الأسوار
محمد بن عصبي الغامدي
الناشر / دار الطرفين
1
استيقظت ذات صباح على بكاءٍ وعولٍ يأتي من كل ناحيةٍ من نواحي البيت والفناء والطريق التي بجانب بيتنا .
كنت في السادسةِ من عمري وكنت أنظر إلى كل من بالبيت يحتضنني ويبكي فكنت أبكي معهم ولم أكن مدركاً من الوهلةِ الأولى ماذا يعني موت والدي بالنسبة لي في ذلك السن المبكر .
كنت أعرف سببه أن والدي قد مات. عندما ذهب لعمل بعض التعديلات في بناء بيتٍ في القرية فوقع على رأسهِ حجر وفارق الحياة ... وضع الجثمانَ على سريرٍ في وسط البيت والدماءُ لا تزال تسيل منه , وهناك صحنٌ كبيرٌ يتلقّف الدم الذي لا يزال ينزفُ منه.
وبدأ الناس يتوافدون يعزّون بعضهم يبكي والبعض الآخر يعزّي الحاضرين ثم يجلس مع من جلس و ينتظر المشاركة في حمل الجنازة إلى مثواها الأخير .
كان أخي الأكبر إبراهيم قد بلغ سن الرشد ، أما أمي فقد ماتت قبل ذلك بفترة .. كانت أختي ليلى أكبر مني بما يقرب من سبع سنوات . وكانت تبكي مع من يبكي غير أن بكاءها كان بحرقة متناهية .....ُشيّعت الجنازة وفارقنا أبي الذي كان يحبني كثيراً ولم يبق بالبيت سوى أنا وأخي وأختي .. أظلم البيت بعد فراق أبي وبدأت أشعر بغربةٍ له .. كان يعود من عمله آخر النهار فيأخذني إلى جانبه أما تلك الليلة فقد بقيت وحيداً لا أدري إلى جانب من أجلس وكنت مثار أحزان الجميع ونمت ليلتي تلك دون عشاء بين الحاضرين من الأقارب الّذين جلسوا في مراسم العزاء...
كان أبي متوسط القامة قوي الشخصية ذا صوت جهوري يحسب له في قريتنا . ( قرية المرابعة) ألف حساب فقد أمده الله بقوة جسمانية . بالإضافة إلى جسارة قلب لا يعرف الخوف ... بلغ عند وفاته سن الخامسة والخمسين .(1/1)
قبل وفاة والدي كان قد اعّد عدّته للزواج من امرأة من القرية لا يزيد عمرها عن (40) سنة وكانت امرأة جميلة وخلوقة .. كثيراً ما كان أبي يرسلني إليها عندما يشتري لها بعض الهدايا أو يرسل لها نقوداً . لذلك كانت في أيام العزاء أكثر النساء تأثراً لموته .
لم يكن موت والدي مستغرباً لأن مهنته تلك خطرة جداً وكثير من أفراد القرية قضوا نحبهم بمثل هذه الحادثة ورغم أن زملاءه الذين شهدوا الحادث كانت آراؤهم مختلفة وكل يحكي لنا قصة الحجر الذي وقع على رأسه بأسلوب مختلف عن غيره إلا إن الناس مؤمنون بقضاء الله وقدره.
فالبعض يرى أن والدي أراد أن يسحب الحجر لكي يضع مكانه جباهةً لباب يريد فتحه في وسط الجدار... وآخر يروي أنه وقع عليه عندما كان يتناوله من بعض زملائه ...وآخر يروي حكاية أخرى لكنني لم أكن في ذلك الوقت أعير تلك التفاصيل أي اهتمام .
وأخي أيضاً قد قبل الأمر كما رواه الرواة لأننا لا نشك في تعمد ضرره من قبل الناس الّذين كانوا معه .
مات أبي وفقدت الكثير والكثير بفقده .. وكنت الخاسر الأكبر بموته أما أختي ليلى فقد تضررت أيضاً .. لكن ضررها قد بدأ عندما ماتت أمي قبل عدة سنوات فتوالت المشاكل على رأسها ، وتحمل عند ذلك أخي إبراهيم مسئولية
ألا نفاق عليّ و على أختي قبل أوانه .
تحملت أختي وهي تقريبا ً في سن الثالثةَ عشرة مسئولية المطبخ وما يتعلق بشغل البيت بكامله إضافة إلى السقيا التي كانت متعبة لمثلها فالأغنام لابد لها من ماء بعد وصولها إلى البيت ولابد لأختي أن تملأ ( ُقفا ) كبيراً في طرف فناء البيت بالماء قبل أن تعود الأغنام ... وقس على ذلك التعب الذي كانت تتحمله إذا كان هذا الماء لا يأتي إلا دلاءً من البئر التي ليست قريبة من البيت .(1/2)
خيّم الصمت على بيتنا فترة بعد وفاة أبي وكانت أختي هي المرآة التي أرى بها الحياة . فأن رضيت أشرقت الدنيا في عيني وأن رأيتها عابسةً أو ذاهلةً تكدّرت حياتي . لكن أختي فطنت إلى ذلك وعمدت إلى أخفاء ألمها عني وقد كنت أصحو من نومي فأجدها تبكي فأبكي لبكائها ربما لا أدري لماذا ابكي غير أنني هكذا أرى أنني أندفع إلى ذلك بحكم حبي لها أما أخي إبراهيم فقد نهض بحمله كما يفعل الجبابرة من الرجال وغرس فينا قوّة العزيمة والصبر على تحمّل المشاق حتى لايضحك علينا الناس (كما كان يقول دائماً )...
لم يكن عمي هزاع يرى أن من الواجب عليه مساعدتنا أو مد يد العون لنا . إلا كبقية أهل القرية بحكم النزاع الذي كان بينه وبين أبي قبل وفاته والذي استمر بعد ذلك وأورثنا خصومة لأناقة لنا فيها ولا جمل كما أن أخي لم يحاول التقرّب منه بعد أن رأى منه نفوراً من ناحيتنا .
مات أبي ولدينا ما يزيد عن مائة رأس من الغنم كان أخي هو المكلف برعيها في الجبال المحيطة بالوادي الملتف حول القرية ، أما أنا فكنت أساعد أختي في أعمال البيت أو في متابعة صغار الضان في أطراف القرية .
ومرت الأيام فتزوج أخي من سعاد .. فتاة من القرية وحملت عن أختي بعض أعباء المنزل .
كانت زوجة أخي طيّبةً وعطوفة وسرعان ما اندمجت في مجتمعنا الصغير بكل يسر وسهولة وكبرت أختي وتزوجت في القرية أيضاً وأكملت أنا دراسة الابتدائية.
كان أخي ذا جسم ضخم وعينان جاحظتان وشعر كثيف فيه من شبه أبي كثيراً , يمشي في حمايته أغلب رعاة الأغنام عندما يذهب في المناطق البعيدة أو مناطق الشفا والأصدار التي تجثم في حنايا الجبال ، خصوصاً من النساء وصغار السن من الرعاة وكان لهم الأخ الأكبر والصديق والأب الرحيم . لم يكمل دراسته .. إلا أنه يحسن القراءة والكتابة .(1/3)
لم أكن أجد في أخي ذلك الحنان الذي فقدته من أبي لكنني أحترمه وأقدّره وأرى أن الناس من حولي تهابه وتخافه مما يدعوني دائماً للفخر والاعتزاز به وإن كنت أنا أكثر الناس خوفاً منه .
وتمر الأيام وأبلغ سن ا لخامسة عشر من عمري وأكمل دراسة المرحلة المتوسطة وينجب أخي ولداً أسماه باسم أبي ربيع ثم ينجب ابناً آخر ويسميه باسمي ( سعيد )...
أخذت أنا الدور الذي كان يقوم به أخي فاستلمت منه رعاية الأغنام بعد عودتي من المدرسة فألحق بالرعاة بعد أن تكون غنمي قد أخذوها معهم في الصباح حيث أن الأغلبية من هؤلاء الرعاة من الفتيات .. فلم يكن لدينا في ذلك الوقت تعليم للبنات ... وبدأ عودي يشتد وبدأت ملامح الرجولة تظهر علي ّ فالسير خلف الأغنام والصعود والنزول طيلة النهار أعطى جسمي طاقة وحيوية فاستويت من أنشط شباب القرية جسماً وتحملاً وسرعة بديهة .
2
تقع قرية المرابعة قريباً من شفا الجرف القاري الذي يفصل بين تهامة والحجاز في جنوب غرب الجزيرة العربية .
كان بيتنا في طرف القرية ويتكون من طابقين تصل بينهما درجةِ ( سلم ) من الحجارة المثبّتة في جدار الفناء بحيث يمكن استغلال المساحة التي تحتها لتكون مقيلاً للحيوانات التي نربيها .
كان فناء البيت واسعاً مبني من الحجر في سمك يصل إلى متر كامل وارتفاع مترين يتوسطه باب من الخشب تم صنعه من الأخشاب المتوفرة في المنطقة وتصل سعة الباب إلى مترين عرضاً في أكثر من ذلك ارتفاعاً وبداخل مبنى الفناء تقع بعض التجويفات التي كانت تستخدم لوضع أعلاف ًللحيوانات.
