ويكون الإخلال إما بإهمال العلم فينشأ الناشِئُ جاهلا، فتبقى فطرته معطلة لا تترقى في معارج الخير، ويكون إمعة متأثراً بما حوله بلا بصيرة، أو يكون الإخلال بتعلمه من غير الكتاب والسنة فيتغذى قلبه من مستنقعات الأمم الجاهلية فتتغير فطرته.
ومما يتصل بالتزكية العناية بالتعليم العام ووسائل الإعلام وجعل مادتها موافقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بإيجاد توافق وانسجام في مواد التربية والتعليم والتوجيه في البيت والمدرسة والمسجد والإعلام، بقصد النهوض بالفطرة إلى كمالها الموافق لهدي الدين القويم، والمحافظة عليها وتجنبها البلبلة والحيرة والشتات.
الخطوة الثانية: التطهير
وتكون بالابتعاد عن وساوس الشياطين الذين يجتهدون في صد المسلمين عن موجب فطرهم من الدين والخير والفضيلة.
أما شياطين الجن فإن العناية بالعلم والتربية عليه وعلى التعلق بالله كفيلة في إحباط مكرهم حيث إن جهدهم منصب على الوسوسة التي تفتك بالجهال وبمن أعرض عن الله فقلَّت حماية الله له.
أما شياطين الإنس فيكون الابتعاد عنهم بقطع قنوات الاتصال بهم، كالاختلاط بهم، أو السفر إلى بلادهم ومعاشرتهم.
ومن ذلك منع المسلم من الاستماع أو المشاهدة لما ينقل من رجسهم في وسائل الإعلام من تمثيليات أو أفلام أو غناء أو مجون وغير ذلك من آدابهم وفسقهم وباطلهم. فإن للعكوف على هذه المواد أثراً بالغاً في حرف الفطر وتشويهها، وخاصة ما يبث للأطفال مما يسمى بأفلام الكرتون فإن لها أثرا في تشويه ما فطروا عليه، والإيحاء إليهم بخيالات عن الذات الإلهية وغيرها من المطالب الغيبية تجعلهم يعتقدون الشرك أو التشبيه أو غير ذلك من الباطل.
كما يحذر من المربيات الكافرات والمشركات والفاسقات، لما لهن من التأثير على الأطفال بما يقصصن عليهم من القصص الباطلة الخرافية، وبما يشاهدونه من سلوكهن.(22/13)
وعموما فإنه كلما كان الإنسان أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسير الأنبياء والعلماء والصالحين كان أزكى لفطرته، وانفتح لها المجال للترقي في الهداية والصلاح، وفي المقابل فإن القرب من الجاهليين من الكفرة والمشركين والفاسقين، واستماع أخبارهم وقصصهم وسيرهم وآدابهم ومعاشرتهم له أثر فعال في تغيير الفطرة أو تشويهها، وإضعاف الإيمان.
وخلاصة الفائدة السادسة :
أنّ المثل دل على اعتبار الفطرة السليمة في قبول الحق والتجاوب معه، وأن ذلك شرط في حصول نُور الإيمان في القلب وانتفاعه بالعلم الواصل إليه والمستمد من الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتبين من أدلة الكتاب والسنة أن الله فطر كل الناس على معرفته وتوحيده ومحبته، وجبل نفوسهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلك من الدين والإسلام والخير.
كما تبين أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الأصل في ثلاثة أمور هامة:
(الأول): حصول الإيمان في القلب مستلزم للفطرة السليمة والإنابة لداعيها.
(الثاني): أن الإيمان بالقدر وفهمه فهما صحيحا يستلزم الإيمان بأن الناس ولدوا جميعا على فطرة سوية قويمة مرجحة للإيمان داعية إليه.
(الثالث) أن العلم الحق الذي ينال بالنظر العقلي لابد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية.
كما تبين أهمية العناية بالفطرة والمحافظة عليها بتزكيتها بالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وتطهيرها من مكايد شياطين الإنس والجن الذين يجتهدون في إفسادها. والله أعلم.
الفائدة السابعة: أثر نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وعلى وظيفة التعقل.
تقدم(1) عند الكلام على تحديد ما يقابل أجزاء الممثّل به، تقرير أن الزجاجة تقابل ما يقوم بالقلب من أعماله. بمعنى أن نُور الله في قلب المؤمن سرى وسطع على كل أعماله القلبية: من العقائد، والعواطف والإرادات، والانفعالات، وخاصة وظيفة التعقل، فاكتسب القلب لذلك البصيرة في تعقله وأعماله.
__________
(1) انظر: ص (321).(22/14)
فالقلب محل لأهم وظيفة أكرم الله بها الإنسان وهي التفكر والتعقل الذي هو طريق العلم والهداية بإذن الله.
"ونُور الهداية الذي يقذفه الله في قلب المؤمن يحدث أثرا عظيما على وظائف القلب، أهمها توجيه وظيفة التعقل الوجهة الصحيحة، حيث يركن إلى الوحي وحده يستقي منه العقائد والشرائع، فلا يزال القلب يتعقل المعارف والحكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتبنى عقائده على أساس ثابت، وتغذى عواطفه بمعين الخير الصافي، ويخرج ما يضاد ذلك من ظلمات الجاهلية، ويزداد ذلك بازدياد العلم الوارد إلى القلب، فلا يزال الخير إليه واصل، والشر منه نازل حتى يصلح القلب ويستنير، فتنبعث الجوارح بالعبودية لله عن علم به وبحقه سبحانه"(1).
فالله - سبحانه - أعطى الإنسان من الفطرة القويمة، والقدرة على التعقل ما يكفي لإدراك الحق ومصدره إذا عرض عليه عن طريق الأنبياء ومن يبلغ عنهم، فإذا ركن إلى ذلك كان منيباً يستحق هداية الله، كما قَال تعالى: {وَيَهْدِي إليْهِ مَنْ أَنَابَ}(2).
ويشرح صدره للإسلام، ويجعل في قلبه نُور الإيمان، وبذلك تبدأ الحياة في القلب والصلاح، وتزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر، ويصبح القلب قادرا على التعقل السوي الصحيح بقدر ما عنده من الإيمان والعلم.
__________
(1) البحث الذي قدمته لرسالة الماجستير ص 223 بعنوان [ أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة] قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية عام 1412 هـ.
(2) سورة الرعد آية (27).(22/15)
وهذا المعنى المستفاد من المثل وهو: أن المؤمنين - الذين أنار الله قلوبهم بنُور الإيمان القائم على العلم بما نزل من الكتاب والسنة- هم أقدر الناس وأحقهم بالتعقل الصحيح وأن ذلك من ثمرات ذلك النُور القائم في قلوبهم، هذا المعنى ورد في كثير من الآيات نحو قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ...}(1) الآيات.
وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(2).
وقد اشتركت هاتان الآيتان في بيان أمور هامة منها:
1- المقايسة بين الذين يعلمون ما أنزل الله من الوحي على نبيه صلى الله عليه وسلم وبين الجهال، وبيان عدم استوائهم.
2- بيان أثر العلم على أعمال العالمين، واشتغالهم بالأعمال والصفات التي علموا فضلها وحسن عاقبتها.
3- الإشارة إلى أن هؤلاء - أهل العلم والإيمان - هم أهل العقول الراجحة والنظر السديد والرأي الحصيف.
4- بيان أن السبب المؤثر في كل ما تقدم: من عدم استوائهم مع الجهال، ومسارعتهم في الخيرات، وتميزهم بالعقول الراجحة، إنما هو علمهم بما نزل من الوحي.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوآ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(3).
__________
(1) سورة الرعد آية (19- 22).
(2) سورة الزمر آية (9).
(3) سورة الزمر الآيتان (17، 18).(22/16)
وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}(1).
وقد دل هذان السياقان على أمور هامة منها:
1- الشهادة لأهل الإيمان - لا لغيرهم - الذين كفروا بالطاغوت، وأنابوا إلى الله بتوحيده، وإخلاص الدين له بأنهم أولو الألباب، ورد ذلك في الآية الأولى في قوله: {أولئكَ الَّذِين هَدَى الله وأولئِكَ هُم أولُوا الألبَاب}.
وفي الآية الثانية بقوله: {يَآ أُولي الألبَابَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
2- أن العقل قادر - عندما يعمل في تدبر آيات الله وما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي هو أحسن القول والحديث - على المقايسة والتمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح، وأن هذه الخاصية تميز بها أهل الإيمان والعلم وبها اكتسبوا الوصف بأنهم أولو الألباب.
ورد هذا المعنى في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي أنهم يعملون عقولهم في تدبر القول الحسن وهو الوحي المطهر فيتبيّن لهم الحسن من القبيح والحق من الباطل فيتبعون الحسن.
وفي قوله في الآيات الأخرى:{قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.
وذلك أن خروجهم من الظلمات إلى النُور يكون بعد إعمالهم عقولهم في الآيات المبينات، فيتبين لهم النور من الظلمة فيسيرون في النور ويبتعدون عن الظلمات.
__________
(1) سورة الطلاق الآيتان (10، 11).(22/17)
فقدرة العقل على التمييز بين الحق والباطل في المطالب الدينية لا تكون بنظره المجرد، وإنما هي خاصية القلب المنور بنُور العلم والإيمان.
وبذلك يتبين أثر نُور العلم والإيمان في زكاة القلب وسلامة تعقله وصحة استنتاجه.
3- أن ثمرة تلك العقول الراجحة الناظرة في العلوم النازلة، أنها دلت أهلها على الأعمال الصالحة، والأقوال الخيرة، والأحوال المباركة، فسارعوا إليها فاستحقوا بذلك هداية الله ورضوانه وكرامته في الدنيا والآخرة، دل على ذلك قوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} وقوله: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..} الآية.
وخلاصة هذه الفائدة:
أن المثل دل على أثر نُور العلم والإيمان على العقل حيث أكسبه سلامة التعقل، وسداد النظر، وصحة الاستنتاج.
وأن الطريق إلى الحق في كل المطالب الدينية إنما يكون بإعمال العقل المستنير في الوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأن العقل المجرد عن العلم لا سبيل له إلى تلك الحقائق.
كما دل المثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب ووظائفه الأخرى: من العقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات فأخصبها بالخير والسلامة والصلاح.
الفائدة الثامنة: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في تعيين طريق تحصيل العلوم في المطالب الدينية.(22/18)
تقدم(1) عند الكلام على أهمية ضرب الأمثال: أن الأمثال "موازين عقلية ضمنها الله كتابه، توزن بها القضايا التي قد يستشكلها بعض الناس، أو الحادثة التي يحصل الخلاف والنزاع والجدال حولها، فتأتي الأمثال القائمة على مقايسة تلك الأمور على ما يشابهها لإيضاح حكمها وإلحاقها بها، أو مقايستها على ما يخالفها لبيان بعدها عنها وإزالة الشُّبه التي أوهمت قربها منها".
وقد دل المثل عن طريق تشبيه العلم بالزيت على أن العلم المستقى من الكتاب والسنة هو الطريق الأوحد لمعرفة القلب لحقائق الإيمان وأن بيان جميع عقائد الدين وشعائره وكل ما يتصل به ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} دل على أن نُور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان ويزيده ويقويه.
وفي قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} دليل على أن النوريْن من الله، نُور الإيمان الذي يقذف في القلب، ونُور العلم الذي طريقه الوحي، فمن هُدي إلى الأول، واهتدى بالثاني فقد أعطاه الله نُوراً تاماً، ومن أخطأه نُور الله فليس له من نُور بل هو في طريق من طرق الضلال سائر في الظلمات.
وهذا المعنى الذي دل عليه المثل - وهو أن العلم المستقى من الوحي هو طريق الهداية ومعرفة الحقائق الدينية الشرعية - أمر معلوم من الدين بالضرورة، لم يختلف فيه أحد من الأئمة المعروفين الذين يُقتدى بقولهم السائرين على نهج السلف الصالح قديماً وحديثاً.
