الأمة الإسلامية
من التبعية إلي الريادة
معالم الأحياء الحضاري الإسلامي
تأليف
محمد محمد بدري
إهداء:
إلي الطليعة المؤمنة التي عزمت العزمه، ومضت في الطريق تسعي لانتشال الامه الاسلاميه من مؤخره القافلة البشرية والانطلاق بها إلي قياده تلك القافله...
محمد محمد بدري
الفهرس
المقدمة...................................... ... 7
الباب الأول: الفرقان الإسلامي.. وإنطلاقة الإحياء................ ... 10
الفصل الأول: حتى يغيروا ما بأنفسهم..................... ... 11
الفصل الثاني: الأفكار أساس التغيير..................... ... 16
الفصل الثالث: تصحيح الأفكار والمفاهيم.................. ... 21
الفصل الرابع: إقامة الفرقان الإسلامي..................... ... 27
الباب الثاني: الهوية الإسلامية.. وإحياء الأمة................... ... 38
الفصل الأول: هوية الأمة الإسلامية....................... ... 40
الفصل الثاني: التغريب والاغتراب....................... ... 46
الفصل الثالت: إحياء الهوية الإسلامية..................... ... 54
الباب الثالث: التربية الشاملة.. وإحياء الربانية................ ... 59
الفصل الأول: الشمولية في التصور الإسلامي................. ... 60
الفصل الثاني: التوجيه الإسلامي الشامل................... ... 66
الفصل الثالث: التربية الإسلامية الشاملة................... ... 73
الباب الرابع: إحياء الأمة.. والحكم الإسلامي...................... ... 85
الفصل الأول: دور الأمة في التغيير....................... ... 88
الفصل الثاني: الصفوة في قلب الجماهير.................... ... 96
الفصل الثالث: إخراج الأمة المسلمة...................... ... 103
الباب الخامس: الطليعة المؤمنة.. وقيادة الأمة.................. ... 110
الفصل الأول: فقهاء لا خطباء......................... ... 111(1/1)
الفصل الثاني: صفوة العلم والوعي....................... ... 119
الفصل الثالث: روح الفريق والمبادرات الذاتية................ ... 125
الفصل الرابع: طليعة المجتمع الحيّ........................ ... 132
الباب السادس: الفاعلية الإسلامية.. والريادة البشرية........... ... 137
الفصل الأول: في الصراع الحضاري....................... ... 138
الفصل الثاني: الفاعلية طريق الحضارة..................... ... 148
الفصل الثالث: إحياء الفاعلية.. وقيادة البشرية............... ... 158
خاتمة: هذا هو الطريق................................................ ... 171
فهرس المصادر والمراجع............................ ... 181
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه،ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلي آله وأصحابه ومن سلك سبيله وأهتدي بهداه وسلم تسليما كثيرا.
أمّا بعد:
فإن المسلم الذي يري الحياة من خلال واقعه. وليس من خلال أمانيه، لابد أن يري أن "واقع" الأمة الاسلاميه اليوم هو مصداق قول رسول الله صلي الله عليه وسلم:"يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها"، قالوا:أمن قله يومئذ يا رسول الله ؟ قال :"بل انتم يومئذ كثير،ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا :وما الوهن يارسول الله ؟ قال :"حب الدنيا وكراهية الموت"(1) .
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود.(1/2)
فقد أصبحت الأمة الإسلامية "غثاء" من النفايات البشرية الخاوية، تعيش علي ضفاف مجري الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة ومتصارعة تفصل بينها حدود جغرافيه ونعرات قوميه مصطنعه، وتعلوها راية "الوطنية"، وتحكمها قوانين الغرب العلمانيه...تدور بها "الدوامات" السياسية فلا تملك نفسها عن الدوران ولا تختار حتى المكان الذي تدور فيه!!
لقد قذف الله في قلوب المسلمين "الوهن" فأصبحت أمتهم تخاف من تكاليف الحرية ومجابهه الظلم في الداخل، وتجبن عن صد الغزاة في الخارج...فتداعت عليها الأمم، وأحاط بها الأعداء الذين أوصلوها إلي مرحله " القصعة المستباحة" التي أنذرها إياها رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وهكذا..بعد أن كانت الأمة الإسلامية ـ يوما من الأيام ـ تحتل مكانها في قياده البشرية، صارت تزحف وراء غبار الركب البشري في "تبعية" ذليلة تضيع معها الذاتية ويتحول أصحابها إلي "خدم" للآخرين!!!
ولا ريب أن هذا الحال تؤرق أكثر المسلمين وتقض مضاجعهم، فتقفز إلي أذهانهم أسئلة كثيرة : كيف نخرج بأمتنا من أزمتها، وننتقل بها من الاستضعاف إلي التمكين ؟ ومن التبعية إلي الرياده ؟
كيف نرفع "غثاء" الأمة الإسلامية من حضيضه الذي يعيش فيه ليعود كما أراد الله{ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؟
ولكي نكون قادرين علي تحديد الجواب الكافي لكل هذه الأسئلة، لابد أن نؤمن أن واقعنا الذي نعيشه اليوم لا يخرج عن أن يكون نتيجة طبيعيه للمقدمات التي صغناها بأيدينا، وأن نزول الأمة الاسلاميه من عليائها إلي هذا الدرك من الذل والهوان الذي وصلت إليه اليوم....كل ذلك إنما حدث وفق سنن ربانيه لا تحابي أحدا من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوّغات المحاباة؟!(1/3)
ومن ثم، فان عوده الأمة الإسلامية إلي الرياده البشرية من جديد تخضع لذات السنن الربانية التي لا يجدي معها "تعجّل" الأذكياء أو "أوهام" الأصفياء، والتي تربط النجاح في الوصول إلي الأهداف بالوسائل الموصلة إليها، وليس بأمور سحريه غامضة الأسباب..وتجعل المنتصر في أمور الدنيا هو من يملك إلي أهدافه "منهاجا واضحا" يوصّل إليها، سواء كانت أهدافه سليمة أم لا ....
{كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً }(1)
ومن هنا، فقد مسّت الحاجة إلي "منهاج محدد" يغطي كافه المراحل التي بها الأمة الاسلاميه حتي النصر والتمكين وقياده البشريه...يغطي كل ذلك بالاستراتيجيه والتخطيط والمعرفة.
ولأن واقع الأمة الاسلاميه اليوم هو واقع أمه ماتت أو كادت أن تموت، فان المنهاج المنشود لتغيير هذا الواقع، لابد أن يكون منهاج"إحياء شامل" يجد للامه أمر دينها علما وعملا ودعوه وجهادا حتي تسترد عافيتها وتدرج علي طريق الرشد من جديد.
ولكي يظهر في الأمة ذلك المنهاج للإحياء الإسلامي،لابد من" معالم" مرشده، توفر الجهود وتطلق الطاقات...تحكم خطي الأمة وتوجه سير أفرادها.
لابد من معالم في طريق الإحياء الإسلامي : حتي لا نبتعد عن الإسلام "وسيله" ونحن نتجه إليه "هدفا"، وحتي نجمع إلي "إخلاصنا"، " الاستراتيجيه الصائبة " فتثمر جهودنا في الدنيا، ويقبلها الله في الآخره.
لابد من معالم في طريق الإحياء الإسلامي : حتي لا نبقي نتطلع إلي قياده البشرية كما يتطلع "الحالمون" إلي أحلامهم من بعيد، دون أن يملكوا السبيل إلي تحويلها إلي "واقع" حيّ ثابت.
وعلي طريق بيان هذه المعالم، كتبت هذا البحث الذي أستمد أفكاره من القرآن والسنة، ومن طروحات أهل السنة والجماعة المتميزة حاضرا وماضيا، ومن مبدأ "التجديد" و "الإحياء" المعروف في التاريخ الإسلامي .
__________
(1) الإسراء 20.(1/4)
وأحاول فيه أن أرسم معالم الميدان الذي أود أن تتضام فيه جهود المسلمين في إصرار علي الانتصار للإسلام، لا يطفئ غلتهم فيه إلا أن يروا حكم الله قائما، وأمة الإسلام تقود البشرية..
ولا أزعم لنفسي العصمة، ولا أدعي لها الاحاطه، وكلي رجاء أن أجد في وعي الأخوة القراء الفكر الناقد الذي يواجه القراء بروح "نافذة " تهدف إلي إثراء أفكار البحث، وتعميق معالجتها، وتدقيق طرحها.
فليكن هذا البحث "دعوه" لكل فقهاء الصحوة الاسلاميه من الدعاة القادرين والقادة المخلصين، إلي مزيد من إمعان الفكر وتدقيق النظر حول "منهاج إحياء" الأمة الإسلامية الذي يخرجها الله من التبعية إلي الريادة.
وليكن هذا البحث " نقطه البدء " للذين سوف يختارهم الله لصياغة "المشروع الحضاري الإسلامي" الذي يتنزل فيه الإسلام علي واقع الحياة فيغطي مختلف جوانبها التي تحكمها اليوم مشروعات "وضعيه" تناقض الاسلام..
أسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا خالصا صائبا، وخالصا لوجهه الكريم صائبا وفق كتابه وسنه نبيه صلي الله عليه وسلم.
ورحم الله أخا قرأ فدعا لي بظهر الغيب، أو وجد عيبا فأصلحه.
والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
والحمد لله رب العالمين
………………محمد محمد بدري
…… 1/1/1413هـ
الباب الأول:
الفرقان الاسلامي..وانطلاقة الإحياء
ويشتمل علي أربعه فصول:
الفصل الأول : حتي يغيروا ما بأنفسهم.
الفصل الثاني : الأفكار أساس التغيير.
الفصل الثالث : تصحيح الأفكار والمفاهيم.
الفصل الرابع : إقامة الفرقان الإسلامي.
الفصل الأول
حتي يغيروا ما بأنفسهم(1/5)
يخضع إحياء أمة من الأمم أو حماية مجتمع ما لسنن ربانية جارية تنطبق علي الأمة الإسلامية كما تنطبق علي غيرها من الأمم، وكل من يريد بناء مجتمع وإحياء أمة إذا لم يسر وفق هذه السنن ولم يفقه عوامل الهدم والبناء فلن يتمكن من إحياء هذه الأمة أو بناء ذلك المجتمع، وسيخر صنيع السنن الربانية الجارية التي لاتحابي أحدا!!
إنه" لا شيء في هذا العالم يحدث اعتباطاً، ولا يمكن أن يحدث شيء واحد في حياه البشر اعتباطاً .إنما يجري كل شيء في حياه البشر حسب سنة الله التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً من الخلق{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }فاطر 43"(1) وهيهات أن يجدي (تعجل) الأذكياء أو (أوهام) الأصفياء مع سنن الله الجارية، فسنن الله غير قابله للتغيير ولا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباه..
"ومن سنن الله أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الرّقيّ والانحطاط .. فالتغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء والارتفاع إلي أعلي أو بالانتكاس والهبوط إلي أسفل"(2) .وقد طرح القرآن أن الحد الإيجابيّ لهذا التغيير بقول الله عز وجل : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11 وطرح حدّه السلبي بقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال53
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح-محمد قطب ص 8.
(2) منهج كتابه التاريخ الإسلامي-محمد السلمي ص64.(1/6)
"لقد أنعم الله علي الأمة الإسلامية بالتمكين والاستخلاف والتأمين، وفتح عليها بركات من السماء والأرض كما وعد المتقين {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} النور55 .. وقال سبحانه { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } الأعراف96 ثم تغير الحال من الاستخلاف والتمكين والتأمين إلي الذل والضعف والهوان والتشريد والتنكيل والتقتيل حين صاروا إلي الصورة التي أنذرهم بها رسول الله صلي الله عليه وسلم وحذرهم منها " يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها " قالوا أمن قله نحن يومئذٍ يا رسول الله قال : " أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل...) أخرجه أحمد"(1).
إن رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث " يقرأ التاريخ قبل أن يقع، ويحذّر من الوقوع فيه، علي أساس أن الأمر علي نظام وسنن، سواء في الوقوع في القصعة المستباحة أو الخروج منها " (2) وما كان تأخر الأمة الإسلامية حضارياً وعسكرياً وسياسياً واقتصاديا إلا بعد أن فسد تصورها، وتبدّل سلوك أفرادها فاستحقت أن يغير الله ما بها مما أعطاها إياه من النعم التي لم تقدرها ولم تشكرها، فما حدث لها هو انطباق لسنه الله عليها حين عرضت نفسها لها "والإنسان حين يعرض نفسه لسنه الله لابد أن تنطبق عليه مسلماً كان أو مشركاً،ولا نتخرق محاباة له"(3).
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح-محمد قطب - .10
(2) حتي يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد ص 101.
(3) في ظلال القرآن-سيد قطب جـ1 ص 514.(1/7)
وإذن فسواء شئنا أم أبينا " فنحن ـ أولاً وأخيراً ـ مسؤولون عن هزائمنا، وتخلفنا الحضاري.. ومرفوضة كل محاولة تسعي إلي اتخاذ ممارسات الأمم الأخرى مشجباً لتعليق هذه الهزائم وتبريرها"(1) {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} آل عمران165 بل كل من يحاول أن يزحزح مسؤوليتنا عن عاتقنا ليضعها علي كاهل الغير، هو في الحقيقة يلحق بنا الضرر ويؤخر خروجنا من مرحله (القصعة) التي وصلنا اليها.
إن بداية الخروج مما نحن فيه، هو أن نخرج من نطاق التعميمات والشعارات والاقتصار علي التوجه صوب (الآخر)، والإلقاء بالتبعة عليه، لنضع أيدينا علي الأسباب الحقيقية التي هيأت الأمة ( للإصابة) فإذا فعلنا ذلك كانت هذه هي الخطوة الأولي والحاسمة التي توقفنا علي الأرض التي تسمح برؤيه الأشياء علي حقيقتها، ومواجهة مشاكل الواقع من خلال سنه الله الربانية في تغيير النفس والمجتمع، والتي تقرر أن التغيير إلي الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به ( القوم ) لما بالأنفس من أفكار ومفاهيم واتجاهات " فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم... وتنفذ فيهم سنته بناء علي تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم "(2).
__________
(1) العقل المسلم والرؤية الحضارية عماد الدين خليل ص 52.
(2) في ظلال القرآن –سيد قطب جـ4 ص 2049.(1/8)
إن سنه الله وشرعة السماء (غيّر نفسك تُغَيّر واقعك).. ولكنها ليست سنه (فرد) وإنما سنة (مجتمع) و(أمة)، بمعني أنه وإن كان التغيير ينصب علي الذات في إطارها الفردي بالدرجة الأولي، لكنه لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا انسحب علي الأمة والقوم، فالله عز وجل يقول : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11 فالآية تربط التغيير بتغيير ما (بقوم ).. و (أمة) وليس فرداً واحداً(1).
وهذا هو مافعله الإسلام يوم جاء من عند الله فإنه " لكي ينشئ الإسلام الواقع الجديد ـ الذي ارتضاه الله للبشر ـ ولكي يغير الواقع الجاهلي الذي يعبد الناس فيه بعضهم بعضا... ثم لكي يقيم الضمانات دون ارتداد البشرية في طور من أطوارها إلي الجاهليه...لم يكن بد أن يغيّر تصوراتها الجاهلية، وينشئ لها تصوراً آخر ربانياً، يقوم عليه واقعها ـ أو بتعبير أصح وأدق ينبثق منه واقعها"(2).
__________
(1) كتب الأستاذ جودت سعيد رسالة بعنوان"حتي يغيروا ما بأنفسهم" ركّز فيها بحث تغيير المجتمعات، فراجعها إن شئت.
(2) مقومات التصور الإسلامي-سيد قطب ص 21.(1/9)
لقد كانت خطوة هذا الدين الأولي في سبيل إحياء الأمة الإسلامية هي تغيير لما بالأنفس غايته هجر الأفكار والثقافات والقيم الخاطئة بكل موروثاتها الصنمية، إلي الإسلام بقيمته التوحيدية، ....ولم يكتف صحابه رسول الله صلي الله عليه وسلم بالالتفاف حول صاحب الدعوة" بل جاهدوا أنفسهم حتي تتغير وتتلاءم وطبيعة هذه الدعوه... وكان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له، فكان علي أعتاب الدخول في الإسلام، يخلع عنه كل ماضيه ليرتدي حله الإسلام، التي تصوغ نفسه صياغة ربانيه ...وبمثل هذا التغيير الذي حدث في نفوس السلمين الأوائل، حصل التغيير الحضاري، الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له، لا قبله ولا بعده..والسبب أن هذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليه أمور خلقه، والتي بينتها الآية الكريمة في قول الله تعالي : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ـ الرعد11 ـ فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان، غيّر الله مابها من جاهليه، وخلّصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية إلي آفاق الأمة الموحدة المتكاملة".(1/10)
إن التغيير ليس هديه تُعطي، ولا غنيمة تُغْتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بتغيير ما بالأنفس، فهما متلازمان ...ولا يتغيّر واقع الأمة إلا تغير ما بأنفس أفرادها " تغييراً يمتد إلي كافه المساحات وسائر المكونات النفسية الأساسية : العقلية والروحية والجسدية، وكل العلاقات والبني الداخلية مع الذات ومع الآخرين، والتي تمكن الجماعة المسلمة من مواجهه حركة التاريخ (1)" فإذا أردنا تغيير واقعنا الذي نشكو منه، وإذا أردنا إحياء الأمة الإسلامية فإن السبيل إلي ذلك هو تصفيه أفكارنا وإطارنا الخلقي مما فيه من عوامل ( قتّالة) و ( ورمم ) لا فائدة منها حتي يصفو جو الأمة للعوامل ( الحيّة) والداعية للحياة، والتي بها يتم إحياء الأمة .
وإذا كنا نرغب في تطبيق الإسلام في دنيا الواقع، وتحكيم الشريعة الربانية في ظل دوله الإسلام ن فإن هذه الدولة يرتبط وجودها بسنن الكون وأسبابه، ولابد من جمع أسباب تلائم طبيعة هذه الدولة المنشودة "فإذا تجمعت هذه العوامل ولأسباب وتفاعل بعضها مع بعض وعلا شأنها وقوي أمرها بعد مراس وصبر عظيم، حتي لتكاد تندفع اندفاع السيل، لم يبق في مُكنة نظام آخر أن يقوم في وجه المجتمع الذي تولّد من تفاعلات تلك الأسباب والعوامل،فحينذاك يحل محله النظام المنشود الذي سعت في إيجاده وتكوينه تلك الأسباب القوية والعوامل المؤثرة النافذة، فمثله كمثل بذره تعيش إلي ما شاء الله في باطن الأرض ثم تخرج علي وجه الأرض شجره تنمو وتكبر حتي تصير باسقة وتثمر من الثمار ما تنزع إليه بنيتها الفطرية"(2).
__________
(1) العقل السليم والرؤية الحضارية- د. عماد الدين خليل ص 43ز.
(2) العقل السليم والرؤية الحضارية- د. عماد الدين خليل ص 43 .(1/11)
إن من الأهمية بمكان أن نقوم بعمليه تغيير ما بالأنفس وفق منهج واضح يحيط بما ينبغي تغييره، والزمن الذي يحتاج إليه التغيير إذا استخدمت الإمكانيات بكفاءة، فإذا فعلنا ذلك تغيّر ما بنا من أزمات سياسيه واجتماعيه واقتصاديه، وخرجت أمتنا من التبعية إلي الرياده ومن الاستضعاف إلي التمكين ومن الفرقة والضعف إلي الائتلاف والقوة.
وبكلمة:
إن تغيير ما بأنفس الأفراد هو الشرط الجوهري لكل تغيير للمجتمع ولأمه، ولن يكون هناك سحر يمحو ضعف أمتنا وتخلفها في لحظات ويبدلهما تقدماً وقوه...إنما هناك سنن ربانيه تقوم عليه حياه الناس في الأرض ..وليس من السنن الربانية أن نفسد ديننا ثم نقول :يارب .يارب. إنما لابد من تغيير ما بالأنفس من أفكار ومفاهيم واتجاهات، ولن تنجو أمتنا من التبعية والاستضعاف والفرقه، إلا إذا نجت نفوس أفرادها من أن تتسع للتبعية، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهلها للاستضعاف...
ولكي لا نكون مستعبدين ومستضعفين، يجب أن نتخلص من القابلية للاستعباد والاستضعاف .. وهذا هو المنهج الصحيح للتغيير،والذي أضاءته بنورها تلك الآية الكريمة:
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
( ( ( (
الفصل الثاني
الأفكار أساس التغيير(1/12)
تنطلق أية أمة من الأمم في دربها الحضاري من مجموعه الأفكار التي علي أساسها تشيد الأمة صرح حضارتها، ويقدم الواقع شواهد عديدة علي أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعاً لنوعيه الأفكار التي يعتنقها أفرادها " فصحة المجتمعات أو مرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه"(1) و "المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق علي تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كان حال الأمة المسلمة الأولي في صدر الإسلام وتفوقها علي مجتمعات الرومان والفرس وغيرها "(2) .
ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، حتي إذا جاءت أفكار الرسالة، تحّول الرجال الذين لا يزالون في بداوتهم والقبائل ذات الحياة الراكدة .. تحول هؤلاء إلي رجال يحملون للعالم الحضارة ويقودون فيه التقدم والرقي .فماذا دخل حياه المجتمع العربي يومئذ ؟
"لم يدخل حياته عامل جديد ينقله تلك النقلة الهائلة في كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مقوّم من مقوّمات الحضارة، إلا ذلك التصور الإعتقادي الجديد.. ذلك التصور الذي جاء إلي عالم الإنسان بقدر من الله، والذي انبثق منه ميلاد للإنسان جديد، ونظام للحياه جديد، وواقع للمجتمع البشري جديد يختلف في أسسه وفي ملامحه عن مجتمعات الجاهلية"(3) .
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين د.ماجد عرسان الكيلاني ص 274
(2) إخراج الأمة المسلمة – د.ماجد الكيلاني ص 88
(3) مقوّمات التصور الإسلامي ـسيد قطب ص 22(1/13)
وما ذلك إلا لأن التصرف السليم فرع عن التصور السليم.. " وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلا نتيحه لأفكاره، فإذا تغيرت هذه الأفكار سواء بجهده أو بجهد غيره، فإن سلوكه يتغير لامحاله، وهذا التغيير يمكن أن يصل إلي درجه النقيض كأن يتحول الإقدام إلي إحجام، أو أن يتحول الإقدام إلي نوع من الفتور "(1)
فهناك فكره قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكره أخري تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم!!
ولأن أفكاره بهذا القدر من الأهمية، فإنه ومنذ أن تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية وأعداء الأ مه الإسلامية يحرصون علي تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل المسلم من ناحية، ومن ناحية أخري يقومون برصد الأفكار الفعالة التي تحاول إحياء الأمة، لكي يقضوا عليها في مهدها أويحتووها قبل أن تصل إلي جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تُعدّل انحرافات أفرادها، ولتبقي الجماهير إذا اجتمعت تجتمع علي أساس العاطفة وتحت سلطانها، وليس علي أساس (الفكره...والمبدأ )..
ومن هنا كانت مخططات أعداء الإسلام "لاحتواء وتدمير الأمة ألإسلاميه تهدف دائما إلي هزيمة الأمة (فكرياً)، لأن هزيمة الأمة في أفكارها تجّردها من الحصانة وتتركها فريسة لأي مرض أو وباء فيسهل بعد ذلك احتواؤها وتفكيك معتقداتها"(2).
__________
(1) حتي يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد ص80
(2) المسلمون وظاهره الهزيمة النفسية – عبد الله الشبانة ص 17.(1/14)
وإذن فالمعركة بين الأمة الإسلامية، وأعدائها.. ليست معركة واحده في ميدان الحرب، بل هي معركة في ميدانين..ميدان الحرب، وميدان الفكر..والأعداء حريصون في ميدان الفكر علي ( احتلال ) عالم ( الأفكار) في أمتنا، وحريصون في نفس الوقت علي توزيع (نفاياتهم) الفكرية من أفكار اللغو كأشعار الغزل والقصص الجنسي والأدب العاري..وما إلي ذلك، حريصون إلي توزيع هذه النفايات إلي أمتنا، لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة تصبح غثاء تدور به "الدوّامات السياسية العالمية، ولا يملك نفسه عن الدوران ولا يختار حتى المكان الذي يدور فيه، وهذا ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم وحذر منه:
"يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها"، قالوا : أمن قله يومئذ يا رسول الله؟ قال : " بل انتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا : وما الوهن يارسول الله؟ قال : "حب الدنيا وكراهية الموت " أخرجه أحمد وأبو داود"(1).
إن إحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلي مرحله الشتات والفرقة، ودخول أمتنا مرحله (القصعة)..كل ذلك "دليل علي وجود خلل في البنية الفكرية والطروحات العقيديه التي أثمرته، مهما كانت دعاوانا عريضة،
__________
(1) واقعنا المعاصر-محمد قطب ص 356.(1/15)
وأصواتنا مرتفعه بالإدعاء أننا علي النهج السليم"(1)، ولذلك فإن العاملين في ميدان (إحياء) الأمة لابد لهم التمييز بين (سباب) مرض أمتنا و (أعراض)هذا المرض، فلأسباب في الحقيقة (فكريه) أساسها المعتقدات والقيم والأفكار، أما الأعراض فهي سياسيه واقتصاديه واجتماعيه.... ومن هنا فإن بداية أي تغيير لابد أن تحدث في الأفكار، وبقدر ماتملك الأفكار، رصيدا قويا من الاستجابة لدي الأمة وتغييراً ملحوظا في مجال سلوكيات أفرادها وعلاقاتهم الاجتماعية، ستتحول هذه الأفكار ثقافة معطاءة يمكن أن نقول: إنها تشكل نقطه البدء في التغيير المنشود.
"إن التغيير لايتم إلا بوجود مبدأ يصدر عنه أفراد الأمة، وعقيدة يشترك جميع الأفراد في احترامها والحفاظ عليها والدفاع عنها، ..وهذه العقيدة هي من أهم عناصر بناء الأمة لأنها هي التي تحدد الصلات الإجتماعيه وهي التي ترسم نهج السلوك وهي التي تضع قواعد المجتمع، وتقيم نظمه وتهدي إلي مثله"(2). ولذلك فإنه من الضروري أن يكون الزاد الذي نحمله لإحياء الأمة وبعث حضارتها هو العقيدة، والفكرة الدينية، لأن الحضارة لا تنبعث إلا بالفكرة الدينية، ولا تظهر في أمه من الأمم إلا في صوره وحي من السماء يكو للناس شرعاً ومنهاجاً، "فالفكرة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة، ولكن بشرط أن تكون نابعة من دين سماوي خالص لم ينله تشويه ولا تحريف"(3).
__________
(1) نظرات في مسيره العمل الإسلامي –عمر عبيد حسنه ص 25.
(2) المجتمع الإسلامي –د. محمد أمين المصري ص16.
(3) أزمتنا الحضارية في إطار سنه الله في الخلق-د. أحمد كنعان ص 153(1/16)
إن الأمة التي تفقد العقيدة وتخسر الفكرة الدينية تتحول في الحقيقة إلي أمه ميتة "ولا يغرّنك بقاء بعض الأمم التي لها صفه الأمة الميتة زمناً دون أن تسقط، ذلك أنها تبقي متكئه علي ( منسأتها ) من أجهزه الأمن، بحيث يخيّل للرازحين تحت ظلمها أنها حيّة قائمة، حتى يبعث الله عليها عناصر انقلابية من الداخل، أو قوة غازية من الخارج فتأكل المنسأة، وتخر هذه الأمم !! وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها، أن لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا في العذاب المهين"(1).
إن هيبة الأمة قد تكلفها أحياناً الأفكار إذا ما تناغمت الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الأمة، ولم تفتقد هذه الأفكار منطق العمل والحركة، ولذلك فإنه من الخطأ أن نعتقد أن الذي ينقص أمتنا في وضعها الراهن هو الصاروخ أو البندقية بينما ما ينقصها في الحقيقة هو (الأفكار)، فأزمتها ليست أزمة وسائل وإنما هي أزمة (أفكار)..وكلما كانت أفكارنا نابعة من ديننا، كلما كانت أكثر فاعليه وقدره علي تحريك الأمة، .. وكلما كانت أفكارنا قابله للتجسد في الواقع عبر أشخاص، كلما كانت لها وظيفتها الإجتماعيه، وتحولت إلي تيار إحيائي يحل مشكلات الأمة في واقعها، ويرسم لها خطه المستقبل الأفضل.
لقد قامت الأمة الإسلامية الأولي علي الفكرة والعقيدة، فكانت أرحب في آفاقها من الدم والأرض والإقليم،.. وكانت فكرتها التي قامت عليها ما قاله ربعيّ بن عامر حين دخل علي رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله :ما جاء بكم ؟فقال :"الله ابتعتنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العباد إلي عباده الله..ومن ضيق الدنيا إلي سعتها .. ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام"..وهذه هي (الفكرة) والرسالة التي تحملها أمتنا ..أمه (الفكرة) .
وبكلمه :
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة –د. ماجد الكيلاني ص 130(1/17)
إن إحياء الأمة وبناء المجتمع، بل وهيبة تلك الأمة وهذا المجتمع إنما تقوم علي الأفكار ..والصراع في الواقع إنما يكون بين فكرتين، فكره (حية ) تصنع الرجال وتحيّ الأمة، وفكرة (ميتة) لا تصنع أولئك الرجال، ولا تحيي هذه الأمة، فهناك أفكار تدفع أفراد الأمة إلي التحرك نحو تغيير الواقع الفاسد مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وأخري تجعلهم يرتكسون في أوحال الذل، ومستنقعات الاستعباد ..ولذلك فإن الطريق إلي التغيير المنشود، وإحياء الأمة الإسلامية لابد فيه من رفض الأفكار السلبية والخاطئة في مجال العقائد والسلوك والعلاقات الاجتماعية، وقبول الأفكار الصحيحة التي تكون الأساس الذي يقوم عليه التغيير .
( ( ( (
الفصل الثالث
تصحيح الأفكار والمفاهيم
يؤكد الإسلام علي المحافظة علي الأساس الفكري للأمة، ابتداء بالعقيدة، وانتهاء بالمفاهيم العامة للإنسان عن الكون والحياة، ول يترك المنهاج الإسلامي أي انحراف في الأفكار والمفاهيم دون تصحيح، لأن هذا الانحراف يفسح المجال للثغرات العلمية في الهيكل الفكري والعلمي في حياه الأمة، ويصبح قيداً يكبّل الأمة ويمنعها من التحرك نحو التغيير.
ومن هنا كانت خطوه الإسلام الأولي في تغيير الواقع الجاهلي هي "نفي الأفكار الجاهلية الباليه، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقه صحيحة "(1).
__________
(1) شروط النهضة-مالك بن نبي ص 81.(1/18)
إن "الذي يعرفه القاصي والداني أن العالم كان مصاباً بأمراض خلقيه وعمرانية واقتصاديه وسياسيه ..حينما بُعِث النبي صلي الله عليه وسلم داعياً، فهناك تسلط روما وفارس، وهناك تنافس وامتيازات بين مختلف طبقات البشر، واستغلال اقتصادي ممقوت ، وفوق كل ذلك الأخلاق الذميمة الفاشية في سائر أقطار العالم، وكذلك بلاد العرب نفسها لم تكن آمنه مطمئنه....فقد كانت البلدان الساحلية العربية إلي بلاد اليمن ومقاطعه العراق الخصيبة كلها كانت خاضعة للفرس، وفي الشمال كان قد تسرب النفوذ الرومي إلي ثغور الحجاز نفسها..وتغلغل اليهود الماليين في أعماق الحجاز ..وكانوا يوقعون العرب في حبائلهم وينشبون أظافرهم ـ أظافر الربا الفاحش ـ في لحومهم وأبدانهم"(1)...كان هذا كله وأكثر منه .فكيف واجه النبي صلي الله عليه وسلم هذا الركام الجاهلي الفكري والعقائدي والواقعي ؟ ومن أين بدأ الطريق إلي التغيير ؟ إنه "لم يتعرض في أول أمره لإحدى تلك المسائل المفصلة العديدة المتشعبة، بل قام في الناس يدعوهم ويهبب بهم بملء صوته أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت وما كان ذلك كذلك لأن هاتيك المسائل لم تكن في شيء من الخطورة أو مما لا يستحق الإهتمام... بل لأن كل نوع من أنواع الفساد الاجتماعي والخلقي الذي يحدث في المجتمع الإنساني إنما ينشأ ـ حسب ما يراه الإسلام ـ من عله واحده، وهي أن يجعل الإنسان نفسه مستقلا بأمره ..وبلفظه أخري أن يتخذ إلهه ، أو يتخذ من دون الله آمراً مطاعاً يخضع له وينقاد لأمره، سواء كان ذلك الآمر من البشر أو من غيره "(2) فإذا نُقّيت العقول من هذه العقيدة المنحرفة، وقبلت العقيدة الصحيحة، أفادت من شعائر هذه العقيدة الصحيحة، وتشربت شرائعها، واعتادت آدابها.
__________
(1) منهاج التغيير الإسلامي-أبو الأعلى المودودي ص 38.
(2) المصدر السابق-ص39.(1/19)
لقد "كان العرب ـ قبل الإسلام ـ شتيتاً متناثراً لا يأتلف ولا يتجمع رغم وجود كل عوامل التجمع، من وحده الأرض، ووحده البيئه، ووحده اللغة، ووحده المعتقدات، ووحده الثقافة، ووحده التاريخ...ومن هناك التقطهم الإسلام "(1) بعقيدته الصحيحة ومفاهيمه الواضحة، فكانت هذه المفاهيم وتلك العقيدة هي العقيدة هي التي صنعت من أفراد الجاهلية الأولي الذين يحبون الفوضى ويكرهون النظام وتشغيل حماستهم ثم لا تلبث أن تنطفئ، ...صنعت منهم "خير أمه أخرجت للناس " .
ولكن..عبر المسيرة الطويلة لهذه الأمة خلال التاريخ، حدثت انحرافات كثيرة في حياه المسلمين ..وكان الانحراف الأخطر في حياتهم هو الانحراف في المفاهيم..كل مفاهيم الإسلام ابتداء من لا اله إلا الله، وانتهاء بالمفاهيم العامة للمسلم عنة الكون والحياة .
فأما "مفهوم لا اله إلا الله ـ أساس الإسلام كله وأكبر أركانه ـ فقد تحول إلي كلمه تقال باللسان، لا علاقة لها بالواقع، ولا مقتضي لها في حياه المسلمين أكثر أن يُنْطق بها بضع مرات في كل نهار .فضلا عما أحاط بالعقيدة من خرافه وعباده للأضرحة والأولياء والمشايخ، بدلا من العبادة الصافية لله دون وسيط.
وأما مفهوم العبادة ـ الشامل الواسع ـ فقد انحصر في شعائر التعبد، من أداها فقد أدي كل ما عليه من العبادة، ولم يعد مطالباً بشيء من التكاليف أمام الله فضلاً عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزله كاملة عن واقع الحياة، كأنها شيء ليس له مقتضي في الحياة الدنيا ولا تأثير !
وأما مفهوم القضاء والقدر ـ الذي كان في صورته الصحيحة قوه دافعه رافعه ـ فقد صار في صورته السلبية قوه مخذله مثبطه عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب.
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح-محمد قطب ص 34،33.(1/20)
وأما مفهوم الدنيا ولآخره – الذي يربط الدنيا بالآخرة، ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم – فقد تحول إلي فصل كامل بين الدنيا والآخرة، يجعلها موضع التقابل الكامل وموضع التضاد، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا واكتفي فيها بالكفاف ! وأما عماره الأرض فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة، فخيم علي الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي..
وزاد علي ذلك كله أنه كان في حس المسلمين أن هذا الذي حدث لهم قدر مقدور من عند الله، لا حيله لهم فيه إلا التسليم والرضا !!"(1) .
وهكذا أصاب الأمة الإسلامية تخلفاً ماديا كنتيجة لتخلفها الديني الذي بلغ –عبر تراكم السنين-درجات خطيرة، إلي الحد الذي غابت فيه معالم السنن، وتشوشت العقائد، واضطربت المفاهيم، وبعدت الأمة عن التصور الإسلامي للحياة " فبعد واقعها عن النظام الإسلامي للحياه.. ثم إن بُعْد حياتها عن النظام الإسلامي أخذ بدوره يبعدها عن التصور الإسلامي من جديد.. وهكذا ظلت هذه الأمة تدور في هذه الحلقة المفرغة، ويتم في حياتها ذلك التفاعل النكد بفعل عوامل خارجية كامنة في تركيبها التاريخي من ناحية، وبفعل عوامل خارجية تهاجمها بكل وسيله وتستغل وتنشئي عوامل التمييع والتمزيق في كيانها من ناحية أخري....
حتى انتهت إلي أن تصبح غريبة غربه كاملة عن الإسلام "(2)..ولابد أن نكون صرحاء مع أنفسنا..إن الموجود اليوم في حياه الأمة ليس هو الذي أنزله الله ، وليس هو الإسلام الذي صنع خير أمه أخرجت للناس.(3).
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 9،8 .
(2) مقومات التصور الإسلامي-سيد قطب ص 23،22.
(3) ليس المقصود إصدار حكم علي هذا الجيل من لأمه(1/21)
إن المفاهيم التي كان عليها سلف هذه الأمة، هي بالتأكيد غير المفاهيم التي نحن عليها بواقعنا اليوم "فالذل والضعف ، وغلبة الأعداء الذين لا يرقبون في المسلمين إلاً ولا ذمه، وعدوانهم المستمر في كراماتهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم ، هو الحال كما يكون الناس غثاءً كغثاء السيل ..وهم لا يكونون كذلك إلا حين تتحول لا اله إلا الله إلي كلمه تقال باللسان ، بغير دلاله ولا رصيد واقعي، "وحين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية، ويخلو من العمل بجميع أنواعه، بدءاً بالعمل السياسي المتمثل في رقابه الأمة علي الحاكم وتقديم النصح له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم علي أمر الله وشريعته، ويطبق العدل الرباني كما أمره الله "(1)... وحين يتوهم المسلم أن محاولاته لتغيير الواقع الفاسد تتعارض مع واجب التسليم لقدر الله!!
إن واقعنا المعاصر الذي نشكو منه جميعاً إنما هو حصيلة الانحراف الذي أصاب مفاهيمنا وأفكارنا، ..وما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم إنما (يرشح )من هذا (المستنقع) الذي اجتمع فيه المرجئة والجبرية، .. فأما المرجئة فقد صار الإيمان بسببها هو مجرد التصديق والاقرار بلا عمل يعمل من مقتضيات التصديق والاقرار، وأما الجبرية فقد صار الإيمان بالقدر بسببها تنصلاً من كل مسئووليه، لأنه لا إرادة ولا اختيار!!
وهكذا بين الإرجاء والجبر نمت (القابلية) للاستعباد، و( قتلت) الهمة للتغيير وصارت الأفكار والمفاهيم المنحرفة تشكل أغلالاً تمنع جماهير أمتنا من التحرك والانطلاق نحو التغيير..(2)
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح – محمد قطب ص 105.
(2) المصدر السابق ص 198.(1/22)
ولا شك أن (إحياء ) هذه الأمة لن يكون إلا في نفس الظروف التي ولدت فيها وحين وُلدت هذه الأمة "كان ذلك الميلاد صادراً عن عقيدة واضحة قويه، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره ليحيي أمه كادت أن تموت، فإذا بها تنطلق مكتسحه العالم بحضارة وتقدم"(1)
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها "تصحيح المفاهيم أولا، ثم إقامة بناء جديد علي المفاهيم الصحيحة ". ولا يمكن ( إحياء ) الأمة الإسلامية إلا إذا قام هذا الإحياء علي أسس أهمها " الرجوع إلي المنابع الأولي للإسلام ، والكتاب والسنة، وتخليص عقائد المسلمين مما علق بها، وليس منها، والذي كان له أثر علي سلوكهم وعبادتهم وحركتهم "(2).
إن تصحيح المفاهيم هو مفتاح التغيير في كل تجمع بشري يُراد إخراجه من عباده العباد إلي عبادة الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية تصحيح المفاهيم هو مفتاح التغيير في كل تجمع بشري يُراد إخراجه من عباده العباد إلي عباده الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية إلي نور الإسلام .
__________
(1) شروط النهضة – مالك بن نبي ص 25 بتصرف.
(2) ندوة اتجاهات الإسلامي المعاصر – ص 403.(1/23)
وإذن فلابد من تصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها من الإرجاء والجبر وعلوم الكلام، وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوه الأمة علي أن تقيم حياتها علي أساس المفاهيم الصحيحة للإسلام،..وحين يحدث ذلك.."وحين تصحح المفاهيم بالفعل، وتتربي علي المفاهيم الصحيحة قاعدة صلبه تساندها الجماهير المؤمنة الواعية التي تمارس الإسلام في عالم الواقع..عندئذ يتحقق الوعد الذي وعده رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: "تكون فيكم النبوة ماشاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافه علي منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله ماشاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها ما شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله ما شاء أن يرفعها، ثم ( تكون خلافه علي منهاج ( النبوة) "وعندئذِ يتغير وجه الأرض "(1) وتنهض الأمة الإسلامية، وتغير بجهادها المستمر أسس الجاهلية الفكرية، والخلقية والنفسية والثقافية السائدة في العالم، ويخرج الناس من عباده العباد إلي عباده الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلي سعه الدنيا والآخرة .
وبكلمه:
إن الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة تُشَكِّل أمتنا شبكه واسعة، تبدأ من العقيدة وتنتهي بالسلوك ، مروراً بالعلاقات الإجتماعيه والمواقف السياسيه. ويمثل هذا الإخطبوط الذي يمد سيقانه إلي كل مجالات الحياة، يمثل قيوداً وأغلالاً تمنع الأمة من التحرك إلي التغيير، ولن يضع عن هذه الأمة إصرها والأغلال التي صارت عليها إلا الأفكار الصحيحة والمفاهيم الواضحة الصافية ولذلك فلابد من تصحيح الأفكار والمفاهيم المنحرفة ومنها :
مفهوم أن لا إله إلا الله. كلمه تطلق في الهواء وأنها ليس لها مقتضيات!!
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح – محمد قطب ص 380.(1/24)
مفهوم العبادة، وانحصارها في شعائر التعبد...بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
فكره الجبر، التي تسلب الإنسان إرادته، وتجعله غير مسئول عن رأيه أو ما يصدر منه.
فكره الخضوع لأي سلطه مهما كان طريقها في الحكم علي اعتبار أنها أولي الأمر!!
....فإذا استقرت المفاهيم الصحيحة في قلوب الأمة، كان ذلك هو بداية الانطلاقة القوية لتحقيقها في صوره واقع بشري يختلف اختلافاً أصيلاً وكلياً عن واقع البشرية اليوم.
الفصل الرابع
إقامة الفرقان الإسلامي
تمهيد:
لا يمكن تحقيق انطلاقه قويه للإحياء الإسلامي دون تصور إسلامي صحيح، وأمة تملك ( الفرقان ) الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق.
ولا يتحقق (الفرقان ) إلا من خلال نظره إسلاميه فيها حرارة العقيدة واستجابة السلوك، وحركيه الدعوة والعمل الإسلامي.
من هنا فإن انتشار جماهيري للدعوة لن يكون له وزن ولا فاعليه إلا إذا تأسس علي رؤية واضحة وفهم شامل لحقيقة الإسلام، ..وتصور عميق لطبيعة الواقع الذي تهدف الدعوة إلي تغييره..وعندها لا تضل بنا الطريق ولا تزل بنا القدم.
المبحث الأول :الفرقان بين الإسلام والعلمانية..(1/25)
"كان من ثمره اليأس من الإسلام أن عدل أعداؤه عن مواجهته وجها لوجه،إلي طريق أخبث، وحبائل أمكر.. فلجأوا إلي إلي إقامة أنظمه وأوضاع في أرض الإسلام تتزيا بزيّ الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جمله..ثم تنفذ تحت هذا الستار الخادع كل المشروعات التي عجز أعداء الإسلام عن تنفيذها كلها في المدى الطويل"(1) وبينما كان الاستعمار القديم يستعين بقواته العسكرية الغازية لقهر شعوب المستعمرات، لم يعد الاستعمار الجديد في حاجه إلي استخدامه القوات العسكرية بعد أن أفلح في اختيار عملائه وصنائعه من النخبات الوطنية التي أشربت في قلوبها ثقافة الاستعمار، وتربت علي يديه، ونشأت في كنفه ورعايته. بل لقد حقق الاستعمار الجديد كسباً بسحبه لقوات الاحتلال، هو الاختفاء وراء (واجهه) الحكم الوطنية، (ولافته) الإسلام التي ترفعها تلك الحكومات !! ذلك أن هذه الافته الخادعة تكون مانعه من الانطلاق الحقيقي لمواجهه الجاهلية القابعة وراءها !! والعملاء المتسترين بها !!
__________
(1) في ظلال القرآن – سيد قطب جـ2 ص 1106 بتصرف.(1/26)
لقد بذل أعداء الإسلام القناطير المقنطرة من التلبيس والدجل السياسي "ولعبت ألاعيب صُوِّروا فيها هؤلاء العملاء الذين يقدمون دولهم للافتراس، في صوره (الأبطال) المحررين الذين هبطوا من السماء لإنقاذ بلادهم من الرجعية والتخلف وما شاكل ذلك، وكانت حقيقة دورهم قتل الحركات الإسلامية في بلادهم، باسم محاربه الرجعية"(1) ، وتقديم بلادهم للأعداء يقهرون شعوبها وينهبون ثرواتها. وهكذا.. قًلِّد هؤلاء العملاء إمارة المسلمين، وهم لإمارة اليهود أقرب :"وفرضت علي الأمة أنظمه القهر والاستبداد، واستعملت خبره الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقه بطبقه، وظلم بظلم أشد، وبقي المظلومون والمستضعفون علي حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.
ولم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا . ولم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادعوا .ولم تحقق وحده الأمة كما طبّلوا وزمّروا، بل زادوها أوصالاً وتقطيعاً "(2)..لقد كانت الضحية الوحيدة لهذه النظم العلمانية هي الإسلام بحقائقه وحضارته وأمته.. وسلّمت هذه الأنظمة العلمانية بلاد المسلمين إلي اليهودية العالية بسبق إصرار في الخيانة!!
وبينما يحدث كل هذا تُضَلَََّل جماهير الأمة في كل مواجهه بين الحركات الإسلامية وهذه الأنظمة العلمانية العملية، ويُقَال لها إن المواجهة ما هي إلا بين الأنظمة، وحركات لها عماله أجنبيه تخطط للاحاطه بالنظام، وحرمان الأمة من بركاته ومزاياه، والسير بالأمة نحو التخلف والرجعية وعصر الانغلاق والبداوة !!
__________
(1) الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 87.
(2) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري –د. محسن عبد الحميد ص 33،32.(1/27)
وهكذا تُوهِم الأنظمة العلمانية جماهير الأمة أنها هي صاحبه (الشرعية )..، وأن الحركات الإسلامية هي الخارجة علي (الشريعة )..ويتيح لها ذلك أن تستفرد بهذه الحركات الإسلامية فتذبحها تذبيحاً وهي آمنه "وتضيع قضيه (الشرعية)..وقضيه الحق والباطل، وتصبح القضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب. وتتغبش في حس التماس قضيه الدعوة الأولي التي ينبني عليها البناء كله، ويقوم من أجلها الجهاد كله وهي قضيه لا إله إلا الله "(1).
وهكذا يستمر مسلسل التضليل للأمة، وهي في معزل عن معرفه الحقيقة، وأن المواجهة لم تكن ولن تكون إلا بين الأنظمة العلمانية، ودين هذه الأمة "وأن هؤلاء الطغاة إنما يعملون عداءً للإسلام ذاته ـ لا رداً علي عمل بعينيه ـ وولاءً لأعداء الإسلام الذين يحاربون الإسلام في كل الأرض"(2).
وتبقي الأمة في واقع الالتباس وعدم التمايز ، تُصَدّق دعاوي هؤلاء الطغاه. وهذا هو أشق ما تعانيه حركات الإحياء الإسلامي التي تتناثر اليوم علي وجه الأرض كلها.."أشق ما تعانيه هو اختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق "(3).
__________
(1) الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 44ز
(2) واقعنا المعاصر – محمد قطب .475
(3) في ظلال القرآن –سيد قطب جـ2 ص 01106.(1/28)
ومن هنا فان " الواجب الأول للدعاة إلي هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا اللافتات الخادعة المرفوعة علي الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً..ونقطه البدء في أي حركه إسلاميه هي تعريه الجاهلية من ردائها الزائف، وإظهارها علي حقيقتها...شركاً وكفراً "(1) .وكشف أصنام هذا العصر من أفكار وزعماء وأحزاب ..ليتميز حزب الله وأوليائه، عن حزب الشيطان وأتباعه ويمكن للأمة أن تتخذ موقف العداء الصحيح للأنظمة العلمانية الجاهلية، تعني الرغبة عن شرع الله إلي غيره، وإباحة المحرمات، واتخاذ الولّي من دون الله..وكل هذا من الكفر والشرك الذي يتنافي مع الإسلام...ومن ثم فلابد من رفض هذه الأنظمة العلمانية لأنها تقوم علي محاده أحكام الله، ومراغمة شرائعه، والتحاكم ابتداء إلي غير الكتاب والسنة ..ولأن القبول بهذه الأنظمة هو إعراض عن تحكيم الشريعة، وهذا يعني الكفر والردة عن الإسلام.
