بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة
اللهم هيئ لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدنك رحمة، واكتب لنا السلامة في الرأي، وجنبنا فتنة الشيطان أن يقوى بها فنضعف، أو نضعف لها فيقوى، ولا تدعنا من كوكب هداية منك في كل ظلمة شك منا، واعصمنا أن تكون آراؤنا في الحق البين مكان الليل من نهاره، أو تنزل ظنوننا من اليقين النير منزلة الدخان من ناره، ندعوك بأفئدة عرفتك حين كذب غيرها فأقرت وآمنت بك فزلزل غيرها واستقرت(1).
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا شك أن الإبداع بكل ما يحمله هذا المصطلح من زخم كبير ودلالات أخاذة مطلب مهم لكل محب للتألق والتفوق والنجاح، بل هو من أسمى الغايات للأفراد بلْةَ المجتمعات والمؤسسات والدول، لكنه لا ينال بسهولة ولا يحصل بيسر إذ هو بعيد المنال، صعب المرتقى، كثير التكاليف والأعباء، لا يكاد يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد.
و(الإبداع) رغم قلة من يصله ويحصله، ورغم وضوح مفهومه واتساق نمطه، إلا أنه أصبح في عصرنا هذا مصطلحًا فضفاضًا أدخلت فيه أنماط كثيرة ليست من بابته ولا من جنسه يسميها أربابها إبداعا، وهي ليست كذلك بل هي أقرب إلى ضعف الذوق، وسوء الفهم وقلة التوفيق منها إلى الإبداع.
والإبداعات الحقيقية في دنيا الناس شتى لكن أعظمها وأهمها هو الإبداع العلمي أيًّا كان ذلك العلم، بيد أن العلوم -كما لا يخفى- تتفاوت رتبها ومنزلتها ومكانتها، تبعًا لتفاوت نفعها وفائدتها، وبالتالي تعظم قيمة الإبداع أو تصغر تبعًا لذلك.
__________
(1) هذا طرف من كلام الرافعي رحمه الله في مقدمة كتابه العظيم تحت راية القرآن (ص65).(1/1)
وطلاب العلم وشداته، أحوج ما يكونون اليوم إلى معرفة أسس الإبداع العلمي وركائزه ومكوناته ومعوقاته ومثبطاته.. إلخ ذلك لأن الأمة الإسلامية في هذا العصر، بحاجة ماسة إلى المبدعين المتميزين من أبنائها في شتى العلوم والمعارف النافعة وذلك للخروج من الذلة والضعف والتخلف الذي ضرب عليها بجرانه منذ أمد بعيد.
إن من أعظم ألوان الجهاد وأقوى أسلحته وأشدها مضاء في الوقت الحاضر هو التفوق العلمي(1) وما وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه اليوم من ضعف وهوان، جر عليها الويلات، وجرأ عليها الأعداء، وجعل خيراتها ومقدراتها نهبا للقاصي والداني إلا بسبب التخلف العلمي سواء في مجال النظريات أو في مجال العمليات.
يجب أن نعلم أن هذا العصر هو عصر القوة، وأنه لا مكان فيه للضعفة البطالين، ولا للمتواكلين المتخاذلين، وأن العالم لن يرحمهم، ولو طفرت منهم العبرات، أو علت منهم الزفرات.
فشعار العالم اليوم إما أن تعمل، وإما أن ترحل، إما أن تطأ على قدميك، وإما أن تطأ الأقدام عليك.
أتحنو عليك قلوب الورى ... إذا دمع عينيك يوما جرى؟
وهل ترحم الحمل المستضام ... ذئاب الفلا وأسود الشرى؟
وماذا ينال الضعيف الذليل ... سوى أن يحقر أو يزدرى؟
فكن يابس العود صلب القناة ... قوي المراس متين العرى
ولا تتذلل لبغي البغاة ... وكن كاسرا قبل أن تكسرا
إذا كنت ترجو كبار الأمور ... فأعدد لها همة أكبرا
طريق العلا أبدا للأمام ... فويحك هل ترجع القهقرى؟
وكل البرية في يقظة ... فويل لمن يستطيب الكرى
__________
(1) قال ابن القيم: «إنما جعل طلب العلم من سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه» مفتاح دار السعادة (1/ 271).(1/2)
إن بمقدور علماء المسلمين الصادقين، الذين أمكنهم التحقق بأدق الاختصاصات التقنية واعتلاء أرقى المنابر العلمية تحقيق كسب جيد لأمتهم من خلال توظيف واستثمار هذه التخصصات في خدمة العقيدة والدعوة وصناعة الحضارة، خصوصًا في هذا العصر الذي أصبح العلماء والتقنيون فيه هم الذين يحكمون العالم فعلاً، كما أن الذين يحتلون مراكز البحث العلمي والأكاديمي في الدول المتقدمة، هم صانعو القرار السياسي في نهاية المطاف، لأن القرارات السياسية لم تعد تنشأ من فراغ كما كان من قبل، وإنما هي ثمرة لما تقدمه مراكز البحوث والمعلومات....
إن معضلة التخلف العلمي والتقني التي نعاني منها اليوم، لا تحل بكثرة الشكوى والنواح على الماضي، والبكاء على الأطلال، خاصة عندما ينقلب البكاء إلى لون من ألوان التداوي والتخدير، ولا يصل بصاحبه إلى مرحلة القلق الحضاري، الذي يؤدي إلى استشعار التناقض والتحدي بين الواقع القائم والمثال المأمول ويبصر بالسبيل المحقق للهدف، كما أن المشكلة لن تحل أيضا بمزيد من المواقف الخطابية العاطفية، أو الحماس والتوثب فقط بعيدا عن فقه آيات القرآن، وهدي النبوة وسيرة السلف العملية كيف تعاملوا مع الأسباب، وأدركوا علل الأشياء وسنن التغيير وقوانين التسخير.. وإنما لا بد من الإدراك الكامل لمشكلة التخلف، ودراسة المناخ الذي مكن لها ومعالجة الأسباب، وما يقتضيه ذلك من الصبر والدأب والمراجعة وتصويب الخطأ، وعدم الاقتصار على الإحساس بالظواهر والأعراض(1).
__________
(1) مقتطفات من مقدمة الأستاذ / عمر عبيد حسنه لكتاب قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر، للدكتور/ زغلول راغب النجار.(1/3)
إنه من اللازم على أرباب الفكر وأصحاب الغيرة من هذه الأمة، أن ينهدوا لمعالجة هذا الخلل، وردم هذه الفجوة في واقع الأمة لا سيما في هذا العصر عصر العولمة والشوملة، كيما يتسنى للأمة العودة إلى سابق عزها وسالف مجدها وليس ذلك بعزيز إذا ما تظافرت الهمم والعزائم، وتلاحمت الأيدي والقلوب، لكن الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة، ومؤسسات كثيرة وأموال وفيرة..
وا حسرتاه تقضي العمر وانصرمت ... ساعاته بين ذل العجز والكسل
والناس قد أخذوا درب النجاح وقد ... ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
إن شأن العلم شأن عجيب، فهو لا يعطيك بعض شيء حتى تعطيه كل شيء، وهو لا يخدمك حتى تخدمه، وقديما قيل: من خدم المحابر خدمته المنابر واعتبر ذلك بحال المسلمين السالفين، لما خدموا العلم خدمهم العلم، بل وأخضع لهم الأمم، فكان رواد المعرفة وطلاب العلم يأتون إلينا فرادى وأفواجا من الصين شرقا إلى أسبانيا غربا لتلقي العلم من طب وهندسة وطبيعيات وغيرها في الأمصار الإسلامية، كما اعترف بذلك مؤرخوهم فلما تخلى المسلمون خلال القرنين الأخيرين عن خدمة العلم وقام أولئك بخدمته انقلب الأمر فأصبحنا نحن الذين نرحل إليهم لأخذ العلم عنهم مع ما في السفر إلى بلادهم من مفاسد ومخاطر كثيرة لا تخفى ولا يظلم ربك أحدا.
إن إنسان المستقبل كما يقول الدكتور أحمد زويل(1) هو ابن المعرفة التي تحقق التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولولا التفكير والإبداع ما تميز الإنسان عن الحيوان ولتساوى معه كما تساوى معه جينيا بنسبة 99.9% فالفرق الوحيد لصالح الإنسان هو رغبته في المعرفة.
__________
(1) الدكتور/ أحمد زويل هو العالم المسلم الوحيد -حتى الآن- الذي حاز على جائزة نوبل في تخصص علمي رفيع.(1/4)
وختاما فهذه المعاني والأفكار التي ذكرتها في هذا الكتاب، والتي استوحيتها من غمار التجارب، واستلهمتها من دواوين العلم وسير العلماء وأحوالهم، إنما أردت أن تكون تذكرة للنابهين من أهل العلم، والنابغين من طلابه، والتذكرة تنفع العقلاء، قال الإمام الشافعي لتلميذه الربيع بن سليمان المرادي: الموعظة للعوام، والنصيحة للإخوان، والتذكرة للخواص منهم، فرض افترضه الله على عقلاء المؤمنين(1).
لعلها تكون سببا لإيقاظ الأمة من رقدتها، وسبيلا لانتشالها من وهدتها، بعد أن طال ثواؤها واستشرى داؤها وعز دواؤها والله المستعان.
وقد ارتأيت أن يكون ترتيب الكتاب على النسق التالي:
الفصل الأول: مفهوم الإبداع.
الفصل الثاني: حقيقة الإنسان المبدع.
الفصل الثالث: أنواع الإبداع.
الفصل الرابع: أقسام الإبداع.
الفصل الخامس: أسس الإبداع العلمي.
الفصل السادس: مقومات الإبداع العلمي.
الفصل السابع: حوافز الإبداع العلمي.
الفصل الثامن: عوائق الإبداع العلمي.
الفصل التاسع: انحراف الإبداع العلمي عن مساره الصحيح.
الفصل العاشر: نجوم مضيئة في سماء الإبداع العلمي.
الخاتمة وأهم النتائج والتوصيات.
وأخيرا: فقد حاولت في هذه الدراسة جاهدا، أن أمزج القديم بالجديد والتراث بالمعاصرة، لمعالجة هذه القضية المهمة قضية الإبداع العلمي، راجيا أن أكون قد وفقت في شيء من ذلك، وأملي في كل أخ ناصح قرأ هذا العمل ألا يبخل علي بما يعن له من ملاحظات وتوجيهات، بغية تقويم هذا العمل وتسديده كما لا يفوتني هنا أن أتقدم بجزيل الشكر لأخي الشاب النابه: ماجد بن شباب العتيبي، الذي ساعدني في طباعة هذا العمل وتنسيقه ومراجعته فله مني وافر الامتنان وعظيم التقدير.
وفي الختام أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله منارا يضيء للسائرين هذا الطريق الطويل، طريق الإبداع والتألق والتفوق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 148).(1/5)
د. أحمد بن علي القرني
عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف
بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
عنوان البريد الإلكتروني:
Dr.ahmadalqarni@qmail.com
الفصل الأول
مفهوم الإبداع
عندما نقول: إنسان مبدع، أو هذا عمل إبداعي فما المقصود به؟ وما معنى هذه الكلمة؟
الإبداع في اللغة: يقول ابن فارس: الباء والدال والعين أصلان، أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال، فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً، إذا ابتدأته لا عن سابق مثال، والله بديع السموات والأرض والعرب تقول: ابتدع فلان الرّكيّ إذا
استنبطه اهـ(1).
وقال ابن منظور: البديع المحدث العجيب، والبديع المبدع، وأبدعت الشيء: اخترعته لا عن مثال، ورجل بدع، إذا كان غاية في كل شيء كان عالما أو شريفا أو شجاعا(2).
وقال أبو شامة: أصل هذه الكلمة من الاختراع وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي ولا ألف مثله، وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح(3).
إذًا نخلص إلى نتيجة مؤداها أن الإبداع في اللغة: هو الإتيان بجديد لم يسبق إليه المبدع، ولم يتقدم عمله عمل يشبهه كيما يحتذيه، ولذا قال الكفوي: الإبداع لغة: عبارة عن عدم النظير(4).
__________
(1) مقاييس اللغة (1/ 209) مادة بدع، وبالمناسبة فإن كتابه هذا عمدة في اللغة، نافع إلى الغاية أنصح به طلاب العلم، لأنه يلخص جميع معاني الكلمة في أصول قليلة، وانظر ما يأتي عند الحديث عن ابن فارس في الفصل العاشر.
(2) لسان العرب (8/ 6، 7) مادة بدع.
(3) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص86) ناقلا عن الطرطوشي.
(4) الكليات (29).(1/6)
أما من حيث الاصطلاح: فإن الإبداع مصطلح قديم استعمله العلماء في عباراتهم وقد عثرت على نص للثعالبي قاله في بديع الزمان الهمداني يقول فيه: وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغريبة بالأبيات العربية، فيجمع بين الإبداع والإسراع(1).
وقال الموفق عبد اللطيف عن ابن الجوزي: وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد وإن روى أبدع(2).
كذلك فإن الإبداع يطلق عند البلاغيين ويراد به شيئان، أحدهما: أن يخترع المتكلم معاني غير مسبوق إليها والثاني: أن يأتي في البيت الواحد، أو في القطعة الواحدة من النثر، وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع كقوله تعالى: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [هود: 44](3).
أما في العصر الحاضر: فقد كثر الخلاف والجدل حول وضع حد لهذا المصطلح لا سيما في الغرب لأنهم قد سبقونا إلى بحثه وتقديم الدراسات فيه، فعلى سبيل المثال أقيمت في جامعة يوتا مؤتمرات عدة حول موضوع الإبداع طرح فيه أكثر من مائة تعريف للإبداع(4).
وإذا كان لا بد من وضع تعريف للإبداع فإنني أقول: إن الإبداع هو ملكة يتأتى من خلالها اكتشاف شيء جديد، لم يسبق إليه المبدع.
وإنما قلنا: ملكة لأن الملكة هي الصفة الراسخة في النفس أو الاستعداد العقلي الخاص، لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة.
__________
(1) يتيمة الدهر (4/257) ومعجم الأدباء (1/ 268).
(2) سيأتي النص كاملا عند الحديث عن ابن الجوزي في الفصل العاشر.
(3) انظر خزانة الأدب (2/ 291) لابن حجة الحموي، ومعجم البلاغة العربية لبدوي طبانة (ص62-64).
(4) انظر الإبداع في الفن والعلم للدكتور حسن أحمد عيسى (ص17)، ط دار المعرفة الكويت.(1/7)
والخلاصة: أن المعنى الكلي للإبداع لا بد أن تتوفر فيه ثلاث صفات أساسية هي:
1- الحداثة أو الجدة: فالمنتج الإبداعي أو العمل الإبداعي شيء يختلف عن المألوف.
2- الفاعلية: فالمنتج الإبداعي بصرف النظر عن نوعه يحقق هدفا على أرض الواقع، وقد يكون هذا الهدف، جماليا أو فنيا أو ذوقيا وقد يكون ماديا.
3- الأخلاقية: فالإبداع ينبغي أن يلتزم بالقواعد الأخلاقية، فلا يستخدم مصطلح الإبداع لوصف السلوك الهدام، أو الجرائم، أو إثارة الشغب، أو الحروب، وما أشبه ذلك أي أنه لا إبداع في الشر(1).
*********
الفصل الثاني
حقيقة الإنسان المبدع
ظل الناس لفترة طويلة من الزمن ينظرون إلى المبدع على أنه إنسان يتميز بقدرات خارقة واستعدادات عقلية جبارة تميزه عن سائر البشر، وقد طرح علماء النفس هذا التصور جانبا وبدءوا ينظرون إلى قدرات المبدعين نظرتهم إلى سائر القدرات والاستعدادات التي يتصف بها سائر الناس مثل الذكاء والميول وسمات الشخصية(2).
__________
(1) الإبداع في التربية والتعليم لآرثر كروبلي (ص10، 11) ترجمة د. إبراهيم الحارثي ومحمد مقبل بتصرف يسير.
(2) انظر الإبداع في الفن والعلم للدكتور حسن أحمد عيسى (ص16).(1/8)
ذلك لأن الناس يمتلكون جميعا القدرات والمؤهلات، ولكن بقدر يتفاوت من شخص إلى آخر، فالفروق الموجودة هي فروق كمية وليست كيفية لكنها تختلف وتتمايز فيما بينها من شخص لآخر من حيث الكمية والاستغلال والقدرة والنضج ... إلخ، ولهذا نجد أن بعض العلماء ينبغ في علم دون علم ويبرز في فن دون فن، لأن العلوم ليست سواء، فهناك فن يحتاج إلى الحفظ أكثر من الفهم، وهناك فن عكسه، وهناك فن يحتاج إلى الأمرين جميعًا، وآخر يحتاج إلى الملاحظة والتأمل، وآخر يعتمد على الاستقراء والتتبع وهكذا، وإن كانت العلوم في الجملة تعود إلى الأصلين: الحفظ أو الفهم، أو هما معًا فعلى هذا ينبغي على الإنسان وإن كان قليل العلم أو ضعيف القابلية له أو محدود المواهب والمؤهلات ألا ييأس ولا يستسلم للإحباط والقنوط، بل عليه أن يجد ويجتهد،
ويثابر ويعمل بعزيمة وتصميم فإذا لم يجد نفسه في علم فليبحث عن نفسه في علم آخر، وإن لم يجد نفسه في مجال فليبحث عنها في مجال آخر، حتى وإن كان ذلك العلم أو المجال أقل من غيره.
وفي هذا يقول الصولي(1): «وليس يجب لمن صفر في هذه العلوم أن يدع التعلم آيسًا من الاستفادة موليًا عن الاستزادة، فربما كان الإنسان مهيأ الذهن لحمل العلم، قريب الخاطر، متقد الذكاء فيضيع نفسه بإهمالها، ويميت خواطره بترك استعمالها فيكون كما قال علي بن الجهم:
والنار في أحجارها مخبوءة ... ليست ترى إن لم يثرها الأزند»
والإنسان يحاول جهده ما استطاع ولا ينظر للنتيجة كما قال أبو رياش القيسي(2).
علي التقلب والاضطراب جهـ ... ـدي وليس علي النجاح
__________
(1) أدب الكتاب للصولي (ص27).
(2) معجم الأدباء للحموي (1/ 184).(1/9)
وهناك كثير من العلماء تحولوا من فن لم يفلحوا فيه إلى فن آخر، فنبغوا وبرزوا إذ الشأن هنا هو في اكتشاف الإنسان نفسه، ومعرفته مواهبه وقدراته مبكرا، فإما أن يكتشف الإنسان نفسه، وإما أن يستشير غيره، لا سيما أساتذته وخواص أصحابه، كما حصل للأصمعي مع شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي فإن الأصمعي من علماء اللغة الكبار لكنه ما أفلح في علم العروض فنبهه الخليل إلى أنه لا يصلح لهذا العلم تنبيهًا لطيفًا فانصرف عنه(1).
وقد لا يصلح الإنسان للعلم النظري لكنه يصلح للعلم العملي أو العكس كما حصل لأديسون مثلا، فقد فصل من المدرسة لأن مُدَرِّسِيه قالوا: إنه أبله ضعيف العقل لا يصلح للتعلم، وتكهن الأطباء بجنونه نظرا لشكل رأسه الغريب فترك المدرسة قسرًا علمًا بأنه لم يبق في التعليم الرسمي سوى ثلاثة أشهر فقط ثم اتجه للعمل الميكانيكي فنبغ فيه حتى سجل باسمه ما مجموعه 1093 اختراعًا، منها المصباح الكهربائي الذي أضاء الدنيا(2).
***********
الفصل الثالث
أنواع الإبداع
الإبداع نوعان:
النوع الأول: تأسيس الشيء عن الشيء، أي : تأليف شيء جديد عن عناصر موجودة سابقا، كالإبداع في العلم مثلا.
النوع الثاني: إيجاد الشيء من لا شيء، كإبداع الباري تبارك وتعالى فهو ليس بتركيب ولا تأليف، وإنما هو إخراج من العدم إلى الوجود، كما في قوله تعالى: { بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [البقرة: 117] أي: خالقهما لا عن مثال سابق.
__________
(1) انظر في علمي العروض والقافية لأمين السيد (ص20).
(2) الموسوعة العربية العالمية أديسون، وهكذا علمني وردزورث، لابن عقيل الظاهري (ص135).(1/10)
فإبداع المخلوق كله من النوع الأول: وهو تأسيس الشيء عن شيء سابق، وأما الثاني فمن خصائص الباري عز وجل التي لا يشاركه فيها أحد، ولهذا كان من أسماء الله جل وعلا الإضافية، { بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } كما مر في الآية السالفة(1).
لذا فإن محور حديثي سينصب على النوع الأول وهو الذي في طوق المخلوق وقدرته وهو الإبداع العلمي.
وأرى لزاما حينئذ أن أفرق بين مصطلحات قد تلتبس وقد تتداخل مع الإبداع مثل العبقرية، والابتكار، والاختراع، وهذه المصطلحات بين معانيها تقارب وبين معنى الإبداع، بيد أن منها ما هو أخص من الإبداع ومنها ما هو أعم.
فمثلا العبقرية بينها وبين الإبداع عموم وخصوص مطلق فكل إبداع عبقرية وليس كل عبقرية هي بالضرورة إبداعا.
والابتكار أخص من الإبداع، لأن الابتكار هو السبق إلى الإبداع مثل ابتكار الخليل بن أحمد علم العروض فإن الخليل لم يسبقه أحد إلى ابتكار هذا العلم لكن عندما جاء الأندلسيون وطوروا هذا الفن واخترعوا الموشحات لم يكن عملهم هذا ابتكارا لأنه قد سبقهم إلى ذلك سابق هو الخليل فيكون علم الخليل ابتكار وإبداع، وعلم الأندلسيين والموشحات التي اخترعوها إبداع فقط فالابتكار أخص من الإبداع كما سبق والإبداع أعم.
والاختراع أيضا أخص لأنه إيجاد شيء جديد لم يكن أما الإبداع فقد يكون بإيجاد شيء جديد وقد لا يكون، كما سيأتي بعد هذا فيكون مرادفا للإبداع من وجه مغايرا له من وجه، فعلى هذا يكون بينهما عموم وخصوص وجهي وقد نظمت هذه المعاني فقلت:
إيجاد شيء اسمه: اختراع ... والكشف عن أمر هو الإبداع
ومن أتى بمدهش فالعبقري ... وحده هذا حكاه الجوهري
والابتكار السبق للمبتدع ... فجملة الأقسام ذي فاحفظ وع
وكلها قريبة في المعنى ... فكن بهذا الأمر ممن يعنى
***********
الفصل الرابع
أقسام الإبداع
__________
(1) انظر معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى للتميمي (ص190).(1/11)
الإبداع له تقسيمات كثيرة، وهو ينقسم باعتبارات عدة:
فينقسم باعتبار العمل ذاته إلى أقسام:
أولاً: أن يكون ابتكارا لم يسبق له مثيل، كما أسلفنا في علم العروض.
ثانيًا: أن يكون تطويرًا لشيء وتوسيعًا لدائرته.
ثالثًا: أن يكون تفسيرًا لشيء غامض وحلاً لشيء معقد.
رابعًا: قد يكون النظر إلى شيء معروف من زاوية معينة إبداعا، وهذا يكثر عند الأدباء والشعراء خاصة، كما أنه يوجد أيضا في المجال العلمي، فاختراع نيوتن لقانون الجاذبية بين القمر والأرض إنما كان عن طريق مشاهدة سقوط تفاحة من الشجرة فسقوط تفاحة أمر مألوف لكنه نظر له من زاوية معينة، فدله على شيء مختلف، وهو قانون الجاذبية.
خامسًا: وقد يكون ترتيبا لعناصر معروفة بطريقة معينة فينتج عنها شيء جديد.
وربما دخل فيه بعض مقاصد التأليف السبعة التي اتفق العلماء على أن العاقل لا يؤلف إلا في واحد منها وهي:
1- إما شيء يخترعه لم يسبق إليه.
2- وإما شيء ناقص يتمه.
3- وإما شيء مستغلق يشرحه.
4- وإما شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه.
5- وإما شيء متفرق يجمعه.
6- وإما شيء مختلط يرتبه.
7- وإما شيء أخطأ فيه صاحبه يصلحه(1).
وقد نظمها العلامة أحمد بن عبد العزيز الهلالي بقوله(2):
في سبعة حصروا مقاصد العقلا ... من التأليف فاحفظها تنل أملا
أبدع تمام بيان لاختصارك في ... جمع ورتب وأصلح يا أخي الخللا
وإن كان بعضها أقل شأنا من بعض.
أقسام الإبداع باعتبار الغاية والهدف:
ينقسم الإبداع من حيث هدفه وغايته إلى قسمين:
الأول: إبداع نافع.
وهو ينقسم أيضا إلى قسمين:
أ- إبداع عام: وهذا القسم شامل لجميع الإنسانية: كاختراع الكهرباء والحاسب الآلي ووسائل النقل، ومعظم الأمور الحاجية أو التحسينية.
__________
(1) انظر رسالة في فضل الأندلس لابن حزم ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (2/ 186) وكشف الظنون (1/ 35).
(2) متن ألفية الحافظ العراقي (القسم الدراسي) (ص25) للشيخ عبد الله الحكمي.(1/12)
ب- إبداع خاص: وهذا القسم خاص بفئة معينة من الناس كالأطباء والأدباء ونحوهم.
والثاني: إبداع ضار: وهو ما يعود بالضرر على الإنسان في العاجل أو الآجل مثل: الإبداع في بعض الأمور المحرمة: كتصوير ونحت ذوات الأرواح والموسيقى ونحوها، فإن هذا شر كله.
وكذلك الحال بالنسبة للفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة الباطلة أو ما يسمى بـ المتافيزيقا، كما مال إليه بعض العلماء كالفارابي الملقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو المعلم الأول فقد كان نابغة ولا شك في جملة من العلوم، فقد كان يعرف سبعين لسانا، حاذقا للفلسفة، عارفا بالموسيقى(1) فمثل هذا لا شك أنه مبدع لكنه في مجال الشر(2).
كذلك من الإبداع في الشر أسلحة الدمار الشامل، التي تهلك الحرث والنسل، ولا تفرق بين المقاتل، وغير المقاتل، ولا بين صغير وكبير.
وهناك إبداع في أمور تافهة، لا فائدة من ورائها، وأقل ما يقال فيها إنها مكروهة كمثل صنيع ذلك الرجل الذي دخل على الخليفة العباسي فوضع إبرة في الأرض ثم ابتعد وأخذ يرمي إبرة تلو إبرة فتسقط الأولى في سم الإبرة السابقة حتى بلغت مائة، فتعجب منه الحاضرون واندهشوا لهذه البراعة فما كان من الخليفة إلا أن قال: يعطى مائة دينار ويجلد مائة جلدة فسأله الرجل متعجبا مائة دينار عرفناها، ولكن لماذا الجلد؟ فقال: أما الدنانير فلبراعتك وأما الجلد فلأنك ضيعت وقتك فيما لا ينفع.
__________
(1) قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، كان بارعا في الغناء الذي يسمونه الموسيقى، وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء، وحكايته مع ابن حمدان مشهورة لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج مجموع الفتاوى (11/ 570) وانظر الحكاية المشار إليها في وفيات الأعيان (5/ 155، 156) وقد ذكر فيه أن من اختراعاته الآلة المسماة بالقانون.
(2) قال الذهبي: له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى، منها ضل وحار، ومنها تخرج ابن سينا، نسأل الله التوفيق، السير (15/ 417).(1/13)
فالمقصود أن هذا نوع إبداع، لكنه فيما لا ينفع ولا يجدي.
أقسام الإبداع باعتبار القوة والتمكن:
ينقسم الإبداع من حيث القوة والتمكن إلى:
1- إبداع عسير.
2- إبداع يسير.
فالإبداع العسير يكون في الأمور التي يكون فيها إبداع وابتكار معا كالإنسان الذي يسبق إلى شيء لم يسبق إليه غيره كما تقدم في الكلام عن علم العروض والمصباح الكهربائي.
والإبداع اليسير كالإنسان الذي يرتب أشياء موجودة سلفا فيتوصل بذلك إلى اختراع شيء جديد، وهذا الإبداع سميناه يسيرًا بالنظر إلى قسيمه الأول، وإلا فكل إبداع هو وليد معاناة وتعب.
* أقسام الإبداع باعتبار المصدر:
ينقسم الإبداع باعتبار المصدر إلى:
1- إبداع عام.……2- إبداع خاص.
فالعام هو الذي لا يقتصر ابتكاره على شخص بعينه، وإنما ينسب لفئة أو طائفة أو أمة، كما يقال مثلا: أبدع المسلمون حضارة راقية في الأندلس فليست هذه الحضارة منسوبة لشخص واحد وإنما هي عامة، أو يقال مثلا: اليابانيون مبدعون في برامج التكنولوجيا والحاسبات الآلية وهكذا.
والخاص: هو ما كان منشؤه شخص بعينه: كإبداع الشافعي في علم الأصول وإبداع الخليل في علم العروض ونحو ذلك.
خلاصة الأمر أنه ينبغي التنبه هنا إلى خمسة أمور:
أولا: أن هذا التقسيم هو ما أوصلني إليه اجتهادي، وإلا فإن هناك اجتهادات أخرى في التقسيم، فبعضهم يقسم الإبداع إلى إبداع فعلي وإبداع كامن.
وبعضهم يجعل مستويات الإبداع خمس مستويات: التعبيري والإنتاجي والاختراعي والإبداعي والبزوغي.
ثانيا: لا يلزم من الإبداع في فن الإبداع في جميع الفنون، أو الإبداع في سائر مباحث ذلك الفن الذي يتعاطاه الشخص وهذا يخضع لتفسيرات عدة ليس هذا محل بسطها، فقد يبدع الإنسان في فن دون فن، وقد يبدع في جزئية من ذلك الفن فقط.(1/14)
فالأصمعي في حفظ اللغة آبدها وشاردها والتفنن فيها يعد مبدعا لكنه لم يفلح في علم العروض، كما تقدم، وهو أحد علوم اللغة، والنووي لم يفتح عليه في علم الطب، والغزالي لم يفتح عليه في علم النحو، وابن حزم في الهندسة والعدد(1).
وكذا السيوطي فإنه يعد مبدعا في علوم كثيرة لكنه لم يفلح في علم الحساب، حتى قال عن نفسه: وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله(2).
بل حتى في الفنون المتلاحمة التي يجمعها رباط واحد قد يبدع الإنسان في فن منها دون فن، فهذا أبو مسلم النحوي كان من أعيان النحاة فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه وأنكره(3).
بل في الملكة الواحدة كالدهاء مثلا أو الفن الواحد قد يبرز الإنسان في جانب منه دون جانب، كما قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو والمغيرة، وزياد، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير(4).
وقال الفراء: مات الكسائي وهو لا يحسن حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية، ولم يكن الخليل يحسن النداء، ولا سيبويه يدري حد التعجب(5).
وقال الفراء: أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها تخفض وترفع وتنصب(6).
وكذا أديسون فقد صرح بأنه لم يفهم نظرية النسبية، ولا شك أن هؤلاء جميعا هم في عداد المبدعين.
__________
(1) انظر ابن حزم لمحمد أبو زهرة (ص95) وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد (ص58).
(2) حسن المحاضرة (1/ 339).
(3) انظر طبقات النحويين واللغويين للزبيدي (ص125)، وبغية الوعاة (2/ 290-292) وفيهما قصة لطيفة.
(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (ص690) وأسد الغابة لابن الأثير (4/ 181). والسير للذهبي (3/ 58) والنجوم الزاهرة للأتابكي (1/ 72).
(5) بغية الوعاة (2/ 163).
