الإجارة على تعليم القرآن الكريم وعلوم الشريعة
أ.د. عبد الفتاح محمود إدريس
إن أخذ العوض على تحفيظ القرآن وكيفية تلاوته وأحكامه، وتعليم الفقه والتفسير والحديث والعقيدة، وغيرها من علوم الشريعة الإسلامية أثار خلاف علماء السلف والخلف، وكان لهم فيه آراء عدة معضدة بأدلة الشرع المعتبرة، ولما كان على كل مسلم تعلم هذه العلوم بحسبان طلب تعلمها فريضة على كل مسلم، ويندر فى زماننا من يعلمها بغير عوض، لما يتطلبه تعليمها من انقطاع المعلم لمن يتولى ذلك منهم، تاركاً بها تكسب أسباب حياته وحياة ذويه، كان لابد من بيان موقف علماء الشريعة من حكم أخذ الأجر على تعليم هذه العلوم .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الإجارة على تحفيظ القرآن وكيفية تلاوته وأحكامه، وتعليم الفقه والتفسير والحديث والعقيدة، وغيرها من علوم الشريعة الإسلامية، وأخذ المعلم الأجر على ذلك من طلاب العلم على مذهبين:
المذهب الأول:
يرى أصحابه جواز الإجارة وأخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلوم الشريعة، على تفصيل بين بعضهم فيه، روي هذا عن عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص، وقد رخص في أجور المعلمين جماعة من التابعين، وقال الحكم بن عتيبة: ما علمت أحداً كره أجر المعلم، وإلى هذا ذهب متأخرو الحنفية وعليه الفتوى في مذهبهم، وقال المالكية بجواز الإجارة على تعليم القرآن وكراهتها على تعليم غيره من العلوم الشرعية، ومذهب الشافعية جواز الإجارة على تعليم القرآن، وأما الاستئجار على تدريس العلم فلا يجوز في مذهبهم إلا إذا عين المعلم أشخاصاً ومسائل مضبوطة من العلم يعلمها لهم، وهذا المذهب رواية عن أحمد، وإليه ذهب الظاهرية (1).
المذهب الثاني:(1/1)
يرى أصحابه أنه لا تجوز الإجارة أو أخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من العلوم الشرعية، روي هذا عن عمر، وعبد الله بن مغفل، وبعض التابعين، وإليه ذهب متقدمو الحنفية، وهو رواية عن أحمد هي مشهور مذهب أصحابه في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكنهم اتفقوا على جواز الإجارة وأخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث لأنه لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة(2).
أدلة المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول على جواز الإجارة وأخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من علوم الشريعة بما يلي:
أولاً: السنة النبوية المطهرة:
1- روي عن ابن عباس } قال: "إن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"(3).
وجه الاستدلال به:
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن كتاب الله سبحانه أحق أن يؤخذ عليه أجر، وقوله صلى الله عليه وسلم وإن جاء في واقعة أخذ فيها الأجر على الرقية بالقرآن، إلا أن العبرة بعموم اللفظ، واللفظ في الحديث عام يفيد جواز أخذ الأجرة، على تعليم كتاب الله تعالى وقراءته ونسخه والرقية به وغير ذلك، لأن اللفظ صالح لذلك كله .(1/2)
2- روي عن أبي سعيد الخدري } أنه قال: "انطلق نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لاينفعه، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟، فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقي: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر الذي كان فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟، ثم قال: قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً "(4).
وجه الاستدلال به:
أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أخذ الجُعل على الرقية بالقرآن، فهو يدل على جواز أخذ العوض على قراءته، وتعليمه، ونسخه، وغيرها، إذ لا فرق بين قراءته للتعليم وقراءته للطب .
اعترض على الاستدلال بالحديثين:
أ- قال الطحاوي: إن أخذ الأجرة على الرقى وإن كان يدخل فيه بعض القرآن إلا أنه لا يستلزم جواز أخذ الأجرة على القرآن، أو تعليمه، وذلك لأنه ليس على الناس أن يرقي بعضهم بعضاً، فجاز لهم أخذ الأجرة عليه، وأما تعليم الناس بعضهم بعضاً القرآن فهو أمر واجب، لأن في ذلك التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، وهو لا يؤخذ عليه أجر.(1/3)
ب- قال ابن قدامة وبعض الحنفية: إن أخذ الجعل على الرقية لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أخذ الأجر على تعليم القرآن وغيره من العلوم الشرعية، والفرق بينهما: أن الرقية نوع مداواة والمأخوذ عليها جُعل، والمداواة يجوز أخذ الأجرة عليها، والجَعَالة أوسع من الإجارة، ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة بخلاف الإجارة، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"، يعني به: الجعل في الرقية أيضاً، لأن هذا ذكر في سياق خبر الرقية (5).