لابد أن تتبين الأمة هذا الواقع، بهذا الوضوح، لتدرك أن حركات الإحياء الإسلامي إنما تريد "أن ترد ديار الإسلام للإسلام، لا لشخص بعينه، وللحكم الإسلامي، لا لأي حكم..ومن ثم ينتقي عن الأمة شبهه الدافع الحزبي أو الشخصي...وتصير القضية خالصة للإسلام "(2) فالقضية ليست قضية حاكم يراد استبداله بآخر.. بل قضيه خلاف بين عقيدة (التوحيد) التي تري أن أولي مهماتها العمل علي تحطيم مبدأ( الصنمية) في أي شكل من أشكاله، وبين عقيدة (الشرك)التي تري في فكره التوحيد، فكره تستهدف القضاء عليها وتسفيه أحلامها وعقائدها، ومن هنا تحاربها بكل ماتملك من قوه..فالخلاف بين الإسلام والعلمانية في مستوي الالتقاء ولا يمكن أن يعيش الاتجاهان في سلام..ولا يمكن أن تقام بينهما قنطره اتصال..ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد !!
__________
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن –أحمد فائز ص 107.
(2) الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 47.(1/29)
لابد أن تتبين الأمة أيضاً أن هذه الأنظمة العلمانية التي تقوم علي مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية، والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلي غير ذلك ماأنزل الله،.. هذه الأنظمة باطله، ولا تجوز طاعتها، لأنها تمثل حالات(خروج) عن ( الشرعية ) و( اغتصاب ) للسلطة الشرعية من المسلمين..وهذا وضع يستلزم أن يقوم المسلمون بتصحيحه، وإعادة ( الشرعية ) إلي هذه الأمة المسلمة(1).
لابد أن تتبين الأمة أن هذه الأنظمة العلمانية تفتقد المشروع الحضاري، لأنها تنحي الإسلام عن الحياة،وترضي بالتبعية الذليلة لأعدائنا..في صوره الرضا بمكاننا من السلم الحضاري ضمن النظام الدولي!وهذا يجعلنا في حاله احتياج دائمه..وهذا الاحتياج يولّد التبعية مره أخري..وتبقي الأمة في هذه الحلقة المفرغة التي لا خلاص منها إلا برفض هذه الأنظمة العلمانيه.
لابد أن تتبين ألأمه أن حقيقة هذه الأنظمة العلمانية أنها سلسله من التآمر قسمت أدوارها في الخفاء لتجر الأمة إلي التنازل عن قيمها وأصالتها وهويتها، وتلحق بالغرب الكافر جوهراً وحقيقه..وأن حقيقة الحكام القائمين علي هذه الأنظمة أنهم (عملاء) ليس لهم غاية إلا كرسيّ الحكم والعض عليه بالنواجذ، ولو أدي ذلك إلي تدمير الأمة، وتقديمها لأعدائها ليقوموا بافتراسها!!
__________
(1) انظر إن شئت كتاب "لماذا نرفض العلمانية"للمؤلف ص 96-132.(1/30)
فإذا تبينت الأمة كل هذا، وتحققت في حسها (الفرقان)، وتميزت أمام أعينها الرايات، واتضحت الصفوف ..كانت الانطلاقة القوية للإحياء الإسلامي، وذلك لأن "قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه علي الحق، ولكن كذلك من شعوره أن الذي يحاده ويحاربه إنما هو علي الباطل ".(1) و"كلما ظهر فساد الباطل وبطلانه، أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه "(2)
إن الرحلة الطويلة لإعادة التاريخ الإسلامي إلي الإسلام ..وإعاده الإسلام إلي العالم الإسلامي، وإلي كل أرجاء الأرض..إنما تبدأ من هنا ..من " إسقاط اللافتات الكاذبة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفي وراءها العلمانية الكافرة ـ بأفكارها وأفرادها وتجمعاتها ـ لتبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة ..وتلبّس علي العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل تحفزهم ضد إخوانهم الصادقين لواعين بحقيقة هذا الصراع المنبهين إلي خطره الداهم علي الدين وأهله "(3)
إن ( الفرقان) بين الإسلام والعلمانية، لابد أن يكون من القوة والتحديد حتى وكأنه( سيف بتار )لا يثنيه ثان، ولا تنزع (العقبات) نصله وتحوله إلي سيف من خشب!!وعندها ستكون المواجهة الصحيحة للعلمانية الجاهلية "من حيث تقف هذه الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم ؛..والمسافه بعيده بين الزعم والواقع ..بعيده جداً"(4).
وبكلمة:
__________
(1) في ظلال القرآن – سيد قطب جـ2 ص 1105.
(2) طريق الهجرتين – ابن القيم ص 140.
(3) معالم الإنطلاقه الكبرى – محمد المصري ص 194-197.
(4) المصدر السابق ص 194.(1/31)
لقد غابت راية الإسلام عن أرض الإسلام، وحكمتها نظم علمانيه لا دينيه تُغْلي أحكام الجاهلية،وتتستر بلافتة الإسلام، ومن ثم وجب علي كل من يتضلع بمهمة إحياء الأمة الإسلامية، أن يسقط هذه اللافتة الكاذبة عن العلمانية لتظهر علي حقيقتها ..(كفراً وشركاً ) يناقض التوحيد والإسلام، وليس له أدني (شرعيه) في أن يحكم ديار الإسلام، ..وليس لحكامه (العملاء) أدني حق في السمع والطاعة من الأمة ..وليكون هذا (الفرقان) بين الإسلام والعلمانية هو نقطة البدء في إسقاط العلمانية وقطع الطريق علي عودتها في المستقبل.
المبحث الثاني:الفرقان بين السنة والأهواء :
يوقن أعداء الأمة الإسلامية أن التباس الحق بالباطل هو الوسيلة التي توصلهم إلي تمزيق الأمة، وتشتيت شملها، وإيجاد الثغرات لمهاجمتها..وقد فعلوا ذلك قديماً عبر الفرق المنحرفة عن السنة، من مرجئة وصوفيه مبتدعة وخوارج ومعتزلة وجبرية..وغيرها، وهم يفعلون ذلك في واقعنا المعاصر عبر إحياء أفكار هذه الفرق الضالة، كما يفعلونه عبر توجيه الأنظمة العلمانية ابتداع إسلام بعددها، ليلتبس علي الأمة أمر دينها، وليصبح الإسلام الواحد بعقيدته ومبادئه وتشريعاته، اسماً متعدداً بتعدد ألوان مؤامرة (الالتباس) التي تزاولها تلك الأنظمة لاحتواء العمل السياسي، وضرب الأصولية الإسلامية المرتكزة علي منهج أهل السنة والجماعة.
ولاشك أن تجليه التيار الفكري لأهل السنة، من التيارات الفكرية لأهل البدع والأهواء يحتاج إلي جرأه فكرية،.. لكنه هو السبيل لبناء حركة إحياء إسلامي صحيحة، علي قواعد سليمة ومتماسكة.
إن الدعوات القائمة علي عقائد الفرق الضالة تقوم بدور خطير في نزع الفتيل المتفجر في الأمة، وتعوق بأفكارها المنحرفة الانطلاقة القويّة للأمة لجهاد أعداءها وتغيير واقعها.(1/32)
فأما المرجئة فقد فرت عقائدها في الأمة فرياً عظيماً وخدرتها علي مدار التاريخ، وجعلتها نهباً لكل طامع.. وذلك بما تزعمه من أن الإيمان هو المعرفة فقط، أو هو المعرفة والنطق بالشهادتين لفظاً دون أي التزام بالعمل!! فقتلت في الأمة روح الجهاد " فمن اعتقد أن الإيمان هو المعرفة فقط.كيف يُتصور منه أن يجاهد الكفار ؟ ومن اعتقد أن العمل خارج عن دائرة الإيمان وأن الإنسان يكون مؤمناً بمجرد التصديق أو النطق من غير عمل مطلقاً، فما الذي يحمله علي (المخاطرة) بنفسه وماله، وتعريضهما للهلاك وإيمانه كامل تام!! وما الذي يستفيده من جهاده إذا تساوي في اعتقاده إيمان من مات بين الصفوف –محارباً للكفار- مع إيمان من مات مخموراً في أحضان المومسات-وهو ينطق بالإيمان!!" (1).
وهكذا وجدنا جموعا من المسلمين– بتأثير عقائد المرجئة – تخضع لملاحدة ينادون بالعلمانية، وإقامة الحياة علي غير الدين، ويمارسون التشريع للبشر من دون الله أو مع الله ..ولا تفكر هذه الجموع في جهاد أولئك مطلقاً لأنهم يعلنون إسلامهم علي رؤوس الأشهاد!!
وأصبح اللبس الذي أحدثته المرجئة في مسمي الإيمان، سبباً في إعطاء صفة الإيمان لمن لا يستحقها، ونزع صفة الكفر عمن يستحقها..ورفع سيف الحق الذي أمر الله بإنزاله علي رقاب هؤلاء الملاحدة، الذين يخربون البلاد والعباد ويطبقون أصناف الكفر في ديار الإسلام، باسم الإسلام حيناً وبغير اسمه حيناً.
وإذا قام مجاهد يدعو لإزالة الشرك وإقامة شرع الله، وقف أهل الإرجاء حجر عثرة في طريق جهاده بعقيدتهم الفاسدة .
__________
(1) أهميه الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية – د.علي بن نفيع العلياني ص 466،455 .(1/33)
وأمّا الصوفية المبتدعة فهم طرق وطوائف شتي، ولا يمكن حصر انحرافاتهم لكثرتها ولكنها في عمومها، انحرافات مناقضه للجهاد ومميتة للروح الجهادية.ويكفي منها" عقيدتهم في التوكل والرضا بالقدر التي جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار علي رقابهم. فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضي معناه أن ترضي بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار علي بلاد المسلمين وسبي ذراريهم، وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر، وغير متوكل علي الله"(1).
وأمّا المعتزلة فما زلنا نسمع " من هنا وهناك علي امتداد رقعه الأرض الإسلامية أفكاراً ممسوخة لآرائهم يتشدق بها بعض المغرضين من المتعالين الذين استهوتهم حضارة الغرب وأساليبها، فادّعوا أن العقل هو الحاكم في حياة الإنسان، وأنه لا نجاة ولا علو لنا في خضم التيار الحضاري الحديث إلا بإتباع العقل وحده!!"(2) وهكذا مهدت أفكار الاعتزال الطريق لهؤلاء لبث أفكارهم الخبيثة تحت شعار الإسلام حتي قال قائلهم : إن معطيات النصوص تختلف من فرد إلي آخر..والدين علاقة بين العبد وربه!!
وأمّا الخوارج فما نزال نراهم بين أظهرنا في صورة جماعات تدعو إلي ضلالها، ولا تفرّق بين الشرك المعاصي، وتزعم انقطاع الوجود الشرعّي والتاريخّي لأمة الإسلام فتقوم بالتبشير بدين الإسلام من جديد، وتُهْمل الصراع التاريخّي لهذه الأمة، ولا تواجه أعداءها الدائمين من يهود ونصارى ومشركين.
__________
(1) المصدر السابق – ص 488.
(2) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين- محمد العبده ص 37 بتصرف.(1/34)
وهكذا شاب العقيدة الإسلامية الكثير من الأخلاط، من مرجئة وصوفية ومعتزلة وخوارج..ونحن هنا لا نقصد إلي استقصاء أسماء الفرق، ولكنها عُجَالة تُشْعرنا بالواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا بسبب أفكار هذه الفرق الضالة..وتُنَبَّ في الوقت نفسه " أن هذه الفرق ليست فرقاً قديمة عفي عليها الزمان، وبادت فيما باد من الأيام، بل هي فرق قديمة حديثة في آن واحد، وما تزال امتداداتها تسري مسري الميكروب في جسم الأمة ينخر فيها بالداء المهلك"(1) وقد راج الكثير من الباطل الذي تدعو إليه تلك الفرق، حتي لا تكون هذه الأفكار المنحرفة هي التي توجه حركة الأمة الإسلامية.
فإذا أقمنا هذا الفرقان بين السنة، والأفكار المنحرفة عنها، فلابد لنا من مواجهة مؤامرة (تغييب) الإسلام (الأصولي)(2)..أو الإسلام (السياسي )..أو الإسلام (الإحيائي )..فما هي تلك المؤامرة ؟.
__________
(1) المصدر السابق ص 37.
(2) كلمة أصولي في معناها اللغوي تعني الذي يرتكز علي الأصول ،وهي هنا المنطلقات الأساسية للإسلام ، وهذا في مقابل الإسلام المعلب الذي صمم في أمريكا.(1/35)
إن أعداء الإسلام لا يريدون الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولا يطيقون الإسلام الذي يعلّم الشعوب أن إعداد العدة فريضة، وأن جهاد الأعداء فريضة ..ومن أجل ذلك نصح هؤلاء الأعداء الأنظمة العلمانية "بإيجاد بديل إسلامي مستأنس قابل للاحتواء داخل الإطار السياسي العام للدولة"(1) لأنهم يرون أن تيار الإسلام الأصولي " هو جزء من عملية التغيير الاجتماعي، يمكن نظرياً تغيير مساره ولكن من الصعب إيقافه"(2) ومن هنا بدأت الأنظمة العلمانية في العمل (بالنصيحة) ..فصار الإسلام الأصولي أو السياسي ..هو الذي يهدد الحضارة الإنسانية، ومن ثم فلابد أن تتقرب الأمم إلي ربها بمطاردته والقضاء عليه، ومنع أي إنسان من التحدث عنه أو الإشارة إليه!!
وفي المقابل استخدمت الأنظمة العلمانية الإسلام (الرسمي) ..إسلام ( أنصاف الحلول)..و(التعايش) مع العلمانية . استخدمته في مواجهة الإسلام الأصولي وذلك تمهيداً لضرب الجميع لأنها لا تطيق أي نوع من الإسلام!!
ومن هنا وجب علينا إقامة الفرقان بين الإسلام (الأصولّي)..(الإحيائي) الذي يحمل قضايا الأمة، ..والإسلام (الرسمّي) الذي يتاجر بتلك القضايا ؟!
فالإسلام (الأصولي) يقوم علي "العودة بأصول الفهم إلي الكتاب والسنة . وقواعد الفهم المعتبر لدي الصحابة والتابعين، . ويقدم مفهوماً أساسياً في العقيدة ومقومات الحياة، وفرعيات النظم"(3).
أمّا الإسلام (الرسمّي) فهو يقوم علي الأهواء والبدع، ويزوّر الحقائق الإسلامية ليسوّغ الباطل ويعطل العدل ويناصر الظلم !! ولا يقدّم إلا الفتاوى التي تُعَبّر عن مصالح الظالمين والطغاة، وتسوّغ الاستبداد، وامتهان الكرامات..فهو إسلام الفتاوى المعدة سلفاً لكل واقع يريده أصحاب السلطان!!
__________
(1) راجع كتاب الأصولية الإسلامية في العالم الإسلامي _ هربرد كمجيان.
(2) تنظيم الجهاد. هل هو البديل الإسلامي في مصر-نعمة الله جنينة.
(3) ندوة الفكر الإسلامي المعاصر –ص 231،230.(1/36)
والإسلام (الأصولّي)..(الإحيائي)، فضلا عن اهتمامه بعقيدة الأمة، يدرك الصراع التاريخي بين الإسلام وأعدائه، ويدرك دوره في تلك الفترة من عمر الأمة الإسلامية، كما يدرك رسالة هذه الأمة تجاه العالم في تلك الفترة من عمر الإنسانية. أمّا الإسلام الرسمّي ..إسلام (التعايش) مع العلمانية، فلا يدرك تلك الأبعاد ولا يهتم بها، بل ويُظْهر الإسلام وكأنه لا يملك دوراً إيجابياً في إخراج الأمة من التبعية إلي الريادة، ومن الإست ضعاف إلي التمكين، ومن الفرقة والضعف إلي الائتلاف والقوة .
والإسلام الأصولي لا يقبل العلمانية، ولا يلتقي معها في أول الطريق، ولا في منتصفه، ولا في أي طريق، لأنه يدرك أنه لا يمكن أن يجتمع الإسلام مع الجاهلية في صف واحد..ولا أن يتفاوض معها في وقت ما، لأن في ذلك الاعتراف الضمني لها بالشرعية.
أمّا الإسلام الرسمّي، فهو إسلام (أنصاف الحلول) الذي يقبل العلمانية..وتصيبه تشوّهات القومية والوطنية،لأنه إسلام بلا جذور.
والإسلام الأصولي..(الإحيائي) يتحرك في الواقع باستعلاء الإيمان، ويمتلك النفس الطويل.{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ـ آل عمران 139 ـ ولذلك فهو لا يقبل المساومة..
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } ـ آل عمران146 .أمّا الإسلام الرسمي..إسلام (التعايش الذليل)..فهو يتحرك بنفسية المهزوم، وبطاقة محدودة ..ولذلك فهو يقبل المساومة مع الباطل والتعايش معه !!(1/37)
وهكذا..لابد لنا من إقامة الفرقان بين الإسلام الحق، والإسلام الذي صمم في إطار( حرب الدين بالدين)!! إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة ليس هو الإسلام الذي يعطي (الشرعية)للأنظمة العلمانية، فيترك الأمة بلا سلاح في مواجهة هذه الأنظمة، ويجرّدها من أقوي أسلحتها في مواجهة العلمانية، وهو عدم الاعتراف بشرعيتها..
وليس هو الإسلام الذي يحقق (الإشباع) الديني، دون الدخول في قضايا الأمة، وصراعها مع أعدائها.
إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يقوم علي "الاستجابة الكاملة للوحي،وعدم التقديم بين يديه..والتأثر الوجدانّي العميق بالوحي والإيمان، ..وصياغة الحياة العملية الفردية والجماعية علي مقتضي الوحي"(1)
إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يتبني الحلول الجذرية لمشاكل جماهير الآمة، وينقذها من الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والاستلاب الاقتصادي...
إن الإسلام الذي ندعو إليه الأمة هو الإسلام الذي يرتضي الجهاد الشامل في كل ميادين الحياة من أجل إحياء الأمة الإسلامية، وبناء الحضارة الربانية وتحقيق الخيرية التي وُصِفَت بها هذه الأمة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ـ آل عمران11.
وبكلمة :
__________
(1) صفة الغرباء ــ سلمان العودة ص 83- 104.(1/38)
إن الواقع الفكريّ والعقائديّ للأمة الإسلامية يؤكد أنها في حاجة ماسة إلي حركة إحياء شاملة، تجدد للأمة أمر دينها، وتصحح ما فسد من عقائدها وتقوم ما اعوج من سلوكها، وتنفث فيها روح الجهاد والتصدي لأعداء الله.. ولابد لهذه الأمة في طريقها للتغيير من مواجهة مؤامرة (احتواء) العمل الإسلامي التي تمارسها الأنظمة العلمانية بطرق التمييع والالتواء، وعبر لغة (الحوار) و(الملاءمة) السياسية..والتي يتم عن طريقها تحويل الإسلام الواحد إلي (إسلامات) متعددة، وذلك عبر مزجه بغيره من الأفكار من علمانية وقوميه ووطنيه..!!
وما لم تقتحم هذه الحركة التي تحمل أفكار أهل السنة والجماعة، وتنطلق في الإتجاه الإسلامي الصحيح ..مالم تقتحم ساحة العمل الإسلامي، لتدفع الأمة إلي طريق الرشد من جديد..فإن هناك من ينتظر علي الطرف الآخر ليطرح ما عنده من أفكار واتجاهات ..إمّا (مثبطة)..أو(أنصاف حلول) ..أو..إلي آخر هذه الأفكار التي تضيّع الوقت والجهد، ولا تعطي ثماراً بقدر الثمن المدفوع.
( ( ( (
الباب الثاني
الهوية الإسلامية..وإحياء الأمة
ويشتمل علي ثلاثة فصُول:
الفصل الأول : هوية الأمة الإسلامية.
الفصل الثاني :التغريب والاغتراب.
الفصل الثالث :إحياء الهوية الإسلامية.
الباب الثاني
الهوية الإسلامية..وإحياء الأمة
تمهيد:
لكل أمة من الأمم ( ثوابت ) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة . وفي طليعة هذه الثوابت تأتي (الهويّة) باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة . ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتي تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم . وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول (هويّة) ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكيّف ردود أفعالهم تجاه الأحداث.(1/39)
ولاشك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم،كلما تعمّق انتماؤهم إلي أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسّر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخري.
كما أنه من البديهي أيضاً، أن الأمة إذا فقدت (هويّتها )، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوي فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميّت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطّع أوصاله، مع أنها كانت في حياته تُمْلأ رعباً من منظره !!
وهذا ما حدث للأمة في ظل فقدان الهوية..حيث السقوط الحضاري..وتداعي الأمم. فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة)، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هوية هذه الأمة، ويجلي أبعد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في الدفع النفسي والشعوري إلي إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعالة في السبق الحضاري من جديد.
( ( ( (
الفصل الأول
هويّة الأمة الإسلامية
ليس تحديد (الهويّة) ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً . بل هو أمر جاد يتعلق ـ بل يقرر ـ طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها " إذا أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه : من هو ؟ من يكون ؟ وماذا يريد ؟ وبدون هذا الحسم ( للهويّه) الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة "(1) ولذلك فلابد أن نسأل أنفسنا : من نحن ؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟..فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا علي ضوء ذلك إلي تحديد ماذا نريد ؟.. ومن ثم كيف السبيل ؟
__________
(1) ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر – ص 139.(1/40)
وإذن فتحديد الهويّة يعّرفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب (1) التي نتوصل بها إلي هذه الأهداف.. فما هي هويتنا ؟
لا شك أن هويتنا الأصلية هي الإسلام، وأن " الإسلام (كانتماء ) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبري، ولا شيء غيره..وإذا ما نحّينا الإسلام جانباً، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتدادا للإسلام "(2) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلي مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .
.. وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية ؟!
__________
(1) وفقاً للمصطلح الحديث يقصد بالأسلوب : الإستراتيجية والتكتيك.
(2) فقه الدعوة – ملامح وآفاق :/ عمر عبيد حسنة ص 72.(1/41)
فأمّا إنها عبرة التاريخ : " فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله .. .وكان المسلم يخرج من طنجة حتي ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هويّة وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد فيها له أخوة في الإيمان وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية "(1)..ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من "شاطئ المحيط الأطلسي إلي شاطئ البحر الهادي، ولم يعتبر في قطر مر به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يراقب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويّته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه "(2) فقد كان أفراد الأمة في تحرّكهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلي تأشيرات دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية، ومنحهم ( الجنسية ) الإيمانية، وزوّدهم بروح الأخوة والمودّة.
لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يري في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يري أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء . ولذلك لم تكن لديه قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش علي أرضه، بل ويحكمه ( مسلم ) من بلد أخري ..فصفة الإسلام تجب ما عداها، ورابطة الدين تغني عما سواها .
ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه " كانت نظرة المصريين دوماً إلي المماليك ـ وهم ليسوا أولي جذور مصرية ـ نظرة المسلمين إلي مسلمين، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعددت ذلك إلي اعتبارهم وافدين علي الوطن"(3) .
__________
(1) الولاء والبراء – محمد سعيد القحطاني ص 415.
(2) الإسلام والمدنية الحديثة – أبو الأعلى المودودي ص 44.
(3) تطور الفكر السياسي في مصر-عبد الجواد ياسين ص 45.(1/42)
ومن ناحية أخري كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلي العلم من حوله، نظرة إسلامية محددة، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي ، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي ( دار الإسلام) ..وأن الأرض التي لايسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي ( دار الحرب ).
ولذلك كانت الأمة تقاوم الغزو الغربي الصليبي مقاومة إسلامية " وتنظر إليه علي أنه غزو من قبل ( الكفار ) لبلاد ( الإسلام ) تنبغي مجاهدته وإزالته، وتقاوم ما وسعتها المقاومة عملية تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها، علي أساس أن هذا كفر يخرج الأمة من الملة إذا رضيت به..كما جاهدت الأمة الإسلامية في مصر حملة نابليون الصليبية، ومنعته من إحلال قانونه محل الشريعة الإسلامية، وكما جاهد المسلمون في الشمال الأفريقي ضد الغزو الصليبي الفرنسي، وفي الهند ضد الغزو الصليبي الإنجليزي، وفي أندونيسيا ضد الغزو الصليبي البرتغالي ثم الهندي..وباختصار في كل مكان واجهت فيه الأمة الإسلامية غزو أوروبا الصليبية لبلادها "(1) .
.. وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية .. فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم..وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعتري ذلك فتور في الفعالية..
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 214.(1/43)
" وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها علي الفرنسيين وهم يعدون العدة للتعامل مع الشعب المصري، حتي يمكن القول بأن الباب اعتمده نابليون للدخول إلي المصريين كان باب الدين.. الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية . فهذا هو المنشور الذي وجهه بابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول : بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له، ولا شريك له في ملكه ثم يقول : يأيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمغتربين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالي، وأحترم نبيه والقرآن الكريم..ثم يضيف كاذباً، أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرننجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم : إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين ) " !!
ويدل ذلك علي أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول عنده، قدمهم ( كمسلمين مخلصين ) أو علي أقل تقدير ( محبين للمسلمين المخلصين ) !!
لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل – رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل – سمتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة "(1).
__________
(1) تطور الفكر السياسي في مصر – عبد الجواد ياسين ص 46،47.(1/44)
ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوهم بوصفهم ( مصريين ) إزاء (فرنسيين) ..وإنما بوصفهم (مسلمين ) يقاتلون (الكفار) الذين يحتلون أرضهم والدليل علي أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد ( الصليبيين) أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصب علي الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي ..وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان ( الحلبي) الذي قتل كليبر لم يكن (مصرياً )، إنما كان (مسلماً ) دفعه إسلامه إلي قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلي أرض إسلامية .
وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل علي أن الإسلام (كهويّة ) للأمة، كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها..وذلك المثال هو ثورة 1919م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال ..واشترك فيه الشعب كله إلي أقاصي الصعيد..وكانت الجماهير تستمع إلي خطباء الأزهر الذين يشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاضب ...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله : إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة ...أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلي القاهرة(1).
وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(2) ثورة ( إسلامية) ـ وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد الكفار المغتصبين..وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة ( الخلافة) ..وكان الناس يرون أن ( الأزهر ) هو الجدير ـ في حسهم أن يقود الثورة الإسلامية .
__________
(1) مستفاد من كتاب تاريخنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
(2) قبل أن يحولها سعد ورفاقه من ثورة إسلامية إلي ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.(1/45)
وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت سواره محاولات القضاء علي الأمة علي مدار التاريخ ...وكانت ( الهويّة الإسلامية) هي الحافز الأيدلوجي الرئيسي الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حرب الفرنجة، أو غيرها ..حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم قوي الباطل ويعود المسلمون إلي امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين... وهذه هي عبرة التاريخ ..
وأمّا درس الواقع..فقد " أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، ..وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوّماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، علي الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها "(1) ولا تزال تري أن الإسلام هو المنهج الذي يمثل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلي أهدافها الحضارية ...
وليس أدل علي ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله بالفكر والسلوك ..الساعية إلي إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلي الريادة وقيادة البشرية.
إن الإسلام وحده هو ( هويّة الأمة الإسلامية ) وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوة الدافعة التي تُفَجّر طاقات الأمة وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها .ويوم أن كان الإسلام هو هويّة هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل ..وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية التي تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع .
وبكلمة:
__________
(1) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د محسن عبد الحميد ص 41 .(1/46)
لقد بلور الإسلام ( هوية الأمة الإسلامية ) ومنح أفرادها ( الجنسية ) الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد ..ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة ، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية ..حيث تلغي إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته !!
...واليوم يبقي الإسلام هو ( وحده ) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الإعتقادية وأهدافها الحضارية..ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية ) .
الفصل الثاني
التغريب.. والاغتراب
كانت الحصيلة المرة التي خرج بها الصليبيون من حروبهم مع المسلمين سبباً في أن تعي القوي المتربصة بالأمة الإسلامية الدرس جيداً، وتدرك أنه لن يكفي ضرب الأداة العسكرية لهذه الأمة لكي تسقط..بل لابد من ضرب قوتها الحقيقية عبر اقتلاع ( عقيدتها ) وتدمير (هويّتها )، وتزييف ( وعيها ) ..حتي لا تكون هذه القوة .. (العقيدة..الهويّة..الوعي) سبباً في أن تقوم هذه الأمة من تحت رماد السقوط كنار عملاقة تحرق في طريقها كل الأعداء..
لقد كانت نصيحة لويس التاسع ملك فرنسا، والذي أُسر بعد هزيمة حملته الصليبية وبقي سجيناً في المنصورة فترة من الوقت – كانت نصيحته لقومه أن "إذا أرَدْتُم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده – فقد هُزِمْتم أمامهم في معركة السلاح- ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم "(1) .
__________
(1) واقعنا المعاصر- محمد قطب ص 196 .(1/47)
ووعي قومه نصيحته..وحين جاءت رياح الاستعباد الغربي لبلاد المسلمين " قدمت جيوش الاحتلال العسكريّ إلي العالم الإسلامي تقودها عقلية غير العقلية البربرية الصليبية فهي تتمتع بقسط كبير من الدهاء والخبث، وهي تعرف سلفاً أن لها مهمة أعظم من مهمة أجدادها، وأن نجاح هذه المهمة يتوقف علي الدقة في تنفيذ الخطة الجديدة"(1) .
ولقد ابتدأ الأعداء أولي خطوات الخطة المرسومة بعمليتّي هدم وبناء !!هدم لمعالم الشخصية الإسلامية، وبناء لمعالم الشخصية الأوروبية الغربية ..وهو ما أطلق عليه لفظة ( التغريب) ..وقُصِد به طبع المسلمين بطابع الحضارة الغربية والثقافة الغربية . وليتحول انتماء المسلم من الانتماء للإسلام ..إلي الانتماء للغرب، فلا يري الأشياء إلا كما يراها الغربي ، ولا يتذوّقها ولا يقدّرها إلا كما يقدرها.. فتتحول الأمة الإسلامية إلي التبعية المطلقة للغرب فإنها لا تشعر بالرغبة في الانفصال عنه، فضلاً عن جهاده ومقاومته ..
وهكذا حققت الخطوة الأولي من خطوات ( الترغيب ) هدفاً خطيراً، وهو قتل روح الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، والقضاء علي المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلّح..وذلك بسبب إزالة الحاجز العقيدي (الولاء والبراء ) ..وتغييب( الهويّة) الإسلامية، التي تذكر المسلم دائماً أنه (مسلم) . وأن أعداءه ( كفار ) يجب أن يجاهدهم، ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية ...
ولكي يستريح الغرب من شبح ائتلاف الأمة الإسلامية الذي يفزعه ويؤرقه، كان من الضروري تلوين الحياة المحلية في كل بلد من بلاد ( دار الإسلام ) بلون خاص يستند في مقوماته إلي أصوله الجاهلية الأولي، فتعود الحياة الاجتماعية التي وحّد الإسلام مظاهرها إلي الفُرْقة والتشعب، وذلك برجوعها إلي أصولها القديمة السابقة علي الإسلام..
__________
(1) العلمانية – د. سفر الحوالي ص 538 .(1/48)
ومن هنا كان أسلوب نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها هو أحد الخيوط الأساسية التي تكوّن ( الشرك ) الذي يُراد به احتواء المسلمين وأمتهم، وكان المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون وهم يجوسون ديار الإسلام " هو نبش الأرض لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ، لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيداً لاقتلاعهم نهائياً من الولاء للإسلام "(1)
"ومصداق هذا الكلام قول أحد المستشرقين في كتاب : الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته وهو يتحدث عن أسلوب نزع ولاء المسلمين فيقول : إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل علي تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات "(2).
وقد ظهرت الدعوة إلي إحياء الحضارات السابقة علي الإسلام في وقت واحد في تركيا والشام ومصر والعراق وشمالي إفريقيا والهند واندونيسيا، بمظهر ( واحد ) وأساليب ( متشابهة) !!
ففي مصر بدأت النعرة ( الفرعونية ) تطل برأسها، وكثر التغني بالأمجاد الحضارية للفراعنة، فهذا حافظ إبراهيم يقول :
أنا مصري بناني من بني هرم الدهر الذي أعيي الفني
وكما حدث ذلك في مصر، حدث في العراق فرجعت إلي ( الآشورية)، وفي اليمن فرجعت إلي (الحميرية)..وكل بقعة من ( دار الإسلام ) أخذت تنادي بهذه النعرات الجاهلية التي تحسّن سمعة الجاهلية، وثبت النعرات الانفصالية بين الأمة وبين ماضيها الحقيقي أو علي الأقل تشغلها عنه(3)..
وهكذا بعد أن كان البراء أمراً ملازماً تجاه هذه النعرات الجاهلية، أصبح أمراً لا وجود له إلا عند من رحم الله.
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 202.
(2) الولاء والبراء – محمد سعيد القحطاني ص 416 .
(3) يراجع في هذا بتوسع كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر – د. محمد حسين .(1/49)
ولمّا أدرك أعداء الأمة الإسلامية مدي جدوى هذه الفكرة في نزع الولاء الإسلامي ليحل محله الولاء الجاهلي، وفي ( تغييب ) الهوية الإسلامية التي تميز المسلم وتجعله مستعصياً علي الذوبان في الأمم الأخري..لمّا أدرك الأعداء ذلك أخذوا في بث ( سموم ) الفكرة الوطنية، والتي تبث الشعور بالوطنية الإقليمية في الأمة ، وتنادي بأن الأمة تقوم ـ حسب تصورهم ـ علي الجنس لا علي الدين ؟ ـ، فالوطنيون يحبون أبناء وطنهم وإن كانوا علي غير ملتهم إذا لم يكونوا في وطنهم !!
وهكذا بفعل هذه الدعوة الخبيثة " أصبح الوطن هو الرقعة الضيقة التي يعيش فيها المواطن، وهو مجال أحلامه وأمانيه، بغض النظر عن بقية أوطان المسلمين، فهم غرباء عنه وعن وطنه، بل كثيراً ما حصلت الحروب والاصطدامات بين الأقطار المتجاورة "(1).
وصارت الوطنية " هي تقديس الوطن بحيث يصير الحب فيه والبغض لأجله، والقتال من أجله وإنفاق الأموال من أجله حتي يطغي علي الدين وحتى تحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية"(2) !! بل إن الأمر ليصل إلي جعل الوطن إلهاً يستحق العبادة مع رب العالمين، وكما صرح بذلك أحمد شوقي وهو يتحدث عن مصر :
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولوا إليه في الدروس وجوهكم وإذا فزعتم فاعبدوه هجوداً
...ولم يكن شوقي يعبّر في ذلك عن مجرد نزوة من نزوات الجرأة التي يولع بها الشعراء طلباً للغرابة وادعاءً لعمق الفكر، وإنما كان في الحقيقة يعبّر عن تيار الوطنية الذي بدأ في الاستقرار في ديار الإسلام منذ ذلك الحين..والتي لم تنطفئ نيرانه حتي اليوم..
__________
(1) الحياة السياسية عند العرب – محمد الناصر ص 224 .
(2) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية – علي بن نفيع العلياني ص 411 .(1/50)
لقد حقق أعداء الأمة الإسلامية من خلال فكرة (الوطنية ) أكثر من هدف في وقت واحد.." كان الهدف الأول هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي ضد الاستعمار الصليبي إلي حركات وطنية لا تنظر إلي العدو الصليبي علي أنه صليبي مستعمر، ولكن علي أنه مستعمر فقط..
وكان الهدف الثاني : هو تحويل حركات الجهاد الإسلامي إلي حركات سياسية، عن طريق تحويلها إلي حركات وطنية يمكن ( التفاهم ) معها بسهولة ...
وكان الهدف الثالث : هو تيسير عملية التغريب من خلال تحويل حركة الجهاد الإسلامي إلي حركات وطنية ليس لديها ما يمنعها من الأخذ من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك مَنْ تحارب من مستعمرين!!"(1) .
لقد ثارت شعوب إسلامية كثيرة، وكانت القاعدة الشعبية في كل هذه الثورات قاعدة إسلامية..ولكنها بفعل القيادات الملوثة بالغزو الفكري تحولت إلي ثورات ( وطنية ) .." فإنه لمّا قامت الثورة المصرية عام 1919 علي المستعمر الصليبي البريطاني، واشتد أوراها وعجزت بريطانيا عن إخمادها، غيّرت مندوبها في مصر وأرسلت بدلاّ منه اللورد اللنبي ومكث شهراً يتحري الأوضاع ثم أرسل برقية إلي وزارة الخارجية البريطانية يقول فيها :
1-الثورة تبع من الأزهر وهذا أمر له خطورته البالغة .
2-أفرجوا عن سعد زغلول وأرسلوه إلي القاهرة.
وجاء سعد زغلول وقرت به أعين الإنجليز فصرف الثورة من ثورة دينية تنبع من الأزهر وتنادي بجهاد (الكفار)، إلي ثورة وطنية تنادي بتحرير ( التراب )!!"(2) .
__________
(1) مذاهب فكرية معاصرة – محمد قطب ص 577-578 بتصرف.
(2) انظر مذكرة المذاهب الفكرية – محمد قطب ص 78 .(1/51)
ولاشك أن من يقارن منطلقات المقاومة المصرية لكل من الحملة الفرنسية في مطلع القرن التاسع عشر والاحتلال البريطاني في أواخر ذلك القرن..يدرك الأثر الخطير لغياب ( الهويّة الإسلامية ) . " فبينما كانت الأولي تحمل سمات إسلامية لا تخفي..كانت الثانية مدفوعة بالنعرة الوطنية المصرية، والنظر إلي الإنجليز علي أنهم (أجانب ) عن مصر، ومصر ينبغي أن تكون خالصة (للمصريين) ..بل إن المصريين كانوا يحاكمون الإنجليز إلي قيم الحضارة الغربية متسائلين في سذاجة : كيف يحق لأمة ( ديمقراطية ) مثل بريطانيا أن تعتدي علي حق ( الشعوب ) في الحرية وتقرير المصير؟!!"(1) .
وهكذا بدأت عناصر الفكرة الوطنية في التبلور من الناحية العملية..وسرت عدوي (الوطنية ) من مصر إلي الأقطار الإسلامية الأخرى فصار شعار الوطنية تلوكه الألسنة وتنشره وسائل الإعلام ومناهج التعليم، ويقدّم علي الدين، ويغرس في الجنود حب الفداء له لا للدين !!(2) .
وفي أعطاف الوطنية، خرجت موجات ( العلمانية ) تتري وتتراكم، ووقع معها كل شر . فأمّا شريعة الله فقد أُقْصِيَت وحل محلها قانون الجاهلية المستورد من الغرب. وأصبح العالم الإسلامي خلال فترة قصيرة علمانياً في كل مظاهر حياته .." وأصبح الرجل من عامة المسلمين يري أن الشريعة الإسلامية لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من مشاكل ولكنه مرتبط في المجتمع الذي يحيا فيه بقوانين مدنية قد لا يعرف أصولها ومصادرها ولكنه يعرف علي كل حال أنها ليست مأخوذة من القرآن !!"(3).
__________
(1) تطور الفكر السياسي في مصر – عبد الجواد ياسين ص 38 .
(2) الدفاع عن الوطن من الجهاد الإسلامي ، بشرط أن يكون تحت مظلة الإسلام .
(3) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر – د. محمد حسين جـ 2 ص 209 .(1/52)
وهكذا تحولت الأمة الإسلامية إلي مجموعة من الدول العلمانية الجغرافية تعلوها راية الوطنية، وتحكمها قوانين الغرب، وتقهقر الإحساس بالدين تقهقراً بالغاً، لينزوي علي طريقة الغرب العلمانية داخل تلك الدائرة الحسيرة من الإنسان الفرد .
ولكي تبقي حصون الأمة الإسلامية مهددة من داخلها، استدعت حبكة المخطط الغربي لتدمير الأمة، وجود أنظمة تتسم بالاستبداد ، وتتصف بالقهر الديكتاتوري، مرتبطة بواضعي المخطط ارتباط الرضيع بأمه، حتي تكون هذه الأنظمة حائلاً دون إحياء ( الهويّة الإسلامية ) التي تعصم الأمة من العملاء، وتدفع عنها السقوط في حمأة التبعية الذليلة لأعدائها الذين يستغلون ثرواتها البشرية والفكرية والطبيعية..
لقد قام الحكام ( العملاء ) في كل الأنظمة العلمانية باستكمال تنفيذ المخطط الغربي لاحتواء الأمة الإسلامية؟!
فأمّا (التغريب )..فقد أصّر هؤلاء الحكام علي أن يجعلوا الغرب هو (المثال ) الذي ترجع إليه أمتنا في نمطها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وقاموا بتغييب الأسس الحقيقية لصياغة الأمة والتي تفردها بالهويّة الحضارية المستقلة..
ولاشك أن الأمة الإسلامية لا تقدر علي مواجهة أعدائها في إطار العلمانية الغربية لأنها تسير في هذا الإطار بنفس خطوات أعدائها، وهذا يجعلها في النهاية تخسر وتخذل..إذ كيف نواجه عدونا بمنطق هو أصله، ونحن تقليد مشوه له؟!.
وأمّا الهويّة الإسلامية ..فقد قام الحكّام العملاء من بني جلدتنا بإبعادها وأحلوا محلها ( الهويّة الوطنية )، ليصبح الجنس أو الوطن هو أساس الموالاة والمعاداة، ولتتفرق الأمة كيانات جزئية ضعيفة، فتفقد وحدتها وقدرتها علي النهوض، وترتمي في أحضان التبعية الذليلة للغرب.(1/53)
ولاشك أن الهوية الوطنية في المجتمعات الإسلامية هي في حقيقتها (فراغ اجتماعي ) لأن المسلمين لا تجمعهم إلا الهويّة الإسلامية، ولذلك فقد حدثت في الأمة ظواهر ( اغتراب )، وفقدان (انتماء)، "وأصبح المسلم يعاني في ظل غياب (هويّته)مما يسميه علماء الاجتماع وعلماء النفس alienation الإحساس بالاغتراب والإحباط وخيبة الأمل "(1) والذي يؤدي إلي اللامبالاة، ويخرّب قدرة الفرد علي الإسهام والمشاركة . وهكذا وصلنا في ظل غياب الهويّة الإسلامية إلي المعادلة الصعبة : وطن بلا مواطنين، ومواطنين بلا وطن ـ وفقد أفراد الأمة (الانتماء ) لها، وانعزل كل فرد داخل كيانه الفرديّ، وعاش همومه الذاتية، وأصبح العقلاء غير قادرين علي التأثير في مسار الأمة لفقدهم مساندتها..
وأمّا ( القيم الإسلامية) ..فقد قام الحكام العملاء عبر عقاربهم وجرادهم المنتشر في أجهزة الإعلام (باغتيال) الأخلاق والقيم الإسلامية، ولتحل محل القيم الإسلامية المنهارة قيم ( المصلحة )، وهي قيم تشبه مناديل الورق، التي يستعملها الإنسان للحظات أو دقائق ثم يلقي بها في سلة النفايات وبراميل القاذورات. لذلك أصبح المجتمع يعاني من مظاهر التفكك والانحلال واللامبالاة وانهيار الصداقات والعلاقات "(2) .
وفي ظلال أمة فاقدة للهوية، وعاجزة، ومفككة المفاصل قام الحكام العملاء بنشر دعاوي اليأس من محاولات مقاومة الهيمنة ( الصليبية ) الغربية، وأخذوا يضفون علي ( التعايش ) وقبول ( التبعية) للغرب طابع ( العقلانية) !!
ولا شك أن هذا التفكير( الواقعي) في حقيقته، هو تدمير الأمة وقبولها هيمنة ( الصليب )..والواقعية التي تمارسها الأنظمة العلمانية هي واقعية (اليأس والسقوط ) وليست واقعية ( العمل علي التغيير ). فالواقعية لا تعني أبداً أن أنزع سلاحي وأستسلم لعدوي ؟!
__________
(1) ، (2) إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 40.(1/54)
إن الغرب الصليبي يريدنا دائرين في فلكه دائماً، ولذلك فإنه يقوم بكل الوسائل لتغييب ( الهويّة الإسلامية ) التي يمكن أن تُخْرِجَنا من ذلك الدوران. وهو قد يساعدنا اقتصادياً وعسكرياً، ولكن لا نخرج مما نحن فيه، بل لنغفل عن (الاحتلال ) الحضاري الكامل، (وغياب )الهويّة الإسلامية الذي يؤدي إلي عودة سيطرته علينا مرة أخري . ومن هنا ينزف جرح أمتنا ..من التبعية والتمزق والتغرب مادياً وفكرياً وروحياً .
وبكلمة :
لقد قام أعداء الأمة الإسلامية عبر تخطيط ماكر خبيث بتحويل روح العداء لهم، والتي يشعر بها المسلم من خلال عقيدة الولاء والبراء، قاموا بتحويل هذه العداوة إلي شعور المحبة والارتياح، بل إلي انبهار وشعور بأنهم القادة والسادة!!
وقد حدث ذلك عبر خطوات : ( التغريب ) حيث تم هدم الشخصية الإسلامية وبناء الشخصية الغربية ..(1)ثم (نبش الحضارات القديمة وإحياء معارفها )لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات ..ثم قاموا بتأكيد ذلك عبر( الفكرة الوطنية ) التي كرست كيانات التجزئة في الأمة الإسلامية ..ثم في أعطاف الوطنية، خرجت موجات العلمانية
التي أسقطت راية الشريعة وأحلت محلها راية القوانين الجاهلية.
__________
(1) لمزيد من الاطلاع علي هذا الوباء الفتاك (التغريب)..
انظر كتاب الدكتور/ محمد محمد حسين:الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، وكتاب الأستاذ / محمد قطب: واقعنا المعاصر.(1/55)
...وفي ظل العلمانية جاء الغرب بالحكّام ( العملاء) الذين أشربوا في قلوبهم ثقافة الغرب، وتربوا علي يديه ونشأوا في كنفه ورعايته ..وقام هؤلاء العملاء باقتلاع عقيدة الأمة، وتدمير هويتها، وتزييف وعيها...فصارت الأمة الإسلامية بعد ( الاقتلاع ) من الجذور ..و ( القطع ) عن المسار التاريخي – صارت كالخُشُب المسندة، لا كالشجرة عميقة الجذور طيبة الثمر، يانعة الاخضرار !!بل أصبحت الأمة الإسلامية بخروجها عن مسارها التاريخي، كالماء الآسن بعد أن خرج عن مجري النهر..
وهكذا كانت رياح الغرب، رياح تدمير لمقومات أمتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، وذلك عبر الحكام العملاء الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا !! والذين تمت علي أيديهم خطة الغرب الصليبي في ( التغريب ..والاغتراب ).
الفصل الثالث
إحياء الهوية الإسلامية
تشكل الهوية ـ في أية أمة من الأمم ـ الحافز الأيديولوجي والدافع النفسي والشعوري الذي يدفع الأمة نحو التقدم بقوة في اتجاه ( الإحياء الحضاري )، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم الأخرى .. فالهويّة تُشْعر الأمة أنها ( المركز ) الذي يجب أن ينجذب إليه الآخرون ..وليس هذا ( المركز ) خارجها ويجب عليها أن تنجذب إليه، وهذا يقوي في أفراد الأمة قوة الصمود أمام تيار الغزو الحضاري، ويُفَجّر فيهم الطاقات الكامنة فتستطيع الأمة القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم والانجاز الحضاري .
أمّا إذا فقدت الأمة ـ أية أمة ـ هويتها ( المستقلة ) فإن هذا يعني لا محالة ( التبعية ) للأمم الأخرى والبقاء تحت سياط الاستعباد والقهر !!(1/56)
ومن هنا فإنه من " بديهيات النظر العقلي في مشكلة البناء أو البعث الحضاري عند أمة من الأمم أن أولي خطوات هذه العملية إنما تقوم علي إبراز الشخصية الحضارية لهذه الأمة في الواقع والتاريخ الإنسانيين، وأيضاً لدي أجيالها الناشئة، وذلك يكون من خلال إحياء وصقل مقومات هذه الشخصية، ثقافياً، وفكرياً، وقيمياً، وأخلاقياً، واجتماعياً، بعد لفظ ما شاب تلك المقومات، من عوامل هدم، أو منزلقات تخلف، علقت بها في مراحل الأمة التاريخية المختلفة "(1).
