الأخوة في الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النساء : 1 ] .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 70-71 ] .
أما بعد :-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ،وكل ضلالة فى النار
أحبتى فى الله …
إننا اليوم على موعد مع موضوع من الأهمية القصوى بمكان وهو بعنوان (( الأخوة فى الله )) وكما تعودنا دائماً سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان الرقيق فى العناصر التالية :-
أولاً : حقيقة الأخوة فى الله .
ثانياً : حقوق الأخوة .
ثالثاً : الطريق إلى الأخوة .
فاسمحوا لى أن أقول : أعرونى القلوب والأسماع والوجدان والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ألوا الألباب .
أولاً : حقيقة الأخوة .(1/1)
أحبتى فى الله لقد أصبحت الأمة اليوم كما تعلمون غثاء كغثاء السيل لقد تمزق شملها وتشتت صفها ، وطمع فى الأمة الضعيف قبل القوى ، والذليل قبل العزيز ، والقاصى قبل الدانى ، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة كما ترون لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير ، والسبب الرئيسى أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء ،والأمة أصبحت ضعيفة ، لأن الفرقة قرينة للضعف ، والخزلان ، والضياع ، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة ، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها آلا وهو (( الأخوة فى الله )) بالمعنى الذى جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمحال محال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقى إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها ، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم ، يوم أن تحولت هذه الأخوة التى بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملى ومنهج حياة ، تجلى هذا الواقع المشرق المضىء المنير يوم أن آخى النبى - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً بين الموحدين فى مكة ، على الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم ، وألسنتهم وأوطانهم ، آخى بين حمزة القرشى ،وسلمان الفارسى وبلال الحبشى ، وصهيب الرومى ، وأبى ذر الغفارى ، وراح هؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة .
أبى الإسلام لا أبَ لى سِوَاهُ إذا افتخروا بقيسٍ أوتميمِ
راحوا يرددون جميعاً على لسان رجل واحد قول الله عز وجل :
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات : 10 ] . هذه هى المرحلة الأولى من مراحل الإخاء .
ثم آخى النبى - صلى الله عليه وسلم - - ثانيا - بين أهل المدينة من الأوس والخزرج ، بعد حروب دامية طويلة ، وصراع مر مرير ، دمر فيه الأخضر واليابس !!(1/2)
ثم آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار ، فى مهرجان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً ، تصافحت فيه القلوب ، وامتزجت فيه الأرواح ، حتى جسد هذا الإخاء هذا المشهد الرائع الذى جاء فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبى - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع ، وكان كثير المال ، فقال سعد : قد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً ، سأقسم مالى بينى وبينك شطرين ، ولى امرأتان فانظر أعجبهما إليك ، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها . فقال عبد الرحمن : بارك الله لك فى أهلك . دلونى على السوق ، فلم يرجع يومئذٍ حتى أفْضَلَ شيئاً من سَمْنٍ وأقطٍ ، فلم يَلْبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه وَضَرٌ من صُفرةٍ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(( مَهْيَمْ ؟ )) قال : تزوجتُ امرأةً من الأنصار قال : (( ما سقت إليها ؟ )) قال : وزن نواة من ذهب أو نواةٍ من ذهب فقال : (( أولم ولو بشاة )) (1) وقد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول أين سعد بن الربيع الذى شاطر أخاه ماله وزوجه ؟!!
والجواب : ضاع . وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف .
فإذا كان السؤال : من الآن الذى يعطى عطاء سعد ؟! فإن الجواب : وأين الآن من يتعفف بعفة عبد الرحمن بن عوف ؟!!
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 3781 ) فى مناقب الأنصار ، باب إخاء النبى - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين
والأنصار ، ومسلم رقم ( 1427 ) فى النكاح ، باب الصداق ، وجواز كونه تعليم القرآن
وخاتم حديد ، والموطأ ( 2/ 545 ) فى النكاح ، وأبو داود رقم ( 2109 ) ، والترمذى
رقم ( 1094 ) ، والنسائى ( 6/ 119 ، 120 ) .(1/3)
لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال : أين { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً } [ البقرة : 274 ]
فقال له : ذهبوا مع من { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [ البقرة : 273 ] .