أما مبنى البيت فإنه يبتعد عن باب الفناء بما لا يقل عن عشرة أمتار ويستخدم الفناء لإيواء الأغنام قبل مبيتها في الدور الأرضي والمسقوف بخشب العرعر والعتم ( الزيتون ).(1/4)
في نهاية الدرج هناك سقيفة تكون مخرجاً للدور الأول وبها الباب ..... والبيت يحتوي على مواقع عدة .... فمقدّمة البيت يعتبر صالة مفتوحة أما مؤخرته فأنها مثل الدكاكين المفتوحة .. ليس لها أبواب بل كانت جدرانها امتداداً رأسيّاً لتلك الجدران القابعة في الدور الذي تحته لكن عندما تزوج أخي فصل بعض أجزاء البيت الداخلية بأخشاب من ألواح الخشب الأبيض ليكون غرفة نوم له ولزوجته.
مقدمة البيت يتوسطها تنور لإشعال النار,التي تستخدم للطبخ والتدفئة ..
على أطراف ذلك التنور بعض الأرائك للجلوس وغالبا ًمايكون ذلك مجلسنا طيلة أيام السنة .
وغير بعيد عنه نافذة تطل على فناء البيت ، وليس للبيت بكامله نافذة سواها .
كان بيتنا حديثاً بحكم أن والدي كان معلم بناء وكان في طرف القرية . ولعل هذا البيت الذي وصفته من أفضل بيوت القرية .(1/5)
في بيوت القرية الكبير والصغير وبعضها تسكنها عائلتان فقد يكون في الطابق الأرضي عائلة وأخرى في الدور الذي يليه بل كانت تعيش في الدور الواحد عائلتان أحياناً وكثيراً ما كانت البيوت مشتبكة يتخللها طرقات.. هذه طرقات استغلت سماؤها للتوسع في بعض البيوت وهناك طرقٌ تصل من شمال القرية إلى جنوبها وكذلك من شرقها إلى غربها من تحت بيوت القرية تتفرع منها طرقات صغيرة هنا وهناك , بحيث لا تبتل ثياب المستطرق لها عند حدوث الأمطار فقساوة الشتاء تطول في قريتنا والبرد هو العدو الأول للناس بحكم المناخ .. والخريف والشتاء في منطقتنا امتداد لطقس واحد .. فكانت هذه الطرقات كأنفاق للمشاة وكانت مظلمةً في بعض الأوقات خصوصاً عندما يجثم على القرية الضباب الكثيف الذي يغطّي الحقول والبيوت والأشجار فتنام تحت ذلك الغطاء الذي يحمي الأرض وما حوت من كل شئ وقد يمتد هذا الغطاء إلى أسابيع أحياناً والناس لا يعرفون الكهرباء وأغلب الإضاءة لهذه الطرقات كانت تأتي من ضوء الشمس أو القمر عندما تسقط إليها من خلال المناطق الغير مسقوفة .. .
بالقرب من منزلنا كان منزل عبد الله عبد الرزاق وكانت ابنته سعيدة تأخذ غنمي مع غنمها عندما تسرح في الصباح إلى حيث يذهب الرعاة , كانت شابة جميلة مؤدبة قوية البنية بها من النشاط ما يحتاج إلى مثله أقرانها من الشباب ...
كانت تحب أن تسير معي وأنا كذلك وكنا نستبق الرعاة أو نتأخر عنهم عند عودتنا من المرعى ،
كنت أحبها في صمت وقد تكون تبادلني نفس الشعور الشيء الذي زاد من غيرة أولئك الشباب والشابات اّلذين نلتقي بهم في المراعي فلم نُعر لذلك بالاً ... وأنا كنت أجتهد أن تبقى غنمي وإياها مع بعضها طيلة النهار .
كنت أرى فيها أنس الجليس وصدق المشاعر إنني أحبها ولا أستطيع أن أقول لها ذلك خوفاً من أن هذا الأمر قد يضايقها فأفقدها نهائياً لذلك اكتفيت بذلك التقارب الذي كنت أعيش فيه معها ..(1/6)
كنت أستقطع الوقت حتى أجدها وأمكث كمن يقطع سفراً ويستريح في محطات متلاحقة ، فكانت هي تلك المحطات في أيام شبابي .
وهكذا وتمر الأيام والأيام وتكثر الإشاعات حولنا فخطبّونا الناس أكثر من خمسين مرة وكنت أرى أنها الفتاة المناسبة لي كما أن أهلها كانوا يستقبلوني بحفاوةٍ بالغة عندما أذهب لأزورهم في البيت .
عشنا على هذه الحالة فترة من الزمن فأخبرت أخي أنني أرغب في طلب يدها فاستبطأني عدة مرات ووعدني خيراً ، كما أنني كنت أرى من مودتها وأهلها أنهم لن يذهبوا بعيداً في يوم من الأيام ويزوجوها لشخص غيري ... أما أخي فقد كان جوابه في آخر مرةٍ كلّمته عنها ، أنها لن تطير وأهلها يرغبون في زواجها مني أكثر من رغبتي أنا فارتحت لذلك .
استمرّت بيننا تلك المودة ، لكن في يوم من الأيام ولا أزال أذكر أنه كان يوم ثلاثاء ... لم أجدها في المكان الذي نلتقي فيه .
وجدتها مندمجة مع بقية الرعاة فلحقت بها لكنني رأيتها في ذلك اليوم ليست كما عهدتها ولم نذهب بعيداً عن الرعاة كما هي عادتنا في كل يوم .. لمست ذلك منها فحسبت أنه اتقاء لما يتحدث به الرعاة
فعذرتها وقلت في نفسي لابد أنها تضايقت من كلام الناس وأنا لا أريد إحراجها في هذا الأمر ومن الواجب أن أكون معها لا عليها لكنني رأيت في وجوه بعض الرعاة شماتة لاحدود لها فخشيت أن يكون هناك من فتن بيننا أو نقل لها عني كذبة فصدقتها .
استفردت غنمي وانفردت بها بعيداًً في مكان كنت أذهب إليه معها وقلت لعلها تلحق بي . لكنها كانت أبعد الرعاة مني في ذلك اليوم. وبقيت أضرب أخماسا بأسداس لا أعرف سبباً لتصرفها بتلك الطريقة وكنت في حالة من النكد والإحباط لا أستطيع أن أصفها وكأنني اقلب في صدري جمراً لايعلم مدى ألمي به إلا الله . ...(1/7)
عند عودتي في آخر النهار كانت زوجة أخي تنتظر عودتي لتبلغني بالخبر فمنذ أن وصلت رأيت في عينيها كلاماً.. تريد أن تبوح به إليّ .. كان وجهها متجهماً وعليها أثر غضب فقلت ربما أن أخي قد نكّد عليها ببعض تصرفاته لكنها لم تمهلني أن أكمل وساوسي فقالت:
- ألم تعلم بما حصل ؟
- عن ماذا ؟
- عن سعيدة .
- مابها .... ؟ وأحسست أن قلبي وقع بين رجليّ .
- لقد كانت خطوبتها البارحة .
- خطوبتها ؟!
- نعم ، لقد خطبها مساعد بن خضران ..
- مساعد ، واحتقن الدم في وجهي وأحسست أن رجليّ لم تعد تحملاني
- كنت أحق بها منه.... لكن . النصيب ......
- أي نصيب ... وأنا ..... ثم جلست على أول درجة من درج السلم الذي في فناء البيت .
لكنها أقبلت علي .
- لم يعد في الوقت متسعاً للأسف عليها لقد عقد ملاكها ولم يعد في التفكير فيها فائدة فلعل ربك يعوّضك بأحسن منها .
لم أقوى على احتمال كلمة عقد ملاكها فاتجهت إلى قربة ماء كانت معّلقة في وتدٍ في الفناء فشربت منها وأنا أحسب أنني لو شربت ماء البئر كله فلن أروى .
لحقت بي زوجة أخي .
- أنت رجل وهم لا يستحقون منك كل ذلك توضأ ، واذهب إلى المسجد وصل المغرب مع الجماعة وتوكل على الله ، هذا نصيب وانقطع ولعل في ذلك خير .
سمعت كلامها ويا ليتني لم أ سمعه .
ذهبت إلى المسجد فوجدت مساعد.... ذلك الشاب الذي جاء من مكة والذي كان يعمل في أحد بيوتات مكة.... ثم التحق بالشرطة وعمل جندياً منذ أكثر من سنتين . وجدت أغلب أفراد القرية يباركون له ويهنئونه فوقفت في الطابور وهنأته مع الناس وكنت في نفسي أتقطع حسرة وألماً . بل إن ما زاد في مصيبتي هي نظرات بعض أفراد القرية إليّ والتي كانت مزيجاً من الشماتة والسخرية . بحيث لم أكن في يوم من أيام عمري احتقر نفسي أكثر من تلك اللحظة . ولم أخلص من ذلك الموقف إلا عندما قامت الصلاة فصليت وانصرفت وأنا في حالٍ لا أحسد عليه .(1/8)
ومنذ اليوم الثاني اتخذت طريقاً أشبه بطريق المغضوب عليهم ، فأسرح لوحدي وأعود لوحدي ، وأحبس غنمي في البيت حتى عودتي من المدرسة وأمشي في المرعى لوحدي وأخذت على ذلك فترة من الزمن حتى بدأت أتعوّد على أسلوب حياتي الجديد .
