، والقصة الصغيرة... وعندنا النقد فى طور البحث عن المقياس المتفق عليه، ويوشك أن يتفق على هذا المقياس، وهو الاعتراف بالحسن الجيد فى القديم والجديد على السواء، فليس التجديد(1/245)
الحق نبذا لكل قديم، أو أخذا بكل بدعة جديدة، وإنما هو الاستقلال بالرأى بين هذا وذاك. وعندنا الدراسات والبحوث مبتكرة ومستقلة فى ميدان كان خلوا من كل عمل غير عمل الترجمة والاقتباس إلى أوائل القرن العشرين. عندنا- بالإيجاز- اتجاه طبيعى ينمو نمو البنية الحية من صميم كيانها...ص_225
أما الاتجاه المصطنع، أو الاتجاه الكاذب فموجود كذلك، ولكنه يدل على نفسه بأيسر نظرة، فلا يخفى على أحد أنه شىء دخيل: ينقل إلى الأمة من خارجها، ويصدر عن كيان غير كيانها، ويرمى إلى حل هذا الكيان وتقويضه، ولا يرمى إلى إحيائه وضمان بقائه. لالزوم لبقاء اللغة. لالزوم لبقاءالعرف. لا لزوم لاتصال الخلف بالسلف، ولا لقيام البنية فى يومها على كيان الأمة فى نفسها. لا لزوم لكل أولئك دفعة واحدة. وما اللزوم إذن؟ اللزوم للانحلال والتبديل، وللذهاب على غير هدى فى كل اتجاه غير الاتجاه الطبيعى الذى يتحقق به البقاء. ونعود فنقول: إن الاتجاه الطبيعى بين، والاتجاه المصطنع أو الكاذب بين. فالاتحاه الطبيعى من بنية الأمة يتكيف بالظروف الخارجية ليبقى لا ليزول. والاتجاه المصطنع، أو الكاذب من خارج هذه البنية يهب عليها كما تهب الريح المهلكة لتقتلعها من جذورها. ومن بشائر الخير أن " الحيوية" فى هذه البنية أقوى من أن تنحرف بها الآفات الدخيلة عن قوامها السليم !. ا. هـ و إذا كان الفساد فى الحياة السياسية جزءا لا ينفصل عن الفساد فى الحياة الدينية، والنواحى الاجتماعية، فلابد من ملاحقة التيار الأجنبى فى ميدانه الآخر، وكشف الغطاء عما تحته من كفران بالإسلام وعداء لتعاليمه. وأن الذى يعنينا، ونريد أن نجهر به، ونريد أن يستمع العامة والخاصة إليه، أن النظام الملكى البائد قد انهزم فى معركة أشعلها الحق ضد الباطل، وأشعلها الإيمان ضد الإلحاد، وأشعلها الخلق الفاضل ضد الخلق الفاسد. وأشعلها الغضب لله ولعباده ولحقوقه ضد الجبارين الذين لا يعرفون لله حقا، ولا(1/246)
يقيمون لعباده وزنا... وأن الرجال الذين لا دين لهم ولا استقامة ولا شرف- وفى مقدمتهم صحافيون معروفون- كانوا مع الملك السابق ضد الشعب الثائر، وضد رجاله المكافحين.ص_226
فلما دارت الأيام، وتحولت الريح، وجدنا هؤلاء بغتة ينضمون بأقلامهم إلى العهد الجديد، ويتحركون بقوة ليتصدروا صفوف الموجهين والمعلمين!!! من هؤلاء كتاب ولدوا فى ساحة القصر " العامر "! ولم يعرفهم الناس إلا مترجمين عنه، ومشيدين بألائه، بل لم يعرفهم الناس إلا بلاء على الأحرار، ونقمة على المكافحين، ورجسا تنحل به عقد الإيمان وعزائم الفضيلة... ومن هؤلاء رجال لهم ظاهر ثائر وباطن قذر. ظاهرهم أنهم مع الشعب ضد الملك، وباطنهم أنهم جواسيس وعملاء للقصر الملكى، وما ينصح به القصر الملكى من فساد واستبداد، ولعلنا لم ننس قصة الأمير التقدمى الذى قاد حركة العمال، وهو يقدم إلى سيده التقارير عنهم. وما كنا لنرغب فى إحياء هذه الذكريات الميتة، وما كنا لنضن بجناح كاملى لفلول المنافقين السابقين، لولا أننا رأينا هؤلاء يريدون أن يعودوا إلى وظائفهم الأولى فى ظلال ولائهم المدخول للعهد الجديد ! وما وظائفهم الأولى؟ إشاعة الفحشاء فى البلد. الترويج للإلحاديين الناشئة. وضع العوائق أمام قوى الإيمان والخير. تدويخ الوعى الإسلامى واصطناع اللغط حوله. وهم يدلفون إلى هذه الغايات الدنيئة تحت غطاء بارع من التصفيق للعهد القائم، وإظهار الغيرة على رجاله وعلى أهدافه! والله يعلم أن حرارتهم فى تأييد الثورة هى نفسها حرارتهم فى تأييد النظام البائد، وهى نفسها حرارتهم فى تأييد أى نظام يملك السلطة ويبذل المال. يا للعجب. هذا رجل كان يجرى حتى يتصبب العرق من جبينه ليتعرف بخادم فى مطابخ القصر الملكى ! أصبح الآن يزعم أنه من رواد الحرية.. وهذا رجل آخر ما أحس بوجوده قط فى استنكار الشناعات الأولى، أصبح الآن يزعم أنه فيلسوف فى الإصلاح!! وهذا صاحب قلم طرده الملك فاروق كما يطرد(1/247)
الرجل كلبه، فذهب ينبح بعيدا ينتظر إشارة رضا ليعود متمسحا بقدميه، عاد اليوم يدمدم ويهمهم، متحدثا عما يجب أن يكون، وعما يجب أن يمحى من قوانين وتقاليد، بعد أن أسهم- على زعمه - فى بناء الثورة، ورفع لوائها!ص_227
وهذا... وهذا.. إلى آخر ما تفد به مواكب المنافقين من أدعياء المجد، ولصوص العظمة، الذين تصل بهم الصفاقة إلى حد اقتراح الوسائل لبناء الأمة من جديد. وما يمكن أن تبنيا أمة إلا إذا خلت منهم، وبرئت عنهم. لو تعقل الأرض ودت أنها صفرت منهم فلم يرفيها ناظرشبحا وقد كنا سكوتا على هؤلاء الكتاب، نحسب أن ما يعرف الناس من ماضيهم سوف يرفع الثقة بهم، ويحجز القراء عن تصديقهم فى محالهم. ولكننا للأسف فى أمة آفتها الكبرى سرعة النسيان. لذلك لم يلبث الذين ضللوها أيام محن الرجولات والأخلاق أن عادوا سيرتهم الأولى: يقترفون مأثمهم المعتادة، أو أشد منها نكرا... أليس عجيبا أن نرى أحد الكتاب فى مجلة " روز اليوسف " يستميت فى بث الشكوك حول وجود الله، وينشر المقالات المطولة لكى يمحو من الأذهان خرافة الألوهية! والذين يقرأو مجلة " روزاليوسف " يعرفون أنها تسير وفق خطة مرسومة لإسقاط الدين كله من حساب الحياة الجادة. وأن هذه المجلة تقدم أخبارا وإحصاءات يفهم منها أن الجامعات العليا قد " تعقلت " وطرحت ظهريا أثقال الإيمان وعرا الفضائل... ولا بأس من إثبات أن مندوب المجلة سأل الطالبة " فلانة " عن رأيها فى الله؟ فأجابته: أنها لا تعتقد بوجوده! ويبحث المسئولون فى الجامع عن هذه التلميذة النجيبة، فلا يجدون أحدا فى سنيها جميعا يحمل هذا الاسم! إن المجلة تستبيح الكذب، لتنشر الجحود والفسوق، ولتعلم الشبان والشواب كيف يسيرون فى الأرض على غير هدى! وفى هذا الأسبوع كتب " إحسان عبد القدوس" كلمة ندد فيها بالأغنية الحماسية " الله أكبر..." وقال: أنه شعر وهو يستمع إليها كأنه فى حفل ذكر لا يشارك فيه بعواطفه. ونهى الأمة أن تنجرف مع هذا(1/248)
اللون الجديد من الأغانى..ص_228