هذا مشهد من مشاهد الإخاء الحقيقى بمعتقد التوحيد الصافى بشموله وكماله ، والله لولا أن الحديث فى أعلى درجات الصحة لقلت إن هذا المشهد من مشاهد الرؤيا الحالمة .
هذه هى الأخوة الصادقة ، وهذه هى حقيقتها ، فإن الأخوة فى الله لا تبنى إلا على أواصر العقيدة وأواصر الإيمان وأواصر الحب فى الله ، تلكم الأواصر التى لا تنفك عراها أبداً .
الأخوة فى الله نعمة جمة من الله ، وفضل فيض من الله يغدقها على المؤمنين الصادقين ،الأخوة شراب طهور يسقيه الله للمؤمنين الأصفياء والأذكياء .
لذا فإن الأخوة فى الله قرينة الإيمان لا تنفك عنه ، ولا ينفك الإيمان عنها فإن وجدت أخوة من غير إيمان ، فاعلم يقيناً أنها التقاء مصالح ، وتبادل منافع ، وإن رأيت إيمان بدون أخوة صادقة فاعلم يقيناً أنه إيمان ناقص يحتاج صاحبه إلى دواء وعلاج لمرض فيه ، لذا جمع الله بين الإيمان والأخوة فى آية جامعة فقال سبحانه { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ]
فالمؤمنين جميعاً كأنهم روح واحدة حل فى أجسام متعددة كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة ، بالله عليكم أين هذه المعانى الآن ؟!!
ولذلك لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذى ذكر آنفا ربما استغرب أهل الإسلام هذه الكلمات ، وظنوها كما قلت من الخيالات الجميلة والرؤيا الحالمة لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين ، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد هذا الواقع الأليم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة لا حرارة فيها إلا من رحم الله .(1/4)
فإن الأخوة الموصلة بحبل الله المتين نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل فقال سبحانه :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ آل عمران : 102-103 ] .
فالأخوة نعمة من الله امتن بها الله على المؤمنين وقال تعالى : فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وقال تعالى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
[ الأنفال : 63 ]
ثانيا : حقوق الأخوة فى الله .
الحق الأول : الحب فى الله والبغض فى الله .
ففى الحديث الذى رواه أبو داود والضياء المقدسى وصححه الشيخ الألبانى من حديث أبى أمامة الباهلى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أحبَّ لله ، وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ))(1) .
وفى الصحيحين من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ،أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار ))(2)
__________
(1) رواه أبو داود رقم ( 4681 ) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وأخرجه أيضاً أحمد
فى المسند ( 3/ 438 ) ، وهو فى صحيح الجامع ( 5965 ) .
(2) رواه البخارى رقم ( 16 ) فى الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ، ومسلم رقم ( 43 ) فى الإيمان ،
باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان .(1/5)
.
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : (( سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، شاب نشأ فى عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا فى الله ، اجتمعا ، عليه ، وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال ، فقال : إنى أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ))(1). هل فكرت فى هذا الحديث النبوى الشريف ؟!! يومٍ تدنو الشمس من الرؤوس ، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس ، فالبشرية كلها - من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة - فى أرض المحشر ، وجهنم تزفر و تزمجر ، قد أُتِىَ بها (( لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )) (2) فى ظل هذه المشاهد التى تخلع القلب ، ينادى الله عز وجل على سبعة ليظلهم فى ظله يوم لا ظل إلا ظله - سبحانه وتعالى - ضمن هؤلاء السبعة السعداء رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، يالها ورب الكعبة من كرامة !!
__________
(1) رواه البخارى ( 1423 ) فى الزكاة ، باب الصدقة باليمين ومسلم ( 1031 ) فى الزكاة
باب فضل إخفاء الصدقة ، والموطأ ( 2/ 952 ) فى الشعر ، باب ما جاء فى المتحابين فى
الله ، والترمذى رقم ( 2392 ) فى الزهد ، والنسائى ( 8/ 222 ، 223 ) فى القضاء .