(6) مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان لليافعي (حوادث سنة 207).(1/15)
ثالثا: كما لا يلزم من العبقرية الإبداع، فلا يلزم في المقابل أن يكون المبدع عبقريا في كل أحواله وأموره بحيث يكون خاليا من العيوب الذهنية كالحفظ أو سرعة البديهة... إلخ، فقد يكون عالما مبدعا في فنه لكنه ضعيف الحفظ مثلا أو فيه غفلة أو له طباع غريبة مستنكرة لا تليق بشخص في مثل منزلته، ولهذا قيل: إن بين العبقرية والجنون شعرة.
ومن أمثلة ذلك: شرف الدين بن أبي بكر المعروف بابن المقري المتوفى سنة 837 هـ مؤلف كتاب (عنوان الشرف الوافي)(1) قال الخزرجي عنه: إنه كان يتوقد ذكاء، وقال الشوكاني: كان منفردا بالذكاء وقوة الفهم، وله في هذا الشأن عجائب وغرائب لا يقدر عليها غيره(2).
ومع هذا الذكاء كله فقد كان ينسى كثيرا، حتى إنه ما كان يذكر ما حصل منه في أول اليوم، وقد ذكر الشوكاني أنه نسي ألف دينار بزنبيل ثم وقع عليه بعد مدة اتفاقا فتذكره قاله: وحاله لا تقتضي نسيان ما دون هذا فكيف بهذا القدر(3).
ومنهم علي بن عيسى الربعي المتوفى سنة 430 هـ وهو أحد النحاة الكبار صاحب كتاب البديع في النحو، وشارح كتاب سيبويه بما لم يشرح بمثله ووارث علم أبي علي الفارسي، حيث لازمه عشرين سنة، قال فيه الجواليقي: إن جنونه لم يكن يدعه يتمكن منه أحد في الأخذ عنه.
__________
(1) وهو كتاب واحد ذكر فيه خمسة علوم بطريقة فريدة عجيبة ومن حسن الحظ أن الكتاب قد طبع بنفس الترتيب تقريبا، بعناية الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري رحمه الله تعالى.
(2) انظر مقدمة عنوان الشرف (ص7) فما بعد.
(3) المصدر نفسه (ص10).(1/16)
ومن خبره: أنه نازعه أحدهم يوما من الأيام في مسألة فغضب واحتد وعمد إلى شرح الكتاب لسيبويه فوضعه في إجانة(1) وصب عليه الماء وغسله وجعل يلطم الحيطان ويقول: لا أجعل أولاد البغالين نحاة ويحكى عنه أنه عض كلبا لأن ذلك الكلب قد عضه من قبل(2).
وكذلك أبو علي الشلوبين، إمام عصره في العربية بلا مدافع، لكن كانت فيه غفلة فقد قعد يوما إلى جانب نهر فسقط فيه كراس فجره بآخر فتلفا جميعًا(3).
وهذا حجي بن موسى الشافعي المتوفى سنة 782هـ كانت غواصا نقالا عارفا بحل المشكلات، صحيح الفهم سريع الإدراك ومع ذلك فقد كان ساذجا في أحوال الدنيا، لا يعرف صحة عشرة من عشرين، ولا يحسن براية قلم ولا تكوير عمامة(4).
ومن المبدعين عبقري الأدباء كما يسمى فولتير كان لا يبدأ بالكتابة إلا عندما يضع أمامه مجموعة من أقلام الرصاص لا تقل عن اثني عشر قلما وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسرها ويلفها في الورقة التي كان يكتب عليها ويضعها تحت وسادته عندما ينام(5).
وكذلك الشاعر شيلي كان يأكل وينسى أنه أكل، ويغلبه النعاس في النهار فينام في أي مكان كالطفل، ومثله أديسون فقد كان ينسى اسمه وينسى أنه أكل(6).
ومثله شارلز ديكنز: القاص الإنجليزي المشهور، كان يغادر منزله في وسط الظلام ويتيه في شوارع لندن كالمجنون قاطعا مسافة خمسة عشر إلى عشرين ميلاً دون مأرب(7).
فالمقصود أنه لا يلزم أن يكون المبدع عبقريا في جميع شئونه أو أن يكون متوازنا فيها جميعا.
__________
(1) الإجانة: إناء تغسل فيه الثياب: المعجم الوسيط (ص7) مادة أجن.
(2) انظر خبره في البلغة للفيروزآبادي (1/ 45) وبغية الوعاة للسيوطي (2/ 181).
(3) بغية الوعاة (2/ 225).
(4) الدرر الكامنة (2/ 6).
(5) هكذا علمني وردزورث لابن عقيل الظاهري (ص133).
(6) المرجع نفسه.
(7) المرجع نفسه.(1/17)
رابعًا: لا يلزم أن تظهر علامات التفوق في الشخص منذ الصغر، فقد ينبغ الشخص على حين كبر، وهذا يطغى فيه جانب العقل المسموع أكثر من العقل المطبوع كما سيأتي قريبا.
فالكسائي مثلا تعلم النحو ونبغ فيه بأخرة من عمره، وذلك بسبب تلحينه في كلمة فأنف من ذلك وقام من فوره بالطلب والتحصيل وجد وثابر حتى صار إمام النحويين في الكوفة(1).
وأيضا النابغة الذبياني والنابغة الجعدي الشاعران المعروفان لم يلقبا بهذه الألقاب إلا لنبوغهما المتأخر(2).
وهذا الكاتب الروسي الشهير تولستوي فشل في دراسته صغيرا وعجز مدرسوه، الخصوصيون عن إدخال أي علم في جمجمته ثم نبغ بعد الثلاثين(3).
خامسا: أن المبدعين المتميزين في تاريخ الأمم والحضارات ليسوا بالكثير، فإذا ما تأملنا مثلا كتب السير والتراجم، الخاصة بالمسلمين وجدنا أن طلاب العلم فيها يعدون بالآلاف، فإن بعض المدن في العصر الإسلامي الزاهر خصوصا في القرون السبعة الأولى، ربما بلغ عدد مدارسها خمسمائة مدرسة، لكن العلماء النوابغ الذين تخرجهم تلك المدارس يعدون بالمئات فقط، ثم إذا ما أطرحت منهم الحفاظ والنقلة الذين تجردوا عن التجديد والابتكار، والإبداع لم يبق معك إلا القليل.
وهذا ما أشار إليه الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة»(4).
__________
(1) بغية الوعاة (2/ 163).
(2) انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص83) والأعلام (7/ 207).
(3) هكذا علمني وردزورث لابن عقيل الظاهري (ص135).
(4) الصحيح كتاب فضائل الصحابة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - الناس كإبل ... (4/ 1973، 2547).(1/18)
ولو تأملت كتابا مثل تاريخ دمشق لابن عساكر(1) أو تاريخ الإسلام للذهبي(2) أو سير أعلام النبلاء، له أيضا، أو كتاب الوافي بالوفيات للصفدي(3) وجدت صدق ما أقول.
***********
الفصل الخامس
أسس الإبداع العلمي
هذه الأسس لا بد من وجودها في كل شخص مبدع، ولا يتصور وجود مبدع دونها، وهذه الأسس هي:
أ- القوة العقلية.
ب- القوة النفسية.
ج- القوة الجسدية.
أ- القوة العقلية:
وهي أهم هذه الأسس كلها والبقية تابعة لها دائرة حولها فلا بد من توفر هذه القدرة في الإنسان المبدع وعلى قدرها يتميز العمل الإبداعي قوة وضعفا.
والعبقرية هي أعلى المستويات من القدرات العقلية المعرفية، أو بتعبير آخر هي أعلى درجات الذكاء بالإضافة لمكوناتها، وقد وضع علماء التربية مستويات متدرجة للذكاء، تبدأ من المعتوه أقل من 20 درجة، وتنتهي بالعبقري أعلى من 140 درجة، والعباقرة أيضا لهم درجات، وأعلى درجة للعبقرية اكتشفت حتى الآن هي 300 درجة(4).
وهناك تفسيرات عدة لهذه القوة، أعني العبقرية، بعضها فيه نوع غرابة فمنهم من يقول: إن العبقرية حالة مرضية شاذة تصيب بعض الأفراد ومنهم من يرى: أنها محاولة لتعويض جانب النقص في الإنسان بطريق غير مباشر ومنهم من يرى: أنها خاضعة لعوامل متعددة: هي العوامل البيئية والوراثية والشخصية، وهذه كما يرى الدكتور مقداد يالجن، أصح نظرية قيلت في تفسير العبقرية حتى الآن(5).
فهي وراثية بالدرجة الأولى كسبية بالدرجة الثانية، ومعنى كسبية أي أنها تنال بالتحصيل والممارسة.
__________
(1) المطبوع في 80 مجلدة.
(2) المطبوع في أكثر من 50 مجلدة.
(3) قيل: إنه أوسع كتاب في التراجم، حيث ذكروا أنه حوى ترجمة أربعة عشر ألف نفس وانتهى فيه إلى سنة 700هـ وقد طبع منه أكثر من عشرين مجلدا.
(4) الطريق إلى العبقرية مقداد يالجن (ص17، 18) بتصرف.
(5) المصدر نفسه (ص18، 19).(1/19)
فعامل الوراثة هو ما يسمى عند المتقدمين: العقل المطبوع، أو الغريزي وعامل الكسب هو ما يسمى عندهم: العقل المسموع، أو المستفاد وقد جمعهما بعضهم(1) بقوله:
رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
يعني كما أن الشمس لا ينتفع بها الأعمى، فكذلك لا ينتفع الإنسان بالعقل المسموع إذا ما تجرد عن العقل المطبوع.
فالعقل المسموع هو ما يكتسبه الشخص بجده واجتهاده الشخصي وذلك بالمثابرة على طلب العلم، والقراءة الواسعة المركزة ومجالسة العلماء، وتأمل سيرهم وأحوالهم، وهذا أمر واضح، ولهذا فقد عرف أديسون العبقرية بأنها 1% إلهام و99% جهد(2).
ويقول رئيس باكستان الأسبق محمد علي جناح: أحسب أني لن أصبح شيئا مذكورا في الدنيا بغير القراءة.
وهذا كله يزيد في العقل المسموع جودة وصفاء وقوة، لكن ذلك لا يتم إلا باختيار العلم الذي يناسب الشخص كما قال ابن حزم: العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد الضعيفة، وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفية، من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف(3).
وأهم عامل من القدرات العقلية في عملية الإبداع: هو قوة التفكير والتأمل ذلك لأن الدماغ يحتوي ثلاث قوى:
القوة الحافظة: وهي استحكام المعقول في العقل.
القوة الذاكرة: وهي محاولة العقل استرجاع المعلومات.
__________
(1) وتنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه انظر إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 86) والذريعة إلى مكارم الشريعة: للأصفهاني (ص93، 94) وغذاء الألباب للسفاريني (2/ 469) وأدب الدنيا والدين للماوردي (ص35).
(2) الموسوعة العربية العالمية (أديسون).
(3) مداواة النفوس: لابن حزم (ص23).(1/20)
القوة المفكرة: وهي محاولة العقل الربط بين المقدمات والنتائج(1).
وأهمها هي القوة المفكرة، والقوى الأخرى عوامل مساعدة فحسب.
وبما أن العقل بقسميه المطبوع والمسموع يتبوأ هذه المنزلة وتلك المكانة في العمل الإبداعي، فقد ضل من ضل بسبب غلوهم فيه، وجعلهم إياه في منزلة أعلى من المنزلة التي جعله الله فيها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن آلة العقل ومن ثم عبده أو اتخذه نبيا أو إماما وجعل له السيادة المطلقة، وقدمه على كل شيء حتى على نصوص الوحيين، كما هو الشأن في فرق الاعتزال والتجهم وغيرها، وكذلك فعل الفلاسفة سواء المتقدمون منهم أو المتأخرون، حتى إن أحد زنادقة الإسلام كما يسميه ابن الجوزي، وهو أبو العلاء المعري يقول(2):
أيها الغرُّ إن رزقت بعقل ... فاسألنه فكل عقل نبي
ويقول أيضا(3):
يرتجي الناس أن يقوم إمام ... ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل ... مشيرا في صبحه والمساء
__________
(1) انظر التوقيف على مهمات التعريف : للمناوي (ص592) والكليات للكفوي (ص67) وقد اختلف العلماء قديما في مكان العقل هل هو في القلب أو في الدماغ أو أنه يتعلق بهما معا.
والصواب: القول الثالث: كما فصل ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى والله أعلم، انظر الأمنية في إدراك النية، للقرافي، (ص17) ومجموع الفتاوى (9/ 303) وشرح الكوكب المنير لابن النجار (1/ 83) فما بعد، وفي حواشيه مصادر المسألة.
(2) اللزوميات (2/ 642).
(3) المصدر نفسه (1/ 66) وارجع إن شئت المزيد إلى كتاب قصة الفلسفة لديورانت أو العقل والمادة، لراسل أو كتاب نافذة على فلسفة العصر، لزكي نجيب محفوظ تجد أن هناك من يؤله العقل عياذ بالله من ذلك.(1/21)
وقد ركب هذا التيار وروج له ثلة من الوضاعين فوضعوا على لسان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أحاديث تشيد بالعقل وترفع منزلته حتى قال الحفاظ كالإمام ابن حبان والدارقطني والعقيلي وأبي الفتح الأزدي والعراقي وابن القيم والقاري وغيرهم: إنه لا يصح في العقل حديث مطلقا(1).
والذي ينبغي معرفته هنا: هو أن الإسلام يحترم العقل، ويحترم جميع الطاقات والملكات التي وهبها الله تبارك وتعالى للإنسان، وجعلها في بدنه، لأنها نعمة من الله جل وعلا، لكنه يضعها في مكانها المناسب، ولا يبخسها قدرها، ولا يعطيها أكثر من حجمها، ولهذا احترم الإسلام العقل فجعله مناط التكليف ففي كثير من الآيات، كآيات القصاص والطلاق وتحريم الخمر والميسر وغيرها، نجد أنها تختم بقوله، تعقلون أو يتدبرون أو: أولي الألباب إلى غير ذلك.
كما حدد مجاله أيضًا وفق قدرته، وطاقته، فوجهه إلى التأمل في ملكوت السموات والأرض { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191] الآيات(2).
__________
(1) انظر المنار المنيف: لابن القيم (ص66) والأسرار المرفوعة للقاري (ص421) والفوائد المجموعة للشوكاني (ص411).
(2) انظر منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب (1/ 76) فما بعد.(1/22)
كما أنه لم يعطله كما عطله من لا عقل له كالصوفية، ومتعصبة الفقهاء وغيرهم، فالإسلام وقف موقف التوسط بين مُفْرِط ومُفَرِّط، فأولئك غلوا فيه وألهوه وجعلوه نبيا وجعلوا له السيادة المطلقة، وهؤلاء ألغوه تمامًا وجعلوا استعماله فيما خلق له جرما لا يقر وذنبا لا يغتفر(1).
ب- القوة النفسية:
هذه هي الصفة الثانية التي يجب أن تكون ركيزة في الإنسان المبدع، فلا بد أن يتصف المبدع بقوة النفس العلمية والعملية، والمراد بها: قوة الثبات والإرادة والتصميم والمثابرة والنزوع إلى الكمال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلا بد لها من كمال القوتين لمعرفة الله وعبادته»(2).
وقريب منه قول ابن القيم: «إن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه مكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات»(3).
وهذه القوى النفسية(4) ناتجة عن صفات ضرورية لا بد أن تتصف النفس بها حتى تتكون تلك القوى، وبقدر تلك الصفات تكون قوة النفس وضعفها كما أنها ناتجة أيضًا عن دوافع وصفات تدفع النفس إلى مزيد جد واجتهاد ومثابرة وتصميم ومن أهم تلك الصفات والدوافع:
__________
(1) كما سيأتي في الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد وقصة العالم المسكين حسن بن حسين الأسكوبي الذي قتله إبداعه.
(2) مجموع الفتاوى (9/ 136).
(3) مفتاح دار السعادة (1/ 56).
(4) ذكر ابن سينا القوى النفسية فقال:
تسع قوى تحسب للنفسية
الخمس منها للقوى الحسية
السمع والإبصار ثم الشم
والذوق واللمس الذي يعم
وقوة في العضلات واصلة
بها يحرك الفتى مفاصله
وقوة تخيل الأشياء
فيها كما يكون في المرائي
وقوة بها يكون الفكر
وقوة بها يكون الذكر
الأرجوزة في الطلب (ص99) ضمن كتاب: من مؤلفات ابن سينا الطبية، ولا يخفى أن مراده قوى الجسم كلها وليس هذا هو مرادي هنا.(1/23)
حب الشيء والرغبة الشديدة فيه، واستحكام الإرادة في طلبه، وقد أدركت هذا المعنى أم سفيان الثوري عندما قالت له: «اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي هذا، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه وإلا فلا تتعن»(1).
وكما أدركه أيضا يحيى بن مجاهد الفزاري الزاهد حينما قال: «هذا أوان طلبي للعلم إذ قوي فهمي واستحكمت إرادتي»(2) فقد جعل استحكام الإرادة بداية للطلب الناضج، وهذا هو أوان الطلب على التحقيق.
ومن تلك الصفات: الشجاعة الأدبية:
فلا بد أن تكون لدى المبدع الشجاعة الكافية، لأن الإبداع في حد ذاته هو شيء جديد على الناس، والعرف السائد لا تألفه النفوس، ولا تقبله العقول إلا بعد جهد ومشقة ووقت طويل، وهذه هي طبيعة الأشياء المبتكرة والجديدة كما قال أحمد شوقي(3):
والناس في عداوة الجديد ... وقبضة الأوهام من حديد
فالخليل لما اخترع علم العروض واجه استغرابا شديدا حتى من أقرب الناس إليه أهل بيته فقد روي عنه أنه كان يقطع بيتا من الشعر، فدخل عليه ولده في تلك الحالة، فخرج إلى الناس، وقال: إن أبي قد جن، فدخل الناس عليه وأخبروه بما قال ابنه فقال للتو:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
وفي رواية أن الذي دخل عليه أخوه(4).
__________
(1) السير للذهبي: (7/ 269).
(2) جذوة المقتبس للحميدي (ص605).
(3) دول العرب وعظماء الإسلام (ص28).
(4) انظر معجم الأدباء (3/ 1269).(1/24)
ولما اخترع جاليليو التلسكوب وتمكن به من رؤية الكواكب والأبراج السماوية، وجد فيه ما يؤيد رأي كوبرنيكوس (ت 1543م) الذي قال: إن الأرض تدور حول الشمس، قولةً رأت الكنيسة أنها تخالف الدين، أما كوبرنيكوس فقد قضى، وأما جاليليو فقد حاكمته الكنيسة وخيرته بين الموت أو التنصل من دعواه فآثر الحياة، ولكنه قضى بقية عمره معتزلا مهموما، حتى مات وهو يردد ولكنها تدور، ولقد خير رفيق له هو برونو كما خير هو فرفض التنصل، فقتل حرقا بالنار(1).
كما أن الشجاعة ضرورية في العمل ذاته فإن البحث والتنقيب والاجتهاد مرة تلو مرة، يحتاج إلى شجاعة معنوية تقطع التردد وتنفي الخوف والوجل، وتعلم الإقدام والمضي في العمل إلى النهاية، حتى وإن واجه صعوبات أو معضلات في بداية الطريق، فلا ينبغي أن يتخلى عن عمله حتى يبلغ الغاية المرتجاه لأن إبداع العمل يحتاج إلى وقت طويل وعمل دءوب وربما انقطع الإنسان في وسط الطريق إن لم يكن متحليا بهذه الشجاعة فعاد عليه ذلك بالأسى والحزن إن كان من ذوي الإحساس المرهف، بل ربما قتله الغمَّ فمات كمدا كما حصل لجماعة من العلماء منهم سيبويه فيما يحكى عنه عقب مناظرته الكسائي في المسالة الزنبورية فقد قتله الهم، مع أن الصواب في تلك المناظرة كان معه(2).
وكما حدث للخوارزمي مع الهمذاني(3) وكما حصل أيضًا للسعد التفتازاني بعد مناظرة الشريف الجرجاني(4) وغيرهم كثير.
__________
(1) انظر مقدمة لتاريخ التفكير العلمي في الإسلام د/ أحمد سليم سعيدان (ص106).
(2) انظر معجم الأدباء (5/ 2125) وقد حكم عليها الذهبي بأنها كذب كما في السير (8/ 351) وانظر تفاصيل المناظرة في كتاب: النحو والصرف في مناظرات العلماء ومحاوراتهم للزاكي (ص66-78).
(3) انظر القصة بطولها في معجم الأدباء (1/ 242) فما بعد.
(4) البدر الطالع: للشوكاني (2/ 305).(1/25)
بل إن الأديب الياباني ياسواري كابانا انتحر لأنه لم ينجز أعماله الأدبية فهو صاحب أكبر إنتاج غير متكامل(1).
يقول إلياس قنصل(2):
جرد من العزم سيفًا تستعين به ... إن التردد باب الضعف والكسل
والسعي حتى وإن أفضى إلى خطأ ... خير من الجبن و التشكيك والوجل
ساء الفتور ولو سميته حذرا ... ما أصغر الفرق بين الموت والشلل
غار الحياة لمن يبغيه مقتنعا ... ما من نجاح إذا فكرت بالفشل
وهذا صحيح فما من نجاح إذا فكرت بالفشل كما قال الآخر:
وعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح
ومرحلة الوصول إلى الهدف أو الغاية أو ما يسميها الأدباء الإشراقة النفسية إنما تحصل في الغالب بعد هذه المرحلة المضنية كما حصل للشيخ محمود شاكر في كتابه المتنبي الذي نال عليه جائزة الملك فيصل العالمية فهو يذكر أنه في أوائل ديسمبر عام 1935م مر عليه نحو أسبوع وهو لا يجد إلى هدوء نفسه منفذا يقول: «وأخذت ديوان المتنبي مرة خامسة أقرأه لا أتوقف ولا أمل ولا أهدأ، وأنا في خلال ذلك أراجع كل ما في تراجم أبي الطيب وبعض كتب التاريخ والرجال وغيرها، تبعا للخواطر التي تنشأ وأنا أقرأ الأبيات أو القصائد.
وفي فجر الثاني عشر من شهر رمضان صليت فلما جئت آوي إلى فراشي طار النوم من عيني، ومع طيرانه تبدد القتام الذي كان يلفني، وذهب التعب وما لقيت من النصب، وتجلى لي طريق بان لي كأني سلكته من قبل مرات فأنا به خبير وأخذت الأوراق التي كنت كتبتها فمزقتها وأنا على عجلة من أمري ونبذتها في صندوق القمامة، وأعددت أوراقي وجلست على مكتبي وأخذت قلمي وسميت بذكر الله وكتبت ومضيت أكتب كأني أسطر ما يملى علي لا حيرة ولا بحث عن أسلوب وطريق ولا تردد ولا هيبة لشيء ولا تحرج من غرابة ما أقول وما أكتب ... إلخ»(3).
ومن تلك الصفات علو الهمة:
__________
(1) هكذا علمني وردزورث (ص136).
(2) رباعيات مختارة (ص81).
(3) المتنبي (46).(1/26)
وهذا أمر مهم في العمل الإبداعي لأنه هو المحرك الداخلي الأقوى نحو العمل والجدَّ والمثابرة، وبحسب هذا الدافع تتفاوت الطاقة الناتجة عنه، لأنه بمثابة الفتيل الذي يفجر القوة الكامنة، وإذا ما تذكرنا أحد القوانين الأساسية الثلاثة التي يقوم عليها علم الحركة أو ما يسمى الديناميكا، والذي يقول: لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في التأثير(1).
ثم طبقناه هنا عرفنا لماذا بلغ الأمر بالإمام الشافعي أن
يقول(2):
أمطري لؤلؤا جبال سرنديـ ... ـب وفيضي آبار تكرور تبرا
|
أنا إن عشت لست أعدم قوتا ... وإذا مت لست أعدم قبرا
|
همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حُرٍّ ترى المذلة كفرا
|
ومثله علي بن عبد الكافي السبكي حينما قال(3):
لعمرك إن لي نفسا تسامى ... إلى ما لم ينل دارا بن دارا
وتلك الهمة هي التي جلبت للإمام ابن الجوزي النحول حيث يقول(4).
الله أسأل أن يطول مدتي ... وأنال بالإنعام ما في نيتي
لي همة في العلم ما من مثلها ... وهي التي جنت النحول هي التي
__________
(1) هذا القانون ينسب خطأ لنيوتن، وقد سبقه إليه هبة الله بن ملكا البغدادي في كتابه المعتبر في الحكمة، انظر أعلام الفيزياء في الإسلام: لعبد الله الدفاع (ص89) وموسوعة العلماء والمخترعين: لإبراهيم بدران ومحمد فارس (ص252).
(2) هذا الشعر ينسب للإمام الشافعي رحمه الله تعالى انظر الديوان (ص118).
وسرنديب هي جزيرة أطلق عليها العرب قديما اسم سيلان: وهي الدولة المسماة الآن سيرلانكا وهي مشهورة بالأحجار الكريمة، أما تكرور: فهي بلاد في غرب إفريقيا حول مالي وغانا.
(3) الدرر الكامنة لابن حجر (3/ 69) وطبقات الشافعية الكبرى: للسبكي (10/ 179) ودار ابن دارا هو أحد ملوك الفرس الأقدمين، ومن اللطائف أن هذا البيت قاله في سنة 719هـ ثم أضاف إليه سنة 747 هـ قوله:
فمن هذا أرى الدنيا هباء
ولا أرضى سوى الفردوس دارا
(4) ذيل طبقات الحنابلة: لابن رجب الحنبلي (1/ 428).(1/27)
حلفت من الفلق العظيم إلى المنى ... دعيت إلى نيل الكمال فلبت
كم كان لي من مجلس لو شبهت ... حالاته لتشبهت بالجنة
فبمقدار الهمة يكون العمل والإنجاز.
ومن تلك الصفات والدوافع، الإثارة والغضب:
وهو عنصر قوي مؤثر: إذا أحسن توظيفه، واستغلاله في الخير كان مفيدا. ناجعا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الشهوة والغضب خلقا لمصلحة ومنفعة، لكن المذموم هو العدوان فيهما»(1).
ومن الغضب المحمود الغضب لله ولدينه ففي الصحيحين عن عائشة، قالت: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان من أشدهم في ذلك غضبا»(2).
وجاء في صفة الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال(3).
وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون(4).
فالقوة الغضبية هي طاقة نفسية عظيمة الفائدة كانت خلف كثير من الأعمال الإبداعية العلمية منها والعملية.
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 83).
(2) الحديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3/ 1306) (3367) ومسلم في كتاب الفضائل باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام (4/ 1813) (2327).
(3) صحيح الأدب المفرد (ص117) (201).
(4) المصدر نفسه (ص209) (432).(1/28)
وهي طاقة استفزازية آنية، وليست استمرارية ذاتية كما هو الحال في الهمة وبقدر الدافع الاستفزازي يكون العمل الإبداعي قوة وضعفا، فقد ذكر أن أحد اليهود في زمن ابن تيمية تكلم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشتمه وطعن فيه فغضب شيخ الإسلام غضبا شديدا وألف كتابا من أعظم كتبه سماه الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - رد فيه على ذلك اليهودي وأطال النفس فيه ومن يقرأ هذا الكتاب يجد فيه نفس المغضب وقوة المبدع، حتى إنه قال: إن ذهاب الغيظ من صدور المؤمنين لا يحصل إلا بقتل من يسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1).
فعنصر الإثارة النفسية أمر في غاية الأهمية ، سواء تمثل في الغضب أو حتى في الخوف، فإن الخوف ربما حرك الطاقة الكامنة في النفس، فنتجت عنها أعمال هائلة، ربما لا يقدر على فعلها ذلك الشخص، بعينه لو تجرد عن ذلك الدافع، كما ذكر عن حذيفة بن بدر أنه أغار على هجان للنعمان بن المنذر بن ماء السماء، ومن شدة خوفه أن يدرك سار في ليلة واحدة مسيرة ثمان ليال فضرب به المثل في شدة السير وقوة الجلد، حتى قال قيس بن الحطيم(2).
هممنا بالإقامة ثم سرنا ... مسير حذيفة الخير ابن بدر
وحكي أن ملكا رأى شيخا وثب وثبة عظيمة على نهر فتخطاه والشاب يعجز عن تلك الوثبة، فعجب منه واستحضره وحادثه في ذلك، فأراه ألف دينار مربوطة في وسطه(3).
__________
(1) الصارم المسلول (ص20).
(2) المستطرف للأبشيهي (2/ 19).
(3) المصدر نفسه (2/ 33).(1/29)
وربما كان دافع الإثارة النفسية هذا طريقا إلى الإبداع والتفوق أيا كان ذلك المثير، خصوصًا في طلب العلم والتحصيل، كما ذكر عن أحمد بن خالد بن يزيد المعروف بابن الجبَّاب القرطبي فقد طلب في أول حاله العبادة وصحب ابن وضاح وأخذ عنه، قال: فنظرت إلى قوم يتهارشون على الدنيا يعني فقهاء عصره، فقلت: متى احتجت إلى شيء من ديني رجعت إلى هؤلاء فكان ذلك مما حملني على الجد في الطلب والنظر في الفقه والعلم(1).
وربما حصلت تآليف عظيمة بسبب ذلك، كما وقع لابن حزم حيث يقول عن نفسه: «لكل شيء فائدة ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سببا إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف»(2).
فالمقصود أن قدرة النفس ليس لها حدود، وهي المحرك الأساس لجميع قوى الجسد الظاهرة والباطنة، ولا سيما قنوات المعرفة والتلقي، السمع والبصر والفؤاد، فإنها أمهات ما ينال به العلم ويدرك كما سنتحدث عنه في النقطة الثالثة وهي القوة الجسدية.
جـ- القوة الجسدية:
ولا أقصد بها التكوين الجثماني من عضلات ووشائج وتراكيب بحيث يكون المبدع ضخم المنكبين، عبل الذراعين، مبسوط الجسم، مديد القامة كلا، وإنما المقصود هو الطاقة الحيوية والنشاط المتدفق الذي هو شعلة الإبداع ووقود أتونه حتى وإن كان صاحبها لطيف الجسم، نحيل البدن، فإن هذا ليس مقياسا للطاقة والحيوية والنشاط بل ربما كان العكس هو الصحيح، كما قال
بعضهم:
تراه من الذكاء نحيف جسم ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسم النحيل
وكما قال الآخر:
إذا سمنت همة في الضلوع ... فآيتها البدن الناحل
__________
(1) ترتيب المدارك (5/ 176).
(2) رسالة في مداواة النفوس ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (1/ 367).(1/30)
وما قصة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ودقة ساقيه حينما لعبت به الريح وهو على الشجرة بخافية(1).
فوجود الحيوية والنشاط الذي هو ضد الخمول والهزال أمر ضروري وما عرف عن أحد من المبدعين أنه كان يحمل فيروس الكسل، ولا ميكروب الخمول، الذي يؤثر على القوة العقلية والنفسية لأن الجسد الهزيل المريض لا يمكن أن يوصل شحنة الحياة إلى النفس توصيلا صحيحا، تقوم عليه بمهمتها ودورها فضلا عن أن يوصلها إلى العقل(2) ولهذا قال حفني ناصف(3).
ومتى استقام الجسم أمكن بعده ... حفظ النهى وصيانة الأفهام
وقال الآخر:
إن الجسوم إذا تكون نشيطة ... تقوى بفضل نشاطها الأحلام
__________
(1) انظرها في المسند (2/ 243، 244) (920) وقال محققوه صحيح لغيره.
(2) انظر منهج التربية الإسلامية: لمحمد قطب (1/ 105).