ولا مفر عن هذه الخطوة الأولية ..(إحياء الهويّة)، لأن البعد العقدي والتاريخي والحضاري لأية أمة يضع (بصماته) علي الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية..وحتي علي الجوانب العلمية والتقنية والتنظيمية والإدارية..
وإذا أردنا أن ندلل علي أهمية الهوية وأثرها في الأمة من واقع حياتنا المعاصرة لنظرنا إلي اليابان مثلاً " هذا البلد الذي خرج من الحرب العالمية منهك القوي متضرراً كما لن تتضرر دولة مثله، ومع ذلك هو الآن في مصاف الدول المتقدمة ..لأن الخط الواضح الذي سارت عليه اليابان منذ خروجها من الحرب هو التميز بهوية مستقلة "(2) فكانت هذه الهوية المستقلة هي التي دفعت العامل الياباني إلي الإبداع والدقة والاختراع والتطوير، وهذا ما لم يكن ممكناً لو أن هذا العامل كان متقمصاً شخصية العامل الغربي، لأنه حينئذ يشعر بالتبعية، وفقدان الشخصية الذي يحد من عزمه ويقتل فيه روح الإبداع .
__________
(1) فصول من ثقافة الصحوة – جمال سلطان ص 79.
(2) طريق البناء التربوي الإسلامي – د. عجيل النمشي ص 92، 93.(1/57)
فاليابان حافظت علي هوّيتها، وقبلت من الحضارة ما دفعها إلي الأمام..بل كانت اليابان شديدة الحرص علي هذه الهويّة المستقلة، وكان الطالب الياباني حين يذهب إلي الغرب ليتعلم التنقية، يحافظ أشد المحافظة علي أخلاق بلاده وتراثها وهويتها " ولمّا بعثت اليابان بعثة من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب، ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم، ذائبين في الشخصية الغربية، منغمسين في الشهوات الفردية لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً علي مرأي من الناس ليكونوا عبرة لغيرهم "(1).
وهكذا أدرك اليابانيون (الوثنيون) خطورة الاجتياح الحضاري وفقدان الهوية المستقلة!!
وكما فعلت اليابان، فعلت كوريا الشمالية ..سدّت أبوابها في وجه الاجتياح الحضاري الغربي وتمسكت بهويتها المستقلة، فاستطاعت أن تبني نفسها بيدها وتتجاوز مرحلة التخلف لتصبح من الدول الصناعية..
فإذا نظرنا إلي العالم الإسلامي، وبحثنا عن الهوية التي يمكن عبرها إحياء الأمة الإسلامية، فما عسانا أن نجد ؟
لقد ادّعي زعماء العلمانية أن طريق الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية هو إحياء الهويّة (الوطنية)..وإحياء الهوية (القومية)، وحين سارت الأمة وراءهم خرّبوا بيوت الإسلام بأيدي المؤمنين وهم لا يشعرون !! ذلك أن الهوية الوطنية في الواقع (الإسلامي ) لا تمثل محور الاستقطاب القوي الذي يمكن أن يجمع الأفراد، بل هي فراغ اجتماعي وسياسي يُنْتج في الأمة ظواهر ( الاغتراب ) التي تستنزف الطاقات وتُضيّع الجهود، وتجعل محصلة عمل الأمة تصل إلي جيوب أعدائها !!(2)
وادّعي زعماء العلمانية أن الطريق إلي الإحياء الحضاري للأمة هو ما أسموه ( المشروع القومي ) . والذي يحاول أن يجتمع أفراد الأمة عبر إيجاد هدف مشترك بين الأفراد يشد بعضهم إلي بعض..
__________
(1) من وسائل دفع الغربة – سلمان بن فهد العودة ص 113.
(2) انظر إن شئت : لماذا نرفض العلمانية – للمؤلف.(1/58)
ولكن هيهات..إن هذا المشروع ( المُفْتَعل ) يخبو ويظهر، ويقوي ويضعف، ..وعند ضعفه تبدأ ظواهر الاغتراب في الظهور وتقل مشاركه الأمة فيتحكم فيها الرعاع والأراذل والسفهاء من خلال نظم استبدادية متعسفة، تقوم بعمل تفريغ شامل لقوي الأمة جميعها، من مال وقيم وتكتلات شعبية وغيرها !!
وهكذا تبقي الأمة في هذه الدائرة لا تخرج عنها..هويّة وطنية أو مشروع قومي متجدد، يؤديان إلي فراغ اجتماعي، ينتج اغتراباً وفقدان انتماء، فيتحكم الأراذل والسفهاء، فيكون الفساد العريض، واستنزاف الطاقات والجهود، وتصل الأمة إلي التبعية المطلقة الذليلة..والتي قام الدليل أكثر من مرة علي استحالة الخروج منها إذا كانت الهويّة الوطنية، أو القومية، أو العلمانية..
إن أية محاولة لدفع الأمة الإسلامية في طريق الإحياء الحضاري من خلال هذه الهوّيات ( المصطنعة) هي في حقيقتها محاولة (تآمرية) تخدم في النهاية مصالح أعداء الأمة ... بل إن الذين يقومون بهذه المحاولات هم الأعداء الحقيقيون لهذه الأمة، لأنهم يمزّقون وحدتها، ويقضون علي مقومات المواجهة لهذه الأمة مع أعدائها .
إن نقطة التحول في طريق إحياء الأمة الإسلامية، ونزع الريادة من يد أعدائها وبداية حضارة الإسلام من جديد، هي ( إحياء الهوّة الإسلامية )، لأنها هي الهوية الحقيقية للأمة، الموصولة الشرايين بتاريخها، والقادرة علي مقاومة الاجتياح الحضاري الغربي.(1/59)
إن إحياء الهوية الإسلامية هو الخطوة الأولي في الطريق الصحيح لإحياء الأمة الإسلامية لأنها تشكّل محور الاستقطاب القويّ الذي يجمع أفرادها حول مرتكزات عقائدية من الاجتماع علي الإسلام والولاء والبراء عليه، ومن ثم يتيح للأفراد تكوين أمة متماسكة . وإذا تماسكت الأمة ملئ الفراغ الاجتماعي فيها ، واختفت منها ظواهر الاغتراب وفقدان الانتماء، وأصبح قادتها هم (أولو الألباب )،فكانت الوثبة القوية، والانطلاقة الحضارية التي تحطم الأغلال التي وضعها الأعداء علي الأمة .
لقد كنا بهويتنا الإسلامية علي رأس الدنيا، واستطعنا أن نجنب الحضارة الرومانية والفارسية صفة القيادة..ومازالت الفرصة أمامنا لنعرف أنفسنا وتعرفنا البشرية كلها وحين نقوم بإحياء هويتنا الحقيقية (الهويّة الإسلامية) وتصبح لأمتنا شخصيتها المتميزة، وهويتها المستقلة ..حينذاك قد يجتمع علينا الأعداء من كل صوب، ولكنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منا شيئا، كما لم تستطع الروم والفرس أن تنال من المسلمين الأوائل شيئاً . بل سيأتي اليوم الذي يقف فيه أعداء أمتنا علي خط الدفاع عن شخصيتهم المتميزة وهويتهم المستقلة خشية الذوبان في البوتقة الإسلامية، كما ذابت من قبلهم الفرس والروم(1).
وبكلمة:
تقوم ( الهوية ) في أية أمة من الأمم بدور ( المعامل الحضاري ) الذي يمتد عمودياً في أعماق الإنسانية لكي يبعث فيه الإحساس بمسئولية عن تقدم أمته، فَيُفَجّر طاقاته في ذلك السبيل...ويمتد أفقياً في الأمة لتصب جهودها في المسالك الصحيحة التي تنسجم مع آمال الأمة وطموحاتها (2).
__________
(1) مستفاد من كتاب طريق البناء التربوي – د. عجيل النمشي .
(2) مستفاد من كتاب : العقل المسلم والرؤية الحضارية – د. عماد الدين خليل .(1/60)
ولاشك أن الهويّة التي تنطبق مع الخيار الحضاري للأمة الإسلامية هي ( الهويّة الإسلامية ) . ولذلك فإنه عندما طرح زعماء العلمانية الهويّة ( الوطنية) كبديل للهويّة الإسلامية، حدث في الأمة ( فراغ اجتماعي )، وأدي هذا الفراغ إلي ظواهر (الاغتراب ) وفقدان الانتماء للأمة، وفي ظل الاغتراب أصبح العقلاء والحكماء من الأمة غير قادرين علي التأثير في حركتها، وصارت الكلمة للسفهاء، وصار الحكم للأراذل، فكان الفساد العريض، والجهود الضائعة، والطاقات المستنزفة !! وصارت الأمة إلي التبعية الذليلة . وهكذا لم يصبح أمامنا من سبيل لإخراج أمتنا من التبعية إلي الريادة إلا عبر ( إحياء ) الهويّة الإسلامية، وإيجاد (المشروع الحضاري الإسلامي) ..ليكون ذلك سبيلاً إلي استقطاب أفراد الأمة، وملء الفراغ الاجتماعي، لتزول ظواهر الاغتراب، ويتولي ( أولو الألباب ) قيادة الأمة ..وتصبح ( الهوية الإسلامية )حافزاً للتغيير، ودافعاً للفاعلية، وهاجساً لصنع الحضارة .
الباب الثالث:
التربية الشاملة..وإحياء الربّانية
ويشتمل علي ثلاثة فصُول:
الفصل الأول : الشمولية في التصور الإسلامي.
الفصل الثاني : التوجيه الإسلامي الشامل.
الفصل الثالث : التربية الإسلامية الشاملة.
الفصل الأول
الشمولية في التصور الإسلامي
تتنوّع مقومات التصور الإسلامي وتتوزّع، ثم تتضام وتتجمّع لتكوّن ( الكل ) أيّ التصور الإسلامي. ويتمثل جمال هذا التصور – أول ما يتمثل – في شموليته، فهو شامل في تحديده للإطار العقيدي والسلوكي للإنسان...وهو شامل في تناوله للأمور من جميع زواياها وأطرافها وجميع مقوماتها وأسبابها..وهو شامل فلا يترك جزئية من جزئيات الحياة إلا ويكون له إزاءها تصور وحكم .(1/61)
ومن هنا فالتصور الإسلامي تصور كامل، والشريعة الإسلامية شريعة شاملة، وقد أنزل الله هذه الشريعة " فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أُمِروا بها، وتعبداتهم التي طُوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله صلي الله عليه وسلم حتي كمل الدين بشهادة الله تعالي بذلك حيث قال تعالي :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(1) .
والمنهج الإسلامي بهذه الشمولية يتيح للبشرية أن ترتشف من سلسبيله العذاب، ومن معينه الصافي ما يرويها علي مدي الزمان والأيام.
إن المنهج الإسلامي انطلاقة للحياة علي الأرض، وليس مجموعة من الكلمات والتعاليم التي تضمها الأوراق أو تتناقلها الشفاه !! بل هو منهج حياة شامل، بكل معاني الشمول..في كل حركة، وكل خالجة وكل خطوة.." ولا عمل يفرض، ولا حركة ولا سكون يدّعي، إلا والشريعة عليه حاكمة أفراداً وتركيباً، بحيث لا يخرج عمل إنساني وقع في الماضي أو يقع في المستقبل، إلا وهو مأمور به أو منهي عنه "(2) .
والمنهج الإسلامي وِحْدَة لا تنفصم "يشمل الاعتقاد في الضمير، والتنظيم في الحياة ـ لا بدون تعارض بينهماـ بل في ترابط وتداخل يعز فصله، لأنه حزمة واحدة في طبيعة هذا الدين، ولأن فصله هو تمزيق وإفساد لهذا الدين"(3).
ولذلك فإن الفكرة التي يقدمها هذا المنهج عن الحياة، لا تؤتي ثمارها في الواقع إلا إذا طُبقت تطبيقاً كاملاً "فالإسلام ديناً : عقيدة وعبادة وسلوك .
عقيدة : جوهرها التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شائبة الشرك الظاهر أو الخفي.
وعبادة : جوهرها الصدق و الامتثال والإخلاص ...والفرائض فيها ذات وظيفة اجتماعية في النهوض بالفرد والأمة
__________
(1) الاعتصام – الشاطبي جـ2 ص 304..
(2) الموافقات – الشاطبي جـ1 ص 41.
(3) خصائص التصور الإسلامي – سيد قطب ص 109.(1/62)
وسلوك :وثيق الصلة بالعقيدة والعبادة، وكلما كانت العقيدة سليمة، والعبادة صحيحة، كان السلوك سوياً.
والإسلام دولة : لا تنفصل عن الإسلام ديناً، فهما صنوان يخرجان من أصل واحد "(1).
وكما أن الإسلام هو قاعدة الاعتقاد والعبادة، وقاعدة الخلق والسلوك، فإنه أيضاً قاعدة الحكم والنظام، وقاعدة النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي .ومن ثم فهو الأصل التي تنبثق عنه الدولة بتمامها " وليس كما تقدمه الجاهلية المتغّربة – مجرد فرع يشكّل مع فروع أخري متعددة كيان الآمة ..كما أنه ليس كما تزعم هذه الجاهلية مجرد شأن من شئون المجتمع، مثل الشئون الاقتصادية والشئون الاجتماعية، والشئون السياسية وغيرها من الشئون !!
فليس الدين مجرد جانب من جوانب الحياة، أو محض حاجة جزئية من حاجات الإنسان الباحثة عن إشباع يتم داخل المسجد بالدعاء !!"(2).
إن التصور الإسلامي الصحيح ليس مقصوراً علي العقيدة فحسب، وإنما هو أيضاً يبني المجتمع علي صعيد الفرد والأسرة والجماعة، وينظم العلاقات التي تحكم ( كل ) هؤلاء علي أساس من تلك العقيدة، "وليس التصور الإسلامي أجزاء وتفاريق يمكن تناول أي جزء منه ـ أو أي جانب من جوانبه ـ وحده، بعيداً عن بقية الجوانب، لأن انفصال هذا الجزء ـ أو الجانب ـ يذهب بحماله ..بل يذهب بحقيقته "(3).
إن العلمانية المتغربة وقد أشربت في قلوبها مفاهيم الغرب الكاثوليكية عن الدين، تعرض الإسلام عرضاً لاهوتياً لا علاقة له بشأن من شئون الحياة .. وهذا يكشف ( الجزئية ) و ( النظرة الأحادية ) التي تتصف بها هذه العلمانية والتي تجعل تعاملها مع مشاكل الأمة يشوبه النقص والاضطراب .
__________
(1) ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر – ص 57،56..
(2) تطور الفكر السياسي في مصر – عبد الجواد ياسين ص 21.
(3) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص 41.(1/63)
إن الإسلام في معالجته لأية قضية من القضايا، أو أية مشكلة من المشاكل لا ينظر إلي جاني واحد من جوانبها، ولا يهتم ببعد واحد من أبعادها..بل ينظر إليها من ( كل ) جوانبها، ويعالجها من(جميع) أبعادها.
ومن هنا، فإن منهج الإسلام هو المنهج الأمثل لإحياء الأمة الإسلامية، وقيادة حضارتها "وملء الثغرات التي حدثت في منظومتها الحضارية بفعل العلمانية المتغربة، وذلك لسببين :
الأول : إن هذا المنهج ليس بشرياً، إنما هو من عند الله، خالق الوجود، وعالم الأسرار، عنايته تصل إلي كل ذرة من ذرات الوجود بما فيه ومن فيه .
والثاني : إنه منهج قائم علي أساس (شمولية ) مترابطة متوازنة..وهو يحرّك طاقات الإنسان كافة..وفي الاتجاهات التي تتفق مع أصل تكوينها "(1).
فالإسلام بشموليته " يتوصل إلي استغلال ( كل ) طاقات الإنسان، بل يصل إلي الحد الأقصى لهذه الطاقات، ولذلك فإن استثمار الإسلام في عهده الأول للعدد القليل من المسلمين وقدرته علي الوصول والاستفادة من الحد الأقصى لطاقاتهم صنع الأعاجيب في عالم الأرض، وأمام جحافل الغثاء من البشر الذين لم تستطع مناهجهم أن تستثمر طاقاتهم الفطرية المكنونة. فالكائن البشري هو الكائن البشري، ولكن النتيجة متباينة ومختلفة بين منهج الإسلام، ومنهج الناس "(2) منهج الإسلام الذي يعالج الإنسان معالجة شاملة متوازنة لا تغفل عن شيء، ومنهج الناس الذي يعالج الإنسان معالجة شاملة متوازنة لا تغفل عن شيء، ومنهج الناس المحكوم بضعفهم وشهوتهم، فوق ما هو محكوم بقصورهم وجهلهم .
إن المنهج الإسلامي يتناول الأمور علي نحو شامل ـ بكل معاني الشمولية ـ ويخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ومن ثم..فهو يوجّه نشاط الإنسان في كل مناحي الحياه.
__________
(1) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د. محسن عبد الحميد ص 75.
(2) طريق البناء التربوي الإسلامي – د.عجيل النمشي ص 89.(1/64)
أمّا المناهج الغربية والمتغربة التي تتصف بالجزئية وأحادية الجانب، فإنها تقوم علي طغيان جانب من جوانب الإنسان علي الآخر، وتُشَتت نشاط الإنسان، وتضيّع جهوده.
إن أمراض الأمة الإسلامية كثيرة، وهي تعاني في كثير من قطاعاتها من ( الكساح ) العقلي، و(التخلف ) الفكري، (القابلية) للاستذلال والقهر ..إلي غير ذلك من الأمراض، وقد حاولت الأمة أن تتداوي من هذه الأمراض، فجلب لها قادتها الدواء الغربي ( العلمانية ) !! ولكن حالة الأمة تسوء مع طول فترة العلاج؟!
إن جميع المخلصين من هذه الأمة يدركون أن النظرة الأحادية الساذجة، والتي تنظر بها العلمانية إلي مشكلات أمتنا، لا تصلح لتغيير واقع الأمة، وأنه لابد لنل إذا أردنا أن نعالج حالة التخلف والضعف والفرقة في أمتنا، لابد لنا من منهج تغييري له صفة (الشمولية )، ونحن لا نجد هذا المنهج التغييري الشامل إلا داخل نمطنا الإسلامي .
إن المنهج الإسلامي الشامل هو الطريق لعلاج أمراض أمتنا، وليست العلمانية التي تعالج مشاكلنا وأمراضنا بطريقة جزئية، وتدفعنا لأخذ ( حبة) ضد التخلف، أو (قرص)يعالج من الاستذلال والقهر !!
إن الإسلام (ككل) يعالج أمراض أمتنا (ككل) ..ولا يجوز أن نُخْدَع فنظن أنه يمكن أن نعالج ب (جزء ) من الإسلام ( كل ) أمراض الأمة الإسلامية .
إن منهاج الإسلام التغييري كامل وشامل، وليس مجرد مشروع للإصلاح الجزئي، وهو يقدم ( الهدية ) بشأن كل جانب من جوانب الإنسان، وكل ناحية من نواحي الحياة، ويهدف إلي إعادة بناء الفرد والأمة ـ بل والمجتمع البشري ـ بناءً صحيحاً، أساسه إقامة العدل الرباني كما أراده الله أن يكون، لأن هذا العدل هو المفهوم الحقيقي لحضارة الإسلام ..حضارة الأمن والهداية .
فالإسلام : إيمان يَعْمُر دنيا الناس ..وعقيدة تخلق حضارة..وعبادة تربي أمة .
وبكلمة :(1/65)
يحتوي الإسلام علي نظم وأحكام في كل ناحية من نواحي الحياة، ويعطي تصوراً شاملاً لعملية التغيير الحضاري . وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة، ورسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية العلمانية التي تتصف بالجزئية والنظرة الأحادية .
ومن هنا ، فالإسلام يتعامل مع مشكلات الأمة الإسلامية بكل مناهجه الفكرية، وتربيته السلوكية، وتشريعاته الاقتصادية والسياسية ...الخ، وكل ( جزء ) من الإسلام يعالج ( جزءاً ) من مشاكل الأمة ..ومن ثم يصل بالأمة – بل والمجتمع البشري – إلي حياة متوازنة وحضارة متكاملة تُعَبّر بصدق عن فطرة الإنسان وكيانه الشامل .
( ( ( (
الفصل الثاني
التوجيه الإسلامي الشامل
أصبح الإعلام من أقوي (الأسلحة ) التي تحرص الأمم علي امتلاكها وتتسابق في ميدانها. ووُظفَت دراسات علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم في خدمة الإعلام، حتى أصبح قادراً علي ( صناعة ) اهتمامات الفرد، و ( صياغة ) أفكاره، ( وتغيير ) سلوكه بما يتفق مع التغيير الاجتماعي المنشود .
ولقد قطع الإعلام الجاهلي المعاصر خطوات كبيرة نحو ( الإنسان ) المسلم حتى أوقعه في أسْرِه..
وكانت الخطوة التالية لـ ( الأسْر ) هي محاولة دفع هذا المسلم في طريق التنكر للإسلام عقيدةً وشريعةً وسلوكاً وحضارةً !!
وقد توسّل الإعلام الجاهلي لذلك بوسائل كثيرة :
فأمّا حقائق الإسلام، فقد كانت طريقة الإعلام الجاهلي في عرضها هي ( العرض اللاهوتي ) أو التراثي المتحفي، حتى أصبح أكثر المسلمين لا يفهم من كلمة الإسلام إلا ما يفهمه الأوروبي من كلمة relagion إذا ذكرت أمامه ؟! فلا يزيد الإسلام في حسه عن بضعة طقوس وشعائر لا علاقة لها بشأن من شئون الحياة!!(1/66)
وأمّا الأفكار التي يقوم الإعلام الجاهلي بنشرها، فلا تجد بينها غذاءً فكرياً جيداً، بل أكثرها من نوعية الأفكار التي يمكن أن نطلق عليها ( العَلَف الفكري )، فهي أفكار " تدعو الفرد المسلم، إمّا إلي الانصراف إلي قضاياه اليومية الخاصة التي تدور حول الغذاء والكساء والمأوي، وإمّا إلي الاغتراب الحضاري والجغرافي، والهجرة إلي خارج الوطن الأم والانضمام – بإعجاب وولاء – إلي المجتمعات ( الاستعمارية ) ...وإمّا إلي الانحلال الاجتماعي والانغماس في تيار الجنوح والانحراف " (1).
وأمّا الأخلاق التي ينشرها الإعلام الجاهلي فهي أخلاق ( الفضائح الاجتماعية )، " فمن إدمان للخمر، إلي نوادي القمار، إلي دور البغاء العلني والسري، إلي الخلاعة الجنسية علي شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلي تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها ...إلي آخر تلك الفضائح الأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدي الأجيال المسلمة .."(2).
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 303..
(2) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د. محسن عبد الحميد ص 33..(1/67)
وأمّا في نطاق قدرة الفرد علي التغيير ومجابهة التحديات، فقد أكّد الإعلام الجاهلي علي ترسيخ اعتقاد المسلم بأنه غير قادر علي فعل أيّ شيء في مواجهة الواقع !! وأن الاستسلام لما هو كائن هو ( التصرّف الواقعي ) !! وهكذا.. توسّل الإعلام الجاهلي بكل الوسائل للوصول إلي هدف ..( تَحَكُُّم الجاهلية ) ..وكانت "السياسة التي تجري عليها وسائل الإعلام هي إشباع الشهوات لا الإرشاد، وكانت في كثير مما تهز به أجواء الأرض من كلمات أو أصوات تُفْسِد ولا تُصْلِح وتُغْوِي ولا تَهْدِي وتحتاج للمرشد مع أن مهمتها هي الإرشاد "(1).
ولاشك أن العمل الإسلامي لايملك في مواجهة الإعلام الجاهلي إلا سلاح الدعوة والبيان، ولكن شمول الخلل الذي أحدثه الإعلام الجاهلي في الأمة يحتم علي العمل الإسلامي أمرين :
الأول : أنه "لم يعد يكفي الاعتماد علي الجانب العقيدي وحده أو التشريعي وحده أو السلوكي وحده، لمجابهة الأزمات الحضارية والانتكاسات الفردية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع الإسلامي . بل لابد أن تمشي الخطوط الثلاثة متكاملة متوازنة متعانقة لمعالجة السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي فيه، تمهيداً لإحداث التغيير الإسلامي المنتظر "(2) وهذا يعني أن يكون ( الخطاب الإسلامي )(3) خطاباً شاملاً، يكشف الحق الملتبس، ويبينه للأمة في صورة بلاغ مبين، ثم ينتقل بالدعوة من مرحلة المبادئ إلي مرحلة البرامج، فبقدّم ( المشروع الحضاري الإسلامي ) الذي يكون البديل للأنظمة الجاهلية .
__________
(1) حصوننا مهدده من داخلها – د. محمد محمد حسين ص 61.
(2) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د. محسن عبد الحميد ص 99..
(3) تطلق كلمة (خطاب ) في علم النفس الاجتماعي علي كل نطاق أو كتابة تحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب ، وتهدف إلي التأثير علي السامع أو القارئ.(1/68)
الثاني : أنه لابد من تجنب الإسراف في استخدام الكلمة والبيان، بحيث لا تكون الكلمة مجرد صورة بيانية ترف في الهواء، أو مجرد كمية من المداد علي صفحة من الورق . بل لابد أن تكون الكلمة ( فعّالة ) تبث أفكاراً لها كثافة الواقع ووزنه، بما تدفع إليه من نشاط وحركة في طريق التغيير(1).
إن التوجيه الإسلامي الشامل يصوغ المسلم القادر علي إحداث التغيير الجذري، وإعطاء البديل الحضاري. ولذلك فإن له طريقاً متميزاً في تحقيق ذلك الهدف :
فأمّا الإسلام فإنه يعرض عرضاً كاملاً، ولا يقف عند قضايا العقيدة فقط، بل يشرح نظام الإسلام كما يشرح العقيدة ويبين الأخلاق " ولا يترك الناس حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدّل حياتهم تبديلاً ...سيبذّل تصوراتهم عن الحياة، كما سيبدل أوضاعهم كذلك، سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس . سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلي المستوي الكريم اللائق بحياة الإنسان . والذي لا يتحقق إلا في ظل المجتمع الإسلامي الذي تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي، كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي "(2).
__________
(1) مستفاد من كتاب : مشكلة الثقافة – مالك بن نبي ص 109.
(2) معالم في الطريق – سيد قطب ص 167.(1/69)
وأمّا الأخلاق والقيم، فإن التوجيه الإسلامي الشامل لا يقدمها كعدد من الفضائل المبعثرة، كل علي حدة، كالصدق والأمانة والعفة والوفاء...الخ..إنما يقدمها كما هي علي الحقيقة " نظام متكامل لحياة شاملة . نظام يوجّه ويضبط كل النشاط الإنساني في شتي جوانب الحياة، ...فالصدق خلق، ومثله الجهاد في سبيل الله لتحرير البشر من العبودية لسواه . والأمانة خلق، ومثلها عمارة الأرض وتنمية الحياة وترقيتها في حدود ما شرع الله، ابتغاء رضوان الله . والعفة خلق، ومثلها تطهير عقول الناس من الوهم والخرافة والضلال . والوفاء خلق، ومثله القيام علي حدود الله . والإيجابية وعدم السلبية في حياة الجماعة .."(1)
وهكذا ..لا يهتم التوجيه الإسلامي بالأخلاق من الناحية الفلسفية، بل من الناحية الاجتماعية، ومدي مساهمة الخُلُق في إيجاد ( قوة التماسك ) اللازمة في أمة تريد إقامة حضارة علي أساس من الإسلام الحق ..الإسلام المتحرك في العقول والسلوك، والمنبعث في صورة ( إسلام اجتماعي ) .
وأمّا الأفكار، فإن التوجيه الإسلامي الشامل يركّز علي أن فقدان ( الرسالة ) التي قامت عليها الأمة، وضياع ( الغاية ) التي بُعِثَت من أجلها ـ وهي إخراج البشر من العبودية للبشر إلي العبودية لرب العالمين ـ يؤديان إلي انهيار الأمة وهلاكها " وأن أمانة ( الرسالة ) تفرض علي المسلمين أن يكون كل منهم علي ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبله، وأمّا القاعدون من المسلمين الذين يظنون أنهم بأخلاقهم وصلاتهم وصيامهم يؤدون واجبهم تجاه أمتهم ويحملون رسالتها، فليعلموا أنه لا يصلح لهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه، وأنه لن ينتصر آخر هذه الأمة إلا بما انتصر به أولها أيّ بالإيمان والجهاد والتضحية والثبات"(2).
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص 289.
(2) المعاصرة في إطار الأصالة – أنور الجندي ص 53..(1/70)
وأمّا قدرة الفرد علي التغيير، فإن التوجيه الإسلامي الشامل يقوم علي تعميق الإحساس بضرورة التغيير مع بث الثقة في أفراد الأمة وقدراتهم وإمكاناتهم التي تؤهلهم لحمل مسئولية التغيير، وذلك عبر إشعار جماهير الأمة بالوضع السيئ الذي تعيشه أمتهم، وإثارة تطلعاتهم إلي تغيير الواقع الجاهلي الذي يستهدف حريتهم، وحضارتهم، بل ولقمة عيشهم !! ومن ثم حشد طاقات جماهير الأمة جميعاً لتصب في حركة تغييرية تسير بصورة تدريجية وتصاعدية حتى تبلغ ذروة أهدافها بإخراج جماهير الأمة من العبودية التي تؤلمها وتحز في صدورها، إلي الحرية التي لا تتحقق في ظل منهج من المناهج كما تتحقق في ظل الإسلام.
وهكذا هو التوجيه الإسلامي الشامل ..يطرح الإسلام كمعادلة فكرية وسياسية واقتصادية وأخلاقية، وذلك في مواجهة المعادلة العلمانية التي تريد إبعاد الأمة الإسلامية عن خط الإسلام لتقربها إلي خط الكفر !!
فالتوجيه الإسلامي الشامل يُدْخِل الإسلام ساحة الصراع مع العلمانية من موقع ( الفكرة ) الممتد المنفتح، والذي يعمل علي حل مشاكل الأمة من موقع الإسلام، ويُخْرِجها من قهر أعدائها من الموقع نفسه . وبذلك يحقق المقصود " فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال تعالي : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}..فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتاب أن يقوم الناس بالقسط حقوق الله وحقوق خلقه "(1) .
إن أكثر المسلمين اليوم يُحِسّون في أعماقهم الانهزام أمام قوة الغرب، ومن ثم فلابد أن يكون التوجيه الإسلامي قادراً علي إقناعهم أنهم بـ (الإسلام ) قادرون علي تحدي الغرب وأجهزته وعملائه من أنظمة علمانية متسلطة .. أو غيرها .
__________
(1) السياسة الشرعية – ابن تيمية ص 26.(1/71)
وأنه إن كان المسلمون يعيشون اليوم واقع (القصعة) وتداعي الأمم عليهم، فإنهم بالإسلام قادرون علي الخروج من هذا الواقع، والوصول مع كل أعدائهم إلي مرحلة : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " فالإسلام كما أنه دعوة للنجاة في الآخرة فهو أيضاً دعوة للمتقين في الأرض {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} النور55 .
إن الكثير من المسلمين يبحثون عن الطريق إلي الخروج من التبعية الذليلة، ومن هنا فلابد أن يقدّم لهم التوجيه الإسلامي البديل النظري والواقعي للخروج من هذه التبعية، ويزيل من أنفسهم أسباب العجز والتخلف، ويبعث فيها روح الأمل والثقة في القدرة علي التغيير والخروج من التبعية إلي الريادة .
إن في الأمة الإسلامية " طاقات وقوي لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وهناك ملايين من السواعد والعقول المفكرة صالحة لأن تشارك في التغيير، والمهم هو أن نعرف كيف ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول "(1) لإحداث التغيير المنشود . ولاشك أنه لا سبيل لنا إلي ذلك إلا التوجيه الإسلامي الذي ينشر الفكرة الإسلامية بين أفراد الأمة، وبقدر شمولية هذه الفكرة سيكون اكتساحها للأفكار الجاهلية المثبطة للعزائم ...وبقدر فعالية الأمة في حمل هذه الفكرة ستكون وقفتها القوية في وجه أعدائها، وسيكون التغيير .
__________
(1) مستفاد من كتاب : مشكلة الثقافة – مالك بن نبي ص 65،64.(1/72)
إن التوجيه الإسلامي الشامل يعرض الأفكار التي تشكّل طموح الأمة، وتوضح لها الطريق التي تسلكه لمقارعة الجاهلية وتحقيق تلك الطموحات ..وكلما كانت هذه الأفكار سهلة الفهم والتداول، كلما كان ارتباط الأمة بها أقوي وأوثق . وكلما كانت هذه الأفكار سهلة الفهم والتداول، كلما كان إ ارتباط الأمة بها أقوي وأوثق .وكلما كانت هذه الأفكار شاملة، كلما سّدت المنافذ والثغرات التي ينفذ منها الإعلام الجاهلي فينشر الفساد والانحراف.
إن قوة الإسلام هي في أن يقدّم ويعرض بشكل كامل وشامل، ليكون قاعدة الفكر، ومنهج السلوك، وطريقة الحياة .. وليحكم الحياة كلها .. وليكون الدين كله لله .
وبكلمة :
لقد حرص الإعلام الجاهلي علي تزييف حقائق الإسلام، ونشر الانحراف في العقائد والأخلاق والأفكار، كما حرص علي تثبيط عزيمة المسلم وتشكيكه في قدرته علي التغيير.. ومن هنا فلابد من توجيه إسلامي شامل يطرح الإسلام بشكل شمولي، لا يهتم بالعقيدة فحسب بل يهتم بالأخلاق والأفكار والتصورات أيضاً . ولا يصف الواقع الفاسد فقط، بل يحدد الطريق إلي تغييره، ويرسّخ في الفرد الثقة بقدرته علي القيام بهذا التغيير .
إننا اليوم قد نعجز عن التغيير للواقع السياسي الظالم والمستبد، ولكن هذا يعني أن ننهزم ونستسلم، وإنما يجب علينا أن نحتفظ بالأمة الإسلامية بعيداً عن التأثر بالإعلام الجاهلي، ريثما تتاح الفرصة التي تمكّن من التغيير .
ولاشك أننا لا نقدر علي الاحتفاظ بالأمة بعيداً عن الإعلام الجاهلي الذي تصل آثاره إلي كل بيت وكل مخدع يأوي إليه الإنسان، إلا إذا قمنا بواجب الدعوة والبيان علي صورته الصحيحة .. صورة البلاغ المبين، أو ( التوجيه الإسلامي الشامل ) .
( ( ( (
الفصل الثالث
التربية الإسلامية الشاملة(1/73)
لا تستطيع أمة من الأمم أن تحمل رسالتها للعالم إلا إذا وصل أفرادها إلي قدر مشترك من الاتفاق والتوافق حول القضايا الأساسية لهذه الأمة. والتربية ـ وحدها ـ هي القادرة علي تكوين ذلك القدر المشترك من الاتفاق والتوافق بين أفراد الأمة، بل إن التربية هي التي تتحمل المسؤولية الكبيرة في بلورة ( رسالة ) الأمة، وفي غرس ( الولاء ) لتلك الرسالة.. وفي إطار الولاء للرسالة تتلاحم الأمة وتترابط وتتماسك فتصبح كالكتل الصخرية التي تتحدي الأمواج العاتية..
والأمة الإسلامية تحمل رسالة عظيمة تعلن بها ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المتطهر الكريم . الإنسان الذي لا إله له إلا الله، ولا معبود له إلا الله، ولا حاكم له إلا الله . "هذه الرسالة التي عبّر عنها في بساطة عجيبة، ربعّي بن عامر . رسول قائد المسلمين إلي رستم قائد الفرس ـ وهذا يسأله : ما الذي جاء بكم ؟ فيجيبه للتّو واللحظة في هذه البساطة الجامعة : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده.. ومن ضيق الدنيا إلي سعتها .. ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام "(1).
ولاشك أنه ما كان لرجل من عامة المسلمين أن يتحدث عن رسالة أمته عفو الخاطر، بهذه البساطة العابرة إلا أن تكون التربية التي أخْرَجَته تربية شاملة وشامخة .. تربية تجعل من رسالة الأمة حقيقية مستقرة في نفس الفرد استقرار الفطرة المكينة العميقة !!
لقد بدأت التربية الإسلامية في مكة وقبل أن تكون للإسلام كلمة نافذة في المجتمع، بل حين كانت الفئة المؤمنة هي المستهدفة بالفتنة والأذى .. واستكمل البناء التربوي الإسلامي في المدينة حيث الأمن والعافية وإقامة الدولة.. ولم يكف النبي صلي الله عليه وسلم عن تربية الأمة حين قامت الدولة، بل استمر يربي الأمة حتى آخر لحظة(2).
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص 180،179.
(2) أنظر مثلاً خطبته صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع .(1/74)
فأمّا في مكة : فبينما الجاهليون يقاومون دعوة التوحيد ويطوفون حول آلهة صنعوها بأيديهم ويُرسخون الفوارق بين الناس في المجتمع .. وبينما الفئة المؤمنة تواجه الأذى والاضطهاد .. "كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يلقي أصحابه في دار الأرقم : يربيهم ويعلمهم ..يعلمهم العقيدة الصحيحة، و ( يربيهم عليها ) ... وحين كان رسول الله صلي الله عليه وسلم ( يربي ) أصحابه علي العقيدة الصحيحة، كان ينشئ ـ بقدر الله ـ تلك النفوس العجيبة التي صنعت ما شاء الله لها أن تصنع من عجائب التاريخ ..
بالقرآن .. بتوجيهاته الدائمة صلي الله عليه وسلم .. بقيام الليل .. بالقدرة العملية في شخصه صلي الله عليه وسلم .. برعايته لهم في المحنة ..بالحب الفياض من قلبه العظيم لهم .. بكل تلك الوسائل مجتمعة، تأصلت العقيدة في قلوب ذلك الجيل المتفرد، فكانت تلك ( الطاقة ) الهائلة التي صنعت الأعاجيب .."(1).
ومرت ثلاثة عشر عاماً في مكة في تربية الأمة علي الضبط والإحكام، ومهدت هذه الأعوام من التربية للأعوام العشرة المدنية التي تلتها " وفي مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم كانت تربية ثانية يُؤخذ بها المؤمنون، تختلف عن التربية الأولي قليلاً في مظهرها واتجاهها لا في روحها وحقيقتها . كانت التربية الأولي ضبطاً للنفس وصبراً علي الأذى وتبليغاً وإعدادا للعدة مع حبس دواعي الانطلاق وكف حدة الإقدام، أمّا التربية الثانية فهي تبني علي الأسس السابقة، ثم تدفع المؤمنين دفعاً قوياً إلي الانطلاق في سبيل الله للضرب علي أيدي أعداء الله بقوة لا تعرف الضعف، وعزيمة لا تعرف الوهن " (2).
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 489،488.
(2) سبيل الدعوة الإسلامية – د. محمد أمين المصري ص 113،112.(1/75)
ومهدت هذه الأعوام من التربية في المدينة للأعوام التي تلتها، والتي امتد فيها الإسلام إلي أقصي المشرق وأقصي المغرب علي أيدي (الربّانيين) الذين هم الترجمة الحية للعقيدة الإسلامية الصحيحة، والتربية الإسلامية الشاملة.
لقد استطاعت التربية الإسلامية الأولي أن تصوغ أفراد الأمة عقائدياً وفكرياً وسلوكياً في الصورة الإسلامية بكل أبعادها، وبالتصور الشامل للحياة في نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها ..، واستطاعت أن تغرس في نفوس الأفراد (الانتماء ) لدينهم وأمتهم،.. واستطاعت أن تعد جيلاً إسلامياً يحمل رسالة الأمة الإسلامية إلي كل الأرض، ويتحمل في سبيل ذلك الآلام الجسام.
واليوم، وعلي الرغم من " مرور أربعة عشر قرناً أو يزيد علي المدرسة التربوية والمؤسسة التطبيقية الأولي في دار الأرقم بن أبي الأرقم، والتي بدأت منها خطوات المسلم (الإنسان الجديد )، مع ذلك، نري اليوم الكثير من الثغور التربوية التي يقتضيها إخراج الإنسان والأمة لتحقيق الشهود الحضاري ( الشهادة علي الناس والقيادة لهم ) لا تزال مفتوحة، ولا نزال نُؤتي من قبلها، لأنها تفتقد ( المرابطين ) من أهل الدراية والفقه التربوي "(1) القادرين علي اكتشاف طاقات الفرد، والتعرف علي إمكاناته، ثم تزويده ـ عبر التربية ـ بالمهارات التي تجعل منه إنساناً قادراً علي تغيير الواقع، والوصول إلي الأهداف المنشودة.
__________
(1) عمر عبيد حسنة في التقديم لكتاب : مقومات الشخصية المسلمة .(1/76)
إن الكثرة الكاثرة من جماهير الأمة الإسلامية يجذبها ضغط الجاهلية المعاصرة إلي الأرض، وتقف أمام (واقع ) الأمة الإسلامية مستسلمة له، كما لو كان لا سبيل إلي تغييره، أو زحزحته أو التمرد عليه !! وانقلب معني ( الصبر) في نفوس هذه الجماهير " من الصبر علي مواجهة التحديات، ومقارعة الشر، إلي الصبر علي المرض، والجهل، والفقر، والظلم، والهزيمة، والتخلف . وانقلب معني ( الزهد ) من زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل الله، فصار عجز الفقراء والقاعدين عن العمل والراضين بالضعف والهوان . وانقلب معني ( التوكل ) من الثبات بعد استكمال الاستعداد والتخطيط فصار تبريراً للارتجالية والفوضى وعدم الإعداد !! "(1) .
ولذلك فإنه لم يعد يكفي أن نُطْلِق الصيحات الخطابية في الكتب، والمجلات والصحف والندوات، وفوق المنابر: عودوا إلي الإسلام، عودوا إلي الإسلام . وإنما لابد أن نمتلك منهاجاً تربوياً شاملاً يسد الثغور علي فتنة الجاهلية المعاصرة، ونستطيع من خلاله إعادة صياغة الفرد المسلم بما يتفق وأهداف الإسلام، ويلبي حاجات الأمة الإسلامية .
ولا شك أنه لابد من ( معالم ) يصاغ من خلالها ذلك المنهاج التربوي الشامل الذي يعين الأمة علي الرشاد والترشيد، ويجعلها محاطة بسياج تربوي متين يحفظ عليها تماسكها، ويحميها من الانهيار مهما تغيرت الظروف والأحوال ؟!
ومن هذه المعالم :
الشمولية : فالبناء التربوي الإسلامي بناء شامل ومتكامل : {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }البقرة138 .
ويجب أن يتم هذا المنهاج التربوي الشامل في إطار المرجعية الإسلامية، ومصادر المعرفة الإسلامية في الكتاب والسنة . مع الإفادة من جهود الآخرين التي تأتي من نفس المنطلقات، وتنبت في نفس التربة.
ومن هذه المعالم : الواقعية
__________
(1) مقومات الشخصية المسلمة – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 146.(1/77)
" فالمنهاج التربوي الإسلامي، إنما يصاغ لينزل في واقع الناس ويعايشهم أحداث هذا الواقع ومشاكله ، بل إن المنهاج التربوي الإسلامي منبثق من هذا الواقع، فهو لم ينشأ من فراغ، فينبغي أن لا يطبق في فراغ " (1).
وإذا بُتِر هذا المنهاج التربوي الإسلامي عن الواقع، فإنه يصبح في الحقيقة (صورة ) بلا روح، لأنه يصبح عبارة عن نظريات مجردة، أو حقائق ومعارف باردة، لا نصيب لها من التنزيل عن الواقع ليتعامل معها ؟!
ومن معالم هذا المنهاج التربوي الإسلامي : التدرج
فالمنهاج التربوي الإسلامي يقوم علي المرحلية والتدرج ولا يضع الفروع مكان الأصول بل يبدأ من ترسيخ الجانب العقدي في قلب الفرد، ليصل بشكل ( هرمّي ) إلي تهذيب أخلاقه، فتكون العقيدة هي التي تبني في صميم الوجدان : أخلاق الفكر، وأخلاق النفس، وأخلاق السلوك .. { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} - الفتح29 .
ويكون التدرج هو الذي يحمي الفرد المسلم من الانقطاع أو القعود أو علي الأقل الفتور والتواني، لاسيما في هذا العصر الذي تنمّرت فيه الجاهلية.
وهكذا يعمل المنهاج التربوي الإسلامي في إطار من الشمولية، والواقعية، والتدرج علي تحقيق التربية الإسلامية الشاملة التي " تهدف بالاعتبار العقائدي : إلي تكوين ( العبد الرباني ) لتحقيق التجرد.
وتهدف بالاعتبار الأخلاقي : إلي تكوين ( المثال الإنساني ) لتحقيق القدوة .
وتهدف بالاعتبار المادي : إلي تكوين ( الإمكانية البشرية ) لاستخلاص الطاقة "(2).
__________
(1) طريق البناء التربوي الإسلامي – د. عجيل النمشي ص 47.
(2) قدر الدعوة – رفاعي سرور ص 227.(1/78)
ولاشك أنه لتحقيق هذه الأهداف السابقة، لابد من ( فقهاء ) في التربية الإسلامية يُجَسدون المنهج الإسلامي في الواقع، ويثيرون الاقتداء به عند الآخرين، ويدفعون أفراد الأمة لمحاكاته والارتقاء إليه عبر إحياء العقيدة، والقيم، والأخلاق الإسلامية . ويسترشدون في كل ذلك بمعالم التربية الإسلامية من ( شمولية، وواقعية، وتدرج وغيرها ) .
فأمّا في مجال العقيدة : فإن فقهاء التربية الإسلامية يقومون بتربية الأمة علي التوحيد ( بشموله )، ويهتمون بكل جوانب العقيدة العلمية والعملية، ويركّزون في معالجة الانحرافات ( الواقعية ) القائمة في الأمة في هذا العصر ؟!
ففي توحيد الربوبية : يقوم فقهاء التربية الإسلامية بتعريف الأمة بربها الحق من خلال آياته المبثوثة في الكون ـ كما هي طريقة القرآن ـ حتى يصير الإيمان بربوبيته عز وجل أمراً راسخاً في قلوب الأمة، مؤثراً في نفوسها، متحركاً في واقعها، .. وليس معرفة نظرية باردة في ثلاجات الأذهان !!(1/79)
وفي توحيد الأسماء والصفات : يقوم فقهاء التربية الإسلامية بتربية الأمة علي التعرف علي اله عز وجل بأسمائه وصفاته، والثناء عليه سبحانه بها، وأخذ حظها من عبوديتها جميعاً " فأكمل الناس عبودية : المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، فلا يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو و عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم ..(1) بل يعبد الله ويدعوه بكل أسمائه كما أمر سبحانه : {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وما كان يسوغ الاتصاف به من صفات الله عز وجل كالرحيم والكريم، يدرّب العبد نفسه علي الاتصاف بها فيما يليق به .
وما كان من صفات الله عز وجل فيه معني الوعد كالغفور والعفو والشكور، فيقف العبد منه عند الرغبة والرجاء .
وما كان من صفاته عز وجل فيه معني الوعيد كالجبار والمنتقم وشديد العقاب وسريع الحساب ..فيقف العبد منه عند الخشية والخوف .
وما كان من صفاته سبحانه وتعالي فيه معني الإطّلاع والعلم كالعليم والسميع والبصير، فيقف العبد منه عند الحياء والخوف أن يراه الله عز وجل حيث نهاه أو يفتقده حيث أمره، أو يسمع منه منكراً أو كذباً، أو يري منه معصية أو فجوراً.
وبالجملة، يهتم فقهاء التربية الإسلامية بالجانب ( العملي ) لتوحيد الأسماء والصفات، ويعملون علي إحياء الآثار الإيمانية لهذه الأسماء والصفات من أعمال القلوب كالحب والبغض، والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والإنابة والخشوع وغيرها..
ولا يكتفي فقهاء التربية الإسلامية بالحفظ النظري العقلي الجاف لعقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات.
__________
(1) مدارج السالكين – ابن القيم جـ 1 ص 452 وقد أوضح الإمام ابن القيم في هذا الكتاب تعلق الوجود خلقاً وأمراً بأسماء الله الحسني ، وصفاته العلي.(1/80)
وفي توحيد الألوهية : يقوم فقهاء التربية الإسلامية بتربية الأمة علي الرفض النفسي القوي للشرك، والبراءة منه ومن أهله " لأن هذه البراءة هي الشرط لقبول الإسلام في الآخرة .. قال صلي الله عليه وسلم : " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " ـ أخرجه مسلم ـ كما أنها شرط التمكين في الأرض لقول الله سبحانه : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}النور55 فتحقيق التوحيد وترك الشرك هو طريق النجاة والتمكين .