(2) رواه مسلم رقم ( 2842 ) فى صفة الجنة ، باب فى شدة حر نار جهنم ، والترمذى رقم
( 2576 ) فى صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة جهنم .(1/6)
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن رجلاً زار أخاً له فى قرية أخرى ، فأرصد فأرض الله له على مدرجته ، ملكاً فلمَّا أتى عليه قال : أين تريد ؟ فقال : أريد أخاً لى فى هذه القرية . قال : هل لك عليه من نعمة تَرُبّها ؟ قال : لا . غير أنى أحببته فى الله عز وجل ، قال : فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ))(1)
وفى موطأ مالك وأحمد فى مسنده بسند صحيح ، والحاكم ،وصححه ووافقه الذهبى أن أبا إدريس الخولانى رحمه الله قال : دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شابٌ برَّاق الثَّنايا والناس حوله فإذا اختلفوا فى شىء أسندوه إليه ، وصدروا عن قوله و رأيه . فسألت عنه ؟ فقيل : هذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فلما كان الغد هجَّرت ، فوجدته قد سبقنى بالتهجير، ووجدته يصلى، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قِبَل وجهه ، فسلَّمت عليه . ثم قلت : والله إنى لأحبُّك فى الله ، فقال : آلله ؟ فقلت : آلله ، فقال : آلله ؟ فقلت : آلله ، فقال : آلله ؟ فقلت : آلله ، قال : فأخذ بحبوة ردائى ، فجبذنى إليه ، وقال : أبشر ، فإنى سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تبارك وتعالى : وجبت محبتى للمتحابين فىّ ، والمتجالسين فىّ ، والمتزاورين فىّ ، والمتباذلين فىّ )) (2)
__________
(1) رواه مسلم رقم ( 2567 ) فى البر و الصلة ، باب فضل الحب فى الله ، وأخرجه أحمد فى =
(2) = المسند رقم ( 408 – 463 / 2 )
( ) أخرجة الإمام مالك فى الموطأ ( 2/ 953 ، 954 ) فى الشعر ، باب ما جاء فى المتحابين
فى الله وأحمد فى المسند ( 5/ 229 ) وإسناده صحيح وصححه الحاكم ( 4/ 168 ، 169)
على شرط الشيخين ووافقه الذهبى ، وابن حبان فى صحيحة ( 2510 موارد ) وقال ابن
عبد البر : هذا إسناد صحيح .(1/7)
وفى الحديث الذى رواه مسلم وأبو داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( والذى نفسى بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على
شىء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم ))(1) .
فسلم على أخيك بصدق وحرارة ، لا تسلم سلاماً باهتاً بارداً لا حرارة فيه.
إننا كثيراً لا نشعر بحرارة السلام واللقاء ولا بإخلاص المصافحة .. لا نشعر أن القلب قد صافح القلب .
ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال عليه الصلاة والسلام. (( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فخيارهم فى الإسلام خيارهم فى الجاهلية إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ))(2).
قال الخطابى : فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار هذا هو معنى ما تعارف من الأرواح ائتلف وما تنافر وتناكر من الأرواح اختلف ، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمان والإخلاص ولا يبغض المؤمن إلا منافق خبيث القلب ، قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ].
__________
(1) رواه مسلم رقم ( 54 ) فى الإيمان ، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنين وأن محبة
المؤمن من الإيمان ، وأبو داود رقم ( 5193 ) فى الأدب ، باب فى إفشاء السلام
والترمذى رقم ( 3689 ) فى الاستئذان .