وطبيعى أن مشاعر الحقد على الله- جل شأنه- تجعل هذه المجلة- تكره هذا اللون من الأغانى المؤمنة بالله البعيدة عن الشهوات. أما أغانى " رايداك والنبى رايداك " و " يالله تعالى أوام يالله " و "مال الهوى يامه فهى أغان تتفق مع ذوق هذه المجلة، ومجلته المنحرفة. وما يفعله السيد " إحسان " يفعله كتاب آخرون... أقرأت المقال الرنان الذى نشرته دار أخبار اليوم تحت عنوان ضخم فخم " افتحوا بيوت الدعارة؟ ". ثم أقرأت كيف أخرجت الردود عليه. وقد مسخ بعضها، واختصر بعض آخر، ووضع لأحدهما عنوان يثير السخرية ثم طوح به فى ذيل الكلام؟ أقرأت فيما تنشر الدار من أخبار أن وزير كذا يكره نباح الكلاب وخطباء المساجد؟ أقرأت النبذ المسمومة التى تنشر بين الحين والحين للوطنى الغيور " سلامه موسى". لا أريد أن أتحدث هنا كيف بنيت هذه الدار لتجعل كلمة الملك هى العليا، وكلمة الشعب المصرى هى السفلى. وكيف بقيت عشر سنين وهى تقوم بوظيفتها قياما تقر به عين الشيطان، وتغتم له أفئدة الأخيار. * * * * مستعمرات تكره الحرية!! والمستعمرات التى نعنيها ليست مساحات من الأرض وقعت تحت وطأة الاحتلال الأجنبى، ولكنها نفوسى معينة استحلت الدنايا وكرهت الصعود.. صبها الغزو الثقافى فى قوالبه فخرجت من بين يديه ولها ملامح مادية وأدبية جديدة من صنع المالك الأخير. ولو انتقلت إلى مالك غيره لصبها على شكل آخر فخرجت ولها ظاهر وباطن يحملان الطابع المراد... إنها نفوس فقدت خصائصها وعاشت كما رسموا لها لا تعقل من دين الله ولا من تاريخ أمتها شيئا يذكر... والغزو الثقافى منذ قرن لم يضع وقته سدى.. ولا ريب أنه استكثر من هذه النفوس الإماء، ثم مولها وسلحها وسلطها.. ثم تركها تنوب عنه فى الفتك بكل ما يكره..ص_229(1/249)
من هؤلاء أستاذ جامعى يقول عن نفسه: " لا أصلى، ولا أصوم، ولكننى مؤمن"! وينسب هذا الأستاذ الماجن إلى الصوم والصلاة أنهما سبب لفصله من الوظيفة وقطع الرزق، تقول مجلة " صوت الجامعة" التى نشرت الحديث السفيه: لقد أراد أن يشكر الله كما نشكر كل من أسدى إلينا خدمة فصلى حوالى شهر إلا أنه فوجىء بالفصل من وظيفته فى السابع والعشرين من رمضان، فقرر على الفور الكف عن الصلاة والامتناع عن الصيام.. وقد كان! وظاهر من هذا الكلام أننا مع شخص عابث يلعب بالقيم كلها، فلو ترك العبادة كسلا لتوارى عن المجتمع خجلا. أما وهو يتركها عامدا متعمدا فهو كافر بالله لا يختلف فى ذلك أهل الإيمان... وكلامه عن العرف لا وزن له، فهو يقول: " إذا تعارف الناس على شىء واعتادوه أصبحت له قوة الدين ومكانته !.!! كذبت، فكم من عرف خاطىء استمات المصلحون فى مقاومته حتى أزهقوه، وما أكثر المجتمعات التى تعارفت على الإلحاد والانحلال فهل ذلك دين يكفر منكروه؟ وقد نقلت مجلة" صوت الجامعة " فكر هذا الأستاذ الجامعي وزعمت أن له دليلين من الكتاب والسنة!! أما الكتاب فقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وهذا استدلال مردود، فإن إنكار الألوهية أصلا أشد من الشرك وليس دونه، ورفض الانقياد لله كذلك ليس دون الشرك قط. وقد كان ابليس- كبير العصاة- يعلم أن الله موجود، كيف لا وهو يتلقى أمره مباشرة؟ ومع ذلك فقد رفض تنفيذ ما صدر إليه من أمر، قيل له: اسجد! قال: أنا أكبر من ذلك. وهذا عين ما فعله أستاذ الجامعة الماجن، قيل له: صل. قال: لا.. الصلاة شؤم!! ومضى فى سخفه يصف الفتيات العفيفات الفاضلات بالشذوذ مقلدا امرأة تنشر الريبة فى بلادنا.. ولو أن هذا المرء أعلن ارتداده، لكشف عن نفسه وانحصر شره، لكنه يريد باسم الإسلام إفساد الإسلام، وبلى نصوصه إماتة هذه النصوص وصرف الأجيال الناشئة عن الارتباط بها..ص_230(1/250)
أما الحديث الشريف الذى يلوكه هذا الأستاذ بغباء فهو قوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا ينظر إلى صوركم.. ولكن إلى قلوبكم "، هذه الكلمة رواها مقطوعة عما قبلها وعما بعدها، وهى إنما تفيد محاربة المرائين الذين يتظاهرون بالخير وقلوبهم هواء، ولا تعنى أن يسير أحد مكشوف السوأة بحجة أن الله لا يهتم إلا بالقلوب.. ونحن نلوم المجلة التى نشرت هذا الحديث بلا تعليق، وكان عليها إما أن ترمى به مع القمامة، وإما أن تنشر معه ردا واعيا لأحد العقلاء، أما إهانة الإسلام فى الجامعة بهذه الصورة فلا. وقد يكون من هذه الإهانة المقصودة أن تنشر المجلة استنكارا لتخصيص أماكن للسيدات فى المواصلات العامة، لأننا كما تقول الكاتبة فى القرن العشرين!! ونسأل هل التحكك بالنساء كان حراما فى الماضى ثم أبيح الآن، إن النساء الشريفات يشعرن بالعنت والحرج البالغ لتلاصق الأجساد فى السيارات المشحونة كعلب السردين، فهل يقال لهن: تعلمن التقدمية الجديدة وسرن معها إلى آخر الطريق!! هذا ما تريده المجلة التى نشرت مناجاة هابطة " لأتوبيس " الطلبة جاء فيها.. " لا تفكر فى تطبيق التجربة، وإلا فسيهجرك الكثيرون والكثيرات ممن يخرجون مثنى ورباع من الجامعة، وكفانا حواجز داخلية وخارجية.. ". كفانا حواجز؟! ولننطلق مع غرائزنا، ولنحشر البنات بين الشبان، ولنعش مع القرن العشرين، قرن الترحيب بصيحات المراهقين والمراهقات..!! هكذا نشرت " صوت الجامعة " وصية فتاة اسمها " منى ثابت " لا أعرف إلى أى دين تنتمي، لكننى أؤكد أنها لا تعرف وصايا السماء.. ولندع المستعمرات الصغيرة إلى مستعمرة كبيرة، مستشار أحيل على المعاش كتب فى الأهرام صفحة ضد الطلاق وتعدد الزوجات.. حاولت أن أتذكر بحثا لهذا الكاتب القانونى يدافع عن الحدود والقصاص فى الإسلام، فلم أجد.. أى أنه ما اهتم قط بإبعاد الشريعة الإسلامية عن عالم القانون. وها هو ذا اليوم يكتب فى قوانين الاسرة يبغى تنصيرها،(1/251)
ولكن باسم الإسلام، هذا هو العجب، لم التمسح بالإسلام عند محاولة القضاء على تعاليمه؟ إن كل الأشخاص الذين يهاجمون قانون الأسرة الإسلامى نلحظ عليهم هذه الظاهرة السمجة، ضرب الإسلام باسم الإسلام..ص_231