(3) مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي لأحمد قبش (ص67) وهو سفر نفيس أوصي به أرباب الذوق ومحترفي البيان.(1/31)
ولهذا كانت القوة في الإسلام مقصودة لا لذاتها، وإنما لغيرها قال الله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] وجعلها صفة مدح وتفضيل كما قال تعالى واصفا طالوت { إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [البقرة: 247] وقال - صلى الله عليه وسلم - «إن لجسدك عليك حقا»(1) وقال أيضًا «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»(2) والقوة هنا تشمل كلا القوتين الإيمانية والجسدية(3).
وهذا كله لأجل اكتساب الطاقة والحيوية التي تمد النفس والعقل بالقوة للعمل والإنتاج(4).
وارتباط الجسد بالنفس والعقل أمر معروف منذ القدم، حتى إن العلماء قد أوجدوا علاقات بين ظاهر الجسد وباطنه وجعلوا الشكل الخارجي للبدن طريقا لمعرفة الهيئة الداخلية للنفس وهو ما يسمى بعلم الفراسة الخلقية.
__________
(1) هذا طرف من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد باب ما يكره من ترك قيام الليل (1/ 387) (1102) ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام باب النهي عن صوم الدهر (2/ 812) (1159) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) هذا طرف من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر: باب في الأمر بالقوة وترك العجز (4/ 2052) (2664).
(3) انظر إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 157) ومنهج التربية الإسلامية: لمحمد قطب (1/ 105).
(4) ذكر الأطباء: أن رياضة المشي مفيدة جدا لإزالة التعب الذهني، كما أنها تعوض الدم الذي ينقص بكثرة الأعمال العقلية، انظر الطريق إلى العبقرية (ص130)(1/32)
قال ابن القيم: وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخلقة والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال إلى أن قال: ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه، ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه، ثم ذكر بعض هيئات الجسد والرأس التي تدل على الذكاء والبلادة والشجاعة والخوف(1).
وكل داخل على الجسم سواء كان حسيا أو معنويا فإنه يؤثر على النفس والعقل سلبا أو إيجابا، وهو نوعان.
1- غذاء معنوي.
2- غذاء حسي مادي.
أما الغذاء المعنوي فيكون عن طريق السمع والبصر والفؤاد وهذه القنوات هي أعظم الطرق إلى العقل والنفس كما أسلفنا وهي أمهات ما ينال به العلم ويدرك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(2) ولهذا امتن الله على خلقه أول خروجهم إلى الدنيا كما قال الله تعالى: { وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78] وقال أيضا: { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 9] وقال فيها لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف: 179].
__________
(1) مدارج السالكين (2/ 488) وانظر كتاب الفراسة للفخر الرازي.
(2) مجموع الفتاوى (9/ 309).(1/33)
والمقصود هنا الرؤية بلا وعي، والسمع بلا تدبر وأهم هذه الثلاثة هو القلب، والبقية طرق لإيصال العلم إليه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «صاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجبة له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه حتى إن من فقد شيئا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه»(1).
وأما الغذاء الحسي المادي فهو يؤدي إلى إشباع الرغبات والميول المتعددة عند الإنسان بما يعود بالأثر البين على النفس، والعقل سلبا أو إيجابا فالخمر مثلا نهى عنها الإسلام لأنها تفسد العقل، كما أمر بالاحتياط في المطعم وتحري الحلال الطيب حتى لا يقع المسلم في الحرام فيقسو قلبه وتظلم نفسه وينغلق فكره، وبالتالي يقل عمله ونشاطه، كما قال بعض العلماء في قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون: 51] قال: فأمرهم بأكل الطيبات قبل العمل الصالح، لأن في ذلك عونا على الطاعة وانشراحا لها وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: «إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع ألا يأكل إلا طيبا فليفعل»(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى (9/ 310).
(2) الصحيح كتاب الأحكام باب من شاق شق الله عليه (6/ 2615) (6733) وانظر المزيد من النصوص وشرحها في كتاب: أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية للطريقي (ص24) فما بعد.(1/34)
وليس التأثير على العقل والنفس مقصورا على المحرم فقط، بل ربما أثر فيه بعض المباحات أيضا، كما هو الحال في أكل لحم الإبل مثلا، قال شيخ الإسلام: «إن الآكل منها تبقى فيه قوة شيطانية لأن الغاذي شبيه بالمغتذي وقد روي فيها أنها جن خلقت من جن، وأن على ذروة كل بعير شيطان والشياطين خلقت من نار، فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في ذلك من إطفاء القوة الشيطانية ما يزيل المفسدة بخلاف من لم يتوضأ منها فإن الفساد حاصل معه» قال: «ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لأنها دواب عادية، بالاغتذاء بها تجعل في خلق الإنسان من العدوان ما يضره في دينه»(1).
فثبت بهذا أن الغذاء المادي المحسوس يؤثر على الأخلاق والطباع كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.
ويروى عن الإمام أحمد أنه دخل على جارية أعجمية وقد أخذت ابنه عبد الله ترضعه فانتزعه من يدها ووضع أصبعه في فمه ليخرج ما دخل في بطنه من اللبن، وقال: أخشى أن تؤثر فيه هذه الرضعة، فكان عبد الله بعدما كبر ربما أصابه تلعثم في كلامه وكلال فإذا سئل عنه قال: هو من أثر تلك الرضعة.
والخلاصة هي ما قاله صاحب كتاب: في تحديث الثقافة العربية(2): «إن طعام الطاعم ينتج له في حياته نتيجتين: إحداهما: لذة الطعام، والأخرى: النشاط الذي يتولد عن تغذية الجسم فيبدع به صاحبه إبداعا لن يكون هو نفسه يستطيع أن يتنبأ به ساعة استوائه إلى مائدة الطعام».
وكذلك الأمر في مسألة القدرة الطبيعية، فإن العجز الطبيعي عند الإنسان دليل ضعف وخمول غالبا، فأنى لمن هذه حاله التفوق والإتقان فضلا عن الابتكار والتجديد والإبداع.
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 523).
(2) لزكي نجيب محمود (ص298).(1/35)
ويحضرني في هذا الصدد بحث نشر في مجلة الأديب اللبنانية عن أبي العلاء المعري ذهب فيه صاحبه وهو الأستاذ الخولي، إلى أن أبا العلاء إنما منعه من الزواج مانع العجز الطبيعي وليس الزهد أو الفلسفة التي عرف بها أبو العلاء فرد عليه الأستاذ عبد السلام هارون في مجلة المقتطف عام 1945م وقال: «كيف نتصور تلك العبقرية المتدافعة المتزاحمة في تلك الرجولة
الناقصة؟ إن العبقرية الممتازة لم تكن يوما في ضعاف الرجال، بل إني لأذهب إلى أن أبا العلاء كان من قوة طبيعة الرجل بالمكان الذي يحمله على التقلل من المطعم والمشرب ليكف عوارم هذا الميل ويصير إلى حال من العفة وضبط النفس»(1).
********
الفصل السادس
مقومات الإبداع العلمي
وأعني بها تلك الأمور التي لا بد من وجودها لنجاح العمل، وهي شرط ضروري في عملية الإبداع، لكنها تنال بالاكتساب والتحصيل أكثر من الأسس السابقة وأهم هذه المكونات ما يلي:
أولا: التمكن في العلم وهضم مسائله والسعي الحثيث للإحاطة بقضاياه وتصورها على وجهها الصحيح يساعد على هذا ما يلي:
1- التخصص: وهذا أمر غاية في الأهمية، فإن العادة جارية بأن الإنسان لا يبدع في فنه ولا يتقن علمه إلا إذا تخصص في فن واحد واستفرغ فيه غاية جهده لأن الإنسان مهما طال عمره وكثرت مواهبه ورزق مع ذلك الفهم الحاد والحافظة الواعية فإنه لن يستطيع أن يحيط بدائرة العلم الواحد إحاطة تامة فضلا عن استيعاب شتى المعارف والعلوم، فالعلم الواحد في دائرته الضيقة بحر زاخر فكيف بعلوم عدة؟ والحال كما قال القائل(2):
ما حوى العلم جميعا أحد ... لا ولو مارسه ألف سنة
إنما العلم كبحر زاخر ... فاتخذ من كل شيء أحسنه
__________
(1) قطوف أدبية، لعبد السلام هارون (ص275).
(2) ينسب هذان البيتان للإمام الشافعي رحمه الله تعالى انظر ديوان الشافعي (ص127) جمع وتحقيق د. مجاهد بهجت، والذي أعده أفضل جمع وتحرير للديوان حتى الآن.(1/36)
وقد أدرك هذا المعنى الإمام الشافعي -وهو من هو ذكاء وحفظا- فقد قال لأبي علي بن مقلاص أحد تلامذته: «تريد تحفظ الحديث وتكون فقيها؟ هيهات ما أبعدك من ذلك»(1).
والمراد هنا علوم المقاصد كالتفسير والفقه والحديث واللغة والطب ونحوها وليس المراد علوم الآلة كالمصطلح والأصول والنحو والبلاغة وما شابهها لأن هذه محدودة المسائل وإن بلغت آلافا، محصورة الأبواب وإن جمعت أصنافا بخلاف علوم المقاصد فإنها مترامية الأطراف، كثيرة الأكناف فلو أخذنا علما كالتفسير مثلا لوجدناه بحرا لا ساحل له، أضف إلى ذلك أنه مشتمل على علوم كثيرة، فهناك أحكام القرآن وإعجاز القرآن البلاغي واللغوي والعلمي والقراءات والتجويد والرسم والمناسبات ولغة القرآن من غريب وأمثال وخطاب وأشباه ومبهمات ... إلخ وهناك التفسير بالمأثور وما يلتحق به من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها.
وكذلك الفقه فلو أخذناه في دائرته الضيقة لوجدناها واسعة فمسائلة كثيرة، ونوازله لا تنتهي كما أن هناك فنونا أخرى مساعدة لا بد منها إذا أراد الإنسان أن يكون فقيها حقا، كعلم القواعد الفقهية وعلم أصول الفقه، وعلم مقاصد الشريعة وعلم تخريج الفروع على الأصول ، وعلم أسباب الخلاف وعلم أصول البدع وهكذا الحديث واللغة ... إلخ.
فالمقصود أن دائرة العلم الواحد واسعة، فكيف بها مجتمعة؟
وعليه فماذا يضير العالم إذا ما تخصص في فن من فنون العلم الواحد كإعجاز القرآن أو القراءات أو مقاصد الشريعة أو أصول الفقه أو مصطلح الحديث أو فقه اللغة مثلا؟ بحيث ينصرف كلية إلى تعلمه وتعليمه والتأليف فيه فإنه سيستفيد ويفيد فيه بلا ريب، وربما ابتكر واستخرج منه فنونا أخرى جديدة لم يسبق إليها، فيكون مبدعا بحق.
__________
(1) آداب الشافعي ومناقبه للرازي (ص135) ومناقب الشافعي للبيهقي (2/ 152) والرسالة المستطرفة للكتاني (ص221).(1/37)
وأستأنس في هذا بما قاله ابن عطية في مقدمة كتابه العظيم المحرر الوجيز حيث قال: «رأيت أن الواجب على من اجتبى وتخير من العلوم واجتبى أن يعتمد على علم من علوم الشرع، يستنفذ فيه غاية الوسع، يجوب آفاقه ويتتبع أعماقه ويضبط أصوله ويحكم فصوله ويلخص ما هو دونه أو ما يؤول إليه ويعني بدفع الاعتراضات عليه، حتى يكون لأهل ذلك العلم كالحصن المشيد والذكر العتيد يستندون فيه إلى أقواله، ويحتذون على مثاله»(1).
وقد جرى العلماء الكبار على هذا الأمر، فقد كان أحدهم يستفرغ غاية جهده في علم أو علمين فقط، ويشارك في بقية العلوم على قدر مواهبه ومداركه وميوله بحيث يصير مرجعا في ذلك العلم حجة فيه، ولهذا يذكرون في تراجم العلماء أن فلانا كان إماما في الحديث مثلا، كما يذكرون عنه أن له مشاركة قوية في فن كذا وكذا، وقلما يجتمع في عالم واحد الإمامة في علوم كثيرة.
فهذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى، قال عنه الإمام الشافعي: «ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالا على أبي حنيفة»(2) لكن أبا حنيفة ليس بذاك في الحديث بل قد ضعف فيه(3).
وهذا الشافعي رحمه الله تعالى كان إماما في الفقه والأصول، لكنه لم يبلغ تلك المرتبة في الحديث، بل قال للإمام أحمد: «أنتم أعلم بالحديث مني فإذا صح عندكم الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقولوا لنا حتى نأخذ به»(4).
وقال الحميدي: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل وكان يستفيد مني الحديث»(5).
__________
(1) المحرر الوجيز (1/ 3).
(2) الجواهر المضية للقرشي (1/ 56) والانتقاء لابن عبد البر (ص136).
(3) انظر ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 265).
(4) مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 154) وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 470).
(5) المصدر السابق (2/ 153).(1/38)
وقال إسحاق بن راهويه: ذاكرت الشافعي فقال: «لو كنت أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا»، قال البيهقي: «وهذا لأن إسحاق الحنظلي كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويسرد أبوابه سردا، وكان لا يهتدي إلى ما كان يهتدي إليه الشافعي، من الاستنباط والفقه وكان الشافعي يحفظ من الحديث ما كان يحتاج إليه، وكان لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتبه عليه منه وذلك لشدة اتقائه لله عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه»(1).
وهذا الإمام أحمد سئل عن حرف من غريب الحديث، فقال: «سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن فأخطئ»(2).
وهذا شعبة بن الحجاج حدث في مجلسه فقال في حديث: «فتسمعون جرش طير الجنة»، فرد عليه الأصمعي وكان جالسا في ذلك المجلس وقال: جرس -يعني بالسين المهملة- فنظر إليه شعبة، وقال: خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا(3).
بل ربما تميز الإنسان في نوع دون نوع في دائرة العلم الواحد، فهذا الإمام أحمد يقول عن سفيان بن عيينة: «كان إذا سئل عن المناسك سهل عليه، وإذا سئل عن الطلاق اشتد عليه»(4).
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) علوم الحديث لابن الصلاح (ص272).
(3) فتح المغيث للسخاوي (3/ 168).
(4) تهذيب الكمال للمزي (11/ 190) والكواكب النيرات لابن الكيال (ص229) قلت لعل خبرته بالمناسك لكونه مكيا.(1/39)
ومن هنا كان لرأي المتخصص وزنه واعتباره عند العلماء، ومن مقولاتهم في ذلك: من غلب عليه فن يرجع إليه فيه دون غيره، وقالوا: اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، وقالوا: من تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعني، وقالوا: إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب، وقالوا: الخارج عن لغته لحان، والداخل في غير فنه يفضحه الامتحان(1).
وقال ابن حبان في الرد على من قال: إن علم الجرح والتعديل من الغيبة المحرمة: ولو تملق قائل هذا القول إلى باريه في الخلوة، وسأله التوفيق لإصابة الحق، لكان أولى به من الخوض فيما ليس من صناعته(2).
وقال الجرجاني: إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به أعضل الداء واشتد البلاء(3).
وقال ابن حزم: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون(4).
وقال الحميدي بعد أن ذكر الخلاف في موت أحد المحدثين: «على أن أبا سعيد بن يونس قد حكى قول أحمد بن محمد بن عيسى ولم يعترض عليه، وهو من أهل البحث عن أهل المغرب والاختصاص بمعرفتهم»(5).
فقد مشى كلام أحمد هذا وجعله مقبولا كما ترى: لأن أبا سعيد بن يونس المتخصص في رجال المغرب لم يعترض عليه.
وقال اللكنوي: فأجلة الفقهاء إذا كانوا عارين عن تنقيد الأحاديث لا نسلم الروايات التي ذكروها من غير سند ولا مستند إلا بتحقيق المحدثين(6).
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي (9/ 357) وفتح الباري: لابن حجر (3/ 683) وفتح المغيث للسخاوي (2/ 68) والحبل الوثيق في نصرة الصديق للسيوطي (ضمن الحاوي للفتاوي 1/ 326) وتحفة الأحوذي للمباركفوري (1/ 27) والتعالم لبكر أبو زيد (ص8).
(2) المجروحين (1/ 17).
(3) دلائل الإعجاز (ص482).
(4) مداواة النفوس ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (1/ 345).
(5) جذوة المقتبس للحميدي (2/ 542).
(6) عمدة الرعاية للكنوي (1/ 13).(1/40)
وقال الإمام يحيى بن معين لما سئل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة: ثقة معروف مشهور بالطلب كيس الكتاب، ولكنه يفسد نفسه يدخل في كل شيء(1).
وبهذا التقرير تعلم أن ما اشترطه السيوطي في المجدد في منظومته تحفة المهتدين بأحكام المجددين عندما قال:
وأن يكون جامعا لكن فن ... وأن يعم علمه أهل الزمن(2)
لم يتوفر هذا الشرط في غالب المجددين الذين ذكرهم في منظومته لأنه شرط عزيز، ربما ندر في زمانه فضلا عن زماننا، ولهذا لم يكن هذا الشرط متفقا عليه بين العلماء(3).
2- أخذ العلم عن أهله: فيجب على الطالب إذا ما أراد أن يبرز في لون من العلم أن يجالس أهل ذلك العلم البارعين فيه، ويدرس عليهم ويستخرج ما لديهم من دقائق ذلك العلم، لأنهم أخبر منه بالعلم وأطول عمرا فيه حتى وإن كان أكثر منهم اطلاعا فإن جلسة واحدة مع عالم متمكن ربما ذكر فيها فائدة استخلصها من خلال عمره المديد في ذلك العلم توفر عليه جهدا وفيرا ووقتا كثيرا.
__________
(1) السير للذهبي (11/ 480) وسيأتي مزيد بسط لهذا عند الكلام على العنصر الثالث من المعوقات والمثبطات.
(2) التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة للسيوطي (ص74) وانظر ندوة الإمام مالك دورة القاضي عياض (3/ 182).
(3) مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن هذا الأمر، وهو فساد كلام من تكلم في غير فنه، متفق عليه بين أصحاب الفنون وعند الناس قاطبة، إلا في علوم الشرع الشريف مع بالغ الأسف، فعلى حين نجد أن المهندر لا يتكلم في علم الطب، لأنه ليس من بابته والطبيب لا يتكلم في علم الجولوجيا لأنه ليس من صنعته وهكذا، نجد أن علوم الشرع أصبحت كلأً مباحا يرتع فيه كل من هب ودرج، فأضحى الكل يعالج الفتوى دون رادع، أو وازع فالطبيب يفتي والمهندس يفتي والحجام يفتي والنجار يفتي.. إلخ والله المستعان.
وعلوم دين الله نادت جهرة……هذا زمان فيه طي بساطي(1/41)
ولا يحتقر الطالب أحدا من العلماء فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر وقد استفاد سليمان عليه السلام من هدهد، واستفاد الكسائي من نملة.
قال المرتضى الزبيدي: إن الطالب لهذا الفن علم الخط والراغب فيه لا بد له من شيخ يريه دقائق الفن، ويحقق له حقائقه، ويكشف له رموزه ويفتح له لغوزه ويقرب له دقائقه فقد ورد في بعض الآثار عن بعض الأخيار: لولا المربي ما عرفت ربي فإذا يسر الله له الأستاذ فله معه شروط، ثم ذكر شروطًا ثمانية غاية في النفاسة(1).
وقال ابن العريف الأندلسي(2):
من لم يشافه عالما بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون
من أنكر الأشياء دون تثبت ... وتيقن فمعاند مفتون
الكتب تذكرة لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون
والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون
والشواهد في هذا المعنى كثيرة، بيد أني أنبه هنا إلى أمر مهم وهو: التزام الأدب مع الشيخ؛ لأن الشيخ لن يعطيك ما عنده إلا إذا وقرته وبجلته، فيجب على طالب العلم مراعاة حق الشيخ والقيام به على أكمل وجه، وهذا هو الذي يجعل الشيخ يقبل على تلميذه ويتحفه بالفوائد واللطائف، ولهذا كان الربيع بن سليمان المرادي، أخص تلامذه الإمام الشافعي، يقول: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له(3).
فلهذا ارتفعت منزلته عند الإمام الشافعي حتى كان يقول له: لو أستطيع أن أطعمك العلم لأطعمتكه(4).
3- عدم الاكتفاء بالدراسة المنهجية، بل لا بد من الاطلاع الواسع والمتابعة الحثيثة للجديد في ذلك العلم، لأن العلم والأفكار كالأشجار تنمو وتترعرع كل يوم، فما ترك بالأمس يطرق اليوم، وما أغفله المتقدمون يبحثه المتأخرون وهكذا فقولهم: ما ترك الأول للآخر شيئا، هذا كلام باطل صوابه كم ترك الأول للآخر.
__________
(1) حكمة الإشراق (ص109).
(2) نفح الطيب (4/ 319) وانظر الأدب الأندلسي للشكعة (ص66).
(3) مناقب الشافعي: للبيهقي (2/ 145).
(4) المصدر نفسه (2/ 147).(1/42)
ولا يقتصر طالب العلم على مجال النشر الكتابي بل عليه أن يتابع أيضا الدوريات والمجلات العلمية المتخصصة المحكمة ومواقع النت ذات الصلة كما ينبغي له أن يحرص على حضور المحاضرات والمؤتمرات والمناقشات وغيرها، مما له علاقة بذلك العلم الذي يتعاطاه.
ولا يغفلن عن رسائل الدكتوراه والماجستير المحررة المتقنة والتي تستحق أن تكتب بماء التبر المصفى، ولو أن هارون الرشيد وقف عليها لأخذها بوزنها ذهبا لما فيها من نفائس الأنفاس، وزلال اللآل والتحرير والتقرير مما لم يفطن السابقون إليه ولا حام طائرهم عليه، لكن كثيرا من تلك الأطاريح مع بالغ الأسف ما زالت حبيسة الأرفف لم تر النور بعد(1).
وبكل حال فينبغي أن يجمع طالب الفن بين القديم والمعاصر على حد سواء ويهتم بالجميع اهتماما واحدا، بحيث يكون عنده نهم وشغف بالاطلاع والبحث والمتابعة وليكن له فيما قاله ابن الجوزي عن نفسه حافزا على الاطلاع حيث قال رحمه الله: «وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز... ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب»(2).
وقال حمدون بن مجاهد الكلبي: «كتبت بيدي ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة كتاب، ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم أكتبه بعد»(3).
وقال محمد بن القاضي عياض: لما وصل إلى بلدنا كتاب المقامات للحريري وكنت لم أرها قبل لم أنم ليلة طالعتها، حتى أكملت جميعها بالمطالعة(4).
__________
(1) أضحت دور النشر في الآونة الأخيرة تتسابق إلى طباعة تلك الأطروحات فلله الحمد والمنة.
(2) صيد الخاطر لابن الجوزي (ص706).
(3) ترتيب المدارك للقاضي عياض (5/ 147).
(4) التعريف بالقاضي عياض لولده محمد (ص109).(1/43)
4- أخذ العلم على المسائل والجزئيات والتدقيق فيها: فهذا أنفع من الخبط فيه خبط عشواء، كما قال الزهري ناصحا أحد طلابه: «يا يونس لا تكابد العلم فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة، ذهب عنه جملة ، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام»(1).
وكذا قال الإمام مالك لابني أخته: «إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الشأن -يعني الحديث- فأقلا منه وتفقها فيه»(2).
وقال الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: «من تعلم علما فليدقق فيه لئلا يضيع دقيق العلم»(3).
وقال فيمن يحمل العلم جزافا: «هذا مثله كمثل حاطب ليل، يقطع حزمة حطب فيحملها ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري»(4).
وقد مهر بعضهم في العلم بسلوكه هذا المسلك كما ذكر عن علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، فقد كان هذا الرجل جنديا من الجنود في بلاط الخليفة الرشيد، قال ابن قادم: كان الأحمر صاحب الكسائي رجلا من الجند من رجال النوبة على باب الرشيد، وكان يحب علم العربية ولا يقدر على مجالسة الكسائي إلا في أيام غير نوبته وكان يرصد مصير الكسائي إلى الرشيد ويعرض له في طريقه كل يوم فإذا أقبل تلقاه وأخذ بركابه ثم أخذ بيده وماشاه إلى أن يبلغ الستر أي ستر الخليفة، وسائله في طريقه عن المسألة بعد المسألة.
__________
(1) الإلماع للقاضي عياض (ص220).
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 741).
(3) مناقب الشافعي: للبيهقي (2/ 142).
(4) المصدر نفسه (2/ 143).(1/44)
فإذا دخل الكسائي رجع إلى مكانه فإذا خرج الكسائي من الدار تلقاه من الستر وأخذ بيده وما شاه يسائله حتى يركب ويجاوز المضارب، ثم ينصرف إلى الباب فلم يزل كذلك يتعلم المسألة بعد المسألة حتى قوي وتمكن، وكان فطنا حريصا ولهذا لما قيل للكسائي: من تستخلف بعدك؟ قال: أستخلف علي بن الأحمر(1).
يقول ابن القيم في هذا الصدد: «من أراد علو بنيانه فعليه توثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه.
ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد»(2).
فعلى هذا ينبغي أن يمتن الطالب علمه بحفظ المتون، وأن يوصل نفسه بحفظ الأصول وأن يقرر علمه بقراءة التقريرات وأن يقرأ الحواشي حتى وهو ماشي، فإن الحواشي كما قال الزمخشري مخخة المتون كما أن الزيت مخ الزيتون.
5- تقديم الأهم على المهم، والأصل على الفرع، فإن هذا أكيس شيء في العلم وأنفعه كما قيل:
إن الطبيب إذا ألم بجسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا
خصوصا إذا علمنا أن العلم كثير، وأن العمر قصير، ولهذا قال سلمان رضي الله عنه لحذيفة رضي الله عنه ينصحه: «يا أخا بني عبس، إن العلم كثير والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه من أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانه»(3).
وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:
العلم إن طلبته كثير ... والعمر عن تحصيله قصير
فقدم الأهم منه فالأهم
__________
(1) معجم الأدباء للحموي (4/ 1670) فما بعد وبغية الوعاة للسيوطي (2/ 158) فما بعد بتصرف.
(2) الفوائد (ص156).
(3) حلية الأولياء (1/ 189).(1/45)
وقال الإمام ابن حزم: «من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليها كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر، وكغارس الشعراء(1) حيث يزكو النخل والتين»(2).
ثانيا: حب الفن والاقتناع به.
وهذا أمر ضروري فإن الذي يكره نفسه على أمر لن يتقنه فضلا عن أن يبدع فيه، لأن الإبداع ناتج عن حب الشيء والاقتناع به، ولذا فإنك تجد بعض المبدعين من ولعه بالدرس والبحث في العلم الذي يتعاطاه ربما تلهى به عن الضروريات المهمة كالأكل والشرب والنوم ونحوها، كما حكي عن صاحب الألفية ابن مالك أنه ذهب به إلى مكان للفرجة بدمشق ومعه بعض الرفقة فلما وصلوا غفلوا عنه لحظة فوجدوه منكبا على أوراق(3).
وكما ذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يذهب إلى نهر عيسى ومعه أرغفة يابسة يبلها في النهر ويأكلها، وهمته مصروفة للقراءة والتحصيل(4).
وذكر عن الشيخ حافظ الحكمي أن القهوة والشاي كانت توضع بين يديه بعد العصر وهو يقرأ ويبحث ثم ترفع بعد ذلك كما وضعت لم يشربها لانشغاله عنها بالعلم(5).
ومما يستلطف هنا قصيدة بديعة للعلامة محمد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي (ت 1322) هـ(6) فقد طلبه ملك السويد أوسكار الثاني لحضور مؤتمر تناقش فيه قضايا اللغة العربية، فكتب محمود هذا قصيدة بين فيها حبه للعلم ودأبه على التحصيل، منها هذه الأبيات(7).
ولما طعمت لذة العلم صيرت ... سواها من اللذات عندي كالسم
__________
(1) الشعراء شجرة من الحمص القاموس المحيط مادة شعر.
(2) مداواة النفوس (1/ 344) ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي.
(3) انظر نفخ الطيب للمقري (2/ 229).
(4) صيد الخاطر (ص395).
(5) أخبرني بذلك بعض قرابته.
(6) كان ابن التلاميذ من المبرزين في علوم اللغة العربية، وكانت له صولات ومناظرات كثيرة مع علماء عصره انظر ترجمته في الأعلام للزركلي (7/ 89).
(7) الحماسة السنية، الكاملة المزية، في الرحلة التركزية، لابن التلاميذ (ص9).(1/46)
ولما عشقت العلم عشق دراية ... سلوت عن الأوطان والأهل والخلم(1)
ولما علمت ما علمت بغربنا ... ترحلت نحو الشرق بالحزم والعزم
ولم يثن عزمي نهي حسناء غادة
... شبيهة جمل بل بثينة بل نعم
ولم يعم قلبي حب عذراء كاعب ... وحب العذارى قد يصم وقد يعمي
رحلت لجمع العلم والكتب ذاهبا ... إلى الله أبغي بسطة العلم في جسمي
وأمعنت في إدراك ما رمت نيله ... فأدركت ما أدركت بالصبر والحزم
وصرت بما أدركت من ذين هاديا ... بشمس على شمس ونجم على نجم
ومن هنا كان الفقر ظاهرة بين العلماء وذلك لأنهم قدموا لذة العلم باختيارهم على جميع اللذات ومنها الاشتغال بطلب الدنيا فافتقروا قال الشافعي: «فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار»(2).
وعليه فإن المكره على الشيء لن يبدع فيه، ولن يأتي بجديد لأنه في قرارة نفسه غير مقتنع بما يفعل، كما قال أبو إسحاق الصابي لصديق دخل عليه وهو مشغول بتأليف كتاب التاجي في أخبار بني بويه الذي أمره به عضد الدولة ابن بويه، حيث سأله عما يعمل فقال أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها(3).
وهذا هو الذي يظهر لنا السر في أن طلاب الجامعات الذين يتخرج منهم كل عام الآلاف، لا يتخرج منهم على الحقيقة إلا بضعة نفر ذلك لأن الطالب لا يقبل على التخصص الذي التحق به بحب ورغبة، بل يلجه إما لأنه تخصص سهل، أو بناء على رغبة أهله، أو مسايرة لأصحابه وزملائه، أو لأن له مستقبلا ماديا أرقى أو لغير ذلك، وكل هذا لا يثمر.
ثالثًا: الصبر وعدم استعجال النتائج:
__________
(1) الخلم هو الصديق الخالص المعجم الوسيط مادة خلم.
(2) مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 149).
(3) معجم الأدباء (1/ 131) وانظر كناشة النوادر: لعبد السلام هارون (ص97).(1/47)
وهذه النقطة متفرعة عن النقاط التي سبقتها، فينبغي على طالب العلم التريث للوصول إلى أفضل النتائج وهذه آفة يقع فيها كثير من المشتغلين بالعلم، وما هذا الركام المعروض في المكتبات من البحوث المرتجلة، والكتب المستعجلة إلا خير شاهد على هذا، فتجد أحدهم يتصدى للتأليف في مسألة من المسائل الكبار النازلة التي لو عرضت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، يؤلف فيها كتابا كبيرا في شهر أو شهرين، ولو حقق ودقق لبدا له وبدا.
ولهذا فقد جاء ذم العجلة في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها حديث عائشة في صحيح البخاري مرفوعا: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله»(1).
وحديث عبد الله بن سرجس مرفوعا «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة»(2).
وحديث سهل بن سعد الساعدي مرفوعا: «الأناة من الله والعجلة من الشيطان»(3).