(2) رواه مسلم رقم ( 2638 ) فى البر والصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ، وأبو داود رقم
( 4834 ) فى الأدب ، باب من يؤمر أن يجالس وهو فى صحيح الجامع ( 6797 ) .(1/8)
أى يجعل الله محبتة فى قلوب عباده المؤمنين ، وهذه لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا إذا أحبه الله ابتداءً . كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال : إنى أحب فلاناً ، فأحبه قال : فيحبه جبريل ، ثم يُنادى فى السماء فيقول : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء . قال ثم يوضع له القبول فى الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول : إنى أُبغض فلاناً فأبغضه فقال : فيبغضه جبريل ثم يُنَادى فى أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه . قال : فيبغضونه . ثم توضع له البغضاء فى الأرض ))(1)
أيها الأحباب الكرام :
المرء يوم القيامة يحشر مع من يحب ، فإن كنت تحب الأخيار الأطهار ابتداءً من نبيك المختار وصحابته الأبرار والتابعين الأخيار ، وانتهاء بإخوانك الطيبين فإنك ستحشر معهم إذا شاء رب العالمين وإن كنت تحب الخبث و الخبائث وأهل الفجور واللهو واللعب كنت من الخاسرين فتحشر معهم إذا شاء رب العالمين .
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 3209 ) فى بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ،
ومسلم ( 2637 ) فى البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عبادة ومالك فى أو
الموطأ ( 2/ 953 ) فى الشعر ، والترمذى رقم ( 3160 ) فى التفسير .(1/9)
ففى الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلاً سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة .فقال يا رسول الله متى الساعة . قال : (( وما أعددت لها )). قال : لا شىء ، إلا أنى أحب الله ورسوله . فقال : (( أنت مع من أحببت )) قال أنس : فما فرحنا بشىء فرحنا بقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (( أنت مع من أحببت )) .قال أنس فأنا أحب النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّى إياهم وإن لم أعمل بعملهم ))(1).
ونحن نشهد الله أننا نحب رسول الله وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان وعلىّ وجميع أصحاب الحبيب النبى ، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
ولله در القائل :
أتحب أعداء الحبيب وتدعى حباً له ، ما ذاك فى الإمكان
وكذا تعادى جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان ؟!
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصانِ
فلئن ادعيت له المحبة مع خلاف ما يحب فأنت ذو بهتان
لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ
وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصرُ
فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك تذكرُ
مباينة الكفار فى كل موطن بنا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتخضع بالتوحيد بين ظهورهم تدعوهم لذاك وتجهر
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 3688 ) فى فضائل أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - ، باب مناقب عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - ، ومسلم رقم ( 2639 ) فى البر والصلة ، باب المرء مع من أحب ، وأبو داود رقم
( 5127 ) فى الأدب ، والترمذى رقم ( 1386 ) فى الزهد .(1/10)
ومن السُّنَّة إذا أحب الرجل أخاه أن يخبره كما فى الحديث الصحيح الذى رواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا أحب الرجل أخاه فيخبره أنه يحبه ))(1).
وفى الحديث الذى رواه أبو داود من حديث أنس : أن رجلاً كان عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فمر به رجل فقال : يا رسول الله ! إنى لأحب هذا . فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - : (( أعلمته ؟ )) قال : لا . قال : (( أعلمه )) قال : فلحقه ، فقال : إنى أحبك فى الله . فقال : أحبك الذى أحببتنى له(2) .
وفى الحديث الذى رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث معاذ بن
جبل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال (( يا معاذ والله إنى لأحبك )) .
فقال معاذ : بأبى أنت وأمى يا رسول الله ، فوالله إنى لأحبك . فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أوصيك يا معاذ فى دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعنى على ذكرك وشكرك ، وحسن عبادتك ))(3).
وامتثالاً لأمر النبى الكريم ،فإنى أشهد الله أنى أحبكم جميعاً فى الله وأسأل الله أن يجمعنى مع المتحابين بجلاله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، إنه ولى ذلك والقادر عليه .
أقول قولى هذا ، و أستغر الله لى ولكم .