والمستشار الذى نشر هجومه أخيرا زعم أن الآيات التى تبيح التعدد هى التى تمنعه لأنها جزمت باستحالة العدل بين النساء! إ! ولما كان هذا الكلام فارغا تافها فإن أصحابه يعمدون إلى تكراره كأنه رأى قيل!! من قاله؟ أبو ظريفة؟ هيان بين بيان؟ صلاح جاهين؟ كيف يهبط رجال قانون إلى هذا الدرك فى الاستدلال؟ ولكنه الغزو الثقافى!! *** فى عدد واحد، تناولته وأنا خالى الذهن، قرأت فى " أخبار اليوم " هذه العناوين متجاورة فى تنسيقها، متشابهة فى دلالتها، أذكرها من غير تعليق.. العنوان الأول: يتوضأ بأربعة عشر جنيها، وتحت قصة مصل فقد نقوده لأنه ذهل عن ملابسه التى خلعها قبل الفجر على شاطىء إحدى الترع! والعنوان الثانى: يصلى الفجر بستين جنيها، وتحته قصة مصل ضاع منه هذا المبلغ فى مسجد نفق شبرا. والعنوان الثالث: يقتل خاله بست رصاصات بعد صلاة الجمعة، وتحته أن المصلين فوجئوا بعد انتهاء الجمعة بمشاجرة بين رجل وقريبه انتهت بهذه الجريمة. وقد اعتقل المصلون الجانى، وليس فى سياق الحديث ما يشير قط إلى أنه كان خارجا من المسجد، لا هو ولا قريبه. وظاهر أن الوضوء والصلاة والمساجد بعيدة الصلة عن الحادثة الأولى والأخيرة، وأن ربط هذه المآسي بأطهر العبارات الإسلامية أمر مفتعل. ولن نتساءل لحساب من هذا؟ فلعل إخراج الأخبار على هذا النحو جاء من تلقاء نفسه! كان هذا فى 12 مايو سنة 1957، وفى 17 مايو سنة 1957 نشر السيد محمد التابعى- وغيرته على الإسلام معروفة- كلاما عن المساجد وعن خطبة الجمعة جاء فيه: أن أحد الأئمة كان يتلو الخطبة من كتاب أصفر الورق يعود تاريخه إلى سنة 1355 هـ. وأنه بعد أن تلا الخطبة- فى عصر الجمهورية الحالى- ختمها بالدعاء(1/252)
لخاقان البرين والبحرين أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين السلطان عبد الحميد خان...!! وقد ذكرنى كلام التابعي بكلام زميل له فى آخر ساعة قال: إن الإمام دعا فى خطبة الجمعة لأبى جعفر المنصور إ لأن ديوان الخطب الذى يقرأ منه على الناس ألف فى عهد مؤسس دولة بنى العباس!!ص_232
وظاهر أن القصة من صنع هذا الصحافى الماجن لأن تأليف دواوين الخطب لم يعرف فى عهد أبى جعفرولا بعده ببضعة قرون...! وظاهر أن مخترع القصة فى آخر ساعة، رأى أن يقارب فى التاريخ وأن يقفز ألف سنة دفعة واحدة، ليجعل الفرية أدنى إلى الواقع، فجعل الدعاء فى هذه الجمعة للسلطان عبد الحميد. لا لسلطان الشاى، ولا لسلطان حضرموت، ولا لسلطان !! الكيف! عند الأستاذ التابعي... !!! قال الراوى: وقد سمع الأستاذ التابعى بأذنيه- وهو يمر بسيارته الفارهة أمام أحد المساجد خطيبا آخر، لا يقل جهلا عن صاحبه الأول، سمعة وهو يرمى بالكفر لابسي القبعات!! وأنه لأمرأد أن يقرع أذنى الصحافى الكبير هذه التهمة، وهو يمرق بجوار مسجد احتشد المؤمنون فيه لأداء حق الله. ووددت لو أن الأستاذ التابعى حدثته نفسه- وهى أمارة بالخير- أن يتطهر، ثم يدخل المسجد ليصلى الجمعة مع المسلمين، وليستمع إلى هراء هذا الخطيب حتى يصدر الحكم عليه بعد وعى وبعد إحاطة بما يقول.. فإن هذا الخطيب يعلم كما يعلم الأستاذ التابعى وكما يعلم عامة الناس " أن ضابطى الجيش وجنوده يلبسون القبعات، وأن ألوفا من الفلاحين والعمال يلبسون القبعات، وأن هذا اللباس لا يخدش إيمانهم، بل انهم بهذا اللباس يدخلون المساجد، ويستمعون إلى خطب الجمعة، نعم يستمعون إليها وهم مستعدون للصلاة لا مرورا فى الشوارع كما يفعل الأستاذ التابعى... ولو سمع سيادته الخطبة كاملة، لعلم أن مجرد لبس القبعة هو غطاء للرأس لا شىء فيه ولاحرج منه. أما انحلال الشخصية العربية، وذوبان الخصائص الإسلامية، وانسلاخ الرجل من تاريخه وعقيدته وتحقيره لشريعته(1/253)
وشريعة أمته، واندماجه فى حملة الغزو الثقافى الأجنبى، وارتداؤه القبعة لأن رأسه أصبح كرؤوسهم، وقلبه أصبح كقلوبهم، فهذا هو الكفر إ! هذا هو الكفر، وإن بقى صاحبه طول حياته حاسر الرأس ولم يرتد القبعة يوما، فإن كفره لم يجىء من قطعة قماش فوق رأسه، وإنما جاء من قطع الظلام فوق نفسه...!!! وبقى أن نتساءل- وذاك حقنا- لحساب من؟ تخصص هذه الادعاءات، وتنسق فى عناية، ثم ترمى بها المعابد الإسلامية وحدها...ص_233
إن توجيه الافتراءات بهذه الأناة، وبهذه الدقة، وبهذا الإصرار ليس فى الحقيقة إلا إشباعا لضغائن معينة، وتحقيقا لأهداف رسمها الاستعمار بخبث!! والأستاذ التابعى يريد ليظهر بأنه شجاع فى مهاجمة أوضاع شتى ونحن نعرف معرفة اليقين أنه لا يجرؤ على الكلام بهذا الأسلوب إلا فى ميادين تمهد له، ويأمن عقباها، وأنه لا يستطيع أبدا أن يقول لغير علماء المساجد هذا الكلام الذى ختم به مقالته ضدهم وجاء فيه: " هل نترك خطباء المساجد ينفثون سموم خيالهم المريض وتكفيرهم السقيم ورؤوسهم المظلمة، وينقلون خطبهم من أوراق صفراء انقضى زمنها، وتغيرت ظروفها فيكون لكلامهم أثر هدام "... إلخ. ونحن بدورنا نتساءل: هل نترك نفرا من ذوى الأقلام الذين لم يصلوا لله ركعة، ولم يتصلوا بدينه فى قراءة واعية ولا دراسة ذكية، هل نتركهم يمرون بسياراتهم على أحد المساجد ليلتقطوا كلمة عابرة ثم يعودون بعد ذلك إلى الصحف لينظموا حملة شاملة ضد رسالة المساجد، وخلق المصلين، ومقدرة الخطباء... لندع هذا الحديث، ولنذكر أن زعزعة الإيمان فى القلوب، وزلزلة الفضائل فى المجتمع، عمل تدعو له، وتنفق عليه دول الاستعمار، وأنه كان المتوقع أن يؤتى هذا الجهد الاستعمارى نتيجته فى الهجوم الأخير على غزة وسيناء وبورسعيد ، لولا أن بدا بوضوح أن الأمة بخير، وأن محاولات الكتاب المارقين لم تغن شيئا فى النيل منه... ترانا وقد انسحب الهاجمون وكسر الله شوكتهم سندع الحال مرة أخرى(1/254)
لهؤلاء الصحافيين يفسدون العقول والأذواق، ويهدمون التقاليد والأخلاق؟ إن ذلك لا يجوز أبدا! إننا حاربنا الاستعمار فلنحارب دسائسه! وحاربنا الملك السابق وعهده، فلنستأصل الجراثيم التى عاشت معه، وبقيت بعد..! إننا على أية حال لن نسمح لقوى الشر أن تعربد فى أمان ودعة، وسيكون مصيرها الحتم مصير سادة الأمس : (الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد).ص_234
إننا وقد أسلمنا وجوهنا لله وحده، فلن نستكين إلا له، ولن نسمح أن يعود- فى أية صورة- عهدا طالما ديست فيه الأعراض، ونكرت الحقوق، وهانت الرجولات، ومسخت العقائد، وساد القانون الهوى الأعمى... لقد حاربنا الضلال القديم بأجسامنا وأرواحنا وأفكارنا ومشاعرنا، وسنظل نحاربه. فالإسلام دين خاصته الأولى التمرد على الباطل. والخاصة الأولى لأمته أنها حرب على المنكر، وسلم للمعروف، والغاية العظمى للجهاد الذى شرعه القرآن رسمتها هذه الآيات: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته و يقطع دابر الكافرين * ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون ) فكيف يتصور فينا نحن المسلمين المخلصين أن نترك أذيال الليل المدبر، ليل الجحود والطغيان؟ وأن ندعه يعكر مطالع النهار المقبل، مطالع العدالة والتحرر؟ إلا فليثق هؤلاء المجرمون أن القلوب التى أبغضناهم بها لا تزال فى صدورنا. وليعلم المؤملون فى خرافات الماضى أننا لن نسمح لا لهم ولا لها بعودة. *** إن الإسلام حرية وعدالة، وفضيلة وعفاف. وسنعادى من يجور على هذا الفهم- دفاعا عن الحقيقة- كما نعادى من يحارب هذا الإسلام حماية لديننا وأنفسنا. ثم أن الإسلام أقوى من أن يعترض طريقه أحد. وهو كذلك أشرف من أن يؤخذ عن أفواه التافهين.. فإذا حلا لنفر من الطائشين أن يتحدثوا عن رجعة لما فات، وأن يتناولوا الدين بهذه الأساليب فهيهات أن ينجح لهم غرض أو يفلح لهم قصد.. ثم إن المداهنة فى الحق حرام، ونحن ما رضينا،(1/255)