فالإيمان إنما يكون بتعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم به والاعتصام بالكتاب والسنة والاستمساك بهما ويطلب الحق في جميع المطالب الشرعية منهما، وهذا هو نهج السلف الصالح وهو مفتاح الخير وأساس الهداية.
لذلك كان الأصل الأول في منهج أهل السنة والجماعة السائرين على نهج السلف الصالح هو:
__________
(1) انظر: ص (150).(22/19)
أنهم يتلقون علومهم ومعارفهم في جميع المطالب الدينية في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب والمعاملات من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح وهدي الخلفاء الراشدين.
وهذا المعنى تظافرت على تقريره نصوص الكتاب والسنة، من ذلك قول الله عز وجل: {إن هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَم}(1).
وقوله: {قَدْ جَآءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(2).
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(3).
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(4).
وقوله: {وَمَآ أَنْزَلْنَآ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(5).
والآيات الدالة على أن الهدى والنور والبيان إنما هو بكتاب الله عز وجل وتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى.
وقد جاءت بمختلف تصاريف القول لتأكيد هذا المعنى وترسيخه لكونه مفتاح العلم والإيمان وأساس الهداية.
وأما الأحاديث فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله"(6).
__________
(1) سورة الإسراء آية (9).
(2) سورة المائدة آية (16).
(3) سورة الشورى آية (52).
(4) سورة النحل آية (89).
(5) سورة النحل آية (64).
(6) رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، (ح 1218)، (2/890).(22/20)
ويشهد له الحديث الآخر، وفيه قال: "وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"(1).
وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما: كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة"(2).
وقَال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(3).
فحث صلى الله عليه وسلم على تعلم كتاب الله والعمل به، ثم حث على سنته وسنة الخلفاء الراشدين وحث على التمسك بها مبيناً أن ذلك هو أساس الدين وقوامه، والمخرج من الفتن، والمنقذ من الضلالات. وحذر من البدع في الدين والمحدثات مبيناً أنها طريق الضلال.
ومن أعظم البدع التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم هي التي صرفت الناس عن تلقي العلوم من الوحي المحفوظ، وأوهمتهم بأن هناك طرقا لتحصيل المعارف اليقينية في المطالب الإلهية وغيرها من غير الكتاب والسنة، بل زعموا - وبئس ما زعموا - أن الاقتصار في تحصيلها على الكتاب والسنة قصور لا يوجب لصاحبه معرفة الحقائق.
وأهم هذه الطرق الزائغة طريقان:
1- طريق النظر العقلي الذي اعتمد عليه أهل الكلام، وزعموا أنه هو طريق معرفة الله، بل وأسموه"التوحيد" زورا وبهتانا، وهو قائم على المنطق الفلسفي الأرسطي.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ح240)، (4/1873).
(2) رواه مسلم نفس المرجع ص (1874).
(3) رواه الإمام أحمد، المسند (4/126)، والترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، (ح2676) (5/44)، وقال: "حديث حسن صحيح"، والحاكم في المستدرك (1/95) وقال في بعض طرقه: "هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً ولا أعرف له علة".(22/21)
وبالغ المتأخرون من أهل الكلام حتى جعلوا جميع العلوم من فروع علم الكلام، وزعموا أن النظر العقلي وما ينتج عنه، هي الميزان الذي توزن به الحجج والبراهين، ويميز به بين الصدق والكذب في الأقوال، والخير والشر في الأفعال، والحق والباطل في الاعتقادات !!(1).
2- طريق الكشف والفيض الذي اعتمد عليه أهل التصوف الغالي، وزعموا أنه هو الطريق لمعرفة كل الحقائق الدينية، وزعموا أنه نوع من الوحي الذي يحصل للقلوب الزكية.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "... هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان:
إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين عَلِمَ أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان مَنْ سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق.
فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى"(2).
__________
(1) انظر: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه، لمحمد بن حزم الأندلسي ص (6، 7)، تحقيق د. إحسان عباس، دار مكتبة الحياة.
ومقدمة ابن خلدون ص (908) دار الكتاب اللبناني. ومفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لأحمد مصطفى الشهير بطاش كبرى زادة، ص (597)، ت /كامل بكري، وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة.
(2) درء تعارض العقل والنقل، (5/345).(22/22)
ولا شك أن هذين الطريقين من أعظم البدع المضلة، إذ هما صد عن سبيل الله وصرف للناس عن العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أصل الهدى والنور ومنبع المعارف والعلوم المصلحة للقلوب والأعمال الموجبة لزيادة الإيمان وتحصيل رضى الرحمن، قال الله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَآهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوآ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ}(1).
قال ابن تيمية - رحمه الله - بعد أن ذكر الطريقين: "وهذان أصلان للإلحاد"(2).
وذلك أن كل ميل وانحراف وضلال حصل في الأمة فمرده إلى أحد هذين الطريقين فهما أصلان للضلال والإلحاد.
ثم قال - رحمه الله -: " وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين، فلا بد من العلم والقصد.
ولا بد من العلم والعمل به. ومن عمل بما يعلم ورَّثه الله علم ما لم يعلم.
والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلا بدّ من أداء الوجبات.
__________
(1) سورة الأنعام آية (155- 157).
(2) درء تعارض العقل والنقل، (5/348).(22/23)
ولا بد أن يكون كل منهما موافقاً لما جاء به الرسول، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالاً في علمه، غاويا في عمله. ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة، من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالاً غاويا،... فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالاً، وإذا لم يعمل بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذاك فساداً ثانياً. والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات، والرياضات والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغيَّ ما ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم.
كما قال تعالى:{هلْ أُنَبئُكُمْ عَلى مَن تَنَّزلُ الشَّيَاطينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثيمٍ}(1).
والإنسان همام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل، وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه، فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران. ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم، وهو يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر"(2).
الرازي ومنهج المتكلمين:
__________
(1) سورة الشعراء الآيتان (221، 222).
(2) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، (5/351).(22/24)
وقد تولى كبر زخرفة المنهج العقلاني محمد بن عمر الرازي(1)
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين القرشي الرازي، يلقب بابن الخطيب، ولد سنة 543هـ، كان مضطرب الديانة كثير الحيرة، ينتسب إلى المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية المبتدعة، إلا أنه أقرب إلى دين الفلاسفة، وقد رمي بالتشيع، كانت أغلب مؤلفاته في الفلسفة، وعلم الكلام، والرياضة، والطب، والسحر والتنجيم والرمل، وألف في أصول الفقه، وله في التفسير كتاب مشهور هو التفسير الكبير، ضمنه كثيرا من باطله، قال عنه بعض العلماء:"فيه كل شيء إلا التفسير"، وقال أبو شامة المقدسي: "كان الرازي يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة، فإذا جاء الأجوبة اقتنع بالإشارة"، وقَال الشهرزوري:"إن الإمام الرازي شيخ مسكين متحير في مذاهب الجاهلية التي تخبط فيها خبط عشواء"، وقال ابن جبير: "دخلت الري فوجدت ابن خطيبها قد التفت عن السنة وأشغلهم بكتب ابن سينا وأرسطو".
وقال الحافظ الذهبي: "الفخر بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات في مسائل من دعائم الدين تورث حيرة".
وقد تصدى له شيخ الإسلام ابن تيمية ورد على ضلالاته بالتفصيل في كتابه: نقض التأسيس، ودرء تعارض العقل والنقل، وغيرها، توفي الرازي سنة 606 هـ.
انظر: ميزان الاعتدال، للذهبي، (3/340) وفخر الدين الرازي وآراؤه الفلسفية والكلامية، د. محمد صالح الزركان، ومقدمة كتاب القضاء والقدر للرازي، (11-26).(22/25)
الملقب بفخر الدين(1) ! حيث حشد الشبهات، ولبس الحق بالباطل ليقنع من يطلع على أقواله بأن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لا يدلان على الحق في المطالب اليقينية المتصلة بالعقائد وخاصة معرفة أسماء الله وصفاته والقدر، وأن الطريق إلى معرفة ذلك إنما يكون بالدلائل العقلية.
ويزعم أن التمسك بالدلائل اللفظية - نصوص الكتاب والسنة - في المطالب اليقينية - معرفة أسماء الله وصفاته والقدر ونحوها - باطل قطعاً.(2)
ويقول في مسألة الإيمان بالقدر: "إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، وهذه المسألة يقينية، فوجب أن لا يجوز التمسك فيها بالدلائل السمعية"(3).(4)
وعنده أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين لأن الصحابة الذين بلغوها مطعون فيهم، وقد حشد الشبهات والتلبيسات التي يسميها أدلة لتلفيق القدح والطعن في خيار الصحابة وأمهات المؤمنين الذين بلّغوا الدين، ليتوصل بذلك إلى التشكيك في رواياتهم للقرآن والأحاديث.(5)
ويزعم أن القرآن مشتمل على التناقض، وآياته يعارض بعضها بعضا.(6)
__________
(1) إطلاق مثل هذه الألقاب على أمثال هؤلاء يؤدي إلى اغترار الناس وإحسانهم الظن بهم، مما يساعد على انتشار باطلهم.
(2) انظر:كتاب القضاء والقدر، لمحمد بن عمر الرازي، ص (106) ت /محمد المعتصم بالله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
(3) "الدلائل السمعية"، "الدلائل اللفظية"، "السمع": تعابير يراد بها نصوص الكتاب والسنة التي مدارها على التعلم والخبر الذي يكون باللفظ والسمع.
(4) كتاب القضاء والقدر، للرازي، ص (105).
(5) نفس المصدر ص (174 - 176).
(6) كتاب القضاء والقدر للرازي، ص (115، 299).(22/26)
ويزعم أن الميزان الذي يجب الرد إليه عند الاختلاف والنزاع هي الدلائل العقلية، ويقول بعد أن ذكر الآيات التي تمسك بها المعتزلة على مذهبهم في القدر: "والمعتمد لنا في الجواب عن الكل: أن الأخبار التي تمسكنا بها على صحة قولنا معارضة لهذه الأخبار، ولما تعارضت الأخبار وجب الرجوع إلى دلائل العقل"(1).(2)
الغزالي وطريق الكشف الصوفي:
لقد تولى أبو حامد الغزالي كبر زخرفة طريق الكشف والفيض، القائم على أن السبيل إلى الحقائق إنما يكون برياضة النفوس فتنكشف لها الحقائق انكشافاً.
__________
(1) نفس المصدر، ص (299).
(2) الحق أن هذه النتيجة العقلية التي توصل بها إلى إسقاط نصوص الكتاب والسنة من أن تكون ميزاناً وفرقاناً يكشف الحق من الباطل في المسائل العقدية، لهي من أصدق وأوضح الأدلة على تخبطه في نظره وقياسه، وذلك أنه زعم أن نصوص القرآن متعارضة لأنها تدل تارة على الجبر وأخرى على قدرة العبد على فعله واختياره، ثم رتب على ذلك أنها لما تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى الدلائل العقلية، ولو أنه نظر نظرا صحيحا لعكس الدليل ولقال:
تبين لنا أن دلائلنا العقلية على هذه المطالب معارضة لدلائلهم العقلية فوجب إسقاطها والرجوع إلى دلائل الكتاب المحفوظ الذي {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية 42]، ولتوصل إلى نتيجة يشهد لها العقل السليم والوحي المنزل حيث قال سبحانه:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية 59]، ولكن سوء ظنه بالله وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أورده المهالك وقد قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النُور آية 40].(22/27)
فهو يزعم أن النفوس إذا قطعت علائقها بالدنيا بالزهد والرياضة فإنها تنكشف لها أسرار الملكوت فتعلم الغيب وتنكشف لها الحقائق.(1)
ويزعم أن معرفة الحق لا تكون بالسمع - نصوص الكتاب والسنة - ولا بالتعليم، وأن من يقتصر في طلبه للحق على الكتاب والسنة دون طريق الكشف فإنه لا يستقر له قدم في معرفة الحق.(2)
بل ويزعم أن الأنبياء وأئمة الدين لم يتلقوا العلم بالتعليم، وإنما بالرياضة والزهد والتصفية التي هي الوسيلة للكشف والفيض.(3)
ويزعم - وبئس ما زعم - أن ما يقذف في القلوب عن طريق الكشف والفيض في النفوس الخالية من العلم بالكتاب والسنة، هو الميزان الذي توزن به نصوص الكتاب والسنة.