كان في الرعاة من أسعده ضربتي هذه .. وخصوصاً شاب يدعي علي بن حمدان فقد كان من أكثر الناس فرحاً بما حصل لي ..بل كأنها جاءت من يده لذلك كان عند ما يراني بعيداً يتغنى بصوت عال بأغنية قديمة أحسب أنه يعنيني بها.
3
ذات يوم وبينما كنت غير بعيد بغنمي عن الرعاة وبعد أن وجّهت غنمي في طريق العودة رأيت غير بعيد مني السيد مساعد بثوبه الأبيض الجديد وعمامته البيضاء ملفوفة على رأسه يمشى بين المراعي ، وكان الرعاة ينظرون إليه كل من مكانه وقد اتخذ طريقاً وسطاً بيني وبين بقية الرعاة .
كان كأنه يمشي على كبدي فأخذت أبتعد عنه جهدي فأنا لا أريده أن يقترب مني ... ولا أستطيع أن أجامله وأعتقد أنه جاء جهتي لأنه يخشى من الحرج إذا توجه إلى خطيبته و على أي حال كان مساعد شاب ليس بسيئٍ ولم يكن بيني وبينه عداوة ، غير أني أرى أنه قد انتزع قلبي ..
استمر في التوجه نحوي حتى غبت أنا عنه وعن الرعاة وفجأةً سمعت صيحة منه فتركت غنمي وتوجهت إليه فوجدت الرجل قد وقع في جرف شديد الانحدار وهناك شجرة قد حالت بينه وبين أن يهوي إلى نهاية المنحدر السحيق الذي يقاس بمئات الأمتار وسمع بقية الرعاة الصيحة وسارعوا إلى المكان الذي وقع فيه وربما أنهم شاهدوه عندما سقط لأن المكان الذي سقط فيه يمكن أن يرى من جهتهم ، ...
كنت أول من وصل إليه ، وجاء البقية وأنا واقف أنظر إليه وكنا نناديه لكنه لا يجيب فأدرك الجميع أن الرجل قد مات .(1/9)
أرسلنا إلى القرية من يخبر الناس ويأتي بحبال لكي تساعد في إخراجه من مكانه الذي هو فيه. وبعد قليل حضر أهل القرية وأطلعناه من مكانه ، ولا يزال قلبه ينبض بالحياة .. وأخذه أهل القرية إلى طبيب في بلجرشي الذي لم يكن لديه أيّة استعدادات إلا سيارة الإسعاف التي نقلته من هناك إلى مستشفى الطائف .
كنت في نفسي فرحاً بما جرى له ولم أبدي أي اكثرات أو أذرف دموعاً كما فعل بعض زملائي الرعاة ، بل كان الأمر كأنه لا يعنيني الشيء الذي استغله علي بن حمدان وبدأ يردد كثيراً : (إننا وجدنا سعيد بن ربيع ، واقفاً في المكان الذي سقط فيه ) والذي جعل جميع أهل القرية يشككون في أنني قد أكون سبباً في سقوطه .
على أيّة حال لم أكن أتوقع أن يكبر الموضوع عن هذا ، فهو سقط في الجهة التي يراه منها الرعاة جميعاً ولكنني كنت أقربهم من مكان سقوطه فهرعت إليه ووصلت إليه قبلهم ..
ذهبت بغنمي في اليوم التالي بعد نهاية يومي الدراسي فلم أر علي بن حمدان في ذلك اليوم مع غنمه فقلت في نفسي ربما أن الرجل قد سافر مع المريض إلى الطائف .
كان علي بن حمدان يدرك تماماً أنه لو مات مساعد بن خضران فلن يسبقني أحد على الزواج من سعيدة .... فأنا كنت الأولى حتى من مساعد بها فعمل على أن يحمّلني تهمة التخلص من خطيبها حتى أتزوجها وأخذ طول نهاره ذاك على إشاعة هذه الشائعة ونقل مثل هذا الحديث بين أهالي القرية حتى أوحى إلى أقارب مساعد بأن يذهبوا إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى ضدي حتى أبعد عن طريقه ليتزوج هو بالفتاة ، وكان على ثقة كبيرة أن مساعد لن يصل الطائف حياً ولابد من إبعادي عن طريقه بأي ثمن .
ولقي آذاناً صاغية لدى عائلة مساعد بن خضران فذهبوا إلى بلجرشي وتم تقديم بلاغ بهذه الصورة وتم إرسال جنوداً للقبض علي والتحقيق معي.(1/10)
لم يكن أخي في القرية في ذلك اليوم بل كان يشتغل مع بعض أفراد القرية في قرية بعيدة وكان لا يعود للبيت إلا في كل أسبوع أو أسبوعين مرة واحدة .
سمعت زوجة أخي بما تناقله الناس في القرية لكنها لم تصدق إلا عندما حضر إلى البيت اثنان من رجال الشرطة ووقفا أمام المنزل في انتظار عودتي ليتم القبض عليّ .
عند ذلك أرسلت ابنها الصغير إلى أهلها واستدعت أختها لتحضر إلى البيت ثم أرسلتها بدورها إليّ وأعطتها ما لديها من أكل وطلبت مني أن لا أعود إلى البيت وأن أذهب إلى خيمة في طرف الوادي ، حتى ترسل لي بخبر وطلبت من أختها أن تحضر الغنم معها .
عندما اقتربت من القرية ، كانت جميلة أخت زوجة أخي في انتظاري ......
و أخبرتني بالأمر وأخذت منها ذلك الطعام الذي أرسلته أختها وذهبت إلى الخيمة التي طلبت مني ان أذهب إليها وعادت هي بالغنم إلى البيت .
وانتظر رجال الأمن حول البيت حتى منتصف الليل ، لكنهم أخيراً اتجهوا إلى بيت عريف القرية لكي يبدؤوا التفتيش في اليوم التالي .
كان الوقت في آخر أيام الصيف فدخلت إلى الخيمة وأمامي الوادي وحقول الذرة تملأ المدرجات ....
كانت ليلة مبهمة ليس لها اسم ولا تاريخ .. يصرخ فيها الظلم بريح عاتية لاتدري من أين تهب .
كان في الخيمة بقية نار للذين كانوا يحرسون المزارع والذين يقضون نهارهم على أطراف تلك المزارع ....
لم يكن هناك نوراً ولا أستطيع أن أٌشعل النار فأخاف أن تدل عليّ .(1/11)
كنت في نفسي قد لبست ثوب التهمة ...... جلست خارج الخيمة والظلام قد غطى الكون إلا من ضوء هلال صغير في أقصى الأفق والجو دافئ ولا أخشى إلا من الجلوس في الظلام في داخل الخيمة .. كانت نسمات الريح عندما تهب على حقول الذرة تسمع بها وشوشة أوراق الخريف في حركة عناق مع بعضها البعض تلمع للرائي مع ضوء ذلك الهلال معلنة تمرّدها على سكون الليل الذي أرخى سدوله على الدنيا وأصابع الخوف تمتد إلى كل حي يدب على ظهر الأرض و كانت لاتخلو من بث الخوف حولي فعندما تتعانق العيدان أتخيل أن هناك رجال يمشون بينها أتوا للقبض عليّ .
كانت أصوات الكلاب في أطراف الوادي وعلى مقربة من القرية تؤنسني ولو أني ً أقول أحياناً ربما أنها قد رأت من هو آت للبحث عني ... فتنبحه تلك الكلاب وتمضى ساعات الليل .. الدقيقة أحسبها ساعة والساعة أثقل من يوم وأنا أنتظر من سيأتي يعلمني بأي خبر .
وبعد منتصف الليل رأيت شبح يسير في الطريق فتنحيت بعيداً من الخيمة أنتظر من يكون ذلك القادم.
رأيت طفلاً يمشي بين امرأتين فتأكدت أنها أختي وزوجة أخي ومعهن ابن أخي فعدت أمام الخيمة ، ووصلوا إليّ جميعاً :
ـ هل قمت فعلاً بدفع مساعد حتى سقط .........؟ قالت ذلك أختي .
ـ لم أكن عنده عندما سقط وقد سمعت الصوت فأتيت إليه وكنت أول من وصل عنده .
ـ أصدقنا القول....... قالت ذلك زوجة أخي .
ـ والله إنني لا أعلم بشيء من ذلك .
ـ لقد تقدم أخوه بشكوى والشرطة تبحث عنك وأن مات الرجل فالتهمة عالقة بك .
ـ وما العمل.......... ؟
ـ انهج إلى أرض الله الواسعة ولعل الله يساعدك .. قالت ذلك زوجة أخي .
ـ لكن ليس معي شيء .
ـ لقد أحضرت لك كل ما عندنا من نقود وكذلك أختك أحضرت لك نقوداً والسفر خير لك من السجن فالتهمة مفصّلة عليك وحسبك الله على من ظلمك .