ولن نرضى لأنفسنا أن نداهن صاحب حكم، أو صاحب غنم، فالمداهنة هى جرثومة الشر التى مكنت للفساد القديم أن يمتد دون نكير ، وأعانت الدعار أن يطغوا فى البلاد غير مستحيين من توبيخ، أو متخوفين من عقوبة.ص_235
عن أنس! قيل: يا رسول الله.. متى يترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ قال عليه الصلاة والسلام: إذا ظهرت المداهنة فى خياركم، والفاحشة فى شراركم، وتحول الملك إلى صغاركم، والفقه فى أراذلكم ". وتحول الفقه فى الأراذل ليس معناه أن تكون علوم الدين وقفا على الفقراء كما هو واقع الآن، بل المعنى أن يسقط حظ الدين، فتمسى الأوعية التى تحمله شائنة له، معينة عليه! تحيا به ولاتحياله... وكم شقيت أديان وأجيال من الفقهاء الأراذل، أولئك الذين تركوا المنكر يستشرى، وحسبوا نصحهم المطلوب ابتغاء عرض من الدنيا. إن المجتمع المصرى يدخل الآن فى مرحلة هائلة من مراحل الغزو الثقافى للإسلام وأتباعه، مرحلة تكبت حرية العقل والضمير، وتطلق حرية العقل والضمير، وتطلق حرية الغريزة والشهوة، مرحلة توفر حرية الخطأ، وتقيد حرية التصويب. وترك الغزو الثقافى ماضيا فى خطته على هذا النحو الشائن لن يقود الأمة إلا إلى التفكك والبوار. *** منذ سنين طوال والاستعمار الغشوم ينظم غزوا ثقافيا واسع النطاق، يريد من ورائه تسميم الوعى العربى، وتلويث المنابع التى تمد أفكارنا ومشاعرنا بالحياة. وهو يرمى بهذا الغزو الماكر إلى خلق أجيال تعنو له، وتسير خلفه، وتعمل بوحيه فى كل مجال. والغزو الثقافى أشد خطورة من الفتح العسكرى، لأن سقوط مدينة ما فى يد العدو أمر مستدرك العاقبة... وما دامت النفوس سليمة، والمشاعر نقية، فإن هذه المدينة ستسترجع حتما. أما إذا فسدت الأمم، وتبلورت أفكارها وعواطفها فى الإطار الذى صنعه الاستعمار لها، فهى لا تنزل عن مدينة لها فحسب، بل تسلم عواصمها وقراها ومقاليد أمورها جميعا لخصمها عن رضا لا عن كره، وعن إعجاب لا عن قهر. وقد(1/256)
رأينا فى العهد الماضى من يقول عن صلة مصر بإنجلترا: إنها عقد زواج كاثوليكى " لا ينحل أبدا"! وليس هناك أنكى من ذلك فى ذوبان الشخصية، وزوال الملامح الخاصة لحضارتنا. هذه الحضارة المتميزة فى التاريخ، العريقة فى القدم...ص_236
وماذا يطلب الاستعمار أكثر من ذلك؟ إنه لن يصل بالحديد والنارإلى مثل هذه النتيجة التى وصل إليها بغزوه الثقافى، واستيلائه على العقول والأفئدة، يصبها فى القوالب التى ترضيه، ويخلق بها أجيالا تعمل لحسابه وحده. بل إنها تعمل لحسابه وهى تظن نفسها تعمل لوطنها وتنتصرلقضاياه. ذلك أن الأجيال التى تربت فى محاضن الاستعمار، أصبح لها لون من المنطق المشوه، قد تجوربه على قوميتها وهى لا تدرى. وقد تتنكر به لتاريخها وهى لا تحس... إن الغنى لا يحترف التسول، والذى ينظر إلى خزائنه فيجدها مفعمة لا يتكفف الناس. ونحن أبناء حضارة قد تمهد فيها من القواعد، واستقر لها من الدعائم، ما يجعلنا نبنى ونعلى البناء غير ناقلين ولا مقلدين. إن حضارتنا أسبق فى التاريخ، وأنبل فى المعدن، وأقدر على البقاء من مذاهب الغرب التى قام عليها أخيرا، وشقى بها كثيرا. وعندما أغار الإنجليز والفرنسيون واليهود على بلادنا فى الآونة الأخيرة، واستطاعوا بغدرهم وتأمرهم أن يدخلوا بور سعيد، كانت هذه المحنة امتحانا حسنا لجوهر النفس المصرية وكشفا باهرا عن روعة التقاليد التى تحيا بها، وشاهدا عدلا على سناء الحضارة السمحة التى مازالت متشبثة بتربيتنا، متغلغلة فى فطرتنا. أجل. فقد قام الجمهور الساذج من تلقاء نفسه بما يجب عليه: دافع بمرارة وحرارة عن أرضه. حتى أن الفلاحة بغطاء آنيتها النحاسية كانت تضرب الجندى الهابط بالمظلات، وتقضى عليه. لما انسحب كثير من سكان المدينة إلى القرى المجاورة، استقبلهم الأهلون وبيوتهم مفتوحة، وصدورهم مشروحة، وتألفت لجان أسمت نفسها لجان الأنصار، لإكرام الوافدين، و إحسان مواساتهم..ص_2ص(1/257)
إن طبائعنا النبيلة لا تزال براقة السنا فى ظلمات الحوادث، برغم ما كافحت من بلاء الاستعمارسنين عددا... وشعبنا الباسل الكريم عندما قام بواجبه على هذا النحو لم يكن يجرى فى باله البتة خاطر عن تعاليم شيوعية أوتعاليم أمريكية، بل لعله لم يسمع بهذا اللهو الذى يهرف به أشباه المتعلمين، ممن مسختهم الثقافات الغربية، أو خدعتهم القراءات السطحية... إن شعبنا كان يعمل بدافع من فطرته المؤمنة، وقوميته النقية، ولم يعمل بأى دافع آخر. إننا سنبقى ما حيينا أوفياء لمواريثنا المقدسة، وسنذود الغزو الثقافى عن مصادر التربية والتوجيه فى بلادنا. ولن نسمح لجبهة من الجبهات أن تجرنا إلى قافلتها، أو تسيرنا فى وجهتها، فليست مهمتنا أن نحيا على أى لون، كلا. *** ونحن نعرف أن الفساد الداخلى- أيام العهد البائد- قد خلف لنا مشكلات كثيرة، سببها الإقطاع والاحتكار، وعبث الملوك الدخلاء على مصر، الغرباء على شعبها. إننا سنتخلص من هذه المشكلات كلها، ونبنى وطننا الجديد على أسس من العدالة ورعاية المصلحة، وانطلاقنا إلى مثلنا العليا سوف يتخذ منهجه العتيد طبقا لتعاليمنا الدينية، وتراثنا الثقافى فحسب. فلن نسمح لدعاة التحلل والميوعة، ولا لأذناب الغرب أو الشرق أن يشوهوا نهضتنا أو يعوجوا بسيرها. فلندرك جيدا مواقع أقدامنا ومرامي أبصارنا حتى نشيد على قواعدنا وحدها، وحتى نقطع الطريق على الأفراد الذين أفسد أفكارهم وضمائرهم الغزو الثقافى الوافد من" أوروبا" شرقها وغربها. *** ألا فلنقف إيقاظا أمام كل هجوم على الإسلام الحنيف، فإن دعائم المقاومة الناجحة تلتقى كلها فى أخذنا بكتابه، واتباعنا لرسوله. أجل، فحاضرنا فى هذ الدار، ومستقبلنا يوم المعاد، كلاهما لا يضمنه إلا هذا الإيمان الوثيق. ***ص_238(1/258)