فما وافق ما فيها قُبل ويؤمن به على ظاهره، وما خالفها فإن ظاهره باطل يجب تأويله حيث قال:
"وحد الاقتصاد... دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنُور إلهي لا بالسماع(4) ، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنُور اليقين قرروه وما خالف أولوه، فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف"(5).
ومع زعمه أن تعلم القرآن الكريم ليس طريقا للمعرفة وتحصيل العلوم فإنه يرى أنه ليس من الأذكار التي تفيد في تزكية النفوس وصقلها.
وقد أورد في كتابه: [ميزان العمل] نصيحة مُقَدَّم فيهم مَنَعَه من قراءة القرآن ودله على ملازمة الأذكار المبتدعة.
__________
(1) انظر: مشكاة الأنوار، ص (80).
(2) انظر: ميزان العمل لأبي حامد الغزالي ص (46-48) والإحياء (1/110).
(3) انظر: إحياء علوم الدين، (3/19).
(4) يقصد بالسماع هنا: نصوص الكتاب والسنة، كما عبر عنها أيضا بلفظ: "السمع"، "الألفاظ الواردة"، ولفظ السماع غالبا ما يطلق في اصطلاحات المتكلمين والمتصوفة ويراد به الغناء بإنشاد الأشعار الملحنة مع الدفوف ونحوها.
(5) إحياء علوم الدين، (1/110).(22/28)
كما يزعم أن القرآن يشغل المريد بذكر الجنة، والمريد الذاهب إلى الله - بزعمه - لا ينبغي أن يلتفت إلى الجنة ورياضها.(1)
فهو بهذه الأقوال يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من عدة جهات:
فمن جهة أنكر أن يكون الكتاب والسنة أصلاً لتلقي العلوم ابتداء، ومن جهة أخرى أنكر أن يكونا ميزاناً يرجع إليه عند الاختلاف.
ومن جهة ثالثة أنكر أن تكون قراءة القرآن ذكرا نافعا في تزكية النفوس.
ومن مزاعمه الشنيعة: أن تزكية النفوس وتصفيتها وصقلها تمهيداً لانطباع الحقائق فيها، وانكشاف سر الملكوت لها - هو نوع من الوحي الذي يحصل للأنبياء.
فالوحي عنده مكتسب وليس اصطفاء واختياراً من الله، كما أنه يرى أنه لم ينقطع بل هو متاح لكل من جاهد نفسه وراضها وصفّاها.
وقد وصل به التخبط والضلال إلى أن زعم أن سماع الغناء - الأشعار الغزلية الملحنة، التي يناجي فيها الحبيب حبيبه بالأصوات المطربة والدفوف المصلصلة - أنفع لمن يريد وجه الله من قراءة القرآن وتعلمه، وزخرف ذلك بسبعة أوجه ذكرها في كتابه [إحياء علوم الدين](2)! {بئس للظالمين بدلاً}.
بدأ ذلك بقوله: "فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه" ثم ذكرها.
ومن ذلك قوله في الوجه الأول:
__________
(1) انظر: ميزان العمل ص (46-48)، وكتاب الأربعين في أصول الدين للغزالي ص (65، 66).
(2) إحياء علوم الدين (2/298-301).(22/29)
"إن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه، وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فمن أين يناسب حاله قوله تعالى {يُوصِيِكُمُ اللهُ فِي أوْلادِكُم للذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين}(1)، وقوله تعالى:{وَالَّذِين يَرْمونَ المحْصَنات}(2)، وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه، والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف".
"الألحان الطيبة مناسبة للطباع... فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضا كان أقرب إلى الحظوظ، وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق للمخلوق... فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله"(3).
ولم يزل به هذا المنهج الذي تحمس له، وذلك الظن السّيّئ الذي ظنه بالله وبكتابه حتى أوقعه في الطامة الكبرى الشرك.
قال أبو بكر بن العربي: قال لي [يعني أبا حامد الغزالي] بلفظه، وكتبه لي بخطه:
"إن القلب إذا تطهر من علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق... وقد تقوى النفس، ويصفو القلب حتى يؤثر في العوالم، فإن للنفس قوة تأثير موجدة... وقد تزيد قوتها بصفائها واستعدادها، فتعتقد إنزال الغيث، وإنبات النبات، ونحو ذلك من معجزات خارقات للعادات، فإذا نطقت به كان على نحوه.."(4).
ولا يسعنا أمام هذا الكلام إلا أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم !! {كبرَتْ كَلِمَة تخْرُجُ من أَفْوَاهِهم إن يَقُولونَ إلا كَذِبا}(5).
__________
(1) سورة النساء آية (11).
(2) سورة النُور آية (4).
(3) إحياء علوم الدين، (2/298، 301).
(4) آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، (العواصم من القواصم) (2/30-33).
(5) سورة الكهف آية (5)(22/30)
سبحان الله ما ظن هذا المفتري برب العالمين حين جعل له شركاء في ملكه وتدبيره! ونسب إلى المخلوقين أمورا من الشرك لم تصل إليها جاهلية العرب الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يثبتون أن الله هو المتصرف بأحوال العالم وفي إنزال الغيث وإنبات النبات، لا يشركون معه غيره في ذلك، لذلك ألزمهم بتوحيدهم له في ربوبيته بوجوب توحيدهم له في ألوهيته وعبادته، فكما أنه لا شريك له في ملكه وتدبيره فكذلك لا شريك له في العبودية.
قال الله تعالى مبينا إقرار كفار العرب بتصرفه في العوالم: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْض وَسَخَّر الشَّمسَ وَالقمَرَ ليَقُولُن الله فَأَنى يُؤْفَكُون}(1).
وقال في بيان إقرارهم له في إنزال المطر وإنبات النبات: {وَلَئن سَألتَهُمْ مَنْ نزل مِنَ السَّماء مَاء فَأحيا بِه الأَرضَ من بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولن الله قل الحَمدُ لله بَلْ أكثرُهم لا يَعْقِلُونَ}(2).
فإذا كانوا مع شركهم لم يبلغ بهم أن ينسبوا هذه الأمور لغير الله، فما بالك بمن زاد عليهم في ذلك وبلغ ما لم يبلغوه! وأثبت لله شريكا في ربوبيته وتدبيره! تعالى الله عن ذلك.
وليس المراد استقصاء أخطائه، ولكن بيان أن كل من أعرض عن الكتاب والسنة وقع في التخبط والضلال.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: "... إن هؤلاء مع إلحادهم، وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه، وعزله في المعنى، هم متناقضون في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، فكل من أعرض عن الطريقة السلفية النبوية الشرعية الإلهية، فإنه لا بد أن يضل ويتناقض، ويبقى في الجهل المركب أو البسيط"(3).
وزن هذه المناهج المحدثة بميزان المثَل:
__________
(1) سورة العنكبوت آية (61)
(2) سورة العنكبوت آية (63).
(3) درء تعارض العقل والنقل، (5/356).(22/31)
والمقصود هنا هو بيان أن هذا المثل {مَثَلُ نُوره كمشْكَاة} يبطل هذه المناهج المحدثة - منهج العقلانيين المتكلمين، ومنهج الصوفيين القائلين بالكشف والفيض - من وجوه عديدة أهمها:
أولاً: أن المثل دل على أن نُور المصباح يشعل ويوقد في الفتيلة الصالحة التي يسري فيها الوقود الجيد.
وكذلك نُور الإيمان يقذفه الله في القلوب المؤمنة. وغير المؤمنة لا يكون فيها نُور.
وهذا يبطل زعم القائلين بالكشف والفيض، فإنهم يزعمون أن النور يتجلى في كل قلب بمجرد التصفية، وأن ذلك سنة جارية ممكنة لكل أحد دون اختيار واصطفاء من الله لمن يُعطى النور أو يحرم.
وواضح من المشبه به وهو المصباح أن نُوره طارئ بفعل غيره، لا يتقد ويضيء إلا إذا أوقد وأشعل وقد توفرت الفتيلة الصالحة والوقود الجيد.
فالله سبحانه شبه نُوره: بمشكاة فيها مصباح، وهم شبهوه: بانعكاس في مرآة(1)، وفرق كبير بين التشبيهين.
والحق بلا شك هو ما ورد عن رب العالمين خالق الإنسان ومعطي النور، وما خالفه فهو الباطل قطعا.
وهذا الاعتبار - والله أعلم - هو الذي جعل أبا حامد الغزالي يلجأ إلى تزييف آخر أقرب بزعمه إلى صورة المثل إلا أنه أبعد في الضلال. "نعوذ بالله من الخذلان".
ورد ذلك في كتابه الذي خصصه للكلام على هذا المثل من سورة " النور " {مثلُ نُُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأسماه: [مشكاة الأنوار].(2)
وزعم فيه أن في قلوب الناس نُورا هو جزء من نُور الله.(3)
__________
(1) انظر: مختصر إحياء علوم الدين للغزالي، ص (147) مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
(2) تقدم التعريف بالكتاب ص (333، 334) المتن والهامش.
(3) انظر: مشكاة الأنوار ص (60)، و انظر: تصدير المحقق، ص (14).(22/32)
وأن هذا النور قد يحجب بالغفلة والمعاصي والتعلق بالدنيا، والتصفية - على مذهبه - تصقل القلب فيتجلى هذا النور، وهذا القول هو الذي قربه إلى قول أصحاب وحدة الوجود(1)، حيث زعم أن النور الذي في قلوب الناس هو جزء إلهي من نُور ذات الله - عز وجل - تعالى عما يقوله المبطلون.
وهذا الزعم الأخير باطل بدلالة المثل أيضاً، حيث أن الله شبه نُوره بنُور مصباح يقبل الإيقاد، ويطفأ إذا قطع عنه الزيت أو تعرض لما يوجب انطفاءه، ويوجد عند من اصطفاهم الله للإيمان ولا يوجد عند الكفار.
أما على قوله فالنور يستوي فيه البشر وهو لا يتقد أو ينطفئ وإنما يحجب بحجاب كما أن نُور ذات الله محجوب بالحجاب.
وهذا التخبط والضلال يصدق عليه قول الله تعالى: {وَلَو كَانَ مِن عِنْد غَيْر الله لَوَجَدوا فِيه اخْتِلافاً كَثِيراً}(2).
ثانياً: دل المثل على أن النور مركب من نُور المصباح الموقد في الفتيلة، ونُور الوقود الجيد الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، وهذا يقابل نُور الإيمان الذي يقذفه الله في القلب، ونُور العلم الذي يمده {نُّورٌ عَلَى نُورٍ}.
وهذا الاعتبار يرد على كلتا الطائفتين - المتكلمين العقلانيين، والمتصوفة القائلين بالكشف - حيث عطلوا أثر العلم بالكتاب والسنة في تحصيل المطالب اليقينية، فهم بمثابة من قطع الزيت عن المصباح، فأنطفأ وأظلم، وقد يحرق الفتيلة.
وكذلك القلب إذا قطع عنه العلم فإنه يظلم ويعمى، وقد تفسد فطرته، وكل ما يقوم به بعد ذلك فهو ضلالات وأوهام.
ثالثاً: دل المثل على أن صحة التعقل وسلامته مستفادة من النور الذي أشرق في القلب من الإيمان والعلم، وذلك أن الزجاجة في المصباح تقابل الوظائف القائمة بالقلب كما دل عليه الاعتبار بالمثل المتقدم(3).
__________
(1) انظر ما تقدم ص (221). بالهامش
(2) سورة النساء آية (82).