الخطبة الثانية :
__________
(1) رواه أبو داود ( 5124 ) فى الأدب ، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إليه ، والترمذى رقم
( 2393 ) فى الزهد ، باب ما جاء فى إعلام الحب وصححه الألبانى فى صحيح الجامع ( 279 )
(2) رواه أبو داود رقم ( 5125 ) فى الأدب ، باب إخبار الرجل بمحبته إليه ، وحسنه الألبانى
فى صحيح سنن أبى داود ( 4274 ) .
(3) 13) رواه أبو داود رقم (1522) فى الصلاة ، باب الاستغفار ، والنسائى ( 3/53) فى السهو
باب نوع آخر من الدعاء ، والحاكم فى المستدرك ( 3/ 273-274 ) ، وقال صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ، ووفقه الذهبى وهو فى صحيح الجامع ( 7969 ) .(1/11)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبد ورسوله اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه ، وعلى آله ، وأصحابه ، وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الأحبة الكرام .
الحق الثانى : أن لا يحمل الأخ لأخيه غلاً ولا حسداً ولا حقداً .
أحبتى فى الله :
المؤمن سليم الصدر ، طاهر النفس ، نقى ، تقى القلب ، رقيق المشاعر رقراق العواطف ، فالمؤمن ينام على فراشه آخر الليل - شهد الله فى عليائه - أنه لا يحمل ذرة حقد ، أوغل ، أو حسد لمسلم البتة على وجه الأرض ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول كما فى الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - .
(( لا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا تنافسوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ))(1).
إن الحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله ، فيرى الأخ أخاه فى نعمة ، فيحقد عليه ويحسده ، ونسى هذا الجاهل ابتداءً أنه لم يرض عن الله الذى قسم الأرزاق ، فليتق الله وليعد إلى الله سبحانه وتعالى وليسأل الله الذى وهب وأعطى أن يهبه ويعطيه من فضله ، وعظيم عطائه ، ويردد مع هؤلاء الصادقين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] .
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 6065 ) فى الأدب ، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ، ومسلم
( 2563 ) فى البر والصلة ، باب تحريم الظن والتحسس والتنافس ، و مالك فى الموطأ
( 2/ 907 ، 908 ) فى حسن الخلق وأبو داود ( 4882 ، 4917 ) فى الأدب ، باب
فى الغيبة ، والترمذى ( 1928 ) فى البر والصلة ، باب ما جاء فى شفق المسلم على المسلم .(1/12)
وردد مع هؤلاء بصفاء ، وصدق ، وعمل ، فقد قال الله فيهم : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ].
ففى مسند أحمد بسند جيد من حديث أنس قال كنا جلوساً عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال المصطفى : (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) فطلع رجل من الأنصار ، تنطف لحيته من وضوئه ، قد تعلق نعليه فى يده الشمال ، فلما كان الغد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث ، قال النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضاً ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ، فلما قام النبى - صلى الله عليه وسلم - ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إنى لا حَيْتُ أبى فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤينى إليك حتى تمضى فعلت ؟ قال : نعم ، قال أنس : وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالى الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار( أى انتبه فى الليل ) وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر ، قال عبد الله غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيراً ، فلما مضت الثلاث ليالٍ وكدت أن أحتقر عمله ، قلت يا عبد الله إنى لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجر ثَمَّ ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات : (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) فطلعت أنت الثلاث مرار ، فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك فأقتدى بك،فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! قال : ما هى إلا ما رأيت . قال فلما وليت وعانى فقال : بما هو إلا ما رأيت(1/13)
غير أنى لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه . فقال عبد الله : هذه التى بلغت بك ، وهى التى لا نطيق .(1)
إن سلامة الصدر من الغل والحسد بلغت بهذا الرجل أن يشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة وهو فى الدنيا .. يا لها من كرامة .
الحق الثالث : طهارة القلب والنفس .
إن من حقوق الأخوة فى الله أنك إن لم تستطع أن تنفع أخاك بمالك فلتكف عنه لسانك ، وهذا أضعف الإيمان ، فإن تركنا الألسنة تُلقى التهم جزافاً دون بينة أو دليل ، وتركنا المجال فسيحاً لكل إنسان أن يقول ما شاء فى أى وقت شاء ، فإنما ينتشر بذلك الفساد والحسد، والبغضاء ، فإن اللسان من أخطر جوارح هذا الجسم ، قال الله جل وعلا :
{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] .