(11) الحياد.. كما نفهمه للأفلاك الدائرة قوانين ثابتة تتصل بسرعتها ووجهتها. والمعروف عنها أن صغراها تدور حول كبراها، كما يدور القمر حول الأرض وكما تدور الأرض حول الشمس. وهذه المجموعات الفلكية تلتزم أوضاعها، فلا تتمرد عليها ولا تنحرف عنها. القمر لا يفكر فى النمو والتضخم حتى يكره أمه الأرض أن تدور حوله بدل أن يدور حولها. وكذلك الأرض بالنسبة للشمس. وكذلك المجموعة الشمسية بالنسبة إلى زميلاتها السابحة فى الملكوت الرحب وفق نظام مقدور لا تند عنه حتى ينفخ فى الصور... * * * لكن المجتمع الإنسانى لا يعرف هذه الأوضاع الثابتة. فكم من أمة كانت بالأمس ذيلا أصبحت اليوم رأسا. وكم من أمة ظلت فى مكان الصدارة قرونا فإذا هى اليوم تسير وئيدا فى مؤخرة الركب. وصدق الله العظيم إذ يقول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). والأمم تعلو وتهبط وفق سنن جديرة بالدراسة والاعتبار. وإذا كانت هناك متاجر تربح وأخرى تفلس، وحقول تزهر وأخرى تيبس فإن ذلك لا يقع خبط عشواء، كلا، إنه نتيجة حتم لمقدمات تجمعت. وقد لفت الله نظر العرب إلى المدنيات التى بادت والحضارات التى خمدت حتى يأخذوا من ذلك درسا لا ينسى، قال الله تعالى : (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون). * * *ص_239(1/259)
ونظرة عجلى إلى القوى الكبرى البارزة اليوم فى العالم تدل على أن حركة المد والجذر فى المجتمع الانسانى تغدو وتروح بسرعة غريبة. فالولايات المتحدة مثلا، أمة بلا تاريخ، كانت منذ قرنين مستعمرة لإنجلترا، وكانت منذ عدة قرون أرضا مجهولة للأسرة الإنسانية المتحضرة. وروسيا قبل نصف قرن فقط كانت أمة من الهمل غاية ما تؤمل فى هذه الدنيا أن تنجو بجلدها من جيرانها الأقوياء! والصين ركام من الخلائق لا يحسب العالم له حسابا ولا يحترم له ابتعادا أو اقتربا... واليوم نرى هذه القوى المحدثة تتنازع الصدارة، وتريد أن تبسط نفوذها على أوسع رقعة من الأرض، وأكبر أعداد من الخلق... وننظر نحن إلى هذا التنافس، وما يكمن وراءه من أطماع فلا يبهرنا بريقه، ولا يستفزنا وعده ولا وعيده، ولا نتجاوز به حده فى ماض الإنسانية ولا حاضرها. ذلك لأننا أمة ذات طراز خاص، مكثنا ألف سنة أو يزيد ننفخ الروح فى حضارة العالم، ونمد بالوقود مصابيح المعرفة. فإذا كان القدر الذى يداول الأيام بين الناس قد جعل بعض الدول يملك من أسباب القوة ما يغريه بالتطاول فليفعل ما يحلو له. ولكن محاولته أن يفرض نفسه على الآخرين هو فى نظرنا ضرب من غرور القوة. نعم، إن الدول التى تريد اليوم أن تعلن وصايتها على غيرها تظن مستقبل العالم امتدادا لحاضره ، وهذا خطأ. ولو كان الأمر كذلك لبقيت هى فى مكانتها القديمة لا تساوى فى ميزان الحق شيئا. إن أجناسا أخرى كثيرة من حقها أن تشق طريقها فى الحياة بعيدا عن تيارات الدول الكبرى. ومن حقها أن تبتعد عن هذه الدول خصوصا فى ميدان المساومات والمؤامرات التى تضيع فيها المبادئ الشريفة والمثل الرفيعة، وتهلك فيها قضايا الأمم المستضعفة... إن عدم الانحياز- والحالة هذه- يكسر من كبرياء المغرورين، ويوقظ السكارى بخمر القوة من نشوتهم، فيدركون أن فى الوجود شيئا أخرا أقوى من السلاح، وأشرف من القوة، وهو الحق والعدل، ومن الاعتراف بالواقع أن(1/260)
نقول: أن الحضارة الأوروبية بشقيها الشيوعى والرأسمالى قد نفذت إلى أغلب القارات، ومدت تفكيرها المذهبى والاقتصادى والسياسى إلى أرجاء فيحاء فى العالم الكبير.ص_240
هناك أكثر من ألف مليون بشر بين شرق أوروبا وشرق آسيا يعتنقون الشيوعية. وهناك مثل هذا العدد أو أكثر بين غرب أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية يعتنقون الرأسمالية. فإذا تجاوزنا الفكر الاقتصادى إلى الناحية الدينية، فهناك الصراع الخفى والجلى بين الإيمان المطلق والالحاد المطلق. ثم هناك بالتحديد رغبة الكنيسة فى فرض سلطانها القديم على الناس، أيا كانت عقائدهم. ولئن كان ثلثا سكان العالم قد تقسمته الأحلاف العسكرية والكتل الشرقية والغربية، أن الثلث الآخر أثر البعد عن الفريقين ورفض أن يبيع ضميره لكلتا الجبهتين. واحتفظ لنفسه بحرية ابداء الرأى فيما يقع بين الدول من خلاف، وما يعرض على الصعيد العام من قضايا.. ولعدم الانحياز بواعث نجملها بالنسبة إلى بعض الدول، ونفصلها بالنسبة إلى موقف الأمة العربية والعالم الإسلامى. لقد لاحظنا أن بعض الشيوعيين انضم إلى معسكر عدم الانحياز لأنه يأنف من جعل ولائه تابعا لاحدى الدول الكبرى. كما لاحظنا أن بعض البوذيين الرأسماليين يأبى- مع حاجته الملحة لأمريكا أو انجلترا- أن يدور فى فلكهم، ويسارع فى هواهم. وعدم الانحياز هنا مع تقديرنا له ورغبتنا فى اتساع دائرته، يقوم على ملابسات خاصة أو مصالح ذاتية. أما عدم الانحياز بالنسبة إلينا نحن العرب المسلمين، فله دوافع نفسية وتاريخية وحضارية واجتماعية وإيمانية لا حصر لها. إننا نأنف من التبعية لأى جبهة أجنبية، كما يأنف الفيلسوف من اتباع العامى! ولو كان هذا الفيلسوف قد جارت عليه الليالى وكان هذا العامى يخب فى الحرير ويطاول الجبال. إن العرب، منذ اصطفاهم الله لحمل رسالة الإسلام، أصبحوا أمة تقود ولا تقاد، وتدفع ولا تندفع، وتؤم ولا تقتدى، وتصدع بأمر الله ولا تجرى وراء أهواء(1/261)
الآخرين فى شرق الأرض أو غربها.ص_241
إن تقديرنا لرسالتنا ولأنفسنا يجعلنا أكبر من أن يعدنا أى معسكر فى الدنيا ذنبا له، أوتابعا يعيش فى كنفه. ومن ثئم فنحن لا ننحاز لأحد، إن انحيازنا هو لمبادىء الشرف وأصول العدالة. وخطتنا نابعة من تبعيتنا لته وحده، ومن وفائنا للوظيفة الكبرى التى تخيرتنا السماء لها...اننا نحترم الحق ونعيش له. وقد يخالفنا ألوف الناس فى عقائدنا وشرائعنا، بيد أن ذالك الخلاف لا يهدر فى نظرنا قيمة الإنسان ولا فضائل الحرية والانصاف والمساواة. فإذا رأينا من يتربص بنا الدوائر، أو يريد بطرق الختل أو القتل فتنتنا عن مقدساتنا لم نلن له ولم ننحرف معه بل أشعرناه فى صرامة أن من حق الإسلام علينا أن نستمسك به، وأن نحرص عليه، وأن نوالى من يواليه، وأن نعادى من يعاديه... ومن حقه أن نخلص بصبغته السماوية فلا نسمح للون أرضى بالغلبة عليها، وأن نلزم صراطه المستقيم فلا ننحرف عنه ذات اليمن ولا ذات الشمال... *** وفى العالم الآن قوى تتطاحن لامتلاك أمره، وتتنافس فى أخذ زمامه والانفراد بتسييره... وهي قوى شاءت الأقدارأن تحتك بنا، ونحتك بها، وأن تتشابك علائقنا بها تشابكا له فى ماضينا وحاضرنا أعمق الآثار... والمسلمون لا يمكنهم تجاهل الصراع الناشب بين هذه القوى، فقد مسهم لفحه، بل كثيرا ما دارت فى بلادهم- أو عليها- رحاه... ثم أن رسالتهم السماوية الجليلة كانت هدفا مقصودا عن قرب أو بعد فى هذا النزاع. وهى لا شك قد تأثرت بأطواره الماضية. وسوف تتأثر بنتائجه المستقبلة... أما نوع هذا التأثر فسيرجع إلى الطريقة التى نسوس بها نحن شئوننا، ونخدم بها رسالتنا ونتعرف بها العدو من الصديق. بل أن ذلك سيرجع إلى مدى اخلاصنا لله. وانتصارنا لدينه وتجردنا من الأهواء فى ابلاغ رسالته. وتحرير عباده... والذى يعنينا ذكره من أحوال الجبهتين الشرقية والغربية وموقفهما النظرى من الإسلام وأهله ثم موقفهما العملى كما نطقت بذلك(1/262)