ج- قال ابن الجوزي: يُجاب عن حديث أبي سعيد الخدري بأجوبة ثلاثة: أحدها: أن القوم الذين لدغ سيدهم كانوا كفاراً، وهؤلاء يجوز أخذ أموالهم، الثاني: أن حق الضيف واجب، وهؤلاء لم يضيفوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الثالث: أن الرقية ليست قربة محضة، فجاز أخذ الأجرة عليها، قال القرطبي: لا نسلم أن جواز أخذ الأجرة في الرقى يدل على جواز التعليم بالأجر (6).
3- روي عن سهل الساعدي } - في شأن من أراد الزواج من امرأة جاءت تهب نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن يريد الزواج منها: "ماذا معك من القرآن ؟، قال: معي سورة كذا وسورة كذا، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟"، قال: نعم، قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية: "انطلق فقد زوجتكها فعلمها ما معك من القرآن"(7).
وجه الاستدلال به:
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليم القرآن عوضاً في باب النكاح، وأقامه مقام المهر، وإذا جاز هذا جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة، وقوله في الحديث "بما معك من القرآن" أي بتعليمك إياها ما معك من القرآن، إذ الباء للمعاوضة والمقابلة، أو هي باء السببية: أي بسبب ما معك من القرآن، فيخلو النكاح عن المهر، إلا أن يكون المهر هو تعليمها القرآن(8).
اعترض على الاستدلال به:(1/4)
أ- قال ابن قدامة: إن ثمة اختلافاً في جعل تعليم القرن صداقاً في النكاح، وليس في هذا الخبر تصريح بأن تعليم المرأة القرآن هو صداقها، وإنما قال صلى الله عليه وسلم فيه: "زوجتكها على ما معك من القرآن "، فيحتمل أنه زوجه إياها بغير صداق إكراماً له، كما زوج أبا طلحة أم سليم رضي الله عنهما على إسلامه(9)، وهذا جائز، والفرق بين المهر والأجر أن المهر ليس بعوض محض، وإنما وجب نحلة وصلة، ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته، وصح مع فساده، بخلاف الأجر في غيره (10).
ب- قال الشوكاني: إن الحديث لم يصرح فيه بأن تعليمها القرآن هو صداقها، وإن سلم أنه اعتبر صداقاً فيحتمل أنه خاص بهذا الرجل وتلك المرأة ولا يجوز لغيرهما، ويدل له ما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي " أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً امرأة على سورة من القرآن، ثم قال: "لا يكون لأحد بعدك مهراً"(11).
ثانياً: آثار الصحابة: منها:
1- روي عن شعبة " أن عمار بن ياسر } قد أعطى قوماً قرءوا القرآن في رمضان ".
2- روي عن سفيان " أن سعد بن أبي وقاص } قال: من قرأ القرآن ألحقته على ألفين "(12).
وجه الدلالة من هذين الأثرين:
بين الأثران أن عماراً وسعداً أُعطيا الأجر على قراءة القرآن، وهما لا يفعلانه إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه.
ثالثاً: إجماع أهل المدينة:
قال مالك: لم يبلغني أن أحداً كره تعليم القرآن والكتابة بأجر (13).
رابعاً: المعقول:
1- إنه يجوز أخذ الرزق من بيت المال على تعليم القرآن والفقه والحديث وغيرها من العلوم الشرعية، فجاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر(14).(1/5)
2- إن حاجة الناس ماسة إلى من يعلمهم القرآن والفقه، وقل من يبذل ذلك حسبة لله تعالى، وقد كان للمعلمين أعطيات من بيت المال وزيادة، لترغيبهم في إقامة الحسبة في أمور الدين، وقد كان يفتي بوجوب التعليم خوفاً من ذهاب القرآن، وتحريضاً على التعليم حتى ينهضوا لإقامة الواجب فيكثر حفاظ القرآن، وأما اليوم فقد ذهب ذلك كله، واشتغل الحفاظ بمعاشهم، وقل من يعمل منهم ذلك حسبة، لأنهم لا يتفرغون له لاشتغالهم بحاجتهم، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر لذهب القرآن، فأفتي بجوازه لذلك، لأن الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان (15).