وفي قضية التشريع .. يربي فقهاء التربية الإسلامية الأمة علي تحقيق ( العبودية ) لله عز وجل بقبول شرعه، ورفض ما سواه من دساتير أرضية أو قوانين وضعية . وأنه لابد في ذلك أن يكون المسلم ( كارهاً ) لشريعة غير الله، حتي لو فرضتها عليه الأنظمة العلمانية الحاكمة، وأن يحتفظ بهذا الكره حتي يجعل الله له ـ ولغيره من الأمة ـ مخرجاً .. وأن يجعل البراءة من كل منهج وتشريع يخالف شريعة الله، ومعاداة القائمين عليه، وعدم الاعتراف بشرعية أنظمتهم _ يجعل كل ذلك دلالة ظاهرة لهذا الكره.(1/81)
وفي قضية الولاء ..يؤكد فقهاء التربية الإسلامية علي أن " ما يجمع بين الناس أو يفرق هو العقيدة ... وأنها هي الوشيجة التي تنبع منها سائر الوشائج، ...وأن وشيجة النسب والقرب، ووشيجة القوم والجنس، ووشيجة الأرض والوطن كل هذه الوشائج لا تقوم بذاتها رابطة تقوم عليها الأمة، إذا انعدمت وشيجة العقيدة " (1) ويركز فقهاء التربية الإسلامية علي استقلال الأمة وتميزها، واستعلائها بتشريعاتها وعقائدها علي التشريعات والعقائد والنظم الجاهلية .. وخاصة في هذا العصر الذي ربط فيه كثير من الحكام العلمانيين مصير أممهم بالكافرين من يهود ونصارى ن وأعطوهم الولاء السافر الذي نهي الله عز وجل المؤمنين عنه بقوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} المائدة51 .
ويرفع فقهاء التربية الإسلامية شعار : الولاء لله ولرسوله ولدينه ولعباد الله المؤمنين، والبراء من كل متبوع أو مرغوب أو مرهوب يحاد الله ورسوله .
وفي قضية النسك : يقوم فقهاء التربية الإسلامية بتطهير قلوب الأمة من شرك النسك، ومن صرف أنواع العبادة إلي الشيوخ والأضرحة والمقبورين وغيرها من الأوثان التي تحيطها الحكومات والأنظمة العلمانية بهالات من التقديس المصطنع لتلبس علي العامة أمر دينها، وتدفعها إلي دعائها والاستغاثة بها والنذر والذبح لها والطواف حولها، وغير ذلك من العبادة التي لا تُصْرَف إلا لله سبحانه وتعالي .
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب ص 374،373.(1/82)
وبالجملة، فإن فقهاء التربية الإسلامية يقومون بتربية المسلم علي أن يحيا بالعقيدة، ويعيش لها ويجاهد من أجلها، ويضحي في سبيل ذلك بماله ونفسه، ويؤثر حب الله عز وجل علي كل حب، كما أمر الله عز وجل : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} البقرة165 . ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية " من الشرك بالأرض، والشرك بالجنس، والشرك بالقوم والشرك بالنسب، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة، تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة، ويضع الإيمان في كفة أخري، ويدع للناس الخيار : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } التوبة24 "(1).
__________
(1) معالم في الطريق – سيد قطب ص 161.(1/83)
2-وأمّا في مجال القيم : فإن فقهاء التربية الإسلامية يؤكدون علي أن انهيار الأمم إنما يكون بإفلاسها في عالم ( القيم ) لأن هذه القيم تؤثر في مجمل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للأمة ، وفي ظلالها تترقي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافية للأمة، وفي ظلالها تترقي الحياة الإنسانية ترقياً صحيحاً وتنمو نمواً سليماً . ولذلك فلابد من تربية أفراد الأمة علي القيم الإسلامية من ( الحرية ..وحب العمل ..ونصرة الحق..وغيرها ) . ولابد أن تتمركز ( الحرية ) في قلب نظام القيم في الأمة، " لأن غياب الحرية في حقيقته هو غياب التوحيد، وحقيقة التوحيد أن يخشي الإنسان الموّحد إلا الله، ولذلك فسّر الطبري قوله تعالي : { لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}بأن معني لا يشركون بي شيئاً هو : أنهم لا يخافون غيري من جبابرة السلاطين والأشخاص (1) ".
__________
(1) تفسير الطبري جـ18 ص 159،158.(1/84)
" إن التربية الإسلامية هي التي أنجبت في عصور التطبيق الإسلامي أفراداً تثور علي الولاة المقربين، إذا هتكوا حرية أحد الرعية الذميين، وتنفجر قداسة الحرية علي ألسنتهم : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً .. في الوقت الذي تعمل سياطهم تأديباً لمن اغتصبوا هذه الحريات . وحين هجرت التربية الإسلامية رعاية ( قيمة ) الحرية، مرت علي الأمة قرون كاملة من اغتصاب الحريات دون حس أو شعور "(1) . وهذا يضع علي التربية الإسلامية مسؤولية كبيرة في " تنمية تعَشُّق الحرية ونصرتها، والغيرة عليها والدفاع عنها إذا انتهكت كالغيرة علي الأعراض والحرمات . ويتفرع عن ذلك تنمية الوعي بقيمة التعبير عن الرأي، لأن الأمة التي يوجهها الوعي بقيمة ( النقد الذاتي) أمة تتمتع بالصحة والعافية، ولا تتراكم عليها آثار الممارسات الخاطئة، حتي تنفجر في فتن مدمرة، تأتي علي كيان الأمة دفعة واحدة . ولابد للتربية الإسلامية أن تدرّب أفراد الأمة علي ممارسة كلٍ من حرّية الرأي، والنقد الذاتي، بحيث تنطبق عليها المواصفات التي توجه إليها أمثال قوله تعالي : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} البقرة 83، وقوله عز وجل : {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل 125، وقوله سبحانه : {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }النساء63، وبذلك لا يتحول النقد أو التعبير عن الرأي إلي سباب ومهاترات، تزرع الأحقاد، وتبذر الفتن، وإنما يقوم علي تشخيص الظواهر الاجتماعية، وتحليل مقدماتها ونتائجها بغية التعرف علي الممارسات الخاطئة للتوبة منها، واكتشاف الصحيحة للرجوع إليها "(2).
__________
(1) مقومات الشخصية المسلمة –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 74 .
(2) إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد الكيلاني ص 91،90..(1/85)
- ومن القيم التي يجب علي التربية الإسلامية إحيائها في الآمة، قيمة ( العمل )، وذلك أن العمل من أهم القيم التي تخط مصير الأمم في الإطار الحضاري، فإذا تلقت الأمة دروس ( العمل ) قبضت علي عصا التاريخ !! وهذا يضع علي التربية الإسلامية مسؤولية أن " تجتهد في تنمية حب العمل، وجعله من محاور القيم في الأمة، ..ولابد للتربية الإسلامية أن تُنَفر من العجز والكسل .. وتزكّي القيم من المفاهيم الخاطئة للزهد، التي عززت الرضي بالفقر، وجعلته من سمات الصلاح والصالحين . فالمؤمنون مدعوون ـ في القرآن ـ للسعي في مناكب الأرض لجمع المال، فإذا جمعوه بالأساليب المشروعة الكريمة، زهدوا به، فأنفقوه وانتفعوا به، ونفعوا غير هم بالأساليب المشروعة الكريمة، التي تحفظ الكرامات، ولا توقع تحت ضغوط الفاقة والحاجة . فهذا هو مفهوم الزهد الذي وجه إليه صلي الله عليه وسلم حين علم الصحابة أن الزهد ليس بإضاعة المال، وتحريم الحلال، وإنما الزهد أن يكون المؤمن أوثق بما في يد الله مما في يده فيعتدل في جمعه، ويسهل عليه إنفاقه "(1).
ولذلك كانت قيمة العمل واضحة تماماً للجيل الذي ربّاه رسول الله صلي الله عليه وسلم علي عينه، الذين كانوا يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم، ويعدّون ـ في الوقت ذاته ـ " الكدح ـ وهو العمل في واقع الحياة ـ هو العبادة الدائمة التي يقوم بها المسلم، والتي يتزود ـ من أجل القيام بها ـ بذلك الزاد الروحي العميق الذي تمنحه إياه الشعائر التعبدية، حين يقوم بها علي صورتها الحقة من الخلوص إلي الله، والتجرد إليه، والخشوع والخشية والإخبات "(2).
__________
(1) المصدر السابق ص 71،70.
(2) مفاهيم ينبغي أن تصحح – محمد قطب ص 204.(1/86)
- ومن القيم التي يعد وجودها شرطاً في قيام الأمة القوية، قيمة ( نصرة الحق )، لأنها هي السبيل لإقامة العدل الذي هو المبرر الأول لوجود الأمم ( ومنها الأمة الإسلامية )، ولذلك " تضافرت مصادر التربية الإسلامية علي إدانة الظلم، وتنفير المسلم منه في جميع مظاهره وأشكاله . فالقرآن يسوّي بين مصير المظلومين الذين يسكتون علي الظلم، وبين الظالمين الذين يمارسون الظلم : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } النساء97 .
وفي المقابل يشيد القرآن بالذين يرفضون الظلم، ويتناصرون لمقاومته، ويستنهض هممهم لمنازلته :
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون. وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى 39.
والرسول صلي الله عليه وسلم يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم، من العلامات الدالة علي موتها، وانتهاء مبررات وجودها : " إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت ظالم، فقد تودع منها " ـ أخرجه أحمد"(1) ومن هنا وجب علي فقهاء التربية الإسلامية تعميق شعور الأمة بمسؤولية نصرة العدل في مواجهة الطغيان والظلم، ونصرة دعاة الحق في مواجهة الحكام المتسلطين .
3- وفي مجال الأخلاق :
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 89.(1/87)
لابد أن تؤكد التربية الإسلامية الشاملة علي أن الأخلاق السليمة هي أساس تماسك الأمة وصلاح أمرها، وهي الطريق إلي تحقيق نهضة الأمة والوصول إلي غاياتها . ولذلك فإن التفوق الحقيقي للأمة الإسلامية علي الأمم الجاهلية من حولها، هو تفوقها الأخلاقي والاجتماعي، قبل أن يكون هو التفوق العسكري أو المادي، ومن ثم فلابد أن نوقن أننا حين نعيش بالأخلاق السليمة، فإننا نعد أنفسنا ( الإعداد ) الحقيقي للقيام بدور أمتنا المرتقب في قيادة البشرية .
كما لابد للتربية الإسلامية أن تربي الأمة علي أن التزام المسلم بالأخلاق الإسلامية إنما ينبع من التزامه بما يحبه الله ويرضاه، والتزامه بما يحبه الله ويرضاه إنما ينبع من تصور المسلم لحقيقة الألوهية، ومن ثم "فالأخلاق في الإسلام قائمة علي قاعدة ( العبادة لله )، وهي في ذات الوقت قيم حضارية أصيلة لأنها ذات صبغة ( إنسانية ) غير محصورة في جنس ولا لون إنما هي صادرة من ( الإنسان ) بوصفه إنساناً مؤمناً، وموجهة إلي (الإنسان ) حتي ولو لم يكن مؤمناً بما يؤمن به المسلمون "(1).
ولذلك فإن الحركة الإسلامية التي تعمل علي التغيير هي حركة ( إنسانية ) تحكم سيرها الأخلاق الإسلامية التي تتعامل مع ( الواقع ) ومع قيمة الإنسان من جهة أخري . ومن ثم فإنها ترفض الغدر، وترفض نقض الميثاق، وترفض كل ما تخالف الاستقامة علي الأخلاق الإسلامية التي تدفع الأمة إلي الأمام، وتجعلها جديرة بحمل رسالة الخير لكل البشرية .
- ومن الأخلاق التي لابد أن تتربي عليها الأمة خُلُق ( الصبر ) ..ذلك أن الصبر يضبط انفعالات الفرد فيتحرك بهدوء، ويفكر بهدوء، ويتحمل الآلام التي تقتضيها طبيعة المعركة مع أعداء الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200.
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح – محمد قطب ص 222.(1/88)
- ومن الأخلاق التي يجب أن يتربي عليها المسلم، خلق ( الرحمة والتواضع )، فأمّا الرحمة والعفو والمغفرة، فإنه يحفظ النفس من الرغبة في الانتقام التي قد تدمّرها وتدمّر الحياة من حولها ..ذلك أن الإنسان إذا تخلق بخلق العفو والمغفرة فإنه يضبط مشاعره، ويتسامي ويترفع عن المعاملة بالمثل، إلي موقف التفضل علي المسئ، وإفساح المجال له ليتراجع عن خطأه.
- وأما التواضع ..فهو النظرة الواقعية للنفس، ومعرفة حسناتها وسيئاتها، والنظر إلي الآخرين من خلال فهم النفس، والموازنة بين ما فيها من نقاط الضعف والقوة، وبين ما في نفوس الآخرين من هذه الصفات ..وهذا يؤدي بالضرورة إلي التواضع، لأنه لا يحتاج إلي التكبر إلا الضعيف ..
إن الرحمة والتواضع تجعل من الإنسان مصدراً للعطف علي الآخرين، ومنبعاً للأمن والطمأنينة يركنون إليه، وبذلك تقترب القلوب منه، ويكتسب حبها واحترامه، قال تعالي : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران 159.
وبالجملة .. لابد من أن تمتلك الحركة الإسلامية أخلاقاً تضبط مسيرتها، ولابد أن يتربي أفراد الأمة علي هذه الأخلاق تربية صحيحة، لأن التربية الخطأ تُشَكّل ( الإنسان ) الخطأ، والذي يُنْتِج المسلك الخطأ والمواقف الخطأ !!(1/89)
هذه بعض كلمات في منهج التربية الإسلامية لا تعدوا أن تكون منبهات ومثيرات للذين سوف يختارهم الله للقيام بهذا الدور العظيم ( التربية الشاملة وإحياء الأمة )، ولابد لنا هنا أن نؤكد أن الكلمات بذاتها إن نُطِقت أو كُتِبَت لا تحل محل ( الأفعال )، فضلاً عن أن تكون هي ( الأفعال ) ذاتها !! ولذلك فإنه من الضروري أن تتحول كلمات منهج التربية الإسلامية الشاملة إلي حركة وعمل جاد ومتواصل لتغيير الإنسان المسلم بطريقة لا رجعة فيها من حيث عقيدته، وقيمه، وأخلاقه.. وليكون ذلك التغيير هو مفتاح التغيير للأمة، وتصفية عقائدها وإطارها الخلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة، ورمم لا فائدة منها، فيصفو جو الأمة للعوامل الحية والداعية للحياة ويتم ( إحياء الأمة ) .. وعندها ستحمل الأمة رسالتها، وستكون التربية الشاملة هي طريقها في كل تجمع بشري يراد إخراجه من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية إلي نور الإسلام .
وبكلمة :
لا تستطيع الأمة الإسلامية حمل رسالتها للعالم، وإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده ..لا تستطيع ذلك إلا برجال من رجالها يبلغون دعوة الله، ويؤدون أمانته، ويقاتلون بمن أطاعهم من عصاهم حتي يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده ؟!
ولاشك أن السبيل إلي بناء هذا الصنف من الرجال وإحياء الأمة هو التربية العميقة الهادئة التي تصل بها قضايا الإسلام إلي القلوب، فتستعلي بأصحابها علي الشهوات والأهواء، وتكون حركتهم طبقاً لحدود الله، فيصمدون في وجه كل قوي الباطل التي تستهدف الإسلام وأمة الإسلام .(1/90)
ولكي تصل التربية الإسلامية إلي أهدافها من تربية الفرد وإحياء الأمة، لابد لها من منهاج تربوي شامل يسد الثغور علي فتنة الجاهلية ..فيرابط علي ثغر التوحيد ويدفع عنه شرك الأموات وشرك الأحياء .. ويرابط علي ثغر القيم فيفصل الأمة عن القيم الجاهلية، ويصلها بالقيم الإسلامية ..ويرابط علي ثغر الأخلاق فيقوم بـ ( الإعداد الأخلاقي ) الذي يضمن ـ إن شاء الله ـ اجتياح الإسلام للجاهلية في كل أرض .. ذلك الاجتياح الذي كان سبيله الأول ـ ولا يزال ـ التربية الشاملة وإحياء الربانية .
( ( ( (
الباب الرابع:
إحياء الأمة ..والحكم الإسلامي
ويشتمل علي ثلاثة فصول :
الفصل الأول : دور الأمة في التغيير .
الفصل الثاني : الصفوة في قلب الجماهير.
الفصل الثالث : إخراج الأمة المسلمة .
الباب الرابع
إحياء الأمة ..والحكم الإسلامي
تمهيد :
يتطلع كثير من الإسلاميين إلي السماء مبتهلين إلي الله تعالي أن يرزقهم قائداً كصلاح الدين ..ويري الكثيرون أنه لا ينقص الأمة الإسلامية للخروج مما هي فيه إلا القيادة لحكيمة وفقط !!
ولاشك أن هذا الفهم الخاطئ لدور القائد، ودور الأمة في تحمل المسؤوليات يضر بالقادة كما يضر بالأمة، فعلي مستوي القادة ينمّي فيهم هذا الفهم الفردية في التخطيط، ويجعلهم يتصارعون مع كل من يحاول المشاركة في الرأي والعمل .. وفي نفس الوقت لا يستطيع هؤلاء القادة عمل كل شئ بمفردهم، فينتهي الأمر إلي الفشل والإحباط.(1/91)
وأما علي مستوي الأمة، فإن هذا الفهم يطمس في عقول أفرادها مفهوم المسؤولية ويشيع فيهم روح التواكل علي القيادات وحدها ..فإذا دعاها الداعي إلي التضحية أجاب لسان حالها : اذهب أنت ربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .. ومهما كانت قسوة العزيمة أمام عيون الأمة فإنها تظل تنتظر حدوث المعجزة، وظهور القائد المُخَلّص الذي يغير واقع الأمة في لحظة، ويتحول بها من مؤخرة القافلة البشرية إلي قيادتها بضربة واحدة من عصاه السحرية .. بل وينفق أفراد الأمة أوقاتهم في الحديث عن هويّته وشخصيته !!
لقد غاب عن هؤلاء الذين يُعلِّقون تغيير الأمة بظهور قائد كصلاح الدين، إن صلاح الدين يوسف بن أيوب لم يقم بما قام به بمفرده، ولم ينتصر وحده والناس يتواكلون لا يريدون بذل جهد ولا تقديم تضحية .. وإنما كان مع صلاح الدين رجال يعملون ويضحون ..
وإذن فوجود القائد ليس كل القضية، وإنما هو شطر القضية، وشطرها الآخر هو (الأمة ).. ولابد من شروط في القائد وشروط في الأمة، ولابد من التفاعل والانسجام بين القائد والأمة للخروج بالأمة مما هي فيه ..
إننا لن نستطيع أن ننقذ ذريتنا من براثن الجاهلية إلا بالعمل الشاق، وتربية ( جيل ) مسلم، و ( إخراج ) أمة مسلمة . وعندما يتحقق ذلك نكون قد انتصرنا علي الجاهلية من حولنا، وشرعنا في بناء حياة إسلامية جديدة إذ بدأنا عملنا بجهود (أمة ) وليس جهد فرد واحد ( قائد ) .
( ( ( (
الفصل الأول
دور الأمة في التغيير(1/92)
ربّي الإسلام هذه الأمة علي أن مهمتها لا تنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود، وإنما لها هدف أُخْرِجت من أجله، ورسالة كُلِّفت بها هي الدعوة إلي دين الله الحق ..وحين بلغت الأمة الإسلامية ( الرشد) الحضاري، حملت رسالتها في الدعوة للخير بمعناه الواسع، والنهي عن المنكر بمعناه الواسع، وقامت بدورها في الشهادة علي الناس والقيادة لهم، فحققت قول ربها عز وجل : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران110، وقوله سبحانه : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة143
ولقد علم الله ـ وهو اللطيف الخبير ـ أن الجاهلية ستتكتل في الأرض كلها، وفي التاريخ كله ضد رسالة الأمة الإسلامية وأهدافها، ومن ثم فقد كلف الله هذه الأمة بالجهاد، فأصبح الجهاد في الإسلام فريضة من فرائضه تدفع شرور الجاهلية وتمنع الفساد في الأرض { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} البقرة251 {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} الأنفال39.
فالجهاد هو الرادع للأمم التي تعتمد الصراع أساساً في علاقاتها مع الأمم الأخرى، والجهاد هو المعالج لمضاعفات حركة هذه الأمم في الفتنة والفساد .(1/93)
والجهاد ـ في الوقت ذاته ـ هو " الأداة لتبليغ دعوة الحق، لإخراج الناس من الظلمات إلي النور، وإزالة الطواغيت من الأرض، لتعبيد الناس لربهم الحق، وتحريرهم من العبودية لغير الله " (1) . وهذا هو المعني ( الحضاري ) للجهاد، " فالجهاد يعكس مفهوم ( الأمن الإسلامي ) الذي يركّز علي إيصال الرسالة وتبليغها إلي الآخرين، بُغْية توفير الأمن الفكري والمادي والنفسي لبقاء النوع البشري ورُقِيه.. ودفع قيم الكفر التي تشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور والممارسات في ميادين السلوك والاجتماع والعلاقات.. وتشيع الفتن والمظالم السياسية، والمفاسد الاجتماعية، وترد شبكة العلاقات الاجتماعية إلي عهود الغاب والهمجية والتخلف. وبذلك كان طلب الإسلام بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلامية وإقامة مؤسساتها والإنفاق علي العاملين والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلامية فيشيع السلام ويكون الدين كله لله " (2).
ولاشك أنه ما كان للأمة الإسلامية أن تقوم بدورها وتؤدي رسالتها كما أمرها ربها : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} .. إلا إذا كانت تتمتع بـ ( المناعة السياسية ) فلا تصبر علي ظلم الملوك ن ولا تقبل استبداد الرؤساء .. بل تدرك أن لها دوراً في ترشيد الحكم الإسلامي، والرقابة علي أعمال الحاكم المسلم، وردّه إلي الحق الرباني، وعدم الرضا منه بمخالفة ما أنزل الله .
__________
(1) الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 30،31..
(2) إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد الكيلاني ص 53..(1/94)
وهذا ما كانت تدركه وتمارسه الأجيال الأولي من هذه الأمة، كانت تدرك أن المسلمين " جماعة واحدة ويدٌ واحدة وجسم واحد، وليس معني انتقاء واحد من المسلمين ليقوم بشؤون المسلمين أن الآخرين أصبحوا في حل من الاهتمام بشؤون الأمة وضاعت مسؤوليتهم بل الجميع مسؤولون علي سبيل التعاون والتآزر والتضامن والتكامل " (1) فالحكم الإسلامي عملية مشتركة بين الأمة وبين حكّامها .. بين القيادة المتسلحة بالحق، والمنتصرة به " والأمة القادرة دائماً علي الحيلولة دون تحول قياداتها إلي ( أوثان ) تقودها بدون وعي . فالأمة تراقب الحكام .. والحكام يحاولون الارتفاع إلي مستوي الحكم الإسلامي بقدر إرادتهم العازمة في تمثله في دنيا الواقع " (2).
وإذن فقد كان الذي " يتولي الأمر من بين المسلمين لا فضل له علي سائر الرعية إلا بالتقوى، ولا سلطان له عليهم إلا بأمر الله ورسوله، فليس له أن يتبوأ عرش العظمة والجلالة ويتظاهر بعلو شأنه وارتفاع منزلته، ولا يجوز أن يُخْضع رقاب الناس ويجعلهم يُذْعنون لجبروته، وكذلك ليس في مُكْنته أن يتقدم خطوة في طريق يعارض الطريق الذي أوضحت معالمه الشريعة الغراء، أو يغير ساكناً غير مستند إلي دليل من كتاب الله وسنه نبيه، ولا يقدر أن يعفي نفسه أو أحد أصدقائه وذوي قرباه من حق يجب عليه أداؤه لأي رجل، مهما يكون حقيراً أو صغيراً في المجتمع، وأيضاً لا يسوغ له أن يأخذ حبه من خردل أو يمتلك شبراً من أرض من غير أن يكون له حق فيها . وحرام عليه أن يأخذ من بيت المال ما يفضل ولو قليلاً عما بأود حياة رجل من أوساط الناس " (3) .
__________
(1) سبيل الدعوة الإسلامية – د. محمد أمين المصري ص 38.
(2) مستفاد من كتاب : إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد الكيلاني .
(3) الجهاد في سبيل الله – أبو الأعلى المودودي ص 48،47.(1/95)
ولقد كانت الأمة في العصور الأولي للحكم الإسلامي تراقب حكّامها وتراقب أي انحراف في أوضاع الحكم، وتُقيّد طاعتها للحكام بمدي تَقيّد هؤلاء الحكام بطاعة الله، فكان ميثاق الحاكم : أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم . وكان تعليقه علي منتقديه : لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها !!
ولكن الأمة الإسلامية لم تبق علي هذا المستوي السامق من حيث ترشيد الحكم داخلها، وحمل رسالتها إلي البشرية .. فقد طال عليها الأمد، فأصبحت لا تتأثر بحقائق الواقع ولا تتحرك لتغييره، وبدأ التخلي التدريجي من مجموع الأمة عن مراقبة أعمال الحكام، وانصرافها التدريجي إلي أمورها الخاصة .. حتى وصلت الأمة الإسلامية إلي الضياع والذل والهوان والهبوط المسف، الذي لا تكاد تدانيه أمه الواقع المعاصر !!
فكيف تأتي للأمة التي ارتفعت إلي القمة الشامخة التي لم تسبقها إليها أمة في التاريخ، أن تتدني إلي هذا الحضيض ؟(1/96)
لقد بدأ الانحراف ( التدريجي ) في حياة الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر من تاريخها . وبعد أن كان حكّام المسلمين في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، هم أهل الفقه والعلم والدين والعقل .. " جري التاريخ الإسلامي بما هو معلوم من انفصال بين أهل العلم من رجال الفقه والعقيدة وبين أهل الحكم والسياسة، ومن استفحال للاستبداد السياسي، الذي تجاوز قمع المعارضات السياسية، إلي قمع كل ما فيه مساس بشؤون الحكم، من الرأي العلمي المتعلق بشؤون الاعتقاد، والمعاملات العامة !! فابتعد العلماء عن المشاكل الواقعية للحياة الإسلامية العامة بدافع من التوجس من سطوة السلاطين من جهة، ومن خفوت الزخم الحضاري الحيّ، وسيرورة الحياة إلي نمط رتيب غير مثير من جهة أخري، وعكفوا علي ما بين أيديهم من موروث فقهي ثري، يعملون فيه بالترتيب والشرح والتفصيل "(1).
وهكذا كان الاستبداد السياسي سبباً في تخلي أكثر العلماء ـ إلا من رحم الله (2) ـ عن دورهم في (ترشيد الحكم ) ومجابهة الظلمة من الحكام ...واكتفوا بدورهم في المحافظة علي عقيدة أهل السنة ومنهجهم، فكان من نتائج ذلك غياب المرجعية العلمية التي تمنع تفكك الأمة، وانعزال أفراد الأمة داخل الإسلام ( الفردي ) وتحول الحكم في الدولة إلي حكم فردي تتركز فيه السلطة في يد الحاكم، ولا تتاح فيه الفرصة لمشاركة الأمة !! .
__________
(1) في فقه التدين – د. عبد المجيد النجار ص 131 .
(2) كان من بين هؤلاء العلماء : أحمد بن حنبل ، وابن تيمية ، والعز بن عبد السلام ، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.(1/97)
ولاشك أن التاريخ الإسلامي وقد حفظ في ذاكرته " أسماء لدول عظيمة بدأت بدايات جليلة كالسامانيين والغزنويين والأيوبيين والأتراك والعثمانيين، ولكنها ( كلها ) كانت ثقيلة اليد علي الناس، شديدة الطمع في أموالهم، قليلة الاهتمام بدمائهم، ولهذا توقف معظمها بعد مسير قليل، وتحولت إلي ( استبداديات ) فقيرة يتحارب أفرادها علي الملك لأنه كان الوسيلة الكبري للأموال "(1) وأدي الاستبداد السياسي لهذه الدول " إلي ضمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في المجال السياسي خاصة وتحوّل الإسلام في حسن الناس إلي ممارسة فردية بعد ضمور الممارسة الجماعية لهذا الدين – وهي ركن أساسي فيه – والتركيز علي الشعائر التعبدية علي أنها الدين ؟ّ! " (2) لقد كان عنف معاملة الحكام لخصومهم السياسيين مما أرهب الناس من معارضة أي أمر يهمّون به، فتخلي أكثر الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة لحكامهم واتجه كثير من المسلمين إلي إيثار العافية، وأعرضوا عن هذا (الواجب ) بكثرة الصلاة والصيام والذكر والدعاء ..ولسان حالهم يقول : نترك الواقع بكل ما فيه من سوء لا نتعرض لإصلاح الذات !!
__________
(1) أطلس تاريخ العالم الإسلامي –د. حسين مؤنس ص 431.
(2) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 163.(1/98)
وهكذا بقي الاستبداد السياسي الذي بدأ مبكراً جداً في حياة الأمة الإسلامية ـ حتى الدولة العثمانية التي لم يكن " الاستبداد السياسي فيها مجرد امتداد لما قبلها فحسب، بل زاد عليه ( الحزم ) الزائد الذي يمارسه العسكريون في المعتاد حين يتولون شئون الحكم ... ثم أضيف إليه نظام الإقطاع، الذي كان معمولاً به عند الأتراك في جاهليتهم قبل أن يدخلوا في الإسلام، وحملوه معهم في إسلامهم، والذي أضاف إلي طابع الاستبداد السياسي نوعاً من ( الظلم الاجتماعي ) الذي يسببه الإقطاع ، والذي يعيش فيه ألوف من البشر في حالة من التبعية الكاملة للباشوات أصحاب الإقطاعيات "(1).
ثم بعد سقوط دولة ( الخلافة ) العثمانية(2) ـ التي كان الحكم فيها في النهاية داخل دائرة الإسلام، مع شيء من الشذوذ أو المفارقة عن خط الخلافة الراشدة ـ بدأت الأمة الإسلامية حقبة تأريخية جديدة هي حقبة ( الاستعمار المباشر )، والتي حرص الاستعمار فيها علي صرف الأمة عن الجهاد، وتلهيتها بشتي الوسائل لكي لا تتجه نحوه، ولا تلتفت إليه .. ثم قام الاستعمار بنشر أخلاقيات الضعف والانسحاب والخوف، وتقوية إحساس الفرد بفرديته، وتغييب الرابطة الاجتماعية التي تشده إلي الآخرين من أفراد الأمة، فكان من نتائج ذلك أن بدأت الأمة تعاني من سيئات ( الروح الانفرادية ) التي تجعل الأمة تقف في معركة الظلم والعدل موقف ( المتفرج ) الذي لا يدعم المعركة، ولا يحارب فيها، بل يكتفي بملاحقتها بنظراته التي تنتقل بين المنتصر والمهزوم في حماس ساذج مهزوم !!
__________
(1) مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر – محمد قطب .
(2) لسنا هنا نؤرخ لأحداث التاريخ الإسلامي وإنما نرسم خطوطاً عريضة لظواهر تاريخية رئيسية كان لها الأثر الأكبر في تغييب مشاركة الأمة في التغيير.(1/99)
لقد كان أشقي ما شقيت به الأمة الإسلامية في عهود الاستعمار هو ( الخضوع ) الذي أصبح عادة للأفراد حتى رأوا فيه الطريق الوحيد إلي السلامة، وما علموا أن السلامة الكاملة كل الكمال ما سيطرت علي شئ إلا انتهت به إلي الموت، وأن الجسم الميت هو وحده الذي لا يقاوم ..ذلك " أن الفرد بادئ ذي بدء يخضع للباطل ويستسلم له، وقلبه غير مطمئن به، ثم يأخذ قلبه في الاستئناس به يوماً بعد يوم حتى يطمئن به، ويحس من نفسه ميلاً وتشوقاً إليه، وهكذا يتدرج في الركون إليه والاستئناس به إلي أن يكون عوناً له ومؤازراً في توطيد دعائمه، حتى يأتي عليه اليوم الذي لا يضن فيه ببذل النفس والمال في سبيل إقامة صرح الباطل، والصد عن الحق "(1)... وإذا بلغ الفرد هذا الحد، فلا فرق في الحقيقة بينه وبين الميت ؟!
__________
(1) مستفاد من كتاب : الجهاد في سبيل – أبو الأعلى المردودي .(1/100)
لقد حرص الاستعمار علي إبقاء الشعوب ساكنة هادئة تنعم في ( الجهالة والخضوع ) بالخيرات التي يتفضل بها السادة علي عبيدهم .. حتى إذا بدأت النذر بأن السماء قد تمطر ناراً أو دماراً علي أعداء الله، بأيدي أولياء الله .. عندها بدأ " الاستعمار الغربي في ( لعبة ) سياسية جديدة هي الانقلابات العسكرية التي يقوم بها ضباط اشتهروا بهذه الصناعة، ثم يظهرون في صورة ( الأبطال ) و ( المحررين ) الذين هبطوا من السماء لإنقاذ شعوبهم من الخضوع والذل، وإخراجهم إلي العزة والكرامة "(1) !! فإذا أسلمت الأمة قيادها لهؤلاء ( العملاء ) بدأت حكوماتهم في عزل جماهير الأمة عن المشاركة في أداء مهمات الحكم، ومارست عليها ( استبداداً ) سياسياً، فصادرت حرياتها وحقها في اختيار حكامها، بل وحقها في بناء حياتها .. ليصبح الحكم في النهاية هو أن تمارس ( فئة ) من البشر التسلط والتحكم في جماهير الأمة مستخدمة في ذلك إعلامها، وشرطتها، وأجهزتها المختلفة ..
وهكذا عاد الغرب الاستعماري ليخترق الأمة الإسلامية عبر الحكومات العميلة التي تُغْلق سبل المشاركة في وجه جماهير الأمة، فتحدث ظواهر الاغتراب، ويقل الانتماء، وتنهار قوي الأمة، وتصبح بلا أثر في الأحداث، ولا تستطيع إيقاف ( سرطانات ) الحكومات الاستبدادية التي تسير في طريق التخلف والفرقة والضعف..
__________
(1) مستفاد من كتاب : الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب.(1/101)
إن الحكومات والأنظمة العلمانية العميلة هي في مجملها نظم سلطوية يحل فيها ( الحاكم ) محل ( الأمة )، وتكون الدولة فيها هي منشئة الكيان الاجتماعي، والمتحكمة في الوضع الاقتصادي، والنظام العسكري وغيره، ولا تسمح هذه الحكومات للأمة بأدنى مشاركة فيدفع ذلك أفراد الأمة غلي اليأس من اٌلإصلاح السياسي والاجتماعي، فتكون النتيجة هي تقوقع الأفراد في دائرة الهموم الفردية، وشقاء الأمة بحكامها الذين تعودت علي الخضوع لأوامرهم، مهما كانت هذه الأوامر، كما يدق الجرس علي الفور وراء ضغط الزر واتصال التيار !!
ولاشك أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة يفرض علي الحركة الإسلامية أن تكون ( الشورى ) مقوماً في طبيعتها، وتكوين صفوفها الأساسية، وأن تبقي عندها نهجاً مبدئياً، وفعلاً إيجابياً، وأحد شروط الحياة من البداية للنهاية .. شوري حقيقية تبدأ فيها الحركة الإسلامية بنفسها وبين أفرادها، قبل أن تستخدمها كشعار في الصراع السياسي مع الخصوم .. ذلك أن هذه الشورى هي التي تربي الأفراد علي روح الإسلام التي ترفض الاستبداد، ولا تسمح للفرد أو الأقلية أن تستبد بالجماهير وتُغَلب مصالحها الخاصة علي المصالح العامة للأمة الإسلامية .
إن الحركة الإسلامية الطليعة هي التي تدرك أن الاعتماد علي سطوة الحكم ليس هو السبيل إلي إقامة الحكم الإسلامي، وإنما لابد من " منهج بطئ وطويل المدى، يستهدف القاعدة لا القمة، ويبدأ من غرس العقيدة من جديد، والتربية الإسلامية الأخلاقية " (1) التي تُخْرج الإنسان الجديد والأمة الجديدة، التي هي الأساس في حركة التغيير، وفي بناء الحكم الإسلامي بعد التغيير.
__________
(1) لماذا أعدموني ؟ - سيد قطب ص 69.(1/102)
عن المواجهة مع أعداء الله مواجهة عالمية، والحكم الإسلامي الذي نُريد إقامته سيكون مستهدفاً من كفار الأرض جميعاً، ولذلك فإنه لا يكفي " الضغط الشعبي لإقامة الحكم الإسلامي إن لم يكن ( الشعب ) الذي يمارس الضغط مستعداً للجهاد، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد، يصبر فيها علي الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات كما بيّن الله في كتابه المنزّل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}-البقرة 153-155 "(1).
وإذن فلابد من وجود ( عقيدة ) تدين بها الأمة، وقضية ( تجند ) الجماهير نفسها لها، وغاية تدفع الأفراد إلي التضحية في سبيلها .. وبغير هذه العقيدة والقضية والغاية فإن غاشية واحدة من غواشي الفتن ستثير الوهن، وتنشر التمرد في صفوف جماهير الأمة، فتخرج تلك الجماهير التي طلبت بإقامة الحكم الإسلامي لتطالب بالرخاء والحرية، وتهتف بسقوط الكهنوت والرجعية !!
إن الحركة الإسلامية الصحيحة لا تتحرك كـ ( بديل ) للأمة أو بالوكالة عنها، ولكنها تتحرك كـ ( طليعة) لجماهير الأمة، وترفع غشاوة التضليل عن عيونها، وترفع العقبات من طريقها، لتنطلق تلك الجماهير في طريق التغيير .. فالحركة الإسلامية تقوم بدور المُبَلّغ والداعي، وتضحي من أجل ذلك ومن اجل توعية جماهير الأمة .. أمّا بعد ذلك فإن الأمة هي التي تقوم بالتغيير، وهي التي تبني الحكم الإسلامي .
وبكلمة :
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 481 بتصرف .(1/103)
إن النظام الإسلامي هو النظام الذي يسمح بمشاركة الآمة في التغيير وفي الحكم، ويعد مبدأ الشورى أصلاً من أصول هذا النظام، ولذلك يختلف هذا النظام اختلافاً كلياً وجذرياً مع كل النظم الاستبدادية التي يكون الحكم فيها فردياً تستقر فيه سلطة الأمر والنهي بين يديّ حاكم فرد، ويغيب فيه دور الأمة في التغيير والحكم .
إن الاستبداد السياسي الذي هو قرين كل نظام سلطوي لا يتحقق بمجرد تسلط فرد أو حزب أو طبقة علي الأمة، وإنما هو في الحقيقة ينشأ في رحم الأمة عبر أخلاقيات الضعف والخوف، وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية، وبفعل ما يسري في الأنفس من استعداد للخضوع وقبول للاستعداد، ومن ثم فإن أخطر ما يتهدد أمة ليس تسلط المستبدين عليها، بل ( قابلية ) أفرادها للاستبداد
إن الطلائع المؤمنة ليست بديلة عن جماهير الأمة، ولكنها ذراع هذه الجماهير، وقلبها النابض، وعقلها المفكّر .. وهي تري أهداف الإسلام وتسلك السبيل القاصد إلي تحقيقها في واقع الأمة، ولكنها في ذات الوقت لا تغفل عن دور الأمة في الوصول إلي هذه الأهداف، وتدرك أن ( الأمة ) لا بد أن تكون (حاضرة ) و ( شاهدة ) في ساحة المواجهة مع أعداء الإسلام.
الفصل الثاني
الصفوة في قلب الجماهير
ظل النبي صلي الله عليه وسلم ما يقارب ثلاثة عشر عاماً في مكة، يدعو قومه إلي الإسلام، ويبني التصور الإسلامي في نفوس الجماعة المسلمة، وينشئ الشخصية المسلمة المتميزة عن الشخصية الجاهلية في عقيدتها وتصوراتها وأفكارها وقيمها وأخلاقها، وبذل النبي صلي الله عليه وسلم في سبيل ذلك أقصي جهده، ولم يفارق قومه أو يعتزل مجتمعه كافة، ويؤثر في قومه تأثيراً( إيجابياً ) كان من آثاره نشأة الجيل القرآني الفريد الذي نزل في وصفه التقرير الرباني : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .، والذي أزال الله علي يديه غربة الإسلام الأولي، وأقام علي أكتافه دولة الإسلام القوية العزيزة .(1/104)
وهكذا بدأ الإسلام ( غريباً ) عن البيئة والموروثات بكل أبعادها .. وأزال الله هذه الغربة بإيمان الأفراد ثم بحركة الأمة .
واليوم .. يعيش الإسلام غربته الثانية التي أخبر عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبي للغرباء " ـ أخرجه مسلم ـ "وكما بدأ الإسلام بالتوحيد الخالص في وجه جاهلية الشرك الشاملة، عاد في غربته الثانية يواجه جاهلية الشرك الشاملة .. وكما بدأ أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم الجولة الأولي لهذا الدين، حمل الغرباء السعداء بدعاء رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم بالحسنى – حملوا راية الإسلام ليبدأو الجولة الثانية لهذا الدين، وليخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده " (1) ولا يمكن أن ينكر من له ذرة من الإنصاف " أن الحركة الإسلامية الحديثة علي الرغم من العقبات والمحاربة والاضطهاد استطاعت إن تنقل العالم الإسلامي من حالة السكون والتأخر والمرض، إلي حالة من الوعي ومعرفة الأمراض ورصد مؤامرات الأعداء، وإثبات أن الإسلام هو دستور الكون ونظام الحياة ... كما استطاعت أن نُحَول الإسلام ومذهبيته الكونية الاجتماعية بتفاصيلها إلي سلوك عملّي تجسّد في أجيال شابة مثقفة في مختلف المستويات والشرائح الاجتماعية، حملت الإسلام بصدق وإخلاص، ورجعت إلي الله تعالي وآمنت بنبوة رسوله صلي الله عليه وسلم حقيقة، وارتضت الجهاد الشامل في مضامير الحياة كلها، من أجل استئناف الحياة الإسلامية وبناء حضارتها الربانية"(2).
__________
(1) مستفاد من كتاب : مقومات التصور الإسلامي – سيد قطب.
(2) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د. محسن عبد المجيد ص 105 .(1/105)
وفي كل مكان في الأرض التي حكمها الإسلام ذات يوم حركات بعث إسلامي، وعادة يدعون إلي الإسلام، وشباب يتطلعون إلي اليوم الذي يجدون فيه الإسلام مطبقاً بالفعل، واليوم الذي يعود فيه المسلمون إلي الاستخلاف والتمكين في الأرض في صورتهم الإسلامية الحقيقية المتميزة، تحقيقاً لوعد الله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } النور 55 (1).
ولاشك أن أخوف ما يخافه خصوم الإسلام، أن تمتد للحركة الإسلامية جذور في أوساط ( الأمة )، وأن ينشأ لها في ( قواعدها ) تأييد أو تعاطف، ولذلك فقد كانت خططهم دائماً تهدف إلي محاولة فصل الحركة الإسلامية عن جماهير الأمة، فإذا استجابت الحركة الإسلامية لهذه ( الخُدْعة )، وصنعت هوة بينها وبين جماهير الأمة تحت أيه دعوي، فقد انفصلت عن أرضها وقاعدتها، وبدأت طريق الانتحار العاجل أو الآجل !!.
إن الحركة الإسلامية الطليعة تعيش في قلب جماهير الأمة، وتعمل علي هدايتهم . وتحاول إصلاحهم، وهي في ذات الوقت لا تمالئهم ولا تذوب في شهواتهم ..فهي تدرك " أن من يعتزل الناس لأنه يحس أنه أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكي منهم عقلاً ..لا يكون قد صنع شيئاً كبيراً ..لقد اختار لنفسه أيسر السبل وأقلها مؤونة ... بل العظمة الحقيقية أن يخالط هؤلاء الناس وهو مشبع بروح السماحة والعطف علي ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلي مستواه بقدر ما يستطيع ..
__________
(1) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 11، 12.(1/106)
وليس معني هذا أن يتخلي المسلم عن آفاقه العليا ومثله السامية، أو أن يتملق هؤلاء الناس ويثني علي رذائلهم، أو أن يشعرهم أنه أعلي منهم أفقاً، بل لابد من التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد (1).
إن الداعية الإسلامي رجل يحب الناس، ويحبه الناس، فلا فجوة بينه وبينهم . وهو في حركته روح تسري في قلب الأمة فتحييها بالقرآن .. فليس هو الممسك بالعصا ليملي إرادته علي المجتمع والأمة، وليس هو الذي يُكْرِه أحداً علي أي شئ ن بل هو يسعي من أجل تحرير جماهير الأمة من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي تمارسه الأنظمة العلمانية المتغربة والغربية عن الأمة وعن دينها..
إن الحركة الإسلامية تعمل علي إزالة كل أشكال التسلط والاستبداد التي يعبد الناس فيها العباد من دون الله، ليكون ذلك إعلاناً لتحريرهم من سلطان البشر ودخولهم في سلطان الله، وعبودية الله.
ولاشك أن الحركة الإسلامية لا تستطيع الوصول إلي هذه الأهداف طالما هي حركة معزولة عن جسم الأمة، بل لابد أن تكون ( الأمة ) هي التي تجاهد في سبيل هذه الأهداف، وهي التي تواجه أعداء الإسلام " فالمعركة ليست معركة هذه الجماعة ولا تلك، إنما هي معركة الأمة الإسلامية جميعاً مع أعدائها جميعاً .. فالخصومة قائمة أصلاً بين أعداء الله وبين الإسلام ..
__________
(1) أفراح الروح – سيد قطب بتصرف.(1/107)
ومقتضي ذلك أن تعلم الحركة الإسلامية أن النصر لا يتم والمعركة قائمة بين الأعداء وبين جماعات منعزلة هنا وهنالك، تستفرد بها الوحوش الضارية وتغتالها علي تمكن ولكنه يتم –بتوفيق الله –حين تصبح المعركة هي معركة (الأمة الإسلامية ) "(1) فالعمل الإسلامي جهاد ( أمة ) وليس جهاد (حزب ) أو ( جماعة ) أو ( تنظيم )، ومن ثم فإنه من الضروريّ أن تقوم الحركة الإسلامية بـ ( تجنيد ) الأمة بمختلف طوائفها لتقود بها معركة ضارية في مواجهة العلمانية .
ولكي تصل الحركة الإسلامية إلي تجنيد الأمة لابد لها أن تقوم بترتيب أولويات العمل الإسلامي، ومراعاة هذا الترتيب في دعوة الناس، وفي تنظيم مراحل الهدم للواقع الفاسد، والبناء للواقع الإسلامي الصالح، ولابد أن يظهر ذلك في كل ما تتبناه الحركة من أفكار، ومنهاج للتربية، وأسلوب للحركة .
فأمّا ( الأفكار ) التي تنشرها الحركة الإسلامية فلابد أن تكون ملكاً للأمة، وليست حكراً علي النخبة أو الصفوة، ولابد أن تكون باللغة التي تفهمها الجماهير، وفي ذات الوقت فإنه من الضروريّ أن تكون أفكار الحركة الإسلامية أفكاراً ريادية تحل مشكلات الواقع، وترسم خطة المستقبل الأفضل .. فإذا كانت كذلك فإنها تتحول –بإذن الله ـ بإذن الله ـ إلي تيار جماهيري كاسح يُغَيّر بجهاده المستمر العنيف أسس الجاهلية الفكرية والخلقية والثقافة السائدة في الحياة الاجتماعية، ويأتي بنيانها من القواعد .
وأمّا ( منهاج التربية ) في الحركة الإسلامية فإنه يقوم أساساً علي تربية الأفراد علي روح الائتلاف مع الأمة، والارتباط بجذورها الشعبية، وعدم العزلة عنها أو مفارقة طوائفها .. بل مخالطة الناس والصبر علي آذاهم لأن ذلك أرضي لله، وأنفع لعباده من الاعتزال والفرار من الميدان .
__________
(1) مفاهيم ينبغي أن تصحح –محمد قطب ص 365.(1/108)
ولا شك أن هذا المنهاج التربوي سيكون له الأثر الأكبر في إخراج دعاة إلي الحق لا يفرّقون بين أي فرد في الأمة، وإنما يأخذون الجميع إلي مرضاة الله عز وجل، دعاة إلي الله لا يحصرون أنفسهم بين الجدران، بل يتغلغلون في الأمة، ويتّصلون بأفرادها اتصالاً مباشراً، يبسّطون لهم فيها قضية الإسلام، ويدرأون عن دعوتهم ما ألحقه بها الطواغيت المبطلون .. فيكون لذلك أثرٌ قويٌ في تفتييت خصوم الإسلام، وكسب المؤيدين والأنصار من الأمة .. تلك الأمة التي لم تفقد ايجابيتها في مواجهة العلمانية، وما زالت تتشوق للفترة التي تحكم فيها الإسلام وتحلم بها .