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ } [ النور : 19 ] .
وقال جل فى علاه : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } النور : [ 23،25 ] .
تورع عن إخوانك ، أمسك عليك لسانك ، واتقى الله فوالله ما من كلمة إلا وهى مسطرة عليك فى كتاب عند الله لا يضل ربى ولا ينسى .
__________
(1) رواه أحمد فى المسند ( 3/ 166 ) رقم ( 12633 ) وقال محققه إسناده صحيح ، ووراه
أيضاً الترمذى رقم ( 694 ) والطبرانى فى الكبير ( 10/ 206 ) ، والحاكم فى المستدرك
وصححه ووافقه الذهبى .(1/14)
ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ))(1).
وفى الصحيحين من حديث أبى موسى قلت يا رسول الله أى المسلمين أفضل ؟ قال : (( من سلم المسلمون من لسانه ويديه ))(2) .
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة واللفظ للبخارى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، لا يلقى لها بالا ، فيرفعه الله بها فى الجنة ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقى لها بالا ، فيهوى بها فى جهنم ))(3) .
وفى حديث ابن عمر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربا الربا استطالة الرجل فى عِرْضِ أخيه ))(4).
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 6138 ) فى الأدب ، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه ، ومسلم
رقم ( 48 ) فى الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير
وكون ذلك كله من الإيمان ، والموطأ ( 2/ 929 ) فى صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواه البخارى رقم ( 11 ) فى الإيمان ، باب من سلم المسلمون من لسانه ويده ، ومسلم
رقم ( 42 ) فى الإيمان ، باب بيان تفاضل الإسلام ، والترمذى رقم ( 2506 ) فى
صفة القيامة ، والنسائى ( 8/ 106، 107 ) فى الإيمان .
(3) رواه البخارى رقم ( 6478 ) فى الرقاق ، باب حفظ اللسان ، ومسلم رقم ( 2988 )
فى الزهد ، باب التكلم بالكلمة يهوى بها فى النار ، والموطأ ( 2/ 985 ) فى الكلام
، والترمذى فى الزهد ، باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس .
(4) رواه الطبرانى فى الأوسط ( 1/ 143 ) وقال الألبانى فى الصحيحة ( 1871 ) : والحديث
بمجموع طرقه صحيح ثابت ، وهو فى صحيح الجامع ( 3537 ) .(1/15)
وأختم هذه الطائفة النبوية الكريمة بهذا الحديث الذى يكاد يخلع القلب والحديث رواه الإمام أحمد فى مسنده ،وأبو داود فى سننه من حديث يحيى بن راشد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( … من قال فى مؤمن ما ليس فيه اسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ))(1) . وردغة الخبال : عصارة أهل النار ، والرَّدغة – بفتح الدال وسكونها- الماء والطين .
والله لو نحمل فى قلوبنا ذرة إيمان ونسمع حديث من هذه الأحاديث
للجم الإنسان لسانه بألف لجام قبل أن يتكلم كلمة ولكن لا أقول ضعف
إيمان ، بل إن لله وإن إليه راجعون .
الحق الرابع : الاعانه على قضاء حوائج الدنيا على قدر استطاعتك .
واسمع إلى هذا الحديث الذى تتلألأ منه أنوار النبوة :
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : أن رجلاً جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول ! أى الناس أحب إلى الله ؟ وأى الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل ، سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه كربه ، أو يقضى عنه دينا ، أو يطرد عنه جوعاً ، ولأن أمشى فى حاجة أخى المسلم أحب إلىّ من أن اعتكف فى المسجد شهراً ( يعنى : مسجد المدينة ) ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه المسلم فى حاجته حتى يثبتها له ، أثبت الله قدمه يوم تَزِلُّ الأقدام ، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ))(2).