فالعجلة لا شك أنها تؤدي إلى نتائج ضعيفة، لا سيما في المسائل العلمية التي تحتاج إلى تحر وتأن وتؤدة، وإليك بعض الأمثلة من حال سلفنا الصالح:
__________
(1) الصحيح، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم: باب إذا عرض الذمي وغيره.. (6/ 2539) (6528).
(2) الحديث أخرجه الترمذي في السنن كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة (4/ 321، 322) (2010) وحسنه الترمذي والألباني.
(3) الحديث رواه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة باب ما جاء في التأني والعجلة (4/ 322) (2012) بسند حسن.(1/48)
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري فقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن»(1).
قال النووي: وإنما أخر القضاء فيها، لأنه لم يظهر له في ذلك الوقت ظهورا يحكم به، فأخره حتى يتم اجتهاده فيه، ويستوفي نظره ويتقرر عنده حكمه ثم يقضي به ويشيعه بين الناس(2).
وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: «إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن»(3).
وقال ابن مهدي: سمعت مالكا يقول: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلي(4).
وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم(5).
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: «ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئا»(6).
وقال أيضا: كنت في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته(7).
ومما يستملح هنا أن أسامة بن منقذ الأمير المجاهد المشهور ألف كتبه بعد التسعين فقد ألف كتابه الاعتبار وهو ابن تسعين وكتاب لباب الآداب وهو ابن إحدى وتسعين سنة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل ثوما أو بصلا... (1/ 396) (567) وفي كتاب الفرائض باب ميراث الكلالة (3/ 1236 (1617).
(2) المنهاج للنووي (11/ 58).
(3) ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 178) والديباج لمذهب (ص23).
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) مناقب الإمام أحمد بن حنبل: لابن الجوزي (ص269).
(7) طبقات الحنابلة (1/ 268).(1/49)
وهذا الإمام البيهقي يقول عن مختصر المزني في الفقه الشافعي، لا أعلم كتابا صنف في الإسلام أعظم نفعا وأعم بركة وأكثر ثمرة من كتابه(1).
قال ابن خزيمة: سمعت المزني يقول: «كنت في تأليف هذا الكتاب عشرين سنة، وألفته ثمان مرات وغيرته، وكنت كلما أردت تأليفه أصوم قبله ثلاثة أيام وأصلي كذا كذا ركعة»(2).
وتجد الواحد منا اليوم يريد أن يتصدر في أشهر أو سنوات قليلة، وحتى لو تصدر فإنه لا يثبت لأن العلم الذي يأتي بسرعة يضمحل بسرعة وكم مر معي في كتب التراجم من أحوال العلماء الذين طلبوا العلم ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة بل ربما تمادى الأمر ببعضهم إلى أن يدركه الموت
وهو لا يزال طالبا مقيدا، كما ذكر الحميدي في ترجمة الحسين بن علي الفاسي قال: لم يزل يطلب ويختلف إلى العلماء محتسبا حتى مات،
حتى إنه اجتمع مع ابن حزم يوما فقال له: يا أبا علي، متى تنقضي
قراءتك على الشيخ؟ وكان ابن حزم يريد سماع كتاب آخر
من ذلك الشيخ فقال: إذا انقضى أجلي قال ابن حزم فاستحسنتها
منه(3).
وقد مثل ابن الجوزي هذا الأمر تمثيلا لطيفا حيث يقول: «شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين فتدرك الصنوبر، فتقول شجرة الدباء: إن الطريق التي قطعت في ثلاثين سنة، قد قطعتها في أسبوعين فيقال لك: شجرة ويقال لي: شجرة فتقول شجرة الصنوبر: مهلا إلى أن تتهب رياح الخريف»(4) يعني: أنها لن تثبت لها.
وفي هذا المعنى يقول سعدي الشيرازي:
والقول لم تعمل به التأملا ... كالثوب من غير قياس فصلا
قليله من بعد إعمال الفكر ... أفضل من طول الكلام في الهذر
لا ترم آلاف السهام خائبا ... وارم إذا تعقل سهما صائبا
__________
(1) مناقب الشافعي (2/ 348).
(2) المصدر نفسه (2/ 349) والمجموع للنووي (1/ 107).
(3) انظر جذوة المقتبس (1/ 299).
(4) اللطائف (ص22).(1/50)
خلاصة الأمر: أن المطلوب من المبدع هو التمهل والتريث وعدم الاستعجال وليس بالضرورة أن يبقى المبدع يعالج مسألة واحدة دهره كله فإن هذا ليس بلازم.
خير الأمور الوسط الوسيط ... وشرها الإفراط والتفريط
رابعا: الانصراف الكلي للعلم، ومواصلة البحث فيه، بحيث يكون وقت الطالب كله مستنفدا في البحث والنظر والتقييد والدرس والقراءة والحفظ.. إلخ فليس في قاموس المبدع شيء يسمى فراغا، بل كل وقته مشغول بما ذكرت، فإن العالم لا يؤمن بالراحة بل ولا يرتضيها، ولهذا درج السلف على مقولة: «لا يستطاع العلم براحة الجسم»(1) فكيف بالإبداع؟
والشقاء في الطلب أمر محبب للنفوس الوثابه، لأنه يوصل إلى المراد، ولله در من قال:
يقولون: كم تشقى بدرس تديمه ... وتمعن فيه دائبا كل إمعان
فقلت: ذروني إنما أنا كادح ... لأكمل ذاتي أو لأجبر نقصاني
إذا لم يكن نقصان عمري زيادة ... لعلمي فإني والبهيمة سيان
ولذا لم يكن العلماء يسمحون لأي إنسان كائنا من كان بتضييع شيء من وقتهم، أو بشغلهم عن الدرس والبحث والتحصيل حتى إن ابن الجوزي كان يقول: لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني وما يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما
__________
(1) هذه المقولة العظيمة توارد عليها عدد من العلماء، ولعل أول من قالها، هو يحيى بن أبي كثير انظر صحيح مسلم (1/ 428) والمحدث الفاصل: للرامهرمزي (ص202) وجامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 91) والغنية للقاضي عياض (ص154) وترتيب المدارك له أيضا (3/ 386) والإلماع : له أيضا (ص234) وإكمال المعلم له أيضا (2/ 577) وفيه سبب إيراد مسلم له، وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص26) والمنهاج للنووي (5/ 115) والتعريف بالقاضي عياض لابنه محمد (ص79).(1/51)
طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة وخصوصا في أيام التهاني والأعياد فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء والواجب انتهابه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين:
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف وإن تقبلته منهم ضاع الزمان فصرت أدافع اللقاء جهدي فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد، وبري الأقلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه(1).
وأعجب من هذا حال الإمام أبي بكر بن الأنباري اللغوي المفسر فقد حدث عن نفسه أنه مضى يوما في سوق النخاسين ، وجارية تعرض حسنة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى أمير المؤمنين الراضي فقال لي: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته فأمر بعض أسبابه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها فعلمت الأمر كيف جرى فقلت لها كوني فوق إلى أن أستبرئك، وكنت أطلب مسألة قد أحيلت علي فاشتغل قلبي فقلت للخادم خذها وامض بها إلى النحاس، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي فأخذها الغلام فقالت دعني أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تعين لي ذنبي، لم آمن أن يظن الناس في ظنا قبيحا فعرفنيه قبل أن تخرجني فقلت لها: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا أسهل عندي، فبلغ الراضي أمره، فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل(2).
__________
(1) صيد الخاطر (ص385).
(2) تاريخ بغداد (3/ 184، 185).(1/52)
فما بال الطلاب اليوم يرومون الإبداع والتفوق وقد شغلوا أنفسهم بالقيل والقال وأخبار الجرائد والماجريات وتخاليط المواقع والمنتديات فاستحقوا بذلك وصف شيوخ القمراء(1).
ولا يفهم من هذا أنني أدعو إلى العزلة عن الناس، والانطواء على النفس، كلا ولكن لا بد للإنسان من وقت يخلو فيه بنفسه ليتدبر ويتمعن ويقرأ ويبحث أما أن يبقى وقته كله مشغولا مع فلان وعلان، فهذا فيه ضياع الأعمار وانصرام الأوقات كما قال الحميدي(2).
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
وينبغي على الطالب الذي ينشد الإبداع، أن يجعل أنيسه وجليسه وسميره الكتب والأسفار فإن الإنسان إذا اتخذ الكتاب سميرا له وجليسا كان ذلك أعود عليه بالفائدة وأقرب إلى التألق والتفوق.
__________
(1) كان الأعمش يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمراء قلت: القائل سهل بن إسماعيل، لابن عقبة أحد رواة الأثر: ما معنى شيوخ القمراء؟ قال: شيوخ دهريون يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون بأيام الخلفاء، ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة المحدث الفاصل (ص306).
(2) الآداب الشرعية: لابن مفلح (3/ 456) وغذاء الألباب للسفاريني (2/ 476).(1/53)
وليجعل قدوته في هذا الإمام الألوسي حيث ذكر في مقدمة تفسيره روح المعاني رحلته مع القرآن وتفسيره منذ كان شابا يافعا، فقال: إني ولله تعالى المنة، مذ ميطت عني التمائم ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده، وفارقت قومي لوصال خرائده فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع إن أعوذ الشمع يوما على ضوء القمر في كثير من ليالي الشهر، وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو، ويرقلون في ميادين الزهو، ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح، ويهبون نفائس الأوقات لنهب خسائس الشهوات وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم كأن لبنى لبانتي ووصال سعدى سعادتي حتى وقفت على كثير من حقائقه ووفقت لحل وفير من دقائقه وتقبت والثناء لله تعالى من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثنا، وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع، وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات
الأشكال، وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب
من دقائق التفسير، وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير، ولست أنا أول من الله تعالى عليه بذلك، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك فكم وكم للزمان ولد مثلي، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي(1).
وليحاول مريد التفوق أن يصدق عليه ما قاله الشاعر المصري صالح جودت في وصف الباحث الطُلُعة(2).
ويرى في الكتب دون الناس أحبابا وسامر ... عاكفا كالعابد الخاشع في ظل الشعائر
نابشا بين التواريخ كجلاب الحفائر ... غارقا بين القواميس كغواص الجواهر
يرضع الأوراق بالحكمة من ثدي المحابر ... ويضحي لكتاب ذاهب الطبعة نادر
حافظا كل قديم ... دارسا كل معاصر
__________
(1) روح المعاني (1/ 3).
(2) من ديوانه ألحان مصرية بشيء من التصرف.(1/54)
هاتفا يا عصبة المال ... وطلاب المظاهر
كل ما أطلب من دنيا ... كمو بعض الدفاتر
خامسا: التصور الصحيح للفن والتخطيط السليم له:
وفائدة هذا الأمر تكمن في جعل الإنسان يتملك الفن ، ويعرف موالجه ومخارجه ليعرف أين يضع قدمه ومتى يستل قلمه، وما هي الثغرات في ذلك العلم التي تحتاج إلى بحث وتتبع واستقراء ليحاول سدها وملء فراغها.
ويعين على هذا الأمر الكتب الوصفية في كل فن وأعني بها الكتب التي تصف الفن وتطوره والمراحل التي مر بها وتصف كذلك المصنفات في ذلك الفن، وكذلك الكتب التي تعنى بدراسة الشخصيات البارزة في الفن نفسه.
والتصور الصحيح للفن منذ البداية يُيسّر للطالب عدة أمور:
1- مواصلة السير إلى النهاية بيسر وسهولة كما قال الإمام الغزالي: «كل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مباينة فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه»(1).
2- أنه يعين الطالب على الاقتصاد في الوقت والجهد فإن الذي يتصور الشيء جملة في بداية الأمر بماذا يبدأ؟ وماذا يقدم؟ لا شك أنه لن يستغرق وقتا طويلا في فهم ذلك الفن، والإحاطة به، ولن يستهلك كثيرا من مواهبه وجهده في دراسته وفهمه، بخلاف ما لو أنه لم يتصور العلم تماما فإنه سيقع في المشقة والجهد والعناء الذي لا معنى له.
وقد عانى من هذا الأمر كثير من العلماء، منهم العلامة الطاهر بن عاشور حيث يقول: «إني على يقين أنني لو أتيح لي في فجر الشباب التشبع من قواعد نظام التعليم والتوجيه، لاقتصدت كثيرا من مواهبي ولاكتسبت جما من المعرفة، ولسلمت من التطوح في طرائق تبين لي بعد حين الارتداد
عنها»(2).
__________
(1) المستصفى (1/ 4).
(2) أليس الصبح بقريب (ص9).(1/55)
كما أزيد الأمر جلاء فأقول: إن كثيرا من العلوم خصوصا علوم الآلة علوم سهلة قريبة محدودة لكن كثرة المجادلات والمناقشات والقيل والقال والافتراضات هي التي نفختها ووعرتها وأنت عند التحقيق واجد أنه لا جدوى لجمهرة من مسائلها وأنه لا يترتب عليها كبير عمل، وما أصدق قول من قال: «العلم نقطة كثرها الجاهلون»(1).
3- أنه يجعل الطالب في منأى عن التخبط والتخليط والدوران في حلقة مُفَرغة كما وقع لجماعة من العلماء دخلوا في علوم لم يتصوروها حق التصور ولم يدركوا أهدافها وغاياتها فوقعوا في الحيرة والتخبط ولم يصلوا فيها إلى شيء وأقل أحوالهم أنهم ضيعوا أوقاتهم فيما لا جدوى من ورائه كما حصل لبعض العلماء الذين دخلوا في علم الكلام المذموم منهم: الجويني والرازي وابن أبي الحديد والغزالي والشهرستاني، والخسروشاهي، والخونجي والكرابيسي وابن واصل الحموي والشوكاني في أول أمره وغيرهم(2).
__________
(1) هذه المقالة البليغة تنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد اعتنى بها العلماء فأفردوا في شرحها مصنفات مستقلة منها زيادة البسطة في بيان العلم نقطة لعبد الغني النابلسي (ت 1143هـ) ونثر الدر وبسطه في بيان كون العلم نقطة لأحمد بن محي الدين الإغريسي الجزائري ت 1320 هـ ومن أهل العلم من حملها على محمل آخر فقال: أي صاروا يعني الجاهلين سببا في التكثير لحصول التيسير انظر سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر: للمرادي (3/ 36) وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر: للبيطار (1/ 305) وحاشية لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر للعدوي (ص26) ومعجم المؤلفين، لكحالة (2/ 173) والتعالم لبكر أبو زيد (ص7).
(2) انظر مقالاتهم في درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/ 159-165) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 243) وأدب الطلب للشوكاني (ص189) وموسوعة أهل السنة: لعبد الرحمن دمشقية (2/ 742) ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن (2/ 740).(1/56)
فإذا تم لك يا طالب العلم التصور الصحيح للعلم المراد فعليك بعد ذلك بالتخطيط السليم له، من حيث الكم والوقت والصاحب على المدى البعيد ولا تكن ابن يومك فحسب، بل كن ابن يومك وغدك، واستمع إلى ابن عباس رضي الله عنهما يحكي لك كيف كان يطلب العلم، وكيف خطط للمستقبل فقد أخرج الحاكم عنه أنه قال: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير فقال: وا عجبًا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فيهم؟ قال: فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك قال: فأسأله عن الحديث فعاش هذا الرجل الانصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني.
فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني(1).
أما إذا لم تستطع التخطيط لنفسك، فاستعن بمن سبقك ومن هو أعلم منك خصوصا من كان من أهل ذلك العلم المراد فقد كانوا يسألون عن ذلك ويتطلبونه كما جاء عن يحيى بن مجاهد الفزاري عندما قال: «هذا أوان طلبي للعلم إذا قوي فهمي واستحكمت إرادتي قال بعض تلاميذه فقلت له: فعلمنا الطريق لعلنا ندرك ذلك باستقبال أعمارنا، قال: نعم: كنت آخذ من كل علم طرفا فإن سماع الإنسان قوما يتكلمون في علم وهو لا يدري ما يقولون غمة عظيمة»(2).
__________
(1) المستدرك (1/ 106) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري وهو أصل في طلب الحديث وتوقير المحدث ووافقه الذهبي.
(2) جذوة المقتبس للحميدي (2/ 605).(1/57)
ثم إذا حصل لك ذلك من التصور الجيد والتخطيط السليم فالتزم به وعض عليه ولا تضيع شيئا منه، أو تؤخره لأي سبب كان واجعله واجبا عليك وفرضا لازما لا تنفك عنه، ولا تنس أن أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة وإن قل، وكان الإمام أحمد يقول: «يعجبني أن يكون للرجل ركعات من الليل والنهار معلومة فإذا نشط طولها، وإذا لم ينشط خففها»(1).
وقد مرت علي أخبار نفر من أهل العلم كانوا يلتزمون برنامجا يوميا محددا ولا يمكن أن يؤثر عليهم أي مؤثر في تسلسل برنامجهم مهما كان ذلك المؤثر.
منهم يحيى بن قاسم القيسي الفقيه العالم العابد: كان يغدو إلى المسجد لصلاة الصبح فيصلي فيه ثم يقعد في مصلاه إلى الضحى، فيصليها وينصرف إلى داره، فيقيل إلى الظهر فيصليها، ويصلي العصر، ويجلس في المسجد إلى المغرب فيصليها ويصلي إلى العتمة، وتزوج بامرأة فدخلت عليه في السحر وقت خروجه إلى المسجد فسلم عليها ودعا لها ثم خرج فلزم ترتيبه ولم يدعه(2).
وقريب من ذلك قصة أديسون فإنهم بحثوا عنه في يوم زواجه فوجدوه منهمكا على تجاربه في المعمل وغيرهم كثير.
لكن مع الأسف فإن الالتزام بالبرنامج أصبح من يطبقه اليوم ويحافظ عليه هم علماء الغرب، أما معظم المسلمين اليوم فجهودهم في الغالب مبعثرة وحياتهم غير منظمة ولقد صدق من قال(3):
درجنا على فوضى أضاعت جهودنا ... وغالوا بترتيب الجهود وأقدموا
وقد يرجع الحق المشوش خائبا ... وينتصر البطلان وهو منظم
__________
(1) غذاء الألباب للسفاريني (2/ 507).
(2) ترتيب المدارك للقاضي عياض (4/ 428).
(3) رباعيات مختارة لإلياس قنصل (ص117).(1/58)
سادسًا: بقاء المبدع في جو علمي كامل: بحيث يكون المحيط الذي يعيش فيه محيطًا علميًا، فإن هذا أرجى للإبداع والتفوق، وإن لم يكن كذلك فليحاول جهده أن يطوع الواقع من حوله ليكون كذلك ، ولذا نجد أن الدول الكبرى تحرص على أن تنشأ مدنا جامعية متكاملة فيها المساكن والخدمات المعيشية ووسائل الترفيه حتى يبقى الأستاذ والطالب طيلة الأسبوع داخل هذه الدائرة العلمية.
ولقد كان العلماء قديما يحرصون ويتطلبون مثل هذه الأماكن المهيأة للعلم حتى ولو شطت ونأت وتباعدت وما الرحلة في طلب العلم والحديث إلا خير شاهد على هذا بل ربما ترك أحدهم مسقط رأسه ومحلة قومه، ورحل إلى بلد يبقى فيه حتى يموت، كما حصل لجماعة من العلماء منهم معمر بن راشد البصري فإنه من الطارئين على اليمن لكنه طاب له المقام فيها فبقي فيها حتى توفي(1).
__________
(1) السير للذهبي (7، 8).(1/59)
ومثله أبو الفضل المراغي حيث رحل لطلب العلم في بغداد وكانت بغداد في ذلك الوقت قاعدة الخلافة وحاضرة الدنيا فمكث يطلب العلم فيها خمس سنين ثم رحَّل دابته ووضع عليها متاعه وخرج إلى الحلبة يريد طريق خراسان ليرجع إلى بلده وتقدمه الكري(1) بالدابة وأقام هو على فامي(2) يبتاع طعامه فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر: أي فل -يعني: يا فلان- أما سمعت العالم يقول: إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقول وظللت فيه مفكرا ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب: { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } [ص: 44]، وما الذي يمنعه من أن يقول له حينئذ : قل إن شاء الله فلما سمعته يقول ذلك، قلت: بلد يكون الفاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة(3) لا أفعله أبدا.
واقتفى أثر الكري، وحلله من الكراء وصرف رحله وأقام ببغداد حتى مات(4).
ولهذا لما مر العز بن عبد السلام بالكرك بعد أن غضب عليه والي دمشق تلقاه واليها بالترحاب وسأله الإقامة عنده فقال له العز: بلدك صغير على علمي(5).
وعليه فليحرص طلاب الجامعات على الاستفادة من كل لحظة يقضونها أثناء دراستهم الجامعية، لأن الفترة محدودة والوقت يمر مر السحاب.
__________
(1) الكري: هو الذي يؤجرك دابته فعيل بمعنى مفعل انظر المعجم الوسيط (مادة كرى).
(2) الفامي: هو بائع الطعام من بقول وخبز ونحوها مغير عن فومي انظر القاموس المحيط (مادة فوم).
(3) المراغة هي مدينة أذربيجان الروض المعطار للحميري (ص535).
(4) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 647).
(5) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 210).(1/60)
سابعا: التقصي في البحث والاستفادة ما أمكن من الغير والبداية من حيث انتهوا وهذا يغفل عنه كثير ممن يريد أن يبدع فإن الإنسان لا يستطيع أن يبدع في مسألة أو علم إلا إذا أحاط بجوانب الموضوع وأمسك بتلابيبه وتملك ناصيته عندها يكون طرحه قويا ناضجا، وعندها يقر له القاصي والداني.
كذلك فإنه يجب على المبدع الاستفادة من كل أحد صغيرا كان أم كبيرا، فلا يحتقر أحدا لأن الحكمة ضالة المؤمن وقصده.
كما أنه ينبغي أن يبدأ من حيث وقف غيره ولا يكرر جهود سلفه فيجتر المسائل كما هي دون أن يحاول أن يضيف شيئا بل يزيد عليها ويضيف إليها ويسعى في تطويرها وتحديثها ما أمكن، ولو أن يعيد طرحها في قوالب جديدة تناسب عصره ، وما التكنولوجيا المعاصرة وتطورها الحثيث إلا خير شاهد على هذا الأمر، وليس عيبا أن يستفيد الإنسان من جهود من سبقه فإن شيخ الإسلام ابن تيمية ربما قرأ في تفسير الآية الواحدة مائة تفسير قبل أن يدلي فيها بدلوه، كما ذكر هو عن نفسه(1) هذا مع رسوخ قدمه في العلم وإمامته فيه فكيف بمن هو دونه؟
**********
الفصل السابع
حوافز الإبداع العلمي
وأعني بها تلك الأمور التي تساعد الإنسان في عمله الإبداعي، وتوصله إلى أفضل النتائج وأحسن العوائد كما أنها تحفزه وتنشطه وتعينه على المواصلة والمتابعة وهي:
أولاً: الحوافز المادية والمعنوية، سواء كانت من الدولة أو من المجتمع، وتتمثل في الآتي:
1- توفير الضروريات والحاجيات والكماليات الشخصية للمبدع من مال وسكن وأمن وخدمات وغيرها، وذلك حتى يتفرغ للعمل والإنتاج، فإن الذهن المشغول لا يمكن أن يتوفر على عمل فضلا عن أن يبدع
كما قيل:
لن يدرك الحكمة من عمره ... مشتغل في خدمة الأهل
ولن ينال العلم إلا فتى ... خال من الأفكار والشغل
لو أن لقمان الحكيم الذي ... سارت به الركبان في الفضل
بلي بفقر وعيال لما ... فرق بين التبن والبقل
__________
(1) العقود الدرية (ص29).(1/61)
ثم لا بأس أن نجعل منزلته في العلم وقدرته على الإنتاج والإبداع هي المقياس في زيادة الحوافز المادية أو المعنوية أو تقليلها وهذا أمر لا حرج فيه شرعا فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذروة سنام الإسلام الجهاد: «من أقام البينة على أسير فله سلبه»(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - «من قتل قتيلا له عليه بينة فله
سلبه»(2).
فأباح للمجاهد أن ينفرد بسلب الأسير والقتيل دون البقية لزيادة عمله وجهده.
وفي مسند الإمام أحمد(3) أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجابية فقال: إن الله عز وجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسمه له، ثم قال: بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة فقالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بيننا فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلما وعدوانا ثم أشرفهم ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف ولمن كان شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف ولمن شهد أحدا ثلاثة آلاف.قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 324).
(2) أخرجه البخاري في الصحيح كتاب الخمس باب من لم يخمس الأسلاب (3/ 1144) (2973) ومسلم في الصحيح كتاب الجهاد والسير: باب استحقاق القاتل سلب القتيل (3/ 1370) (1751).
(3) 25/ 245) (15905) وقال محققوه رجاله ثقات.(1/62)
ولا شك أن الاشتغال بالكسب والبحث عن لقمة العيش والصفق في الأسواق مله عن العلم، شاغل عن التحصيل فكيف بالإبداع والتفوق وقد ؟ أشار إلى هذا المعنى أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين حيث قال: إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون ...(1).
وقد بين عمر رضي الله عنه السبب الذي جعله لا يعرف سنة الاستئذان كما في قصته مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بأنه ألهاه الصفق في الأسواق(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح كتاب العلم باب حفظ العلم (1/ 55) (118) ومسلم في الصحيح كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي هريرة (4/ 1939) (2492).
(2) أخرجه البخاري في الصحيح كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة (2/ 727) (1956) ومسلم في الصحيح كتاب الآداب باب الاستئذان (3/ 1694) (2153).(1/63)
إذا فالاشتغال بالمال والكسب وضروريات العيش شاغل عن العلم والتحصيل فينبغي ضمان هذا الأمر للعالم المبدع، كيما يتوفر على عمله دون عوائق أو صوارف، ولقد كان هذا ديدن السلف أيضا: فهذا عبد الله بن المبارك كان يفرق المال على العلماء والمحدثين ليتفرغوا لنشر العلم ليس في بلده بحسب بل في سائر البلدان والأمصار، حتى عوتب في ذلك فقال: «إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا. أعلم بعد النبوة أفضل من العلم»(1).
وهذا عبد الله بن طاهر أمير خراسان رتب لأبي عبيد القاسم بن سلام في كل شهر عشرة آلاف درهم لما وضع كتابه في غريب الحديث.
وقال: «إن عقلا يعين صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق أن لا يحوج المعاش»(2).
وغير خاف ما كان يصنعه الخلفاء الأمويون والعباسيون وغيرهم من التشجيع على العلم والإنفاق عليه بسخاء حتى كان بعضهم يزن الكتاب الذي يؤلفه له العالم بثقله ذهبا، لذا فإنه يتوجب على حكومات الدول الإسلامية وأصحاب الأموال فيها الإنفاق بسخاء على المراكز والمؤسسات والهيئات العلمية في كافة المجالات والتخصصات.
__________
(1) تاريخ بغداد للخطيب (10/ 160) والسير للذهبي (8/ 387).
(2) نزهة الألباء: لابن الأنباري (ص111) وإنباه الرواة للقفطي (3/ 16).(1/64)
وبشيء من الموازنة بين الواقع في البلاد الإسلامية والواقع في الغرب نجد أن دول أوربا وأمريكا والصين واليابان قد أولت هذا الجانب عناية فائقة ولذا تقدمت في مجالات وميادين العلوم التطبيقية تقدما هائلا وحسبك أن تعلم أن مراكزًا من المراكز العلمية الكثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية واسمه مركز أبحاث الخلق وهو مركز يهتم بالبحث عن أصول الإنسان وتطوراته يعمل في هذا المركز أكثر من أربع مائة وخمسين عالما فما هي الفائدة التي ستجنيها أمريكا من هذا المركز الضخم في حضارتها المادية المعاصرة؟ اللهم إلا
تشجيع العلم والعلماء في كافة المجالات.
ولهذا لا يستغرب أن يؤدي هذا البذل والسخاء عندهم إلى استنزاف عقول إسلامية كثيرة هاجرت إلى بلاد الغرب بحثا عن هذه الحوافز التي لم يتوفر لها أقل القليل منها في بلادها خصوصا المادية منها، وهذه الهجرة إلى بلاد الكفار والاستقرار فيها، مع كونها غير جائزة شرعا في أكثر الأحوال لما يترتب عليها من المفاسد الكثيرة(1) إلا أن الحكومات الإسلامية تتحمل النصيب الأكبر من جريرة ضياع هذه العقول وهجرتها إلى الأعداء فإلى متى يستمر هذا النزيف؟
«إن العقل المسلم اليوم والمهارات والسواعد الإسلامية تشكل مساحة كبيرة في آلية التقدم العلمي والتقني في الغرب(2).
__________
(1) انظر شيئا منها في مقدمة الدكتور/ عبد الله التركي لكتاب: هجرة العلماء من العالم الإسلامي للدكتور/ محمد عبد العليم مرسي.
(2) بل قد تستغل هذه العقول والسواعد وتوجه ضدنا كما حصل في قصة الربّان/ أحمد بن ماجد السعدي ومثله الحسن بن محمد الوزان الملقب بـ(ليون الإفريقي)، حيث استغلهما الإفرنج للنيل من الإسلام وأهله، انظر قصتهما بالتفصيل في تاريخ الأدب الجغرافي العربي: لكراتشكوفسكي (ص488، 619) والأعلام للزركلي (1/ 200) و(2/ 217) ومدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي للطناحي (ص208).(1/65)
وإن مجموعة الأدمغة المهاجرة من العالم الإسلامي لسبب أو لآخر لو أتيحت لها الظروف والشروط والمؤسسات المناسبة لاستطاعت أن تختصر مسافة التخلف، وتردم فجوته بل وتستطيع أن تقدم شيئا آخر لا يزال مفقودا على مستوى الحضارة البشرية، إن هجرة الكفاءات من البلاد العربية فقط، تكلف الأمة ما يزيد على مائة مليون دولار سنويًا من رأس مالها عدا الخسارة الدائمة من عائد هذا الاستثمار، والتخلف الذي يورثه على مختلف الأصعدة»(1).
وقد أظهرت الإحصائيات أنه في عام 1969، 1970 بلغ عدد المهاجرين إلى الولايات المتحدة فقط، أكثر من ستة عشر ألف عالم من البلاد العربية والإسلامية، منهم أكثر من ثلاثة آلاف طبيب وقد تزايد هذا العدد كثيرا بعد ذلك(2).
__________
(1) من مقدمة الأستاذ/ عمر عبيد حسنه لكتاب قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر للدكتور/ زغلول راغب النجار (ص18).
(2) طبقا لآخر دراسة أجرتها أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، فقد هاجر من مصر أكثر من مليوني عالم من بينهم 620 عالما في علوم نادرة على رأسهم 94 عالما متميزا في الهندسة النووية، و26 في الفيزياء الذرية، و72 في استخدامات الليزر، و93 في الإلكترونيات والميروبروسيسور، و48 في كيمياء البوليمرات .. إلخ، مجلة المجتمع عدد (1648) في (23/ 4/ 2005م).
وأحيل القارئ الكريم إلى قراءة كتابين قيمين في هذا الشأن هما كتاب كارثة في العالم الإسلامي وكتاب هجرة العلماء من العالم الإسلامي، كلاهما للدكتور/ محمد عبد العليم مرسي.(1/66)
إن هناك خللا كبيرا في برامج التعليم لدى المسلمين، وخللا أكبر في استثمار تلك الأعداد الهائلة من المتعلمين، لا سيما ذوي الكفاءات منهم فيما يعود بالنفع والفائدة على بلدانهم الإسلامية، وما زالت تلك البرامج العقيمة في بعض البلاد كما وضعت قبل عشرات السنين لم يطرأ عليها تغيير ذو بال!(1).