وأمّا ( أسلوب التحرك ) الذي تسير وِفْقَه الحركة الإسلامية، فهو إقامة شبكة متكاملة من العلاقات والروابط، ومد جذور التواصل مع مختلف طبقات الأمة بحيث تصبح العلاقات بين ( صفوة ) الحركة الإسلامية و (جماهير ) الأمة، هي علاقة إيجابية تقوم علي الحب المتبادل، وتكامل الطاقات لصالح الإسلام.(1/109)
ولاشك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام " امتلاك القدرة علي فقه التعامل مع المجتمعات والانفتاح أكثر، وفتح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قدر أكبر من المرونة مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف والتقدير للإمكانيات، والخروج من العزلة التي كادت تحيط بهم لتجعل منهم جسماً غريباً منفصلاً عن جسم الأمة، وتجعل لهم أهدافاً منفصلة أيضاً عن أهداف الأمة، الأمر الذي يسهّل علي أعداء الإسلام ضربهم، ومن ثم القضاء عليهم تحت شتي العناوين والشعارات ... إن فقه التعامل مع المجتمعات الذي نرمي إليه لا يعني أبداً التعاون معها علي ما هي فيه من قيم وتشريعات بعيدة عن الإسلام، كما لا يعني أبداً أن يكون دعاة الإسلام دماً جديدة في قوة الباطل، أو أن يُوَظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني النزول إلي الساحة وفهم واقع الناس حتى يجئ الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم، ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وأنهم خليقون بالشفقة والإنقاذ " (1) كما، هم حين يُجَنّدون في معسكر الإسلام، وينحازون إلي صف الحركة الإسلامية لا يمكن أن تقهقرهم قوة في الأرض لأن انتصارهم حينئذ يتم بسنة جارية، وسنة الله لا تتخلف حين توجد شروطها التي بينها الله : { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } محمد7.
__________
(1) ،(2) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي .(1/110)
" إن استعلاء الإيمان الذي أراده لنا الإسلام بقوله تعالي : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } آل عمران139 لا يعني بحال من الأحوال الكبر والاستكبار والترفّع عن الناس والهروب من الساحة، وإنما يعني التواضع ولين الجانب والمرونة والابتعاد عن الفظاظة والغلو الذي يعين الشيطان علي إبعاد الناس عن الإسلام ويؤدي إلي المساهمة السلبية في التنكر لهذا الدين وأتباعه . إن المطلوب هو فقه التعامل مع المجتمع لإنقاذه، وليس التعاون معه علي الباطل، أو النكوص عن الدعوة والهروب من الساحة، والحكم علي الناس غيابياً " (1).
إن الحركة الإسلامية الطليعية تحصر دائرة صراعها مع الأنظمة العلمانية التي تجتال الناس عن دينهم، وتحمل الأمة علي التحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلي غير ما أنزل الله .
ولا تنقل الحركة الإسلامية الطليعية صراعها ومعركتها إلي الأمة التي يقع عليها الكثير من المظالم مثل ما يقع علي الحركة الإسلامية، والتي تتطلع كما تتطلع الحركة الإسلامية لليوم الذي تُحْكَم فيه بالإسلام، وبشريعة العدل الرباني .
إن الحركة الإسلامية التي تنفذ إلي أعماق الأمة تمتلك السلاح الأقوى في الصراع بين الإسلام والعلمانية، لأنها تمتلك قلوب الجماهير، بأخلاقها الحسنة وأفعالها الطيبة، وليس برؤوس الحراب أو طريق الإرهاب .. أمّا الأنظمة العلمانية فإنها تحكم الأمة بنظم عسكرية قهرية، بل وعُصْبَوية !! ولذلك فهي معزولة عن الأمة، ومرفوضة من الجماهير .
ولاشك أن الضغط علي هذه الأنظمة المعزولة عن جسم الأمة لا بد أن يصيبها بالانهيار وخاصة إذا كان الذي يضغط عليها هو (الأمة )، وليس الجماعة أو الحزب أو التنظيم المعزول عن أرضه التي ينبت فيها، وقاعدته التي يستند إليها، وهي الجماهير المؤمنة .(1/111)
إن العمل الإسلامي لا بد أن يكون حركة إسلامية جماهيرية، قادتها العلماء المخلصون المجاهدون، وتحت لوائها جماهير الأمة وفصائل العمل الإسلامي جميعها، ولا يمكن أن تتكون هذه الحركة الجماهيرية إلا إذا كانت (صفوة) العمل الإسلامي في قلب ( جماهير ) الأمة .
وبكلمة :
لا يستطيع منصف إلا أن يثني علي الحركة الإسلامية الحديثة لدورها التاريخي الذي تقوم به تجاه الإسلام وتجاه الأمة الإسلامية . ولا شك أن هذه الحركة لا تقدر علي القيام بدورها ومسؤولياتها كاملة إلا إذا كانت تمتلك رصيداً جماهيرياً في الأمة، وتستند إلي قاعدة شعبية قوية تدخل بها دائرة الصراع مع الأنظمة العلمانية لإقامة الحكم الإسلامي . ولكي تحقق الحركة الإسلامية ذلك الرصيد الجماهيري لابد لها أن تشق طريقها نحو الأمة أكثر وأكثر، ولابد لها أن تدخل في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للأمة، وتُوَظف كل ذلك لخدمة أهداف الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية .
( ( ( (
الفصل الثالث
إخراج الأمة المسلمة
يعلق الكثير من الإسلاميين آمالهم بـ ( القائد الوحيد ) الذي يظنون أن بيده تغيير واقع الأمة الإسلامية والانتقال بها من مؤخرة القافلة البشرية إلي قيادتها !! وتعتمد أكثر الحركات الإسلامية علي كفاءات الفرد القائد وقدراته الشخصية، ولذلك يكون غياب هذا القائد سبباً في اندثار تلك الحركات، أو علي أقل تقدير تحول اتجاهها؟!(1/112)
" ولاشك أن للقائد أهمية كبيرة في التغيير، ولكنه ليس كل القضية، وإنما هو شطر القضية، وشطرها الآخر هو وجود ( الأمة )، ولابد من شروط في القائد وشروط في الأمة، والتفاعل بينهما، لكي يتم التغيير وفق سنة الله الجارية : : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11 تلك السنة التي تربط التغيير بتغيير ما بـ ( قوم ) أي ( أمة )، وليس ما بـ ( فرد ) أو ( قائد ) " (1).
" إن الحركات الإسلامية ينبغي أن تدرك أنها لن تصل إلي شيء من أهدافها ـ وهدفها هو تطبيق الإسلام في دنيا الواقع، وتحكيم الشريعة الربانية ـ طالما هي جماعات معزولة عن جسم الأمة ... بل لابد أن تكون الأمة هي التي تجاهد " (2) لكي يقوم حكم الله ولكي يستمر في الوجود بعد ذلك، ولذلك فإن كل صدام مع السلطة لإقامة الحكم الإسلامي ـ قبل وجود الأمة ـ هو في الحقيقة عبث غير مبني علي بصيرة ولا تدبر .. بل هو يصادم سنة الله في التمكين والاستخلاف في الأرض، والتي لا يمكن أن يتغير نظامها ويتبدل " بمجرد فرد صالح أو أفراد صالحين مشتتين في الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم أولياء لله تعالي، لأن الله لم يقطع ما قطع من الوعد بالتمكين لأفراد مشتتين، وإنما لجماعة منسقة متمتعة بحسن الإدارة والنظام قد أثبتت نفسها فعلاً ( أمة ) وسطاً، أو خير أمة في الأرض "(3) .
وإذن فلابد من بعث الأمة لكي يؤدي الإسلام دوره في قيادة البشرية، ولكي يقوم الحكم الإسلامي في الأرض .. فكيف يمكن بعث هذه الأمة ؟
__________
(1) راجع إن شئت ( قائد وأمة ) – مقال للمؤلف بمجلة " البيان " – العدد 22 .
(2) الجهاد الأفغاني ودلالاته –محمد قطب ص 99..
(3) قدر الدعوة –رفاعي سرور ص 278.(1/113)
بادئ ذي بدء نقول : " إن الأمة ليست أكواماً بشرية، وإنما هي نسيج اجتماعي، تحكمه قوانين بناء الأمم، وصحتها، ومرضها، وموتها، وتتلاحم مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله ( إخراج الأمة المسلمة )، وقيامها بوظائفها، طبقاً لحاجات الزمان والمكان "(1) . فالأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه وهي تُخْرَج إخراجاً للقيام برسالة ووظيفة ما، وهذا الإخراج يقتضي فهم السنن والقوانين إلي تطبيقات عملية في أفكار أفراد الأمة وفي أخلاقهم، ومن قبل ذلك ومن بعده في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط هؤلاء الأفراد، وتوجه نشاطاتهم في اتجاه رسالة الأمة .
" وقد بيّن الله عز وجل في محكم تنزيله السنن الأساسية، التي علي نهجها تمضي سيرة المجتمعات، فتسمو أو تنحط أو تبيد .. وقد كان لهذا التوجيه الرباني الحكيم تأثير عظيم في تكوين الأمة الإسلامية منذ نشأتها، فقد أولي المسلمون منذ بداية الدعوة جُل اهتمامهم لتلك السنن، وكانوا يسترشدون بها في شئون حياتهم المختلفة مما أدّي بالنتيجة إلي تماسك المجتمع الإسلامي الوليد حينذاك، وأدي كذلك إلي ترسيخ المفاهيم الحضارية في كل المجتمعات، التي دخلها الإسلام بعد ذلك "(2).
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة –د . ماجد عرسان الكيلاني ص 14،13.
(2) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق – د. أحمد كنعان ص 148.(1/114)
وتُعَد دعوة الإسلام أنموذجاً متفرداً من حيث الاستفادة من فقه السنن التي تحكم بناء الأمم " فقد استطاعت هذه الدعوة أن تحقق خلال عمرها القصير، الذي لم يتعد عقدين ونيفاً من السنوات، مأثرة في التغيير ما زالت آثارها باقية حتى يومنا هذا، وسوف تبقي كذلك إلي آخر الزمان .. فقد غيّرت هذه الدعوة القبائل العربية التي كانت تعيش علي الغزو والسلب والنهب، فجعلت منهم أمة واحدة، يسود بين أفرادها المََوَدّة والرحمة والتعاطف والتكامل، بحيث أصبح المجتمع الإسلامي جسداً واحداً، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .. وهكذا نقلت هذه الدعوة العرب من المرحلة القبلية، إلي مرحلة الأمة، في سنوات قليلة لا تعد شيئاً في عمر الزمان "(1) وكانت هذه الأمة بشهادة الله عز وجل هي خير أمة أُخْرِجت للناس، لا عن مجاملة أو محاباة، بل لأنها تحمل خير رسالة للناس، وتتحمل في تلك الرسالة المتاعب والمشقات، وتجاهد في سبيلها، وتضع في خدمتها كافة إمكاناتها ومصادرها البشرية والمادية والمعنوية .
" إنها الأمة التي قال عنها خالقها سبحانه : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. إنها الأمة في معناها الحقيقي الذي لم يتحقق في أي تجمع آخر من تجمعات التاريخ . إنها أمة العقيدة .. ذات الرباط الحقيقي الذي ينشئ الأمة في صورتها الحقيقية "(2). غنها الأمة التي كان إيمانها جهاداً في عالم الواقع، لا مجرد كلمة تنطق ولا وجداناً مستتراً في الضمير .. ولذلك أحياها الله بهذا الإيمان فكانت هي الأمة الحية الكريمة التي لا تستنيم للذل ولا ترضي الضيم .
ولقد توالت أجيال من هذه الأمة علي هذا النسق الرائع .. الجنسية فيها العقيدة والوطن فيها دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن .
__________
(1) المصدر السابق –ص 163،162.
(2) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 54.(1/115)
ثم بدأ الانحراف التدريجي في الأمة الإسلامية حتى هبطت من موقع الذروة والقمة الشامخة، إلي الحضيض والغثاء الذي أخبر عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعي عليكم الأمم، كما تداعي الأكلة إلي قصعتها " . قالوا : أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم كغثاء السيل" ـ أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح .
" وهكذا دخلت الأمة الإسلامية مرحلة ( القصعة ) وتداعت عليها الأمم، وأحاط بها الأعداء، وأوصلوها إلي الشتات والفرقة والهزيمة الداخلية .. بل والوهن والاستكانة وفقدان الانتماء للأمة، وانعزال كل فرد في داخل نفسه وفي همه الفردي "(1) !! مما أوقع الأمة في هوّة التخلف الذي هو المقام الأول تخلف ديني وعقائدي، وهو المقام التالي تخلف مدني ..
__________
(1) ماذا بعد موقعة الخليج ؟ - مقال للمؤلف بمجلة البيان العدد 35 ص ص 64 .(1/116)
ولاشك أن التخلف الديني في الأمة الإسلامية قد بلغ عبر تراكم السنين درجات خطيرة حتى " أصبح البون شاسعاً بين حاضر الأمة وماضيها الراشد، وغابت السنن، وتشوشت العقائد، واضطربت الأفهام، وانعزل الفقه التشريعي وديس بالأقدام، وتجرأ عليه الأراذل، حتى أهل المجون والمومسات .. وعلت أحكام الجاهلية، ودان بها الناس تطوعاً وكرهاً، أو من غير مبالاة، وتغلغلت البدع والخرافات والترهات، مما جعل الدين غريباً في أهله، وأصبح من يتضلع بمجابهة هذا الواقع، والعمل فيه لنصرة الدين، هو بمثابة من يحي أمة ماتت أو تكاد "(1). ولذلك فإن العمل الإسلامي اليوم في أمس الحاجة إلي ( فقهاء ) يبذلون أقصي الجهد في فهم سنن الله الجارية التي تحكم بناء الأمم، ولابد لهم مع هذا الفهم من الوعي بما يجري في الواقع، ومعرفة حاجات الأمة الإسلامية والتحديات التي تواجهها، ليكون ذلك هو العامل الأساسي في تحقيق شرط ( الصواب ) في إستراتيجية الرجوع إلي إخراج الأمة المسلمة من جديد .
ولاشك أن الإستراتيجية الصائبة لإخراج الأمة المسلمة، ليست هذه التي تري أن الفرد النابغ هو سبيل التغيير، فتهتم بتربية هذا النوع من الأفراد !! كما أن الإستراتيجية الصائبة، ليست أيضاً تلك التي تري أن الفرد لا قيمه له إذا كان المجتمع يسير في اتجاه معين، لأن الفرد لايستطيع تغيير المجتمع !! بل الإستراتيجية الصائبة في عملية إخراج الأمة المسلمة هي تلك التي تعطي الفرد أهميته، وتعطي المجتمع أهميته في توازن دقيق، لأن الفرد يؤثر في المجتمع كما يؤثر المجتمع في أفراده .
__________
(1) فقه الخلاف – جمال سلطان ص 44.(1/117)
إنه لطول الهوان الذي أصاب الأمة الإسلامية، أصبح كل فرد فيها يعيش في داخل همه ولم يعد الحس الإسلامي حساً حياً وجماهيرياً يعيش قضايا وهموم الأمة .. كما أن ( الخضوع ) لسلطان الاستعمار ـ المباشر أو غير المباشر ـ أصاب شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة، فأصبحت تعاني من سيئات الروح الانفرادية في القرارات والمواقف ؟!
ومن هنا وجب علي العاملين في ميادين إخراج الأمة المسلمة، والاهتمام ببناء ( الإنسان ) المسلم، وترميم شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة، ليؤدي ذلك في الواقع إلي تجسد ( الأمة الإسلامية ) في بناء اجتماعي واقعي، يلبي حاجات الأمة، ويواجه تحدياتها القائمة، وفي صورة تتفق أو تقترب من قول النبي صلي الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ". ـ رواه البخاري ـ وقوله صلي الله عليه وسلم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه مسلم.
ولاشك أنه لا يمكن الوصول إلي هذه القمة السامقة إلا " بدعوة التوحيد الواضحة علي ما كان عليه القرون الثلاثة الأولي قبل تشعب الأهواء واختلاط العقائد وذلك عبر مراحل :
( الانتصار للتوحيد ) بتصحيح مفهوم العقيدة، وتخليصها مما شابها من علوم الكلام، وأفكار الفرق الضالة من مرجئة وخوارج وغيرها .
( ملء الفراغ الديني ) بدعوة الناس إلي أن يقيموا حياتهم علي قاعدة الإسلام .
( إحياء التوجه الإسلامي ) بالانطلاق بعقيدة التوحيد انطلاقاً جاداً يتربي فيه الأفراد علي القيم والأخلاق الإسلامية ، ويدرسون خط سير الإسلام مع كل المعسكرات والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة مع معسكرات الأعداء .(1/118)
فإذا وصل الأفراد إلي ذلك المستوي السامق من الفهم والخلق، فقد تكوّن لدينا جيل ( الصفوة ) الذين علي أكتافهم تقع مسؤولية تكوين وتربية الدعاة الصادقين، والذين عبرهم يتم بعث الأمة المسلمة وإحيائها من جديد " (1) .
لابد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية بدعوة التوحيد ليتم ( إخراج ) الفرد المسلم بنفس الطريقة التي أخرجت جيل الصحابة .. الجيل القرآني الفريد .. ثم تقوم الحركات الإسلامية بإحياء الهوية الإسلامية التي تُمَثل محور الاستقطاب القوي الذي يجمع شتات أفراد الأمة و( يُخْرِج ) منهم أمة ذات ولاء ثابت، وهوية متميزة تحفظ الأفراد من التبدد والضياع، وتحفظ الأمة من أعدائها، وتجعلها قادرة علي حمل رسالتها، وتحمّل أعباء تلك الرسالة .
إن ( إخراج الأمة المسلمة ) هو العلاج الحاسم لمرض الطغيان، والوقاية الحقيقية لكل المسلمين من نماذج الأمم الطاغية التي تُخْرِجها الأنظمة العلمانية والتي يُرَاد بها حرق ( المستضعفين ) من المسلمين في أتوان الظلم والقهر والاستعباد .
إن الحركة الإسلامية الطليعية لا تدخل في صراع مع أعدائها في غيبة الأمة، بل تواجههم بـ ( الأمة المسلمة) بعد إحيائها وإخراجها من الالتباس والاغتراب، فتكون مواجهتها لهم مواجهة قوية، وليست مواجهة ( غرباء ) لا يجدون من يقف معهم، وينتصر لهم !!
__________
(1) ماذا بعد موقعة الخليج ؟ مقال للمؤلف بمجلة البيان، العدد 53 ص 66 .(1/119)
إن الحركة الإسلامية الطليعية تقوم في سبيل إحياء الأمة المسلمة بتوسيع دائرة العمل الإسلامي إلي أبعد حد ممكن، وتعمل علي تصحيح المفاهيم الإسلامية عند العامة من المسلمين، وتربط قيم وأخلاق هؤلاء المسلمين بهذه المفاهيم الصحيحة، وتقوم بإعداد كل فرد في الأمة ـ إن استطاعت ـ إعداداً عقائدياً وتربوياً يُشْعِره أنه ( هو ) المسؤول عن تغيير واقع الأمة المسلمة، وليس ( غيره) .. وأنه يملك القدرة علي التغيير إذا سعي إليه .. وأنه لابد أن يؤدي واجبه في التغيير متحملاً في سبيله الآلام الجسام، مغالباً تلك الآلام، ومستمداً من عقيدته القوة علي مواجهة أعدائه مواجهة تمتد جذورها باتجاه بدر والأحزاب وخيبر، مواجهة لكل القوي المتربصة بالأمة، والتي تتجمع لمنع المارد الإسلامي من اكتساح العمالة والجهل والاستعمار في كل صُوَره .
ولاشك أن هذا الهدف يحتاج من الحركة الإسلامية إلي الصبر علي الطريق الشاق البطئ الثمرة، لأن الأمة تتكون ببطء، " لا تتوقف عن النمو، وذات يوم لا يعلمه إلا الله سبحانه، ستصبح هذه الأمة بندقة صعبة الكسر .. وعندئذ ـ بسنة الله الجارية ـ سيدخل الناس في دين الله أفواجاً، وسيجد العدو نفسه لا أمام جماعة منعزلة يحصدها حصداً وهو مطمئن، إنما أمام ( أمة ) قد اجتمعت علي إرادة موحدة .. فيجري قدر الله بما تفرح به قلوب المؤمنين"(1).
وبكلمة :
__________
(1) واقعنا المعاصر –محمد قطب ص 461 بتصرف يسير.(1/120)
الأمة هي الرادع والمانع لكل منحرف ولكل انحراف، فهي التي تقف مع الحق وضد الباطل، وهي التي تكف أيديها وتمتنع عن مشاركة الظالمين، بل وتأخذ علي أيديهم للحق، ولذلك فإن الطريق إلي إقامة الحكم الإسلامي هو ( إخراج الأمة المسلمة ) .. وذلك بدعوة الأمة إلي التوحيد، وملء الفراغ العقيدي في الأمة، ثم إحياء الهوية الإسلامية التي تستقطب أفراد الأمة، وتُخْرِج منهم أمة ذات ولاء ثابت، وهوية وشخصية متميزة .. وهذه الأمة بتلك المواصفات هي التي تستطيع مواجهة أعدائها، وتقدر علي أن تجرف في طريقها الأنظمة العلمانية ( الورقية ) وتلقي بها في مزابل التاريخ .
إن إحياء الأمة الإسلامية هو الذي يجعل للحركة الإسلامية قوة الضغط علي الباطل والجاهلية، حتى يُسَلّم هذا الباطل أو يزول : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}الحج4.
فإذا أردنا للأنظمة العلمانية التلاشي، وإذا أرادت الحركة الإسلامية لـ ( الخندق ) العلماني الاندثار، فإن الطريق إلي ذلك هو الإحياء الإسلامي الكبير الذي ينساب في خلايا المجتمع ويسري في روح هذه الأمة فيحييها بالقرآن .
( ( ( (
الباب الخامس:
الطليعة المؤمنة..وقيادة الأمة
ويشتمل علي أربعة فصول :
الفصل الأول : فقهاء لا خطباء .
الفصل الثاني : صفوة العلم والوعي .
الفصل الثالث : روح الفريق والمبادرات الذاتية .
الفصل الرابع : طليعة المجتمع الحيّ .
الفصل الأول
فقهاء لا خطباء(1/121)
كانت ( الفكرة ) والعقيدة هي أساس الدعوة الإسلامية، فأقبل عليها من وهبهم الله الذكاء وتوقد البصيرة، وآمن بها ( أولو الألباب ) الذين ترقي عقولهم إلي تذوق الأفكار، وترقي نفوسهم فوق التلهي بالحاجات اليومية الصغيرة التي تدور حول الغذاء والكساء والمأوي !!
وحين نجحت الدعوة الإسلامية في إقامة الدولة، كانت هذه الدولة هي دولة ( الفكرة ) وتولي قيادتها ( أولي الألباب ) و ( الفقهاء ) الذين أحسنوا استعمال قدرات الأمة ودفعوا بها إلي التمكين والنصر، فأصبحت هي أمة الريادة البشرية التي بسطت جناح رحمتها علي المجتمع البشري كله .
وهكذا هي كل أمة يتولي زمام أمورها ( فقهاء ) يفقهون قوانين بناء المجتمعات ويحسنون تطبيق هذه القوانين، فتتقدم أممهم وتنتصر " أمّا الأمة التي يتولي زمام أمورها ( فقهاء ) يفقهون قوانين بناء المجتمعات ويحسنون تطبيق هذه القوانين، فتتقدم أممهم وتنتصر " أمّا الأمة التي يتولي زمام أمورها ( خطباء ) يحسنون التلاعب بالمشاعر والعواطف، فإنها تظل تتلهي ( بالأماني ) التي يحركها هؤلاء الخطباء، حتي إذا جابهت التحديات لم يفقهوا ما يصنعون، وآل أمرهم إلي الفشل وأحلوا قومهم دار البوار " (1) .
ولأن القيادة في الأمة بهذا القدر من الأهمية فإن الإسلام يضع لها مواصفات خاصة وشروطاً دقيقة، لكي يضمن سير الأمة في الطريق الصحيح، ويحول دون تصادم وتناقض الأفكار والنشاطات في المجتمع مما يخلق العقبات أمام تقدم المجتمع، ويؤدي به إلي التخلف .
ولو نظرنا إلي الأمة الإسلامية اليوم لوجدناها تعاني من التخلف الشامل، وتزحف وراء غبار الركب البشري مع الزاحفين المنقطعين !! رغم رسالتها الإلهية العظيمة وما حباها الله عز وجل من موارد هائلة وإمكانات عظيمة، رغم كل ذلك فهي فريسة الأمراض المادية والمعنوية من الداخل، وفريسة الغزوات من الخارج ؟!
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 267.(1/122)
ولاشك أنه في مقدمة الأسباب التي أدت بالأمة إلي هذا الواقع الأليم، أن الذين يتولّون أمور الأمة ( خطباء) لا فكرة لديهم إلا الاستبداد والسيطرة بالقوة، ولا يملكون روابط إلا روابط العصبية والحمية الجاهلية، ولا ( فقه ) لديهم لتقدير المواقف التي تمر بها الأمة، واستعمال قدراتها لمواجهة تلك المواقف !!
وهم لا يملكون عند سماع نذير الصراع مع أعداء الأمة، إلا التشنج وإلقاء ( الخطب )، مقلّدين في ذلك إمامهم الأول أبا جهل الذي لم يفعل شيئاً حين سمع نذير المعركة مع المسلمين في بدر، إلا " التشنج وإلقاء ( خطبته) النارية التي قال فيها : والله لا نرجع حتي نرد بدراً، فنشرب الخمر، وتغنينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا فلا يزالون يهابوننا أبداً !! "(1).
وكما فعل أبو جهل، فعل ورثته من ( الخطباء ) ورأينا أحدهم حينما انطلق نذير الصراع في احدي معارك الأمة، يطبق ارتجالية أبي جهل، ويلقي ( خطبة ) نارية يقول فيها : والله لا نرجع حتي ندخل تل أبيب، وتغنينا أم كلثوم، ونهزم إسرائيل ومن وراء إسرائيل !!
إن هؤلاء ( الخطباء ) لا يفقهون " أن قوة المجتمعات إنما يحققها تكامل ( الفكرة والسياسة )، وتلاحم جهود الممثلين لكل منها طبقاً لقاعدة معينة خلاصتها أن السياسة تدور في فلك الفكر وانه حين تنعكس هذه القاعدة تبدأ الحضارات في التخلف، والمجتمعات في الضعف حتي تؤول إلي الانحطاط والانهيار "(2).
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين – د. ماجد عرسان الكيلاني ص 268.
(2) المصدر السابق ص 278.(1/123)
ولأنهم لا يفقهون هذا القانون من قوانين بناء المجتمعات، فهم علي قطيعة دائمة مع رجال الفكر، بل إن هذه القطيعة قد ترتفع إلي درجة الصدام وتحطيم الرؤوس المُفَكّرة، حتي إذا إنفرد رجال السياسة في معارك التحديات مضوا مكبين علي وجوههم ـ إلا من حداء المنافقين من الإعلاميين والصحفيين ـ ووقعوا ضحية الارتجال والجهل والهوى وآل أمرهم إلي الحبوط والفشل الذريع .
إن حاجة رجال السياسة إلي رجال الفكر حاجة شديدة وماسة، لأن الفكر هو الذي يمد القيادة السياسية بالسداد وحسن التدبير، ولذلك فإن الانشقاق بين رجال الفكر ورجال السياسة هو في حقيقته تدمير للقيادة الحكيمة في المجتمع، وتركه فريسة للأهواء والجهالة والارتجال .
ومن هنا فإن الأصول السياسية الإسلامية تؤكد أن " (ولي الأمر ) الذين قرن القرآن طاعتهم بطاعة الله والرسول هم : العلماء والأمراء، وليسوا الأمراء أو الحكام وحدهم .. بل إن ابن تيمية بعد أن يقدم عرضاً مطولاً لتفاسير علماء الصحابة لمعني ( أولي الأمر ) يؤكد أن رأي الأكثرية هو أنهم العلماء وحدهم . وأن العلاقة بين رجال الفكر ورجال السياسة يضبطها قول الله عز وجل : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ـ الحديد25 ـ.. فقوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر{ وكفي بربك هادياً ونصيراً} الفرقان 31.
ودين الإسلام : أن يكون السيف تابعاً للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعاً لذلك، كان أمر الإسلام قائماً .. وأمّا إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب، وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك ...(1/124)
ولقد كان عصر النبوة والخلافة الراشدة تطبيقاً للمعادلة القرآنية بين رجال الفكر، ورجال القوة . فقد كان (فقهاء الرسالة ) يتصدون مواقع الإمامة في الأمة ابتداء من إمامة الصلاة، حتي إمامة المجتمع كله .... وكان النبي صلي الله عليه وسلم دائم التحذير من اختلال المعادلة بين رجال العلم، ورجال القوة، ومن خطورة هذا الاختلال علي مستقبل الأمة المسلمة ، ومن ذلك قوله : " خذوا العطاء مادام عطاء فإذا صار رشوة في الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم الفقر والحاجة . ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم مالا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم " . قالوا : يا رسول الله كيف نصنع ؟ قال : " كما صنع أصحاب عيسي ابن مريم، نشروا بالمناشر، وحملوا علي الخشب . موت في طاعة الله، خير من حياة في معصية الله " (1).
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 99.(1/125)
ولاشك أنه من الموضوعية أن نقول إن اختلال المعادلة بين رجال الفكر، ورجال القوة في الأمة الإسلامية، لا يقتصر علي الدول وإنما يشمل أيضاً ( بعض ) الحركات والتجمعات الإسلامية " فهذه أيضاً تفترض العلم والحكمة والقدرة علي التنفيذ في أصحاب القوة والثروة والمكانة الاجتماعية من أعضائها، في الوقت الذي تفتقر إلي المؤسسات المتخصصة بالفكر والبحث العلمي، فالفكر في أوساطها قضية ونفقاته الخاصة حتي إذا نضج فكره وشاع، استثمرت أفكاره لكسب مزيد من التأييد والانتشار "(1) . وحيث ينتهي أمر المفكر ويتوقف إنتاجه ولا تحظي أفكاره بالقبول، أو يصيب التطرف تطبيقاتها، تتبرأ الجماعة من المفكر وأفكاره، وتلقي المسؤولية عليه وحده .. وتعود إلي الحركة القائمة علي الارتجال وردود الأفعال لما تطرحه مؤسسات الإعلام المحلية والعالمية .. فتقتصر دعوتها علي الخطابة والانفعال القائم علي جهل بالنفس البشرية ومفاتيحها .. وتصبح وليس لديها " مؤسسات لإخراج من يدعو بـ ( الحكمة ).. أو مؤسسات لإعداد المفكرين المختصين بـ( الجدال الأحسن ) الذين يخاطبون الفكر الإنساني كله بـ ( أحسن ) مما عنده، كما تفتقد هذه الحركات أية مؤسسات لـ ( شهود ) ما يجري في قرية الكرة الأرضية، و(قراءته ) قراءة راسخة محيطة تمهد لـ( حكمة ) التخطيط والتنفيذ "(2) القادرة علي الإفادة من سنة التدافع الحضاري، وتسخير التخصص في خدمة الفكرة والعقيدة .
__________
(1) المصدر السابق . ص100 بتصرف يسير.
(2) المصدر السابق –ص 158(1/126)
ولكي تصل الحركة الإسلامية إلي هذه ( الحكمة ) في التخطيط والتنفيذ، فإنه من الضروري أن تُوقِف التباري بين فصائلها في القدرة علي الخطب والحماس ورفع الأصوات وسماكة الحناجر .. وتبدأ بداية جادة في علاج واقعها وواقع الأمة الإسلامية، فتضع في قمة أولوياتها " إفراز ( فقهاء) يحلون محل ( الخطباء ) لتحليل المشكلات ودراسة التحديات، وتبحث عن الموهوبين من الأجيال الناشئة، وتقوم بتنمية مواهبهم ورعايتها حتي تقوم ( المدرسة الفكرية) و ( القيادات المهنية ) التي تُوجد ( المؤسسات التطبيقية ) المتخصصة وتوجهها، ثم تنظم العلاقة بين الطرفين في إطار الأمة الموحدة "(1).
وهكذا يصبح لدي الحركة الإسلامية : " مجموعتان .. مجموعة فكرية، ومجموعة تطبيقية، فأمّا المجموعة الفكرية: فمهمتها ابتكار الاستراتيجيات اللازمة في جميع الميادين وتطوير هذه الاستراتيجيات حسب متطلبات الزمان والمكان .
وأمّا المجموعة التطبيقية : فمهمتها تنفيذ الجزء المتعلق بميدانها من الاستراتيجيات التي أفرزتها المجموعة الفكرية "(2).
ولاشك أن إفراز ( الفقهاء ) الذين يكون منهم المجموعة الفكرية والمجموعة التطبيقية يحتاج إلي عدة أمور :
يحتاج أولاً : " لنظام تربوي محكم يحسن تصنيف المصادر البشرية المتمثلة في الأجيال الناشئة، وإعدادها عقائدياً ونفسياً ومهنياً بحيث يراعي هذا الإعداد فرز ( أولي الألباب ) لميادين القيادة.. كما لابد مع هذا النظام التربوي من نظام تنموي يحسن توظيف الطاقات التي تنضج تبعاً لقدراتها العقلية واتجاهاتها النفسية واستعداداتها الجسدية وأدائها المهني بعيداً عن مؤثرات العلاقات والروابط الشخصية ومقاييس العصبية والإقليمية الطبقية " (3).
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د ماجد عرسان الكيلاني ص 295 .
(2) ماذا بعد موقعة الخليج ؟ -مقال للمؤلف بمجلة ( البيان ) العدد 35.
(3) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د ماجد عرسان الكيلاني رص 283 .(1/127)
ولأن صبغة الأمة ستترك بصماتها علي نوعية الأفراد الذين يتسابقون إلي محور هذه الأمة وقطب رحاها، فإن إفراز ( فقهاء ) الأمة يحتاج ثانياً : إلي تغيير ( المحور ) الذي يتنافس عليه أبناء الأمة من محور المال والترف، إلي محور العلم والعقيدة، فيكون تنافس الأفراد في العلم والعمل الصالح، ويكون تسابقهم نحو تزكية النفس، فتنمو القيادات الربانية، ويتسلم ( الفقهاء ) قيادة الأمة ولأن الحركة الإسلامية هي التمهيد الواقعي لدولة الإسلام، فلابد أن تكون القيادة فيها لـ ( أولي الألباب ) و ( الفقهاء ) .. ولابد أن يكون الولاء فيها للمبدأ والفكرة وليس للشخص والمصلحة !!
ولكي تحقق الحركة الإسلامية هذا الهدف، لابد أن يكون اختيار القيادة فيها تبعاً لما تقدمه هذه القيادة من (برنامج عمل ) يستطيع الوصول بالحركة الإسلامية إلي أهدافها بأيسر السبل وأفضلها .
ولاشك أن هذه الطريقة التي تختار برنامج العمل قبل اختيار ( الشخص ) الذي يمثله، ستؤدي بالضرورة إلي إعادة الفكر إلي المكانة اللائقة به . " فعلي صعيد القادة ستدفع هذه الطريقة في الاختيار كل قائد إلي أن يتحري بدقة مناهج العمل الإسلامية وظروف الحركة الإسلامية، والواقع السياسي والثقافي الذي يحيط به، وسيدفعه ذلك غلي القيام بدراسات واسعة ليحدد خياراً واضحاً يراه المنهج المفضل للعمل .. وعلي صعيد أفراد الحركة الإسلامية، ستؤدي هذه الطريقة في اختيار القادة إلي أن يدرسوا برامج العمل المطروحة عليهم، ويوازنوا بينها، ويختاروا الأصلح منها .. وهذا ـ بلا شك ـ يعني ( فكرهم ) ويدفع عقولهم إلي التفكير والاهتمام .(1/128)
كما أن هذه الطريقة في الاختيار ستجعل من يجلس في مكان القيادة، يجلس تبعاً لـ( أفكاره ) و ( برنامج عمله)، وليس تبعاً لـ( شخصه )، أو تبعاً لاختيارات غامضة لا يُعْرَف كنهها بدفة ووضوح .. فيؤدي ذلك إلي تحجيم ظاهرة الولاء للشخص إلا أن يكون هذا الشخص هو صاحب البرنامج الفضل والأكثر سداداً وخبرة وحكمة(1).
إن هذه الطريقة في اختيار القيادات هي التي تدفع الحركة الإسلامية من مرحلة المبادئ إلي مرحلة البرامج، وتنقل خطواتها من " مرحلة الخطب وزعامة المنابر إلي مرحلة الخطط ودراسة الاحتمالات ووضع الحسابات الدقيقة لكل حركة، أيّ : وضع الخطط المرحلية علي ضوء رؤية شاملة للظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، وإعطاء الزمن الكافي لإنضاج كل مرحلة وعدم استعجال الثمرة "(2) مما يحقق للحركة الإسلامية احدي ـ بل أهم ـ عوامل الحيوية وهي الإستراتيجية (3) الصائبة التي تهتم باكتشاف الواقع، وتحديد ردود الفعل المتوقعة أثناء العمل، كما تحاول تذليل العقبات والصعوبات التي تعوق الحركة، وتعمل علي مواجهتها والتغلب عليها.
" إن النوايا الطيبة لا تكفي في الوصول إلي الأهداف، بل لابد من ( الصواب) وهو العمل المدروس المخطط له سلفاً الذي تؤخذ فيه كل الاستعدادات بدءاً من العلم الشرعي وانتهاء بالاستعداد المادي "(4). والاستفادة من الرجال الذين جربوا الأمور وقلبوها ظهراً لبطن .
__________
(1) مسائل في العمل الإسلامي –محمد وليد سليمان ص 42-44 بتصرف .
(2) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي 0 عمر عبيد حسنة ص 56.
(3) الإستراتيجية : فن الاستخدام الأمثل للإمكانات والموارد للوصول إلي أعلي مستوي من الكفاءة في تحقيق الأهداف .
(4) حركة النفس الزكية –محمد العبادة ص 151.(1/129)
" إن الدولة ـ أية دولة ـ لا تتكون إلا وفق ما يتهيأ لها من العوامل الفكرية والخلقية والمدنية في المجتمع، وكما لا يمكن أن تكون الشجرة منذ أول أمرها إلي أن يتم نماؤها شجرة كمثري أو ليمون مثلاً، ثم إذا آن أوان إثمارها انقلبت شجرة تفاح أو رمان، كذلك الدولة الإسلامية، فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة بل لابد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر حركة شاملة مبنية علي نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلي قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام وتوائم طبيعته "(1) ولابد أن يقوم بأمر هذه الحركة ( فقهاء ) لهم من علو الهمة، ونبل النفس، وإنكار الذات، ما يدفعهم إلي الاهتمام بأمور المسلمين، وتَبَنّي هموم الأمة .
" ( فقهاء ) يخططون للعمل الإسلامي آخذين في اعتبارهم الاستهداء بنور القرآن والسنة دون إهمال الأسباب المادية، حتى لا تسقط ثمرات العمل الإسلامي قبل نضجها . ( فقهاء ) يدركون أن القوة ليست بالحماس والانفعال، ولكن بالسعي الدائب للوصول إلي الهدف، والتخطيط لذلك، وضبط النفس أمام التحديات الخارجية التي تحاول الانحراف بالحركة الإسلامية عن خطتها من خلال الضغوط التي تمارسها ضدها من تشريد وقتل، لتخرجها عن توازنها، وتستدرجها إلي الصدام مع أعدائها قبل الإعداد له .
( فقهاء ) يحاولون الوصول إلي أهداف الحركة الإسلامية بتوازن يحكم إحجامهم كما يحكم إقدامهم، فهم لا يستسلمون لزهو البطوة الانفعالي الذي يدفع الإنسان إلي اتخاذ المواقف من خلال سياسة اللحظة السريعة، وليس من خلال سياسة النفس الطويل " (2) .
__________
(1) منهاج التغيير الإسلامي –أبو الأعلى المودودي ص 20.
(2) خدمة الصدام المتعجل –مقال للمؤلف بمجلة ( البيان ) العدد 43.(1/130)
( فقهاء ) يدركون ما في أيديهم فلا تختلط عندهم ( الأمنيات ) بـ( الإمكانيات )، وهم يبذلون الجهد لتحسين الإمكانات، وإحداث التكامل بين جهود أفراد الأمة، والحفاظ علي طاقاتهم من الإهدار .
( فقهاء ) يوقنون أن القيادة الحقيقية هي قيادة القلوب وليس قيادة الأبدان قيادة الرضا وليست قيادة الضغط .. قيادة التسليم وليست قيادة الإرهاب .
إن قيادة الأمة الإسلامية لا يصلح لها إلا الطليعة المؤمنة من ( فقهاء ) الأمة، ولا يمكن هذه القيادة للخطباء " الذين يعتقدون بأن حل الأمور ممكن بالأقوال، متناسبين أن من يزرع الأقوال لا يحصد إلا الأوهام "(1) !!
وبكلمة :
لقد عانت الأمة الإسلامية من التخلف، وأصبحت تزحف وراء غبار الركب البشري مع الزاحفين المنقطعين .. وكان من أهم الأسباب التي بالأمة إلي هذا الواقع الأليم، أن الذين يتولون زمام الأمور فيها هم من ( الخطباء ) الذين لا يحسنون في مواجهة تحديات الأمة وأزماتها إلا الخطب النارية !!
ولذلك فإنه لا سبيل إلي إحياء الأمة الإسلامية، وقيامها بدورها الحضاري، إلا أن يتولي قيادة الأمة ( الفقهاء) الذين يتصفون بصفات المؤمنين والشهداء ويتحركون علي أساس من الوعي بقيم الوحي (قرآناً وسنة) مع الدراية بشؤون الواقع .. ويقومون بحشد طاقات الأمة، وتوحيد صفوفها، والاستفادة من جهود أفرادها في سبيل الوصول إلي الأهداف عبر رحلة التغيير .
( ( ( (
الفصل الثاني
صفوة العلم والوعي
__________
(1) لمحات في فن القيادة –ج . كورتوا –تعريب الهيثم الأيوبي ص 61 .(1/131)
حين كان الإسلام يعيش غربته الأولي، كان النبي صلي الله عليه وسلم يربي الأمة بالعقيدة الواضحة والتصور الشامل والتطبيق الدقيق والوعي المبصر . وظلت هذه التربية النبوية للأمة الإسلامية ثلاثة عشر عاماً كاملة، حتي انتفي كل شك قد يخامر الأذهان، وكل وهن قد يطرأ علي القلوب، وكل ظن قد يدور في النفس، فكان من نتيجة ذلك أن نشأت ( الصفوة ) المباركة من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم .. تلك الصفوة التي كانت تتلقي أمر الله فيغدو لديها فعلاً وتطبيقاً، ويتحول إلي وقائع وأحداث .. وحين تُوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أن بلّغ الرسالة حملت هذه ( الصفوة ) الإسلام فكراً وشعوراً وممارسة، وتحمّلت المسؤولية الكبرى في إعزاز هذا الدين والتمكين له في الأرض .
واليوم، دار الزمان دورته، وعادت غربة النبي صلي الله عليه وسلم وأسرة ياسر وبلال وغيرهم، عادت للذين يقولون ربنا الله لا قيصر، والحاكمية تبدأ خطواتها لله لا للبشر .. وأصبحت الأمة الإسلامية تعيش واقعاً ـ إن لم يكن مطابقاً تمام المطابقة ـ فهو يشبه إلي حد بعيد ذلك الواقع الذي عاشته الرسالة الإلهية في بداية انطلاقها في مكة، ولذلك فمهمة الغرباء من أفراد الحركة الإسلامية هي نفس مهمة الغرباء الأوائل من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم .. إزالة غربة الإسلام والتمكين له في الأرض .
ولكي تقوم الحركة الإسلامية بهذه المهمة العظيمة، لابد لها من ( صفوة ) من العلماء المخلصين والقادة القادرين الذين يتميزون بالعلم والوعي الشمولي، وتتوافر فيهم ملامح العمل القيادي . ذلك أن هذه الصفوة هي القوة الحقيقية التي تضمن الاستمرار والصمود، وتعطي الصورة الواضحة والنموذج المتكامل للأمة المسلمة .(1/132)
إن الفوارق بين الأمم هي في حقيقتها فوارق ( نوعية ) لا ( كمية )، وأعداء الأمة الإسلامية إنما يواجهونها بنوعية مختارة من الأفراد وليس بـ ( كثافة ) كمية من البشر، ولذلك فإن الأمة الإسلامية إذا أرادت مواجهة هؤلاء الأعداء فلابد أن تعلم أن القوة الحقيقية ليست في التعاظم بـ ( الكم )، بل هي في ( الصفوة ) المتميزة ( نوعياً ) والقادرة علي توجيه طاقات الأمة نحو الأهداف المنشودة .
إن ( نطفة ) التغيير تنعقد في طليعة من الأمة تحس واقعها الأليم، وتستشعر مسؤوليتها عن تغيير هذا الواقع ن فتدفعها المسافة بين واقعها، وهدفها إلي العمل والتحرك، وتبدأ خطواتها بـ ( توعية ) الأمة عبر نشر العلم وتوجيه الاهتمام إليه، وفي ذات الوقت نقل الخبرة والوعي بالواقع إلي أفراد الأمة، وتربيتهم علي حمل لواء التغيير، والسعي لإعادة أمتهم إلي مكانها في قيادة البشرية .
وهكذا، في ( رحم ) التربية تنخلق ( أجنة ) الصفوة ن وفي ( محضن ) العمل، وتنمو الخبرات وتتفجر الطاقات، لتشكل في النهاية النسيج القوي لصفوة الحركة الإسلامية التي تقع عليها مسؤولية تربية ( الكوادر ) (1) القادرة علي توجيه حركة الأمة للتغيير، والتي تعطي الأمة من روحها الوثّابة، ومن عقلها المنير، ومن طاقاتها المتفجرة، الروح والنشاط والقوة .
إن أفكار التغيير " لا يمكن أن تبدأ إلا بأفراد ممتازين، يتحركون في إطار ( نخبة ) تستطيع الانفلات، والقفز فوق أسوار البيئة، والمجتمع، والواقع، والمواريث التقليدية، وتحاول فيما بعد أن تتوسع بنشر تلك الأفكار، وتحضر لها المناخات الاجتماعية المناسبة لتصبح فيما بعد إنتاج نخبة، وإنجاز أمة " (2) .
__________
(1) الكوادر : هي العناصر ذات الخبرة والوعي الشمولي ، والتي تتوفر فيها ملامح العمل القيادي ، ومن ثم تستطيع العمل في مستوي قيادي أدني من القيادة الرئيسية.
(2) مقومات الشخصية المسلمة –د ماجد عرسان الكيلاني ص 37.(1/133)
ولكي تستطيع النخبة القيام بهذا الدور، لابد لها من امتلاك القدرة علي توصيل الأفكار للأمة، والوعي ـ في ذات الوقت ـ بالعقبات التي تُعَوّق هذا التوصيل، ومحاولة اجتيازها بذكاء حركي صادر عن رؤية مستوعبة للواقع والعصر .
وإذن فالصفوة المؤهلة للقيام بقيادة الأمة في مهمة التغيير الكبرى لابد أن تتميز " بإخلاصها وتجردها ..بعلمها واختصاصها ووعيها وتجربتها ومواكبتها لتطورات عالمها وعصرها .. بموضوعيتها ومنهجيتها ودقتها وجديتها وصبرها .. بشجاعتها الكبيرة في رؤية الحقائق واستخلاص النتائج والجهر بما توصلت إليه مهما كان في ذلك من الآلام ..بشعورها بمسؤوليتها، والتزامها بما تبين لها من الحق والمصلحة والسبيل الموصل، والوقوف معه بالقلم واللسان والعمل الدائب علي كل صعيد "(1).
ولاشك أن العلم والوعي هما الطريق الصحيح لرؤية " الأهداف وتبين الطريق الموصل إليها، أمّا الأعمال الجاهلة التائهة فلا يكون من ورائها إلا تبديد الطاقات وإضاعة الجهود وإعطاء الفرص لأعداء الحركة الإسلامية لضربها وتصفيتها والخلاص منها "(2).
إن الطريق إلي بناء ( الصفوة ) الواعية، لا يمكن أن يكون هو العزلة والسلبية والهروب من التبعات، بل لابد من العمل الإيجابي، والارتفاع إلي أعلي المستويات في معرفة الواقع ودراسة متغيراته للاستفادة منها في رسم الخطط والاستراتيجيات في عملية التغيير .. مسترشدين في ذلك بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته " .
__________
(1) من بقايا الأيام –عصام العطار جـ1 ص 115.
(2) المصدر السابق ص 64.(1/134)
إن الحركة الإسلامية التي تسعي لإحياء الأمة، وإخراجها من التبعية إلي الريادة لابد لها من مواجهةٍ مع الأنظمة العلمانية التي تمثل العقبة الكبرى في طريق تقدم الأمة وخروجها من التبعية الذليلة، ولذلك فإنه من الضروري لـ (صفوة) الحركة الإسلامية أن تنفذ إلي طبيعة وبنية النظام السياسي الذي يوجّه النخب الحاكمة في هذه الأنظمة، والإطار الأيدلوجي العقدي الذي يكيّف انحيازات هذه النخب في الخارج، والنسق القيمي الذي يدفعها إلي اتخاذ القرارات والسياسات في الداخل !!