(3) تقدم ص (321).(22/33)
والنور ينبعث من المصباح وينير الزجاجة، ثم ينفذ من خلالها إلى الخارج فيبصر صاحب المصباح بقلبه المستنير مواطن الخير والشر والهدى والضلال.
والذي لم يتعلم العلم الشرعي فإن نُور قلبه ضعيف - إن كان مسلماً - أو قلبه مظلم إن لم يكن مسلماً، فالعلم بالوحي مؤثر في العقل ينير له الطريق.
وقد تقدم(1) ذكر النصوص الدالة على أن العقول المؤهلة للتذكر والاعتبار هي عقول أهل الإيمان المستنيرة بنُور العلم المستفاد من الوحي، والعمل به، كما في قوله سبحانه:
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(2).
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(3).
حيث دلت هاتان الآيتان على أن المؤمنين العالمين بما أنزل الله من الذكر هم أولو الألباب الذين استنارت قلوبهم بنُور الإيمان والعلم فنفعهم ذلك في إعمال عقولهم في تدبر آيات الله المتلوة والتفكر في آيات الله المشاهدة والانتفاع من ذلك.
وهذا الاعتبار يرد قول المتكلمين الذين زعموا أن النظر العقلي المجرد عن نُور العلم والإيمان تعرف به الحقائق والخير والهدى من ضدها، وعلى قولهم يكون العقل ينير القلب، وهذا قلب وعكْس لمدلول المثل والبيان الإلهي فيكون باطلاً قطعا.
والحق أن العقل يستنير بالعلم، وذلك أن العلم النازل من الله في نصوص الوحي يبين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، بأحكام معلقة بأوصاف ومعالم وأمثال، والعقل يتعرف عليها ويتحقق من وجودها في الأعيان والمعاني ويلحق بها الأحكام.
__________
(1) تقدم ص (414).
(2) سورة الرعد آية (16).
(3) سورة الطلاق آية (10)(22/34)
ومثال ذلك: قائد السيارة في الظلماء فإنه يحتاج إلى إنارة المصابيح، والمصابيح مثال نُور العلم، وقائد السيارة مثال العقل، فالمصباح ينير للقائد والقائد يتعرف به على مواقع الطريق ويتقي أخطاره.
وقد قلت في ذلك: [ملف الجداول]
علمُ الفتى بالله أَصْلُ حَياته ... وَربيعُ قلبِ العَبد حُبُ الأوحدِ
والعلمُ نُور للفتى في دَرْبه ... والعقلُ يحكم سَيره ويسدد
رابعاً: ورد في سياق المثل ما يدل على أن الطريق لحصول نُور الله واحد هو ما دل عليه المثل، وذلك في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
وفائدة هذا الاعتبار: أن يُعلم أن من زعم أن لديه نُورا من غير هذا الطريق فهو ليس بنُور إلهي بل سراب خادع مُلْهٍ.
وكل نتيجة لم يستنر صاحبها بنُور العلم الواصل من طريق الأنبياء فهي أوهام وضلالات وظلمات.
وحالهم في حيرتهم وظلمة قلوبهم كما صورها الله بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(1).
خلاصة هذه الفائدة :
أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة المبتدعة في منهج تلقي الحقائق اليقينية في المطالب الدينية، وقد تبين أنه يبطل ويرد ما أحدث من ذلك من طريقة المتكلمين الزاعمين أن الحق في المطالب اليقينية طريقة الدلائل العقلية المستفادة من النظر العقلي، وطريق القائلين بالكشف والفيض الزاعمين أن اليقين يفيض على القلوب فيضاً دون تعلم أو نظر.
كما تبين خلال هذا العرض ما وقع فيه البارزون من هؤلاء من الضلال والاختلاف والتناقض بسبب إعراضهم عن نُور العلم الإلهي وهدي النبي صلى الله عليه وسلم واقتحامهم لتلك المناهج المتخبطة المظلمة.
__________
(1) سورة النور آية (40).(22/35)
المبحث الخامس: خلاصة دراسة مثل النور.
بعد هذه المسايرة الطويلة لهذا المثل الهام الوارد في سورة " النور " في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية، والذي استغرق هذا الفصل كاملا، أخلص إلى النتائج الآتية:
أولا: أن هذا المثل بين أصولا هامة تتعلق بحصول الإيمان في القلب وزيادته، وعلاقتها ببعضها، وهي:
1- فعل الله بالتوفيق للإيمان وقذفه في قلوب عباده الذي شاء هدايتهم، وعلاقة ذلك بالفطرة السليمة حيث شبه فعله سبحانه الذي يشرح به صدر من أراد هدايته للإسلام بإيقاد المصباح، والنور الحاصل من ذلك بنُور المصباح، والفتيلة الصالحة تقابلها الفطرة السوية.
2- أثر العلم الواصل للقلب في بناء العقائد الإيمانية في القلب وفي زيادتها، وزيادة نُور القلب وبصيرته، حيث شبه العلم بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكيف أن زيادته وجودته تؤثر في قوة الإضاءة وصفائها، وكذلك نُور القلب يزيد بزيادة العلم المستقى من الوحي المطهر ويصفو بخلوصه من العلوم الدخيلة.
3- أثر هذا النور المركب من نُور العلم والإيمان في سلامة القلب وبصيرته وسلامة تعقله، وصلاح جميع أعماله حيث شبهت أعمال القلب واستنارتها بنُوره بالزجاجة التي تنعكس عليها الأشعة من المصباح فتتلألأ عليها فتنفذ من خلالها إلى الخارج، فتضيء الطريق لصاحب المصباح، فيمشي بالنور في الناس مشيا سديداً رشيداً.
4- أن هذا المثل بين الأصل الأول من أصول أهل السنة والجماعة المتعلق بمنهج التلقي حيث دل على أن العلوم والمعارف المتعلقة بالمطالب الدينية إنما تؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بتشبيه العلم بما نزل من الوحي بالزيت الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.(22/36)
وقوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} حيث أجمع المفسرون على أن أحد النورين هو نُور القرآن والعلم، وحيث بدأ السياق بقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
وهذا كله يدل على أن نُور الله لا يكمل في القلب إلا إذا غذي بالعلم بالكتاب والسنة.
ثانيا: دل المثل على فوائد أخرى هامة:
1- إثبات "النور" اسماً من أسماء الله وصفة من صفاته.
2- دلالة المثل على أن للإيمان والعلم نُورا حقيقيا.
3- دلالة المثل على إعداد الله الإنسان بالفطرة السليمة، واستدعائها لنور الإيمان.
4- دل سياق المثل على أثر النور والبصيرة على أعمال المؤمنين حيث كشف لهم معالي الأمور، وصالح الأعمال ومحاسن الأخلاق فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما هو دونها من أمور الدنيا، وذلك في قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ...} الآيات.
ثالثا: أن هذا المثل ميزان توزن به المناهج الحادثة في بيان الطريق لتلقي الحق في المطالب اليقينية الدينية، كطريقة المتكلمين الذين زعموا أن الطريق لمعرفة ذلك إنما هي الدلائل العقلية، وليس أدلة الكتاب والسنة، وطريقة المتصوفة القائلين بأن الطريق لمعرفة الحق في كل المطالب إنما هو الكشف والفيض دون تعلم أو نظر عقلي، واعتبار المثل يبطل هذه المزاعم الضالة. والله أعلم.(22/37)
الفصل الثاني: المثلان المضروبان لأعمال الكفار
من سورة النور.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان.
المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضرب المثلان، وأهميتهما.
المبحث الثالث: دراسة المثل الأول، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ}(1).
المبحث الرابع: دراسة المثل الثاني، في قوله تعالى:
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(2).
المبحث الأول: دلالة السياق الذي ورد فيه المثلان.
ورد هذان المثلان في سورة النور في سياق المثل الذي ضربه اللَّه لنوره في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ....} الآية.
حيث بين سبحانه بهذا المثل نوره الذي يجعله في قلب عبده المؤمن وأثر ذلك النور في استنارة القلب وبصيرته في كل وظائفه وخاصة تعقله، مما يجعل المؤمن بسبب ذلك يمشي في الناس على بصيرة من أمره، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(3).
__________
(1) سورة النور الآية رقم (39).
(2) سورة النور الآية رقم (40).
(3) سورة الأنعام الآية رقم (122).(23/1)
ثم أتبع ذلك - سبحانه وتعالى - بذكر أثر النور على أعمالهم حيث رأوا به محاسن الأعمال فلازموها ولم يشتغلوا عنها بما دونها، وكيف أن اللَّه قبل أعمالهم التي دلهم عليها نور العلم ودلهم على أسباب صلاحها وصحتها، وأثابهم عليها أحسن الثواب، حيث قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّه أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَآء بِغَيْرِ حِسَابٍ}(1).
وبعد ذلك بين ما يضاد ذلك ويقابله من حال الكفار الذين لم يجعل اللَّه لهم نوراً لأنهم لا يستحقونه لعدم مجيئهم بسببه - وهو الإنابة والاهتداء - وما نتج عن ذلك من ضلال أعمالهم وظلمتها وعدم انتفاعهم بها في الآخرة.
وضرب لذلك مثلين: في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(2).
فذكر - سبحانه - في هذين المثلين ما يخص الكافرين في مقابل ما ذكر في المثل الأول مما يخص المؤمنين، "وبضدها تتبين الأشياء".
__________
(1) سورة النور الآيات رقم (36-38).
(2) سورة النور الآيتان رقم (39-40).(23/2)
وبعد ذلك بين اللَّه تعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء وأن ذلك متحقق في خلقه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(1).
إذ هو سبحانه الذي له ملك السموات والأرض وإليه مصير جميع الخلائق، فهو إذاً مستغنٍ عن هؤلاء المعرضين الكافرين المستكبرين، وهم المحتاجون إليه وهو الغني الحميد.
ثم ذكر بعض الآيات الكونية الدالة على تفرده بالملك والتدبير، وعلى قدرته الشاملة والتي تستلزم - لمن تأملها وتفكر فيها - الإِيمان باللَّه وعبادته وحده، وهي كافية لهداية أولئك الكافرين الضاربين في الظلمات، وبمقدورهم الانتفاع والاعتبار بها إلا أن حالهم كما بينها ربنا بقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}(2).
والواقع يبين أن الذين ينتفعون بهذه الآيات ويعتبرون، هم الذين أعطاهم اللَّه ذلك النور فأبصرت قلوبهم. أشار إلى ذلك بقوله في سياق المثلين:
{يُقَلِّبُ اللَّه اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}(3).
ثم ختم السياق بما بدأ به فقال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(4).
وقد قال في بداية السياق: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}(5).
__________
(1) سورة النور الآية رقم (41).
(2) سورة الأعراف الآية رقم (146).
(3) سورة النور الآية رقم (44).
(4) سورة النور الآية رقم (46).
(5) سورة النور الآية رقم (34).(23/3)
وهذه الطريقة - وهي أن يبدأ السياق الذي يضم جملة من الآيات، ويختم بنفس المعنى مع التقارب في الألفاظ - له دلالة هامة، حيث يدل على أن ما بين الآيتين - المبدوء والمختوم بها - يتكلم عن قضية واحدة، أو أن ما يذكر في ذلك السياق له علاقة بالمعنى المشترك بين آيتي البدء والختام.
وهذه الطريقة من روائع البيان القرآني، وقد تكررت في القرآن في مواضع لبيان قضايا هامة، من ذلك مثلاً: قوله اللَّه تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً}(1)، ثم ذكر جملة من الشرائع والآداب والنهي عن المحرمات وسيئ الأخلاق، ثم ختم السياق بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}(2).
وذكر بعض المفسرين أن الحكمة من البداية بهذه الآية والختم بها إنما هي ليشعر أن هذه الأعمال المذكورة بين الآيتين لا تكون عبادة مقبولة إلا إذا كانت خالصة لا يقصد بها غير اللَّه.(3)
__________
(1) سورة الإسراء الآية رقم (22).
(2) سورة الإسراء الآية رقم (39).