الأحداث التى بلوناها، والتي لاص_242
نزال نحسها. إن الفلسفة المادية للجبهة الشرقية تنكر الإسلام فى ضمن ما تنكر من حقائق الأديان كلها وهى بداهة لا تكترث برسالة محمدصلى الله عليه وسلم، ولا بتعاليم القرآن، كما لا تهتم بتوراة أو إنجيل ، وموقفها من الألوهية والنبوات معروف... وموقف الشيوعية النظرى من الإسلام هو موقف الصليبية النظرى أيضا. فإن الجبهة الغربية تجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذب بدينه وتحرص على اعتبار الإسلام خرافة ينبغى التخلص منها. إنها تؤمن بتثاليثها وأقانيمها فحسب... ومعنى ذلك من الناحية النظرية أن كلتا الجبهتين لا تريد للإسلام خيرا. ولا تكن له إلا عنتا..! فلنتجاوز هذه الناحية النفسية المحدودة. ولنواجه الموقف العملى لكلتا الجبهتين ضد الإسلام وأهله... ويسوءنا أن تكون الصليبية الغربية عند المقارنة أشد علينا نكيرا ، وأعظم بنا فتكا... *** فى كارثة الضعف العام الذى انتاب المسلمين أخير. وقع أقل من عشر المسلمين تحت السيطرة الروسية، ووقع نحو تسعة أعشارهم تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. و إذا كان السلطان الأجنبى قد تورع المسلمين على هذا النحو المؤسف، فإن الإسلام نفسه قد عانى صنوفا من الغمط والاستهانة والازدراء أضعاف ما أصاب أمته وهد كيانها.. فلنرجع البصر فى أرجاء العالم الإسلامى بعد ما وقعت كثرته الساحقة فى قبضة الصليبية الغربية. لقد قرر الاستعمار أن يطوى إعلام الإسلام عن ميادين النشاط العام كلها. وتم إقصاؤه فعلا عن أصول التشريع وفروعه فى كثير من الدساتير والقوانين... كما أبعد الإسلام عن الحالات الاقتصادية فى أهم المعاملات وأمسها بمعايش الجماهير. ثم تشعب الغزو الثقافى فطرد الإسلام طردا من آفاق التعليم والتربية ليمكن تكوين أجيال غريبة على الإسلام بل كارهة له متمردة عليه... واتجه هذا الغزو إلى تقاليد المجتمع عاملا فى دأب على اشرابها الطابع الغربى، وعلى تخفيف الروح(1/263)
الإسلامية منها...ص_243
ومضى الاستعمار الصليبى فى سياسته المرسومة يحيك المؤامرات للمسلمين ودينهم فى المجالات الدولية. ويبذل جهوده لخذلان قضاياهم وبعثرة قواهم، واظلام مستقبلهم، وضرب بعضهم ببعض، ولم يستح من كشف القناع عن أطماعه وأحقاده فى مأساة فلسطين. والجزائر إذ قرر فى عناد تهويد الأولى، وتنصير الثانية. ولم تكن هذه الضربات إلا تمهيدأ لاجتثاث جذور الإسلام كله من العالم، ثم تتخير أمته بين الارتداد عنه أو الفناء معه... وما نزعم المسلمين وراء الستار الحديدى أحسن حالا من اخوانهم فى نطاق النفوذ الغربى، أنهم لا شك فى ظل سلطات لا تعترف بالدين كله، وليس يغنيهم أنهم يجدون من الغذاء والكساء ما لا يجده أخوان لهم فى ظل بلاد محررة أو مستعمرة... إن الإسلام الحق نظام يكفل لأتباعه من ضمانات العيش المادى مثل ما يكفل لهم من عناصر الحياة الروحية، و إن كان هذا النظام المنشود قد تقلص من العالم، وانحسرت ظلاله من آماد طويلة... وهو الأن لا يعدو أن يكون أملا حلوا فى ضمائر المصلحين من العلماء والمجاهدين.. *** يجب أن نتساءل: ما الذى انتهى بنا إلى هذا المأل؟.. نعم، وقبل أن نساق فى بلاهة كى نحارب روسيا لحساب أمريكا أو أمريكا لحساب روسيا، يجب أن نتوقف لنجيب على هذا السؤال.. ما الذى انتهى بنا إلى هذا المأل؟. ما الذى أفقدنا هدينا ووعينا، وأمكن الآخرين من التسلط علينا، وإضاعة رسالتنا، وإهدا ر كرامتنا... والجواب لا يحتاج إلى طول بحث أو تكلف فلسفة... إننا نحن المسئولون أولا وآخرا. فالفساد الذى استشرى فى سياسة الحكم والمال، واستشرى قبل ذلك فى حقائق الإيمان والخلق والسلوك هو سر نكبتنا... لا الجاهلية السياسية، والاقتصادية " التى أذوت عود الإسلام وأذلت أمته، هى التى بددت عناصر المقاومة ضد الغزو الثقافى والعسكرى وجعلت جماهير المسلمين تحت تأثير الجوع والخوف تترنح وتتساقط قبيلا قبيلا...ص_244(1/264)
ولا تزال أسباب هذا الضعف قائمة فى طوائف من الحكام، كأنما حسبت الإسلام وأهله إقطاعأ لها، فهى ما تفهمه إلا على لهب عالى الضوء من شهواتها المنطلقة، ونزواتها المحترقة... وصدق الله إذ يقول : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا)... ثم إن هذه الانحرافات الشائنة ساندها طلاب القوت من علماء السوء أو سكتوا على ما بها من منكر، فكانت العاقبة الوخيمة ما نذوقه الآن من ضراوة الكافرين بنا فى كل مكان، وجراءتهم علينا دون محاذرة أو توجس... ! والدواء الوحيد أن نعرف الإسلام الحق وأن نحكمه فى أمورنا كلها، وأن ننزل على ما يحل ويحرم... وأن نخلى بين عباد الله وحقوقهم المغصوبة منهم، فلا يستبد بهم أن يفتات عليهم أى من خلق الله مهما كان شأنه... *** والإسلام الذى نطلب العودة إليه هو كتاب الله وسنة رسوله... ولن تكون هذه العودة صحيحة إذا كانت إدعاء لا يسانده إيمان، أو مزاعم لا تصحبها أعمال. ولن تكون هذه العودة صحيحة يوم يكون الإسلام عنوانا مزورا لطائفة من النظم البالية والتقاليد المخرفة، أو غطاء مجلوبا لمداراة الأهواء والدنايا التى تطفح بها نفوس السادة والكبراء... ا- لابد من رد الروح إلى العقائد والأخلاق الإسلامية وإزالة الركام الكثيف من الجهل والتخبط الذى ترزح تحته أمتنا، ورفع المستوى الثقافى المنحدر فى كل مكان... فإنه من المستحيل إقامة إسلام صحيح وسط جماهير استهلكتها الخرافة والفوضى... 2- ولابد من رد الروح إلى النظم السياسية الإسلامية وجعل الأوضاع الاقتصادية متفقة مع مناهج الإسلام وأهدافه.. فمن العار فى عصر نضجت فيه الحريات الإنسانية وتقررت المفاهيم المحددة لحقوقص_245(1/265)