__________
(1) أخرجه أحمد فى المسند ( 2/ 70 ) وقال الشيخ شاكر : إسناده صحيح ، وأبو داود رقم
( 3597 ) فى الأقضية ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها وصححه
الألبانى فى الصحيحة ( 437 ) .
(2) رواه ابن أبى الدنيا فى قضاء الحوائج ص 80 رقم 36 وحسنه الألبانى فى الصحيحة
( 906 ) وهو فى صحيح الجامع ( 176 ) .(1/16)
فمن حق المسلم على المسلم إن استطاع أن يعينه فى أمر من أمور الدنيا أن لا يبخل عليه فأنت يا مسلم لئن مشيت فى حاجة أخيك المسلم أفضل عند الله تعالى من أن تعتكف فى المسجد شهراً واثبت الله قدمك يوم تزل الأقدام .
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : (( من نفث عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفث الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله فى الدنيا والآخرة ، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه … ))(1).
فيا أخى المسلم ، يا منْ منَّ الله عليك بمنصبٍ أو جاه . إن استطعت أن تنفع إخوانك فافعل ولا تبخل وبالمقابل يجب على المسلمين ، أن لا يكلفوا إخوانهم بما لا يطيقون وإن كلفوهم فعجزوا فليعذروهم قال تعالى :
{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ].
وما أجمل أن يقول الأخ لأخيه : أسأل الله أن يجعلك مفتاح خير ، وهذه حاجتى إليك ، فإن قضيتها حمدت الله ،ثم شكرتك ، وإن لم تقضها لى حمدت الله ثم عذرتك ، ها هى الأخوة .
الحق الخامس : بذل النصيحة بصدق وأمانة .
ففى صحيح مسلم من حديث تميم الدارى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( الدين النصيحة )) قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ))(2).
__________
(1) رواه مسلم رقم ( 2699 ) فى الذكر والدعاء ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن
وعلى الذكر وأبو داود رقم ( 4946 ) فى الأدب ، باب من المعونه للمسلم ،والترمذى
( 1425 ) فى الحدود ، باب ما جاء فى الستر على المسلم ، وهو فى صحيح الجامع ( 6577 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 55 ) فى الإيمان ، باب بيان أن الدين النصيحة ، والترمذى رقم
( 1927 ) فى البر والصلة من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - .(1/17)
لكن أتمن من الله أن يع إخوانى الضوابط الشرعية للنصيحة .
قال الشافعى : من نصح أخاه بين الناس فقد شانه ، ومن نصح أخاه فيما بينه وبينه فقد ستره وزانه .
والناصح الصادق : رقيق القلب ، نقى السريرة ، مخلص النية ، يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، فإن رأى أخاه فى عيب دنى منه بحنان ، وتمنى أن لو ستره بجوارحه لا بملابسه ، ثم قال له حبيبى فى الله . ثم يبين له النصيحة بأدب ورحمة ،وتواضع ،فلتُشْعِر أخاك وأنت تنصحه : بحبك له ، وبتواضعك وخفض جناحك له ، فقد سطر الله فى كتابه { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] .
جلس رجل فى مجلس عبد الله بن المبارك فاغتاب أحد المسلمين ، فقال له عبد الله بن المبارك : يا أخى هل غزوت الروم ؟! قال : لا . قال : هل غزوت فارس ؟! قال : لا . فقال عبد الله بن المبارك : سلم منك الروم وسلم منك فارس ، ولم يسلم منك أخوك !!
والذى بُذِلَ له النصيحة عليه أن يحسن الظن بأخيه الناصح ولا تأخذه العزة بالإثم ، وأن يتقبلها منه بلطف ، وأدب ، وتواضع ، وحب ، ويشكره عليها ويدعو له بظاهر الغيب .
ورحم الله من قال : رحم الله من أهدى إليَّ عيوبى .
الحق السادس : التناصر
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( تأخذ فوق يديه ))(1) .