ولأن هذه الأنظمة العلمانية ليست في حقيقتها إلا واجهة للاستعمار الغربي، فإنه من الضروري لاستكمال وعي الصفوة المؤمنة، من دراسة المجتمعات الغربية للتعرف علي الأصول الثقافية والاجتماعية المُوَجهة لسياسات هذه المجتمعات وعلاقاتها مع غيرها من المجتمعات ..
وهكذا تتحرك الصفوة المؤمنة من خلال العلم والوعي والرؤية المنهجية العميقة للماضي والحاضر والمستقبل، والأهداف الموضوعية القريبة والبعيدة، وتحاول أن ترسم في ضوء ذلك الطريق القاصد المُوَصّل إلي هذه الأهداف .
إن الصفوة المؤمنة من رجال الحركة الإسلامية التي تمتلك الإرادة والفاعلية، تتدرج في نموها النظري والحركي، فتبدأ كبذرة حق في قلوب ( طليعة ) مؤمنة، ثم تتحول البذرة إلي نبتة خير في صورة ( صفوة ) مؤمنة، فتستند هذه الصفوة إلي ( الكوادر ) الواعية، فتقوي وتستقل، وتظهر في صورة شامخة تمتد جذورها في قلب الأمة، وترتفع فروعها قوية متماسكة، وقادرة علي مواجهة كل أعدائها .. { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .(1/135)
وهكذا عبر الأيام، تنتقل خطي ( الصفوة ) المؤمنة الواعية في كل يوم جديد إلي مستوي جديد، وإلي مرحلة جديدة، تتقدم فيها الصفوة وتتزود بإمكانات أكبر، ووسائل أعون، حتي تستطيع بحكم متانة تأسيسها " أن تصمد لكيد الجاهلية، التي تحاول بكل جهدها أن تقضي علي الدعوة الجديدة قبل أن تمد لها جذوراً في التربة، لأنها تعلم جيدا أنها إن لم تبذل كل طاقتها في ذلك فسيفلت الأمر من يدها، ولا تستطيع أن تسيطر عليه.. لذلك يكون البطش في أقصي عنفوانه في جولته الأولي، ولا يصمد له إلا تلك الصفوة المختارة من المؤمنين، الذين يتلقون الشحنة الكاملة من قائدهم الذي يتعهدهم بتربيته ورعايته .
ثم إن نجاح هذه الصفوة في الصمود لكيد الجاهلية هو الذي يشكل نقطة التحول في خط سير الدعوة، لأنه يعطف القلوب نحو أولئك المؤمنين الذين يتلقون هذا القدر الهائل من البطش والتعذيب دون أن يتحولوا عن الحق الذي يؤمنون به، فيكون صمودهم شهادة لهذا الحق، تجتذب نفوساً جديدة، تؤمن به وتجاهد في سبيله، فتتسع القاعدة وهي علي ذات القدر من المتانة وقوة التأسيس "(1).. ومن خلال ذلك .. ومن خلال الإخلاص والعمل والتضحيات .. يأتي ذلك اليوم الذي يتم فيه اللقاء العضوي الأصيل في حياة المسلمين والإسلام كما أنزله الله .. وعندها يكون نصر الله، وتستسلم قيادة الأمة ( صفوة العلم والوعي).
وبكلمة :
__________
(1) واقعنا المعاصر –محمد قطب ص 415.(1/136)
إن الأمة الإسلامية في حاجة إلي ( صفوة ) من الرجال ذوي إرادة وفعالية، يحسّون مأساة الأمة، فيقومون بالسعي الجاد من أجل تغيير واقعها، وتكون خطوتهم الأولي هي الانتقال من حالة ( الحس ) إلي حالة ( الوعي ) بأسباب واقع الأمة والطريق إلي إخراجها من هذا الواقع .. حتي إذا وضعوا أيديهم علي جذور هذا الواقع وحددوا أهدافهم بدقة، بدأوا في تغيير هذا الواقع من الجذور، وتوظيف حركة الجماهير لخوض الصراع الحقيقي والمصيري مع الأنظمة العلمانية، والجهاد لاقتلاع جذور الطواغيت وقيادة الأمة الإسلامية، بل وقيادة البشرية كلها إلي خيري الدنيا والآخرة .
( ( ( (
الفصل الثالث
روح الفريق والمبادرات الذاتية
الأفراد هم العنصر الأول في بناء أية أمة، والصلات بين هؤلاء الأفراد هي الشرط الأول لقيام هذه الأمة برسالتها وتقديم العطاء الحضاري للأمم الأخرى . ولا يستطيع الأفراد كـ ( أفراد ) تقديم أيّ عطاء حضاري أو حمل أية رسالة، إلا حين يتمتعون بروح الجماعة ويعملون بروح الفريق .. فروح الفريق هي الدعامة الأساسية في حمل رسالة الأمة، والعمل الجماعي هو أهم ضمانات النجاح وتحقيق الأهداف .. والأمة التي تسير خطوات أفرادها بروح الفريق والجماعة، هي الأمة الجديرة بالريادة البشرية .(1/137)
ولذلك نجد " في القرآن الكريم، والسنة الشريفة، توجيهات، وتطبيقات متكررة، هدفها تدريب الإنسان علي التفكير الجماعي، الذي يربط مصير الفرد بالجماعة، ومصير الجماعة بالفرد، ويجعل تبادل الرعاية بين الطرفين صفة لازمة للمجتمع الراقي . والتوجيهات المتعلقة بهذا الشأن كثيرة جداً، من ذلك قوله تعالي : {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} ـ الأنفال25 ـ، وقوله صلي الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ـ رواه البخاري ـ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي " رواه مسلم. ويلحق بذلك تضافر التفكير الجماعي، ليتجسد في مبدأ الشورى " (1).
__________
(1) مقومات الشخصية المسلمة –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 63 .(1/138)
لقد ربّي رسول الله صلي الله عليه وسلم الرعيل الأول من المسلمين علي روح الجماعة والمسؤولية الجماعية عن أمر هذا الدين، " ومن ذلك وصفه صلي الله عليه وسلم دين الإسلام الذي يجمع المجتمع بأنه كالسفينة السائرة في البحر، وأن الكفار والفساق قوم أرادوا خرقها وإغراق أهلها، وأن المسلمين لا ينجيهم من الغرق إلا الأخذ علي أيدي المفسدين، كما في صحيح البخاري، قال صلي الله عليه وسلم : " مثل القائم علي حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا علي سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا علي من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " ..، فهذه مسؤولية جماعية يجب أن يقوم بها المسلمين مجتمعين لأن الكفار يقومون بخرق السفينة وهم مجتمعون، ولا يفل الحديد إلا الحديد "(1) وكما أن الكفار لايمارسون كفرهم فرادي، وإنما يوالي بعضهم بعضاً، ويتسلمون قيادة العالم، ويشيعون في الأرض الفساد .. فإن المسلمين لابد لهم من ممارسة إسلامهم مجتمعين، ونهايات سورة الأنفال تؤكد هذا المعني، قال تعالي : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي
__________
(1) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية -د. علي بن نفيع العلياني ص 81 .(1/139)
الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }الأنفال 72، 73. فالآيات كما نري تفرّق بين ( مجتمع المؤمنين ) والمؤمنين الفرادي . فتعرف مجتمع المؤمنين بأنه يتكون من أفراد ربطتهم شبكة من العلاقات العقائدية والاجتماعية خيوطها الإيمان والهجرة للتجمع في وطن واحد، والجهاد في سبيل قضية واحدة، والتكافل والإيواء والتناصر .أما من يكتفون بالإيمان الفرديّ دون شبكة العلاقات الاجتماعية فهؤلاء لا ترابط ولاية بينهم " (1) وتستطرد الآيات لتبين الأضرار التي تنجم عن عدم ترابط الأفراد المؤمنين عبر شبكة العلاقات الاجتماعية من هجرة وجهاد وإيواء ونصرة .. {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } " فإذا لم تقم ( أمة الإيمان ) فسوف تتولي ( أمة الكفر ) القيادة في الأرض، وتهيمن علي مقاليد التوجيه والتخطيط والتنفيذ في كل ما يتعلق بشؤون السلم والحرب سواء . ولاشك أن انتقال القيادة العالمية إلي ( أمة الكافرين ) سوف يؤدي إلي استغلال خزائن الله من المقدرات البشرية والمادية استغلالاً سيئاً ثم يكون من نتائج هذا الاستغلال السيئ ملء الأرض بالفتن والفساد الكبير : فتن في ميادين السياسة، وفساد في ميادين الاجتماع، وتشيع الصراعات والحروب الداخلية والإقليمية والعالمية، وينتشر الفساد الكبير : فتن في ميادين السياسة، وفساد في ميادين الاجتماع، وتشيع الصراعات والحروب الداخلية والإقليمية والعالمية، وينتشر الفساد الكبير، الذي يتمثل في الانهيارات الأخلاقية، وشيوع التحلل والفواحش، وانتشار الفلسفات والأفكار الهدّامة وغير ذلك "(2).
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 284 .
(2) إخراج الأمة المسلمة –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 30 بتصرف.(1/140)
وإذن فقد صار ( الفقه والجماعي ) و ( البحث الجماعي ) و ( التطبيق الجماعي ) و ( الإنتاج الجماعي ) ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية التي تجعل في محور قيمها أن يد الله مع الجماعة .. وتحقيقياً ـ في ذات الوقت ـ لتقدم الأمة الإسلامية.
" إن المسلم الذي تحتاجه الحركة الإسلامية ليس هو من تكتمل معرفته بالإسلام وبالعالم والعصر علي أيديها .. بل هو المسلم القادر علي التحرك وسط سائر الظروف، بكل جزء من المعرفة يكتسبه، ويطبقه في تحركه، ويتفاعل به مع ما يستجد حوله تفاعلاً حياً يُصلْح الخطأ ويجعله مصدراً للخبرة، وينَمي الكفاءة ويجعلها سبيلاً لابتكار الوسائل فينهض في يومه بما لم يستطع النهوض به في أمسه، ويتحول إلي رفد للعمل، لا إلي عبء عليه " (1) !!
ولاشك أن هذا يستلزم أن تتحول الحركة الإسلامية من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار، وتطبيق الفرار، ومراقبة تنفيذه ومن ينفذونه ..إلي أسلوب المشاركة الواسعة النطاق، رغم المخاطرة بالوقوع في الخطأ .. ولابد للحركة الإسلامية " أن تُنْشئ بداخلها بعض المؤسسات ( المستقلة ) التي تأخذ علي عاتقها القيام بمهمة أو عمل ما، دون أن تمارس القيادات دور ( الرقابة ) أو دور الرئاسة الشكلية ـ غالباً ـ بل أن تترك لهذه المؤسسات حرية العمل والتحرك، ضمن الإطار المتفق عليه والمحددة أبعاده ... ذلك أن هذه الاستقلالية في العمل هي التي تتيح للطاقات أن تنمو وتتفتح وتتحرر من انحصارها داخل قمقم القيادات وداخل أفكارها وتصوراتها " (2) كما أن شعور الفرد بالحرية في التحرك والعمل، يزيد من حماسة للعمل والعطاء لإحساسه بمكانته في الجماعة، وبأن له وظيفة مستقلة تتناسب مع كفاءته وقدراته.
__________
(1) مجلة الرائد –العدد 129 ص 18.
(2) مسائل في العمل الإسلامي –محمد وليد سليمان ص 61،59.(1/141)
وإذا كانت المؤسسات المستقلة داخل الحركة الإسلامية تحقق أهداف تنمية الشخصية واستقلالية القرار، فإن الصلات التعاونية بين الأفراد تؤدي إلي نمو روح الود بينهم وتُيَسِّر تأثير كل فرد علي إخوانه، وتقبل كل فرد منهم آراء الآخرين .. فتكون نتيجة ذلك هي ازدياد التفاعل بين أفراد الجماعة، وتكامل جهودهم في سبيل حمل الرسالة التاريخية لأمتهم .
إن التنظيم في الإسلام لا يعني ما يعنيه التنظيم في النمط الغربي ؟! إن التنظيم في الإسلام يعني التعاون والعلمية، أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم، فجوهر التنظيم في الإسلام هو التعاون بين المسلمين، والتكامل بين نشاطاتهم في اتجاه التمكين لشريعة الله، وإقامة دولة الإسلام، وإحياء الأمة الإسلامية .
" ولذلك فالتخطيط الإسلامي : أسلوب عمل جماعي ـ يأخذ بالأسباب لمواجهة توقعات مستقبلية ـ ويعتمد علي منهج فكري عقدي –يؤمن بالقدر، ويتوكل علي الله، ويسعي لتحقيق هدف شرعي هو عبادة الله وحده لا شريك له .
ولأن التخطيط الإسلامي : أسلوب عمل جماعي، فهو يستوعب جهد كل أفراد المجتمع، ويهتم بتحقيق الترابط الاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي، وذلك بإيجاد رابطة الأخوة بين المسلمين، والاهتمام بالروابط الأسرية، وعلاقات الجوار "(1) ولتتحول علاقة المؤمنين ببعضهم بعضاً إلي شعور ( حيّ ) يتفاعل مع مشاكل الآخرين وحاجاتهم، كما يتفاعل مع قضاياه الفردية.
__________
(1) التخطيط –د. فرناس عبد الباسط البنا ص 93،85 .(1/142)
ولأن التخطيط الإسلامي أسلوب عمل جماعي، فهو يقوم علي مبدأ ( الشورى ) ويصطبغ بصبغته، قال عز وجل في صفة المؤمنين : { وأمرهم شوري بينهم }-الشورى 38 ـ وقال سبحانه آمراً النبي ومن بعده من المؤمنين : { وشاورهم في الأمر }-آل عمران 159، لذلك فإن المسلم يبحث دائماً عمن يستشيره من أهل العلم والخبرة، وأهل الإخلاص والتقوى .. فيمزج فكره وتجربته مع ما يمكن أن يستفيده من أفكار وتجارب الآخرين، وبالتاي يكون عمله علي ضوء من رؤية مستوعبة، وبصيرة نافذة .
ولأن التخطيط الإسلامي : أسلوب عمل جماعي، فهو يؤكد علي ( التشجيع المتبادل ) وينهي عن التثبيط، قال عز وجل : { وتواصوا بالحق وتواصو بالصبر } ـ العصر 3 ـ فالإنسان بطبعه يحتاج إلي من يشجعه، ولذلك " تلعب كلمة التشجيع دوراً هاماً في دفع عجلة العمل إلي الأمام، بينما تُعَوّق كلمات التثبيط العمل القائم ـ إن لم توقفه تماماً ـ ومن هنا فإن واجب القائمين علي العمل الإسلامي أن يبتعدوا عن الأقوال المثبطة للهمم مثل: ( ماذا يفيدنا هذا ؟ )، أو ( لن نستطيع أن نعمل شيئاً )، وأن كل عمل مفيد "(1).
__________
(1) لمحات في فن القيادة –ج . كورتوا –تعريب المقدم الهيثم الأيوبي ص 34.(1/143)
ولأن التخطيط الإسلامي : أسلوب عمل جماعي، فهو يقوم بهدم الحواجز التي قد تقوم بين المؤمنين مثل حواجز العصبيات والحقد والحسد وسوء الظن وغيرها، ويبدلها بقيم الأخوة والإيثار والتعاون وغيرها ..قال عز وجل : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم}. ـ الفتح 29 ـ وقال سبحانه : {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } الحشر 9،1. ـ وإذا كانت هذه الآيات قد نزلت في وصف جيل الصحابة ـ الجيل القرآني الفريد ـ فقد طلب الله من المسلمين في كتابه الباقي إلي يوم يرث الله الأرض ومن عليها أن يتأسوا برسول الله صلي الله عليه وسلم، وأن يقتفوا أثر ذلك الجيل الفريد ويصلوا أنفسهم به : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب:21. وإذن فلابد من التعاون بين المسلمين، ولابد من التكامل والتكافل الذي يهدم الحواجز بينهم، فيعطي المجتمع القوة التي يحميه الله بها من الاستعباد والقهر .(1/144)
إن الحياة الإسلامية حياة جماعية يسودها التعاون والتكامل، ويخرج فيها الفرد من دائرة الانغلاق والتمحور حول الذات إلي الانفتاح علي الآخرين .. ومن الاتجاه إلي الهموم الفردية، إلي حمل هموم الأمة، ولا تستحق تجمعات الأفراد الذين لا تقوم بينهم صلات الأخوة والتعاون والتكامل، لا تستحق وصف ( المجتمع المسلم ) .. و ( الأمة الحيّة ) .. بل إن أول صفات الأمة الميتة " هي تعطل روح الجماعة، والعمل الجماعي، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة . والذي ينتج في واقع الأمة ظواهر التعصب للرأي، والعجب والكبر والتعالم، وإملاء الرأي وفرضه علي الآخرين في جميع دوائر الحياة الاجتماعية ابتداء من القواعد الدنيا في الأسرة والمصنع والمتجر ودوائر الوظيفة، حتي أعلي دوائر المجتمع في رئاسة الحكومة، وقيادة الدولة، حيث زعامات الحكم المطلق، والقيادات الدكتاتورية المتنافرة المتناحرة، ويكون من نتائج ذلك بروز مجتمعات الكراهية، وفقدان الثقة، وشيوع الحسد، وانعدام التعاون والوحدة، وتفرق الكلمة، والتستر علي الأخطاء والنواقص والعيوب، ورفض النقد الذاتي، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات، ... وبالجملة : تحطم روح الجماعة، والعمل الجماعي، وإغلاق قنوات الاتصال والتفاهم، فلا تحل المشكلات إلا بالخصومة، والفتن، والتآمر، والقتل .. وإلي هذا المصير يشير قوله تعالي : {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}- الأنعام ـ 65، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالي : { مِّن فَوْقِكُمْ } أي : من أمرائكم ... و{ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } من سفلتكم .. و{ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً }: الأهواء والاختلاف .. و { ً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ }: يقتل بعضكم بعضاً "(1).
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة –د ماجد عرسان الكيلاني ص 140.(1/145)
إننا نشكو في حركتنا الإسلامية المعاصرة من بعض الأخطاء ..هذه حقيقة .. ولكننا إذا بحثنا عن سبب هذه الأخطاء لوجدنا أن وزرها جميعاً يعود إلي أننا نحمل في كياننا جميع الجراثيم التي ( تمنع ) العمل الجماعي، من شح مطاع، وهوي متبع ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه .. وستبقي أخطاء حركتنا الإسلامية، طالما ظللنا عاجزين عن تصفية وتجديد كياننا طبقاً لتوجيهات الإسلام !!
إن الحركة الإسلامية لن يكون لها الأثر الطيب في إحياء الأمة وإخراجها من الاستضعاف إلي التمكين، ومن الفرقة والضعف إلي الائتلاف والقوة، إلا إذا قامت علي أساس من ( المؤاخاة ) وشعر أفرادهم أنهم " رجال تربطهم رابطة العقيدة "، ويعملون في خدمة هدف واحد يشعرون نحوه برغبة في التضحية، ويتقاسمون متاعبه كل حسب إمكاناته وقدرته وكفاءته، دون تفكير في الغيرة أو الدسائس، ذلك أنهم يوقنون أن عملهم ليس في خدمة أشخاص، بل هو في سبيل الله، وفي خدمة الإسلام " (1).
إن التعاون بين الأفراد هو أهم أساس في نجاح الجماعة، والروابط القوية بين الأشخاص هي الشرط الأول لتحقيق الأهداف .. قال عز وجل : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . فالفرد المنعزل لا يستطيع أن يستقبل الخير أو يرسله إلي غيره ..بل لابد لكّي يكون الأفراد قائمين بالعمل الفعال والانجازات الكبيرة ن أن يكون تحركهم في صورة . فريق عمل ) يؤدي نشاطاً مشتركاً ..
__________
(1) لمحات في فن القيادة –ج 0 كورتوا –تعريب المقدم الهيثم الأيوبي ص 146 بتصرف .(1/146)
ولكي ندرك أهمية هذا النشاط المشترك، ينبغي لنل أن نسأل أنفسنا " عمّا كان يمكن أن يحدث من المسلمين الأوائل لو أنهم بدلاً من أن يدعو إلي الإسلام بالطرق العملية، اكتفوا بصلاة داخل مسجد من اجل تحقيقه ؟ .. من المؤكد أنهم ما كانوا ليغيروا الوسط الجاهلي الذي ربما كان قد حولهم إلي جاهليين!! فالنشاط المشترك هو الذي أنقذهم، وهو الذي أنقذ الوسط الجاهلي في الوقت ذاته " (1).
ولاشك أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولذلك فنحن بحاجة إلي أن يكون عملنا في إطار (الفرد للمجموع والمجموع للفرد ) أو ما يمكن أن نعبر عنه بـ( روح الفريق والمبادرات الذاتية ).
وبكلمة :
لا تستطيع أمة من الأمم أن تحقق أقصي فعالية في الداخل والخارج إلا إذا كان النظام الجماعي هو الذي يُسَيّر خطوات أفرادها، ذلك أن العمل الجماعي هو الذي يجعل كل فرد في الأمة يضاف إلي الآخر إضافة ( كيفية ) وليس إضافة ( كمية ) وبالتالي فهو الطريق إلي القوة الاجتماعية التي يتحول فيها الأفراد إلي كيان تتوحد فيه الأفكار والمشاعر والممارسات العملية من أجل تحقيق رسالة الأمة . ومن هنا، فإن واجب الحركة الإسلامية بجميع فصائلها " أن تبدأ مسيرة التعاون من أجل بناء الأمة الإسلامية القوية التي تستطيع أن تواجه كل أعدائها، وتؤدي رسالتها الحضارية التي لا يمكن مدروسة "(2) ، وتتحرك بتوازن دقيق بين الروح الجماعية والروح الفردية فتقيم إستراتيجيتها علي أساس من ( روح الفريق والمبادرة الذاتية).
( ( ( (
الفصل الرابع
طليعة المجتمع الحيّ
__________
(1) ميلاد مجتمع –مالك بن نبي ص105 ، 106.
(2) راجع عن شئت : نحو وحدة العمل الإسلامي –للمؤلف.(1/147)
الفكرة الصحيحة هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الحيّ، والولاء الشامل لهذه الفكرة هو الأساس الذي تقوم عليه شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد ذلك المجتمع، فإذا انهارت الفكرة الصحيحة، وقامت شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد طبقاً لمحاور الولاء الفردي والعشائري والإقليمي، دار الصراع في داخل المجتمع نفسه ومزّقه إلي شيع يذيق بعضها بأس بعض ... ومن ثم ضعف المجتمع في الداخل، وفقد المناعة في الخارج، بل وتحول إلي مجتمع ميّت يطمع فيه الآخرون وتتداعي عليه الأمم .
ولقد شهد تاريخ الأمة الإسلامية هذين النوعين من المجتمعات :
فأمّا المجتمع ( الحي ّ) فقد رباه رسول الله صلي الله عليه وسلم في مكة، واستطاع بحيويته وفاعليته أن يطرق أبواب أوروبا غرباً، ويقتحم الشرق حتي أقصاه !! وفي كل هذه البلاد ن استطاع الإسلام بمجتمعه ( الحيّ ) أن يُذِيب الحضارات الأخرى ويصبغها بالصبغة الإسلامية، لينشئ من مجتمعاتها ( أمة ) قوية تقوم علي تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض .
وحين قصّر المسلمون عن تنفيذ أمر ربهم، وانهارت وحدة العقيدة في الحياة الفكرية الإسلامية، انهار مفهوم الأمة الإسلامية وحلّت محله مفاهيم العصبية والإقليمية والعشائرية والمذهبية، حتي أن العصبية أصبحت تفرّق بين أحياء المدينة الواحدة !! واختفت الموازين الإسلامية وسيطرت الأهواء والشهوات . ولقد أثّر ذلك كله في ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية فأفسدها وأضعف مقوّمات المجتمع، بل وحوّله إلي مجتمع ( ميّت ) وأمة ميتة تتداعي عليها الأمم من كل مكان لتعلن نبأ موتها وتقوم بمهمة الدفن !!(1/148)
ولقد تحدث رسول الله صلي الله عليه وسلم عن مراحل صحة الأمة الإسلامية ومرضها وموتها فقال : "إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكاً عضوضاً، ثم كائن عتواً وجبرية وفساداً في الأرض، يستحلون الحرير والفروج والخمور، ويرزقون علي ذلك وينصرون، حتي يلقوا الله عز وجل " .
ولاشك أنه لا خلاص للأمة الإسلامية من واقعها الأليم إلا أن تعود إلي الله، فتعبده حق عبادته، وتنشئ علي أساس هذه العبادة مجتمعاً حياً يقوم علي المفاهيم الصحيحة وتوجه القيم السليمة والعمل الصالح علاقات أفراده وجماعاته وتحكم سلوكهم ونشاطاتهم .
ولكي ينشأ هذا المجتمع الحيّ، لابد من طليعة مؤمنة قادرة علي أن توفر للمجتمع الإسلامي تكاملية جهود أفراده، في سبيل تقدم الأمة الإسلامية، بدلاً من إهدارها في الصراعات الإقليمية والاجتماعية ..
ولا تستطيع الطليعة المؤمنة القيام بدورها في إحياء المجتمع الإسلامي، إلا إذا شكّلت في نفسها وواقعها ( نواة ) هذا المجتمع في صورة " أفراد مسلمين خاضعين لتصورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وتقاليد وعادات المجتمع الإسلامي الحي، وفي ذات الوقت لابد أن يكون بين أفراد هذه ( النواة الاجتماعية ) تفاعل وتكامل وتناسق وولاء وتعاون عضوي، يجعل كل فرد يتحرك للمحافظة علي وجود مجتمعه، والدفاع عن كيانه والقضاء علي عناصر الخطر التي تهدد وجوده في أية صورة من صور التهديد " (1).
ومثلما تمتص البذرة الحية ما حولها من أغذية، فإن الطليعة المؤمنة ـ النواة الاجتماعية الحية ـ تمتص ما حولها من إمكانات الأمة، وتذيبها في بوتقتها، وتوجهها في طريق إحياء الأمة الإسلامية وبناء حضارتها .. فالنواة الاجتماعية التي تتصف بالحياة هي المكوّن الأول لـ ( الخلية الحضارية ) التي يتكون منها ومن غيرها من الخلايا الجسم الحي للمجتمع الإسلامي، والبناء الحضاري للأمة الإسلامية .
__________
(1) مستفاد من كتاب : معالم في الطريق –سيد قطب.(1/149)
وهكذا هي نشأة المجتمع الإسلامي الحيّ، تبدأ من نواة اجتماعية صغيرة تتسم بالحيوية والفاعلية والقدرة علي الجذب والاستقطاب، وتتحرك هذه النواة في صورة نبتة اجتماعية متماسكة، فتجذب الأفراد الأكثر نشاطاً وتقوي وفداء بين أفراد المجتمع الكبير ( الميت ) الذي يحمل بين طياته عوامل فنائه من العفن الخلقي والشقاء المعيشي، ولا يملك القدرة علي التحدي والمواجهة . فإذا تجمّع حول النواة الاجتماعية ( صفوة ) الفكر والتجارب وخيرة القدرات والإمكانات، تحولت النواة الاجتماعية الصغيرة إلي قوة هائلة تمتلك اتخاذ القرارات الحاسمة، وتمتلك القدرة علي تحدي أعدائها، وعندها يتهاوي شيئاً فشيئاً ذلك المجتمع الميّت في تيار المجتمع الإسلامي الحيّ، ويكون الانبعاث الإسلامي .
وهذا المنهاج لنشأة المجتمع الإسلامي، وإحياء الأمة الإسلامية يفرض واجبات علي الحركة الإسلامية، وفي ذات الوقت علي الأمة الإسلامية:
فأمّا الحركة الإسلامية فيفرض عليها منهاج نشأة المجتمع الإسلامي، أن تسعي دائماً لاختراق الحجب التي يصطنعها أهل الباطل ليحولوا بينها وبين جماهير الأمة، كما تسعي لتوعية تلك الجماهير برسالتها في التغيير .
ولابد للحركة الإسلامية أيضاً أن تُثري أيدلوجيتها بمزيد من الوعي والدراسة المضنية للشرع وللواقع بحيث تفرز هياكلها وكوادرها من الطلائع القادرة علي استيعاب طاقات الأمة وحشدها للوصول إلي الأهداف الإسلامية .
ولابد للحركة الإسلامية أن تُرَبّي أفرادها علي أنه " ينبغي أن يتفوق ( الواجب علي الحق ) حتي تستطيع الحركة الإسلامية أن تنمو وتصعد وتتطور، وحتي يكون لديها ( فائض جهد ) من هذا الواجب الذي يمثل أمارة التقدم الحضاري في كل طليعة تشق طريقها نحو إحياء الأمة " (1).
__________
(1) مستفاد من كتاب : وجهة العالم الإسلامي –مالك بن نبي .(1/150)
ولابد للحركة الإسلامية قبل ذلك وبعده من أن تحتوي الممارسات السطحية والهامشية وتُحَجِم التيارات الانهزامية والسلبية في الأمة، لتبدأ مسيرة الحركة الإسلامية الطليعية التي تتبني الانفتاح وليس الانغلاق، وتنوع مصادر التعلم وليس الاحتكام إلي فكر شخص معين أو تيار معين، والولاء العام للأمة الإسلامية وليس الولاء الحزبي الضيق للجماعة أو الحزب، والدعوة إلي الائتلاف وليس السقوط في شرك الفرقة والتجزئة .
وأما الأمة الإسلامية، فإن منهاج نشأة المجتمع الإسلامي يفرض عليها أن تضع الطلائع المؤمنة فيها في أحصن المواقع، لتقوم هذه الطلائع بدورها المرتقب في إحياء المجتمع الإسلامي، وحمل رسالة الأمة الإسلامية لإخراج العباد من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده .
كما لابد للأمة الإسلامية في الوقت ذاته أن تدرك أن الطلائع المؤمنة لا يمكن أن تقوم بدورها إلا إذا كانت تستند إلي الأمة الواعية المتسلحة بالبصيرة في حركتها فلا تضطرب، ولا تزل، ولذلك فلابد " أن يكف أفراد الأمة عن ترديد أنشودة العجز الخالدة ( ما يطلع بأيدينا شئ ) !! تلك الأنشودة التي تمثل حاجزاً سحرياً يشل المسلم ويمنعه من تأدية واجبه المستطاع، وممارسة عمله بطريقه تدفعه إلي النمو في كل يوم ... بل علي كل فرد في الأمة أن يدرك أن عمل المستطاع اليوم يجعل ما ليس مستطاعاً اليوم مستطاعاً في المستقبل .. فالإنسان إذا ملأ يومه بالعمل بما في وسعه فإن غده سيعطيه وسعه جديداً فيصير غداً مستطيعاً لما لم يكن يستطيعه اليوم " (1) فإذا لم يكن باستطاعة أفراد الأمة تغيير واقعها اليوم، فلا أقل من أن يتوارثوا مشعل التغيير من خلال تجمعاتهم وخلاياهم الحضارية، فيقوموا ببذر البذور الطيبة للطلائع المؤمنة التي تبقي في انتظار الظروف المواتية للتغيير .. ثم تخرج من رحم الأمة وتُحْدِث الانبعاث الإسلامي .
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 296 بتصرف.(1/151)
إن العمل الإسلامي ليس حكراً علي الحركات الإسلامية، والمسؤولية عن الإسلام والمسلمين هي مسؤولية كل من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله علي تفاوت في الدرجات بتفاوت الاستعدادات والقدرات، والمواقع والظروف .. ولا يجوز لمسلم أن يُقَصّر في النهوض بمسؤولية علي أفضل ما يستطيع، بل الواجب علي كل فرد أن يبذل وسعه في سبل الخروج بالأمة الإسلامية من أزماتها، وحمل رسالتها، ودور الطليعة المؤمنة في ذلك هو " تنظيم ( وسع ) الأمة ـ أي طاقاتها وقدراتها المعنوية والمادية والبشرية، والتنسيق بينهما بما يكفل حشدها وتكاملها ـ دون هدر أو نقص ـ لتحقيق أهداف الرسالة "(1) عبر إنشاء المجتمع الحي الذي يدفع بالأمة الإسلامية إلي التقدم والقوة والريادة البشرية .
وبكلمة :
لكي تستطيع الأمة الإسلامية حمل رسالتها إلي الإنسانية بالخروج من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، لابد أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً حياً، يقوم علي الفكرة الصحيحة، وتوجه القيم السليمة والعمل الصالح علاقات أفراده وجماعاته وتحكم سلوكهم ونشاطاتهم . ولا سبيل إلي نشأة هذا المجتمع الحي إلا أن توجد في الأمة طليعة مؤمنة تمثل النواة الاجتماعية الحية للمجتمع الإسلامي المنشود، فإذا وجدت هذه النواة، فإنها لا تلبث بحيويتها ونشاطها أن تكبر حتى تحطم الطغاة وتفرض نفسها علي الساحة الاجتماعية للأمة، وتكون هذه هي بداية الانبعاث الإسلامي . ومن هنا فإن قيادة الطليعة المؤمنة للأمة الإسلامية هو أمر تشترطه أسس التغيير، وتستدعيه متطلبات التمكين .
( ( ( (
الباب السادس:
الفاعلية الإسلامية .. والريادة البشرية
ويشتمل علي ثلاثة فصول:
الفصل الأول : في الصّراع الحضاري .
الفصل الثاني : الفاعلية طريق الحضارة .
الفصل الثالث : إحياء الفاعلية وقيادة البشرية .
الفصل الأول
في الصراع الحضاري
__________
(1) إخراج الأمة المسلمة –د ماجد عرسان الكيلاني ص 55 .(1/152)
لا يمكن أن تتحدث عن التقدم والتخلف والحضارة .. وغيرها، دون أن تحدد المعايير الأساسية التي نستند إليها في توصيفنا لما هو تقدم .. وتقديرنا ما هو التخلف ؟ ومعرفتنا ماذا تعني الحضارة ؟ .. ذلك أن الإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد الأرض التي تقف عليها ونحن نقدم الحلول لمشاكل الأمة الإسلامية، ونرسم الطريق الواضح لعودتها إلي قيادة البشرية من جديد ..
إن مفهوم الحضارة في الإسلام مفهوم شامل يشمل العقيدة والقيم والأخلاق والنظم والتنظيمات والأفكار والنشاط المعمر للأرض .. وليست هي كل تقدم صناعي أو اقتصادي أو علمي مع تخلف القيم عنها .
ولذلك فإن " الحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة، لأنها هي مقومات هذه الحضارة : ( العبودية لله وحده، والتجمع علي آصرة العقيدة فيه، واستعلاء إنسانية الإنسان علي المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي إنسانية الإنسان لا حيوانيته .. وحرمة الأسرة، والخلافة في الأرض علي عهد الله وشرطه .. وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شئون هذه الخلافة).."(1).
وإذن فمفهوم " الحضارة في الإسلام يختلف اختلافاً بيناً عن المفهوم الغربي، وإن التقي معه التقاءً عارضاً في ضرورة السعي إلي عمارة الأرض .
الحضارة في المفهوم الإسلامي هي عمارة الأرض هي النشاط الذي يقوم به الإنسان في شتي مجالات حياته ليحقق غاية وجوده " (2) وهي عبادة الله وحده، أيّ أن الحضارة في المفهوم الإسلامي هي عمارة الأرض بمقتضي المنهج الرباني .
__________
(1) معالم في الطريق –سيد قطب ص 132.
(2) حول تطبيق الشريعة –محمد قطب 88.(1/153)
فإذا نظرنا اليوم إلي الأمة الإسلامية، وطبّقنا هذا المفهوم الإسلامي للحضارة علي واقعها، فماذا عسانا أن نجد ؟ وبماذا نصف حال الأمة ؟ لاشك أننا سنجد أن الأمة الإسلامية تعيش في حالة من التخلف، بل والتدهور الحضاري الفظيع !! " وهذا التخلف هو تخلف ديني وعقائدي في المقام الأول، وتخلف مدني في المقام التالي أو الناتج . فأمّا التخلف الديني في الأمة قد بلغ –عبر تراكم السنين –درجات خطيرة، إلي الحد الذي أصبح البون فيه شاسعاً بين حاضر الأمة وماضيها الراشد، وغابت السنن وتشوشت العقائد، واضطربت الأفهام، وانعزل الفقه التشريعي وديس بالأقدام، وتجرأ عليه الأراذل، حتي المومسات وأهل المجون ؟. وعلت أحكام الجاهلية، ودان بها الناس طوعاً أو كرهاً، أو من غير مبالاة، وتغلغلت البدع والخرافات والترهات، مما جعل الدين غريباً في أهله، ... وأما التخلف المدني فهو ظاهر وغني عن الاطناب، فنحن الآن مجرد سوق لتوزيع منتجات المتقدمين، وديار الإسلام غدت تصنف في مراتب العزة والعلياء في المرتبة الثالثة، يسبقها الكفار والملحدون وعبدة الشمس، وعبدة البقر، ومن لا دين له ولا خلاق، مما أطمع الأمم فينا، ... حتي أصبحت الأمة بمثابة العرض المشاع، وأصبحنا كمن سماهم الشاعر العربي القديم ـ عير الحي والوتد:
هذا علي الخسف معكوف برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد "(1)
لقد رضيت الأمة الإسلامية ما رضيه له أعداؤها، وقنعت أن تكون سوقاً استهلاكية لإنتاج هؤلاء الأعداء، وتصورت أنها بذلك تحّصل الحضارة، بينما هي في الحقيقة في نفس مكانها، ومن السلّم الحضاري، وأنها رضيت من الناقة بالذنب !!
__________
(1) فقه الخلاف –جمال سلطان ص 44 ، 45.(1/154)
لقد سقطت الأمة الإسلامية في قبضة أعدائها، ولم تستطيع حماية نفسها بإفراز قيادتها وجيشها الذي يحميها : وسقطت في قبضة التخلف بسبب الأنظمة الاستبدادية، التي تحكم شعوبها حتي أصبحت مشكلة (التخلف ) من اكبر مشاكل العالم ألإسلامي، وأصبح المراقبون يقسمون العالم إلي ( الشمال ) تعبيراً عن العالم الغربي ( المتقدم )، و( الجنوب ) تعبيراً عن العالم المتخلف !!
فالأول : يتمثل في الدول المتقدمة صناعياً ويشمل محور اليابان ودول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وخلفائها
والثاني : يتمثل في بقية دول العالم التي تقع خارج هذه المحاور .
ولقد أخذت الهّوة بين الشمال والجنوب تتعمق كل يوم حتي إنه لم يعد الاختيار المطروح علي الأمة الإسلامية هو اختيار بين اللحاق والتخلف، بل أصبح بين الوجود المستقل المشارك في حركة الحياة، والوجود التابع الذليل الذي تضيع معه الذاتية، ويتحول أصحابه إلي ( خدم ) للآخرين !!
" ويبدو لي أنه من اللائق أن نفكر في الأسباب التي أدخلتنا إلي هذا المأزق قبل أن نفكر في الأسباب التي يمكننا بها الخروج منه .. إن أول هذه الأسباب أن الأمة الإسلامية حينما استيقظت علي خطر الاستعمار كانت يقظتها فجائية، وكانت هذه ( الفجائية ) دافعاً من دوافع الخطأ، فكان مثلها كنائم استيقظ فجأة فوجد النار في غرفته، ودون أي تفكير ألقي بنفسه من نافذة الغرفة التي هي في الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار !! فنح قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا ندري في هوّة ( التقليد ) حتي ننجو من الاستعمار .. ودعانا هذا التقليد إلي السير في ذات الطريق الذي شقته الحضارة الغربية أما منا علي أنه يوصلنا إلي ما وصلت إليه !! "(1). ولأن السابق إلي الشيء دائماً أولي به، فقد بقينا في سيرنا هذا دون من نقلده، وبقي هو أسبق منا في الطريق، وإذا بقينا نسير علي ذات المبدأ .. مبدأ التقليد، فسنظل نقلده إلي الأبد ؟!
__________
(1) تأملات- مالك بن نبي ص 211 بتصرف.(1/155)
إن الأمة الإسلامية يجب أن تدرك " أن الذين يتحكمون فينا ليمنعونا من تطبيق شريعتنا هم أنفسهم الذين يتحكمون فينا ليبقي اقتصادنا عالةً عليهم، ولا يستقل عنهم، ولا يستغني عن تدخلهم، ولا يصل إلي حد الاكتفاء.
إن الأرض التي انتشر فيها الإسلام –بقدر من الله –هي بفضل الله أغني بقعة في الأرض، بثرواتها البشرية والمعدنية والمائية، وكل أنواع الطاقات، ولكن أهلها اليوم هم أفقر سكان الأرض، وأشدهم جوعاً ومرضاً وتخلفاً !! ولو كانت هذه الثروات والطاقات ملكاً حقيقياً لأهلها لكانوا أغني سكان الأرض .. فمن الذي يمنعهم من امتلاكها والتصرف الحر فيها ؟ هم ذات الأعداء الذين يمنعونهم من تطبيق شريعتهم "(1).
إن الأمة الإسلامية يُراد لها أن تبقي عاجزة عن الاستفادة من الخامات الموجودة في أرضها عجزاً تاماً وكاملاً .. ويُرَاد لها أن تبقي عاجزة عن حماية نفسها عجزاً تاماً وكاملاً، ولذلك فإن المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية تضع في مقدمة أهدافها تدمير الأمة الإسلامية، ومن ناحية العنصر البشري بإشاعة الانحلال العقيدي والخلقي .. ومن ناحية تدمير الاقتصاد .. وأخيراً من ناحية التدمير العسكري.
فأمّا تدمير العنصر البشري فقد حرص أعداء الأمة علي القضاء علي روح الجد في أفرادها بنشر اللهو الذي يرهّل النفوس ويمنعها من التوجّه إلي معالي الأمور " حتي أصبحت الملايين من أفراد الأمة حطاماً منهاراً لا يملك المقاومة حتي لو وضعت في يده أقوي الأسلحة .. وهكذا هي المجتمعات حين تنهار عقائدياً وخلقياً، تصبح الملايين فيها غثاءً لا يقف في وجه التيار !! "(2)
__________
(1) حول تطبيق الشريعة –محمد قطب.
(2) لماذا أعدموني –سيد قطب ص 18.(1/156)
لقد أدرك أعداء الأمة أن السيطرة العسكرية ضرورة أيضاً ولكنها غير كافية .. ولذلك حرصوا –لكي تكون سيطرتهم شاملة، وتكون التبعية لهم كاملة –حرصوا علي ( التدمير ) البشري و ( التجزئة ) السياسية، حتي تبقي الأمة عاجزة عجزاً تاماً، بل ويتولد العجز فيها تولداً طبيعياً .
إن أحد أسباب التخلف في الأمة الإسلامية هو قلة ( الأدمغة ) فهل يرجع ذلك إلي أن أفراد الأمة الإسلامية أقل ذكاءً وفطنةً من أمثالهم في العالم المتقدم ؟ كلا .. ولكن هذه ( الأدمغة ) تُفْرَز من كل جيل كما يفرز الزبد من الحليب " ثم يجري تهجيرها إلي الخارج عن طريق البعثات الدراسية التي تقدمها الشركات الأجنبية، أو عن طريق التهجير القسري، أو الطوعي تحت تأثير القين الجديدة التي ترفع من مكانة الدارسين في العالم المتقدم "(1) وبهذه الطريقة تجتذب دول العالم المتقدم العقول النابغة إلي حظيرتها، وهناك يتم تحويلها إلي دم جديد يدفق في جسم الحضارة الاستعمارية !!
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 271.(1/157)
إن الأسباب التي تؤدي إلي هجرة(1) العقول النابغة إلي الدول الاستعمارية كثيرة ومتنوعة وليس من أقلها أن هذه العقول النابغة التي تُخْرجها الأمة الإسلامية تُواجَه بواقع الأنظمة الحاكمة في الأمة والتي تجعل من هم أقل علماً وخبرة رؤساء لأفضل العقول، لاعتبارات فاسدة، كأن يكونوا من الأسرة الحاكمة أو ممن لهم انتماء حزبي معين !! أو غيرها من الاعتبارات التي تجعل أصحاب العقول النابغة يشعرون أن جهودهم من أجل أمتهم لا تقدر ولا تحترم في دولهم .. فيدفعهم ذلك إلي الهروب إلي دول العالم المتقدم التي تستطيع الاستفادة من هذه العقول في سبيل مصلحتها..
ولا تقتصر أسباب هجرة العقول علي عدم احترام قيمة العلم، وعدم تقدير أهمية الخبرة بل إن أجواء القمع والإرهاب التي تسود دول العالم الإسلامي لا تسمح باستيطان هذه العقول فيها، ذلك أن " أجواء القمع والإرهاب تصيب ملكات الإنسان بالعطالة الكاملة، فتجعل من العالم والباحث والمفكر إنساناً عادياً يمارس طعامه وشرابه وشهواته كأي مخلوق آخر، وقد يستنفذ طاقته ليحصل علي ذلك !! فكيف لنا والحالة هذه أن نطلب الإبداع والنبوغ والتقدم للمجتمعات الإسلامية ؟! "(2)
__________
(1) معظم الذين تعرضوا لقضية هجرة العقول والخبرات إلي الدول المتقدمة ، تناولوا بمعالجتهم الأعراض والمظاهر ولم يتناولوا الأسباب الحقيقية للظاهرة ، لن تناول الأسباب بجرأة وصدق قد يجعل منهم مهاجرين !!.
(2) نظرات في مسيرة العمل الإسلامي –عمر عبيد حسنة ص 136.(1/158)
إن العملاء من حكّام الأنظمة العلمانية التي تسيطر علي دول العالم الإسلامي يقومون عبر أجواء القمع والإرهاب التي ينشرونها بـ ( تهجير ) العقول النابغة إلي أعداء الأمة، بل إنهم يحاولون الامتداد والمطاردة لهذه العقول حتي في بلاد المهجر .. وإذا تغلبت ( بعض ) هذه العقول علي أجواء الإرهاب، فإنها تُزْعم إرغاماً علي ممارسة نوع آخر من الهجرة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الهجرة داخل الوطن، أو ( الاغتراب ) وفقدان الانتماء !.
لقد قام الحكّام العملاء بتهجير العقول النابغة ثم زعموا أنهم سيقوموا بردم الهّوة القائمة بين العالم المتقدم، والعالم الإسلامي المتخلف، عبر اللجان المشتركة والجهود المكثفة !! فكان الفشل ـ ليس فقط في ردم الهوّة ـ بل في إيقافها عند حد معين وبقيت هذه الهوة تزداد اتساعاً كل يوم .. وهنا خرج علينا الحكًام العملاء بمقولة الخيانة، ومضمونها : إن الأمة الإسلامية لا يمكنها اللحاق بالعالم المتقدم .. وإن قطار الحضارة قد فات هذه الأمة، ولا يمكنها أن تلحق به مهما حاولت ذلك .. وإن عليها أن تقنع بمكانها من السلّم الحضاري، وتتخذ من ( التبعية ) الكاملة للغرب سبيلاً للتقدم وطريقاً للحضارة !!
وهكذا أعاد الحكّام العملاء الأمة من حيث بدأت، وزينّوا لها طريق ( التقليد ) والتبعية للغرب فبدأت في الدوران داخل الحلقة المفرغة للتبعية التي تنتج التخلف . والذي يولًد بدوره تبعية جديدة ..
قلنا : نعم، هذه حقيقة، ولكنها حقيقية لا تعفي الأمة الإسلامية من مسؤوليتها أمام الله، يوم يكون الإنسان علي نفسه بصيرة، ولو ألقي معاذيره .(1/159)
وأحسب ـ والله أعلم ـ أنه من المفيد لنا أن ننظر إلي واقع الأمة الإسلامية كمشكلة " ( مجتمع ) لا كمشكلة (دين) وعقيدة، وبعبارة أخري : كمشكلة بشر مسلمين لا مشكلة إسلام، وحين أقول : مشكلة مجتمع، لا مشكلة دين، لا أقصد أن أنزع المسلم من دينه وعقيدته، بل أريد فقط أن نفرق بين السنن التي تجعل الإنسان عاجزاً، والسنن التي تجعل الإنسان مجتهداً عاملاً ..بمعني : أن الإسلام ينطبق عليه ما ينطبق علي البشر من غفلة وجهل وعنجهية وغرور وطيبة ووداعة، وسذاجة وحماقة "(1).
ولاشك أن هذه النظرة الإسلامية الصحيحة القائمة علي عدم بخس الناس أشياءهم والعدل حتي مع الأعداء كما أن قوله تعالي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ }النساء : 135. مبدأ قرآني لنعدل في الانتصاف من أنفسنا وممن نحب، ونقدر الأصدقاء والأعداء لا بميزان العدل لا بميزان الهوي المبني علي النظرات القصيرة ..