(3) انظر: التفسير الكبير للرازي، (10/214)، دار أحياء التراث العربي ط3.(23/4)
ومن ذلك قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّه وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّه مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ }(1). إلى أن قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّه وَاليَوْمَ الآخِرَ...}(2).
ومن ذلك قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ...}(3) ثم قال بعد عدد من الآيات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}(4).
وهذا الأسلوب جدير بأن يُراعى في التفسير على أساس أن ما بين الآيتين المبدوء والمختوم بهما، يتكلم عن قضية واحدة، أو له علاقة بالمعنى الذي دلت عليه آيتَا البدء والختام.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية رقم (4).
(2) سورة الممتحنة الآية رقم (6).
(3) سورة الروم الآية رقم (30).
(4) سورة الروم الآية رقم (43).(23/5)
وعلى هذا يكون السياق - في سورة النور - الذي بُدِئَ بقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الآية، وختم بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي ما دلت عليه آيتا البدء والختام من نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها، وغير ذلك من الأمور التي لها اتصال بالعلم والهداية.
وقد جمع اللَّه بين العلم، وما رتب عليه من الهداية، في آية الختام، كالتلخيص لما تقدم، حيث قال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
والذي يتلخص لنا من دلالة السياق الذي وردت فيه الأمثال الثلاثة في سورة "النور" هو: أن اللَّه عز وجل بين في سياق المثل الأول أمرين بارزين وذكر ما يقابلهما في المثلين الآخرين.
فالأمران اللذان دل عليهما سياق مثل النور، هما:
1- وجود النور الحقيقي المركب من نور الإِيمان ونور العلم في قلوب المؤمنين، وأنه من اللَّه - عز وجل - توفيقاً وإمداداً، وسببه من المؤمنين إنابة واستجابة لما نزل من العلم بالوحي المطهر، وأثر ذلك النور في استنارة قلوبهم وبصيرتها، وصلاح أعمالها ووظائفها، وصحة إراداتها.
2- أثر نور العلم والإِيمان القائم في قلوب المؤمنين على أعمالهم وسلوكهم من جهتين:
- من جهة كشف لهم الأعمال الحسنة العالية المقربة إلى اللَّه فتوجهوا إليها، وحافظوا عليها.(23/6)
- ومن جهة كشف لهم كيف يؤدونها على الوجه المشروع مما جعلها مقبولة عند اللَّه يجزيهم عليها أحسن الجزاء.
وبيّن ما يقابل هذين المعنييْن عند الكفار بمثلين هما: مثل السراب، ومثل الظلمات، حيث إن كل مثل بيّن أعمال فريق من الكفار التي عملوها في ظلمة الكفر، وصور الكيفية التي أعرض بها كل فريق عن العلم الذي تضمنه وحي اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك الإِعراض في ضلال أعمالهم.
والمعنى الرئيسي المشترك بين المثلين، والذي يقابل المعنى المستفاد من مثل النور، هو:
بيان أن سبب كفرهم، وضلال أعمالهم، وظلمة قلوبهم وأحوالهم هو: الإِعراض عن هدي اللَّه الذي هدى به عباده، وأنزله على رسله، والذي لا طريق للنور والهداية سواه.
وبهذه الأمثال الثلاثة وما ورد في سياقها، يكتمل البيان لحقيقة هامة، هي:
أن اللَّه أنزل وحيه إلى أنبيائه، وجعل ما تضمنه من العلم والحكمة، الطريق إلى الهداية، واستنارة القلوب، وصلاح الأعمال، وأنه لا سبيل إلى الهداية إلا به، وأن المؤمنين الذين هداهم اللَّه، وقذف في قلوبهم الإِيمان هم الذين استجابوا واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
كما تبين أن طريق الضلال سببه الإِعراض عما نزل من الوحي، بتلمس الهدى من غيره، أو بالإِعراض والتكذيب والكفران، وأن ذلك يحدث ظلمة في القلوب، وظلمة وضلالاً في الأعمال.(23/7)
وقد جمع اللَّه هذه المعاني في أول سورة "محمد" في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوآ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوآ اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}(1).
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّه لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} بعد أن بين تلك الحقائق الهامة، فيه إشارة إلى الأمثال المضروبة لهم، والتي تم تفصيلها في سورة "النور" وغيرها- واللَّه أعلم -.
المبحث الثاني: الغرض الذي من أجله ضُرب المثلان وأهميتهما
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الغرض الذي ضُرب له المثلان.
المطلب الثاني: أهمية المثلين.
المطلب الأول: الغرض الذي ضُرب له المثلان:
يذكر أكثر المفسرين أن كلا المثلين ضربا لأعمال الكفار، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} ثم عطف عليه المثل الثاني بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ..} الآية.
إلا أن أعمال الكفار المضروب لها المثلان ينظر إليها من عدة جهات، مرجعها إلى ما يلي:
1- من جهة أنهم عملوها على عمى وضلال، وظلمتها لكونها خالية من نور الإِيمان.
2- من حيث جزاؤهم عليها يوم القيامة، وعدم قبولها وانتفاعهم بها.
3- من حيث كونها ظاهرة أو باطنة، أو كونها من جنس الأعمال الطيبة أو من الشر والإِفساد في الأرض.
4- وهل المقصود هو تحقق دلالة المثلين في أعمال كل كافر، أو أن كل مثل ضرب لبيان أعمال نوع من الكفار.
__________
(1) سورة محمد الآيات رقم (1-3).(23/8)
فلأجل تنوع أعمال الكفار، وتنوع طوائفهم، وسعة دلالة المثلين حتى أنه لا يوجد كافر إلا وله منهما نصيب، اختلفت عبارات المفسرين في تحديد المعنى المضروب له المثلان: ويمكن حصر أقوال المفسرين في اتجاهين.
الاتجاه الأول:
من يرى أن المثلين ضُربا لعمل كل كافر، وأنه يصْدق عليه كلا المثلين باعتبار، وكل منهما يبين جانباً من أعماله.
فمن هؤلاء من يرى أن المثل الأول ضُرب لأعمال الكافر التي هي من جنس الأعمال الطيبة، ومثل لها بالسراب، والمثل الثاني لاعتقاده السيئ ومثل له بالظلمات. وقريب منه من يرى أن المثل الأول لأعماله الظاهرة، والثاني لأعماله الباطنة(1).
ومنهم من يرى أنه سبحانه شبه أعمال الكفار في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بالسراب، وشبهها في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإِيمان بظلمات متراكمة.(2)
ومنهم من يرى أن مثل السراب ضُرب لبيان مصير أعمالهم يوم القيامة عند الحساب، وأنهم لن ينتفعوا منها بشيء، ومثل الظلمات لبيان حالهم في الدنيا، وأن أعمالهم عملت على خطإ وفساد، وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى.(3)
الاتجاه الثاني:
من يرى أن المثلين ضُربا لبيان أعمال نوعَي الكفار، وأن الكفار في الجملة صنفان: أصحاب الجهل والضلال البسيط، وأصحاب الجهل والضلال المركب(4)
__________
(1) انظر: التفسير الكبير للرازي، (24/9)، وصفوة التفاسير لمحمد بن علي الصابوني، (2/343).
(2) انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، لابن القيم، ص (12).
(3) انظر: جامع البيان، لابن جرير، (9/333).
(4) الجهل البسيط: "هو عدم العلم أو الاعتقاد لما من شأنه أن يكون عالماً أو معتقداً، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة" والجهل المركب: "هو اعتقاد الشيء على خلاف ما اعتقد عليه اعتقاداً جازماً سواء كان مستنداً إلى شبهة أو تقليد، وهو بهذا المعنى قسم من الاعتقاد بالمعنى الأعم". انظر: كشاف اصطلاح الفنون، للتهانوي، (1/363).
فالجهل البسيط: هو عدم معرفة الحق، والضلال البسيط: هو عدم اعتقاد الحق والعمل به، والجهل المركب: هو عدم معرفة الحق مع تعلم ضده، والضلال المركب: هو عدم الاعتقاد والعمل بالحق مع الاعتقاد والعمل بالباطل، واعتقاده أنه على الحق.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - مبيناً الفرق بينهما: "فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه، وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعملوا، والذي معهم ليس بعلم بل جهل" درء تعارض العقل والنقل، (7/285).(23/9)
، وكل مثل يصور حال فريق منهما:
إلا أن هؤلاء اختلفوا في أمرين:
الأول: تعيين أي المثلين لأصحاب الجهل البسيط، وأيهما لأصحاب الجهل المركب.
فمن هؤلاء: شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمة اللَّه - نص في مواضع على أن مثل السراب: للجهل المركب، ومثل الظلمات: للجهل البسيط.(1)
إلا أنه في موضع آخر أشار إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب(2).
ومن هؤلاء: ابن القيم - رحمه اللَّه -: وله في ذلك أكثر من قول. ففي قولٍ نصَّ على أن مثل السراب ضرب لأصحاب الجهل المركب، والآخر لأصحاب الجهل البسيط(3).
وفي موضع آخر ألمح إلى أن مثل السراب للجهل البسيط، ومثل الظلمات للجهل المركب.(4)
وفي موضع ذكر أن كل واحد من السراب والظلمات مثل لجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.(5)
وهذا القول يرجع إلى الاتجاه الأول في تفسير المثلين، الذي سبقت الإِشارة إليه.
ومن هؤلاء: الحافظ ابن كثير - رحمه اللَّه -: حيث نص على أن مثل السراب لأصحاب الجهل المركب، ومثل الظلمات لأصحاب الجهل البسيط(6).
والحق أن كلا الاصطلاحين يصدق على كلا المثلين باعتبار، فالمثل الأول - مثل السراب- اتفقت آراء من ذكرنا رأيه على أنه من الجهل المركب، وهو كذلك إلا أن المثل الثاني - مثل الظلمات - أقرب إلى الجهل المركب لدلالة صورته وألفاظه على ذلك، في قوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} حيث دل على أن كفرهم مركب من ظلمات ناتجة عن جهالات وضلالات، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء اللَّه.
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، (7/285)، (5/376)، ومجموع الفتاوى (4/75).
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل، (1/169).
(3) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (9، 10).
(4) انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196، 198).
(5) انظر: اجتماع الجيوش الإِسلامية، ص (12).
(6) انظر: تفسير القرآن العظيم، (296).(23/10)
وأيضاً فالجهل المركب متضمن للجهل البسيط(1)، فكل من المثلين متضمن له. فهناك تداخل باعتبار انطباق الاصطلاحين على كلا المثلين.
ولهذا الاعتبار مع ما تقدم من الاضطراب في أقوال أهل العلم والتحقيق في بيان أيهما الذي للجهل البسيط أو المركب، أرى عدم التركيز على هذين الاصطلاحين في بيان المراد بالمثلين.
والأمر الثاني: الذي اختلف فيه هؤلاء: هو تعيين الذي يصدق عليه كل مثل:
فمنهم من يرى أن مثل السراب للدعاة إلى كفرهم الذي يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، ومثل الظلمات للمقلدين لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون.(2)
ومنهم من يرى أن مثل السراب لحال المغضوب عليهم، والظلمات لحال الضالين.(3)
ومنهم من يرى أن مثل السراب لأهل البدع والأهواء الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومثل الظلمات: لأصحاب العلوم والنظر والأبحاث التي لا تنفع.(4)
وليس الغرض استقصاء أقوال المفسرين والعلماء في بيان المعنى المضروب له المثلان، وإنما ذكر بعض النماذج التي تبين اختلاف عباراتهم في ذلك، مما يبرز الحاجة إلى تحرير المقصود بالمثلين ليتضح معناهما، وتتم الاستفادة والاعتبار بهما.
تحرير الغرض الذي ضرب له المثلان:
إن تحديد الغرض الذي ضرب له المثلان يحتاج إلى نظر في المعطيات المستخلصة من السياق، ومن التأمل في ألفاظ كلا المثلين وصورتهما.
ويمكن حصر تلك المعطيات المستفادة من ذلك فيما يلي:
__________
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل، (5/376).