2- توفير الجو العلمي المُلائم سواءً من حيث الزمان أو المكان أو المقدَّرات؛ لأنَّ هذا أدْعَى إلى صَفاء الذِّهن واجتماع الفكر على المبدِع، مع ما يُسانِدُ هذا من صِحَّة في البدن وهمَّة في النفس، كما ذكرنا في الأسس، فقد كان هذا أُمنيَة العلماء كما تحدَّث بلسانهم ابن جُزي الكلبي صاحب التفسير المشهور عندما قال:
لكل بني الدنيا مُرادٌ ومقصدٌ ... وإنَّ مرادي صحةٌ وفراغُ
لأبلُغ في علم الشريعة مبلغًا ... يكون به لي للجنان بلاغُ
ففي مثل هذا فليُنافس ذوو النُّهى ... وحسْبِيَ من دار الغُرور بلاغُ
__________
(1) انظر ماذا صنعت الولايات المتحدة بمناهجها التعليمية عندما فاجأها الاتحاد السوفيتي بإطلاق أول قمر صناعي سبوتنيك في الفضاء عام (1958م) حيث ثارت ثائرتها وبادرت فسنت قانونا جديدا يقضي بتحسين تدريس العلوم والرياضيات واللغات الحية في المدارس الابتدائية والثانوية، ورصدت لذلك مئات الملايين من الدولارات، راجع كتاب كارثة في العالم الإسلامي للدكتور/ محمد عبد العليم مرسي (ص20-24) .
يقول أحد المهتمين: إن نظامنا التعليمي الحالي لا يعد الطالب إلا لأحد أمرين: تولي وظيفة كتابية صغيرة أو إكمال دراسته الجامعية صحيفة عكاظ عدد (9924/ ص10).(1/67)
وقد كانت هذه سِِمَة من سِمَات الحضارة الإسلامية السالفة، فقد كان العلماء يُفرَّغون للعمل في دُورِ العلم أو المدارس، وتُفرضُ لهم عَطاءات تُغنيهم، وتُوفّر الخدمات لهم، والشَّواهد على هذا كثيرة على مَدار التاريخ، بل حَدَث ما هو أعجب، فهذا المستشرق (فيتشخل) يقول: لقد كان في قرطبة وَحْدَها حانُوت لنسخ الكتب، يستخدِم أكثر من مائتين من الجَواري في نَقْل المصنفات لطلاب الكتب النادرة واستنساخها وهذه ظاهرة لم تعرف بهذه المثابة في أي حضارة إنسانية غير حضارة الإسلام، وهي تؤكد على حقيقة أن المسلمين أمة قارئة كاتبة، وأن الإسلام دين يحث معتنقيه على العلم والتحصيل وتلك سمة الحضارة وعلامة المتحضرين(1).
3- تمكين العالم من تخصصه الذي يرتاح إليه ويبدع فيه والسَّماح لكل إنسان بالتأليف أو التدريس في المجال الذي يجد نفسه فيه، فإن هذا يساعد على الإبداع فلا يصلح أن يكون مبدأ الحاجة أو الوجاهة أو الاتكالية أو زيادة الحوافز هو المقدم بل الرغبة والإقبال على العلم.
ويحضرني هنا قصة زين الدين ابن أبي الحرم الدمشقي، وهو من أقران ابن سيد الناس، وكان عداده في كبار الفقهاء والمفتين، ولكنه ولي درس الحديث في القبة المنصورية من قبل جمال الدين آقوش، فتكلم الناس
في ذلك وصار صغار الطلبة ينقلون إلى ابن سيد الناس ما يحصل لهذا الرجل من أغلاط فيقولون: صحف في كذا وكذا ووهم في كذا حتى قال فيه الكمال جعفر:
بالجاه تبلغ ما تريد فإن ترد ... رتب المعالي فليكن لك جاه
أو ما ترى الزين الدمشقي قد ولي ... درس الحديث وليس يدري ما هو
__________
(1) جريدة المدينة عدد (5949)27/ 9/ 1403 هـ نقلا عن كتاب صفحات من صبر العلماء، لأبي غدة (ص210).(1/68)
وكان هو يعرف هذا من نفسه، فيقول: ولَّونا ما يضحك فيه الصبيان منا، يعني: درس الحديث ومنعونا ما نضحك فيه على الأشياخ يعني: درس الفقه لأنه كان فيه ماهرا(1).
4- تقدير المبدعين ورفع منزلتهم في الناس، بحيث يكونون في محل الصدارة والتقدم على من سواهم، ويتمثل هذا في الرجوع إليهم في العلم والسؤال على المستوى العام والخاص، وجعلهم محلا للتكرمة والرفعة وتقديمهم على من سواهم في الحوافز والمميزات، بحيث لا يتقدم عليهم غيرهم، وإشعارهم دائما بمكانتهم العالية في المجتمع، فإن العالم المبدع إن رأى تقصيرا في هذه الأمور، ربما عاد ذلك عليه بالسلبية في علمه، كما حصل ذلك لجماعة من العلماء، أذكر منهم عبد الملك بن حبيب القرطبي العالم المشهور فإنه لما حضر زرياب المغني إلى الأندلس، وحصل له من
الحفاوة والاحتفال الشيء الكثير، قال هذا العالم يندب حظه في ذلك المجتمع(2).
صلاح أمري والذي أبتغي ... سهل على الرحمن في قدرته
ألف من الحمر وأقلل بها ... لعالم أوفى على بغيته
زرياب قد يأخذها دفعة ... وصنعتي أشرف من صنعته
__________
(1) انظر خبره في الدرر الكامنة لابن حجر: (3/ 161، 162).
لطيفة ذكر الحافظ في ترجمته أنه كان في خلقه زعارة وشدة، فمن ذلك، أن طالبا بحث معه فطلب منه النقل، فأخذ نعله وكشف رأس الطالب، وصار يضربه، ويقول: هذا النقل الذي طلبت.
(2) جذوة المقتبس للحميدي (2/ 449) وبغية الملتمس للضبي (2/ 492).
قلت: وما زال ضياع الأموال على أهل اللعب والمجانة مستمرا والله المستعان، فقد نشرت إحدى الصحف بتاريخ (2/ 8/ 1414هـ) عدد (10674) تفاصيل حفل اعتزال أحد لاعبي كرة القدم حيث ذكرت أنه تم استقدام أحد أندية أوربا المشهورة خصيصا لهذه المناسبة، أما الهدايا التي قدمت للاعب فهي كالتالي (480) ألف ريال نقدا ثلاث سيارات لكزس م94 سيارة جمس م94 أكثر من ثلاثين درعا عشرون هدية خاصة هدايا مالية أخرى لم يفصح عنها.(1/69)
وكذا الحال بالنسبة لعبد القاهر الجرجاني فقد قال عنه القفطي: وأشعاره كثيرة في ذم الزمان وأهله وكان هذا الأمر هو السبب في تقصيره إذا صنف إذ لم يجد راحة ممن جمع لهم وألف(1).
خلاصة الأمر: أنه يجب توفير جميع متطلبات العيش الكريم بحاجاته الخمس كما جاءت في السلم الهرمي عند ماسلو الذي سماه بتحقيق الرغبات الشخصية ابتداء من أسفل الهرم: الحاجات العضوية ثم الحاجة إلى الأمن ثم الحاجة إلى الانتماء، ثم الحاجة إلى تقدير الذات، ثم الحاجة إلى تحقيق
الذات.
ثانيًا: المنافسة الشريفة، وهذا أمر محمود حث عليه الشرع في الخير، فقال تعالى في صفة المؤمنين أصحاب الجنة: { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 25،
26].
وقد نافس النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة في غير ما حادثه، وقد كان الصحابة يتنافسون في مجال الخير، ومن ذلك القصة المشهورة التي رواها الترمذي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، عندما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة، فجاء عمر بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله فقال عمر: والله لا أسبقه إلى شيء أبدا(2).
فالمقصود أن توظيف عنصر التنافس بين العلماء والباحثين أمر محمود يساعد على تقدم العلم والإبداع فيه وزيادته باستمرار واطراد لأن عنصر التنافس بين ذوي الطموحات العالية ليس موجودا في النفس فحسب، بل هو مترسخ فيها، فإشعاله وشحذه وإذكاؤه باستمرار كفيل بتحقق الإبداع وحصوله، وما الردود والمناظرات، والمجادلات والكتابات بين العلماء إلا مظهر من تلك المظاهر.
__________
(1) إنباه الرواة للقفطي (2/ 190).
(2) السنن كتاب المناقب باب في مناقب أبي بكر وعمر (5/ 574(3675).(1/70)
ومن شواهد ذلك المنافسة التي كانت بين أبي العباس بن سريج القاضي وبين أبي بكر محمد بن داود الظاهري الإمام المشهور، فقد كان بينهما منازعات لطيفة(1) فكانا يتناظران ويترادان في الكتب، لكن ابن سريج عندما مات أبو بكر الظاهري أسف على موته، وحزن، وجلس في عزائه على التراب، وأخذ يبكي ويقول: ما آسى إلا على لسان أكله التراب من أبي بكر(2).
ويحكى عنه، وهذا هو الشاهد، أنه لما بلغته وفاته كان يكتب شيئا فألقى الكراسة من يده، وقال: مات من كنت أحث نفسي وأجهدها على الاشتغال بمناظرته ومقاومته(3).
ثالثًا: الصدمة النفسية، وهو أمر يحصل للإنسان، ربما في موقف عابر أو مجلس حافل، فيوقظ إحساسه، ويهز شعوره هزا عنيفا، فيكون سببا وسندا لإبداعه وتألقه وتفوقه فإن النفس الإنسانية فيها طاقات هائلة، ربما بقيت خامدة هامدة، حتى يأتي ما يثيرها ويخرجها، وهو ما يسمى بالصدمة النفسية الشعورية وهو سلاح ذو حدين، ربما أدى بالإنسان إلى الهلاك، وربما كان دافعا له إلى الإبداع والتألق، إذا كان متحليا بالشجاعة، وقد مر شيء من ذلك في الأسس والمرتكزات.
__________
(1) من ذلك أنه قال للظاهري يوما أنت تقول بالظاهر، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فمن يعمل نصف مثقال؟ فسكت محمد طويلا، فقال له ابن سريج: لم لا تجيب؟ فقال: أبلعني ريقي، قال: أبلعتك دجلة انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 66).
(2) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 24).
(3) الوافي بالوفيات : للصفدي (3/ 60) وانظر مجموعة الرسائل الكمالية لمحمد سعيد كمال رقم (5) (ص172).(1/71)
والفيزيائيون يقولون وهو القانون الأول من قوانين الحركة: إن الجسم يبقى في حالة سكون، أو في حالة حركة مستقيمة منتظمة ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي يجبره على التحول عن حالته من سكون أو حركة(1).
ولذا فإن أجمل القصائد وأبدع المقطوعات الشعرية هي التي يقولها صاحبها بعد معاناة نفسية حادة، أو عقب صدمة شعورية ، كما قيل لبعض الأعراب: ما بال شعر الرثاء عندكم هو خير شعركم؟ فقال: لأنا نقوله وقلوبنا تتفطر حسرة.
وممن جرى له شيء من هذا الكسائي فإنه جلس يوما مع جماعة من الناس وكان قد مشى حتى تعب، فقال: قد عييت فعابوا عليه هذه الكلمة وقالوا: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فسألهم وكيف لحنت، فأجابوه إن كنت أردت من التعب فقل: أعييت، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة فقل: عييت فأنف من هذه الكلمة، وقام من فوره، وسأل عمن يعلم النحو، فأرشد إلى معاذ الهراء فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم عمد إلى الخليل، ثم خرج إلى البادية فكتب حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ حتى تصدر وتأهل(2).
وكذلك سيبويه فإنه قد لحن في مجلس حماد بن سلمة فغضب من هذا وأنف وقام من مجلسه وقال: لا جرم لأطلبن علما لا تلحِّنني فيه أبدا، فلازم الخليل حتى نبغ في النحو كما هو معروف(3).
رابعًا: الزمان والمكان، وهما عنصران مساعدان وليسا أساسيين.
ولقائل أن يقول: لماذا لم تقدم الوقت أو الزمن في الأسس رغم أهميته، وجعلته عاملا مساعدا فقط؟ وجوابا عن هذا الملحظ أقول:
__________
(1) انظر أعلام الفيزياء في الإسلام: لعبد الله الدفاع (ص87) وهذا القانون ينسب إلى نيوتن والصحيح أن ابن سينا قد سبق إليه في كتابيه: الإشارات والتنبيهات والشفاء.
(2) انظر بغية الوعاة للسيوطي (2/ 163).
(3) انظر مقدمة ما تلحن فيه العامة: للكسائي (ص12) وإنباه الرواة للقفطي (2/ 350).(1/72)
إن كثيرًا من الناس يخطئون في فهم الزمان ظنا منهم أنه هو صانع الحركة، وأن الحركة لا تحدث إلا بقوة الزمان فإذا قلت لأحدهم: اعمل أو اجتهد أو ثابر، قال: ليس عندي وقت يكفي أو قال: إن الوقت لم يعد فيه بركة كما كان عند السلف، إلى غير ذلك من المقولات، فنتج عن هذا أن حمل الناس الزمان عيوبهم وتخاذلهم وجعلوه مشجبا يعلقون عليه أخطاءهم وكسلهم.
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا
وهذا الفهم إن لم أقل إنه قد قتل روح الطموح، وأثخن العزائم والهمم إلا أنني لا أشتط في الحكم إن قلت: إنه ليس أضر على العالم وطالب العلم منه.
إن الحركة هي المسيطرة على الزمان وليس العكس، فإن الإنسان لا يعيش كمية وقت ولكنه يعيش كيفية حركة، والمرء لا يعيش وقتا يستوعب أعمالا، وإنما يعيش أعمالا تستغرق مددا ولهذا نجد بعض العلماء يعيشون ثلاثين أو أربعين سنة ولكنهم يحيون قرونا متطاولة بعلمهم وفكرهم وطرحهم.
وهذا الزمن هو ما يسمى بالزمن الاجتماعي لأن الزمن ثلاثة أنواع:
1- زمن رياضي: وهو ما نحسبه بالساعة واليوم والشهر.
2- زمن بيولوجي: وهو التغير الذي يطرأ على جسم الإنسان حسب مراحل العمر المختلفة.
3- زمن اجتماعي: وهو الذي نحسبه بنوع الثقافة والخبرة التي تمر على الإنسان.
فقياس العمر بمقياس الزمن الرياضي لا شك أنه قياس خادع غير صحيح. إذ المهم هو قياسه بالزمن الاجتماعي(1).
خلاصة القول: أن الزمن لا يحول دون الحركة، بل المسئول عن الحركة هو الطاقة المنتجة للحركة، وأضرب على ذلك مثالا، وهو ذلك العداء الذي يجري مائة متر في عشرين ثانية، فلو ضاعف جهده وزاد من حركته وقوته، ربما قطع تلك المسافة في عشر ثوان أو أقل، فالحركة هي التي تقتضي الوقت ولكنها لا تسببه وهي رهن لوجوده وليس رهنا لوجودها(2).
__________
(1) انظر جريدة الشرق الأوسط عدد (5037).
(2) انظر نظرية الإيقاع العربي: لمحمد العياشي (ص58) فما بعد.(1/73)
وربما وقع في أذهان البعض لبس حول مسألة بركة الوقت بسبب ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تقوم الساعة حتى.. يتقارب الزمان» رواه البخاري(1) وبما رواه أبو هريرة أيضا مرفوعا: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة»(2).
فربما احتج البعض بهذا الحديث وفهموه فهما خاطئا، لا سيما وقد ذهب بعض شراح الحديث إلى أن المقصود بتقارب الزمان هو قلة البركة
فيه.
قال ابن حجر تأييدا لهذا القول: الذي تضمنه الحديث وقد وجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا وإن لم يكن هناك عيش مستلذ(3).
فأقول جوابا عن هذا اللبس:
أولا: أن هذا اجتهاد لبعض العلماء الذين شرحوا الحديث، وإلا فقد فسره آخرون بغير هذا كما هو مزبور في كتب شروح الحديث(4).
ثانيا: أن هذا من علامات الساعة الصغرى ، وعلامات الساعة الصغرى والكبرى لا يعلم أحد متى ستقع، وإنما المعلوم أنها قبل قيام الساعة فقط، ولا يدري هل ظهرت هذه العلامة قبل زماننا هذا، أو في زماننا، أو أنها ستظهر بعد زماننا العلم عند الله.
__________
(1) الصحيح كتاب الاستسقاء: باب ما قيل في الزلات والآيات (1/ 350) (989).
(2) أخرجه أحمد في المسند (16/ 550) (10943) قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، وقال ابن كثير: إسناده على شرط مسلم، وصححه الألباني والأرنؤوط وانظر أشراط الساعة: للوابل (ص120).
(3) فتح الباري (13/ 16).
(4) انظر تلك الأقوال، ومناقشتها في فتح الباري، لابن حجر (13/ 16) فما بعد.(1/74)
ثالثا: أن الحركة تبقى حركة والزمن يبقى زمنا، ولكن الذي تغير هو مقدار الزمن فلا يلزم من تناقص الزمن تناقص الحركة وعليه فينبغي أن نضاعف الجهد لتدارك نقص الزمن بزيادة الحركة، خصوصا أن التطور التقني المعاصر قد سد كثيرا من هذا النقص الزمني، فقد كان العالم في السابق ربما سافر في طلب المسألة الواحدة أو الحديث الواحد شهرا كاملا، بينما الآن قد يقطع تلك المسافة في سويعات وربما لا يرحل أصلا فقد تيسرت المعلومة وأصبحت في متناول كل أحد وهو جالس في بيته عن طريق وسائل الاتصال الحديثة لا سيما الانترنت الذي يعد بحق آية هذا العصر، وربما مكث العالم في ذلك الوقت يبحث عن مسألة واحدة أياما متطاولة أو في نسخ كتاب واحد شهورا عدة أما الآن فقد أصبح هذا الأمر متيسرا جدا حيث يستطيع الواحد منا أن يصل لما يريد بضغطة زر بعد ظهور الموسوعات العلمية الحاسوبية الضخمة كما أصبحت الكتب متوفرة بطبعات متعددة مخدومة بفهارس متنوعة فهذا مما يعين على زيادة الحركة، ومحاولة كسب مزيد من الوقت حتى وإن قلت فيه البركة.
رابعا: أن البركة التي تكون في الوقت ليست ذاتية محضة، بمعنى أن العلماء السابقين ما كانوا يخلدون للنوم متكلين على بركة الوقت، وإنما كانوا يسهرون الليالي ويبذلون غاية الجهد في الطلب والتحصيل.
فقد روي عن الإمام البخاري أنه كان ربما قام في الليلة الواحدة نحوا من عشرين مرة لتسجيل ما يسنح له من الفوائد(1).
وهذا الإمام النووي مكث سنتين لما كان يدرس في المدرسة الرواحية لم يمس جنبه الأرض(2).
__________
(1) السير للذهبي (12/ 404).
(2) شذرات الذهب: لابن العماد (5/ 354، 355).(1/75)
وربما مشى الطالب في ذلك الوقت آلاف الفراسخ في طلب العلم، حتى إن بعضهم بال الدم من كثرة التعب، كما حصل لأبي الفضل ابن طاهر القيسراني(1).
ولا أحصي أولئك العلماء الذين كانوا يقرأون الكتاب الواحد عشرات المرات بل مئات المرات، وربما أعاد بعضهم قراءة الكتاب ألف مرة(2).
فهل حلت البركة في أوقاتهم لأنهم كانوا متقدمين من حيث الزمن فحسب؟ كلا وإنما لأجل الحركة والنشاط الذي بذلوه فلا غرو حينئذ إن تحرك الإنسان واجتهد أن يكتسب ما اكتسبوا ويحصل ما حصلوا فالجد والهمة والاستعانة بالله وصدق التوكل هي التي باركت في أعمارهم وأوقاتهم ، وإلا فماذا يستفيد الإنسان من عمره لو أنه عمر ما عمر نوح ولو كان يومه كسنة إذا لم يجد ويجتهد.
ثم انظر إلى حال ابن حجر نفسه الذي قال هذا الكلام ماذا صنع؟ هل قعد ورضخ للأمر الواقع عندما قال هذا الكلام؟ أم أنه جد واجتهد، وبذل وكافح حتى أخرج لنا هذه المصنفات العظيمة التي ربما لو كلف أحدنا نسخ بعضها ما استطاع، أو تصرم عمره دون ذلك، فكيف بتلك التحريرات الدقيقة وتلك التحقيقات الفذة العجيبة التي رقمها بيده خصوصا كتابه فتح الباري ولا هجرة بعد الفتح، ولقد بلغت مؤلفاته كما ذكر الدكتور/ شاكر محمود عبد المنعم: اثنين وثمانين ومئتي مصنف(3).
__________
(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1242) وقد كان ابن طاهر هذا يمشي في الليل والنهار عشرين فرسخا حوالي مائة كيلو متر انظر صفحات من صبر العلماء لأبي غدة (ص334).
(2) انظر نماذج من أحوالهم فيما كتبه الباحث الطلعة علي العمران وفقه الله في كتابه النفيس المشوق إلى القراءة وطلب العلم (ص89) فما بعد.
(3) في رسالته الفائقة ابن حجر العسقلاني مصنفاته (1/ 172-386).(1/76)
خامسًا: أن في عصرنا هذا الذي نعيشه علماء وباحثون آمنوا بضرورة الحركة ولم يلتفوا إلى الزمن فأبدعوا وأنتجوا ملئوا الساحة علما وعملا وجهادا ودعوة، حتى جاوزت مؤلفات بعضهم المائة ولا أريد أن أسترسل في تعدادهم فهم بحمد الله كثير، ومن بحث وجد.
سادسًا: أن الحركة هي التي تحدد طول الزمان وقصره، وهذا أمر مقرر من الناحية النفسية فليل الأسير في سجنه ليس كمثل ليل النائم الحالم على فراشه عند حبيبه؟ وهذا هو ما يسمى بالزمن البسيكولوجي، استمع إلى أحد الشعراء يقول واصفا حال سجين:
تطول به الساعات وهي قصيرة ... وفي كل دهر لا يسرك طول
بينما نجد شاعرا كعمر بن أبي ربيعة يقول عن ليلة مع محبوبه:
فيا لك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
الوقت واحد والزمن واحد ولكن الحركة والمشاعر هي التي طولت ذاك وقصرت هذا فهذا ما يتعلق بالزمان(1).
أما المكان فهو عامل مساعد أيضا لأن اختيار المكان المناسب والارتياح له يحدث في النفس قوة، وفي المهمة جدة ونشاطا، ويساعد القوة النفسية على بلوغ غايتها وعلى الثبات والتمكن، ولهذا تجد أن الناس يحنون إلى أوطانهم لأنهم يجدون فيها من الراحة النفسية ما لا يجدونه في غيرها، وهذا أمر جبلت عليه النفوس، كما أنك تجد كل واحد يحرص على اختيار المقام والمكان الذي يرتاح فيه ويأمن، وإذا تتبعت سير العلماء وجدت بعضهم أبدعوا في بعض مؤلفاتهم لأنهم ألفوها في أماكن جميلة هادئة.
فقد ذكر عن الفارابي أنه كان مدة مقامه في دمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض وألف هنالك كتبه(2).
__________
(1) انظر نظرية الإيقاع العربي: لمحمد العياشي (ص61).
(2) وفيات الأعيان: لابن خلكان (5/ 156).(1/77)
وكذلك الإمام الذهبي فقد ذكر أنه ألف أعظم مؤلفاته وهو تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء، وغيرها مدة إقامته في كفر بطنا، وهي قرية من قرى غوطة دمشق التي هي أحد أجمل بقاع الدنيا في ذلك الوقت(1).
وربما انتجع العلماء وخرجوا إلى هذه الأماكن الهادئة المريحة ليجددوا نشاطهم ويستجموا ويحرزوا قوتهم، كما قال ابن الفرضي عن سعيد بن عثمان التجيبي أحد المحدثين الكبار البصيرين بعلل الحديث المبرزين فيه: كان له أقارب بفريش، فكان ينتجعه في كل عام ليحرز قوته، وفيها توفي سنة 305 هـ(2).
وكذلك كان يصنع ابن خزيمة فكان يخرج بطلابه إلى بعض المتنزهات ليستجموا وقد عمل مرة دعوة عظيمة لا يتهيأ مثلها إلا لسلطان(3).
بل إن ابن حزم قد ذهب إلى ما هو أعجب من ذلك فهو يرى أن الإقليم له تعلق بالذكاء والفهم فهو يقول في معرض مدح قرطبة، وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رءوسنا ومعق تمائمنا مع سر من رأى في إقليم واحد فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين لأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا(4).
خامسا: الاهتمام بالصحة والنشاط، أي: الطعام والرياضة، وقد تقدم شيء من هذا حول الكلام عن القوة الجسمية بيد أني أضيف هنا ثلاثة أمور:
__________
(1) انظر التبيان في شرح الديوان: المنسوب للعكبري (4/ 251).
(2) تاريخ علماء الأندلس: لابن الفرضي (1/ 296).
(3) انظر تفاصيلها في السير: لابن الذهبي (14/ 378) وتذكرة السامع والمتكلم: لابن جماعة (ص129) من الحاشية.
(4) رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها، لابن حزم ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (2/ 174).(1/78)
1- أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بصحته وقوته، فينتقي لطعامه ولبدنه الحلال الطيب دون إسراف ولا تقتير ويحاول أن يجتنب تلك الأطعمة التي تضعف الحفظ وتفسد المزاج وهي مذكورة في كتب الطب وأدب الطلب، ويقبل على الأطعمة التي تصلح ذهنه وتقوي خاطره وتشحذه لأن الإنسان إذا لم يراع هذا الجانب ربما أصيب بمرض، أو شل تفكيره شللا يبطل نشاطه وقوته قال: القرافي: إن أكل لحوم الحيوان من فروض الكفاية، لئلا تضعف العقول عن العلوم، والأجساد عن ملاقاة الأعداء، فتستأصل شأفة الإسلام وتفقد هداة الأنام(1).
وهذا الإمام النسائي صاحب السنن كان قوته كما قيل: رطل خبز جيد يؤخذ له من سويقة العرافين لا يأكل غيره وكان يكثر أكل الديوك الكبار ، تشترى له وتسمن، ثم تذبح فيأكل منها كل يوم ديكا، ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال، وكان يؤثر لباس البرود النوبية الخضر ويقول: هذا عوض من النظر إلى الخضرة من النبات فيما يراد لقوة البصر(2).
وذكر أشياء من هذا القبيل عن ابن المبارك وابن الجوزي وغيرهم.
2- أن كثيرا من العلماء كانوا يتعاطون بعض الوصفات الغذائية والدوائية، إما لزيادة الحفظ، وإما لشحذ الذهن، كما تركوا أشياء أخرى لأنها تؤثر على الذهن والبدن، وذلك لأن بعض الأطعمة تساعد على تجفيف البلغم، مما يساعد على الحفظ والفهم، ولهذا فإنك تجد أن أحسن الأوقات للحفظ وصفاء الذهن، هي التي تعقب أوقات النوم، لأن البلغم يكون جافا بعده، قال الشافعي: ما رأيت صاحب بلغم أحفظ من الحميدي، كان يحفظ لسفيان بن عيينة عشرة آلاف حديث(3).
__________
(1) الأمنية في إدراك النية للقرافي (ص29).
(2) تهذيب الكمال للمزي (1/ 337).
(3) السير للذهبي (10/ 618).(1/79)
وقال الحاكم: حدثنا أبو زكريا العنبري، حدثنا أحمد بن سلمة، سمعت إسحاق، يقول: قال لي عبد الله بن طاهر: بلغني أنك شربت البلاذر(1) للحفظ؟ قلت: ما هممت بذلك، ولكن أخبرني معتمر بن سليمان، قال: أخبرنا عثمان بن ساج، عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس، قال: خذ مثقالا من كندر(2).
ومثقالا من سكر فدقهما ثم اقتحمهما على الريق فإنه جيد للنسيان والبول، فدعا عبد الله بقرطاس فكتبه(3).
وقد كانت أعظم وصفة عندهم، هي شرب ماء زمزم فقد شربه جمع من العلماء لحفظ العلم، عملا بحديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ماء زمزم لما شرب له»(4).
منهم ابن خزيمة والحاكم والخطيب البغدادي وابن العربي وابن حجر والسيوطي وابن الجزري وغيرهم، وكلهم استفادوا من شربه كما صرحوا بأنفسهم في روايات معروفة مشهورة عنهم.
3- ينبغي للإنسان أن يقتصد في هذا الأمر ولا يسرف خصوصا في الأدوية حتى وإن كانت طبيعية فإن الإمام الشافعي يقول: أخذت اللبان سنة للحفظ فأعقبني صب الدم سنة(5).
__________
(1) البلاذر ثمرة شجرة ذكروا أنه جيد لفساد الذهن والنسيان وذهاب الحفظ وغيرها، انظر المعتمد في الأدوية المفردة للتركماني (ص31).
لطيفة قال الرجراجي:
شرب البلاذر عصبة كي يحفظوا
ونسوا الذي في ذكره من قال
أو ما رأوا أن البلا شطر اسمه
والضر آخره بقلب الذال
تهذيب الفروق والقواعد الحسنية لمحمد المالكي (1/ 215).
(2) الكندر بالضم: ضرب من العلك، نافع لقطع البلغم جدا القاموس كندر.
(3) السير: للذهبي (11/ 368).
(4) رواه الإمام أحمد في المسند (23/ 140) (14849) وابن ماجه في السنن كتاب المناسك باب الشرب من زمزم (2/ 1018) (3062) وغيرهما وقد حسنه ابن القيم والمنذري وقواه ابن حجر والألباني.
(5) مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 150).(1/80)
وقال محمد بن الحسن: لا يصلح في هذا الشأن إلا من أحرق قلبه البن(1).
وعلى كل فالأمر يخضع للتجربة والذوق والاستعداد.
**********
الفصل الثامن
عوائق الإبداع العلمي
وأعني بالعوائق الأمور التي تعيق عملية الإبداع وتكون سببا في تعطيل المبدع عن عمله، أو أنها على الأقل تكدر الإبداع أو تؤخره وهذه المعوقات بعضها بسبب من المبدع نفسه، وبعضها يرجع إلى طبيعة الواقع والمجتمع الذي يعايشه.
وجميع ما تقدم من الأسس والمقومات والحوافز عكسها يصلح أن يكون عائقا للإبداع لكني أخص أمورا بالحديث عنها هنا لأهميتها:
أولاً: عدم تقدير المبدع.
إن العالم له أحاسيس ومشاعر، فإذا لم يكرم، ولم ينزل منزلته اللائقة به، ربما أدى ذلك إلى أمور تعيق الإبداع كما سيأتي، وذلك لأن خدمة العلم وأهله شرط على المجتمع الذي يعيش فيه المبدع، بدءا بالطلاب فمن فوقهم من الجهات وقد كان طائفة من العلماء يدعون بهذا لطلابهم فيقولون: يا فلان خدمك العلم كما خدمته، بل إن الإمام الشافعي قد جعله شرطا لمن خدم العلم حيث يقول(2):
العلم من شرطه لمن خدمه ... أن يجعل الناس كلهم خدمه
وقال علي الجرجاني(3):
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ... إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
وقد تذمر العلماء وأبدوا استياءهم من المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي لا يجدون فيها إكراما من أهلها، كما هو حال أبي هلال العسكري اللغوي مثلا إذ قال(4).
إذا كان ما لي مال من يلقط العجم ... وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 150) قال البيهقي: البن فيما بلغني كامخ يصنع بالشامات ومصر من عكر المرى يتأدم به الغرباء.
(2) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (1/ 300).
(3) معجم الأدباء: للحموي (4/ 1798) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 460).