ـ يعني ....؟(1/12)
ـ يعني من الصباح عليك أن تتجه إلى تهامة ثم من هناك تتدبر أمرك ولابد أن تخبرنا بمكانك حينما تستقر بك الأمور فلا نريد لك إلا السلامة .
ـ وأخي ؟.
ـ سنتدبر الأمر معه نحن ولا يهمك أمرنا عليك أن تنجو بنفسك فقط.
ـ أنني لم أعمل ذنباً ولم أتسبب في أذيته .
ـ هذا قدرك وقد ألبسوك التهمة وكفى .
ـ لكنني سأنكر .
ـ ستموت ستين موته قبل أن تثبت براءتك .
ـ حسبي الله ونعم الوكيل .
ـ إذا كنت مظلوماً فلن يضيعك الله ، قالت ذلك أختي .
ـ حسبي الله ونعم الوكيل .
4
غفوت قليلاً في تلك الخيمة ولم أستفق إلا من نباح الكلاب صباحاً وأخذت ملابسي ووقفت أمام باب الخيمة ً لأودع الوادي قبل رحيلي عنه فلعلي لا أراه مرّةً أخرى ثم اتجهت إلى الشفا ومن هناك انحدرت عبر ذلك الجرف القاري السحيق إلى تهامة مسلماً القيادة إلى قدماي التي لا أدري إلى أي قدر تقودني إلا أني أرى أنني ذاهب إلى المجهول .
كان معي قربة صغيرة بها ماء وبقشة بها ملابسي وبعض الطعام وقد تزودت من بعض الينابيع بالماء في قربتي خلال رحلتي حتى وصلت إلى المخواة ، وهناك اتجهت إلى المقهى فأكلت وشربت وأسندت ظهري إلى ركن في نهاية المقهى وغفوت قليلاً , ثم بدأت بعد ذلك أبحث عن سيارة تأخذني إلى مكة فأخبرني بعض من كان في المقهى بمكان سيارة تقف في طرف السوق فذهبت إليها ..
وجدت السائق هناك يقوم ببعض أعمال الصيانة فسألته عن موعد سفره فأخبرني أنه سيسافر في صباح اليوم التالي .
قضيت معظم يومي في تلك القهوة ....... وفي الليل ذهبت إلى المكان الذي فيه السيارة ونمت قريباً منها ، ومع طلوع الفجر الأول استيقظت على صوت السائق ومعاونه وبعض الركاب فأخذت ملابسي ، وصعدت إلى السيارة وصعد معي بعض الركاب ..(1/13)
كانت رحلة صعبة تعطلت بنا السيارة في الطريق مرتين لكن السائق ومعاونه كاناً على خبرة ودراية بصيانتها لذلك فقد تم إصلاحها من قبلهما مع مساعدة بعض الركاب واستمرت الرحلة . ولم نصل إلى مكة إلا في اليوم الثالث من سفرنا من المخواة .
كنت قد أحرمت مع بعض الركاب عندما وصلنا إلى مكان يسمى يلملم .. وعند وصولنا إلى مكة المكرمة اتجهنا مباشرةً إلى الحرم ، وقد همست في أذن أحد الركاب الذي كان يتحدث معي أثناء الرحلة ، أنني لا أعرف كيف هي طريقة العمرة فطلب مني أن أمشي معه وهو سيرشدني إلى كل شيء فهو مٌحرٍِِم أيضاً .وفعلاً أنهيت عمرتي معه ولم يعلم أي من الركاب ما اسمي ولا من أي مكان أتيت .
بقيت في الحرم خمسة أيام . وأنا أرى أن الأيام تسير بي ضالعة كأن بها عرج . كنت أشرب من زمزم وآكل قليلاً في بعض المطاعم المحيطة بالحرم حتى لا تنفد النقود التي معي .
وبعد ذلك فكّرت في عمل أحصل منه على قوت يومي أو مأوى أسكن فيه فخرجت إلى أعالي مكة , .
وجدت مقهى هناك كبيراً فاتجهت إلى طاولة قريبة من رجل ظهر لي من جلسته ومراقبته للعمال أنه صاحب المقهى فطلبت إبريقا من الشاي وبعد ذلك سألته :
ـ أريد أن أشتغل .... فإن كان لديك عملاً في هذا المقهى فسأكون عند حسن ظنك .
ـ أنت .... ما اسمك ؟ عند ذلك بدأت على وجهي ملامح الخوف .
ـ اسمي أحمد .
ـ من أين أنت ؟
ـ من القنفذة .
ـ الشغل في القهاوى ... صعب .
ـ لا عليك فأنا نشيط .
ـ سأعطيك في الشهر (100) ريال .
ـ والسكن ؟
ـ والسكن ، والأكل .(1/14)
رأيت أن ذلك كان جيداً ، فقبلت وبدأت العمل في اليوم التالي ، كنت نشيطاً جداً لكن ما كان يزعجني أن هناك بعض زملائي العمال ظهر لي من كلامهم أنهم عرفوا المنطقة التي جئت منها وعرفوا من لهجتي أنني لست من القنفذة ... وكانوا حريصين على أن يعرفوا من أين أنا بل من أيّ قريةٍ , وكنت بين خوفي منهم وبين خوفي من معرفتي من بعض الزبائن كمن هرب من المستشفى بثياب المرضى يرى أن كل الناس تعرفه . وبقيت في هذا العمل أسبوعاً لم أكن مرتاحاً . فقررت ترك القهوة .... واتجهت إلى الحرم مرة أخرى فعملت في بعض المطاعم القريبة من الحرم فضمنت أكلي وراتب شهري لا يزيد عن 80 ريالاً أما السكن فكنت أنام في الحرم . غير أن ذلك العمل لم يمح الخوف من قلبي أيضاً وزاد خوفي من أن يظهر بعض الناس القادمين من قريتي للحج أو العمرة فيعرفونني .... فالمطعم يأتي إليه المقيم والمسافر وأنا أعرف أن حظي أبعد مايكون من السعادة ... والأقدار تسوق لي المصائب أفرادا وجماعات وكأنني هدف منصوب لها بفلاة لاترى سواه .. وغدى الخوف يطاردني في كل مكان وفي كل وقت ....
رأيت أن كلاً من الناس يأوي إلى سكن وحتى الحيوانات إلا أنا فأنني لا ادري إلى أين اتّجه .
كنت أتردد أحياناً إلى صاحب دكان بجانب المطعم وطلبت منه أن يساعدني
و يبحث لي عن عمل غير عمل المطعم فقال : ـ
ـ أن العمل في المحلات التجارية مواسم ولكنني سمعت أن هناك تسجيل في العسكرية .
ـ أين ..........؟
- في القشلة ، أنت من أي ديرة ........؟
ـ من جهة القنفذة .
ـ هل لديك تابعية........ ؟
ـ لا ما عندي .
ـ عليك أن تحصل على تابعية أولاً .
ـ من أين........... ؟
ـ اذهب إلى العمدة وهو يرسلك .
ـ وأين بيت العمدة ........؟
ـ في الشارع المجاور اسأل الناس وهم يرشدونك على بيته وهو رجل طيب وابن حلال .
ـ شكراً .
وذهبت إلى الشارع الذي أشار إليه ، وهناك سألت حتى وصلت إلى بيت العمدة ،(1/15)
دخلت فوجدت رجلاً وقوراً جالساً على أريكة وحوله رجال أيضاً أصحاب هيبة ووقار فتقدمت إليه وسلمت وقلت :
ـ أريد تابعيةً يا سيدي .
ـ حياك الله ... أنت من حارتنا ؟.
ـ نعم .
ـ من تعرف من أهل الحارة ؟
فتوسمت خيراً في رجل كان جالساً بجانبه ً وقلت : ـ
ـ أعرف هذا بوجهه لكنني لا أعرف اسمه .
ـ أين تشتغل .......؟
ـ كنت اشتغل في مقهى لكنني أريد أن أكتب في العسكرية ....
ـ من أين أنت ..........؟
ـ أنا من القنفذة ولو سافرت إلى هناك ربما يفوتني التسجيل وجلست أمام الكرسي على رؤوس أصابعي ........... عند ذلك قال ذلك الرجل الذي أشرت إليه .
ـ اكتب له ورقة يا عمدة بمعرفتي فالرجل يحتاج إلى المساعدة ثم إنه سيكون جندياً .
ـ لابد من شاهدين .
ـ أبو علي سوف يوقع معي وأشار إلى رجل جالس بجانبه ..
... فكّر العمدة قليلاً وقال :
ـ هذه مسئولية سوف تتحملها أنت وأبو علي .
ـ يا سيدي نتحملها هذا رجل يريد أن يكون عسكرياً يعني يدافع عن الوطن وأنا أعرف أن هذا الفوج الذي سيتم تسجيله سوف يذهب إلى الأردن والمقصد خير والهدف سامٍ وأنا متحمل جميع المسؤولية .......فالتفت إليّ العمدة .
ـ صحيح يا ولدي.......... ؟.
ـ نعم ، هذا صحيح .
ـ ما اسمك .........؟.
ـ اسمي عبد الله عبد الرحمن.
ـ هيه .. اسم جدك......... ؟.
- محمد .
- لقب العائلة..... ؟.