الإنسان، أن تظل الأمة الإسلامية وحدها- دون سائر الأمم- صريعة أفراد يوصفون بأنهم فوق القانون، أو صريعة أحوال تختم بالبلى والانحطاط على الشعوب والجماعات التى تسودها... *** ولنكن صرحاء فى وصف عللنا... إن الشعب الذى يزعم أنه مسلم، ثم تحدث بين طبقاته فجوات هائلة، فيخيم الجوع فى ناحية منه والترف فى ناحية أخرى، هذا الشعب يجر الشيوعية إليه جرا، وليس له من الإسلام نصيب يقيه السوء مهما زعم... !! والشعب الذى يسوده الاستبداد ويشتاق أفراده إلى الكرامة والحرية لأنهم ينطقون بحذر ويتركون بقدر... هذا الشعب يجر الديمقراطية الغربية إليه جرا، ولن يكون له عاصم من إسلام مهما زعم بفمه أنه مسلم.. !! ذلك أن الإسلام نصوص محكمة وقواعد منظمة وحياة كاملة تنفى عن الإنسانية الهوان والحرمان. و إنه لمن السخف الذى يشابهه سخف أن نسترجع من ماضى الإنسانية بعض التقاليد القبلية والأنظمة البدائية، ثم نصف هذا الخليط بأنه إسلام... إسلام يحارب- كما ندعى- الشيوعية والاستعمار..؟؟!! إن كان هذا إسلاما فما هى الجاهلية..؟؟ وما معنى أن نحارب الاستعمار والشيوعية لنقع فى مثلهما أو شر منهما؟! أما إسلام صحيح أو.. لا إسلام... وللإسلام الصحيح توجيهات فى الأفق السياسى نلمع إليها فى إيجاز مكتفين هنا بكلمات جامعة للأستاذ حسن البنا تلقى على الموضوع كله أشعة كاشفة .. ***ص_246(1/266)
* دعائم الحكم الإسلامى: قال: والحكومة فى الإسلام تقوم على قواعد معروفة مقررة، هى الهيكل الأساسى لنظام الحكم الإسلامى... فهى تقوم على، مسئولية الحاكم " و " وحدة الأمة " و " احترام إرادتها " ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال.... مسئولية الحاكم: فالحاكم مسئول بين يدى الله وبين الناس، وهو أجير لهم وعامل لديهم، ورسول الله صلى الله عليه يقول: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وأبو بكر- رضى الله عنه- يقول عندما ولى الأمر وصعد المنبر: " أيها الناس.. كنت احترف لعيالى فاكتسب قوتهم، فأنا الآن احترف لكم، فافرضوا لى من بيت مالكم " وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعى أفضل وأعدل تفسير، بل هو قد وضع أساسه فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة فإن أحسن فله أجره و إن أساء فعليه عقابه... * وحدة الأمة: والأمة الإسلامية أمة واحدة، لأن الأخوة التى جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها، ولا يتحقق إلا بوجودها، ولا يمنع ذلك حرية الرأى وبذل النصح من الصغير إلى الكبير، ومن الكبير إلى الصغير، وذلك هو المعبر عنه فى عرف الإسلام ببذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: " الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ". وقال: (إذا رأيت أمتى تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها " وفى رواية " وبطن الأرض خير لهم من ظهرها " وقال: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".. ولا تتصور الفرقة فى الشئون الجوهرية فى الأمة الإسلامية لأن نظام الحياة الاجتماعية الذى يضمها نظام واحد، هو الإسلام، معترف به من أبنائها جميعا، والخلاف فى الفروع لا يضر ولا يوجب بغضا ولا خصومة، ولا حزبية يدور معها الحكم كما تدور... ولكنه يستلزم البحث والتمحيص، والتشاور وبذل(1/267)
النصيحة، فما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه، وما لا نص فيه فقرار ولى الأمر بجمع الأمة عليه ولا شىء بعد هذا..ص_247
* احترام إرادة الأمة: ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير- وعليه أن يشاورهم وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح فى آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال : (وشاورهم في الأمر) وأثنى به على المؤمنين خيرا فقال : (وأمرهم شورى بينهم) ونصت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده: إذا جاءهم أمر جمعوا أهل الرأى من المسلمين واستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم، بل إنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثونهم عليه، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: " فإن رأيتمونى على حق فأعينونى، وإن رأيتمونى على باطل فسددونى- أو قومونى! ويقول عمر بن الخطاب:! من رأى فى اعوجاجا فليقومه ". و " النظام الإسلامى " فى هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التى لا يكون الحكم صالحا بدونها، ومتى طبقت تطبيقا يحفظ التوازن بينها ولا يجعل بعضها يطغى على بعض، ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحى والشعور الحقيقى بقدسية هذه التعاليم، وأن فى المحافظة عليها وصيانتها الفوز فى الدنيا والنجاة فى الآخر، وهو ما يعبرون عنه فى الاصطلاح الحديث " بالوعى القومى " أو "النضج السياسى " أو " التربية الوطنية " أو نحو هذه الألفاظ ومردها جميعا إلى حقيقة واحدة هى اعتقاد صلاحية النظام والشعور بفائدة المحافظة عليه.. ذاك من الناحية السياسية.. أما الناحية الاقتصادية فقد أشار الأستاذ إلى أن الأمة العربية قد تتضارب فيها النظم والآراء العصرية، من رأسمالية واشتراكية وشيوعية، وأن من الخير كل الخيرأن تبرأ من هذه الألوان كلها، وأن تركز حياتها الاقتصادية على قواعد الإسلام وتوجيهاته العليا، وتستمد منه وتعتمد عليه. وبذلك تسلم من كل(1/268)
ما يصحب هذه الآراء من أخطاء وما يلصق بها من عيوب، وتنحل مشاكلنا الاقتصادية من أقصر طريق. * * *ص_248
* قواعد النظام الاقتصادي فى الإسلام: ويتلخص نظام الإسلام الاقتصادى فى قواعد أهمها: ا- اعتبار المال الصالح قوام الحياة ووجوب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره.. 2- إيجاب العمل والكسب على كل قادر.. 3- الكشف عن منابع الثروات الطبيعية ووجوب الاستفادة من كل ما فى الوجود من قوى ومواد.. 4- تحريم موارد الكسب الخبيث. 5- تقريب الشقة بين مختلف الطبقات تقريبا يقضى على الثراء الفاحش والفقر المدقع.. 6- الضمان الاجتماعى لكل مواطن وتأمين حياته، والعمل على راحته و إسعاده. 7- الحث على الإنفاق فى وجوه الخير وافتراض التكافل بين المواطنين ووجوب التعاون على البر والتقوى. 8- تقرير حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة.. 9- تنظيم المعاملات المالية بتشريع عادل رحيم، والتدقيق فى شئون النقد.. 15- تقرير مسئولية الدولة فى حماية هذا النظام. والذى ينظر فى تعاليم الإسلام يجد فيه هذه القواعد مبينة فى القرآن الكريم والسنة المطهرة وكتب الفقه الإسلامى بأوسع بيان. * * * ونحن نعرف أن الصراع المر بين الشيوعية والرأسمالية، قد تنهار فيه الجبهة الغربية، وتخسر فى أرباحها الطائلة من أرض وأموال وعبيد.. وهى- إشفاقا من هذا المصير- تريد أن يتعاون المسلمون معها على محاربة الشيوعية وكسر شوكتها.. فمن هؤلاء المسلمون الذين يلتمس الآن عونهم؟ المسلمون الذين فتنوا عن دينهم بالقهر أو بالمكر؟. وفتحت بلادهم من أقطارها ليعبث فيها الإلحاد السافر؟ وتنتشر فيها شيوعية الأعراض؟ وتتربى فيها الأجيال الجديدة وهى معرضة عن القرآن، مستهزئة بتعاليمه جاحدة لأحكامه؟.ص_249(1/269)