انصر أخاك فى كل الحوال، إن كان ظالماً خذ بيده عن الظلم، وإن كان مظلوماً وأنت تملك أن تنصره انصره ، ولو بكلمة وإن عجزت فبقلبك وهذا أضعف الإيمان .
الحق السابع : أن تستر عيب أخيك المسلم وتغفر له ذلاته :
__________
(1) رواه البخارى رقم ( 2444 ) فى المظالم ، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً ، والترمذى
رقم ( 2256 ) فى الفتن .(1/18)
وهذا من أعظم الحقوق : فالأخ ليس مَلَكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، فإن ذل الأخ فى هفوة فهو بشر ، استر عليه .
قال العلماء : الناس صنفان . صنف اشتهر بين الناس بالصلاح والبعد عن المعاصى ، فإن ذل ووقع وسقط فى هفوة من الهفوات على المسلمين أن
يستروا عليه ، ولا يتبعوا عوراته .
ففى الحديث الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود من حديث أبى برزة الأسلمى - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يا معشر من آمن بلسانه ، ولما يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عوراتهم ، تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته ، يفضحه فى بيته ))(1) .
نسأل الله أن يسترنا وأياكم بستره الجميل .
والصنف الثانى من الناس : يبارز الله بالمعاصى ويجهر بها ، ولا يستحى من الخالق ، ولا من الخلق ، فهذا فاجر ، فاسق ، لا غيبة له .
وأخيراً : الطريق إلى الإخوة .
وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الطريق قد وضع فى ثنايا المحاضرة ولكننى أجمل هذا الطريق فى خطوتين اثنتين لا ثالث لهما .
أما الخطوة الأولى : العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين .
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فلنعد إلى هذه الأخلاق السامية التى ينفرد بها الدين الإسلامى لتعود لنا الأخوة الصادقة فى الله ، تعود الأخوة الحقيقة .. فلتلتئم الصفوف ، وتضمد الجراح ، وتلتقى الأمة على قلب رجل واحد .
__________
(1) رواه أبو رقم ( 4880 ) فى الأدب ، باب فى الغيبة ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند ( 4/ 421 ) وصححه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود ( 4083 ) .(1/19)
فوالله ثم والله لا ألفة ، ولا عزة ، ولا نصرة ، ولا تمكين ، إلا بالعودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين وإن شئت فقل العودة الصادقة إلى أخلاق سيد المرسلين ، فلقد لخصت عائشة رضى الله عنها أخلاق النبى فى كلمات قليلة ولكنها عظيمة فقالت (( كان خلقه القرآن ))(1) نعم والله إنه - صلى الله عليه وسلم - كان قرآن يمشى على الأرض فى دنيا الناس .
أيها الأحبة : قد يكون من اليسير جداً –كما أقرر دائماً – تقديم منهج نظرى فى التربية والأخلاق ، بل إن المنهج هذا موجود بالفعل وسُطِّر فى بطون الكتب والمجلات ولكن هذا المنهج لا يساوى قيمة الحبر الذى كتب به إن لم يتحول فى حياة الأمة مرة أخرى إلى واقع عملى وإلى منهج حياة فإن البون شاسعاً بين منهجنا المنير المضىء ووقعنا المر المرير الأليم .
الخطوة الثانية : نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة .
بعد أن نحوِّل هذه الأخلاق النظرية إلى واقع عملى منير مضىء فى حياتنا يجب علينا بعد ذلك أن نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة ، والكلمة الرقيقة الرقراقة ، والرفق والحلم ، فهذا هو مقام دعوة الناس إلى الله فى كل زمان ومكان قال الله تعالى :
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] .
وقال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [ آل عمران : 159 ]
__________
(1) رواه مسلم رقم ( 746 ) فى صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ، ومن نام عنه أو
مرض .(1/20)
أسأل الله أن يربط قلوبنا برباط وثيق رباط الحب فى الله ، حتى نعود مرة أخرى إلى عزتنا وكرامتنا وسيادتنا وتتحقق السنن الربانية فينا بحوله ومدده إنه ولى ذلك والقادر عليه .
….. الدعاء(1/21)