ـ فنظرت إلى لوحة أمامي في الشارع بخط كبير قد كتب عليها الجنوبي فقلت .
ـ الجنوبي .
ـ عبد الله عبد الرحمن محمد الجنوبي .
ـ نعم هذا اسمي .
ـ اكتب له ورقة تعريف يا أبو أحمد .
ـ كان أبو أحمد يعمل كاتباً لديه فكتب لي الورقة وختمها العمدة وقبل أن أنصرف قال لي ذلك الرجل الذي بجانبه والذي لن أنسى فضله عليّ ما حييت :
ـ تعال يا ولدي .
... فاقتربت منه وسلمت على رأسه وقال : ـ(1/16)
ـ روح عند واحد موظف اسمه نعيم وقل له أنا مرسول من عند عمّك صدقة وهو سيساعدك فخرجت من بيت العمدة وكأنني قد ملكت الدنيا بحذافيرها ، واتجهت مباشرةً إلى دائرة الجوازات .
وصلت إلى المكتب فوجدت طابوراً طويلاً من الناس الّذين يرغبون فيما أرغب فيه فاقتربت من أحد العاملين وسألته عن الموظف نعيم فأرشدني إلى رجل كان في غرفةٍ مجاورة فدخلت إلى مكتبه ، وقلت له :
ـ يا نعيم باشا ( هذه الكلمة قالها لي الرجل الذي سألته عنه) أنا مرسول إليك من عمك صدقة ، وناولته ورقة التعريف وقال :
ـ عندك صور........ ؟
ـ لا ما عندي .
ـ اذهب وأحضر صوراً وتعال .
ـ ذهبت إلى الأستوديو وتصورت ,و طلب مني صاحب الأستوديو أن أعود إليه في الغد فلا يمكن أن تخلص الصور في نفس اليوم فرجوته ودفعت إليه أجراً مضاعفاً فوافق على أن أعود إليه بعد ساعة .
لم أخرج من نطاق الشارع الذي أنا فيه وكنت أتطاول الوقت حتى عدت إليه وأخذت الصور وذهبت بها إلى الجوازات ، وسلمتها إلى السيد نعيم فطلب مني أن أجلس خارج الغرفة حتى ينادي علي ولم تكمل ساعة حتى سمعت صوتاً ينادي :
ـ عبد الله عبد الرحمن الجنوبي.
ـ فلم أجيب .
ـ عبد الله عبد الرحمن محمد الجنوبي.
ـ فعرفت أنني قد تسميت بهذا الاسم فدخلت إلى مكتبه وسلمني التابعية منتهية ، ثم أرشدني بدوره إلى رجل في مكتب التسجيل ولم أكمل أسبوعاً إلا وأنا أحد الجنود المقبولين في ذلك الفوج . وعندها افتكرت كلام أختي عندما قالت ، إن كنت مظلوماً فلن يضيعك الله .
5
طٌلب منا جميعاً الحضور في يوم السبت التالي فاتجهت إلى مكان العمل وهناك استلمت بدلةً عسكرية وبندقية ودخلت إلى المعسكر ، كانت التمارين مكثفة وعندما انتهت تمارين اليوم الأول دخلنا إلى عنبر النوم فوجدت كرسياً وفراشاً جديدين فكان أول سرير في حياتي(1/17)
شعرت أنني ارتفعت عن الحضيض ، فنمت بعد تعب امتد معي منذ سفري من المرابعة نوماً لم أجد أحلى منه ، وبقينا في ذلك المعسكر قرابة الثلاثة أشهر كنت خلالها من أفضل المتدربين وأنشطهم مما جعلني محبوباً لدى المسئولين عني في المعسكر .
بعد ذلك تم انتقالنا بسيارتنا وكامل معداتنا إلى الأردن وهناك وصلنا إلى المعسكرات الخاصة بنا وكنا من جنسيات مختلفة من كافة دول الخليج العربي وبالقرب منا قوات عراقيةٍ وأخرى يمنية .
كنا نخرج أحياناً في دوريات مشتركة من كل الجنسيات التي ذكرت وعن طريقها تعرفت على ضابط كويتي اسمه عيسى البلوشي ، كنت أشترك معه في دوريات أمنية حول المعسكرات .. كنت ارتاح للعمل معه كثيراً هو وأحد زملائي الذين معي في المعسكر من المنطقة الجنوبية يدعى عوض الماجد وكان يحدثني كثيراً أن له عم سافر إلى الأردن في حرب الثمانية والأربعين وأنه لم يعد ولم يعرف أهله عنه شيء فلا أحد يعلم أهو حي ّأم أنه قد مات، وكان يحدثني أنه يرغب أن يبحث عنه في الأردن.
وفي ذات يوم أتى إليّ قائلاً أنه وجد من يدله على عمه ويريدني أن أذهب معه ليتأكد من هذا الأمر ، فذهبت معه .
كانت ليلة باردة ذهبنا في سيارة أجرة أنا وهو ومعنا رجل يقول أنه الدليل الذي سيوصلنا إلى عمه .
وصل بنا الدليل إلى خارج مدينة عمّان ثم طلب من سائق التاكسي أن يتجه شمالاً حتى وقف بنا عند بيت ترى من منظره أن أهله فقراء.
طرق ذلك الدليل الباب وخرج لنا شاب فسأله ذلك الدليل عن والدته.......... ؟.
خرجت علينا بعد ذلك امرأة في الخمسين من العمر أو تزيد عن ذلك بشيء قليل جميلة الملامح لكن أصابع الفقر قد عبثت برونقها ... قد ربطت منديلاً على رأسها تلبس ثوباً فضفاضاً فرحبت بنا .(1/18)
كنت أنظر إليها بعد أن أدخلتنا إلى المجلس فأرى فيها تلك المرأة التي تحاول أن تنهض بما حمّلها الزمان من حمل قد ادّها أن تقوم به مع صعوبة مقوّمات الحياة ومعاناة الفقر والعوز بعد وفاة زوجها (وقد لايكون قد مات فقد يكون ذهب وتركهم ) في زمن لم يكونوا محسوبين فيه على الطبيعة إلا كحجر من حجارة البيت الذي يحمل حجراً آخر حتى يستوي عليه السقف ...
لكنك ترى أن أصحاب البيت رفيعيّ الذوق رغم فقرهم فالأرائك مرتبة وجميلة ودهان الغرفة جميل أيضا . وأتت لنا بإبريق من الشاي وضعته أمامها وناولت كل واحدٍ منا كوباً وجلست في طرف المجلس .
بدأ الحديث ذلك الدليل فقال :
ـ يا أم توفيق هؤلاء الجماعة يقولون أن أحد أقاربهم قد سافر منذ عام الـ 48 ولم يعد إليهم إلى الآن ، ويسألون عنه وربما يكون زوجك أبو توفيق هو قريبهم الذي يسألون عنه ،
كانت أسارير الفرح تبدو على ملامح المرأة وسألت زميلي :
ـ وما اسم قريبك يا بني .
ـ اسمه سعيد بن عوض .
ـ بالضبط هذا هو اسم زوجي وأخذت تزغرد ونادت على أطفالها جميعاً فدخلوا وبدت لنا بنتها الكبرى علياء التي تبلغ من العمر عشرين عاماً تقريباً وكانت من أجمل ما رأيت تلبس قميصاً زهريا ً ينحسر كُمّه إلى منتصف ذراعيها البضّة البيضاء مبديةً جمالاً تنفطر منه قلوب الناظرين إليه فسلمت علينا ثم جاء بعدها أخوها توفيق في السادسة عشرة من عمره ثم أخته إيناس التي ترى أنها لا تقل عن اربع عشرة سنة وجلسوا جميعاً
طلب زميلي من صاحبة الدار أن تثبت له من الأوراق التي لديها أي شيء تثبت هوية عمه فتغيّر لونها وامتقع وجهها لكنها تداركت الأمر فقالت أنها ستبحث عنها ولكن الاسم هو من يبحث عنه.(1/19)
الحقيقة أنني كنت أتمنى أن لا تصبح تلك الفتاة .......( علياء)هي ابنة عمه لأنه سيبقي عليها وأنا أريدها زوجةً لي فأنا مقطوع من شجرة وهي لاتعرف أين أبوها فيجمعنا البؤس وتقربنا المصائب وصرت اختلس النظر إليها فأرى كل لمحة منها تنسيني التي قبلها ولم يردعني من تلك النظرات إلا خوفي من أنها قد أصبحت ابنة عم زميلي الذي جئت معه .. أنا الآن لا وطن لي ولا مأوى وهي تبحث عن أب لها قد أخفته الطبيعة أنني لا أملك شيئاً وإنني إنسان مطلوب وبلا جرم ارتكبته فلا هناك شيء أندم عليه إلا ذلك المرتب وهي قد لا تكون ظروفها بعيدة عني ..... أنها الفتاة المناسبة لي حقاً .
فارقت وزميلي ذلك البيت وقد علقت نفسي بتلك الفتاة فأبني على حياتي معها الأحلام ثم أعود فأصطدم بجدار الواقع الذي أعيشه والذي لا يعرفه أحدٌ غيري ..... ما أصعب أن يحس الإنسان انه لا ينتمي إلى أحد , وأنه غريب عن جميع مكونات البشرية .