وجه ما ذهب إليه المالكية من كراهة أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن من العلوم ما يلي:
المعقول:
1- إن أخذ الأجرة على تعليم العلم ذريعة إلى قلة طلاب العلم الشرعي، وذلك لأن منهم من لا يتمكن من بذل الأجرة .
2- إن نشر العلم الديني فرض، وأخذ الأجرة على تعليمه معطل له في الجملة، فكانت الإجارة على تعليمه مكروهة (16).
وجه ما ذهب إليه الشافعية من عدم جواز الإجارة إلا إذا عين المعلم أشخاصاً ومسائل مضبوطة يعلمها لهم ما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال تعالي: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) صلى الله عليه وسلم البقرة: 159}.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة:
روي عن أبي هريرة } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" (17).
وجه الدلالة من الآية والحديث:(1/6)
إن في الآية الكريمة والحديث الشريف تحذيراً ووعيداً شديدين لمن كتم العلم، ولا يكون شيء من الكتمان أبلغ من أخذ الأجرة على تعليم العلم، والمقصود بالعلم الذي لا ينبغي كتمانه هو العلم الذي لم يعين من يتلقاه وما يلقي إليهم منه، وذلك هو التدريس العام، والنهي عن أخذ الأجرة عليه لأنه فرض كفاية، وثابت على الشيوع، ولأنه لا ينضبط فوجب على المعلم أن يقوم به بدون أجر، أما إذا عين من يتلقون العلم، وانحصرت المسائل التي يتعلمونها وضبطت، جاز أخذ الأجرة على التعليم حينئذ، لانتفاء الجهالة في العمل .
استدل أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز الإجارة على تعليم القرآن والعلوم الشرعية أو أخذ الأجرة على ذلك بما يلي:
أولاً: السنة النبوية المطهرة:
1- روى عن عبادة بن الصامت } أنه قال: "علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلى رجل منهم قوسا،ً قلت: قوساً وليست بمال، أتقلدها في سبيل الله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن سرك أن يقلدك الله قوساً من نار فاقبلها"(18).
وجه الاستدلال به:
حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة } من أخذ هذا القوس عوضاً عما قام به من تعليم هؤلاء القوم القرآن والكتابة، وتوعده بأن يقلد بدلها قوس من نار يوم القيامة، وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا على أمر حظره الشارع ومنع منه، فدل هذا على عدم جواز الإجارة وأخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من العلوم الشرعية .
اعترض على الاستدلال به:
أ- قال ابن حزم: حديث عبادة روي من طرق عدة كلها ضعيفة، فأحد طرقه عن الأسود بن ثعلبة وهو مجهول، والثاني: من طريق بقية وهو ضعيف، والثالث: من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، ثم إن هذا الحديث منقطع أيضاً (19).(1/7)
ب- قال الشوكاني: في إسناده المغيرة بن زياد، وأبو هاشم الموصلي، وقد وقفه وكيع ويحيى بن معين، وتكلم فيه جماعة، إلا أنه روي عن عبادة من طريق آخر عند أبي داود بلفظ: " قلت فما ترى فيها يا رسول الله؟، فقال: جمرة بين كتفيك تقلدتها "، وفي سنده بقية بن الوليد تكلم فيه جماعة، ووثقه الجمهور (20).
ج- قال الصنعاني: حديث عبادة في رواته المغيرة بن زياد مختلف فيه، واستنكر أحمد حديثه، وفيه الأسود بن ثعلبه وفيه مقال، ولذا فلا يقوى على معارضة حديث ابن عباس (السابق الثابت في الصحيح) الدال على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولو سلم صحة حديث عبادة، فإنه يحمل على أن عبادة كان متبرعاً بالإحسان وبالتعليم، غير قاصد لأخذ الأجرة، فحذره رسول الله صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وتوعده، وفي أخذ الأجرة من أهل الصفة بخصوصهم كراهة ودناءة، لأنهم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس، فأخذ المال منهم مكروه (21).