(4) معجم الأدباء للحموي (2/ 919).(1/81)
فأين انتفاعي بالأصالة والحجا؟ ... وما ربحت كفي على العلم والحكم
ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم
وقال أيضا(1):
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أن الأنام قرود
ولا خير في قوم تذل كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة حالتي ... هجاء قبيحا ما عليه مزيد
والسبب في عدم تقدير العالم يعود والله أعلم إلى أمور عدة منها:
1- الحسد، وهذه آفة الآفات، وما سلم منها حتى العلماء على فضلهم وجلالة قدرهم بل وقعت بينهم قديما وحديثا، وهؤلاء الحساد عطلوا مصلحة عامة تستفاد من هذا العالم لقاء منفعة خاصة بهم إن سمينا ذلك منفعة تجوزا والناس كثيرا ما يؤلمهم مرأى النبوغ كما قال الشاعر(2):
فج التفوق ما في بابه حرس ... لكنه درب أرزاء وأخطار
والناس يؤلمهم مرأى النبوغ وإن ... تقدموا نحوه بالمدح والغار
كم من أديب قضى والجوع يأكله ... ومجرم حوله نهر الغنى جاري
العبقرية حرمان وتضحية ... وليس يخلد إلا كل جبار
2- عدم فهم الناس لتلك الابتكارات الجديدة وقيمتها العلمية إما لدقتها على أفهامهم كما مر معنا في قصة الخليل، وإما لأن المبدع يسير في واد والمجتمع يسير في واد آخر، حتى قال بعضهم: كلما رقى من له همة عالية إلى مركز عال..
قلت أشكاله المعنوية انظر إلى أصحاب العقول الموجبة لكثرة المعقول لما تحققوا دققوا فعزت مدارك حقائقهم على العوام، وجلت نفائس دقائقهم على غالب الأفهام، فلذلك أوجب لهم قلة الأصحاب والأتباع، لغلبة الجهل على الطباع، ولله در بعض الحكماء حيث قال:
لكل امرئ شكل من الناس مثله ... فأكثرهم شكلا أقلهم عقلا
وكل أناس آلفون لشكلهم ... فأكثرهم عقلا أقلهم شكلا(3)
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) رباعيات مختارة لإلياس قنصل (ص39).
(3) فيض القدير (4/ 269).(1/82)
وعدم تقدير المبدع يؤدي إلى الإضرار بالمبدع نفسه، ويؤدي إلى الإضرار بعملية الإبداع أيضا، وبالتالي يعود الضرر على المجتمع
والأمة.
فإما أن يؤدي به ذلك إلى الضن بعلمه وكتمه فيضر نفسه وغيره، كما صرح أبو علي القالي الذي رحل من المشرق إلى الأندلس في مقدمة كتابه المقصور والممدود بأنه ضن بعلمه في المشرق لأنه لم يجد أحدا من ولد العباس للعلم طالبا، ولا في الأدب راغبا، وأخذ يمتدح الحكم الأندلسي الذي هيأ له التكرمة وشجعه على العالم(1).
بل إن من العلماء من سمى كتابه المضنون به على غير أهله.
وإما أن يؤدي به ذلك إلى إتلاف كتبه ومؤلفاته حتى لا ينتفع بها أهل عصره، كما حصل لجماعة من العلماء، حيث أحرقوا كتبهم أو غسلوها أو دفنوها لهذا السبب(2).
وإما أن يؤدي به ذلك إلى الهجرة من ذلك البلد كما حصل لجماعة من العلماء.
منهم: عبد الوهاب بن علي المالكي، والنضر بن شميل، فإن الأول كان يعيش في بغداد فما وجد من أهلها إكراما له، ولا احتفاء به، فقال عند خروجه منها بيتيه المشهورين:
بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق
__________
(1) انظر خبر ذلك في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (1/ 138) وجذوة المقتبس للحميدي (1/ 252) وبغية الملتمس للضبي (1/ 282).
(2) نشرت عدة مقالات عن هذه الظاهرة الغريبة في ملحق ألوان من التراث: صحيفة المدينة عدد (9354) في 30/ 6/ 1413 هـ فما بعد.(1/83)
ثم إن عبد الوهاب هذا، لما خرج من بغداد، ووصل إلى ظاهرها، شيعه أهلها وعلماؤها، وقالوا له: ابق عندنا أيها الشيخ، فقال: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت عن بلدكم، فما وجد أحدا يتكفل له بذلك، فذهب إلى مصر فأكرمه أهلها غاية الإكرام، ويقال: إنه بعد وصوله إليها بيسير مات من أكلة اشتهاها فقال وهو يتقلب على فراش الموت: لا إله إلا الله لما عشنا متنا(1).
وكذلك النضر بن شميل فإنه لما ضاقت عليه المعيشة بالبصرة خرج منها إلى خراسان فشيعه من أهلها نحو ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو أخباري، فلما صار بالمربد جلس فقال: يا أهل البصرة يعز علي فراقكم ووالله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلى ما فارقتكم قال: فلم يكن أحد فيهم يتكلف له ذلك(2) ولقد أحسن من قال(3):
أسفت لصمته وله يراع ... جميل بيانه سحر الجموعا
ولو أبصرت شدة ما يعاني ... من الأيام أرخصت الدموعا
إذا سلم النبوغ من الرزايا ... فكيف يطبب الفقر الوجيعا
وأغرب مشهد نصب ثمين ... أقيم لعبقري مات جوعا
وإما أن يؤدي به ذلك إلى الموت كمدا وحزنا، وهذا غالبا يكون لمن سمت نفسه وكان فيه نوع رقة، وقد تقدم شيء من ذلك.
ثانيًا: عدم الثقة بالنفس.
وهذا مسلك في العلم منكور، فإن الذي لا يثق بعلمه وعقله ومواهبه، لا يمكن أن يلج طريق الإبداع والابتكار، لأنه طريق يحتاج إلى شجاعة وإقدام كحاجته إلى البحث والتأمل والنظر، ولعل الذي أودى بهذه الثقة وأخمد جذوتها أمران:
__________
(1) انظر وفيات الأعيان: لابن خلكان (3/ 220) ومقدمة محقق كتاب التلقين في الفقه المالكي (ص14-25).
(2) وفيات الأعيان (5/ 397) واقرأ إن شئت كتابا ماتعا في هذا هو كتاب (الفلاكة والمفلوكون) لأحمد بن علي الدلجي ، فإنه قد ذكر فيه عجائب وغرائب من هذا القبيل.
(3) رباعيات مختارة لإلياس قنصل (ص29).(1/84)
1- مقولة نشأت قديما ولاكتها الألسن: وانتشرت كالوباء بين أهل العلم تنسب لابن المقفع ت 144 هـ(1) وهي : ما ترك الأول للآخر شيئا، وقد يعبر عنها بقول الشاعر:
لم يدع من مضى للذي قد غبر
فضل علم سوى أخذه بالأثر
ولكن هل وجدت هذه الكلمة صدى عند المبدعين؟ كلا بل لقد توارد العلماء على إبطالها جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، حتى أوردوها الحفرة، وسنوا عليها التراب.
فهذا الجاحظ يقول: وقد قالوا: ليس مما يستعمل الناس كلمة أضر بالعلم والعلماء، ولا أضر بالخاصة والعامة من قولهم: «ما ترك الأول للآخر شيئا»(2).
وقال ابن عبد البر: قالوا: لا كلمة أضر بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئا(3).
ونحوا من هذا ما قاله أبو الحسن المسعودي في كتابه النبيه(4).
وكذلك أحمد بن فارس اللغوي المشهور كما في يتيمة الدهر للثعالبي(5).
ومثله جاجي خليفة في كتابه العظيم كشف الظنون(6).
وآخر من أتى على هذه الكلمة حسب تتبعي العلامة عبد الحي الكتاني في مقدمة كتابه التراتيب الإدارية(7).
إذا فليس المقياس هو مقياس القدم والمعاصرة، فيرفع القديم لقدمه، ويخفض المعاصر لجدته كلا، وإنما المقياس هو الجودة والإتقان وحسن الأثر، والحكمة ضالة المؤمن.
وعليه فصواب هذه العبارة أن يقال: كم ترك الأول للآخر كما قال أبو تمام(8):
__________
(1) لم أرها في شيء من كتبه بهذا اللفظ والذي رأيته في كتابه الأدب الكبير (ص64) قوله بعد أن امتدح المتقدمين وأثنى عليهم: «فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم...».
(2) رسائل الجاحظ (4/ 103).
(3) جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 416).
(4) كما في التراتيب الإدارية (1/ 79) ولا أدري هل يريد كتابه التنبيه والإشراف فإني لم أجده في المطبوع منه.
(5) 3/ 397، 398).
(6) 1/ 39).
(7) 1/ 78).
(8) الديوان بشرح التبريزي (2/ 161).(1/85)
لا زلت من شكري في حلة ... لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر
وينبغي أن يستحضر العالم تلك الكلمة النفيسة التي قالها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «قيمة كل امرئ ما يحسن».
قال ابن عبد البر تعقيبا عليها: قالوا ليس كلمة أحض على طلب العلم منها.. وهو من الكلام العجيب الخطير، وقد طار به الناس كل مطير(1).
2- دعوى إغلاق باب الاجتهاد:
لقد مر على الأمة فترة غير قصيرة ألغي فيها الاجتهاد وأغلق بابه خصوصا في العصور المتأخرة، عصور الانحطاط وخلدت فيه الأمة للتقليد البليد بل وتعصبت له حتى قال قائلهم، إن اللامذهبية أخطر بدعة على الإنسانية فتبلدت المشاعر وخمدت جذوة الاجتهاد والابتكار وأصبح كثير من العلماء يدور في حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها؟ حتى إنه ألغيت مادة جهد من قاموس الأمة فالجهاد متوقف والاجتهاد ممنوع والجهود مبعثرة مشتتة فكان كل من يريد الإبداع أو التجديد يجد الناس له بالمرصاد يقفون حجر عثرة في طريقه، ولو بالقوة أحيانا، كما حصل لكثير من العلماء والمبدعين، منهم: حسن بن حسين الأسكوبي المتوفى سنة 1303هـ وهو أرنؤوطي الأصل من ألبانيا كان من بيت علم وأدب، وكان يقطن المدينة النبوية حيث استجلب بعض المناظير .
والاصطرلابات والزوايا والتلسكوبات من أوربا، وأقام على سطح منزله مرصدا فلكيا، فكان يصعد إليه يراقب النجوم والكواكب وسير الأفلاك وتقلباتها فما كان من علماء المدينة إلا أن شنوا عليه غارة شعواء في يوم من الأيام، ودخلوا بيته وأخذوا تلك الأجهزة والمناظير فلزم بيته حزنا وكمدا ومرض بعدها وتوفي حتى إن من الطرائف أن أحدهم وهو عبد الجليل برادة نظم فيه رجزا قال فيه(2):
__________
(1) جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/ 416، 417).
(2) انظر الأعلام للزركلي (2/ 189) ويذكرنا هذا بحال مخترع التلسكوب جاليليو نفسه وقد تقدم شيء من خبره.(1/86)
ما قولكم في شيخنا الأسكوبي ... يبيت طول الليل في الراقوب
يرقب منه الفلك الدوارا ... مشابها في فعله النصارى
فالحاصل أن دعوى إغلاق باب الاجتهاد سواء في المسائل العلمية أو العملية كان له نتائج كارثية على الأمة، ما زلنا نعاني منها حتى اليوم، قال الشيخ محمد سعيد الباني عنها إنها: «دعوى فارغة وحجة واهنة أوهن من بيت العنكبوت لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث»(1).
ثالثًا: دخول العالم في غير فنه.
وهذا أمر يدرك مما سبق، فقد اشترطنا سلفا التخصص، وهو أن يستفرغ الإنسان جهده في فنه الذي مالت نفسه إليه، ولا تغره نفسه بالدخول في فن لا يعرفه مهما بلغ ذكاؤه، ومهما بلغت ملكاته وحذقه، لئلا يقع في تناقضات واضطرابات وهو لا يشعر، فيكون سبة الدهر وأضحوكة الزمان، بل تبقى عليه معرة ذلك تحيى بحياته ولا تموت بموته، فإما أن يتفرغ لذلك العلم ويحصله على أهله حتى يتقنه، وإما أن يدعه لأربابه، أما أن يدخل فيه للنزهة والتذوق فهذا مما لا يحمد(2).
وقد ضبط العلماء عجائب وغرائب على هؤلاء الذين يدخلون في غير فنونهم وهم ليسوا من أهلها، وفي كتب الردود والتتبعات والإلزامات شواهد على ذلك.
__________
(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق (ص62) وانظر بسط المسألة في أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي (2/ 1085) فما بعد.
(2) وقد تقدم شيء في التحذير من ذلك في بداية الكلام عن مقومات الإبداع العلمي.(1/87)
وأقل ما يقع فيه الإنسان التصحيف والتحريف الذي يغير الكلم ويبدل المعاني كما حكي عن عوض بن نصر المصري(1) وهو ممن كان له عناية بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، لكنه لما دخل فيما لا يحسن أتى بما يضحك، فقد ذكروا عنه أنه أخذ كتاب المفصل للزمخشري ونظر فيه فقال لما قرأ باب الترخيم: لماذا ما قال باب التبليط؟ ولما قرأ باب العلم قال: لماذا ما قال باب السنجق؟ يظن أن العلم هو الراية، وأن الترخيم من الرخام ثم شرع في تعليل ذلك بتعليلات عليلة.
وذكروا أيضا أنه لما قرأ أول المفصل عند قول الزمخشري: الله أحمد، قال: لماذا ما قال: عيسى ولا موسى ولا محمد؟(2)
ثم إن الداخل في غير فنه لا يزيد ذلك الفن إلا أوهاما وتناقضات فيكون كما قيل: يبني قصرا ويهدم مصرا ولهذا نجد بعضا من شروح الحديث وكتب التفسير والفقه خصوصا الحواشي مليئة بمثل هذه الأقوال والترهات التي جاءت من غير متخصص في ذلك الفن، فزادت الأوراق دون فائدة تلفى.
ويا ليت هؤلاء الأدعياء فعلوا كفعل ذلك الثعلب الذي دخل بستان عنب، فرأى عنقودًا متدليًا يكاد يتمزق لكثرة مائة وروائه فحاول أن يصل للعنقود مرة تلو مرة، وكرة بعد كرة، فلما كل ومل، وما وصل إلى ما أمل نظر إلى العنقود وقال: الحمد لله الذي لم يجعل لنا في الحرام نصيبا.
رابعًا: توقف الإنسان عند مرحلة من العلم وانقطاعه دونها.
وذلك بأن يصيبه اليأس لأنه لم يصل إلى نتيجة فيؤدي به ذلك إلى الإحباط بل ربما إلى كراهية العلم نفسه، وغالبا ما يكون ذلك عند عدم إحسان الاختيار للفن المناسب، أو لأن برنامجه فيه غير منضبط أو لأن خطة العمل فيه غير محكمة ولا مترابطة:
ستعلم حين ينكشف الغبار ... جواد تحت رجلك أم حمار
__________
(1) لطيفة هذا الاسم عوض لم يتسم به أحد من المشهورين طيلة القرون العشرة الأولى للهجرة سوى هذا الرجل.
(2) انظر الدرر الكامنة لابن حجر (3/ 199).(1/88)
أو أن العيب في الشخص نفسه، لأنه لم يتحل بالصبر والتحمل الذي هو من شروط الإبداع كما سلف ولذا قيل:
عند الرهان يعرف المضمار ... ويعرف السابق والخوار
إن العالم لا بد أن يكون متحليا بالصبر والجلد وإلا فإنه سوف ينقطع في منتصف الطريق وربما قبل ذلك، ولقد ضرب السلف أروع الأمثلة في الصبر على مشاق الطلب وشدائد التحصيل(1) فكان بعضهم ربما كرر المسألة الواحدة من مسائل العلم ألف مرة منهم أبو إسحاق الشيرازي وبعضهم كان يكرر الحديث الواحد خمسمائة مرة كما كان يفعل أبو مسعود الضبي ومنهم من كرر بعض الكتب المهمة
قراءة وإقراء مئات المرات ربما بلغت ألفا وبعضهم قرأ عشرات الآلاف من الكتب وهو ما زال بعد شابا وبعضهم ما كان يسافر إلا
ومعه عدة أحمال من الكتب كلما نزل منزلا أخرجها ونظر فيها وبعضهم ما كان ينام إلا والكتاب على صدره مدة أربعين سنة أما قراءة الكتب المطولة في مجالس معدودة فحدث ولا حرج(2).
ولقد جاء عن أديسون المخترع المشهور، أنه جرب عشرة آلاف تجربة قبل أن يصل إلى التجربة الصحيحة التي أنارت له المصباح الكهربائي بل أنارت العالم كله، وعندما حاول أحد أصدقائه أن يواسيه قال له أديسون لماذا؟ أنا لم أفشل لقد اكتشفت 1000 طريقة لا تؤدي إلى الهدف المطلوب(3).
وفي اختراعه بطارية السيارة استغرق العمل منه عشر سنوات كاملة، وجرب خمسين ألف تجربة، وتكلف ثلاثة ملايين دولار حتى وصل في النهاية إلى اختراعها(4).
__________
(1) من أجمع وأمتع الكتب التي ألفت في هذا الباب كتاب صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة تجاوز الله عنا وعنه.
(2) انظر شواهد ذلك وغيره في الكتاب الرائع: المشوق إلى القراءة وطلب العلم للشيخ علي العمران وفقه الله.
(3) انظر الموسوعة العربية العالمية أديسون.
(4) أديسون الذي أضاء العالم (ص117) سلسلة الناجحون.(1/89)
وكان يعمل ما بين 18-20 ساعة في اليوم، ولهذا لما سئل متى ستأخذ إجازة؟ قال: إن العلم لا يأخذ إجازة على الإطلاق(1).
وربما أغرى الإنسان بريق المناصب والألقاب فتوقف ظنا منه أنه قد وصل فيترك حينذاك الجد والطلب والبحث، مع أن هذه الألقاب ليست دليلا
على التأهل فقد يصبح الإنسان دكتورا وهو ما زال بعد في بداية الطريق وهذا هو الأصل في هذه الشهادة فإن شهادة الدكتوراه إنما تمنح للشخص لا لأنه وصل، ولكن لأنه أصبح قادرا على مواصلة البحث بمفرده.
والعلم والإبداع لا يقاس بالشهادات والألقاب، فكثير من أعلام العصر فضلا عن المتقدمين، ما عرفوا هذه الألقاب، ولا لابسوها، ومع ذلك فقد ملئوا الدنيا علمًا وإبداعًا، وقد تقدم معنا أن أديسون مثلا طرد من المدرسة وهو في المرحلة الابتدائية لكنه واصل واجتهد بمفرده حتى وصل إلى ما وصل إليه.
ولي في هذا المعنى أبيات قلت فيها:
وما كل دكتور بصيرا بفنه ... ولا كل أستاذ جديرا بأن يدري
وليس لزاما أن يكون مبرزا ... فتى أحرز الألقاب أو صال في النشر
فكم جامع كتبا وليس بعالم ... وكم ناقل فكرا وليس بذي فكر
خامسًا: اضطراب المنهج: وقد تحدثت عنه فيما مضى فلا نعيد(2).
سادسًا: النقد السلبي المدمر.
وهذا يقتل الطموح والإبداع في الإنسان المبدع، لأن النقد قسمان:
1- نقد إيجابي، هدفه بيان الأخطاء والتنبيه عليها لتلافيها، لا تحطيم الأشخاص، والوقيعة في الأعراض، وهو عزيز في هذا العصر.
__________
(1) المصدر نفسه (ص120).
(2) انظر خامس مقومات الإبداع العلمي (ص86) فما بعد.(1/90)
2- نقد سلبي هدفه التشنيع والتقريع والتشهير، وهو الذي يبلد الإحساس، ويمسخ المواهب، ويعطل القدرات، ويجعل الإنسان خائفا يترقب أكبر همه كيف ينجو إن نجا، فلا يكتب ولا يتكلم ولا يناقش ولا يراجع خوفا من النقد الجائر، لأن الألسن والأقلام له بالمرصاد، وما خارت النفوس، وضمرت العقول، وماتت الهمم، إلا بمثل هذا النقد، ويقف وراء هذا النقد غالبا الحسد والأنانية.
قال الدوري: حدثنا الكسائي قال: كنت أقرأ على حمزة، فجاء سليم فتلكأت فقال حمزة: تهاب سليما ولا تهابني فقلت: يا أستاذ أنت إن أخطأت قومتني وهذا إن أخطأت عيرني(1) ولقد أحسن من قال(2):
قد تفسد البيئة الرعناء أدمغة ... بها تغنى لسان الدهر مفتخرا
إذا حكمت على الحر الكريم بأن ... يعيش بين لئام عاش منتحرا
سابعا: المصائب والشواغل التي تحل بالنفس أو الذهن اللذين هما آلة الإبداع فتعطلهما.
فإن الإنسان إذا اشتغلت نفسه بمصيبة تنزل به أو تحل قريبا من داره، تولد عنده هم وغم وضيق وكدر، أو أصابته آفة في ذهنه، وعقله، وكل ذلك عائق عن الإبداع.
إن العامل الأقوى في الإبداع هو استجماع الفكر وتركيز الذهن، وهذا قد يتلاشى تحت وطأة الألم ومطارق الكرب، وكثيرا ما يصاب الإنسان بذهول أو اختلاط أو حتى بوفاة نتيجة خبر مؤلم أو حادث مروع.
__________
(1) معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 139).
(2) رباعيات مختارة: لإلياس قنصل (ص18).(1/91)
قال ابن حزم: إن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت، ولقد أخبرت عن عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظ إخلالا شديدا لم يعاوده ذلك الذكاء بعد، وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له فما عاودته إلا بعد أعوام(1).
قلت: لعل هذه العلة والله أعلم هي ضرب الطحال كما ذكروا في ترجمته رحمه الله تعالى.
ثامنًا: عدم الإخلاص في العمل.
والمقصود بالإخلاص هنا معناه الأوسع، وهو التجرد من الرغائب النفسية والمآرب الشخصية، أو بعبارة أخرى: الإقبال بتجرد على العلم والعمل، وهذا العموم بطبيعة الحال يدخل فيه كل الناس دون تمييز، ولكن أهل الإسلام ينفردون بتوجيه هذا الإخلاص لله وحده دون سواه، حتى يحصل لهم الأجر، وهو أحد شروط قبول العمل كما هو معلوم، وفي هذا المعنى يقول أحمد شوقي(2).
اطلب العلم لذات العلم لا ... لظهور باطل بين الملا
وليته قال:
اطلب العلم لوجه الله لا ... لظهور باطل بين الملا
********
الفصل التاسع
انحراف الإبداع عن مساره الصحيح
إن هناك أمورا قد تسير بالعمل الإبداعي إلى نهاية مؤلمة أو غير حميدة، وهي أمور كثيرة يجمعها شيئان: الإضرار بالنفس، والإضرار بالغير، وأكتفي بضرب مثال واحد لكل منهما:
__________
(1) مداواة النفوس ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي (1/ 388).
(2) الشوقيات (2/ 704)(1/92)
1- الإضرار بالنفس: مثل الإبداع في مجال الفلسفة لا سيما الإلهية منها، وليس القصد هو دراستها لنقدها وإظهار عوارها كلا، وإنما القصد هو حبها والتعلق بها والاقتناع بما فيها، فإن هذا أمر خطير، ربما عاد على الإنسان في العاجل بالحيرة والاضطراب، كما حصل لجماعة من العلماء تقدم ذكر بعضهم وربما أدى به ذلك إلى الكفر والشك والعياذ بالله. وعاد عليه في الآجل بسخط الله وعذابه، ولهذا حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا المسلك فقال: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله عز وجل» وفي لفظ: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله»(1) وقد تقدم الكلام على العقل، ومكانته الحقيقية في الإسلام عند الكلام على أسس الإبداع العلمي بما يغني عن إعادة الكلام عليه هنا.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاستقامة(2) إلى أن كثيرا من الطلاب مالوا إلى علم الكلام والفلسفة يظنونه علما وهو ليس كذلك.
2- الإضرار بالغير:
سواء كانت الأضرار مادية أو معنوية فالمعنوية كابتداع الأفكار المضلة ونشرها بين الناس، والمادية مثل ما حصل من بعض المخترعين الذين اخترعوا الأسلحة التي تسمى أسلحة الدمار الشامل، وهي أسلحة لا شك
عندي في تحريم استعمالها لأنها تأتي على الأخضر واليابس، وتقتل المقاتلة وغير المقاتلة.
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 171، 172) (6315) والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 358) (119) وغيرهما والحديث حسنه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (1/ 395) (1788).
(2) 1/ 79).(1/93)
أرسل آينشتاين صاحب نظرية النسبية وهو ذو عقلية جبارة لكنه استخدم عقله في الإضرار بالناس رسالة إلى الرئيس روزفلت في خريف عام 1939م يبين فيها إمكانية صنع قنبلة مؤثرة من عنصر اليورانيم وبعد ست سنوات وبالتحديد في 6 آب من سنة 1945م ألقيت أول قنبلة من هذا النوع على هيروشميا اليابانية ذهب ضحيتها ستون ألفا، وجرح أكثر من مائة ألف شخص، وأصبح مئتا ألف بلا مأوى(1).
ولله در القائل(2).
كانت نهايته بالويل حافلة ... فيها لما مر من أخطائه ثمن
وكان فيه ذكاء خارق طلعت ... ثماره نفثات قصدها الفتن
ضل الطريق ولو صحت خواطره ... لأحرز الخير منها الأهل والوطن
العبقرية ماء حين تحصره ... تروى الحقول أو تمحق المدن
**********
الفصل العاشر
نجوم مضيئة في سماء الإبداع العلمي
هؤلاء النجوم هم قل من كثر، ووشل من بحر، من المبدعين المتميزين الذين يحفل بهم تاريخنا الإسلامي المجيد، ولم أرد الاستقصاء هنا، وإنما أردت أن يقف المهتم بهذا الأمر على طرف من أحوال هؤلاء المبدعين وأخبارهم عل ذلك يكون دافعا له ليترسم سبيلهم ويسلك طريقهم لا سيما في هذا الوقت، الذي يعيش فيه كثير من الشباب المسلم أزمة تبعية وفقدان هوية بعد أن ضلت بوصلتهم عن نجوم الأمة الحقيقيين إلى أناس تافهين يسمون نجوما وما هم بنجوم، وإنما هم في حقيقة الأمر رجوم وينظر إليهم على أنهم مبدعون والإبداع بمنأى عنهم بل هو عنهم أبعد ما يكون.
وأشد من هذا وأمض من كان مصابا منهم بعقدة النقص فولى وجهه شطر بلاد الكفر، ينظر إليها نظرة إكبار، ويأخذ منها كل شيء خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحمد منها وما يعاب، وما يمدح منها وما يذم(3).
__________
(1) عباقرة العلم لفيليب كين (ص295) ترجمة أديب يوسف .
(2) رباعيات مختارة لإلياس قنصل (ص115).
(3) كما قال الدكتور طه حسين من قبل.(1/94)
وأشد منه من رضي لنفسه القسمة الضيزى فأخذ الثانية دون الأولى ولقد أحسن من قال(1):
حتام نستعطي الغريب دروسه ... وتراثنا أسمى الذي في درسه
نخشى مناهلنا ونرفض رفدها ... متهافتين على ثمالة كأسه
إنا طردنا الأجنبي ولم نزل ... بعقولنا وقلوبنا في حبسه
والشعب لا يتركز استقلاله ... حتى يحرر نفسه من نفسه
هذا وقد ذكرت من ذكرت من هؤلاء المبدعين مرتبين على حسب تواريخ وفياتهم.
الخليل بن أحمد الفراهيدي ت 174 هـ
كان الخليل من أذكياء العالم وعباقرة الدنيا فقد أبدع أمورا عدة لم يسبق إليها من ذلك:
1- علم العروض: فقد اتفق جميع الباحثين على أنه هو الذي ابتدع هذا الفن دون سابق مثال، وقيل: إن الذي أوحى له هذا الفن أمر عجيب، وهو دق مطارق أصحاب الطسوت، فإنه مر يوما على الحدادين فسمع دق المطارق فأوحى ذلك له بعلم العروض(2).
وقيل: إن معرفته بالنغم والإيقاع هي التي دلته على هذا العلم.
وهناك رواية باطلة تقول: إن الذي دفعه لذلك هو الحسد لسيبويه لأنه اشتهر بالنحو فأراد هو أن يشتهر بالعروض، حتى نظم بعضهم ذلك
فقال:
علم الخليل رحمة الله عليه ... سببه ميل الورى لسيبويه
فخرج الإمام يسعى للحرم ... يسأل رب البيت من فيض الكرم
فزاده علم العروض فانتشر ... بين الورى فأقبلت له البشر
وهذا كلام غير صحيح، يرده واقع الخليل نفسه، فإنه كان قانعا زاهدا حتى إنه كان يقول: إني أغلق الباب على نفسي فما يتجاوزه همي وقد طلبه سليمان بن عبد الملك ليربي أولاده فقال أبياتا مشهورة منها.
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
__________
(1) رباعيات مختارة لإلياس قنصل (ص22).
(2) لا تستغرب هذا فإن عكرمة تلميذ ابن عباس كان يقول: إني لأخرج إلى السوق فأسمع الكلمة يتكلم بها الرجل فيفتح لي بها في العلم خمسون بابا.(1/95)
2- علم المعجم: فإنه أراد حصر الكلمات العربية في كتاب خاص على ترتيب لم يسبق إليه، وهو مخارج الحروف حسب نظام التقليب فقسم الحروف إلى مجموعات وابتدأها بالحروف الحلقية وابتدأ الحلقية منها بحرف العين، ولهذا سمى كتابه العين وانتهى بكتاب الميم الذي هو آخر الحروف الشفوية.
3- علم الحساب: فقد أراد تقريبه للعامة، وأخذ على نفسه تسهيل هذا العلم للبسطاء بحيث تذهب الجارية إلى البقال فلا يظلمها من مالها شيئا.
وكان تفكيره في هذه المسألة سبب موته، فإنه كان يفكر في هذه المسألة وهو داخل المسجد فاصطدم ببعض سواري المسجد فارتج مخه وكان ذلك سبب موته رحمه الله رحمة واسعة.
روي أنه اجتمع بابن المقفع، فتذاكر ليلة تامة، فلما افترقا سئل ابن المقفع عن الخليل فقال: رأيت رجلا عقله أكثر من علمه.
ومن غرر كلامه قوله: نوازع العلم بدائع، وبدائع العلم مسارح العقل، ومن استغنى بما عنده جهل ومن ضم إلى علمه علم غيره كان من الموصوفين بنعت الربانيين.
ومما يدل على فرط ذكائه ما يروى من أن ملك اليونان كتب إلى الخليل كتابا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: إنه لابد من أن يفتح الكتاب بباسم الله أول ما أشبهه فبنيت أول حروفه على ذلك فاقتاس لي(1).
محمد بن إدريس الشافعي ت 204هـ
هو الإمام الجبل، والحبر المجدد، أحد أذكياء الدنيا ورجال الزمان وضع علما ما سبق إليه، وهو علم أصول الفقه متمثلا في كتابة الرسالة التي سارت مسير الشمس قال ابن خلكان وغيره: الشافعي أول من تكلم في أصول الفقه.
__________
(1) انظر طبقات الشعراء لابن المعتز (ص95) وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي (ص49) ومعجم الأدباء، للحموي (3/ 1269) والسيرة للذهبي (7/ 431).(1/96)
وقال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة فوضع له كتاب الرسالة.
وقد ظهر نبوغه منذ صغره، فقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، فقدم على مالك بن أنس، فقال له: أحضر من يقرأ لك فقلت: أنا قارئ فقرأ عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل ابن ثماني عشرة سنة، أذن له بذلك شيخه مسلم بن خالد الزنجي.