بقيت أٌمنّي نفسي فالأماني مسموحٌ بها لأي فرد..... وكلٌ يحلم .... وبعد زيارة أخرى وتعذر وجود مايثبت من عقد زواج أو جواز سفر عند تلك المرأة اقتنع زميلي أنها ليست زوجة عمه وأن هذه المرأة قد لا تكون صادقة فارتحت لذلك كثيراً بل زدته على ما بني حتى ارتفع بناؤه واقتنع أنها ليست العائلة التي يبحث عنها .
بقينا على ذلك كثيراً وذلك الدليل كان يأخذنا إلى كل مكان ونرى عائلاتٍ كثيرة .. ..حتى تعب زميلي من البحث واقتنع أن عمهٌ ربما يكون في داخل فلسطين حياً أو ميتاً أما في الأردن فلا يرى أن له أثراً ..
من جهةٍ أٌخرى دارت الألفة والمحبة بيني وبين ذلك الضابط الكويتي حتى أصبحت ومن واقع ارتباطي الوثيق به أسهر معه في معسكره وأنام عنده ......
و صرت أتأخر عن حضور بعض التمرينات التي تقام في معسكرنا وعوقبت بجزاءات كثيرة جراء ذلك فلم أبال .
وفي ذات يوم قال لي ذلك الضابط :
ـ ما رأيك لو تأتي معي إلى الكويت .
ـ لماذا .........؟(1/20)
ـ لكي نبقى سوياً، فأنا ارتحت لك وسأحاول أن تكون في نفس اللواء الذي أعمل به .
ـ وأنا كذلك لكنني مرتاح في عملي .
ـ معي ستكون أنت الرابح فلدينا مجال العمل واسع ....
ـ لكم أنتم الكويتيين .
ـ وأنت ستكون كويتياً أيضاً .
ـ ماذا تعني ......... ؟.
ـ أعني أنني سأسعى كي تحصل على الجنسية في الكويت أيضا .
ـ هل تعدني بذلك ...........؟
ـ نعم أعدك وهذا الأمر مسئوليتي أنا ، عند ذلك فكرت في أن أبتعد عن ذلك الهم الذي يطاردني ليس إلى الكويت فحسب..... بل إلى آخر بقاع الدنيا .
وعدته بأن أدرس الأمر وانشغلت بعد ذلك بتعلم قيادة السيارة فقد التحقت بمدرسة لتعليم القيادة في عمان حتى حصلت على الرخصة وبعد ذلك قدمتها إلى آمر الفوج المسئول عنا وتم ترقيتي إلى رتبة عريف سائق.
ارتفع مرتبي بعد ذلك وبعدها استدعاني آمر الفوج فذهبت لمقابلته .
بادرني الرجل بتهنئتي بالترقية .
ـ شكراً ، هذا بفضل جهودك وفقك الله .
ـ أريد أن أستوضح منك أمراً .
ـ وأنا تحت أمرك .
ـ لقد مضي لنا هنا أكثر من ثلاث سنوات أليس كذلك ...... ؟
ـ بلى هذا صحيح .
ـ أليس لك أهل ؟
ـ بلى .
ـ لم أرك تطلب إجازة منذ وصولنا إلى هنا .
ـ أنا لا أحب السفر كثيراً .
ـ حتى وإن طال السفر بنا في هذا المعسكر ...؟
ـ حتى وإن .
ـ مَن مِن والديك على قيد الحياة ...؟
ـ رحمهما الله .
ـ وإخوانك......... ؟
ـ لي أخت هي متزوجة .
ـ أو لست متزوجاً ......؟
ـ لا .
ـ ولم تخطب....... ؟.
ـ لا أريد الزواج في الوقت الحاضر .
ـ هل ترغب في إجازة ......؟
ـ لا ... إنني مرتاح هنا .
ـ ماذا عن آمر السرية التي أنت بها... ؟
ـ محترم جداً .
ـ لقد أشاد بك .
ـ هو أهل لكل خير وكل كلام جميل .
ـ ألك حاجة........ ؟
ـ أشكرك .. إن كلامك هذا وسام على صدري لن أنساه وسأحفظ لك هذا الجميل ما حييت .
ـ انصرف مشكوراً .
فألقيت التحية أمامه وانصرفت .(1/21)
لم أنم ليلتي تلك قضيتها في التفكير بين ما قاله عيسى البلوشي وبين كلام آمر الفوج فأحياناً أختار ما قاله لي عيسى وتارة كان لمقابلة آمر فوجنا تأثيرٌ طيب في نفسي جعلتني أحترم التراب الذي يمشي عليه .
أصبحت أرغب في عدم العودة إلى الحجاز , فلقد زرت تلك العائلة الأردنية أكثر من مرة وزاد تعلقي بتلك الفتاة التي رأيتها ، وكل يوم كان يزيد حبها في قلبي ، كدت أن أتقدم لخطبتها والبقاء في الأردن لكنني كرهت أن أكرر تجربة أبيها فأنجب منها أطفالاً وأذهب وأتركها فتتكرر معها نفس المأساة التي حصلت لإمها وأنا لست متعلماً والناس يأتون إلى دول الخليج لطلب الرزق فكيف أقوم أنا بعكس ذلك ...
عدت بعد فترة إلى ذلك الضابط الكويتي وسألته :
- هل يجوز أن أمنح الجنسية الكويتية دون أن أتخلى عن جنسيتي السعودية ...؟.
- هذا الأمر يتوقف عليك .
- كيف .......؟
- إذا قررت الذهاب معي فسأتولى ذلك .
- دون أن أفقد جنسيتي .
- لا عليك أنا الذي سأتولى ذلك .
- أريد أن أكون على دراية من أمري وأن يكون طريقي واضحاً .
- سيكون طريقك واضحاً .
- كيف ...... ؟
- في حالة عدم إيفائي بوعدي ، بإمكانك أن تعود إلى وظيفتك ، ألا ترى أنك موظف ولك رتبة عسكرية فأنت لست ضائعاً .
- لكنني أريد أن تبقى معي الجنسية السعودية .
- لك ذلك .
- لدي اقتراح .......
- هات ما عندك .
- سأطلب إجازة .. وأذهب إلى الكويت ولك أن ترسلني إلى من يكمل إجرآتي فإن سارت الأمور كما نحب جلست هناك أو كان غير ذلك فسأعود إلى هنا في نهاية الإجازة ...
قام من مجلسه وأخذ يمشي في الخيمة ثم التفت إليّ فجأة وقال :
- كنت أريد أن أرسلك إلى بعض زملائي ولكن حتى تطمئن .. أنا سأطلب إجازة أيضاً ونذهب سوياً .
- وأنا موافق .
- إذاً انتظر حتى أحصل على إجازة ونذهب سوياً .
- وهو كذلك .
وبعد فترة من الزمن لم تزد عن أسبوع أخبرني عيسى أنه قد حصل على إجازة لمدة شهر وأنها تبدأ بعد أسبوع .(1/22)
عند ذلك ذهبت إلى أمير السرية وطلبت منه إجازة لمدة شهر مطابقة لإجازة ذلك الضابط على أنني قد طلبت قيمة التذكرة نقداً لأنني أخبرتهم إنني سوف أسافر عن طريق البر .
سافرت أنا وعيسى البلوشي إلى الكويت وهناك أخذني إلى منزله ونمت عنده في تلك الليلة ..
كان منزله فخماً جداً وقلت لنفسي ، هنا سأبتعد عن قرية المرابعة وعن مساعد بن خضران وتلك البلوى التي ألقيت على ظهري دون أن يكون لي فيها أي سبب وأعيش حياتي كبقية البشر ..
وفي اليوم التالي أخذني إلى فندق في ساحة الصفاة وطلب مني أن أنتظر حتى يتدبر أمري.
6
بقيت في ذلك الفندق والذي لم يكن مريحاً فكان هناك في الطابق الثاني منه مقهى تفوح منه رائحة المعسّل وكذلك الضرب على طاولات الزهر وصياح العمال غير أنني أريد أن أرى نهاية أفكاري .. كما كان السكن هناك مجالاً لأن اتعرف على البلد عن قرب فهو في وسط المدينة وكنت أمشي أغلب وقتي دون الحاجة لركوب التاكسي .... أقف عند كفتريا تارة وأشرب فيها عصيراً وأدخل مطعماً فأتناول فيه وجبة .
أما ما بعد العصر فإنني كنت أقضيه على شاطئ البحر حول ساحة الأبراج ... كان صفق الأمواج يطيب لي ومنظر قوارب الصيد والسباحة أمامي ممتع جدا ًوالنظر إلى البحر يفيد الناظر إليه كثيراً فالعين لا يردها شيء وتأخذ مساحتها الواسعة .
كنت عندما أعود إلى الفندق أذهب إلى الاستقبال أولاً لعلي ألقى رسالة من صديقي أو ما يدل على أنه أتي فلم يجدني .