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم، (3/296).
(3) انظر: الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم، ص (196).
(4) انظر: الأمثال لابن القيم، ص (196، 198).(23/11)
أولاً: تقدم في المبحث السابق(1) أن السياق الذي تضمن هذين المثلين والذي بدأ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ...} الآية، وختم بقوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ...} الآية. يقرر قضية واحدة وما يتصل بها، هذه القضية هي نزول الآيات المبينات للعلم والحق في نصوص الكتاب والسنة، وأثر ذلك في الهداية والاتعاظ، وفي حصول النور في قلوب المؤمنين، وصحة أعمالهم وانتفاعهم بها، وما يضاد ذلك من حال الكفار الذين أعرضوا عن العلم وفقدوا نوره، وأثر ذلك في ظلمة قلوبهم وضلال أعمالهم وعدم انتفاعهم بها.
كما دل التأمل في السياق على أن هذين المثلين ضُربا في مقابل المثل الذي ضُرب لبيان نور العلم والإِيمان في قلوب المؤمنين وأعمالهم وسائر أحوالهم في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ }.
وفائدة هذه الدلالة من السياق هي العلم بأن المثلين ضُربا لبيان حال الكفار مع العلم - المستمد من الوحي الإلهي بواسطة الرسل (صلوات اللَّه وسلامه عليهم) - وضلالهم عنه بسعيهم أو بإعراضهم، وأن إعراض أصحاب مثَل السراب يختلف عن إعراض أصحاب مثل الظلمات.
ثانياً: أن التأمل في صورة المثلين يدل على اختلافهما صورة ومعنى مما يدل على اختلاف الذين ضُرب لهما المثلان، وأن كل مثل ضرب لطائفة معينة، بحسب الطريق الذي كان به ضلالها عن نور العلم والإِيمان.
قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: "فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضُرب له هذا المثل هو مماثل لما ضُرب له هذا المثل، لاختلاف المثلين صورة ومعنى، ولهذا لم يُضرب للإِيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضُرب مثله بالنور، وأولئك ضُرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة، أو بالظلمات المتراكمة"(2).
ويمكن بيان اختلاف المثلين فيما يلي:
1- حال الشخصين مع النور:
__________
(1) ص (480).
(2) مجموع الفتاوى (7/278).(23/12)
إِن المثل الأول لا يتحقق إلا في رائعة النهار والشمس مشرقة، فاللاهث وراء السراب قد استنار ما حوله، ومع وجود النور حوله فإنه لم يهتد إلى موضع الماء الحقيقي، وإنما سار خلف السراب الخادع.
أما في المثل الثاني فنور الشمس محجوب عنه بحجب غليظة، قد حجبها السحاب، وظلمة الأمواج، فالمحيط حوله ظلام دامس.
والنور الحسي يقابل نور العلم والوحي، وفي المثلين إشارة إلى نورين:
الأول: نور المحيط خارج الشخص الممثّل به، وهو يقابل نور الوحي الذي أنزله اللَّه إلى الناس، فبلغه رسله، وحوته كتبه، وآمنت به بلاد فاستنارت به، وكفرت به أخرى فأظلمت.
الثاني: قدرة الشخص على الإِبصار بعينه.
والمثلان يصوران حال الشخصين مع هذين النورين.
ففي المثل الأول دلالة على أن النور حول اللاهث إلى السراب أتم ما يكون، مما يدل على أن المضروب له المثل يعيش في وسط مستبصر يؤمن بالوحي.
أما نور قلبه فمعدوم أو ضعيف حيث لم يميز السراب وانخدع به، وهذا يدل على أن المضروب له المثل أعمى القلب أو ضعيف البصيرة، بسبب عدم تعلمه من الوحي، وإعراضه عنه.
أما في المثل الآخر - مثل الظلمات - فكلا النورين - نور المحيط حوله، ونور قلبه - معدوم، فالمثل يصور حال من يتقلب في الظلمات ليس بخارج منها.
2- حال الشخصين الممثّل بهما مع البحث والطلب.
يصور مثل السراب شخصاً عطشاً لهثاً يبحث عن الماء الذي يعرف أهميته، وهو بأشد الحاجة إليه، ففيه معنى شدة البحث والطلب لشيء ثمين لكن في غير محله.
أما المثل الآخر فهو يصور الشخص الحيران، الذي لا يهتدي إلى طريق، ولا يدري موقع رشده، ولا أين يتجه فهو في عمى تام من أمره.
3- حالهما مع الماء:
في مثل السراب تصوير لحال من يعرف قيمة الماء، ويحس بالحاجة إليه ويطلبه ويبحث عنه، لكنه ضل في معرفته واتبع شبهه الخادع.
أما الآخر فهو مغمور بالماء، إلا أنه ماء مالح لا يناسبه، لا يروي عطشه بل يزيده، ويقتله.(23/13)
والمطر والماء العذب يُشَّبه بالعلم والإِيمان، وضده الماء المالح المتغير يشبه بالجهل والأوهام والعقائد الباطلة.
فالأول إذاً يعرف قيمة العلم والإِيمان ويتعطش له، لكنه يطلبه من غير محله ويتبع الشبه الخادع.
والثاني مغمور بالجهل والأوهام والعقائد الضالة لا يستطيع منها خلاصاً.
ثالثاً: التعقيب على المثل الأول بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وعلى المثل الثاني بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مناسب لكل منهما.
فالأول عنده أصل التعبد للَّه، ويطلب الحق، ويعمل لما يتوصل إليه بسعيه، لكن عمله ضال باطل إذ لم يأخذه من مصدره الصحيح من مشكاة النبوة، وإِنما صُرف عنه بشبهات لاحت له ظنَّها علماً ويقيناً، كما حسب الظمآن السراب ماء. وما دام أنه يتعلم ويعمل ويظن أنه يحسن صنعاً، ويرجو ثواباً، فناسب أن يذكر الحساب في ختام المثل.
أما الآخر فليس عنده شيء من العلم باللَّه أو التعبد له، فهو في جاهلية وظلمة مطبقة، وهذا حال الكافر الخالص المستكبر عن عبادة اللَّه، المعرض عما جاء به المرسلون.
وهذا النوع في جهل تام وظلمة مستحكمة، قد بعد جداً عن نور اللَّه، الذي يشبه - بالنسبة له - الشمس التي حال دونها السحاب وظلمة الأمواج، وقد يكون في تلك الظلمات يتطلع إلى نور يأتيه، إلا أنه لن يجده، إذ أن مصدر النور هو الشمس التي فوق السحاب، وقد حيل بينه وبينها، فلن يجد نوراً من غيره.
وكذلك مصدر نور العلم والإِيمان - الذي هو الوحي وهداية اللَّه - قد أعرض وبعد عنه. فناسب أن يختم المثل بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.
خلاصة التأمل في السياق وألفاظ المثلين:
مما تقدم يتبين أن المثلين يبينان حال فريقين من الكفار مع العلم والإِيمان.(23/14)
فالمثل الأول: يصور حال من يعرف أهمية العلم والإِيمان، ويبحث عنه، إلا أنه أعرض عن مصدره وهو الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب المعرفة والإِيمان من غير محله، مع أنه في وسط مستبصر لدلالة كون الشمس مشرقة في المثل.
ويدخل في ذلك من طلب القربة إلى اللَّه بوسيلة غير مشروعة لم يدل عليها العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو لاهث خلف السراب.
وهذا النوع من الكفار الذين يكونون بين المسلمين، وقد يؤمنون باللَّه، وينطقون بالشهادتين، ويصدّقون بالرسول صلى الله عليه وسلم، كفروا بسبب إعراضهم عن تلقي العلم من الوحي، واستمدادهم علومهم من مستنقعات الجاهلية، وممارستهم أعمالاً يظنونها قربة أو وسيلة صحيحة، وهي تؤدي بهم إلى الشرك والكفر.
وهذا وصف مجمل يدخل تحته أفراد كثيرون.
فمن أفراده من انتسب إلى المسلمين ثم أعرض عن كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطلب معرفة ربه ومسائل الإِيمان بميراث الفلاسفة، فكذّب بصريح الكتاب والسنة، ولهث خلف الشبهات التي يظنها بينات ودلائل قاطعات، فأوقعه ذلك في الكفر والضلال.
ومن أفراده من دخل في الإِسلام إلا أنه طلب العلم واليقين من طريق الكشف والفيض وأعرض عن الوحي، فوقع في الكفر والضلال، ولهث خلف الأوهام والظنون ووحي الشياطين، فهو يشبه من طلب السراب يحسبه ماء.
ومن أفراده من طلب القربة بأسباب كفرية أو شركية، فتقرب إلى اللَّه بما لم يأذن به، بسبب جهله، وطلبه العلم من غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومثله من لجأ إلى غير اللَّه، وتوكل عليه، وطلب منه جلب النفع أو كشف الضر، وصرف له العبادة، وهو يظن أن ذلك مشروع، وأنه يحسن صنعاً، وهو في الحقيقة لاهث خلف السراب، قد بطل عمله، ووهن سببه.(23/15)
وأفراد هذا النوع كثيرون، يجمعهم كونهم في وسط مستبصر، توفرت لهم أسباب العلم الصحيح، ومعرفة الدين القويم، قد أشرقت الشمس من حولهم، ولديهم نهمة وطلب لما ينفعهم من العلم والعمل، إلا أنهم تنكبوا الصراط، وساروا خلف الأوهام والشبهات والسراب، فكفروا باللَّه بإعراضهم عن دينه الحق، وعملهم على غير هدى، وحبطت أعمالهم فلا ينتفعون منها بشيء، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ويصدق ذلك على كل من وقع في أمور مكفرة ممن ينتسب إلى الإِسلام بسبب إعراضه عن الوحي وتتبعه للشبهات.
والمثل الثاني: يصور حال الكافر الخالص الذي أعرض عن الوحي وكذب المرسلين، فحجب تكذيبُه عنه نورَ العلم الإلهي، كما حجب السحاب وظلمة الأمواج ضوء الشمس، فهو في ظلمات مستحكمة، قد بَعُد عن العلم الصحيح بُعْد الممثّل به عن ضوء الشمس، وبَعُد عن الإِيمان بُعْدَه عن الماء العذب.
وأفراد هذا المثل متعددون بتعدد أنواع الكفار المكذبين الجاحدين.
فحال الفريق الأول مع العلم والإِيمان أنهم طلبوه في غير محله وضلوا عنه، وعملوا على غير هدى، ولم يجنوا من سعيهم نفعاً.
أما الفريق الثاني، فإنهم أعرضوا عن العلم والإِيمان، ولم يرفعوا به رأساً، وردوه من البداية، ولم يروا للَّه حقاً، فهم غارقون فيما هم فيه من الكفر والضلال والظلمات.
المطلب الثاني: أهمية المثلين.
تبرز أهمية المثلين في التعقيب بهما على المثل السابق لهما في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآية، حيث إنهما سيقا لزيادة تأكيد المعنى والغرض الذي قرر في سياق المثل، وهو:
بيان أن العلم النازل بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد لحصول الإِيمان، ومعرفة الحقائق، وأن المؤمنين إِنما استنارت قلوبهم، وصلحت أعمالهم وأحوالهم به، وأنه لا طريق لحصول ذلك سواه.(23/16)
وهذان المثلان يؤكدان هذا المعنى ببيان حال الضد، حيث يقرران أن من ضل من الكفار أياً كان نوع كفره فمرد كفرهم إلى الإعراض أو مخالفة العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم في الجملة ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: من طلب العلم والإِيمان عارفاً بأهميته، إلا أنه طلبه من غير محله، فضلّ ولم ينتفع من سعيه بشيء.
القسم الثاني: من كذّب الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرض عما جاء به، ولم ير للَّه حقاً، وبقي غارقاً في كفره وضلاله.
فهذه الأمثال متظافرة على تقرير حقيقة هامة، هي:
بيان أن سبب الهداية الأهم، وطريقها الأوحد، هو تعلم ما أنزل اللَّه من الهدى والنور في كتابه المبين، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والعمل به.