ولذلك تقول : " إن استمرارنا في تكرار المقولة المعهودة، وربما الصحيحة في جانب منها، بأن الحضارة الغربية حضارة مادّية ومنحلّة وآيلة للسقوط، لن يغيروا من الحقيقة القائمة والمفروضة في واقع العالم وهي قوة هذه الحضارة واقتدارها واستمرارها لقرون . وانتشارها في كثير من أنحاء العالم . إن هذا الاقتدار والاستمرار لابد أن تكون وراءه عناصر قوة حقيقية في الحضارة والمجتمع والإنسان، وليس في التكنولوجيا فقط، لأن التكنولوجيا لا تنبثق ولا تتطور ولا تكون مطواعة في يد إنسان هش، ومجتمع هش، وحضارة هشة !! "(2).
__________
(1) حتي يغيروا ما بأنفسهم –جودت سعيد ص 28 ،29 بتصرف.
(2) ندوة الفكر الإسلامي المعاصر. ص 139.(1/160)
عن علينا أن ندرك أن الغرب الذي يمثل ( المقابل ) الحضاري لأمتنا، هو في صراعه الحضاري يطبق ما يمكن أن نسميه قوانين ذاتية القوة، وأننا إذا أردنا أن نخدم أمتنا، ونقيم حضارتنا فلابد أن نعرف هذه القوانين التي وفّرها الغرب في مجتمعه فأصبح قوياً، ثم نبدأ في تطبيق هذه القوانين في مجتمعاتنا لكي تتمتع بالقوة الذاتية المستمدة من عمق عقيدتنا وهويتنا الإسلامية المستقلة .
ولكي نوضح ما نقصد بـ ( قوانين ذاتية القوة ) نشير إلي هذا الحديث الذي رواه موسي بن علي عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال له عمرو : أبصر ما تقول . قال أقول ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً : إنهم لأحكم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف . وخامسة حسنة جميلة : وأمنعهم من ظلم الملوك" رواه مسلم.
ومن خلال قول عمرو : تتحدد عناصر البقاء الحضاري وهي :
الحكمة عند الفتنة .
الإفاقة بعد المصيبة .
الكر بعد الفر .
رعاية الضعفاء .
5- منع الظلم .
وهذه العناصر الخمسة هي علي وجه لتحديد موانع الهلاك إذا وُجِدت أسبابه، فإذا كانت الفتنة، وهي أول أسباب الهلاك، كانت الحكمة وهي أول أسباب إخمادها وتفادي آثارها . وإذا كانت المصيبة كانت الإفاقة التي تمنع استمرارها، وإذا كان الفر والهزيمة، كان الكر والمقاومة، ثم رعاية الضعفاء الدالة علي أصالة الأقوياء، ثم الامتناع علي ظلم الملوك الذي هو أصل الهلاك ليكون العدل، وهو أول شروط البقاء " (1).
__________
(1) قدر الدعوة –رفاعي سرور ص 106 ، 107 .(1/161)
وإذن " فالعقل الإسلامي لا يبحث في الغرب عن السلبيات فحسب، وإنما يري الإيجابيات ويعترف لهم بها : فهم أحكم الناس في مواجهة المشكلات، وأسرعهم نهوضاً بعد النكسات، وأوشكهم كرة بعد هزيمة، وخيرهم في توفير الضمان الاجتماعي للمساكين والأيتام والضعفاء . ويتوج هذه الصفات الأربع صفة خامسة جميلة وهي تمسكهم بالحرية ومناعتهم ضد استبداد الملوك والرؤساء . وهذا منهج في النظر إلي الغرب يفيد في أوقات الحرب والسلم سواء فهو يوجّه المسلمين في أوقات الحرب أن يبصروا جانب القوة فيمن يواجهونهم فيتقونه، وأن يبصروا في زمن السلم مزايا الآخرين فلا يغمطونهم حقوقهم ... ويتحدثون عن قرب سقوط الحضارة الغربية سقوطاً يوفر علي المسلمين عناء الاستعداد والمواجهة .. بل يذكرون دائماً أنه إذا كان مفهوم الأسرة قد انهار في الغرب، فإن مفهوم الأمة قد انهار عندنا في الشرق، وأنه إذا كانت نقطة الضعف في الغرب هي ـ ضعف المناعة الاجتماعية ـ فإن نقطة الضعف عندنا في الشرق هي ـ ضعف المناعة السياسة ـ وقابلية التفتت إلي عصبيات وإقليميات وطوائف وعشائر"(1).
إن الأمة ـ أية أمة ـ إذا حملت أفكاراً وهمية عن خصومها أو أصدقائها، فإنها لا تستطيع أن تخوض الصراع مع أولئك الأعداء، أو تقيم تعاوناً مع هؤلاء الأصدقاء .. والخلاص من الأوهام عن الأعداء والأصدقاء لايتم إلا بالإدراك الصحيح للواقع، والإدراك الصحيح لا يتم إلا بفتح السمع والبصر علي حقيقة هذا الواقع .
ومن هنا فإننا نؤكد علي ضرورة التخلص من العقلية السطحية التي لا تري في الغرب إلا السلبيات ومقدمات السقوط، وتغفل عما يملك هذا الغرب من مقومات القوة والبقاء .
__________
(1) هكذا ظهر جيل صلاح الدين –د. ماجد عرسان الكيلاني ص 309.(1/162)
ولا يعني هذا أننا نسلّم بأن العرب قوة صاعدة ومهيمنة ـ كما يزعم العلمانيون ـ بل إننا في ذات الوقت الذي نري فيه مقومات القوة في الغرب، نري عناصر الضعف وآليات الصراع ومقدمات الانهيار.. ونؤكد علي قدرتنا علي التصدي للصراع الحضاري معه، بل وإحراز التقدم عليه في هذا الصراع، وذلك طبقاً لقانون التدافع الحضاري، وبسبب من تآكل دور ( القيم ) والجوانب الإنسانية في المشروع الحضاري الغربي، واحتمالات تفجر الصراع بين أطراف المعسكر الغربي نفسه، وربما في المستقبل غير البعيد.
إن الهيمنة الغربية، والتبعية المطلقة من أمتنا للغرب ترجع ـ بالإضافة إلي الاستعمار والأنظمة العلمانية العميلة ـ إلي غياب ( الهوية الإسلامية )، وتزييف ( وعي ) الأمة الإسلامية، وضعف إرادة ( التحدي ) في نفوس أفرادها، وحب أكثرهم للدنيا وقعودهم عن الجهاد .. ويوم أن نري عنف التحديات الغربية لأمتنا سيُحدث ذلك ـ بإذن الله ـ نهضة إسلامية واستنفاراً للطاقات والقوي، وحشداً للإمكانات المتاحة في الأمة لتحقيق المشروع الحضاري الإسلامي واستعادة دور الأمة الإسلامية الحضاري في قيادة البشرية .
ولاشك أن النهضة الإسلامية المنشودة، والقيام برسالة الأمة الإسلامية، لا يتحقق من تلقاء نفسه ـ وإن كان الله قادراً علي ذلك ـ إنما يتحقق بجهود أفراد الأمة، وإن تهاون أفراد الأمة في بذل الجهد فإن ذلك يصيب الأمة بـ (التخلف ) بقدر هذا التهاون .. ذلك أن " الله سبحانه قد أجري حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها، ونقصانها لنقصانها "(1).
__________
(1) شفاء العليل –أبن قيم الجوزية .(1/163)
فإذا كان ( التقليد ) و ( التبعية ) للغرب قد أوقع الأمة الإسلامية في هوّة التخلف، فإن المخرج من هذه الهوة أن نحضن أمتنا بأسوار عالية من الريادة وعدم التبعية، وأن يكون في مشروعنا الحضاري الإسلامي ما تعترف به الإنسانية كحاجة لابد من إشباعها، وهو ما عبّر عنه قول الله عز وجل : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } آل عمران 110. فإذا دخلنا الصراع الحضاري بهذه المؤهلات فإننا نكون أسبق من غيرنا، ونحقق لأمتنا أكرم مكان في سُلّم الحضارة .
وإذا كان في صراعه الحضاري مع أمتنا الإسلامية يعتمد في المقام الأول علي تدمير الثروة البشرية، وسرقة العقول النابغة .. فإن هذا يحتم علينا في صراعنا الحضاري معه أن نحرص علي أمرين :
" أولهما : تنمية الثروة البشرية لدي أفراد الأمة بتنمية ما وهبهم الله من قوي واستعدادات دون تمييز بين غني أو فقير، .. وتقديم خبرة الأجيال وتجارب الناس وثمرات ما انتهي غليه العقل البشري .. تقديم كل ذلك للأفراد الموهوبين في الأمة .
والأمر الثاني : أن تكون هذه التنمية في سبيل المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، ومعني ذلك أن يبلغ الفرد في الخبرة وكسب التجارب في الحقل الذي تخصص فيه الغاية التي ليس وراءها غاية، ولكن ذلك ليضم إلي ثروة المجتمع وليكون لبنة قوية متماسكة في بناء المجتمع، ولا يكون ذلك إلا إذا آمن الفرد بعقيدة المجتمع واستمسك بمبادئه وحمل الرسالة التي يحملها المجتمع "(1).
وإذا كان يحاول السيطرة علي أمتنا عبر الأنظمة العلمانية العميلة .. فإن هذا يعني أن الطريق إلي الحضارة لا بد أن يمر بإلغاء هذه الأنظمة الاستبدادية، والرجوع إلي النظام السياسي الإسلامي الذي يقيم دولته علي أساس من الشورى ومشاركة الأمة في الحكم .
__________
(1) المجتمع الإسلامي –د. محمد أمين المصري ص 82 .(1/164)
إن الصراع القائم بين الأمة الإسلامية، والجاهلية المتعددة الأسماء، هو صراع ذو أبعاد مختلفة .. ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسة وعسكرية .. وبالتالي فهو صراع حضاري شامل لا يختص بجانب من جوانب الحياة دون جانب آخر . وهذا الصراع الشامل ذو الأبعاد المتعددة لا يمكن كسبه إلا بتكثيف الجهود وتركيزها .. فإذا أرادت الأمة الإسلامية مقاومة الحضارة الغربية، فإن هذا يستدعي أن تقوم بتأسيس حضارة إسلامية متكاملة الأبعاد، وتقوم بتجميع عناصر القوة في الأمة، وتوجهها إلي ما ينفع الناس، ويؤَمّن خطي الأمة علي طريق المستقبل، ويثبّت أقدامها ( في الصراع الحضاري ) .
وبكلمة :
الحضارة في المفهوم الإسلامي : هي عمارة الأرض بمقتضي المنهاج الرباني . وطبقاً لهذا المفهوم الإسلامي للحضارة، فإن واقع الأمة الإسلامية يشهد أنها تعاني من التخلف والتدهور الحضاري الفظيع..
وأن الفجوة الحضارية بينها وبين العالم المتقدم تزداد كل يوم . ولاشك أن الأمة الإسلامية إذا أرادت النهوض واللحاق بركب الحضارة . بل وسبقه، فإنه لابد لها أن تستعيد ثقتها في نفسها، وتحافظ علي ريادتها واستقلالها، وتدرك ما لديها من طاقات وقوي ذاتية فتستخدمها في بناء حضارتها، ولا تضيعها في الفراغ أو تتركها لأعدائها يستخدمونها في إذلالها والتحكم فيها..
فإذا فعلت الأمة ذلك فإنها تكون قد ملكت العوامل المادية التي قد يمتلكها الآخرون .. وتبقي الأمة الإسلامية متميزة بملكية السلاح الذي لا تملكه الأمم الأخري، وهو المنهاج الرباني .. فيكون لها السبق الحضاري علي كل الأمم، وتعود إلي قيادة البشرية من جديد .
( ( ( (
الفصل الثاني
الفاعلية طريق الحضارة(1/165)
الإنسان ـ في أية أمة ـ هو أساس الحضارة وصعود أو هبوط أمة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدي فاعلية الإنسان، فإذا اتسم سلوك الإنسان ـ في أية أمة ـ بالفاعلية، كان النهوض الحضاري لهذه الأمة .. أمّا إذا انعدمت فاعلية الإنسان، وتواري جهده فإن مستقبل هذه الأمة لا يحمل لها إلا التخلف والانحطاط الحضاري.
ولقد كان ( الإنسان ) في الأمة الإسلامية هو مدار الحركة الحضارية، وتمثل حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام والأجيال الأولي من المسلمين هذه الحقيقة تمثيلاً واضحاً " وقيام رسول الله بدعوته واستعماله الطاقات الطاقات الإنسانية التي زود بها وإتباعه كل الوسائل والقواعد في عالم العمران المادي والبشر لنشر دعوته وتحقيق المجتمع الذي أُرسل من أجل أبنائه، وتحمله أنواع العذاب والجراحات، للانتصار علي الأعداء في كل مظهر من مظاهر جهاده ضدهم .. كل ذلك دليل علي ما نقول .
إن الدراسة الواعية لحياة رسول الله صلي الله عليه وسلم تعطينا البرهان القاطع علي أنه ما من قانون من قوانين الحياة خلقه الله لأداء الأمانة والاستخلاف، إلا اتبعه لبناء المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك في حياته الفردية أم في حياته الاجتماعية، وسواء كان ذلك في سلمه أم في حربه "(1).
وإذن فقد كان الإنسان حاضراً ومؤثراً في بناء الحضارة الإسلامية .. وإلا " فمن الذي دخل في الصراع مع الشرك حتي قضي عليه ؟
من الذي نشر الإسلام وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير ؟
دماء من جرت في سبيل إنقاذ الإنسان المسحوق من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده ؟
... من الذي ترجم نتاج الحضارات الأخري . واستخرج منها حضارة مستقلة مصبوغة بصبغة إسلامية ؟
__________
(1) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري –د. محسن عبد الحميد ص 63 ، 64 .(1/166)
ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك، ( الإنسان ) المسلم الذي كرّمه الإسلام وأعاد إليه حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلباً، عبداً للشركاء والأنداد "(1).
لقد فهم صحابه رسول الله صلي الله عليه وسلم والأجيال الأولي من المسلمين أن منهاج الله الذي أنزله علي رسوله هو منهاج للحياة البشرية " يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقاتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها حينما يتسلم مقاليدهم . ويسير بهم إلي نهاية الطريق في حدود طاقاتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة " (2) وليس بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب !!
ومن هنا كانت حركة المسلمين الأوائل في سبيل بناء الأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية تقوم علي أساس أن العمل وحده هو الذي يخط مصير الأمة في واقع الحياة، وان عرق الأحياء في عمل جماعي مشترك هو الذي يتكفل ببناء حضارة هذه الأمة، وأن ملكية الحق لا تكفي للتمكين له في الأرض، إلا أن يكون من يحمل هذا الحق ( يعمل) من أجل تمكينه ونصرته.
" وانطلاقاً من هذه المقدمة الموجزة، نصل إلي تحديد معلم هام من معالم الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين .. هذه العقلية التي غدت طافحة بالأفكار النظرية المجردة ن ولكنها ما تزال ـ علي الرغم من ذلك ـ عاجزة عن وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ العملي ن أو هي ما تزال مقصرة في تسخير الأفكار بطريقة واقعية، تجعلها علي أكبر قدر من الفعالية .. في حين أن أصول هذه الأفكار نفسها قد نهضت في زمن من الأزمان بأمتنا، بل وبالجنس البشري كله نهضة تفوق الخيال !! "(3).
__________
(1) المصدر السابق ص 65 ، 66.
(2) هذا الدين –سيد قطب ص 6 .
(3) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق –د. أحمد كنعان ص 33 ، 34 .(1/167)
إن المسلمين يمتلكون نظرية صحيحة ومنهجاً متكاملاً منّ الله به عليهم يوم أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمته، ولكنهم في واقع الحياة يعانون من الاستلاب الحضاري وانطفاء الفاعلية .. ولذلك فإنهم يزحفون وراء غبار الركب البشري مع الزاحفين المنقطعين !!
إن الأفكار تبقي ( ميّتة ) حتي لو كانت صادقة وصحيحة حين لا تكون ذات ( فاعلية ) في إطار زمني محدد، والأشياء تصبح باهتة ومجرد أكداس إذا لم تكن متأتية من حركة الحضارة ومتسقة مع وظيفتها، والأشخاص يتحولون إلي البداوة وعدم التحضر عند فقرهم للروابط التي تفسر اجتماعهم وعملهم المشترك في سبيل أهدافهم الحضارية ..
إن التقدم أو التخلف لا يعتمد علي الأفكار الصحيحة فقط، وإنما يعتمد أيضاً علي أسلوب الحياة الذي ينتهجه أفراد الأمة في سبيل تحقيق أهدافها !! .
ولكي نوضّح أثر أسلوب الحياة علي سلوك أفراد الأمة في سبيل تحقيق أهدافها ن نتصور " لو أن إنساناً سار في البلاد الشرقية الإسلامية، وتنقل في تطوافه من مدينة جاكرتا متجهاً إلي أقصي الغرب حتي بلغ مدينة طنجة، ومر في مسيرته هذه علي مختلف البلاد الواقعة علي محور جاكرتا ـ طنجة لوجد ظاهرات اجتماعية تكاد تسيطر علي هذه البلاد جميعها .
ولو أن هذا الإنسان نفسه بعد رحلته الأولي شرع في رحلة ثانية علي محور آخر بادئاً من مدينة واشنطن متجهاً إلي موسكو محاولاً زيارة مختلف البلاد التي تقع علي هذا المحور لوجد ههنا أيضاً ظاهرات اجتماعية تكاد تسيطر علي هذه البلاد جميعها وتختلف اختلافاً تاماً عن الظاهرات الأولي.
في البلاد الثانية يلاحظ المتأمل ما يلي :
أ – فعالية هؤلاء الناس وحياتهم المملوءة جداً وحرصاً علي الوقت وتنظيمه .
ب –الاستفادة من هذا الحرص وهذا التنظيم لتكون محصلة العمل التي تتم أكبر محصلة ممكنة ...
جـ -ظاهرة التخصص لدي أفراد المجتمع واضحة بالغة حداً من الدقة، ونتيجة هذا كله :(1/168)
د –وفرة الإنتاج لدي هؤلاء وفرة تزيد حاجاتهم أضعافاً كثيرة . وشبيه بهذا المجتمع مجتمع النخل بما فيه من فعالية وتخصص ووفرة في الإنتاج عظيمة .
يقابل هذه الظواهر في المجتمع الأول ما يلي :
ا –فعالية تكاد تكون منعدمة، ونظرة إلي الوقت علي أنه لا قيمة له .
ب –نشاط متجه إلي اللغو والحديث غير المنتج .
جـ -والإنتاج أضأل من حاجات المجتمع ولذلك كان هذا المجتمع عالة علي المجتمع الثاني في حاجاته الحيوية .
من أجل ما سبق سُمّي المجتمع الأول متخلفاً، والثاني حضارياً . ولقد امتن أفراد المجتمع الثاني علي أفراد المجتمع الأول فرأوا أن يعدلوا عن تسميته متخلفاً إلي تسميته مجتمعاً آخذاً في النمو (1) ، ولكن نواياهم الحقيقية مكان ارتياب كبير .ومن أجل ما سبق فرض المجتمع الثاني علي الأول سبقه وتقدمه، وبالتالي وصايته وسيطرته، كما فرض عليه ضرورة الإقتداء به وإسراع السير للحاق به !! "(2) .
__________
(1) لقد أطلقوا علي المجتمعات المتخلفة لفظة ( النامية ) كيلا تشعر بعمق المأساة فلا تتساءل عن سبب تقدم الآخرين وتخلفها ، ولا تتحول الهزيمة النفسية إذا ما أحستها إلي دافع يفجر فيها روح ( التحدي ) والرفض للواقع المزري مما يجري نحو التغيير من أجل التقدم والرقي .
(2) المجتمع الإسلامي – د. محمد أمين المصري ص 33-35.(1/169)
إن الإنسان الذي يعيش علي محور واشنطن ـ موسكو، يواجه نفس المشكلات التي يواجهها الإنسان علي محور جاكرتا ـ طنجة. فهو يكدح من أجل قوت أبنائه ويناضل في سبيل بناء أمته، ويعمل بصورة ما لتدعيم حضارتها .. فما الذي جعل مجتمعات الإنسان الأول تصنف علي أنها مجتمعات متقدمة، ومجتمعات الإنسان الثاني تصنف علي أنها مجتمعات متخلفة ؟ لاشك أنها ( الفاعلية ) في المجتمع الأول هي التي دفعت به إلي التقدم، وغياب هذه الفاعلية في المجتمع الثاني هي التي جعلت منه مجتمعاً متخلفاً، فعلي " محور واشنطن – موسكو توجد ديناميكية خاصة تختلف عن ديناميكية محور طنجة ـ جاكرتا، والفرق منحصر في أن الثرثرة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ حيثما يسود الكلام تبطئ الحركة ... وميزانية التاريخ ليست رصيداً من الكلام بل كتل من النشاط المادي ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه "(1) ولذلك كانت المجتمعات التي لا تمتلك إلا رصيد ( الكلام ) هي المجتمعات المتخلفة، وكانت المجتمعات التي تمتلك رصيد ( العمل ) والنشاط هي المجتمعات المتقدمة .
إنه قد يكون من الأولي للمشتغلين بعملية بعث الأمة الإسلامية وإحيائها من مواتها، من الإسلاميين، الذين يكتبون، ويحاضرون، ويتحدثون عن عظمة الإسلام ـ الأمر الذي أصبح يقيناً عند معظم المسلمين اليوم ـ أن يتوقفوا ولو مرة واحدة، للقيام بعمل حقيقي يبدأ من الإجابة علي السؤال الحيوي : لماذا تأخر المسلمون ؟ ولماذا لم يُحْدِث الإسلام ـ هذا الدين العظيم ـ التفاعل والتغيير المطلوب في واقع الأمة الإسلامية؟ إن الإجابة المحددة عن مثل هذه الأسئلة هي التي تُسْهِم في تغيير واقع الأمة، وتحقق لها النقلة النوعية نحو التقدم والحضارة .
__________
(1) مشكلة الثقافة –مالك بن نبي ص 108 .(1/170)
لقد زعمت القيادات العلمانية في بلاد الإسلام أن الكثافة البشرية للمجتمعات الإسلامية هي السبب الأول في تخلفها ... فهل هذا هو السبب الحقيقي ؟ إنه " إذا بدأ تزايد السكان في بلاد متخلفة كارثة مثل كارثة زحف الجراد علي أرض ذات زراعة ومرعي، فإنما ذلك لسبب واحد هو أن التخلف الاقتصادي مبطن دائماً بتخلف ذهني "(1) إن كل ما يعرفه هؤلاء العلمانيون عن الكثافة البشرية هي الدعوة لتحديد النسل، بينما القضية ليست كذلك .. " إن القضية ترتبط أساساً بالفاعلية للفرد فهناك كتل بشرية كبيرة تعيش علي مجموعة قليلة هي التي تنتج، ويمكن أن نقدم علي ذلك مثلاً صاروخاً هو : الهند والولايات المتحدة .. إن عدد سكان الهند أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة، فلو نظرنا إلي الطاقة الإنتاجية في المجتمع الهندي والطاقة الإنتاجية في المجتمع الأمريكي لوجدنا في الولايات المتحدة عشرين ضعفاً للموجود في الهند رغم أن عدد السكان في الهند أكبر بكثير .. والسبب هو الفاعلية الاجتماعية "(2).
__________
(1) بين الرشاد والتيه –مالك بن نبي ص 172 .
(2) فقه الدعوة –عمر عبيد حسنة جـ1 ص 174.(1/171)
فكأنما قضية الكثافة البشرية بالقدر الذي تعطي فيه مديً أو رصيداً يمكن أن يتولد عنه حضارة في مرحلة من المراحل، يمكن كذلك بالقدر نفسه أن تكون عبئاً علي قضية الحضارة وهذا ما يلاحظه كل من يتفكر في المعادلة الصعبة : الكثافة البشرية والبناء الحضاري ؟! إنه يري مجتمعات فيها كتل بشرية كبيرة ولكنها مصابة بما يمكن تسميته بـ ( الكساح الحضاري )، ومجتمعات أخري قليلة العدد ـ بشرياً ـ ولكنها تمتلك عطاء حضارياً !! وما ذلك إلا لأن الكتلة البشرية إنما تفيد عندما تترافق معها فاعلية اجتماعية أمّا إذا كانت دون هذه الفاعلية، فإنها تبقي عاجزة ويمكن أن نأخذ مثالاً علي ذلك الصين والهند، فعندما وجهت الكثافة البشرية في الصين إلي الفاعلية الإنتاجية تقدمت، وفي حين بقيت الهند علي تخلفها لأنها لم تتمكن من توجيه الكثافة فيها نحو الإنتاج ..
" والشاهد من هذا كله، أننا نحن المسلمون لم نتعامل إلي الآن مع قضية الكثافة البشرية من منطلق حضاري واقعي، صحيح أن هناك معاناة شديدة في بعض بلدان العالم الإسلامي، ولكن سبب هذه المعاناة ليس في عدد السكان بقدر ما هو في الإدارة الفاسدة السيئة التي تشرف علي إدارة الموارد .."(1).
إن الأرض الإسلامية من المحيط إلي المحيط هي ـ بقدر من الله ـ أغني بقعة في الأرض وأكثرها خيرات، وقد كانت ـ وما تزال حتي هذه اللحظة ـ لم تستثمر الاستثمار الكامل الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها "(2). ولذلك فإن أهل تلك الأرض الإسلامية ـ برغم بترولها، ومعادنها، ومواردها المائية ن وقواتها البشرية ـ هم أفقر أهل الأرض جميعها وأكثرهم مشاكل ! .
__________
(1) فقه الدعوة ملامح وآفاق –عمر عبيد حسنة ص 175 .
(2) واقعنا المعاصر –محمد قطب ص 181.(1/172)
" إن السبب وراء فقر الأرض الإسلامية وكثرة مشاكلها ليس قلة مواردها، وإنما هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضي بالفقر علي أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلي تغييره خوفاً من الوقوع في خطيئة التمرد علي قدر الله !! "(1).
إننا فقراء ما في ذلك شك، ولكنّا لا نحمل في جنوبنا هماً لعلاج هذا الوضع باستخدام الموارد المتاحة لنا استخداما مجدياً ..
إن الكلام عن قوة الأعداء الذي نتحايل به علي تخلفنا ليس هو السبب الأول لهذا التخلف، وإنما السبب الأول لتخلفنا هو عجزنا وخمول عقولنا في مختلف المجالات .
" إنه ليس مكن الضروري ( ولا من الممكن ) أن يكون لمجتمع المليارات من الذهب كي ينهض ن وإنما ينهض بالرصيد الذي وضعه الله بين يديه : الإنسان والتراب والوقت "(2) ولذلك فغن الجهد الأكبر لابد أن يوجه لصناعة الرجال الذين يتحركون في الواقع، مستخدمين التراب والوقت والمواهب من أجل بناء نهضة الأمة الإسلامية .
ومن هنا فإن كل من يحاول التخطيط لبناء الحضارة الإسلامية " لابد له من التفكير في أمور ثلاثة : في الإنسان والتراب والوقت، فيحاول أن يبني الإنسان بناءً كاملاً، ويعتني في الوقت ذاته بالتراب ن والزمن .. فإذا فعل ذلك فإنه حينئذٍ قد كوّن المجتمع الأفضل، وكوّن الحضارة التي هي الإطار الذي تتم فيه للفرد سعادته وللأمة تقدمها "(3).
__________
(1) المصدر السابق –ص 181.
(2) بين الرشاد والتيه –مالك بن نبي ص 60.
(3) تأملات –مالك بن نبي ص 170 .(1/173)
وإذن فإن الخطوة الأولي علي طريق الحضارة هي التفكير في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، ومحاولة توفير الشروط التي تحقق له ما ينبغي من الفاعلية التي تؤهله لحمل رسالته وبناء حضارة أمته .. " فحاجتنا الأولي هي الإنسان الجديد .. الإنسان المتحضر .. الإنسان الذي يعود إلي التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ عهد بعيد . وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمي الإنسان لا تتم بمجرد إضافة جديدة إلي معلوماته القديمة لأنه سيبقي هو قديماً في عاداته الفكرية وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وعلي الأخص في لا فعاليته "(1) التي يدركها كل من ينظر نظرة فاحصة إلي واقع الأمة الإسلامية ن مقارنة بغيرها من الأمم ..
ولكي نوضح ما نقصده بقولنا : إن حاجتنا الأولي هي الإنسان الجديد .. الإنسان المتحضر .. وأنه لابد من توفير الشروط التي تحقق له كل ما ينبغي من الفاعلية، ننظر إلي واقع بلد مثل ( اليابان ) .. ذلك البلد الذي يعيش في منطقة فقيرة من المواد الخام كالبترول والمعادن، كما أنها ليست منطقة إستراتيجية من ناحية الوضع الجغرافي .. ولكنه في ظل هذه الظروف الصعبة يتقدم يوماً بعد يوم، بل ويغزو إنتاجه في العالم الغربي ..
" لقد كانت مصر واليابان ذات يوم متأخرين علي مستوي واحد أو متقارب، ودخلتا الخضم في وقت واحد أو متقارب .. فمضت اليابان في الشوط حتي سبقت السابقين الذين تتلمذت عليهم من أهل الغرب، وتعثّرت مصر في خطواتها، وتخاذلت، وانتكست عدة مرات .. لماذا ؟
__________
(1) تأملات –مالك بن نبي ص 190 ، 191 .(1/174)
أحست اليابان بالحاجة إلي النهوض وهي محتفظة بذاتيتها، فأعطت من نفسها العزيمة المطلوبة ن وبذلت الجهد المطلوب . وأحست مصر بالحاجة إلي النهوض وهي مسلوبة الشخصية، فلا شخصيتها الإسلامية كانت حية تدفعها إلي العمل، ولا اكتسبت ـ وهي في موضع التقليد ـ ذاتية مستقلة، لأن التقليد يقتل الذاتية ولا يُنمّيها، ومن ثم ظلت في مكانها، أو تحركت خطوات متخاذلة متعثرة، لا توصّل إلي شيء ذي بال ! "(1).
إن اليابان بدأ الطريق إلي التقدم ببناء الإنسان المتحضر والمجتمع المتحضر، ودرس الحضارة العربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته . " فالفارق العظيم بين الصلة التي ربطها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها، أن اليابان وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون !! إنه استورد منها الأفكار بوجه خاص ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص "(2) ..
وإذن فقد حققت اليابان الموقف المتوازن من الحضارة الغربية، فأخذت ما فيها من الأدوات مع احتفاظها بذاتيتها، وبلغت بهذا الموقف المتوازن أرقي درجات التقدم، وأحست بضرورة أن تدخل السباق الحضاري، فإنه لا سبيل لها إلي ذلك إلا أن تقف الموقف المتوازن، فتدعو إلي الاستفادة مما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي وحضاري، وفي الوقت ذاته تحذر من الذوبان في شخصية الغرب .
" وبمثل هذه الروح يمكن للعالم الإسلامي أن يحل مشاكله . فحين يسترد ذاتيته المفقودة سيكون أقدر علي الاستفادة من تقدم الغرب المادي والعلمي، أضعاف أضعاف ما يستفيده اليوم وهو في موضع التقليد كالعبيد .. وعندئذ يتقدم، ويتغلب علي ( التخلف ) الذي يري البعض أنه العقدة التي لا تحل ! "(3).
__________
(1) كيف نكتب التاريخ الإسلامي ؟ -محمد قطب ص 242 .
(2) تأملات –مالك بن نبي ص 185 .
(3) كيف نكتب التاريخ الإسلامي ؟ -محمد قطب ص 244.(1/175)
إن الأمة الإسلامية قادرة علي أن تنهض من تخلفها وعجزها وهوانها وواقعها الراهن، كما نهضت اليابان من تحت أنقاض هزائمها وكوارثها ودمارها المادي والمعنوي، لتصبح رغم ضيق مساحتها، وحرمانها من الثروات الطبيعية الضرورية .. تصبح الدولة الثانية في العالم بمقياس التقدم الصناعي والتجاري !! ما الذي ينقصنا عن الشعب الياباني الذي لم يكن يملك غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية إلا مدناً خربة، وصناعة مدمرة .. فشق طريقه بعزيمة صادقة، وإرادة صارمة، ووسائل مكافئة للحاجة والأهداف، حتي غزت صناعته أسواق العالم .. وأصبح الغرب يبحث عن سبيل اللحاق بهذا الشعب ..
وكذلك الشعب الألماني صاحب أقوي دولة أوروبية اقتصادياً .. كيف خرج من الحرب العالمية الثانية ؟
لقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية وهي تحمل ذكري عشرة ملايين قتيل، ولا تمتلك إلا أنقاض حضارة سادت ثم بادت، ولكنها بالعمل الجدي البصير المستمر تغلبت علي مشاكلها وتقدمت، واستعادت كل قوتها وأكثر .. وأصبحت في سنوات معدودة أهم دولة في أوروبا، وواحدة من أهم دول العالم في الصناعة والتجارة والاقتصاد والتقدم العلمي، وأيضاً في دورها وأثرها في حركة المجتمع البشري !!
" إن سر تقدم الأمم يكمن دائماً في القدرة علي تسخير القوي المتاحة، وإذا أرادت الأمة الإسلامية أن تنهض وتتقدم، فليس أمامها من سبيل إلا أن تتصرف في حدود ما تملك فعلاً، لا أن تحلم بما هو خارج عن أيديها، لأن مثل هذه الأحلام لا تثمر في النهاية إلا الحسرة والندامة..
وحين تتصرف الأمة الإسلامية فيما تملك وفق السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق، فإنها بهذا تستثمر الطاقات المتاحة علي أحسن وجه "(1).
__________
(1) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق –د. أحمد كنعان ص 50.(1/176)
" إن وطننا متخلفاً لابد له ـ إذا أراد التقدم ـ أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات يستثمر كافه عقوله وسواعده ودقائقه ن وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة اجتماعية "(1) وبالتالي حركة حضارية في ذلك الوطن .
إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية، يجد أن الأنظمة العلمانية القائمة عليها تركّز علي عنصر رأس المال، بل وتزعم أنه العنصر الوحيد القادر علي تحقيق التنمية في دول العالم الإسلامي، وأنه لا سبيل لهذه الدول للخروج من التخلف إلا باستيراد التكنولوجيا !!
ولاشك أن هذه الطريقة في بناء التقدم الحضاري هي طريقة ( العملاء ) الذين يُحِبّون أن تظهر أنظمة حكمهم بمظهر التقدم، فيقيمون المصانع العملاقة، ثم يستوردون لها كل المعدات من الغرب .. بل ويستوردون كوادر العمل في هذه المصانع !
ومن هنا فإن هذه المصانع والمشروعات التنموية رغم الحجم الكبير للإنفاق فيها، لا يكون لها أدني أثر في تقدم الأمة الحضاري، وما ذلك إلا لأن ( الإنسان ) في كل هذه المشروعات كان غائباً ..
إن التنمية الناجحة تعتمد أساساً علي تحول ( الإنسان )، ولذلك فلابد أن يتحول اهتمامنا بالتكنولوجيا ورأس المال إلي ( الإنسان ) .. كيف نُعيد تشكيل عقله وفق المنهج الإسلامي ؟ وكيف نُعيد إليه الفاعلية التي يمنحه إياها ذلك المنهج ؟
وكيف نحرره من روح الاتكالية، وندفعه إلي التطلع إلي التقدم ؟
فإذا استطعنا الإجابة علي هذه الأسئلة فقد وضعنا أقدامنا علي أول الطريق للتقدم والخروج بالأمة من مرحلة (القصعة المستباحة) إلي التمكين والريادة .
__________
(1) بين الرشاد والتيه –مالك بن نبي ص 172 .(1/177)
إن الطريق إلي التقدم والحضارة والريادة، يقضي ببتر كل علاقات التبعية للغرب مهما كان نوعها، وتقبل سائر الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يرشد ويتحمل كامل مسؤولياته .. ولذلك فإننا إن كنا صادقين في محاولتنا لإخراج أمتنا من التخلف إلي التقدم، فلابد لنا من التحرك في هذا الطريق ـ وإن كان وعراً صعباً ـ فلنعزم العزمة ونمضي في هذا الطريق، وليعقد كل منا العزم علي أن يقلل شيئاً من تخلف هذه الأمة التي يعيش فيها.. فإذا فعلنا ذلك فإننا قادرون ـ إن شاء الله ـ علي أن نلحق بمن سبقونا، بل وربما نتجاوزهم.
وبكلمة :
الإنسان هو أساس الحضارة، ولذلك يؤكد منهج التغيير الحضاري الإسلامي علي صياغة الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد الطرق وتنظيم الحياة المادية، أو معها علي الأقل .. بينما تركّز الأيدلوجية العلمانية علي نقل التكنولوجيا .
ولاشك أن الواقع خير شاهد علي أن هذه الأيدلوجية العلمانية لم تفشل في ردم الهوة الحضارية بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم فقط .. بل إنها ساهمت في زيادة اتساع هذه الهوة . لأنها كانت تسير بنفس خطوات الغرب، فردت بضاعة الغرب إليه وصبت كل الجهود في محصلته .
وإذن فالطريق الصحيح للخروج بالأمة الإسلامية من دائرة التخلف أن نعود إلي منهاج الإسلام في التغيير الحضاري، فنقوم بتفجير الطاقات الكامنة في الإنسان المسلم، وعندها نمتلك القدرة علي القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم والانجاز الحضاري .
إن الأمة الإسلامية لن يكون لها مكان علي خريطة المستقبل إلا إذا تاب أبناؤها من خطيئة الكلام الكثير والعمل القليل، وإلا إذا شمر كل منهم عن ساعديه وتعبد لله في ليله ونهاره بالعمل الكثير .. وبدون ذلك، ستبقي هذه الأمة بين مطرقة الغرب الحاقد وسندان أفعال أبنائها العاجزة، والتي لا تعدو في كثير من الأحيان مجموعة من الكلمات !!(1/178)
إن التخلف الذي ترسف فيه أمتنا إنما هو في حقيقته نتيجة لأزمة لكسلنا وعجزنا عن المبادأة في أي ميدان .. ولا طريق لنا إلي التقدم إلا أن نكون علي يقين أن الفاعلية هي طريق الأمم إلي الحضارة .
( ( ( (
الفصل الثالث
إحياء الفاعلية .. وقيادة البشرية
تمهيد :
يتطلع كثير من المسلمين إلي اليوم الذي تسقط فيه الحضارة الغربية لصالح الحضارة الإسلامية دون أن يقوموا في سبيل ذلك بأي عمل، ودون أن يبذلوا من أجله أدني جهد !! ويظن ( بعض ) العاملين في ميدان العمل الإسلامي أن مجرد الشحن النفسي والتثوير الوجداني لأفراد الأمة الإسلامية يمكن أن يكون سبيلاً للتغيير الحضاري !!
ولا شك أن هذا الظن وذاك التطلع هو محض وهم، أو حديث نفس نُسلّي به أنفسنا، ونوهمها في ظلاله أننا نسابق الدنيا، بل ونتصور قيادتها !! بينما لو كشفنا عن الواقع لثامه لعلمنا أننا في مؤخرة القافلة البشرية، وأن بيننا وبين قيادتها مسافة كبيرة لابد لكي نقطعها من عملية تنمية شاملة تفضي إلي مولد حضارة جديدة، أو مرحلة جديدة من مراحل التطور الحضاري .
إن الحضارة الإسلامية لا يمكن أن تنتصر بالأماني والأحلام، وإنما هو الجهد والمعاناة والتضحية وعدم الاستعجال أو الارتجال .. فإذا فعلت الأمة الإسلامية ذلك فإنها تتقدم بخطوات ثابتة في طريق قيامها بدورها في قيادة البشرية .
المبحث الأول : إحياء الفاعلية الإسلامية(1/179)
" يحض الإسلام المؤمنين علي التسارع الحضاري عملاً وانجازاً وابداعاً مسؤولاً، ويعلن رفضه للكسل والقعود والاتكال والعبور السالب للعالم دون تغيير أو إعمار .. ولكنه مع ذلك لا يجعل ذلك هدفاً بحد ذاته .. إنما يعده وسيله فحسب لتهيئة الحياة الدنيا لعبادة الله وحده، وإيجاد المناخ المناسب لممارسة ( الاستخلاف ) "(1) وبهذا التحديد يكون المؤمن الحق هو الذي يعرف كيف ( يسارع ) وكيف ( يسبق ) ؟ .. ويكون " مفهوم الحضارة لا يعني إلا واقع الأمة ذات الفاعلية المحققة لعبادة الله في الأرض، ويبقي مفهوم الحضارة ببقاء تلك الفاعلية "(2) .
ولكي يحقق المسلم هذا المفهوم للحضارة، لابد له من العمل والإبداع المتواصل منذ لحظة الوعي الأولي وحتي ساعة الحساب .. ولابد له أن يحوّل الحياة الإسلامية إلي فعل إبداعي مستمر .. ذلك أن نصر الله لا ينزل علي المتقاعدين المتواكلين .
إن من يتأمل مسيرة الأمة الإسلامية، يُدْرك لأول وهلة لماذا كانت الأمة قوية ممكنة، ثم صارت إلي ضعف واستضعاف، بل ووصلت إلي مرحلة ( القصعة المستباحة ) ؟
إن الأوائل من المسلمين كانوا ينظرون إلي مشاكلهم من زاوية الفاعلية، وكان المفهوم الإسلامي يحتقر العجز والكسل .
أمّا اليوم، فإن خط سير المسلمين ينتابه مرضان أو ذهانان " ذهان ( الشئ السهل ) الذي لا يستدعي أي مجهود، والذي يستملينا إلي الكسل .. وذهان ( الشئ المستحيل ) الذي يجعلنا نحكم مسبقاً ومن أول وهلة بأن النشاط فوق مستوي وسائلنا، مما يفضي بنا علي هذا المنوال إلي الشلل التام ..
بينما النظرة الصحيحة أن نعلم أنه ليس هناك ( سئ سهل ) ولا ( شئ مستحيل )، وإنما لكل مشكلة واقعية حلها الذي تنحصر القضية في تطبيقه بالجهد الذي الذي يستلزمه "(3).
__________
(1) العقل المسلم والرؤية الحضارية –د عماد الدين خليل ص 40 .
(2) قدر الدعوة –رفاعي سرور ص 97 .
(3) آفاق جزائرية –مالك بن نبي ص 147 .(1/180)
فإذا علمنا ذلك، كان تحركنا في الواقع محكوماً بما يمكن أن نطلق عليه ( المنطلق العملي )(1) ، وهو أننا نستخرج من وسائلنا وإمكاناتنا أقصي ما يمكن من الفائدة .
ولكي نوضح ما نقصده بـ ( المنطق العملي ) ننظر في واقع المسلمين اليوم .. " إن المسلم يتصرف في أربعٍ وعشرين ساعة كل يوم، فكيف يتصرف فيها ؟
وقد يكون له نصيب من العلم، أو حظ من المال، فكيف ينفق ماله، ويستغل علمه ؟ وإذا أراد أن يتعلم علماً أو حرفة، فكيف يستخدم إمكانياتها في سبيل الوصول إلي ذلك العلم أو تلك الحرفة ؟
إننا نري في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من ( اللا فاعلية ) في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث، وفي المحاولات الهازلة .
وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نري سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها، فسياستنا تجهل وسائلها، وفكرتنا لا تعرف التطبيق، وإن ذلك كله ليتكرر في كل يوم عمل نعمله، وفي كل خطوة نخطوها ..
وربما قيل أن المجتمع الإسلامي يعيش طبقاً لمبادئ القرآن، بينما الأصوب أن نقول : إنه يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن، لعدم وجود المنطق العلمي في سلوكه الإسلامي !! .. إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول في الحال إلي عمل ونشاط .
ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي "(2)، !!
__________
(1) لسنا نعني بالمنطق العلمي ذلك الشئ الذي دونت أصوله ، ووضعت قواعده منذ أرسطو ، وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده .
(2) مشكلة الثقافة –مالك بن نبي ص 83 ، 84 .(1/181)
إن نصيب الأمة الإسلامية من الساعات كنصيب أية أمة أخري، ولكن " حين يدق ناقوس العمل منادياً أفراد الأمم الأخري .. أين يذهب أفراد الأمة الإسلامية ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة، فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمي الوقت .. ولكنه الوقت الذي ينتهي إلي عدم، لأننا لا ندرك معناه، ولا نعرف كيف نستثمره "(1) !!
ولننظر إلي شعب كشعب اليابان أو كوريا أو غيرهما من الشعوب التي تمثل في تحركها خلايا كخلايا النحل لها طنين لا ينقطع بالليل ولا بالنهار .. لننظر إلي هؤلاء لندرك ونتيقن أن ( عدل الله ) هو الذي يقضي برفع أقوام وخفض أقوام، فهو عز وجل يرفع الذين يتعاملون مع سنته ويعمرون الأرض، ويخفض الذين قعدوا وعجزوا وغرتهم الأماني .
عن علينا نحن المسلمين أن نستثمر الوقت، ونستخدم إمكاناتنا استخداماً صحيحاً لنضع البديل ( المأمول ) الذي يُمَكّنا من عبور الفجوة الحضارية التي تفصل بين أمتنا الحائرة المتعثرة وبين شعوب الأمم الأخري التي تقفز علي طريق النمو والتقدم قفزاً .
" عن وقت المسلمين لا يجب أن يضيع هباءً كما يهرب الماء من ساقيه خربة، ولذلك فلابد أن يكف كل مسلم عن الثرثرة التي تصيبه بالغفلة عن الصوت الصامت لخطي الزمان الهارب، ويتعلم تخصيص نصف ساعة يومياً ـ علي سبيل المثال ـ لأداء واجب معين، فإذا خصص كل مسلم هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة، فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها، .. كما أن هذا ( النصف ساعة ) سيثبت عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدي ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة "(2) .
__________
(1) مستفاد من كتاب : شروط النهضة –مالك بن نبي .
(2) شروط النهضة –مالك بن نبي ص 141 .(1/182)
إن الأمة الإسلامية لابد أن يسودها ( القلق ) من واقع التخلف الذي تعيشه، ولابد أن يستشعر أفرادها ( الخطر ) من المستقبل الذي لن يحمل لهم ـ إن بقوا علي كسلهم وعجزهم ـ إلا التبعية الذليلة التي يتحول فيها أفراد الأمة إلي ( خدم ) لأفراد الأمم الأخري !!
فإذا ساد الأمة ( القلق ) واستشعر أفرادها ( الخطر )، فإن هذا يؤدي ـ إن شاء الله ـ إلي وضع جديد في الأمة يمكن أن نطلق عليه حالة ( إنقاذ ).. وأول ما يكون من أثر هذه الحالة في نفوس الأفراد أنها تحرمهم الشعور بالاستقرار لما يعتريهم ويسيطر علي مشاعرهم من قلق لا يمكن دفعه إلا بتغيير واقع أمتهم.. وهكذا ينطلق الأفراد الذين كانوا من قبل مُكَبّلين بكسلهم .. ينطلقون لأنهم يشعرون فجأة بانفجار ذاتي داخل نفوسهم .. انفجار يطلق طاقاتهم المكبلة في اتجاه تغيير واقع الأمة.
وهكذا .. تتجدد فعالية الأفراد، وتتم فعالية الأمة، ويكون التغيير المنشود .
إنه لمن المستحسن أحياناً أن نعيد التفكير في تجربة غيرنا عندما تكون قابلة للتطبيق علي حالتنا نحن، لكي نكيفها مع شروطنا الخاصة .. ولذلك فنحن نورد في نهاية هذا الفصل تجربة قريبة منا " وواقعة تحت أنظارنا، هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحروب التي خلفت وراءها ألمانيا قاعاً صفصفاً، حطمت فيها كل جهاز للإنتاج، ولم تبق لها من شئ تقيم علي أساسه بناء نهضتها، وفوق كل ذلك تركتها لتصرف شؤونها تحت احتلال أربع دول، فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني، ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه "(1).
واليوم، نري هذا الشعب وقد انبعث من الموت والدمار، وأنشأ الصناعات الضخمة، بل وحوّل ألمانيا إلي أهم دولة في أوروبا، وواحدة من الدول ذات الأثر الملحوظ في العالم والعصر ..
__________
(1) شروط النهضة –مالك بن نبي ص 141 .(1/183)
إن كل ذلكم إنما حدث لأن هذا الشعب امتلك الإرادة الإنسانية العازمة، والوسائل والأسباب المناسبة الموصلة، وقام أفراده بالعمل الجدي البصير المستمر .
والأمة الإسلامية اليوم يمكنها أن تنهض من تحت أنقاض هزائمها وتخلفها وعجزها وهوانها وواقعها الراهن الفاسد، كما نهضت ألمانيا وشعوب أخري في الحاضر والماضي، وكما سبق أن نهضت هي نفسها بإيمانها، وجهادها وتضحياتها، وأخذها بما أوجب الله عليها من الوسائل والأسباب، من سقطات ونكبات كثيرة علي مر العصور .