طال انتظاري في الفندق فأيقنت أنني أخذت صفعة من عيسى وقلت في نفسي لقد وصل إلى هنا ومن لقي أحبابه نسي أصحابه ولعلها مقلباًً جديداً قد تلقّيته ... وبقي نظامي اليومي كما هو حتى مضى لي أسبوعُ كامل وبعد ذلك وجدت ورقة عند موظف الاستقبال يطلب مني عيسى انتظاره في الساعة الحادية عشرة ليلاً .
كان الوقت قد تعدى الثانية عشرة حينئذٍ.(1/23)
أيقنت أنه سوء الحظ قد جاء بي متأخراً ولعله قد جاء على الموعد ولم يجدني فأنصرف ... سألت موظف الاستقبال .
- هل سأل عني أحدٌ اليوم ؟.
- نعم لكنك لم تكن في الغرفة .. هناك رجل لعله هو .
- ... التفت إلى بهو الفندق فإذا هو جالس أمام جهاز التلفزيون فاتجهت إليه ، صافحته مصافحة عتاب قد عرفها لكنه بادرني بالاعتذار وقال :
- أنا أعتذر عن تأخري فقد كنت أنتظر أحد المسئولين الذي لم يصل إلى الكويت إلا اليوم .
- هه .. ثم ماذا .
- لقد وافق على ما طلبت لكن هناك شرط أساسي .
- ما هو ....؟
- أن تكتب جندياً في الجيش .
- كيف أعود جندياً وأنت تعلم أنني الآن برتبة عريف ...
- قلت له ذلك .
- ماذا كان رده ......؟
- قال إنها مرحلة مؤقتة ولن يكون هناك فرق كبير بين الراتبين .
... فكرت ...
- موافق ... .. أخبرته باسمي..... ؟
- نعم .
- أريد أن أغير اسمي .......
- لماذا .. .
- أنا أريد ذلك ـ حتى لا يسألون عني .
- لا عليك فلست أول واحد وهذا أمر طبيعي .
- ألا ترى أن هذا الاسم موجود لشخص هنا في الكويت .
- هناك أسماء كثيرة تتشابه .
- توكل على الله ..
... وغادر الفندق ووعدني أن يأتي إلى في الغد ليصطحبني إلى ذلك المسئول.
انتظرته في الغد وأتى وأخذني إلى ذلك المسئول وعرًفني به ..
رحب بي أيضاً ذلك المسئول وطلب مني إكمال مسوغات التعيين ووعدني بالجنسية قريباً .
بدأت عملي في سلاح الصيانة وكان المسئول عني شخص سيئ الطباع كانت أصوله وللأسف من الجزيرة العربية .. يعاملني بقسوة وكبرياء كأنه كان موكل بي من قبل أعداء يثقل عليهم أن أسير على ظهر الأرض.
كنت أعمل في إصلاح كفرات سيارات الجيش ولم يكن يساعدني في تلك الورشة الكثير لكنني كنت وبحكم قوّة بنيتي الجسمية أقوم بما يوكل إلى بكل كفاءة .(1/24)
لم يكن إخلاصي واجتهادي شافعاً لي عند ذلك المسئول والذي أرى أنه حاقد على كل شيء فكل العاملين في الورشة يكيلون له اللعنات والشتائم غير أني كنت أكثر الحاقدين عليه لأنني كنت أعمل بجدية وليس كغيري بل زادني حنقاً. إنه يأتي ليقف على رأسي عندما أكون مشغولاً وبدلاً من تشجيعي كان يسخر مني وٌيضحك عليّ العاملين في الورشة .
قلت في نفسي ربما أنه يعلم أنني تحت التجربة ولا يريدني أن أستمر أو ربما يكون النظام لديهم هكذا ويريد أن يختبر قدرة تحملي للأوامر العسكرية .. صبرت ولم أعيره أي انتباه وكنت أتمنى أن لا أراه لأنني أتخيل في وجهه أنه شيطان واستمر ذلك الرجل في الإساءة إليّ وبدأ يمارس أذيّتي كحصة يومية وزاد من غضبه أنني لا أرد عليه .
وفي ذات يوم اتى ليمارس تلك الحصّة. ... ضقت ذرعاًً ولم أعد احتمل أكثر من ذلك ... أخذت ليور الكفر واتجهت إليه وقلت له :-
- أعتقد أنني تحملتك كثيرا ..... فآن الأوان أن تعرف من أنا.
- الله أكبر .. ماذا تريد أن تفعل ...... شاهدين يا جماعة فتركته واتجهت بعد ذلك إلى الضابط الأرفع منه رتبةً وكان بمنصب مدير الشؤون المالية والإدارية فشكوته إليه وأخبرته بتصرفاته معي ومحاولة استفزازي . فقابلني بلطف واستدعى بعض العاملين في الورشة وسألهم عني فأثنوا عليّ خيراً .
طلب مني ذلك الضابط أن أنتقل إلى مكتبه في الشؤون المالية فكانت فرصة لي كي أخرج من ذلك الجحيم الذي أوقده عليّ مدير الورشة وأحسست أيضاً أن نقلي من عنده دون استشارته هو بمثابة عقوبة له .
سافر عيسى البلوشي إلى الأردن , وأنا لم أكمل عاماً حتى حصلت على الجنسية دون أن يطلب مني التنازل عن جنسيتي التي معي ففرحت لذلك كثيراً.(1/25)
تقدمت لطلب رخصة قيادة جديدة في الكويت ولم أظهر لهم الرخصة التي حصلت عليها في الأردن وبعد ذلك تقدمت بها إلى الضابط الذي أعمل معه وأذكر أن اسمه كان سليمان الوافي وكان ذو وقار واحترام يحب الخير لكل الناس وخصوصاً مع من يعمل في إدارته .. خلوق ..... كنت لا أنسى تحيته الصباحية عندما يراني .
- كيفك يا جنوبي مرتاح معانا يا بوك .
- الله يطول عمرك .
ازددت به سنداً مع صاحبي عيسى البلوشي وقد كان أقرب لي من كل الناس .... إذا رآني عابساً ، أخذني إلى مكتبه وفتح معي الحديث في أي مجال حتى يخرجني من جو الكآبة التي يراني بها ، وكان يسألني دائماً عن ديرتي ومن أين أنا .
- أنا بدوي أهلي كانوا يعيشون بالقرب من حفر الباطن بين الحفر وبين العبدلي .
- كلنا يا بوك من تلك المنطقة والجزيرة العربية كل أبوهم أخوان .
- هذا صحيح.
- ما تزوجت ....... ؟
- لم أتزوج بعد .
- ومتى إن شاء الله نراك عريساً .
- إذا كتب الله .
- الذي ينقص عليك يا بوك فأنا حاضر .
- عشت وأمد الله في عمرك .
كانت هذه المقابلة وهذه العبارات بمثابة البلسم الذي أعالج به جروج الزمن التي لازلت انزف منها وتذكرت عندها كلمة أختي . إن كنت مظلوماً فلن يضيّعك الله .
كل يوم كان يمر علي كانت مودة ذلك الرئيس تزداد في قلبي حتى تمنيت إنني أعرفه منذ زمن وفي هذه الفترة اشتريت سيارة بالتقسيط من إحدى محلات بيع السيارات . وبعد ذلك بفترة عاد زميلي عيسى البلوشي ومن حسن حظي انه كان في نفس اللواء الذي أعمل فيه وكان دائماً يأتي إليّ ويكثر من زياراتي والسؤال عني فزاد ذلك من تقدير زملائي لي وهم يرون قربي من القادة والمسئولين وأخذ بعضهم يطلب مني التوسط لدى المسئولين في أي أمر يهمه.(1/26)
كنت أبث لعيسى همومي وأفكاري أكثر من الأستاذ سليمان الذي كنت أحترمه كثيراً واستحي منه كثيراً فهو رجل جدير بالاحترام والتقدير وقد كان قربي من عيسى البلوشي لم يضايقه ولم يقلل في قلبي من تقديره واحترامه فكنت لا أذهب إلى عيسى دون أخذ موافقته وإذنه ، فكان ذلك ما زاد في استمرار وده لي.
مضي علي في الكويت قرابة ست سنوات وأصبحت أملك مبلغاً من المال يكفي لأن أتزوج وأفتح به بيتاً وهنا أذكر أنه جاءني عيسى وكنت ساكنا في شقة صغيرة في الجهراء داخل مساكن الجيش وطلب منى مرافقته إلى الكويت وذهبت معه .
في أثناء سيرنا سألني عيسى :
- هل أنت مرتاح معنا......... ؟.
- جداً .
- مرتاح مع عمك سليمان ......... ؟ .
- ابن حلال الله يذكرك وإياه بالخير .
- كنت خائفاً أن تقول عكس ذلك .....
- بالعكس ، أنا ما عندي أخ لكن الله بعث لي إخوة أحسن من بعض الإخوان .
- أشوف مالك خاطر في الزواج .
- يكتب الله ما فيه الخير .
- يعني ما فكرت ، كذا ولا كذا ....؟
- ما فكرت ....
- ما أعجبك في الكويت أحد ؟.......... الله أكبر عليك .
- ليس هذا .
- هل هناك إنسانة تحبها ...... ؟.
- قد تقول هذا .
- وأين هي ..........؟ وأنا أخطبها لك .
- في الأردن . ... نعم قابلتها عندما كنت هناك .