وأن سبب الضلال الأهم هو والإِعراض عن ذلك والجهل به.
فالمثل الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} يبين أصول الهداية وأسبابها والمثلان الآخران يبينان أصول الضلال وأسبابه كما سيأتي بيانها عند دراسة المثلين.
ولهذا المعنى أهمية عظيمة حيث تضع هذه الأمثال أمام الإِنسان الطريق واضحاً، وذلك أنها تبين فضل من اهتدى، ونعمة اللَّه عليه في ذلك، وأن سبب ذلك من نفسه وهو سلوكه الصراط المستقيم، وتصديقه بما نزل من الوحي والاهتداء به.
وتبين حال من ضل، وما ينتظره من عذاب اللَّه، وأن اللَّه أضله بسبب من نفسه حيث انحرف أو أعرض عن مصدر النور والهداية وهو العلم بالوحي.
فلهذه الأمثال إسهام هام في بيان مسألة الهداية والضلال، التي تبحث عادة في موضوع القدر.
خلاصة هذا المبحث:
تبين مما تقدم أن المثلين ضُربا لبيان حال فريقين من الكفار مع العلم والإِيمان، وأن حال الكفار بالجملة تعود إلى أحد هذين الفريقين:(23/17)
الفريق الأول: من يعيش بين المسلمين، وينتسب إلى الإِسلام ويعرف أهمية العلم والإيمان، ويبحث عنه، إلا أنه أعرض عن مصدره وهو الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب العلم من غيره، بشبهة خادعة كاذبة، فأوقعه سعيه الضال في الكفر أو الشرك، وطلب القربة إلى اللَّه بأسباب لم تشرع من جنس البدع الشركية أو الكفرية.
الفريق الثاني: الكفار الخالصون، المستكبرون المعرضون عما جاء به المرسلون، ليس عندهم شيء من العلم باللَّه، أو التعبد له، فهم في جاهلية عمياء وظلمة مطبقة.
كما تبين أهمية هذين المثلين، وأنهما يسهمان في تقرير الحقيقة التي تقدم بيانها في المثل الأول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وهي: أن طريق الهداية وسببها الأوحد هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وقبول ما جاء به من العلم والاهتداء به والاستغناء به عن غيره.
كما يدلان على أن الهداية والضلال إِنما هما من اللَّه بأسباب تكون من العباد.. واللَّه أعلم.
المبحث الثالث: دراسة المثل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّه سَرِيعُ الحِسَابِ}(1).
وتتم دراسته في المطالب الآتية:
المطلب الأول: نوع المثَل.
المطلب الثاني: تعيين الممثّل به.
المطلب الثالث: تعيين الممثّل له.
المطلب الرابع: الفوائد المستنبطة من المثَل.
المطلب الأول: نوع المثَل.
نوع المثَل من جهة القياس: هو قياس تمثيلي، يقوم على تشبيه حال أعمال الكفار، بحال الساعي نحو السراب، ومقايسة هذا بهذا، وإلحاق أحكام الممثّل به بالممثّل له.
__________
(1) سورة النور الآية رقم (36).(23/18)
ونوعه من جهة الممثّل به: هو تمثيل مركّب حيث شبّه الممثّل له، وهو مصير أعمال الكفار، وما يتصل بها، وحال عمالها، بصورة واقعية مكونة من الهيئة الحاصلة من حال اللاهث وراء السراب وما يلابس هذه الحال، ويحيط بها وما تستلزمه.
المطلب الثاني: تعيين الممثّل به.
إن الصورة التمثيلية المبرزة للتأسي بها والقياس عليها لا تقتصر على الألفاظ الواردة في المثل، بل إنها تشمل المعاني المستنبطة من الحال المصورة لكونها لازمة لها.
ولتجلية صورة الممثّل به أستعرض أولاً ألفاظه مع الإِشارة إلى المعاني المستنبطة من كل منها:
السراب: " ما تراه نصف النهار كأنه ماء".(1) أو:
" ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة ماء"(2).
والتفسير العلمي لظاهرة السراب هو:
ما يُرى في الصحراء من لمعان يشبه الماء نتيجة لأشعة الشمس المنعكسة انعكاساً كلياً، عند مرورها وانكسارها في طبقات الهواء المختلفة الكثافة بسبب اختلاف درجات حرارتها وذلك في الصيف عند اشتداد الحرارة.(3)
ويستنبط من التشبيه بالسراب: إشراق الشمس، وذلك أن السراب لا يكون إلا والشمس مشرقة قد اشتد حرها، كما دل على ذلك حدّه العلمي واللغوي.
فالصورة التمثيلية الممثّل بها تكون في وضح النهار، عند اكتمال بزوغ الشمس، واشتداد حرها.
__________
(1) انظر: ترتيب القاموس المحيط، (2/543)، عيسى البابي وشركاه، الطبعة الثانية.
(2) فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، (4/38).
(3) انظر: كتاب الفيزياء، المرحلة الثانوية، الصف الثاني، ص (50، 51) الرئاسة العامة لتعليم البنات، بالمملكة العربية السعودية (1415هـ).
والمعجم العلمي المصور، ص (372)، إصدار قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بالاتفاق مع دائرة المعارف البريطانية، دار المعارف القاهرة، الطبعة الأولى، (1963م).(23/19)
القيعة: "جمع قاع كجار وجيرة، والقاع أيضاً واحد القيعان وهي الأرض المستوية المنبسطة "(1).
"والقاع أرض واسعة سهلة مطمئنة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام"(2).
ويؤخذ من دلالة هذا اللفظ شدة حاجته إلى الماء، وأن حياته متوقفة عليه، لأنه بأرض هلكة، فإذا لم يجد الماء فهو هالك.
يحسبه: أي يظنه.
حَسِبَ، يَحْسَبُ ( كرغِب، يرْغَب): أي ظن يظن.
"حَسِبْت الشيء: ظننته. أحسِبُه، وأحسَبُه، والكسر أجود اللغتين"(3).
وقد يستنبط من هذا أنه اتبع ظنه ولم يتأمل في السراب الذي رآه ويتثبت منه، بل جرى نحوه بمجرد أنه لاح له.
الظمآن: العطشان(4).
وتخصيص الظمآن بحسبان السراب ماءً - مع أن الريان يتراءى له السراب كأنه ماء- فيه إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أن الممثّل به محتاج إلى الماء حاجة شديدة لشدة عطشه، لدلالة لفظ صيغة المبالغة (ظمآن) على ذلك.
الثاني: وجود الدافع لطلب السراب عند الظمآن، وهو الحاجة إلى الماء، وذلك أن الريان، لا يوجد لديه دافع لطلبه، والعالم بحقيقة السراب يمنعه اليأس منه وإنما يندفع إليه من هو محتاج إلى الماء وهو جاهل قليل المعرفة والبصيرة.
قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
الهاء في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ} يعود على السراب. والمعنى: حتى إذا جاء الظمآن الموضع الذي رأى السراب فيه، لم يجد السراب شيئاً.(5)
وهذا يدل على خيبة المسعى، وعدم الانتفاع منه بشيء في وقت هو بأشد الحاجة إليه، ووقوعه في الهلكة، وانكشاف الحق بخلاف ما كان يظن ويؤمل.
قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}.
هذا البيان يتعلق بالممثّل له، وسوف يأتي بيانه في المطلب القادم.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (3/296).
(2) تهذيب اللغة، (3/33).
(3) تهذيب اللغة، (4/331).
(4) جامع البيان لابن جرير، (9/333).
(5) انظر: جامع البيان لابن جرير، (9/333).(23/20)
إلا أنه يشير إلى أمر في الممثّل به، وهو هل يتوجه إليه اللوم في ما حصل له كاملاً أو أنه معذور، أو أنه ملوم باعتبار معذور باعتبار، فلأجل اختلاف أحوال اللاهثين خلف السراب جاء بيان المحاسبة بألفاظ تصلح لكل الأحوال، ومؤاخذة كل بما يستحق، فقال: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}.
خلاصة حال الممثّل به:
تبين من دراسة ألفاظ الممثّل به أن اللَّه عز وجل ضرب مثلاً لأعمال نوع من الكفار بسراب لاح لشخص في صحراء منبسطة قاحلة، في رائعة النهار، والشمس كأشد ما تكون إضاءة وحرارة، وقد اشتد عطشه وقويت حاجته إلى الماء، فظن ذلك السراب ماء، فجرى نحوه، فلما وصل المكان الذي تراءى له فيه لم يجد ماء ولا شيئاً، ولم يغن عنه سعيه، ولا ظنه في إنقاذه من الهلكة، وباء بالخيبة، ولم يسلم من المؤاخذة.
والممثّل به يشتمل على أمرين:
الأول: بيان بطلان نتيجة السعي، وأنه لا حقيقة له نافعة، ولا حاصل منه، لكونه لم يقع في محله.
الثاني: بيان السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهو جهل هذا المقتحم للصحراء بحالها، وما ينبغي لمن دخلها أن يستعد به من الماء ومعرفة مصادره، وكيفية استخلاصه منها، ومعرفة ما يحصل فيها من المخاطر والأمور الخادعة كالسراب، ونحو ذلك.
فجهله وضعف بصيرته هو الذي جعله ينساق بسرعة وراء الشبه الخادع، فلم يغن عنه حسن ظنه، ولا شدة سعيه شيئاً، وأوقعه جهله في المهالك.
المطلب الثالث: تعيين الممثّل له.
لم يرد في ألفاظ المثل مما يتعلق بالممثّل له إلا قوله في بداية المثل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ} وقوله في ختام المثل: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أما بقية حال الممثّل له فلم تُذكر اكتفاء بدلالة الممثّل به عليها، وترك الأمر للسامع للاستدلال عليها.(23/21)
"وفي هذا المثل الرائع يظهر لنا من خصائص الأمثال القرآنية صدق المماثلة بين المثل والممثّل له، ويظهر لنا أيضاً عنصر البناء على المثل والحكم عليه كأنه عين الممثّل، على اعتبار أن المثل كان وسيلة لإحضار صورة الممثّل له في ذهن المخاطب ونفسه.
وإذا حضرت صورة الممثّل له حسن طي المثل، وهذا ما يلاحظه في قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} بعد قوله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
فالنص ينتقل بشكل مفاجئ من المثل إلى الممثّل له، ويأتي ترتيب النتيجة المقصودة على المثل كأنه عين الممثّل له.
ويظهر لنا أيضاً من الخصائص حذف مقاطع من الصورة التمثيلية اعتماداً على ذكاء أهل الاستنباط، وكذلك حذف مقاطع من الممثّل له.
ففي المثل أبرزت صورة السراب، ثم صورة الظامئ الذي ظنه ماءً ثم خيبته عند وصوله إليه، وحذف ما عدا ذلك لأن الخيال يتم رسمها.
وفي الممثّل له لم يذكر إلا عمل الذين كفروا، وطوى ما عدا ذلك، لأن الفكر قادر على أن يستدعيه، وهذا من بلاغة القرآن"(1).
وإذا كان الأمر كذلك فيمكننا بالتأمل والقياس على الممثّل به استخلاص حقيقة الممثّل له.
وقد تقدم الإِشارة إلى شيء من ذلك عند دراسة الغرض الذي ضرب له المثل في المبحث السابق.(2)
وسوف أكتفي بإيراد خلاصة ما تم بحثه هناك، واستكمال ما لم يبحث.
فأساس الممثّل له هو أعمال صنف من الكفار التي تشبه السراب بتلك الصورة التمثيلية المركبة.
وذلك مستفاد من قوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوآ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ}.
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوآ}:
__________
(1) أمثال القرآن، وصور من أدبه الرفيع، عبد الرحمن حسن حبنكه، ص (132- 133).