قال أبو ثور: من قال أنه رأى مثل الشافعي في علمه وفصاحته ومعرفته وبيانه وتمكنه فقد كذب.
وقال الإمام أحمد: قد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» قال أحمد فنظرنا في رأس المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد لعزيز، ونظرنا في الثانية فإذا هو الشافعي.
وقال هارون بن سعيد الأيلي: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي هو من حجارة أنه من خشب لغلب لاقتداره على المناظرة.
وكان الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا.
وقال ابن خلكان: كان الشافعي كثير المناقب جم المفاخر منقطع القرين، اجتمع فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة والعربية والشعر، حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره.(1/97)
وقال الربيع: كنا جلوسا في حلقة الشافعي بعد موته بيسير فوقف علينا أعرابي وقال: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ قلنا: توفي فبكى بكاء شديدا وقال رحمه الله وغفر له، فلقد كان يفتح ببيانه مغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة ويغسل من العار وجوها مسودة، ويوسع بالرأي أبوابا منسدة ثم انصرف(1).
محمد بن إسماعيل البخاري ت 256 هـ
أمير المؤمنين في الحديث، وأستاذ الأستاذين، وعمدة المحدثين مصنف الجامع الصحيح، الذي ما طرق العالم كتاب أفخم تصنيفا ولا أدق وضعا ولا ألطف مأخذا منه، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله تبارك وتعالى.
جمع فيه بين الوحيين، وما سبقه فيما أعلم إلى ذلك أحد، واستخرج منهما المسائل والدقائق والنفائس بما حير الألباب وأذهل العقول، ولا يوجد كتاب في السنة اعتنى به العلماء مثل هذا الكتاب حتى إن بعض المعاصرين ألف مجلدا ضخما ذكر فيه الكتب التي دارت حول الصحيح فقاربت الأربعمائة(2).
قال البخاري: ما وضعت في الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وقال: أخرجت هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث وصنفته في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.
وقال الفضل بن إسماعيل الجرجاني:
صحيح البخاري لو أنصفوه ... لما خط إلا بماء الذهب
أسانيد مثل نجوم السماء ... أمام متون كمثل الشهب
فيا عالما أجمع العالمون ... على فضل رتبته في الرتب
نفيت السقيم من الناقلين ... ومن كان متهما بالكذب
وأثبت من عدلته الرواة ... وصحت روايته في الكتب
وأبرزت من حسن ترتيبه ... وتبويبه عجبا للعجب
__________
(1) انظر تاريخ بغداد للخطيب (2/ 56) ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 163) والوافي بالوفيات للصفدي (2/ 171) والسير: للذهبي (10/ 5) والبداية والنهاية: لابن كثير (10/ 251).
(2) هو كتاب إتحاف القاري: لمحمد عصام الحسني.(1/98)
وقال محمد بن يوسف البخاري: كنت عند محمد بن إسماعيل البخاري بمنزله ذات ليلة فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثماني عشرة مرة.
وقال موسى بن هارون الحمال: لو أن أهل الإسلام اجتمعوا على أن ينصبوا مثل محمد بن إسماعيل آخر ما قدروا عليه.
وقال نعيم بن حماد: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.
وبالجملة فأخباره كثيرة مشهورة(1).
محمد بن جرير الطبري ت 310 هـ
شيخ المفسرين على الإطلاق، الإمام العالم الحافظ صاحب التصانيف العظيمة.
له جامع البيان عن تأويل آي القرآن وهو أجل التفاسير لم يؤلف مثله كما ذكر العلماء منهم النووي في تهذيبه وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية أحسن جمع، ولم يقاربه في ذلك أحد.
قال أبو حامد الإسفراييني: لو رحل رجل إلى الصين في تحصيله لم يكن كثيرا.
قال الخطيب: كان أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس وأخبارهم له تاريخ الإسلام والتفسير الذي لم يصنف مثله.
وقال الفرغاني: بث مذهب الشافعي ببغداد ثم اتسع علمه وأداه اجتهاده إلى ما اختار في كتبه وعرض عليه القضاء فأبى.
ويقال: إن المكتفي أراد أن يوقف وقفا تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف، فأجمع علماء عصره على أنه لا يقدر على ذلك إلا ابن جرير فأحضر فأملى عليهم كتابا لذلك، فأخرجت له جائزة سنية فأبى أن يقبلها.
__________
(1) انظر تاريخ بغداد للخطيب (2/ 4) ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 188) وتهذيب الكمال للمزي (24/ 430) وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 555).(1/99)
قال الذهبي: الإمام العلم المجتهد صاحب التصانيف البديعة كان من أفراد الدهر علما، وذكاء وكثرة تصانيف قل أن ترى العيون مثله، كان رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك(1).
أحمد بن حسين الجعفي المتنبي ت 354 هـ
الشاعر الفحل مالئ الدنيا وشاغل الناس، المسمى عند الأدباء بـ الشاعر الحكيم أو شاعر الحكمة، صاحب المعاني المبتكرة ، والأمثال السائرة وقد طوعت له المعاني فأتى منها بالفائق الرائق الذي لم يسبق إليه، ولا يوجد شاعر في الدنيا تجري أبياته على ألسنة العرب كالمتنبي.
وكان كثير من العلماء يحفظ ديوانه كاملا ويأخذونه بالسماع وعده نفر من الباحثين أشعر شعراء العرب على الإطلاق ولهذا قال الثعالبي عنه: نادرة الفلك وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، وقال عنه الذهبي: شاعر الزمان.
ولم يكتب عن شاعر مثل ما كتب عن هذا الشاعر فقد جمع بعضهم مجلدا ضخما في الكتب والدراسات التي كتبت عنه(2).
وكل من تعرض له المتنبي بمدح أو هجاء فقد خلد على مر الزمن منهم سيف الدولة في المدح، وكافور الإخشيدي في الهجاء، ومما قيل فيه:
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان
هو في شعره تنبا ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
ومن أبياته الذائعة وحكمه الرائعة:
وهبني قلت: هذا الصبح ليل ... أيعمي العالمون عن الضياء؟
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (2/ 162) ووفيات الأعيان (4/ 191) وطبقات المفسرين للداودي (2/ 106) والسير (14/ 267).
(2) أفضل ما كتب عن المتنبي حتى الآن كتاب المتنبي للعلامة: محمود شاكر رحمه الله تعالى.(1/100)
كلما جادت الظنون بوعد ... عنك جادت يداك بالإنجاز
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضا بلا رجل
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهائم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
يعطيك مبتدئا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرا كمن قد أجرما
قاض إذا التبس الأمران عن له ... رأي يخلص بين الماء واللبن
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
والحق أن شعر الحكمة وما جرى مجرى المثل في شعره كثير جدا، حتى لقد صنفت فيه مصنفات قديما وحديثا.
ومن لطائف شعره قوله:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش، تفضل أدن سر صل
ويحكى أن سيف الدولة أعجبه البيت فوقع بخطه تحت أقل أقلناك، وتحت أنل يحمل إليه كذا وكذا ألف درهم، وتحت اقطع أقطعناك الضيعة الفلانية بباب حلب، وتحت احمل يقاد إليه الفرس الفلانية، وتحت عل قد فعلنا وتحت سل قد فعلنا فاسل، وتحت أعد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زد يزاد كذا وكذا، وتحت تفضل قد فعلنا وتحت أدن قد أدنيناك وتحت سر قد سررناك، فقال أبو الطيب إنما أردت من التسرية فأمر له بجارية وتحت صل قد فعلنا.
ولما أنشد البيت رآهم يعدون ألفاظه، فقال وزاد فيه:
أقل أنل أن صن احمل عل سل أعد ... زد هش بش هب اغفر أدن سر صل
فرآهم يستكثرون الحروف فقال:
عش ابق اسم سد قد جد مر انه رف اسرنل
غظ ارم صب احم اغزا سب رع زع دل اثن نل
وهذا دعاء لو سكت كفيته ... لأني سألت الله فيك وقد فعل(1/101)
وهو البيت الوحيد في العربية الذي اجتمع فيه هذا العدد الكبير من الكلمات إذ بلغ عددها فيه أربعا وعشرين كلمة، والعجيب أنه لم يعد في البيت الأخير أي فعل من الأفعال السابقة في البيتين قبله، وهذا يدل على إمامته في اللغة، وأخذه بناصية المعجم(1).
أحمد بن فارس الرازي ت 395هـ
إمام اللغة، وشيخ العربية، وصاحب الاستقراء التام، والتتبع الواسع والإبداع والتألق في فقه اللغة وأسرار العربية، وإذا ذكر ابن فارس ذكر معه كتابه الفريد معجم مقاييس اللغة الذي أدع الحديث عنه للأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله تعالى حيث قال عنه: مفخرة من مفاخر التأليف العربي، بل يكاد يكون الفذ في نوعه من بين المؤلفات اللغوية في المحيط العربي، إن لم يكن في المحيط اللغوي العالمي، فنحن لم نعلم إلى الآن أن مؤلفا لغويا آخر حاول أن يدرس مواد اللغة في ظل القياس المطرد في معظم تلك المواد كما لم نعلم بعد الاستقصاء والبحث أن لغة من لغات العالم كائنة ما كانت، ظفرت بمثل هذا التأليف المبتدع في قديم الزمان ولا في حديثه(2).
__________
(1) انظر يتيمة للثعالبي (1/ 110) وتاريخ بغداد للخطيب (4/ 102) ووفيات الأعيان:
لابن خلكان (1/ 120) والتبيان في شرح الديوان المنسوب للعكبري (3/ 85، 89) والسير: للذهبي (16/ 199).
(2) قطوف أدبية حول تحقيق التراث (ص210) فما بعد.(1/102)
وقال عنه في موضع آخر: إن في التراث العربي كثيرا من المعجزات الفريدة التي لم تتكرر في عالم التأليف إلى الآن فكتاب مقاييس اللغة لابن فارس يعد فريدا في بابه، إذ إن ابن فارس استطاع أن يبتدع نظرية لغوية دقيقة تتمثل في إرجاع كل مادة لغوية من مواد المعجم إلى أصل أو أصلين أو عدة أصول معنوية وقد يكون في المادة الواحدة مئات الكلمات.. ثم ضرب مثلا بمادة ربع فقال: إن ابن فارس أعادها إلى ثلاثة أصول، بينما لو رجعنا إلى لسان العرب لوجدناه يتناول هذه الكلمة في خمس عشرة صفحة كاملة، بحيث يظن الرائي أن هذه الكلمة لها مئات الدلالات وهي كلها لا ترجع إلا إلى هذه المعاني الثلاثة أو الأربعة.
وله كتاب آخر لا يقل عن كتابه هذا أهمية هو كتاب مجمل اللغة الذي ظل ردحا من الزمن يتحكم في الدراسات اللغوية والمعجمية، كما اشتهر كتابه الصاحبي شهرة من أهداه له وهو الصاحب بن عباد(1).
وله مع ذلك أشعار رائقة منها قوله لمن يتكاسل في طلاب العلم:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي متى؟(2)
عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني ت 471هـ
شيخ العربية، وواضع أصول البلاغة، وإمام البلاغيين ومفتق الكلام عن در وياقوت.
كتب قبله في مسائل البيان بعض البلغاء كالجاحظ وابن دريد وقدامة بن جعفر لكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن يجعلوه فنا مرفوع القواعد مشرع الأبواب كما فعل عبد القاهر، وأشهر كتبه في هذا كتاب دلائل الإعجاز، وكتاب أسرار البلاغة، وهما أصلان جليلان أسسا قواعد النظر في علم بلاغة الألسنة عامة وبلاغة اللسان العربي المبين خاصة(3).
قال عنه القفطي: تصدر بجرجان وحثت إليه الرحال، وصنف التصانيف الجليلة(4).
__________
(1) المرجع نفسه (ص201) بتصرف.
(2) انظر ترجمته مطولة في مقدمة تحقيق كتابه مقاييس اللغة (1/ 3-37).
(3) انظر مقدمة أسرار البلاغة (ص3، 11).
(4) إنباه الرواة (2/ 188).(1/103)
وقال عنه الحسيني: وأول من أسس من هذا الفن قواعده وأوضح براهينه، وأظهر فوائده ورتب أفانينه الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزهاره من أكمامها وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء(1).
ومن لطيف ما ذكر عنه قول السلفي: كان ورعا قانعا دخل عليه لص فأخذ ما وجد، وهو ينظر وهو في الصلاة فما قطعها(2).
القاسم بن علي الحريري ت 516 هـ
العلامة البارع، ذو البلاغتين، صاحب المقامات، كان أحد أئمة عصره في علوم العربية، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب، من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته.
وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة فسألته الجماعة: من أين الشيخ فقال: من سروج فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد السروجي.
وقد أعتنى بشرحها خلق كثير، فمنهم من طول، ومنهم من اختصر وكان سالف العلماء يعتنون بالمقامات درسا وحفظا، ويأخذونها بالسماع.
ولم يستطع أحد بعده أن يدانيه في صناعة المقامات فضلا عن أن يجوزه على كثرة ما ألف في المقامات قديما وحديثا.
وينبغي على من أراد أن يمهر في اللغة، ويرتقي في الأسلوب، أن يعتني بكثرة النظر فيها، وحفظ ما يقدر عليه منها، فإنها نعم المعين على ذلك.
__________
(1) الطراز (1/ 4).
(2) السير للذهبي (18/ 433).(1/104)
وإليك طرفا من مقامته الحلبية حيث ذكر فيها أبياتا حروفها مهملة وأخرى معجمة وأخرى كلمة منها معجمة وأخرى مهملة وهكذا.
قال رحمه الله تعالى: روى الحارث بن همام قال: نزع بي إلى حلب شوق غلب، وطلب يا له من طلب، وكنت يومئذ خفيف الحاذ حثيث النفاذ فأخذت أهبة السير، وخففت نحوها خفوف الطير، ولم أزل مذ حللت ربوعها وارتبعت ربيعها أفاني الأيام، فيما يشفي الغرام، ويروي الأوام، إلى أن أقصر القلب عن ولوعه، واستطار غراب البين بعد وقوعه، فأغراني البال الخلو، والمرح الحلو، بأن أقصد حمص، لأصطاف ببقعتها وأسبر رقاعة أهل رقعتها، فأسرعت إليها إسراع النجم، إذا انقض للرجم فحين خيمت برسومها، ووجدت روح نسيمها، لمح طرفي شيخا قد أقبل هريره، وأدبر غريره، وعنده عشرة صبيان، صنوان وغير صنوان، فطاوعت في قصده الحرص لأخبر به أدباء حمص، فبش بي حين وافيته وحيا بأحسن مما حييته، فجلست إليه لأبلو جنى نطقه، وأكتنه كنه حمقه، فما لبث أن أشار بعصيته إلى كبر أصيبيته وقال له: أنشد الأبيات العواطل، واحذر أن تماطل فجثا جثوة ليث وأنشد من غير ريث:
أعدد لحسادك حد السلاح ... وأورد الآمل ورد السماح
وصارم اللهو ووصل المها ... وأعمل الكوم وسمر الرماح
واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لا دراع المراح
والله ما السؤدد حسو الطلا ... ولا مراد الحمد رود رداح
واها لحر واسع صدره ... وهمه ما سر أهل الصلاح
مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح
ما أسمع الآمل ردا ولا ... ماطله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لما دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوده إصلاحه سره ... وردعه أهواءه والطماح
وحصل المدح له علمه ... ما مهر العور مهور الصحاح(1/105)
فقال له: أحسنت يا بدير ، يا رأس الدير، ثم قال لتلوه، المشتبه بصنوه: ادن يا نويرة: يا قمر الدويرة، فدنا ولم يتباطا، حتى حل منه مقعد المعاطى، فقال له: اجل الأبيات العرائس، وإن لم يكن نفائس، فبري القلم وقط، ثم احتجر اللوح وخط:
فتنتني فجننتني تجني ... بتجن يفتن غب تجني
شغفتني بجفن ظبي غضيض ... غنج يقتضي تغيض جفني
غشيتني بزينتين فشفت ... ني بزي يشف بين تثني
فتظنيت تجتبيني فتجزي ... ني بنفث يشفي فخيب ظني
ثبتت في غش جيب بتزيي ... ن خبيث يبغي تشفي ضغن
فنزت في تجنبي فثنت ... ني بنشيج يشجي بفن ففن
فلما نظر الشيخ إلى ما حبره، وتصفح ما زبره قال له: بورك فيك من طلا، كما بورك في لا، ولا ثم هتف: اقرب: يا قطرب فاقترب منه فتى يحكي نجم دجية، أو تمثال دمية، فقال له: أرقم الأبيات الأخياف، وتجنب الخلاف فأخذ القلم ورقم:
اسمح فبث السماح زين ... ولا تخب آملا تضيف
ولا تجز رد ذي سؤال ... فنن أم في السوال خفف
ولا تظن الدهور تبقي ... مال ضنين ولو تقشف
واحلم فجفن الكرام يغضي ... وصدرهم في العطاء نفنف
ولا تخن عهد ذي وداد ... ثبت ولا تبغ ما تزيف
فقال له: لا شلت يداك، ولا كلت مداك ثم نادى: يا عشمشم يا عطر منشم فلباه غلام كدرة غواص، أو جؤذر قناص، فقال له: اكتب الأبيات المتائيم ولا تكن من المشائيم فتناول القلم المثقف وكتب ولم يتوقف:
زينت زينب بقد يقد ... وتلاه ويلاه نهد يهد
جندها جيدها وظرف وطرف ... ناعس تاعس بحد يحد
قدرها قد زها وتاهت وباهت ... واعتدت واغتدت بخد يخد
فارقتني فأرقتني وشطت ... وسطت ثم نم وجد وجد
فدنت فديت وحنت وحيت ... مغضبا مغضيا يود يود(1/106)
فطفق الشيخ يتأمل ما سطره، ويقلب فيه نظره فلما استحسن خطه، واستصح ضبطه قال له: لا شل عشرك، ولا استخبث نشرك، ثم أهاب بفتى فتان، يسفر عن أزهار بستان فقال له: أنشد البيتين المطرفين، المشتبهي الطرفين اللذين أسكتا كل نافث، وأمنا أن يغززا بثالث: فقال له: اسمع لا وقر سمعك، ولا هزم جمعك، وأنشد من غير تلبث ولا تريث:
سم سمة تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
والمكر مهما استطعت لاتأته ... لتقتني السؤدد والمكرمه
فقال له: أجدت يا زغلول، يا أبا الغلول، ثم نادى أوضح يا ياسين، ما يشكل من ذوات السين، فنهض ولم يتأن وأنشد بصوت أغن:
نقس الدواة ورسغ الكف مثبتة ... سيناهما إن هما خطا وإن درسا
وهكذا السين في قسب وباسقة ... والسفح والبخس واقسر واقتبس قبسا
وفي تقسست بالليل الكلام وفي ... مسيطر وشموس واتخذ جرسا
وفي قريس وبرد قارس فخذال ... صواب مني وكن للعالم مقتبسا
فقال له: أحسنت يا نغيش يا صناجة الجيش... إلخ(1).
أبو الفرج بن الجوزي ت 597 هـ
عبد الرحمن بن علي القرشي، الحافظ المفسر، إمام عصره بل وعصور كثيرة في الخطابة والوعظ.
قال عن نفسه: صار لي اليوم خمس مدارس، ومائة وخمسين مصنفا في كل فن، وقد تاب على يدي أكثر من مائة ألف، وقطعت أكثر من عشرة آلاف طائلة، ولم ير واعظ مثل جمعي، فقد حضر مجلسي الخليفة والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء والحمد لله على نعمه.
وقال في آخر كتابه القصاص والمذكورين، ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى، فقد تاب على يدي إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل، وقد قطعت من شعور الصبيان اللاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف.
__________
(1) انظر ترجمته والكلام عن مقاماته في مقدمة مقامات الحريري طبعة دار بيروت كما أحيل القاري الكريم إلى شرح الشريشي لمقامات الحريري لمعرفة معاني ما تقدم.(1/107)
قال ناصح الدين بن الحنبلي الواعظ عنه: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع ظراف بغدد، ونظاف الناس، وحسن الكلمات المسجعة والمعاني المودعة في الألفاظ الرائجة وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين، وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين من رحمة أرحم الراحمين.
وذكره الحافظ ابن الدبيثي في ذيله على تاريخ ابن السمعاني فقال: شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزي صاحب التصانيف في فنون العلم: من التفاسير، والفقه والحديث والوعظ والرقائق، والتواريخ، وغير ذلك وله في الوعظ العبارة الرائقة، والإشارات الفائقة والمعاني الدقيقة والاستعارة الرشيقة وكان من أحسن الناس كلاما وأتمهم نظاما وأعذبهم لسانا وأجودهم بيانا.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيف الصورة حلو الشمائل رخيم النغمة موزون الحركات والنغمات لذيذ المفاكهة يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون.. له في كل علم مشاركة لكنه كان في التفسير من الأعيان وفي الحديث من الحفاظ وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد وإن روى أبدع.
وقال ابن البزوري في تاريخه: كان إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب.
وقال ابن رجب:وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير ولم يسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع يتذكر بها الغافلون ويتعلم منها الجاهلون ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون، وقد ذكر في تاريخه: أنه تكلم مرة فتاب في المجلس على يده نحو مائتي، رجل وقطعت شعور مائة وعشرين منهم.
وقد أبدع في كتب كثيرة منها، زاد المسير وصيد الخاطر الذي هو الإبداع بعينه، والمدهش والتبصرة وغيرها.(1/108)
ومن لطائف كلمه قوله يوما على المنبر: أهل البدع يقولون: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي ثلاث عورات لكم(1).
أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) ت 728هـ
شيخ الإسلام وعلم الأعلام ومن إليه المرجع والمآب، في علوم السنة والكتاب والحق أني لا أدري كيف أبدأ ولا أين أمضي، ولا متى أنتهي مع هذا العلم الفرد إنه أمة جمعها الله في رجل.
وليس بدعا ولا في الله ممتنعا ... أن يجمع العالم الكلي في رجل
وشيخ الإسلام، هو العالم الوحيد فيما أظن الذي أقر له بالإمامة في الدين القريب والبعيد، و الموافق والمخالف على حد سواء، من لدن عصره إلى عصرنا هذا، هذا لمن أنصف وعدل، أما أهل الهوى وأرباب الجنف فهو عندهم ألد الأعداء.
قال عنه ابن دقيق العيد: ما أظن أن الله بقي يخلق مثلك، ولقد صدق رحمه الله تعالى فلم يأت بعده حتى اليوم من يساميه في منزلته ومكانته العلمية.
وقال ابن الزملكاني: كان إذا سئل عن فن من الفنون، ظن السامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن.
وكان يجلس إليه أتباع الطوائف والفرق والمذاهب، فيأتيهم بأشياء لا يعرفونها في مذاهبهم فيستفيد كل في مذهبه ما لم يكن يعلم، ويحرر وينقح المسائل لهم، ويزيدهم حججا إلى حججهم ثم ينقض عليها ويكر عليها بالنقض والإبطال.
وهذا الرجل لم يقف على ثغرة واحدة من ثغور الإسلام كحال غيره من العلماء بل وقف على ثغور كثيرة، فواجه اليهود والنصارى، وواجه عتاة الفلاسفة، وواجه غلاة الصوفية، وواجه كثيرا من الفرق المنحرفة كالجهمية والرافضة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وواجه مقلدة الفقهاء والمتعصبة منهم، بل وواجه في ميدان الحرب التتار، حتى كسر شوكتهم في الأخبار المشهورة عنه.
__________
(1) انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (1/ 399) وقد وصف الرحالة ابن جبير بعض مجالسه وصفا بديعا في رحلته (ص196) فلتراجع.(1/109)
لقد كان هذا الإمام يكتب في المسألة الواحدة مجلدا كبيرا ويرد الشبهة الواحدة بسفر من الأسفار لذا فإنه يصدق على قلمه ما قاله بعضهم:
قلم حد شباه ... لكتاب العلم خاص
طائع لله جل الله ... للشيطان عاص
كلما خط كتابا ... بمعاني العلم غاص
ومع ذلك فإنه ما سلم من كيد علماء عصره وتأليبهم عليه، حتى سعوا بسفك دمه والنكاية به، وتوفي رحمه الله في سجنه صابرا محتسبا في ليلة الاثنين الموافق للعشرين من ذي القعدة من عام 728هـ.
وبكل حال فالرجل أخباره كثيرة، ومآثره شهيرة، وقد ألف العلماء في سيرته مؤلفات كثيرة(1).
أبو إسحق إبراهيم بن موسى الشاطبي ت 790هـ
الأصولي النابه، صاحب الكتاب العظيم الموافقات في أصول الفقه الذي لم ينسج أحد على منواله.
ولندع الكلام عن كتابه هذا الشيخ العلامة بكر أبو زيد حفظه الله حيث قال في تقديمه للكتاب: أبو إسحاق هو مؤلف غرناطة الإبداعي في كتبه الموافقات في أصول الشريعة ومقاصدها والاعتصام في السنة وقمع البدعة.. وهو رحمة الله عليه في مؤلفاته هذه بعيد عن طرق التأليف التقليدية والعمل المكرور وإنما يفترعها افتراعا، ويبدع فيها إبداعا لأنه قد اتخذ القرآن والسنة له نبراسا وإماما وحذق لسان العرب لغة ونحوا وفقها واشتقاقا بما لم يدرك شأوه من لحقه، ولم ينسج على منواله ومسلكه فلا جرم كان نجما لامعا، أضاء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب فلفت الأنظار وعكفت على كتبه الأبصار، واستضاءت بأنوارها بصائر أهل الأمصار.
__________
(1) جمع الشيخان على العمران، ومحمد عزير شمس مؤلفا جليلا في سيرته سمياه الجامع لسيرة. شيخ الإسلام ابن تيمية فلينظر.(1/110)
والكتاب وضعه هذا الإمام ليكون وسيلة إلى فقه الاستنباط بحذق اللسان، وتشخيص علم المقاصد، إلا أنه في حقيقته، فقه في الدين ومثال متميز في توظيف الاستقراء الكلي لفهم نصوص الوحيين وعلم متكامل بنظام الشريعة وأسس التشريع، ومقاصده في مصالح العباد في الدارين وقد طبع كتاب الموافقات مرارا، كان من أحسنها الطبعة التي حققها الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان أثابه الله، كما هذبه ولخص مباحثه ومهماته الدكتور/ محمد الجيزاني في مجلد وسط فأجاد فيه إلى الغاية(1).
محمد بن أحمد الذهبي ت 748 هـ
شيخ المؤرخين وفقيه المترجمين الحافظ الجهبذ الحجة في معرفة الرجال وأخبارهم وسيرهم جمع تاريخ الإسلام، فأربى فيه على من تقدم بتحرير أخبار العلماء عموما والمحدثين خصوصا.
وقد اختصر منه مختصرات كثيرة منها: العبر، وطبقات الحفاظ، وطبقات القراء، وغير ذلك، وله ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أجاد فيه أيضا واختصر تهذيب الكمال لشيخه المزي، وخرج لنفسه المعجم الكبير والصغير والمختص بالمحدثين ورغب الناس في تواليفه ورحلوا إليه بسببها وأولوها العناية التامة قراءة ونسخا وسماعا.
قال البدر النابلسي: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم حذيذ الفهم ثاقب الذهن وشهرته تغني عن الإطناب فيه.
وقال الصفدي : حافظ لا يجارى، ولا فظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله ، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس ، من ذهن يتوقد ذكاؤه ويصح إلى الذهب نسبته
وانتماؤه جمع الكثير ونفع الجم الغفير وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف وقف الشيخ كمال الدين بن الزملكاني
رحمه الله على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعة وقال: هذا كتاب علم، لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة
__________
(1) انظر ترجمته مستوفاة في خاتمة تحقيق الشيخ مشهور (6/ 7-53).(1/111)
النقلة بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى
حديثا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواته وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده، وله في تراجم الأعيان لكل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربعة ومن جرى مجراهم لكنه أدخل الكل في تاريخ النبلاء.
ومن شعره الذائع قوله:
العلم قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه
وقوله في ذم علم الكلام:
أفق يا معنى بجمع الحطام ... ودرس الكلام ومين يصاغ
ولازم تلاوة خير الكلام ... وجانب أناسًا عن الحق زاغوا
ولا تخدعن عن صحيح الحديث ... فما في محق لرأي مساغ
وما للتقي وللبحث في ... علوم الأوائل يوما فراغ
بلاغا من الله فاسمع وعش ... قنوعا فما العيش إلا بلاغ
وبكل فالرجل عمدة من جاء بعده من المؤرخين، ولذا تجد أكثر من ألف بعده إنما بدأوا من المائة الثامنة فما بعد لعلمهم أنهم لن يأتوا بطائل فيما لو ألفوا عن القرون السبعة الأولى بعد أن ألف فيها الذهبي والله أعلم(1).
ابن القيم الجوزية ت 751 هـ
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار المجددين والمبدعين من العلماء.
تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يكاد يخرج عن شيء من أقواله وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وأهين وعذب بسببه وطيف به على جمل مضروبا بالعصي، وأطلق بعد موت شيخه.
__________
(1) من أحسن من درس حياة الإمام الذهبي: الدكتور بشار عواد معروف في كتابه العظيم الذهبي ومنهجه في كتاب تاريخ الإسلام.(1/112)
له المصنفات العظيمة التي ليس لها نظير في بابها، والتي تدل على ملكات علمية هائلة، منها إعلام الموقعين، وزاد المعاد، وبهما اشتهر وذاع صيته، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وأحكام أهل الذمة، وتحفة المودود بأحكام المولود، ومفتاح دار السعادة، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، والكافية الشافية، منظومة طويلة جدا في العقائد، نظمها من أعذب النظم وأحلاه، ومدارج السالكين، وكتاب الفروسية، والوابل الصيب من الكلم الطيب، والروح، والفوائد، وروضة المحبين وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح وإغاثة اللهفان، واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، والجواب الكافي ويسمى الداء والدواء، وطريق الهجرتين، وعدة الصابرين، وهداية الحيارى، وغيرها من المؤلفات النفيسة التي ما زال العلماء وطلاب العلم ينهلون منها حتى يومك هذا(1).
ابن خلدون ت 808 هـ
عبد الرحمن بن محمد الحضرمي الإشبيلي الأصل التونسي، المؤرخ العظيم صاحب المقدمة الشهيرة، التي صارت فيما بعد أشهر كتاب في علم الاجتماع.
قاله عنه ابن الخطيب: رجل فاضل جم الفضائل رفيع القدر أصيل المجد وقور المجلس عالي الهمة قوي الجأش متقدم في فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا شديد البحث كثير الحفظ صحيح التصور بارع الخط حسن العشرة مفخرة من مفاخر المغرب.
وقال المقريزي في وصف تاريخه: مقدمته لم نعلم مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، ونتيجة العقول السليمة والفهوم توقف على كنه الأشياء وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم.