2- روي عن أبي بن كعب } "أنه علم رجلاً سورة من القرآن، فأهدي إليه خميصة أو ثوباً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: لو أنك لبستها أو أخذتها ألبسك الله مكانها ثوباً من نار"(22).
وجه الاستدلال به:
حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب من أخذ الخميصة أو الثوب، وتوعده على أخذها أو لبسها أن يلبسه الله تعالى مكانها ثوباً من نار، وهذا التحذير والوعيد لا يكون إلا على أمر منع منه الشارع، فدل هذا على عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن .
اعترض على الاستدلال به:
قال البهوتي: إن حديث الخميصة قضية عين فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن أبي بن كعب فعل ذلك خالصاً، فكره أخذ العوض عليه من غير الله تعالى، ويحتمل غير ذلك، على أن هذا الحديث لا يقاوم حديث أبي سعيد الدال على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وذلك لأن في سند حديث أبي مقال(23).(1/8)
3- روي عن أبي إدريس الخولاني قال: " كان عند أبي بن كعب ناس يقرئهم من أهل اليمن، فأعطاه أحدهم قوساً يتسلحها في سبيل الله تعالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحب أن تأتي بها في عنقك يوم القيامة ناراً ؟"(24).
وجه الاستدلال به:
حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب } من أخذ القوس عوضاً عن تعليمه هذه الطائفة من أهل اليمن، ولو كان يتقلدها للجهاد بها في سبيل الله تعالى وتوعده إن أخذها إنما يكون على أمر حظره الشارع، فدل على المنع من أخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من علوم الشريعة .
اعترض على الاستدلال به:
أ- قال البيهقي وابن عبد البر: حديث منقطع، وقال الشوكاني: له طرق عن أبي لا يثبت منها شيء (25).
ب- قال ابن حزم: هذا الحديث منقطع ، لأنه لا يعرف لأبي إدريس الخولاني سماع من أبي(26).
4- روي عن عبد الرحمن به شبل الأنصاري } قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به" (27).
وجه الاستدلال به:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن الأكل بالقرآن والتكسب به، والنهي يفيد التحريم عند الإطلاق، فأفاد تحريم أخذ الأجرة على قراءة القرآن أو تعليمه .
اعترض على الاستدلال به:
أ- قال ابن حزم: إن في سنده أبا راشد الحبراني، وهو مجهول (28).
ب- قال الشوكاني: إن هذا الحديث أخص من محل النزاع، وذلك لأن المنع من التأكل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما دفعه المتعلم بطيب نفس منه(29).
5- روي عن أبي الدرداء } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ قوساً على تعليم القرآن قلده الله قوساً من نار"(30).
6- روى سليمان بن بريدة عن أبيه } قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ القرآن يأكل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظمة ليس عليه اللحم"(31).
وجه الدلالة من الحديثين:(1/9)
توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأخذ أجراً على قراءة القرآن أو تعليمه، باستحقاقه العذاب يوم القيامة بما أخذه، وهذا الوعيد إنما يكون على اقتراف أمر محرم، فدل الحديثان على المنع من أخذ الأجرة على ذلك .
7- روي عن عمران بن حصين } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرءوا القرآن وسلوا الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن يسألون الناس به"(33).
وجه الدلالة منه:
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما ينبغي أن يطلبوا منه الأجر على قراءة القرآن، ثم أخبر أن قوماً من أمته يأتون بعد يقرأون القرآن ويطلبون الأجر على قراءته من الناس، وصيغة الحديث تدل على أنهم ارتكبوا منكراً على سؤالهم الأجر عليه من غير الحق سبحانه، فدل على حرمة قراءة القرآن أو تعليمه بأجر.
اعترض على الاستدلال به:
قال الشوكاني: ليس في هذا إلا تحريم السؤال بالقرآن وهذا غير اتخاذ الأجر على تعليمه الذي هو محل الخلاف (33).
اعترض على الاستدلال بالسنة:
أ- قال ابن حزم: إن هذه الأحاديث لو صحت لكان أبو حنيفة وأصحابه قد خالفوها، لأنها إنما جاءت فيما أعطي بغير أجر ولا مشارطة، وهم يجيزون هذا، فموهوا بإيراد أحاديث ليس فيها شيء مما منعوا، وهم مخالفون لما فيها، فبطل كل ما في هذا الباب(34).