(2) انظر ص (492) وما بعدها.(23/22)
تقدم أن المراد صنف من الكفار، الذين انتسبوا إلى الشرائع السماوية، ويزعمون أنهم أتباع الأنبياء، إلا أنهم طلبوا العلم والإِيمان والقربة إلى اللَّه في غير ما جاء به الأنبياء فاتبعوا الشبهات والمتشابهات، وركنوا إلى عقولهم وإلى ميراث الفلاسفة الضالين، ووقعوا في الشرك والبدع المهلكة.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن مثل السراب إنما هو لهذا النوع من الكفار - من كفر ممن ينتسب إلى الشرائع السماوية - وذلك في حديث طويل، قال فيه صلى الله عليه وسلم:
"فَيُدْعَى اليَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّه. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّه مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ: لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللَّه فَيُقَالُ: لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّه مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ: لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ...."(1).
والذي يهمنا - لهذه المسألة - من دلالة هذا الحديث فائدتان:
__________
(1) متفق عليه، واللفظ لمسلم، البخاري: كتاب التفسير، باب: إن اللَّه لا يظلم مثقال ذرة، ح (4581)، الصحيح مع الفتح، (8/249)، ومسلم: كتاب الإِيمان، باب معرفة طريق الرؤية، ح (183) الصحيح ت: محمد عبد الباقي، (1/167).(23/23)
الفائدة الأولى: أن اللَّه عامل اليهود والنصارى في الآخرة بجنس ما كانوا عليه في الدنيا، وذلك أنهم قد تعلقوا بالأوهام والباطل وعبدوا غير اللَّه،فعملهم في الدنيا كالسراب الذي لا حقيقة له.
وأظهر اللَّه لهم جزاءهم الذي يستحقونه على شركهم مثل السراب، حيث تمثلت لهم النار كالسراب فظنوه ماءً فجروا نحوها ووقعوا فيها. وهذا يدل على أن حال الكفار وسعيهم وعملهم في الدنيا يشبه السراب، وحالهم في الآخرة وجزاءهم هو النار التي تشبه لهم بالسراب، والجزاء من جنس العمل.
الفائدة الثانية: أن اليهود والنصارى ممن ينتسب إلى الأديان السماوية، ويدَّعِي الإِيمان باللَّه، ويتقرب إليه، لكن بدون إخلاص واتباع لما نزل من عنده من العلم، وكذبوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفروا بذلك.
وهذا يؤيد أن المراد بالمثل هم الذين كفروا باللَّه - ممن ينتسب إلى الأديان السماوية - بسبب إعراضهم عن العلم بالوحي واتباعهم للشبهات الباطلة، والظنون السيئة، كما قال سبحانه عنهم:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى}(1).
وقد استدل بعض المفسرين(2) بهذا الحديث وأشباهه في سياق تفسير المثل على اعتبار أن هؤلاء ممن يصدق عليهم المثل.
__________
(1) سورة النجم الآية رقم (23).
(2) منهم ابن كثير في تفسير القرآن العظيم، (3/296)، والشوكاني في فتح القدير، (4/43).(23/24)
والكفر الذي يشبه السراب الذي وقع فيه هذا الصنف من الكفار هو الذي يكون بسبب الإعراض عن تعلم الهدى الرباني والإعراض عنه إلى غيره بسبب الشبهات، فتعلموا علوماً واعتقدوا معتقدات، وعملوا أعمالاً من الجهالات والضلالات وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فيصدق فيهم قول اللَّه عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).
أما من كان من أهل الإِيمان الصحيح ووقع في المعاصي والذنوب التي لا يعتقد جوازها ولا القربة بها فإِنه غير داخل في حكم المثل.
وذلك أن هذا الصنف لا يرى عمله قربة، ولا يظنه خيراً، والمثل دل على أن طالب السراب يحسبه ماء، بل أهل المعاصي الذين لا يستحلونها يعلمون حرمتها، ويخافون حوبها فلا تصدق عليهم دلالة المثل.
وسوف يأتي - إن شاء اللَّه - مزيد بيان لهذا الصنف من الكفار عند دراسة الفوائد المستفادة من المثل.
قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ}.
المراد بأعمال الكفار هي: كل عمل يعملونه بقصد القربة إلى اللَّه، مع ظنهم أنهم على شيء، وأن عملهم مقبول عند اللَّه ويرجون ثوابه.
ويشمل ذلك العلوم التي يتعلمونها من غير الكتاب والسنة وينسبونها إلى دين اللَّه وتوحيده أو شريعته.
كما يشمل العبادات التي يتقربون بها إلى اللَّه، وهي خالية من التوحيد، متلبسة بالشرك، أو جارية على خلاف الشريعة.
وفي العموم كل الأعمال والأقوال والمعتقدات التي يدينون بها وهي باطلة لم يأذن بها اللَّه فيما أنزل من وحيه على عباده فهي داخلة في حكم هذا المثل، فهي كالسراب لا حقيقة لها، ولن يجدوا لها ثواباً مهما كانت دوافعهم، وسوف يؤاخذون ويحاسبون على ذلك.
__________
(1) سورة الكهف الآيتان رقم (103-104).(23/25)
والسراب كما دل عليه تعريفه هو اللمعان الذي لا حقيقة له، ويقابله في الممثّل له أعمال الكفار فإنها تعجب عامليها في الدنيا ويؤملون عليها الخير والنجاة، إلا أنه لا يحصل لهم شيء من ذلك يوم القيامة عندما تشتد حاجتهم إليها.
ويستنبط من التشبيه بالسراب ضرورة كون الشمس مشرقة كما تقدم.
وهذا يقابله في الممثّل له أن هذا النوع من الكفار بَلَغَتْهُم الرسالة وهم في وسط يدين أهله بالدين الحق، وقد يكونون ممن أسلم وآمن باللَّه والرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنهم طلبوا الهدى في غير ما جاء به، وتقربوا إلى اللَّه بغير شريعته، فشمس النبوة ساطعة حولهم وعليهم، ومع ذلك تبعوا الشبهات وجروا خلف السراب.
قوله: {بِقِيعَةٍ}.
تقدم أن القيعة: جمع قاع، وهي الأرض المنبسطة، في الصحراء والمفاوز.
ويستفاد من ذلك أنه في أرض مهلكة، شديد الحاجة إلى الماء الذي به نجاته.
ويقابلها في الممثّل له: شدة حاجة الذي شبهت حاله بالسراب إلى العلم والإِيمان في الدنيا، وإلى جزاء أعماله في الآخرة، وسوف لن يجد ثمرة عمله في وقت هو أحوج ما يكون إليه يوم القيامة عند الحساب.
قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً}.
{يَحْسَبُه}: أي يظنه، كما تقدم.
ويقابله في الممثّل له أن هؤلاء الكفار الذين شبهت أعمالهم بالسراب إنما اتبعوا الظن، وأعرضوا عن مصدر الحق واليقين، وهو العلم الذي جاء به المرسلون.
وقد بين اللَّه تعالى أن اتباع الظن من أسباب الضلال والإعراض عن الهدى، وسوف أذكر الآيات الدالة على ذلك عند الكلام على الفوائد المستفادة من المثل - إِن شاء اللَّه -.
قوله: {الظَّمْآن}: هو شديد العطش كما تقدم.(23/26)
ويقابله في الممثّل له: حاجة المضروب لهم المثل للعلم والإِيمان وإدراكهم لأهميته لهم، وأنه لازم لنجاتهم، فعندهم أصل الرغبة في الخير، وحسن القصد، لكن ذلك لا تصح به الأعمال ما لم تكن موافقة لما هدى اللَّه به العباد في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {مَآءً}: الماء هو السائل المعروف، الذي يروي من العطش، وجعله اللَّه سبباً في بقاء الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنْ المَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(1).
ويقابله في الممثّل له: الإِيمان والعلم، فهما اللذان يرويان عطش القلوب، وبهما تكون حياتها، ويستحق بهما العبد الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة.
ويتحصل من ذلك: أن هذا الصنف من الكفار لديهم نهمة في العبادة، ورغبة في التدين، أو في تحصيل العلوم الإلهية، إلا أنهم ضلوا السبيل في معرفتها، أو أُضِلُّوا عنه، فوقعوا في الكفر بسبب ذلك.
وفي هذا دليل على أنه لا تنفع الرغبة في الخير، أو حسن القصد ما لم يسلك الطريق الصحيح.
وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المعنى عند ذكر فوائد هذا المثل - إِن شاء اللَّه -.
قوله: {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}.
يدل على أن الممثّل به قصد السراب وطلبه.
كما يدل على أنه لم يجد حقيقة لما رآه، وظنه ماء.
وأنه لم يزد على أن يكون بريقاً كاذباً خادعاً.
وهذا يقابله في الممثّل له أمران:
1- البحث والطلب عند أولئك الكفار الذين ضرب لهم المثل لما ظنوه حقاً في باب العلم والإِيمان، والعمل فيما ظنوه قربة من الأعمال.
2- أنهم لن يجدوا لسعيهم جزاءً عند لقاء اللَّه في موقف الحساب، الذي يعمل له العاملون، وذلك أنه عمل وسعي باطل لا حقيقة له.
قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}.
تقدم أن هذه الجملة متعلقة بالممثّل له، حيث ينتقل الكلام من المثل إلى الممثّل له ويرتب الحكم المقصود على المثل وكأنه عين الممثّل له.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية رقم (30).(23/27)
وهذا من خصائص أمثال القرآن الكريم التي تكررت في أكثر من مثل، وهذه الخاصية هي:
" البناء على المثل، والحكم عليه كأنه عين الممثّل له، على اعتبار أن المثل كان وسيلة لإِحضار صورة الممثّل له في ذهن المخاطب ونفسه، وإذا حضرت صورة الممثّل له ولو تقديراً، فالبيان البليغ يستدعي تجاوز المثل، ومتابعة الكلام عن الممثّل له، وتسقط صورة المثل لتبرز القضايا المقصودة"(1).
وهذه الجملة من الآية وهي قوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}.
والتي قبلها وهي قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} تتضمنان حكم اللَّه في هذا النوع من الكفار وأعمالهم.
فحكم اللَّه على أعمالهم في قوله: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أنها باطلة لا ثواب لها مهما كانت دوافعها ما دامت غير موافقة لما شرع، واستمدت من غير ما أنزل من الوحي على رسل اللَّه.
وحكمه سبحانه عليهم بقوله: {وَوَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فيه بيان بأن اللَّه سوف يؤاخذهم على إعراضهم عن الإِيمان والعلم الحق الذي جاء به الكتاب المبين والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ونظراً لاختلاف هذا الصنف في دوافعهم وأسباب كفرهم، إذ منهم الأئمة الداعون إلى الضلال، ومنهم المقلدون، ونحو ذلك لم يحدد سبحانه عقاباً بعينه يعم هذا الصنف، بل بين ذلك بلفظ عام يوحي بأن كل نوع سيأخذ ما يستحقه من الحساب والجزاء الموافق لحاله وأسباب ضلاله.
خلاصة وصف الممثّل له:
من ألفاظ المثل المتعلقة بالممثّل له، ومن مقايسته على الممثّل به، تبين أن هذا المثل ضرب لبيان حكم أعمال صنف من الكفار، وجزائهم عليها.
__________
(1) أمثال القرآن، وصور من أدبه الرفيع، د. عبد الرحمن حسن حبنكه، ص (135).(23/28)
هذا الصنف من الكفار تميزوا بأنهم من المنتسبين إلى الإِسلام، ويدَّعون الإِيمان باللَّه ويطلبونه، دل على ذلك كون السراب لا يكون إلا والشمس مشرقة، فالنور قد غمرهم، وهم قد ضلوا بإعراضهم عن الإِيمان الحق الذي دل عليه كتاب اللَّه المحفوظ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وطلبوا ذلك من مستنقعات الضلال. فهم يتعلمون ويعملون لكن على غير هدى.
فدل المثل على حكم أعمالهم وأنها باطلة، كما أن صاحب السراب لم يجده شيئاً، والحكم عليهم بأن كلاً سوف يلاقي جزاءه المناسب لحاله وأعماله.(23/29)