" إن الباب الذي يمكن للأمة الإسلامية أن تعود منه للحضارة هو باب ( الواجب )، وهذا يعني أن نركز منطقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي علي القيام بالواجب أكثر من تركيزنا علي الرغبة في نيل الحقوق، لأن كل فرد بطبيعته توّاق إلي نيل الحق، ونفور من القيام بالواجب ... إذن فلابد أن نوجه الأمة إلي القيام بالواجب، لأن المجتمع الذي يرغب في الارتفاع والتقدم لابد أن يكون لديه ( فائض جهد )، ولا يمكن تحصيل ذلك الفائض إلا أن يكون (الواجب) الذي يقوم به، أكثر من الحق الذي يطالب به "(1).
إن التحلل من التبعات، والرخاوة في تناول الحياة، والإخلاد إلي الدعة والسكون والإقبال علي المتاع، والاستسلام للواقع هو نوع من الخنوع والتقوقع والهروب من المسؤولية الذي لا ينتج إلا أمة ذليلة، ترضي بالدونية، ولا تحاول رفع رأسها ..
إننا لن نستطيع إنقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة من الذل المقيم إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر ن وعندما نحقق المعجزة بانتصارنا علي أنفسنا، وعلي أعدائنا، فإننا سوف ندرك أية رسالة نحن منتدبون إليها ن لأننا نكون قد شرعنا في بناء حضارة جديدة، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية، ولسوف تظهر أمامنا بعد ذلك أعمال جليلة خطيرة، ولكنها سوف لا تخيفنا، لأن شعبنا عرف طريق الحضارة، وسار في طريق التقدم .
__________
(1) تأملات –مالك بن نبي ص 26 بتصرف .(1/184)
إن الدور الحضاري للأمة الإسلامية يتطلب أن نعيد صياغة العقل المسلم ونقوم بإحياء الفاعلية الإسلامية للأمة، وإلا فإن مكاننا هو ذيل القافلة البشرية ولن نعرف شيئاً عما يحدث في مقدمتها .. ولن ندرك أين نسير، ولن تكون لنا أبداً خارطة علي صفحة هذا العالم ..
وإذن فإن أهم مؤهلاتنا للقيام بدورنا الحضاري هو ( إحياء الفاعلية الإسلامية ).
وبكلمة :
إن حلبة الصراع الحضاري تفرض علي الأمة الإسلامية منطق الفاعلية . ولن تستطيع الأمة الإسلامية أن تستعيد مكانها وسط الأمم التي تصنع التاريخ وتقود البشرية إلا إذا تحرر أفرادها من جميع ضروب العطالة التي توقف الجهد، ومن سائر أعذار البطالة التي تبرر العجز والكسل .. وبدأوا في الاعتياد علي احترام قيمة الوقت، وتعلم أسلوب التخطيط، وتحريك ملكات الابتكار، واستخدام العلم لحل الألغام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الأمة، وذلك بنزع فتيلها، وليس الارتماء عليها !!
ولاشك أن هذا الهدف يحتاج من أفراد الأمة أن يكتسبوا القدرة العلمية، ويرتفعوا إلي مستوي الصراع الحضاري، ويمارسون ذلك الصراع بأصول إسلامية صحيحة واستيعاب موسوعي للواقع والعصر.. وعندها سيكون هذا الجيل حداً فاصلاً بين عهدين : عهد الكسل والخمول، وعهد النشاط والحضارة.
المبحث الثاني : قيادة البشرية
" للرسالة أهمية رئيسية في نشأة الأمم وتكوينها ومصيرها، فالرسالة هي التي تقرر مكانة الأمة بين الأمم علي مستوي البشرية، والعطاء الحضاري الذي تقدمه الأمة للأمم الأخري هو الضامن لبقائها واستمرارها ذلك أن الأمة التي تتوقف علي العطاء تبدأ في الأخذ، والأخذ الذي لا يرافقه عطاء متبادل سبب من أسباب الذوبان وفناء الأمم ولكنه فناء بطئ، لا يراه إلا العارفون بقوانين الاجتماع البشري وسنن التاريخ، لأنه يتم علي مراحل تستغرق كل مرحلة منها جيلين أو ثلاثة :(1/185)
ففي المرحلة الأولي، تأخذ الأمة الأشياء المادية كالمنتجات الصناعية والحربية .
وفي المرحلة الثانية، تأخذ الأمة العادات المادية، كأشكال اللباس والأثاث وأشكال الطعام .
وفي المرحلة الثالثة، تأخذ الأمة المظاهر الثقافية، كاللغات ونظم الإدارة، والنظم الدبلوماسية والعلاقات الاجتماعية والفنون وأشكال الترويج .
وفي المرحلة الرابعة، تأخذ الأمة القيم والمقاييس الاجتماعية والأخلاقية .
وفي المرحلة الخامسة، تأخذ الأمة العقائد، وعند هذه المرحلة تنهار جميع الحواجز ويبدأ الذوبان الكامل .
والأمم التي تعي قوانين هذا الذوبان تحاول أن تتجنبه من خلال تحديد دورها في العطاء الحضاري، واستئناف العطاء ن ليتوفر لها البقاء والتميز في الداخل، والاحترام في الخارج . ومن ذلك ما لجأت إليه اليابان من خلال تصدير فلسفة زن zen ورياضة الجودو والكاراتيه، وصبغ الصناعة اليابانية بأشكال الفن الياباني، ومن خلال المحافظة علي القيم والتقاليد اليابانية، بما فيها خروج مجلس الوزراء غلي المعبد الرئيسي للبوذية، لتقديم اليمين الدستورية "(1) (2)!!
__________
(1) إذا كان هذا هو حرص اليابان علي تراثها ، وهو ( وثني ).. فما بالك بالميراث الرباني للأمة الإسلامية ؟ هل يجوز أن يكون حملته تابعين للآخرين؟
(2) إخراج الأمة المسلمة –د ماجد عرسان الكيلاني ص 59 ،60 .(1/186)
وإذن فإن استمرار الأمة ـ أية أمة ـ في الحياة مرهون باستمرار حملها لرسالتها، وما يتفرع عن هذه الرسالة من تطبيقات في مجالات الحياة المختلفة " فإذا ضعفت عن حمل الرسالة، أو توقفت فاعليتها، أو تقلصت تطبيقاتها، انتهي وجود الأمة، وحل محلها أمة أخري ن لا علاقة لها بسابقتها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة .. وهذا ما فهمه كبار الصحابة الذين عايشوا بدء الرسالة وتطبيقاتها من قوله تعالي : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } آل عمران 11.
ولقد كان الخليفة عمر حريصاً علي تأكيد هذا الفهم والتصور عن الأمة المسلمة حين قال في شرح الآية : " لو شاء الله لقال : أنتم، فكنا كلنا، ولكن قال : ( كنتم ) في خاصة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومن صنع صنيعهم ن كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وفي حجة حجها قرأ الآية ثم قال : يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها "(1).
لقد كُلفت الأمة الإسلامية برسالة عظيمة عبّر عنها القرآن بقوله سبحانه : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }.
" فمحتويات الرسالة الإسلامية تنقسم إلي ثلاثة أقسام هي :
1 ـ الإيمان بالله، ومحوره الإيمان بقدرته وهيمنته ن وأنه المالك المتصرف بالوجود كله . وثمرة هذا الإيمان تحرر الإنسان من طغيان الآلهة المدعاة، وإطلاق قدراته العقلية والنفسية والجسدية لاستعمالها في تسخير الكون دون عائق من رهبة أو رغبة
2 ـ الأمر بالمعروف، ومحوره الدعوة إلي التوافق مع سنن الله وأقداره وقوانينه في الوجود القائم لأن في هذا التوافق بقاء الإنسان ورقيه .
__________
(1) المصدر السابق ص 21 .(1/187)
3 ـ النهي عن المنكر، ومحوره التحذير من الاصطدام بسنن الله وأقداره وقوانينه في الوجود القائم لأن هذا الاصطدام تدمير لبقاء الإنسان وسقوطه في الدنيا والآخرة .
وهذه العناصر الثلاثة الرئيسية التي تتكون منها الرسالة متضمنة في قوله تعالي : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } .. والمعروف الذي تشير إليه الآية، اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري ويرتقي بسلوكه والعلاقات المتبادلة بين أفراده . والمنكر الذي تشير إليه الآية هو كل ما يضر الجنس البشري ويصطدم مع سنن الله وقوانينه في الخلق "(1).
ولاشك أن البشرية في أشد الحاجة لتلك الرسالة التي تحملها الأمة الإسلامية، وبخاصة في ظل ما يسمي بـ (النظام العالمي الجديد ) القائم علي الطغيان، والذي يسعي المترفقون في ظله للانفراد بمصادر العيش، وحرق أيتام المستضعفين في آتون الحروب الإقليمية المفتعلة ..
لقد أصبح العالم يعيش أزمات حادة تحولت غلي أمراض مزمنة في جسد البشرية، وفشلت كل الجهود في استئصالها ..
ولقد جاء دور الأمة الإسلامية التي تمثل الصوت الذي ينادي البشرية إلي الخير ن ويدعوها إلي الكف عن جميع الشرور .. ولكن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تقوم بدورها وتؤدي وظيفتها إلا بالجهاد، ذلك أن الناس لا يأخذون الحكمة ولا يقبلون النصيحة من الضعفاء العاجزين ..
__________
(1) المصدر السابق ص 58 ، 59 .(1/188)
إن الرسالة التي تحملها الأمة الإسلامية لن تصل إلي البشرية علي حقيقتها، طالما أن " قوي الشر ممكنة في الأرض، تشكل ـ بثقل واقعها ـ عائقاً نفسياً يعوق النفوس ـ كثيراً من النفوس ـ عن تقبل كلمة الحق، أو تشكل ـ بثقل واقعها كذلك ـ عامل تشويه يجعل العين تري الخط المستقيم كأنه منحرف، بينما يبدو الخط المنحرف في نظرها كأنه مستقيم .. وذلك علي فرض أنها لم تتدخل ـ أي تدخل من أي نوع ـ لمنع الناس من الاستماع غلي كلمة الحق ..
لذلك أوجب الله الجهاد لإزالة العائق الذي يحول بين الناس وبين رؤية الحق علي حقيقته، فيمنعهم بالتالي من إتباعه "(1).
إنه لا بديل للأمة الإسلامية من الجهاد لدفع شرور البشرية، وإلا فسدت الأرض . { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } البقرة : 251 {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } الأنفال : 39.
فالجهاد هو الرادع للعقل الغربي الذي لم يتخل بعد ن وقد لا يتخلي حتي قيام الساعة عن حب العدوان والسيطرة، لاستعباد الآخرين، ونهب مقدراتهم وإشاعة التخلف في حياتهم .
والجهاد هو الرادع للعقل الغربي الذي يعتبر القتال أداة حيوية من أدوات الصراع، وينظر إليه علي أنه ضرورة بيولوجية لبتر العناصر الضعيفة لصالح العناصر القوية !!
والجهاد هو الرادع لمضاعفات هذه العقلية الغربية في الفتنة والفساد الكبير .
ولقد بلور ربعي بن عامر رضي الله عنه رسالة الجهاد في الإسلام في كلمات يشع منها النور، وذاك حين سأله رستم قائد الفرس : ما الذي جاء بكم ؟ فأجابه للتو واللحظة : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل السماء، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة ..
__________
(1) الجهاد الأفغاني ودلالاته ــ محمد قطب ص 18 .(1/189)
وإذن فالمحور الذي تدور حوله حركة الجهاد في الإسلام هو الارتفاع بالإنسان إلي المستوي الإنساني الكريم بتحريره من كل سلطان غير سلطان الله، ومن ثم ترقية البشرية كلها في كل الميادين المتاحة، وتوفير الأمن الفكري والمادي لبقاء النوع البشري ورقيه ..
" إن الأمة الإسلامية هي أمة جهاد، وأمة دعوة، فهذه هي وظيفتها الأولي، فإذا تخلت عن شئ من هذه الوظيفة نقصت قيمتها بقدر ذلك . فالتمييز والأفضلية للأمة هو بسبب القيام الكامل بالوظيفة الأساسية وهي الجهاد في سبيل الله والدعوة إلي شريعته "(1).
ولكي تستطيع الأمة القيام بوظيفتها الأساسية ... من الجهاد في سبيل الله والدعوة إلي شريعته، فإنه لابد لها من اجتياز الهوّة ( التكنولوجية ) بينها وبين الأمم المتقدمة، ووسيلتها إلي ذلك هي توظيف الفعاليات الإسلامية لاستيعاب العلوم التكنولوجية، واكتساب الخبرة في جميع مجالاتها، وذلك تمهيداً لإقامة المجتمع الإسلامي التكنولوجي القادر علي حل المشكلات المزمنة للأمة الإسلامية، والتي تحبسها عن الانطلاق الحضاري، والعودة إلي قيادة البشرية من جديد ..
إن الأمة الإسلامية حين تتناول العلوم التكنولوجية بعزة إسلامية ن تكون قد بدأت أولي خطواتها العملية علي طريق نزع الريادة والقيادة من يد الغرب .. وبدء القيادة الإسلامية من جديد ..
إن المسلمين إذ يفعلون ذلك، إنما يتناولون بضاعتهم التي ينبغي أن تُرَد إليهم لأنهم أهلها .. أهلها لا بشخصياتهم ولا بجنسياتهم، وإنما بما يحملونه من عقيدة وتصور إيماني فريد، وبما في قلوبهم وأيديهم من منهج يمتلك القدرة علي ترشيد ( التكنولوجيا ) وتوجيه دفتها من الجفاف إلي الخضرة، ومن البطون والشهوات إلي الأفئدة والعقول، ومن الطين والأرض إلي السماء ..
__________
(1) منهج كتابة التاريخ الإسلامي ــ محمد بن صامل السلمي ص 215 .(1/190)
إن المسلمين يأخذون العلم والتقدم المادي والتكنولوجي .. ولكنهم يستخدمون ذلك كله في إقامة العدل الرباني كما يريده الله، وفي إقامة الحياة علي قاعدة أخلاقية في السياسة والاقتصاد وعلاقات المجتمع وعلاقات الأسرة . "إن الإسلام لا يتنكر للإبداع المادي في الأرض . لأنه يعده وظيفة الإنسان الأولي منذ أن عهد الله إليه بالخلافة في الأرض. ويعتبره ـ تحت شروط خاصة ـ عبادة لله وتحقيقاً لغاية الوجود الإنساني . {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } البقرة 30.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات: 56 ".
وإذن فليس هناك مبرر أن يقعد المسلمون عن الإبداع المادي، والإسهام في دفع عجلة الحضارة .. بل لابد لهم أن يكونوا علي مستوي مسؤوليتهم من تحقيق العبودية لله تعالي بإقامة الخلافة علي الأرض بمعناها الكامل.
فإذا قام المسلمون بمسؤوليتهم، وحملوا رسالة الأمة الإسلامية في الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلي شريعته .. فقد حققوا ما أراده الله بإخراج هذه الأمة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } آل عمران : 110. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وعندها سيُخْرج الله بهم من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل السماء، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة .
وبكلمة :
لقد أصبح العالم يعيش أزمات حادة تحولت إلي أمراض مزمنة في جسد البشرية، وفشلت كل الجهود في استئصالها .. ولأن الأمة الإسلامية هي التي تمثل الصوت الذي ينادي البشرية إلي الخير، ويدعو إلي الكف عن جميع الشرور {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }..(1/191)
لذلك، فهي الجديرة لأن تكون المحور الذي يتحرك من حوله العالم كله، والقيادة التي تتابعها البشرية جمعاء .. ولا يمكن أن يتم ذلك في واقع البشرية اليوم إلا بالجهاد، لأن القوي الجاهلية لن تسمح للأمة الإسلامية أن تمارس هذه القيادة إلا أن تخوض جهاداً شاقاً، يتقرر بعده البقاء للأصلح، لا بالمعني الدارويني الفاسد، ولكن بالمعني الرباني المقرر في كتاب الله :
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } الأنبياء: 105.
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } الرعد : 17.
( ( ( (
الخاتمة
هذا هو الطريق
الإسلام هو سبيل الأمة الإسلامية ـ وكل البشرية ـ إلي الحياة الراشدة الهانئة، هذه حقيقة ..
ولكن الإسلام لا يقود إلي هذا النوع من الحياة إلا إذا جرت خطوات عرضه وتطبيقه حسب منهاج واضح وترتيب محدد .
ومن هنا فإن من أكبر التحديات التي تواجه الصحوة الإسلامية ـ فيما نري ـ هو تحدي " المشروع الحضاري الإسلامي المتكامل " الذي يطرح الإسلام كمعادلة فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، في " مواجهة " المعادلة العلمانية التي تريد إبعاد الأمة الإسلامية عن خط الإسلام لتُقَربها إلي خط الكفر !!.
و" المشروع الحضاري الإسلامي " المنشود، ليس " أبحاثاً " أو " رسائل " نظرية " ميّته" مدفونة في مقابر تسمي " الكتب "، وإنما هو أبحاث ورسائل تحمل " جنين " العمل الإيجابي الذي يظهر في صورة " بديل " واقعي يمتلك " الإستراتيجية " الواضحة لتحويل الأهداف الذي يسعي إليها إلي " واقع " حيّ يحكم الحياة، ويخطط لها بالوسائل القوية التي تواجه العقبات وتتخطي الصعوبات، وتزيل الحواجز عن طريق الأمة الإسلامية لتفسح لها المجال إلي " الريادة البشرية " من جديد .(1/192)
ولكي لا نوغل في " حلم " الريادة البشرية علي حساب " حقيقة " التبعية، أو نهرب من مواجهة " واقع " الاستضعاف بالانغماس في " خيال " التمكين، لابد أن نحزم أمرنا ونعد عدتنا، ونَجدّ السير في طريق إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلي الريادة ومن الاستضعاف غلي التمكين .. ذلك الطريق الذي يمكن أن نتبين أهم معالمه فيما يلي :
إقامة الفرقان الإسلامي :
بينما كان الاستعمار القديم يستعين بقواته العسكرية لقهر شعوب المستعمرات، لم يعد الاستعمار الجديد في حاجة إلي استخدام القهر بالقوات العسكرية، بعد أن أفلح في اختيار عملائه وصنائعه من النخبات " الوطنية " التي أُشْرِبت في قلوبها ثقافة الاستعمار، وتربت علي يديه ن ونشأت في كنفه ورعايته .. ثم وقفت تحت راية " الوطنية " وتخفت وراء لافتة " الإسلام " لتقوم بمؤامرة " التباس " الحق بالباطل التي تفتن الأمة عن دينها، وتمزق وحدتها وتشتت شملها ن وتُجد فيها الثغرات التي ينفذ من خلالها العدو ليحطم قواها ويستنزف طاقاتها ..
لقد تمكّن أعداء الأمة الإسلامية عبر النخبات الوطنية، من مزج الإسلام بالأفكار الغريبة عنه من " علمانية " و" قومية " و"وطنية " وغيرها، ليلتبس علي الأمة أمر دينها، وليصبح الإسلام الواحد بعقيدته ومبادئه وتشريعاته اسماً متعدداً بتعدد ألوان مؤامرة " الالتباس " التي تصد الأمة عن سبيل الإسلام الحق.
ومن هنا لا يمكن تحقيق انطلاقة قوية في طريق إحياء الأمة الإسلامية إلا بإقامة " الفرقان " الذي يرفع "الالتباس" ويُسْقِط اللافتات الخادعة التي تتواري خلفها العلمانية، فيتمايز الناس إلي فسطاطين : فسطاط نفاق لا إيمان فيه، وفسطاط إيمان لا نفاق فيه .. وعندها تخرج الأمة الإسلامية من حالة التذبذب إلي الانحياز إلي دينها وشريعتها، والانتصار لإسلامها من كل أعدائها .
2ـ إحياء الهوية الإسلامية :(1/193)
تُشكّل الهوية ـ في أية أمة ـ الحافز الأيدولوجي والدافع النفسي الذي يدفع الأمة في طريق التقدم والحضارة، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأمم الأخرى .. فما هي هويّة الأمة الإسلامية ؟
لاشك أن الإسلام " وحده " هو هويّة الأمة الإسلامية، ومحور اجتماع أفرادها، والقوة الدافعة التي تفجر طاقاتها وتقوي وقفتها في مواجهة كل أعدائها .
فماذا فعل الحكام العملاء بهوية الأمة الإسلامية ؟
لقد قام هؤلاء العملاء من بني جلدتنا بإبعاد الإسلام كهوية للأمة الإسلامية، وزعموا أن طريق " الإحياء الحضاري " للأمة هو " إحياء الهوية الوطنية " و" المشروع القومي المتجدد " !!
فأمّا " الهوية الوطنية " فقد فرّقت الأمة الإسلامية إلي كيانات جزئية ومجتمعات منفصلة وأصبح الفرد في ظلها بعاني من " الاغتراب " و" فقدان الانتماء " للأمة، فانعزل داخل همومه الفردية واهتماماته الذاتية، .. وتحولت المجتمعات الإسلامية إلي " ركام " من الأفراد لا يربطهم خيط جامع .. ووصلت الأمة إلي المعادلة الصعبة : وطن بلا مواطنين، ومواطنون بلا وطن !!.
وأمّا " المشروع القومي المتجدد " الذي تحاول العلمانية من خلاله إيجاد الهدف المشترك الذي يشد أفراد الأمة بعضهم إلي بعض .. فقد أثبت واقع الأمة الإسلامية فشله، لن هذا المشروع " المفتعل " يخبو ويظهر، ويقوي ويضعف، .. وعند ضعفه تبدأ ظواهر " الاغتراب " و"فقدان الانتماء " في الظهور، وتقل مشاركة الأمة، فيتحكم الرعاع والسفهاء من خلال نظم استبدادية متعسفة تقوم بتفريغ شامل لكل قوي الأمة، فتصل إلي التبعية الذليلة للأمم الأخرى ..(1/194)
وإذن فغن نقطة التحول في طريق الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية، ونزع الريادة من يد أعدائها هي "إحياء الهوية الإسلامية " التي تُشكّل محور الاستقطاب القوي الذي يجمع " شتات " أفراد الأمة حول مرتكزات عقائدية من الاجتماع علي الإسلام والولاء والبراء عليه ، ومن ثم يتيح لأفراد الأمة الإسلامية تكوين أمة متماسكة .. وإذا تماسكت الأمة ن وملئ الفراغ الاجتماعي بين أفرادها، اختفت ظواهر " الاغتراب" وفقدان الانتماء وحمل أفراد الأمة هموم أمتهم وقاموا برسالتها، وأصبح قادة الأمة هم "أولو الألباب " .. وعندها تكون الوثبة القوية والانطلاقة الحضارية الكبرى التي تحطم الأغلال التي وضعها الأعداء علي الأمة الإسلامية .
3ـ التربية الإسلامية الشاملة:
يتأسس بنيان المشروع الحضاري العلماني علي شفا جرف هار من مفاهيم الغرب الكاثوليكية عن الدين، والتي تجعل الإسلام مجموعة من الطقوس والشعائر لا علاقة لها بشأن من شؤون الحياة !!
ومن هنا كان تعامل زعماء العلمانية مع مشاكل الأمة الإسلامية وأزماتها الحضارية، تعاملاً ناقصاً يشوبه الاضطراب والعجز .. وما ذلك إلا لأن هؤلاء الزعماء يحاولون معالجة " كل " أزمات الأمة ومشاكلها بـ"جزء " من الإسلام !!.
ومن هنا فإن المشروع الحضاري الإسلامي لابد أن يكون منهاجاً للتغيير الكامل والجذري، ويقوم بمجابهة الأزمات الحضارية للأمة والانتكاسات الفردية والاجتماعية عبر " خطاب إسلامي شامل " يهتم بالجانب العقيدي والتشريعي والسلوكي اهتماماً متوازناً ومتعانقاً، ويعالج السقوط العقائدي والاجتماعي والأخلاقي علاجاً شافياً ..(1/195)
ولكي يحقق الخطاب الإسلامي الشامل أهدافه في تغيير " الإنسان " و "إحياء الأمة "، لابد أن تتحول كلماته إلي منهاج تربوي شامل يعمل في إطار من "الشمولية " و " الواقعية " و " التدرج " علي إخراج " العبد الرباني " الذي يكون هو " المثال " الإنساني القادر علي حمل رسالة الأمة الإسلامية والجهاد في سبيلها .
إن الأمة الإسلامية لا تستطيع حمل رسالتها وإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن ظلمات الجاهلية إلي نور الإسلام، إلا برجال من رجالها يبلّغون دعوة الله، ويؤدون أمانته ن ويقاتلون بمن أطاعهم من عصاهم حتي يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده ..
ولاشك أن السبيل إلي بناء هذا الصنف من الرجال هو التربية الإسلامية الشاملة العميقة التي تصفّي عقائد الأمة وإطارها الخلقي من العوامل القتّالة والرمم التي لا فائدة منها، ليصفو جو الأمة للعوامل الحية والداعية للحياة، فيتم إحياء الأمة، وتعود إلي حمل رسالتها من جديد .
4ـ إخراج الأمة المسلمة :
تقوم الأنظمة العلمانية علي أساس من مصادر " حرية " الأمة وحقها في اختيار حكامها، بل وحقها في بناء حياتها .. ولذلك يكون الحكم فيها من نصيب " الحاكم " الذي يمارس التسلط والتحكم في جماهير الأمة، ولا يسمح لهم بأدنى مشاركة له، مستخدماً في ذلك شرطته وأجهزته ومخابراته ..
وفي ظل عنف الحكام في معاملة خصومهم السياسيين، وإرهابهم لكل من يعارض أمراً يهمون به .. في ظل ذلك تخلي أكثر الأمة عن " واجب " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة للحكام، وآثروا العافية يأساً من الإصلاح، ورغبة في إصلاح الذات !!
وهكذا، أصبح " الخضوع " لأوامر الحكام مهما كانت " عادة " عند أكثر أفراد الأمة، كما يدق الجرس علي الفور وراء ضغط الزر واتصال التيار .(1/196)
وفي ظل هذا الواقع، لابد أن نؤكد أن المسئولية عن الإسلام هي مسؤولية كل من شهد أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله علي تفاوت في الدرجات بتفاوت الاستعدادات، والقدرات، والمواقع، والظروف .. وأن العمل الإسلامي هو جهاد " أمة " وليس جهاد " حزب " أو " جماعة " أو " تنظيم " .
ومن هنا فإن " إخراج الأمة المسلمة" هو العلاج الحاسم لطغيان الحكام، والوقاية الحقيقية لكل المسلمين من نماذج الأنظمة الطاغية التي تُخْرِجها العلمانية، والتي يراد بها حرق " المستضعفين " من المسلمين في أتون الظلم والقهر والاستعباد .
إننا إذا أردنا للأنظمة العلمانية التلاشي، وللخندق العلماني الاندثار، فإن طريقنا إلي ذلك هو " إخراج الأمة المسلمة " ذات الشخصية الثابتة والصبغة الواضحة والراية المتميزة .. الأمة المسلمة التي تتمتع بـ " المناعة السياسية " فلا تصبر علي ظلم الملوك ولا تقبل استبداد الرؤساء، بل تُدْرِك أن لها دوراً في ترشيد الحكم والرقابة علي أعمال الحاكم وعدم الرضا منه بمخالفة ما أنزل الله .
فإذا وجدت هذه الأمة، فإنها قادرة بإذن الله علي أن تجرف في طريق جهادها كل الأنظمة العلمانية " الورقية"، وتلقي بها في مزابل التاريخ .
5ـ الطليعة تقود الأمة :
يضع الإسلام لقيادة الأمة الإسلامية شروطاً دقيقة ومواصفات خاصة . وتؤكد الأصول الإسلامية أن "أولي الأمر " الذين قرن الله في قرآنه طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله في قوله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.. هم " العلماء والأمراء "، وليس الأمراء والحكام وحدهم .. بل إن أكثر المفسرين يرون أنهم " العلماء " وحدهم .(1/197)
ولاشك أن هذا الاهتمام بأمر القيادة في الأمة الإسلامية، يرجع إلي أن الأمة التي يقودها ويتولي زمام أمورها " فقهاء " و"أولو ألباب " تتقدم وتنتصر، ..أمّا الأمة التي يتولي زمام أمورها " خطباء " لا يحسنون إلا التلاعب بالمشاعر والعواطف .. فإنها تبقي تتلهي " الأماني " حتي إذا جابهت الأزمات لم " يفقه ط حكّامها من "الخطباء " ماذا يصنعون ؟ ..وآل أمرهم إلي الفشل، وأحلوا أمتهم دار البوار .
وتكفي نظرة واحدة علي واقع الأمة الإسلامية اليوم، لندرك أن في مقدمة الأسباب التي أدت إلي هذا الواقع أن قادتها وولاة أمورها من " الخطباء " الذين يظنون أن الأزمات يمكن حلّها بالأقوال، وأن التحديات يمكن مواجهتها بالخطب النارية !! ولذلك فهم علي قطيعة مع رجال الفقه والفكر، تصل أحياناً إلي درجة تحطيم الرؤوس المفكرة واعتقال أصحاب الفقه.. بينما هم علي صلة وثيقة وحميمية مع المنافقين من الإعلاميين والصحفيين الذين يُطْرِبونهم بحداء النفاق ليل نهار، ويطالبون الأمة أن تترك لهم " مواجهة " التحديات وعلاج الأزمات بـ" أقوالهم " السديدة و" خطبهم " القوية !! .
ومن هنا فإنه لا سبيل إلي الإحياء الحضاري للأمة الإسلامية إلا أن يوجد في الأمة " فقهاء " يتصفون بصفات المؤمنين ويتحركون علي أساس من الوعي بقيم الوحي قرآناً وسنة مع الدراية بشؤون الواقع ..
" فقهاء " يتميزون بمنهجيتهم وموضوعيتهم وشجاعتهم في رؤية حقائق الواقع، ومواجهة تحديات العصر ..
" فقهاء " يحسون مأساة الأمة الإسلامية، فيسعون بإرادة عازمة للانتقال من حالة الحسن بهذه المأساة إلي حالة "الوعي" بالأسباب التي أدت إليها ن ثم يقومون بالعمل الجاد لاقتلاع جذور هذه المأساة من واقع الأمة، وقيادتها إلي خيري الدنيا والآخرة ..(1/198)
ولكي يستطيع هؤلاء الفقهاء حمل رسالة أمتهم وتقديم العطاء الحضاري المنشود، لابد أن يكون عملهم بـ"روح الفريق " ولابد أن تربط بينهم شبكة من العلاقات العقائدية والاجتماعية خيوطها الإيمان والتكامل والتناصر والجهاد في سبيل الخروج بالأمة الإسلامية من التبعية إلي الريادة ومن الاستضعاف إلي التمكين .. فإذا كانوا كذلك ن فإنهم يمثلون في الأمة " نواة " " الخلية الحضارية " التي يتكون منها ومن غيرها من الخلايا الجسم الحيّ للمجتمع الإسلامي والبناء الحضاري للأمة الإسلامية ..
إن " نواة " الفقهاء التي تتسم بالفاعلية والحيوية، تجذب إليها " صفوة " الفكر والتجارب و" خبرة " القدرات والإمكانات ليتكون من هؤلاء جميعاً " طليعة " قوية قادرة علي تحدي كل أعداء الأمة، ومواجهة جميع أزماتها، والسير في طريق الإحياء الحضاري بصبر ودأب، حتي يأذن الله بالانبعاث الإسلامي المنشود ..
وإذن فإن قيادة الطليعة المؤمنة للأمة الإسلامية هو في حقيقته أمر " تشترطه " أسس التغيير، وتستدعيه متطلبات التمكين .
6 ـ إحياء الفاعلية الإسلامية :
يُقَسَّم المراقبون العالم اليوم إلي " الشمال " تعبيراً عن العالم المتقدم.. و" الجنوب " تعبيراً عن العالم المتخلف..
فأمّا الأول : فيتمثل في الدول المتقدمة، ويشمل محور اليابان ودول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وحلفائهم .
وأمّا الثاني : فيتمثل في بقية دول العالم التي تقع خارج هذه المحاور .
ولاشك أن السبب الأول للهوّة الحضارية بين الشمال والجنوب، أن دول الأول يتميز أفرادها بـ " الفاعلية" والحرص علي الوقت، والتوجه بنشاطهم إلي العمل الجاد في سبيل تقدم أمتهم.
أمّا دول الثاني، فإن أفرادها يغلب عليهم " انعدام الفاعلية " والنظر إلي الوقت علي أنه لا قيمة له، وتوجه نشاطاتهم إلي اللغو والحديث غير المنتج .(1/199)
ولكي نوضح ما نقول فغنه من المستحسن أن نتأمل تجربة بلد مثل اليابان.. إن هذه الدولة تعيش في منطقة فقيرة في مواردها الخام.. كما أن وضعها الجغرافي لا يجعلها منطقة إستراتيجية.. ولكنها مع ذلك تتقدم يوماً بعد يوم ويغزو إنتاجها التكنولوجي العالم الغربي.. فما سر ذلك؟
إن السر يكمن في أن فاعلية " الإنسان" الياباني أضعاف أضعاف غيره من أفراد الأمم المتخلفة الذين انعدمت فاعليتهم وتوارت جهودهم ..
إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية يجد أن الأنظمة العلمانية تركز علي أن عنصر رأس المال علي أنه العنصر الوحيد القادر علي تحقيق التقدم .. ولذلك فهي تهمل بناء " المصانع " !!
ولاشك أن هذه الطريقة في البناء الحضاري هي طريقة " العملاء " الذين يحبون أن تظهر أنظمة حكمهم بمظهر التقدم، فيقيمون المصانع العملاقة، ثم يستوردون كل معداتها من الدول المتقدمة .. ويستوردون معها " كوادر " العمل في هذه المصانع . فلا يكون لهذه المصانع والمشروعات التنموية ـ رغم الإنفاق الكبير فيها ـ أدني أثر في التقدم الحضاري المادي.. وما ذلك إلا لأن " الإنسان "في كل هذه المشروعات يكون غائباً، أو علي أحسن الأحوال يكون حاضراً ولكنه يعاني من " اللافاعلية " ..
إنه ليس من الضروري ولا "من الممكن" أن يكون لمجتمع فقير المليارات من الذهب كي ينهض ويسير في طريق البناء الحضاري .. وإنما ينهض ويبني حياته وحضارته بالرصيد الأساسي للحضارة " الإنسان ". وما التخلف الذي ترسف فيه الأمة الإسلامية إلا نتيجة لازمة لعجز الإنسان فيها عن المبادأة في أي ميدان .(1/200)
إن حلبة الصراع الحضاري تفرض علي الأمة الإسلامية " إحياء فاعلية " الإنسان المسلم، والتخلص من جميع ضروب العطالة التي توقف جهده وتبرر عجزه، ليبدأ من جديد في الاعتياد علي احترام قيمة العمل والجهد، ويتعلم أسلوب التخطيط وتحريك ملكات الابتكار، واستخدام العلم في حل الألغام الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تملأ ساحة الأمة الإسلامية .. حل هذه " الألغام " بنزع فتيلها، وليس بـ " الارتماء عليها " . فإذا نشأ في الأمة هذا " الإنسان "، كانت حركتها كحركة خلايا النحل التي لا ينقطع طنينها بالليل ولا بالنهار .. وعندها سيقضي "عدل الله" برفع هذه الأمة التي تتعامل مع سنة الله وتعمر الأرض .. وخفض أمم أخري قعد أفرادها وعجزوا وغرتهم الأماني..
7ـ الريادة البشرية :
يتوقف "وجود" أية أمة في الحياة علي حمل هذه الأمة لرسالتها.. فإذا ضعفت عن حمل هذه الرسالة، انتهي "وجود" الأمة وحل محلها أمة أخري لا علاقة لها بها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة ..
وهذا هو ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قول الله عز وجل : : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } آل عمران 110. حيث قال في تفسيرها : " لو شاء الله لقال : أنتم، فكنا كلنا، ولكن قال : ( كنتم ) في خاصة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومن صنع صنيعهم ن كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
وإذن فالأمة الإسلامية إنما تتميز بقيامها برسالتها في الدعوة إلي المعروف وفعل الخير، والنهي عن المنكر وجميع الشرور .. فإذا تخلت عن شئ من هذه الرسالة نقصت قيمتها بقدر ذلك.. أمّا إذا تخلت عن هذه الرسالة بكاملها، فإن مصيرها هو الاختفاء من الوجود والحياة..(1/201)
ولاشك أن الأمة الإسلامية لا تستطيع حمل رسالتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا إذا كانت تمتلك "الرادع" للعقل الغربي الذي لم يتخل بعد، وقد لا يتخلي عن حب العدوان والسيطرة، لاستعباد الآخرين، ونهب مقدراتهم، وإشاعة التخلف في حياتهم ..
ومن هنا يبرز " الجهاد " رادعاً للعقل الغربي ومضاعفاته في الفتنة والفساد .. يبرز الجهاد ليعكس مفهوم " الأمن الإسلامي " الذي يركّز علي إيصال الرسالة وتبليغها للآخرين في جو من الأمن الفكري والمادي والنفسي والشعوري يزيل العوائق التي تحول بين الناس ورؤية الحق علي حقيقته، أو تمنع مَنْ تبينه من إتباعه ..
إن العالم اليوم يعيش أزمات حادة، تحولت عبر الزمن إلي أمراض مزمنة في جسد البشرية .. وفشلت كل الجهود في استئصالها .. ولقد جاء دور الأمة الإسلامية التي تحمل الرسالة الربانية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. جاء دور الأمة الإسلامية التي تنادي البشرية غلي الخير، وتدعوها إلي الكف عن جميع الشرور، وتدفع عنها بـ " الجهاد " فتنة ما يسمي بـ " النظام العالمي الجديد " القائم علي الطغيان، والذي يسعي المترفون في ظله إلي الانفراد بمصادر العيش وقتل أيتام المستضعفين بسلاح " الجوع " و " الفقر " !!
وحين تقوم الأمة الإسلامية بهذا الدور، وتخوض في سبيله الجهاد الشاق سيكون " البقاء للأصلح "، لا بالمعني الدارويني الفاسد، وإنما بالمعني الرباني : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } الرعد : 17. وسيُخْرِج الله بهذه الأمة من شاء من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل السماء، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة .. وستعود الأمة الإسلامية مرة أخري إلي "الريادة البشرية " .
وبعد :(1/202)
فقد كانت هذه محاولة لعرض "معالم الإحياء الحضاري الإسلامي"، وحاولت فيها الابتعاد عن الشعارات لأقترب من واقع الأمة وحقائق العصر .. وتركت فيها طريق" التخلف " القائم علي التشنج والارتجال، لألتزم العرض الهادئ لمكونات رؤية إسلامية لطريق الإحياء الإسلامي و" معالم " المشروع الحضاري الذي يمتلك مصداقية " المواجهة " الحضارية مع أعداء الأمة، ويمثل " البديل " عن الأنظمة العلمانية الوضعية المطبقة في واقع الأمة الإسلامية اليوم ..
وأترك لـ " الأمة " التمييز بين الغث والثمين، وبين "المسلمين" الذين يبذلون جهدهم وحياتهم وكل ما يملكون في هدوء لتنهض الأمة الإسلامية وتخرج من الاستضعاف إلي التمكين ومن التبعية إلي الريادة .. وبين "العلمانيين" الذين لا يهتمون إلا بمصالحهم الذاتية ولا يتقنون إلا فن الكلام ..
( ( ( (
فهرس المصادر والمراجع " حسب الحروف الهجائية "
القرآن الكريم
السنة النبوية المطهرة
( أ )
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر / د . محمد محمد حسين / الطبعة الثالثة 14.. هـ/ مكتبة الآداب ـ مصر .
إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها / د. ماجد عرسان الكيلاني / الأولي 1412 هـ / رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر .
أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق / د. أحمد محمد كنعان / الأولي 1411 هـ / رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر .
الإسلام والحضارة الغربية / د. محمد محمد حسين / الأولي 1399 هـ / المكتب الإسلامي .
الإسلام والمدنية الحديثة / أبو الأعلي المودودي .
الأصولية الإسلامية في العالم العربي / ريتشارد هرير دكمجيان ـ ترجمة وتعليق عبد الوارث سعيد / الثانية / دار الوفاء ـ مصر .
أطلس تاريخ العالم الإسلامي / د. حسين مؤنس / الأولي / الزهراء للإعلام العربي .
الاعتصام / للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسي الشاطبي / ت سنة 79. هـ / المكتبة التجارية ـ مصر .(1/203)
آفاق جزائرية / مالك بن نبي / الثانية 1391 هـ / مكتبة عمار ـ مصر .
أفراح الروح / سيد قطب / الأولي / دار بن القيم ـ الكويت .
أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية والرد علي الطوائف الضالة فيه / رسالة دكتوراه قدمت لجامعة أم القري بمكة المكرمة عام 14.4 هـ / د. علي بن نفيع العلياني / الأولي 14.5 هـ / دار طيبة / الرياض .
( ب )
البيان / مجلة إسلامية شهرية / يصدرها المنتدى الإسلامي ـ لندن .
بين الرشاد والتيه / مالك بن نبي / الأولي 1398 هـ / دار الفكر ـ دمشق .
( ت )
تأملات / مالك بن نبي / الأولي 1399 هـ / دار الفكر / دمشق .
التخطيط ـ دراسة في مجال الإدارة الإسلامية وعلم الإدارة العامة / د فرناس بن عبد الباسط البنا / الأولي 14.5 هـ .
تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر / عبد الجواد ياسين / الأولي / المختار الإسلامي ـ مصر .
تفسير القرآن العظيم للحافظ بن كثير / ت سنة 774 هـ / دار الدعوة ـ مصر .
تنظيم الجهاد . هل هو البديل الإسلامي في مصر ؟ / نعمة الله جنينة / رسالة ماجستير قدمت للجامعة الأمريكية .
( ج )
جامع البيان عن تأويل القرآن ( تفسير الطبري ) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري / الثالثة سنة 1382 هـ / مصطفي الحلبي .
الجهاد الأفغاني ودلالاته / محمد قطب / الثانية 141. هـ / مؤسسة المدينة / جدة .
الجهاد في سبيل الله / أبو الأعلي المودودي / مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
( ح )
حتي يغيروا ما بأنفسهم / جودت سعيد / الثالثة 1397 هـ .
حركة النفس الزكية / محمد سليمان العبدة / الأولي 14.4 هـ / دار الأرقم ـ الكويت .
حصوننا مهددة من داخلها / د. محمد محمد حسين / الرابعة 1397 هـ / المكتب الإسلامي .
حول تطبيق الشريعة / محمد قطب / الأولي 1411 هـ / مكتبة السنة ـ مصر.
الحياة السياسية عند العرب / محمد حامد الناصر / الأولي 1412 هـ/ مكتبة السنة ـ القاهرة .
( خ )(1/204)
خصائص التصور الإسلامي / سيد قطب / الحادية عشرة 14.9 هـ / دار الشروقـ القاهرة .
( ر )
الرائد / مجلة الطلائع الإسلامية / الدار الإسلامية للإعلام ـ بون .
( س )
سبيل الدعوة الإسلامية / د. محمد أمين المصري / الثالثة 14.3 هـ / دار الأرقم ـ الكويت .
السياسة الشرعية / ابن تيمية / دار الكتاب العربي .
( ش )
شروط النهضة / مالك بن نبي / دار الفكر ـ دمشق .
شفاء العليل / ابن قيم الجوزية / مكتبة دار التراث ـ مصر .
( ص )
صفة الغرباء / سليمان بن فهد العودة / الأولي 1411 هـ / دار ابن الجوزي ـ الدمام .
( ط )
طريق البناء التربوي الإسلامي / د. عجيل جاسم النمشي / الثانية 1412 هـ / دار الدعوة ـ الكويت، دار الوفاء ـ مصر .
طريق الدعوة في ظلال القرآن / أحمد فائز / السادسة 1978 م / مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
طريق الهجرتين وباب السعادتين / ابن القيم / الأولي 1991 م / دار الحديث ـ مصر.
( ع )
العقل المسلم والرؤية الحضارية / د. عماد الدين خليل / دار الحرمين .
العلمانية وآثارها في العالم الإسلامي / سفر بن عبد الرحمن الحوالي / رسالة ماجستير قدمت لجامعة أم القري بمكة / الطبعة الأولي 14.2هـ/ مركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة أم القري .
( ف )
فصول من ثقافة الصحوة / جمال سلطان / الأولي 1411هـ / دار الصفا ـ مصر .
فقه الخلاف / جمال سلطان / الأولي 14.8 هـ / دراسة الرسالة ـ مصر .
فقه الدعوة ملامح وآفاق / عمر عبيد حسنة / الأولي 14.8 هـ/ رئاسة المحاكم الشرعية ـ قطر .
في ظلال القرآن / سيد قطب / التاسعة 14.. هـ / دار الشروق ـ القاهرة .
في فقه التدين فهماً وتنزيلاً / د. عبد المجيد النجار / الأولي 141. هـ / رئاسة المحاكم الشرعية قطر .
( ق )
قدر الدعوة / رفاعي سرور / الأولي / مكتبة الحرمين ـ مصر .
( ك )
كيف نكتب التاريخ الإسلامي ؟/ محمد قطب / الأولي / دار الشروق ـ مصر .
( ل )(1/205)
لماذا أعدموني ؟ / سيد قطب / الأولي / الشركة السعودية للأبحاث والتسويق .
لمحات في فن القيادة / ج. كورتوا ـ تعريب : المقدم الهيثم الأيوبي / الطبعة الثالثة 1986 م / المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت .
لماذا نرفض العلمانية ؟/ محمد محمد بدري / الأولي 1412 هـ / دار ابن الجوزي ـ الدمام .
( م )
المجتمع الإسلامي / د. محمد أمين المصري / الرابعة 14.6 هـ / دار الأرقم ـ الكويت .
مدارج السالكين / ابن قيم الجوزية / دار الحديث ـ القاهرة .
المذاهب الفكرية المعاصرة / إملاءات للأستاذ محمد قطب لطلاب السنة المنهجية بالدراسات العليا . بمكة المكرمة سنة 98/ 1399 هـ .
مذاهب فكرية معاصرة / محمد قطب / الأولي / دار الشروق ـ مصر .
المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري / د. محسن عبد الحميد / الثانية 14.4 هـ / رئاسة المحاكم الشرعية ـ قطر .
مسائل في العمل الإسلامي / محمد وليد سليمان / الأولي 14.9 هـ / دار عمار ـ عمان، دار الجيل ـ بيروت .
المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية / عبد الله بن حمد الشبانة / الأولي 14.9 هـ / دار طيبة ـ الرياض .
مشكلة الثقافة / مالك بن نبي / دار الفكر ـ دمشق .
المعاصرة في إطار الأصالة / أنور الجندي / الأولي 14.7 هـ / دار الصحوة ـ القاهرة.
معالم الانطلاقة الكبرى / محمد عبد الهادي المصري / الرابعة 14.9 هـ / دار طيبة ـ الرياض .
معالم في الطريق / سيد قطب / 14.. هـ / دار الشروق ــ القاهرة .
مفاهيم ينبغي أن تصحح / محمد قطب / الخامسة 14.9 هـ / دار الشروق ـ مصر.
مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم / محمد العبدة / 14.5 هـ / دار الأرقم ـ الكويت .
مقومات التصور الإسلامي / سيد قطب / الأولي 14.6 هـ / دار الشروق ـ القاهرة.
مقومات الشخصية المسلمة أو الإنسان الصالح / د. ماجد عرسان الكيلاني / الأولي 1411 هـ / رئاسة المحاكم الشرعية ـ قطر .(1/206)
من بقايا الأيام / عصام العطار / الأولي 14.6 هـ / الدار الإسلامية للإعلام ـ بون.
منهاج التغيير الإسلامي / أبو الأعلي المودودي .
منهج كتابة التاريخ الإسلامي / محمد بن صامل السلمي / رسالة ماجستير قدمت لجامعة أم القري بمكة سنة 14.4 هـ / دار طيبة ـ الرياض .
67- من وسائل دفع الغربة / سلمان بن فهد العودة / الأولي 1412 هـ / دار ابن الجوزي ـ الدمام .
الموافقات في أصول الشريعة / للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسي الشاطبي / المكتبة التجارية ـ مصر .
ميلاد مجتمع / مالك بن نبي / دار الفكر دمشق .
( ن )
ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر / عقدت بالبحرين في الفترة من 3-6 /6/14.5 هـ / الناشر : مكتب التربية العربي لدول الخليج .
نظرات في مسيرة العمل الإسلامي / عمر عبيد حسنة / الأولي 14.5 هـ / رئاسة المحاكم الشرعية ـ قطر .
( هـ )
هذا الدين / سيد قطب / 1399 هـ / دار الشروق ـ مصر .
هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس / د. ماجد عرسان الكيلاني / الطبعة الأولي 14.5هـ / الدار السعودية للنشر والتوزيع .
( و )
واقعنا المعاصر / محمد قطب / الأولي 14.7 هـ / مؤسسة المدينة للنشر ـ جدة .
وجهة العالم الإسلامي / مالك بن نبي / دار الفكر ـ دمشق .
الولاء والبراء في الإسلام / محمد بن سعيد القحطاني / رسالة ماجستير قدمت لجامعة أم القري بمكة سنة 141. هـ / الطبعة الثانية 14.4 هـ / دار طيبة .(1/207)