__________
(1) أعظم ما ألف في سيرة هذا الإمام الجبل كتاب ابن القيم الجوزية حياته آثاره موارده للشيخ بكر أبو زيد.(1/113)
وقال ابن عمار أحد من أخذ عنه: الأستاذ المنوه بلسان سيف المحاضرة وسحبان أدب المحاضرة كان يسلك في إقرائه الأصول مسلك الأقدمين كالإمام الغزالي والفخر الرازي مع الغض والإنكار على الطريقة المتأخرة التي أحدثها طلبة العجم ومن تبعهم في توغل المشاحة اللفظية والتسلسل في الحدية والرسمية اللذين أثارهما العضد وأتباعه في الحواشي عليه وينهر الناقل غضون إقرائه عن شيء من هذه الكتب مستندا إلى أن طريقة الأقدمين من العرب والعجم وكتبهم في هذا الفن على خلاف ذلك وإن اختصار الكتب في كل فن والتعبد بالألفاظ على طريقة العضد وغيره من محدثات المتأخرين والعلم وراء ذلك كله وله من المؤلفات غير الإنشاءات النثرية والشعرية التي هي كالسحر: التاريخ العظيم المترجم بـ العبر في تاريخ الملوك والأمم والبرير، حوت مقدمته جميع العلوم وجلت عن محجتها ألسنة الفصحاء فلا تروح ولا تحوم ولعمري إن هو إلا من المصنفات التي سارت ألقابها بخلاف مضمونها كالأغاني للأصبهاني سماه الأغاني وفيه من كل شيء، والتاريخ للخطيب سماه تاريخ بغداد وهو تاريخ العالم، وحلية الأولياء لأبي نعيم سماه حلية الأولياء وفيه أشياء جمة كثيرة.
وقال الأستاذ أحمد الزعبي في مقدمة تحقيقه لمقدمة ابن خلدون: يحتل ابن خلدون في التراث العربي الإسلامي، وفي الفكر الغربي المعاصر مكانة متميزة وينظر إليه على أنه صاحب رؤية حضارية خاصة سيما فيما يتعلق بدراسة التاريخ البشري والمجتمع الإنساني والعمران الحضاري ويشار إلى ابن خلدون في مناسبات عديدة باعتباره صاحب منهجية في النظر والتفكير والبحث والتفسير مثلت في زمانه قفزة إبداعية متميزة ووصفت بعض إنجازاته بأنها غير مسبوقة باعتباره مؤسسها وأنها لم تكن معروفة قبله(1).
الحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852هـ
__________
(1) انظر ترجمته بالتفصيل في مقدمة الدكتور علي عبد الواحد وافي لكتاب مقدمة ابن خلدون.(1/114)
أحمد بن علي بن محمد الكناني، من أئمة العلم والتاريخ، وحفاظ الحديث الكبار بل هو خاتمتهم، ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ: وذاعت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره.
له المصنفات العظيمة التي سارت مسير الشمس، والتي أبدع في تأليفها غاية الإبداع، سيما كتابه الحفيل الجليل فتح الباري الذي لم يشرح صحيح البخاري بمثله، والذي قال فيه الشوكاني لما طلبوا إليه أن يؤلف شرحا على الصحيح: لا هجرة بعد الفتح، قال السخاوي: انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر(1).
ومن هذه المصنفات: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ولسان الميزان، والكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، وتقريب التهذيب، وتهذيب التهذيب، والإصابة في تمييز أسماء الصحابة، وتعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، وتعريف أهل التقديس، وبلوغ المرام من أدلة
الأحكام، والمجمع المؤسس بالمعجم المفهرس، ونزهة النظر في توضيح
نخبة الفكر، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، ورفع الإصر عن قضاة مصر، وإنباء الغمر بأبناء العمر، وإتحاف المهرة بأطراف العشرة، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير وغيرها من المصنفات الجليلة.
وقد بلغت مؤلفاته كما ذكر الدكتور/ شاكر محمود عبد المنعم(2) اثنين وثمانين ومائتي مصنف.
الخاتمة
وتتضمن أهم النتائج والتوصيات
في نهاية المطاف أشكر الله عز وجل على ما من به علي من إتمام هذا العمل مذكرًا هنا ببعض النتائج والتوصيات التي توصلت إليها من خلال البحث:
__________
(1) لتلميذه السخاوي كتاب مطول في ترجمته سماه الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر فلينظر.
(2) في رسالته الفائقة: ابن حجر العسقلاني مصنفاته (1/ 173-386).(1/115)
1- أن الإبداع العلمي هو أحد الأسباب الرئيسة للخروج بالأمة من الذلة والضعف والتخلف الذي حاق بها منذ أمد، بل إنه من أعظم ألوان الجهاد، وأقوى أسلحته وأشدها مضاء في هذا العصر.
2- أن الإبداع في فن أو مجال لا يلزم منه الإبداع في بقية الفنون والمجالات الأخرى فينبغي أن يدرك الحريص على وقته هذا الأمر مبكرًا حتى لا يضيع وقته في أمر يعلم أو يظن أنه لن يفلح فيه، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
3- أن الإبداع من حيث هو أنواع وأقسام ومستويات كثيرة، منها النافع والضار والعسير واليسير والعام والخاص .. إلخ.
4- أن الإبداع لا بد له من أسس يقوم عليها، ولا يتصور وجود مبدع دونها، وهذه الأسس هي القوة العقلية والقوة النفسية والقوة الجسدية وأهمها هو الأول والبقية تبع له.
5- أن من ركائز الإبداع المهمة الشجاعة الأدبية لأن الإبداع في حد ذاته هو لون من ألوان الشجاعة، لأنه شيء جديد على الناس والعرف السائد لا تألفه النفوس ولا تقبله العقول إلا بعد جهد ومشقة ووقت طويل.
6- أهمية التخصص الدقيق في عملية الإبداع العلمي، ذلك لأن طول الممارسة لفن ما أو مسألة ما والانكباب على دراستها واستفراغ الوسع في ذلك كفيل بأن يولد الإبداع وينتج التفوق.
7- أن الإبداع لا بد لتحققه من أمرين: أولهما: سعة الاطلاع وكثرة البحث وثانيهما: دقة الملاحظة وطول التأمل.
8- أن من الأمور المهمة المنتجة للإبداع التصور الصحيح للفن والتخطيط السليم له، لأن العمل في شيء ما دون تصور وتخطيط محكوم عليه بالفشل في الغالب.(1/116)
9- أن الواجب على الدول الإسلامية أن تعتني أشد العناية بالمبدعين وتوفر لهم الجو العلمي الكامل، مع توفير الضروريات والحاجيات والكماليات الشخصية لهم، حتى يستطيعوا إنجاز ما لديهم من مشاريع وطموحات من أجل النهوض بأمتهم التي ما زالت تقبع في مؤخرة الركب الحضاري وحسبك أن تعلم أنه قد أجريت دراسة مؤخرا لأفضل خمسمائة جامعة على مستوى العالم فلم يذكر في تلك القائمة الطويلة أية جامعة عربية، على حين أن ما تسمى دولة إسرائيل رغم حداثتها قد ورد في الدراسة ذكر أسماء ثلاث جامعات منها.
10- إنشاء مراكز للإبداع العلمي في كل مدينة من مدن العالم الإسلامي تكون منضوية تحت منظمة أو مؤسسة عامة بشرط أن يوفر لها الدعم الكامل. والسخي من أجل تشجيع المبدعين والأخذ بأيديهم، بدلا من أن تهاجر هذه العقول الكبيرة لبلاد الكفر، فيستفيد منها الأعداء، وقد تجند ضدنا بطريقة أو بأخرى، والمستفيد والخاسر من ذلك كله، في نهاية الأمر هو الأمة الإسلامية جمعاء.
11- عقد مؤتمرات مكثفة تجمع المبدعين من جميع أرجاء العالم، لمناقشة قضايا الإبداع العلمي وكيفية تفعيله والنهوض به في واقع الأمة.
12- إقامة مسابقات متنوعة في جميع حقول المعرفة التي تحتاجها الأمة، ورصد جوائز ضخمة لها، وقصر تلك الجوائز على المبدعين من أبناء العالم الإسلامي فقط.
13- استقطاب الكوادر العلمية العالية في شتى العلوم والمعارف من جميع أرجاء المعمورة لا سيما أهل الخبرات الدقيقة منهم، وإغراؤهم بالحوافز المادية من أجل تطوير البرامج الإبداعية التي تحتاجها الأمة في الوقت الراهن ووضع الاستراتيجيات اللازمة على المدى البعيد.
14- تذليل جميع العقبات والعوائق أمام عملية الإبداع والمبدعين، سواء العامة منها أو الخاصة.(1/117)
ختامًا: فإن هذه المعالم أضعها بين يديك يا طالب العلم تنير لك الطريق، وتوضح لك السبيل، وتحدد لك الاتجاه في المسير، وتكون لك عونًا وسندًا على الإبداع والتحصيل، لم آل فيها جهدًا، ولم أدخر فيها وسعا، استخلصت عناصرها من معين الذاكرة، فهي عصارة أفكار، وجمعت مادتها بالقراءة والمذاكرة فهي خلاصة نظر وقراءة أسفار لم أقصد في جمعها تنبلاً على الخلق ولا تزيدًا فيما ليس بحق إنما أردت النصح ما استطعت والتمحيص ما قدرت والعلم أمانة من حملها فقد حمل إدَّا وتجشم بهرا، وإن له ذمامًا كذمام النسب.
راجيا أن تلقى هذه النصائح والتوجيهات أذنا صاغية وقلبًا واعيًا ونفسًا طامحة، وعقلاً راجحًا، حتى نلمس الإبداع، ونحس التفوق وليس ذلك بعيد المنال لمن واصل السير وأجد الركض:
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويحمد غب السير من هو سائر
فالجد الجد والمبادرة المبادرة فإن الشمس تجري والساعات تمضي، والأيام تمر كلمح بالبصر أو هي أسرع.
متمثلا هنا بيتين ذيل بهما لقيط بن يعمر الإيادي قصيدته المشهورة:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
والتي أنذر فيها قومه غزو كسرى ذي الأكتاف، فكانت سبًبا في قطع لسانه، يقول لقيط:
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
سائلا المولى تبارك وتعالى أن يزيدني وإياكم توفيقًا وهدى وأن يأخذ بأيدينا جميعًا إلى ما فيه رفعة الإسلام وعزه ونصره إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الفهارس
ثبت بأهم المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم
أ
2- آداب الشافعي ومناقبه للرازي تحقيق عبد الغني عبد الخالق دار الكتب العلمية بيروت.
3- الآداب الشرعية: لابن مفلح المقدسي تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام مؤسسة الرسالة ط2، 1417 هـ.(1/118)
4- الإبداع في التربية والتعليم: لآرثر كروبلي (ترجمة) إبراهيم الحارثي ومحمد مقبل.
5- الإبداع في الفن والعلم: لحسن أحمد عيسى ط1، دار المعرفة الكويت.
6- ابن القيم الجوزية، حياته آثاره موارده: لبكر أبو زيد، دار العاصمة، السعودية ط1، 1412 هـ.
7- ابن حجر العسقلاني مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة شاكر محمود عبد المنعم، مؤسسة الرسالة بيروت ط1، 1417 هـ.
8- ابن حزم: لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي بيروت.
9- أحكام القرآن، لابن العربي تحقيق علي محمد البجاوي دار المعرفة بيروت.
10- إحياء علوم الدين للغزالي دار المعرفة بيروت.
11- الأدب الأندلسي: لمصطفى الشكعة دار العلم للملايين بيروت ط 5، 1983م.
12- أدب الدنيا والدين: للماوردي تحقيق محمد فتحي أبو بكر الدار المصرية اللبنانية ط1، 1408 هـ.
13- أدب الطلب: للشوكاني تحقيق: يوسف بديوي وحسن سويدان دار اليمامة دمشق بيروت ط1، 1412هـ.
14- الأدب الكبير لعبد الله بن المقفع دار بيروت للطباعة والنشر 1400هـ.
15- أدب الكتاب: للصولي دار الباز مكة المكرمة.
16- الأرجوزة في الطب من مؤلفات ابن سينا الطبية.
17- الأسرار المرفوعة: للملا علي قاري: تحقيق محمد لطفي الصباغ المكتب الإسلامي ط2، 1406هـ.
18- أشراط الساعة: ليوسف الوابل، مكتبة ابن الجوزي الدمام ط1 ، 1409هـ.
19- الأعلام للزركلي دار العلم للملايين بيروت ط6، 1984 م.
20- إكمال المعلم بفوائد مسلم: للقاضي عياض اليحصبي، تحقيق: يحيى إسماعيل دار الوفاء، المنصورة ط 1 ، 1419 هـ.
21- الإلماع للقاضي عياض اليحصبي تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث القاهرة ط2، 1398 هـ.
22- الأمنية في إدراك النية: للقرافي دار الكتب العلمية بيروت ط1، 1404 هـ.
23- إنباه الرواة: للقفطي تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم دار الفكر العربي ط 1، 1406 هـ.(1/119)
24- الانتفاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: لابن عبد البر، دار الكتب العلمية بيروت.
ب
25- الباعث على إنكار البدع والحوادث: أبو شامة المقدسي، تحقيق: مشهور سلمان دار الراية الرياض ط 1 ، 1410 هـ.
26- البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق: أحمد ملحم وآخرين دار الكتب العلمية بيروت.
27- البدر الطالع: للشوكاني دار المعرفة بيروت.
28- بغية الملتمس للضبي تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب المصري واللبناني القاهرة وبيروت ط1 ، 1410 هـ.
29- بغية الوعاة: للسيوطي تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم المكتبة العصرية بيروت.
ت
30- تاريخ الأدب الجغرافي العربي: لكراتشكوفسكي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم دار الغرب الإسلامي بيروت ط2، 1408 هـ.
31- تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي دار الكتب العلمية بيروت.
32- تاريخ علماء الأندلس: لابن الفرضي تحقيق: إبراهيم الأبياري دار الكتاب المصري واللبناني القاهرة وبيروت ط 2، 1410 هـ.
33- التبيان في شرح الديوان: المنسوب للعكبري تحقيق: مصطفى السقا وزميليه دار المعرفة بيروت.
34- تحت راية القرآن للرافعي دار الكتاب العربي بيروت ط7، 1394 هـ.
35- تحفة الأحوذي: للمباركفوري، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف دار الفكر ط3، 1399 هـ.
36- تذكرة الحفاظ: للذهبي تحقيق: عبد الرحمن المعلمي دار إحياء التراث العربي.
37- تذكرة السامع والمتكلم: لابن جماعة تحقيق محمد هاشم الندوي رمادي للنشر ط1، 1415 هـ.
38- التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني دار إحياء التراث العربي بيروت.
39- ترتيب المدارك للقاضي عياض اليحصبي وزارة الأوقاف المغربية.
40- التعالم: لبكر أبو زيد دار العاصمة الرياض ط4، 1418 هـ.
41- التلقين في الفقه المالكي، لعبد الوهاب المالكي تحقيق: محمد ثالث سعيد الغاني دار الفكر بيروت 1415 هـ.
42- التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة: للسيوطي، دار الثقة، مكة المكرمة 1410 هـ.(1/120)
43- تهذيب الكمال: للمزي تحقيق بشار عواد معروف مؤسسة الرسالة بيروت ط1، 1413 هـ.
44- التوقيف على مهمات التعريف: للمناوي تحقيق: محمد رضوان الداية دار الفكر دمشق ط1، 1410 هـ.
ج
45- جامع بيان العلم: لابن عبد البر، تحقيق، أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي الدمام ط4، 1419 هـ.
46- الجامع لشعب الإيمان للبيهقي تحقيق: عبد العلي حامد، الدار السلفية، الهند ط1، 1406 هـ.
47- جذوة المقتبس للحميدي تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب المصري واللبناني القاهرة وبيروت ط2، 1410 هـ.
48- الجواهر المضية: للقرشي، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، دار هجر ط2 ، 1413 هـ.
ح
49- حاشية لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر: للعدوي مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر ط1، 1356 هـ.
50- الحاوي للفتاوي: للسيوطي دار الكتب العلمية بيروت 1402هـ
51- الحبل الوثيق في نصرة الصديق الحاوي للفتاوي.
52- حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق: للزبيدي، تحقيق: محمد طلحة بلال، دار المدني ط1، 1411 هـ.
53- حلية الأولياء: للأصبهاني دار الكتب العربي ط5، 1407 هـ.
54- حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر: للبيطار تحقيق: محمد بهجة البيطار، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، 1382 هـ.
55- حلية طالب العلم: لبكر أبو زيد دار العاصمة الرياض ط5، 1415 هـ.
خ
56- خزانة الأدب وغاية الأرب: لعلي بن عبد الله الحموي، تحقيق: عصام شعيتو دار ومكتبة الهلال بيروت ط1، 1987 م.
د
57- الدرر الكامنة: لابن حجر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
58- دلائل الإعجاز: لعبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، مكتبة الخانجي ط2، 1410 هـ.
59- دول العرب وعظماء الإسلام: لأحمد شوقي دار الكتاب العربي بيروت ط1، 1970م.
60- الديباج المذهب: لابن فرحون دار الكتب العلمية بيروت.
61- ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي تحقيق: محمد عبده عزام دار المعارف مصر، 1964 م.(1/121)
62- ديوان الشافعي: تحقيق: مجاهد مصطفى بهجت دار القلم دمشق ط1، 1420 هـ.
ذ
63- الذريعة إلى مكارم الشريعة: للراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ.
64- الذيل على طبقات الحنابلة: لابن رجب الحنبلي دار المعرفة بيروت.
ر
65- رباعيات مختارة لإلياس قنصل دار الرفاعي الرياض ط2، 1402هـ.
66- رحلة ابن جبير دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1404هـ.
67- رسائل ابن حزم الأندلسي: تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2، 1987 م.
68- رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون مكتبة الخانجي القاهرة.
69- الرسالة المستطرفة للكتاني دار البشائر الإسلامية بيروت ط4، 1406 هـ.
70- رسالة في فضل الأندلس: رسائل ابن حزم الأندلسي.
71- روح المعاني: للآلوسي دار إحياء التراث العربي بيروت.
72- الروض المعطار: للحميري تحقيق: إحسان عباس مكتبة لبنان بيروت ط2، 1984 م.
س
73- السلسلة الصحيحة للألباني مكتبة المعارف الرياض 1415 هـ.
74- سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر: للمرادي: دار ابن حزم، بيروت ط3، 1408 هـ.
75- سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية تركيا.
76- سنن الترمذي تحقيق: أحمد شاكر وآخرين دار الباز مكة المكرمة.
77- السنن الكبرى: للبيهقي دار المعرفة بيروت.
78- سير أعلام النبلاء: للذهبي تحقيق مكتب التحقيق بمؤسسة الرسالة بيروت.
ش
79- شذرات الذهب: لابن العماد، دار الكتب العلمية بيروت.
80- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الدمشقي، تحقيق عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط مؤسسة الرسالة ط1، 1408 هـ.
81- شرح الكوكب المنير: لابن النجار تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد دار الفكر دمشق 1400 هـ.
82- الشعر والشعراء: لابن قتيبة الدينوري، دار الكتب العلمية ط2، 1405 هـ.
63- الشوقيات لأحمد شوقي تعليق يحيى شامي دار الفكر العربي ط1، 1996 م.
ص(1/122)
84- الصارم المسلول لابن تيمية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد عالم الكتب 1402 هـ.
85- صحيح الأدب المفرد للألباني دار الصديق الأردن ط1، 1414 هـ.
86- صحيح البخاري: تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، واليمامة دمشق ط4، 1410 هـ.
87- صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية مصر.
88- صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل: لعبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية حلب ط3، 1413 هـ.
89- صيد الخاطر لابن الجوزي تحقيق عامر علي ياسين، دار ابن خزيمة ط1، 1418 هـ.
ض
90- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي دار مكتبة الحياة بيروت.
ط
91- طبقات الحنابلة: لمحمد بن أبي يعلى دار المعرفة بيروت.
92- طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي تحقيق، محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، هجر للطباعة والنشر مصر ط2، 1413 هـ.
93- طبقات الشعراء: ابن المعتز، تحقيق عبد الستار أحمد فراج دار المعارف القاهرة ط4.
94- طبقات المفسرين: للداودي تحقيق علي محمد عمر مكتبة وهبة القاهرة ط2، 1415 هـ.
95- طبقات النحويين واللغويين: للزبيدي تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف القاهرة ط2.
96- الطراز للعلوي، دار الكتب العلمية بيروت، 1400 هـ.
97- الطريق إلى العبقرية: مقداد يالجن دار الهدى الرياض ط1، 1407 هـ.
ع
98- علوم الحديث لابن الصلاح تحقيق: نور الدين عنز، دار الفكر دمشق ط3، 1404 هـ.
99- عنوان الشرف الوافي: لإسماعيل المقري، تحقيق عبد الله الأنصاري مكتبة جدة ط5، 1406هـ.
غ
100- غذاء الألباب للسفارييني مؤسسة قرطبة مصر.
101- الغنية للقاضي عياض اليحصبي تحقيق ماهر زهير جرار دار الغرب الإسلامي، بيروت ط1، 1402 هـ.
ف
102- فتح الباري: لابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب المكتبة السلفية ط3، 1407 هـ.
103- فتح المغيث: للسخاوي، تحقيق عبد الكريم الخضير ومحمد آل فهيد دار المنهاج الرياض ط1، 1426 هـ.(1/123)
104- فضل الأندلس وذكر رجالها لابن حزم رسائل ابن حزم الأندلسي.
105- الفوائد المجموعة للشوكاني تحقيق عبد الرحمن المعلمي، المكتب الإسلامي ط3، 1407 هـ.
106- في علمي العروض والقافية، لأمين علي السيد، دار المعارف، مصر ط4، 1990م.
107- فيض القدير: للمناوي دار الفكر بيروت.
ق
108- القاموس المحيط: للفيروزآبادي مؤسسة الرسالة بيروت ط8، 1426 هـ.
109- قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر: لزغلول راغب النجار، كتاب الأمة قطر ط1، 1409 هـ.
110- قطوف أدبية حول تحقيق التراث لعبد السلام هارون مكتبة السنة القاهرة ط1، 1409 هـ.
ك
111- كارثة في العالم الإسلامي لمحمد عبد العليم مرسي دار الصحوة للنشر القاهرة ط1، 1407 هـ.
112- الكليات للكفوي تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت ط1، 1412 هـ.
113- كناشة النوادر: لعبد السلام هارون مكتبة الخانجي القاهرة ط1، 1405 هـ.
114- الكواكب النيرات: لابن الكيال تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبي دار المأمون ط1، 1401 هـ.
ل
115- لسان العرب: لابن منظور دار صادر بيروت.
م
116- ما تلحن فيه العامة للكسائي تحقيق رمضان عبد التواب مكتبة الخانجي ط1، 1403 هـ.
117- المتنبي لمحمود شاكر مطبعة المدني ط1، 1407 هـ.
118- المجروحين لابن حبان تحقيق: محمود زايد دار الباز مكة المكرمة.
119- مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي: لأحمد قبش دار الرشيد ط2، 1403 هـ.
120- مجموع الفتاوى: لابن تيمية جمع عبد الرحمن بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف 1415 هـ.
121- المحدث الفاصل: للرامهرمزي، تحقيق، محمد عجاج الخطيب دار الفكر ط3، 1404 هـ.
122- مدارج السالكين، لابن القيم تحقيق محمد حامد الفقي دار الكتاب العربي بيروت 1392 هـ.
123- مداواة النفوس، رسائل ابن حزم الأندلسي.
124- مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي: للطناحي، مكتبة الخانجي القاهرة ط1، 1405 هـ.(1/124)
125- المستدرك على الصحيحين: للحاكم دار المعرفة بيروت.
126- المستطرف: للأبشيهي دار الكتب العلمية بيروت ط2، 1406هـ.
127- مسند أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين مؤسسة الرسالة ط1، 1420 هـ.
128- معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى: لمحمد التميمي أضواء السلف ط1، 1419 هـ.
129- المعتمد في الأدوية المفردة: ليوسف بن عمر التركماني دار القلم بيروت.
130- معجم الأدباء: لياقوت الحموي، تحقيق إحسان عباس دار الغرب الإسلامي بيروت ط1، 1993 م.
131- المعجم الأوسط: للطبراني، تحقيق: محمود الطحان، مكتبة المعارف الرياض ط1، 1407 هـ.
132- معجم البلاغة العربية: لبدوي طبانة دار المنارة جدة ط3، 1408 هـ.
133- معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة دار إحياء التراث العربي بيروت.
134- المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية مكتبة الشروق الدولية ط4، 1426 هـ.
135- معجم مقاييس اللغة: لأحمد بن فارس تحقيق: عبد السلام هارون مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر ط2، 1390 هـ.
136- معرفة القراء الكبار: للذهبي تحقيق: بشار عواد معروف وآخرين مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1408 هـ.
137- مفتاح دار السعادة لابن القيم الجوزية: تحقيق: علي بن حسن الحلبي: دار ابن عفان الخبر ط1، 1416 هـ.
138- مقامات الحريري، دار بيروت للطباعة والنشر 1405 هـ.
139- مقدمة لتاريخ التفكير العلمي في الإسلام: أحمد سليم سعيدان، سلسلة عالم المعرفة الكويت 1409 هـ.
140- من مؤلفات ابن سينا الطبية، تحقيق: محمد زهير البابا، منشورات جامعة حلب 1404 هـ.
141- المنار المنيف: لابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية حلب ط2، 1403 هـ.
142- مناقب الإمام أحمد بن حنبل: لابن الجوزي الناشر: خانجي وحمدان بيروت ط2.
143- مناقب الشافعي: للبيهقي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث القاهرة ط1، 1390 هـ.(1/125)
144- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: للنووي تحقيق خليل شيحا دار المعرفة بيروت ط7، 1421 هـ.
145- منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن مكتبة الرشد، الرياض ط1، 1412 هـ.
146- منهج التربية الإسلامية: لمحمد قطب دار الشروق بيروت ط4، 1400 هـ.
147- الموافقات: للشاطبي، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان دار ابن عفان الخبر ط1، 1417 هـ.
148- موسوعة العلماء والمخترعين إبراهيم بدران ومحمد فارس المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط3، 1987 م.
149– موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية دار المسلم الرياض ط2، 1422 هـ.
150- ميزان الاعتدال: للذهبي تحقيق: علي البجاوي دار المعرفة بيروت.
151- النجوم الزاهرة للأتابكي دار الكتب مصر.
152- النحو والصرف في مناظرات العلماء ومحاوراتهم، لمحمد آدم الزاكي الفيصلية مكة المكرمة، 1404 هـ.
153- ندوة الإمام مالك دورة القاضي عياض المغرب مراكش وزارة الأوقاف المغربية، 1401 هـ.
154- نفح الطيب للمقري تحقيق إحسان عباس دار صادر بيروت، 1408 هـ.
هـ
155- هجرة لعلماء من العالم الإسلامي لمحمد عبد العليم مرسي دار عالم الكتب الرياض، 1411 هـ.
156- هكذا علمني وردزورث أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري تهامة جدة ط1، 1404 هـ.
و
157- وفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق إحسان عباس دار صادر بيروت، 1397 هـ.
ي
158– يتيمة الدهر للثعالبي دار الكتب العلمية ط1، 1399 هـ.
فهرس موضوعات الكتاب
فاتحة…5
بين يدي الكتاب…7
الفصل الأول: مفهوم الإبداع…15
معناه في اللغة…15
معناه في الاصطلاح…16
التعريف المختار للإبداع…17
الفصل الثاني: حقيقة الإنسان المبدع…19
الفصل الثالث: أنواع الإبداع…23
النوع الأول: تأسيس الشيء عن الشيء…23
النوع الثاني: إيجاد الشيء من لا شيء…23
الفصل الرابع: أقسام الإبداع…25
أقسام الإبداع باعتبار العمل ذاته…25
أقسام الإبداع باعتبار الغاية والهدف…26
أقسام الإبداع باعتبار القوة والتمكن…28(1/126)
التنبيه على خمسة أمور…29
أولا: هذا التقسيم اجتهادي…29
ثانيا: لا يلزم من الإبداع في فن الإبداع في جميع الفنون…29
ثالثا: لا يلزم أن يكون المبدعُ عبقريًا في كل أحواله وأموره…31
رابعًا: لا يلزم أن تظهر علامات التفوق في الشخص…34
خامسا: أن المبدعين المتميزين في تاريخ الأمم…34
الفصل الخامس: أسس الإبداع العلمي…37
أ- القوة العقلية…37
ب- القوة النفسية…43
الصفات والدوافع التي تولد القوة النفسية…44
حب الشيء والرغبة الشديدة فيه…44
الشجاعة الأدبية…44
علو الهمة…48
الإثارة والغضب…49
جـ- القوة الجسدية…52
أنواع ما يغتذي به البدن…55
1- غذاء معنوي.…55
2- غذاء حسي مادي.…55
الفصل السادس: مقومات الإبداع العلمي…61
أولا: التمكن في العلم وهضم مسائله…61
1- التخصص:…61
2- أخذ العلم عن أهله:…68
3- عدم الاكتفاء بالدراسة المنهجية،…69
4- أخذ العلم على المسائل والجزئيات والتدقيق فيها…71
5- تقديم الأهم على المهم، والأصل على الفرع…73
ثانيًا: حب الفن والاقتناع به…74
ثالثًا: الصبر وعدم استعجال النتائج…76
رابعًا: الانصراف الكلي للعلم، ومواصلة البحث فيه…80
خامسًا: التصور الصحيح للفن والتخطيط السليم له…86
سادسًا: بقاء المبدع في جو علمي كامل…90
سابعًا: التقصي في البحث…92
الفصل السابع: حوافز الإبداع العلمي…95
أولاً: الحوافز المادية والمعنوية…95
1- توفير الضروريات والحاجيات والكماليات الشخصية للمبدع…95
2- توفير الجو العلمي المُلائم…101
3- تمكين العالم من تخصصه الذي يرتاح إليه ويبدع فيه…102
4- تقدير المبدعين ورفع منزلتهم في الناس…103
ثانيًا: المنافسة الشريفة…104
ثالثًا: الصدمة النفسية…106
رابعًا: الزمان والمكان…107
أنواع الزمن …108
إزالة اللبس حول بركة الوقت…109
خامسا: الاهتمام بالصحة والنشاط…115
الفصل الثامن: عوائق الإبداع العلمي…119
أولاً: عدم تقدير المبدع…119
1- الحسد…120(1/127)
2- عدم فهم الناس لتلك الابتكارات الجديدة وقيمتها العلمية…121
ثانيًا: عدم الثقة بالنفس…125
1- مقولة نشأت قديما ولاكتها الألسن…125
2- دعوى إغلاق باب الاجتهاد…127
ثالثًا: دخول العالم في غير فنه…129
رابعًا: توقف الإنسان عند مرحلة من العلم وانقطاعه دونها…131
خامسًا: اضطراب المنهج…133
سادسًا: النقد السلبي المدمر…133
سابعا: المصائب والشواغل التي تحل بالنفس أو الذهن…134
ثامنًا: عدم الإخلاص في العمل…136
الفصل التاسع: انحراف الإبداع عن مساره الصحيح…137
1- الإضرار بالنفس…137
2- الإضرار بالغير…138
الفصل العاشر: نجوم مضيئة في سماء الإبداع العلمي…141
الخليل بن أحمد الفراهيدي ت 174 هـ…143
محمد بن إدريس الشافعي ت 204هـ…146
محمد بن إسماعيل البخاري ت 256 هـ…148
محمد بن جرير الطبري ت 310 هـ…150
أحمد بن حسين الجعفي المتنبي ت 354 هـ…152
أحمد بن فارس الرازي ت 395هـ…155
عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني ت 471هـ…157
القاسم بن علي الحريري ت 516 هـ…159
أبو الفرج بن الجوزي ت 597 هـ…164
أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) ت 728هـ…166
أبو إسحق إبراهيم بن موسى الشاطبي ت 790هـ…168
محمد بن أحمد الذهبي ت 748 هـ…169
ابن القيم الجوزية ت 751 هـ…171
ابن خلدون ت 808 هـ…172
الحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852هـ…174
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج والتوصيات…177
الفهارس…181
ثبت بأهم المصادر والمراجع…183
فهرس موضوعات الكتاب…197
********(1/128)