ب- قال الشوكاني: إن الأحاديث القاضية بالمنع وقائع أعيان محتملة للتأويل، لتوافق الأحاديث الصحيحة الدالة على جواز أخذ الأجرة على ذلك ولأنها لا تقوي على معارضة ما في الصحيح (35).
أجيب عن هذه الاعتراضات:(1/10)
قال العيني: لا نسلم عدم قيام الحجة في هذه الأحاديث، فإن حديث القوس (حديث عبادة) صحيح، وفيه الوعيد الشديد، وبقية الأحاديث - وإن كان في بعضها مقال - إلا أنها يعضد بعضها بعضاً، وإذا تعارض نصان أحدهما مبيح والآخر محرم فإنه يدل على نسخ المحرم للمبيح، وذلك لأن النسخ هو الحظر بعد الإباحة، إذ الإباحة أصل في كل شيء، فإذا طرأ الحظر دل على النسخ بلا شك (36).
ثانياً: آثار الصحابة:
1- روي عن عبد الله بن شقيق أنه قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف، وتعليم الغلمان بالأرش، ويعظمون ذلك ".
2- روى عن شعبة " أن عمار بن ياسر } أعطى قوماً قرأوا القرآن في رمضان، فبلغ ذلك عمر فكرهه ".
3- روي عن سفيان أن سعد بن أبي وقاص } قال: " من قرأ القرآن ألحقته على ألفين، فقال عمر: أو يعطى على كتاب الله ثمناً " (37).
وجه الدلالة من هذا الآثار:
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون أخذ الأجر على قراءة القرآن أو تعليمه، وهذا لا يكون منهم إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي في هذا .
ثالثاً: المعقول:
1- إن تعليم القرآن والعلوم الشرعية قربة إلى الله تعالى ولا يقع إلا لفاعله، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه بالشرط أو بغيره، لأن أخذ الأجرة عليه يخرجه عن أن يكون قربة، قياساً على الصلاة والصيام.
2- إن الجعل الذي يؤخذ على تعليم القرآن محرم كالجعل الذي يؤخذ على تعليم الصلاة، وذلك لأن كلاً منهما تعليم واجب على الناس، ولا يؤخذ على أداء الواجب أجر (38).(1/11)
3- إن الاستئجار على تعليم القرآن والعلم سبب لتنفير الناس عن تعلمهما، لأن ثقل الأجر يمنعهم من ذلك، ولهذا أشار الحق سبحانه في قوله: أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون 46 صلى الله عليه وسلم القلم: 46}، فيؤدي أخذ الأجر على ذلك إلى الرغبة عن الطاعات وهذا لا يجوز، وقد قال الحق سبحانه: وما تسألهم عليه من أجر 104 صلى الله عليه وسلم يوسف: 104}، أي على ما تبلغ إليهم أجراً، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ بنفسه وبغيره، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : "ألا فليبلغ الشاهد الغائب"(39)، فكان كل معلم مبلغاً عنه، وإذا لم يجز له أخذ الأجرة على ما يبلغ بنفسه لما سبق، فكذا لا يجوز لمن يبلغ بأمره، لأن ذلك تبليغ منه معنى(40).