المسلمون الذين حكم على بعضهم بالتهويد، والآخر بالتنصير، والبقية الباقية بالضيعة والإلحاد والعوج؟ ثم وضعوا فى مصايد العبودية يتحركون داخل جدرانها فحسب لا يجدون من ورائها فكاكا.. أهؤلاء المسلمون هم الذين يطلب الآن عونهم، وإخلاصهم فى محاربة خصوم الاستعمار الغربى.. ذى التاريخ الناصع معهم؟؟.. سيقال: إنهم لو تركوا الغربيين ينهزمون أمام الشيوعية فسيعم الإلحاد الأحمر الأرض كلها.. ونقول: وما الفرق بين أن يعمها الإلحاد الأحمر أو يعمها الإلحاد الأبيض؟ إن الاستعمار حكم على الإسلام بالموت، وهو الآن ينفذ حكمه فى ربوعنا.. فليحض ما يشاء من حروب، فنحن ما يعنينا فى انتصاره أو انهزامه إلا أن ننجو بديننا وحده !! فإذا أصابت الاستعمار الصليبى كارثة أودت به، فهو المسئول عن مصيره، أما نحن من قبل أو بعد فأبعد الناس عن أسباب هذا الصراع، وأحراهم بنفض اليدين منه.. سيقول نفر من أغنياء المسلمين وكبرائهم أن الشيوعية خطر أشد، ولابد من المسارعة إلى دفعه.. ونحن نعرف أنها خطر أشد، ولكن على ثرواتهم وسلطانهم وجاههم.. أما دين الله فقد ذاب فى أهوائهم قبل أن في الشيوعية لإذابته. الشيوعية خطر.. هذه كلمة حق.. وهى من أفواه هؤلاء كلمة حق يراد بها استدامة منافعهم من السحت ومصالحهم من الحرام.. أما القرآن والسنة فقد دارت بهما من قبل دوامة صنعها الاستعمار الغربى، وشارك فيها عملاؤه من الساسة المرتدين، والحكام الفاسقين.. انصفوا الإسلام أولا من أنفسكم، ثم ذودوا عن عبث أوروبا وأمريكا به. فإذا سلم لنا بعد فلك فنحن أحرياء بكفاح المبادئ الهدامة. وبردها إلى مواطنها الأولى فى قوة وحماس.. أما أن يجسم أمام أعيننا الخطر البعيد.. ونكلف بالتعامى عن الخطر الآخذ بخناقنا، فهذا ما يرضاه الأغبياء وحدهم..ص_250(1/270)
إن عواطف الإلحاد الديني، والفوضى الخلقية، والاجتماعية عرفها الشرق الإسلامى فى سياسة الغرب الصليبى قبل أن تتحرك نذرها من أى مكان آخر، وما نحسه من فسوق وعصيان جاء من الغرب لا من الشرق.، ونحن بإذاء ذلك، وأمام الصراع الذى يوشك أن يجتاح الدنيا لا نرى بدا من الوقوف بعيدا لنعمل فى صبر ومثابرة على علاج عللنا.. واستنقاذ تراثنا، وإحياء مثلنا، والعيش فى كنف ديننا الحنيف.. إن الحياد الدقيق فى هذا الصراع العالمى ضرورة يفرضها علينا حرصنا على الإسلام، وحرصنا على مصالحنا المشروعة.. والانضمام إلى الغرب بعد ما استبان موقفه منا يجوز أن يوصف بأى شىء إلا بأنه حمإية للإيمان أو انتصار للحرية، اللهم إلا أن تكون حرية الجبابرة فى البطش، وإيمان الوثنية بهدم التوحيد.. على أنه قد يكون من طبيعة الحياد أن تقف ساكنا بعيدا عن هذا وبعيدا عن ذاك.. وهذا حياد سلبى مريب النتائج لا نوصى به. أما الحياد الإيجابى فهو يكلفك أن تقوى خصائصك الروحية وأن تنمى مواردك المادية وأن تقبل على خاصة نفسك إقبالا يغنيك عن هذا وذاك، ويقطع آمال الفريقين فى استغلالك واستتباعك. والحياد بهذا المدنى لا يكون بالنسبة لنا إلا إسلاميا محضا.. ومن العبث تصور حياد إيجابى يذهل عن الإسلام أو يستهين بربط الأمة به ودفع شئونها إليه.. بل لن يكون هذا إلا الفراغ، والطبيعة- كما يقال- تكره الفراغ، وكما يحاول الهواء الاندفاع إلى الآنية المفرغة من أى ثغرة، فستحاول التيارات الأجنبية الاندفاع إلى كل فراغ يخلفه خلو القلوب من العقيدة وخلو المجتمع من الدين.. لذلك قلنا: إن الحياد لابد أن يكون إيجابيا، أى إسلاميا لحما ودما، قوامه النهوض بحضارتنا الفذة والامتداد مع تاريخنا القديم العظيم.. وخير ما ننهى به هذا البحث قول الأستاذ حسن البنا: لقد اختفت المثل العليا تمام الاختفاء، وغابت عنا الأنظار والقلوب، تلك الأهداف الجميلة التى نادى بها هؤلاء الناس ساعة العسرة،(1/271)
وجندوا باسمها قوى الأممص_251
ضد الظلم والطغيان.. فالعدالة الاجتماعية، والحريات الأربع ومبادىء ميثاق الأمم!.. إلخ. هذه القائمة الطويلة العريضة من المبادىء السامية والأهداف المغرية أصبحت فى خبركان، ولم تعد لهؤلاء الساسة والزعماء! فلسفة راقية " يقودون بتوجيهها العالم، إلا فلسفة المصالح المادية والمطامع "لاستعمارية" ومناطق النفوذ، والاستيلاء على المواد الخام.. وكل ذلك على صورة من الجشع والنهم لم تر الدنيا لها مثيلا، ولا بعد الحرب العالمية الأولى.، وأصبحت هذه المعانى وحدها، هى محور التنافس بين الدول المنتصرة، روسيا من جانب، وأمريكا وإنجلترا من جانب آخر، وإن حاولت كل منها أن تستر جشعها ومناوراتها بستار من دعوى المبادىء الاجتماعية الصالحة، والنظم الإنسانية الفاضلة باسم الشيوعية أو الديمقراطية، وليس وراء هاتين اللفظتين إلا المطامع الاستعمارية والمصالح المادية فى كل مكان.. ونتيجة هذا الانحراف- الذى هو فى حقيقة أمره مسخ لإنسانية بنى الإنسان- ليست إلا " الحرب الثالثة"المسلحة بالقنابل الذرية، والغازات الخانقة والأسلحة المهلكة، وما سمعنا وما لم نسمع عنه بعد من معدات الهلاك والدمار التى تمثل ما جاءت به الكتب السماوية من وصف القارعة وهول القيامة: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * و تكون الجبال كالعهن المنفوش). * * * هذه هى صورة الحال فى وطننا الخاص، وفى وطننا العربى والإسلامى، وفى وطننا الإنسانى العام، وإذا لم تقم فى الدنيا أمة " الدعوة الجديدة " تحمل رسالة الحق والسلام، فعلى الدنيا العفاء، وعلى الإنسانية السلام.. و إن من واجبنا وفى يدنا شعلة النور وقارورة الدواء، أن نتقدم لنصلح أنفسنا وندعو غيرنا، فإن نجحنا فذاك، وإلا فحسبنا أن نكون قد بلغنا الرسالة، وأدينا الأمانة، وأردنا الخير للناس- ولا يصح أبدا أن نحتقر أنفسنا، فحسب الذين يحملون الرسالات، ويقومون بالدعوات من عوامل النجاح أن يكونوا(1/272)
بها مؤمنين، وفى سبيلها مجاهدين، وأن يكون الزمن ينتظرها، والعالم يترقبها.. فهل من مجيب!!؟؟ ***(1/273)