المناقشة والترجيح:(1/12)
بعد استعراض أدلة المذهبين، والاعتراضات الواردة على بعضها، وما أجيب به عن بعض هذه الاعتراضات، وما رد به بعض هذه الأجوبة، فإني أرى رجحان ما ذهب إليه القائلون بجواز الإجارة وأخذ الأجرة على تعليم القرآن وغيره من علوم الشريعة، وذلك لما استدل به أصحاب هذا المذهب من السنة والوجه الثاني من معقولهم، ولا حجة في الاستدلال بالآثار المروية عن الصحابة في هذه المسألة لأنها متعارضة، فتتساقط ولا يحتج بها، ولا وجه للاستدلال بإجماع أهل المدينة أو غيرهم في هذه المسألة لثبوت الخلاف بين فقهاء المدينة وغيرهم على النحو السابق، ولا تلازم بين أخذ الرزق من بيت المال على ذلك وأخذ الأجرة عليه من آحاد المسلمين، ولهذا فإن الاستدلال بالوجه الأول من معقولهم لا يفيدهم في تعضيد مذهبهم، ولا ينال من حجية ما استدلوا به من السنة ما ورد عليها من اعتراضات، فإن ما اعترض به على الاستدلال بحديثي الرقية يمكن دفعه، بأن يقال: إن التفريق في الحكم بين أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن، وأخذها على تعليمه وغيره من علوم الشريعة تحكم بلا دليل شرعي، بل إن الدليل قد قام على خلافه، وهو ما جاء في حديث ابن عباس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد أنكروا على من أخذ أجراً على كتاب الله تعالى: " إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله "، وعموم هذا النص يدل على جواز أخذ الأجرة على كتاب الله تعالى مطلقاً، سواء كانت الأجرة في مقابل تلاوته، أو الرقية به أو تعليمه، أو نسخه، أو بيان أحكامه، أو غير ذلك من أعمال تتعلق بالكتاب الكريم، فهذا اللفظ صادق على ذلك كله.(1/13)
أما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني من السنة فقد اعترض على الاستدلال بها بعض العلماء، وقد أجاب العيني على هذه الاعتراضات بأن بعض هذه الأحاديث صحيح، وبعضها الآخر وإن كان فيه مقال إلا أنها تعضد بعضها، وإذا سلمنا بصحتها فإنه يترتب على ذلك معارضتها للأحاديث الصحيحة التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، لذا كان لابد من التوفيق بينها، وفي معرض التوفيق بينهما لا نقول كما قال العيني: إذا جاء دليل الحظر بعد دليل الإباحة دل هذا على نسخ المحرم للمبيح، ولكنا نقول كما قال كثير من العلماء: إن الأحاديث الدالة على المنع من أخذ الأجرة على التعليم قضايا أعيان، تحتمل احتمالات عدة، فيحتمل أن يكون تعليم من علموا فيها قد تعين على من قام به، فكان الوعيد على أخذ الأجرة منهم، لأنه لا يجوز لمن علمهم أن يأخذ منهم أجراً عليه، ويحتمل أن يكون تعليم هؤلاء حسبة لله تعالى بدون أجر، فلما أخذ منهم الأجر عليه، كان التحذير والوعيد لرغبة المعلم عن طلب المثوبة من الله تعالى عليه، ويحتمل أن يكون أخذ الأجرة من هؤلاء بخصوصهم مكروهاً لحاجتهم وفقرهم، ويحتمل غير ذلك مما قال به العلماء، وقد عمد بعض العلماء إلى التوفيق بين هذه الأحاديث المتعارضة، ومن هؤلاء ابن قدامة الذي قال: " إن الأحاديث الدالة على المنع من أخذ الأجرة قضايا أعيان محتملة للتأويل، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن عبادة بن الصامت وأبي بن كعب فعلا ذلك خالصاً لله تعالى، فكره أخذ العوض عنه من غير الله تعالى، ويحتمل غير ذلك "(41)، ولا حجة فيما استدل به أصحاب هذا المذهب من وجوه المعقول، فإن اعتبارهم أخذ الأجرة على التعليم بأخذها على الصلاة والصيام عن الغير في الوجه الأول من معقولهم قياس فاسد، لأن حكم الأصل مختلف فيه بين الفقهاء كما سبق، ويقال لهم في الوجه الثاني من معقولهم: إن أخذ الجعل على تعليم الناس الصلاة هو من محل النزاع فلا يقاس عليه غيره، ويجاب(1/14)
عن الوجه الثالث بما أجيب به على معقول المالكية من قبل .
الهوامش:
(1) رد المحتار2-240، البحر الرائق 3-64، منح الجليل 1-450، شرح الخرشي وحاشية العدوي 2-296، مغنى المحتاج 2-344، زاد المحتاج 2-379، المغني 3-231، 5-556، الكافي 2-303، المحلي 8-190، 194، عمدة القاري 12-95، عون الباري 4-24 .
(2) تبيين الحقائق 5-124، البدائع 4-191، مواهب الجليل من أدلة خليل 4-128، المغني 5-555، 559، الإنصاف 6-46، 47، كشاف القناع 4-12، المحلي 8-194، 195، عمدة القاري 12-95 .
(3) النفر: جماعة الرجال ما بين الثلاثة إلى العشرة، الرجل الذي انطلق من بينهم للرقية: هو أبو سعيد الخدري، والشاء: الشاه، والحديث أخرجه البخاري فى صحيحه (عمدة القاري 21-264).
(4) الرهط: ما دون العشرة من الرجال، ونشط: حل، والعقال: الحبل الذي يشد به ذراع البهيمة، وقلبة: أي علة، والحديث أخرجه البخاري فى صحيحه (عمدة القاري 12-99).
(5) المصدر السابق، المغني 5-557 .
(6) عمدة القاري 12-96 .
(7) أخرجه الشيخان فى صحيحيهما (صحيح البخارى 7-22، صحيح مسلم 2-1040 ).
(8) عمدة القاري 12-96 .
(9) روي عن أنس رضي الله عنه قال: "خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها "، سنن النسائي 6-114 .
(10) المغني 5-557 .
(11) نيل الأوطار 5-325 .
(12) أخرج هذين الأثرين ابن حزم بسنده فى المحلي 8-195 .
(13) الفواكه الدواني 2-164 .
(14) المغني 5-556 .
(15) تبيين الحقائق 5-124، البحر الرائق 3-164 .
(16) بلغة السالك 2-274، الفواكه الدواني 2-164 .
(17) أخرجه الحاكم فى المستدرك، وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 1-101).(1/15)
(18) أهل الصفة: قوم من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، فنزلوا صفة المسجد النبوي، وهو موضع مظلل منه بني لضعفاء المسلمين، وكانوا قرابة أربعمائة رجل، يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة ليلا (الحلية 1-340)، والحديث أخرج الحاكم معناه وصحح إسناده، وأخرجه أحمد وابن ماجة وأبو داود، وضعف ابن حزم والشوكاني سنده. (المستدرك 3-356، الفتح الرباني 15-125، سنن ابن ماجة 2-730، سنن أبي داود 2-237, المحلي 8-194، نيل الأوطار 5-323).
(19) المحلي 8-196 .
(20) نيل الأوطار 5-323 .
(21) سبل السلام- 923 .
(22) الخميصة: كساء أسود مربع، والحديث أخرجه عبد بن حميد وابن ماجة(مسند عبد بن حميد 1-91، سنن ابن ماجة 2-730).
(23) كشاف القناع 4-12 .
(24) أخرجه الإثرم وابن حزم، وقال: منقطع، لأنه لا يعرف لأبي إدريس سماع من أبي، وبمثله قال البيهقي وابن عبد البر، وقال الشوكاني وابن القطان: له طرق عن أبي لا يثبت شيء منها (تلخيص الحبير 4-8, المحلي 8-194، نيل الأوطار 5-323).
(25) تلخيص الحبير 4-8، نيل الأوطار 5-323 .
(26) المحلي 8-195 .
(27) لا تغلوا: لا تتجاوزوا حده من حيث اللفظ والمعنى، لا تجفوا عنه: لا تبتعدوا عن تلاوته، لا تأكلوا به: لا تجعلوا له عوضاً من سحت الدنيا، لا تستكثروا به: لا تجعلوه سبباً لمعايشكم والإكثار من الدنيا (عمدة القاري 21-264)، والحديث رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وابن أبي شيبة وابن حزم، وقال الهيثمي: رجاله ثقات (الفتح الرباني 15-125، مجمع الزوائد 4-73، المحلي 8-195، نيل الأوطار 5-322).
(28) المحلي 8-196 .
(29) نيل الأوطار 5-324 .
(30) قال الهيثمي: رواه الطبراني فى الكبير ورجاله رجال الصحيح غير الوليد بن مسلم فليس من الضعفاء(مجمع الزوائد 4-95).
(31) أخرجه البيهقي في الشعب، وقال ابن أبي حاتم: لا أصل له (عمدة القاري 12-96، فيض القدير 6-196).(1/16)
(32) أخرجه أحمد والترمذي وابن أبي شيبة، وقال الترمذي: حسن ليس إسناده بذاك (الفتح الرباني 15-125، سنن الترمذي 8-119، مصنف بن أبي شيبة 10-480).
(33) نيل الأوطار 5-325 .
(34) المحلي 8-196 .
(35) نيل الأوطار 5-326 .
(36) عمدة القاري 12-96 .
(37) أخرجها ابن حزم بسنده فى المحلي 8-195 .
(38) المغني 5-557- 558، الكافي 2-304 .
(39) أخرجه البخاري فى صحيحه من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث (عون الباري 5-340).
(40) بدائع الصنائع 4-191 .
(41) المغني 5-558، نيل الأوطار 5-326، 328، عون الباري 4-24، سبل السلام- 923 .(1/17)