- أترك عنك هذه الخرابيط وانظر حولك . إذا تزوجت من الكويت أحسن من تبقى كل يوم وأنت راكب طيارة وجاي في طيارة هنا بنات طيبات وعائلات محترمة . كلنا أخوان من السعودية ا و من الكويت أو أي بقعة من الجزيرة وأنا لا أنصحك بالزواج من غير الديرة .
- وكيف...... ؟
- إذا نويت فأنا سوف اسأل بعض الإخوان والجيران ولن تكون إلا مبسوطاً .
- هذا رأيك .
- وأنصحك أن لا تخالفني لأنني أجد نفسي صادقاً معك ، وستكون أنت الرابح .
- أعطني وقتاً أفكر .
- كما تريد .(1/27)
ومرت الأيام والشهور دون أن أفكر في موضوع الزواج وفي ذات يوم أتى المقدم عيسى البلوشي إلى مكتب العقيد سليمان الوافي وجلسا فترة ليست بالقصيرة وبعد أن انتهى اللقاء كانت المفاجأة .
استدعاني العقيد سليمان وطلب مني أن أنتقل إلى قسم التموين فسألته عن سبب نقلي فكان جوابه حاسماً ...... وأحسست أنها أوامر عسكرية لا يجب على أن أناقش فيها وكانت دلالات الصرامة ظاهرة عليه . فشكرته وانصرفت وعدت فجلست على مكتبي وشعرت عندها بالغربة فعلاً....... وحنيت إلى أختي وأخي وتذكرت بلدي وكيف خرجت منه وما ذنبي الذي ارتكبته حتى أعيش طريداً وحيداً من بقعة إلى بقعة ومن بلد إلى بلد .
أسندت كوعا يداي إلى الطاولة التي كانت أمامي ووضعت رأسي بين كفي وأخذت أحسب كم طول المسافات التي قطعتها حتى وصلت إلى هنا ....... وكم من المتاعب واجهت ......... وكم سوف أسير في أرض الله الواسعة وإلى أين سينتهي بي المطاف ........
خرج العقيد سليمان الوافي ورآني بتلك الصورة .. فلم يعرني أي انتباه .
كنت وقتها قد وصلت إلى رتبة وكيل رقيب فأيقنت أن أحداً قد وشي بي عنده أو نقل له صورة سيئة عني وأخذت أقسّم شكوكي بين هذا وذاك وأتهم زملائي في مكتب العقيد لكنني تارةً أقول إنما هذه الحياة أيام وتنقضي ثم أموت مع من مات أو انتقل إلى بلد آخر وإن هذه الدنيا كطريق أعبرها حتى ينتهي أجلي وعندها سأتوقف .
كنت كمن سقط في منحدر سحيق في واد ٍمنقطع من الأرض قد فقد الأمل أن يهتدي إليه إنسان يساعده على الخروج فلم يعد ينتظر إلا الموت.
نعم كنت انتظر الموت و ما أحوجني إليه في تلك اللحظة .
كنت أحسّ برغبةٍ الى البكاءْ وبصوت مرتفع والى اذراف الدموع فربما خففت من ألمي الذي ألمس أنه اقوي من جميع العادات والتقاليد .
***************************
7(1/28)
مع نهاية دوام ذلك اليوم كان خطاب توجيهي إلى قسم التموين قد استلمته ووقعت عليه وكنت مستغرباً تلك السرعة التي صدر بها. فالقرارات تأخذ وقتاً قد يصل إلى أسبوع لكن قراري لم يكمل ساعتين. فسلمت أمري إلى الله وحسمت الأمر بروح رياضيه وكنت متألماً من اختلاف رؤية العقيد سليمان الوافي لي فقط .
حاولت الاتصال بالمقدم عيسى البلوشي فلم أجده وكان رد مدير مكتبه أنه غير موجود عاودت الاتصال أكثر من مرّة ، وما أن انتهى الدوام حتى ركبت سيارتي وذهبت إلى منزله فوجدت سيارته أمام منزله لكن ابنه خرج من الباب ليشعرني بأنه غير موجود .
عند ذلك أغلقت جميع الأبواب في وجهي وركبت سيارتي وذهبت إلى شارع الخليج العربي بجانب البحر وهناك جلست لا الوي على شيء في مكاني المعهود وكأنني شجرة قد حُبس عنها الماء ْ فبدأت تذبل أوراقها معلنةً سقوط الحياة منها وشعرت بالغربة والحنين إلى أهلي ووطني وانعقدت روحي في حنجرتي ...... جلست انظر إلى أمواج البحر المتلاحقة متّجهةٍ نحوي وكأنها خيول تتسابق وإلى الطيور التي تسبح في سماء الشاطئ منها القريب ومنها البعيد لكن هناك طائراً كان بعيداً جداً يسبح بمفرده وكأنه يستمتع بمشاهدة الناس والسيارات والحدائق وأبراج المياة فتذكرت أنني قد رأيت مثل هذا الطائر عندما كنت اجلس على أطراف الجرف القاري الذي يفصل بين السراة وتهامة في أيام الصبا في قرية المرابعة فأنشدت بصوتٍ جبليٍ كنت أجيد الغناء به قائلاً :-
برسلك يا ذا الطير شف ديرة هلي كيف.
وكيفهم في موسم الصيف .
واقرأ سلامي عالديار ومن سكنها .
ثم ...... ....... يعفي الله عنها .
ما أ نساك يا ديرة هلي مهما جرى لي .
ذقت بك مرّاً وحالي .
ولو كان ما جارت علي ماغبت عنها .(1/29)
بعد ذلك بكيت ماشاء الله أن أبكي في ذلك المكان وسلمت أمري إلى الله ودست على أحزاني واستجمعت مابقيت اشعر به من قواي الجسمية والعقلية وقلت في نفسي ، هذا عمل وهذا عمل وأنا أعرف أني لم أسيء إلى أحدٍ وأن كان هناك أمر لا أعرفه فلابد أن تكشفه الأيام وكما يقول المثل : الطولة كشّافة ....
ولا بد ما تظهر الحقيقة ومن هنا إلى هناك سأعمل في قسم التموين وعدت إلى شقتي ..
وفي اليوم التالي أخذت كتاب توجيهي وذهبت إلى قسم التموين..
كان قسم التموين يضم عدة أقسام منها المشتريات والمحاسبة والمستودعات وكلها تنظوي تحت إدارة العقيد سليمان الوافي، فعملت سائقاً في قسم المحاسبة وكان لي كرسي ومكتب في طرف صالة كبيرة تضم أكثر من خمسة عشر موظفاً وموظفة، وكانت الطلبات التي اذهب إليها ليست كثيرة جداً .
حرصت أن أذهب إلى مكتب المقدم عيسى البلوشي في اليوم التالي لأرى ما رأيه وما سرّ نقلي من مكتب العقيد سليمان ...
كان مدير مكتبه بأمر من عيسى لا يمنعني من الدخول عليه في المكتب في أي وقت فدخلت مباشرة إلى مكتبه فوجدته جالساً....... وجدته باسما ..... واستقبلني بعفوية وبشاشة كما هي عادته في كل مرّة فشرحت له أمري وأبديت ألمي عندما وصلت إلى بيته ولم يقابلني بينما كانت سيارته أمام الباب وأن ابنه قد أخبرني بأنه غير موجود .
ضحك كثيراً وقال : ـ
ـ أنا فعلاً كنت غير موجود في المنزل ...ولم يكذب عليك ابني ولا يمكن أن أغلق بابي دونك أبدا فقد كنت في بيت الوالدة . وقد ذهبت مع أخي لزيارتها لكن سيارتي كانت أمام البيت فعلاً وربما جئت إلى البيت منفعلاً فضربت أخماساً بأسداس وأريد أن تفهم أنني أحبك جداً وأقدرك جداً واحترمك جداً .
- أريد أن أ سأل سؤالاً أولاً ....:
هل وشى بي أحد عندك........ ؟
- لا أبداً .
- لقد دخلت إلى مكتب العقيد سليمان وعند خروجك من المكتب صدر قرار نقلي وتغيرت نظرة العقيد سليمان لي فأنت لابد أنك تعرف السبب.(1/30)
- أريد أن أقول لك أن العقيد سليمان يحترمك أكثر مني ويودك أكثر مني وربما أنت ترى ذلك في معاملته لك ثم إنك لازلت تحت إدارته
- لماذا إذاً ......... ؟ ....... وفاضت من عيني دمعة لا أدري كيف خرجت مني فسكتّ.... برهة وساد الصمت في المكتب .
- قد تكون فترة قصيرة فنحن بحاجة إليك في التموين الآن وقد لا تطول المدة وثق تماماً أنني والعقيد سليمان نود أن تكون ثقتك بنا دون حدود وأنك الأخ والصديق الذي نثق به ونحترمه دائماً.
خلال هذه الفترة كنت أخرج مع بعض الزملاء بعد نهاية الدوام إلى خارج الجهراء بين الحدود السعودية والكويت فهناك بيوت شعر لبعض أقاربهم وخصوصاً في وقت الربيع الشيء الذي استفدت من خلاله التعرف على حياة الناس في هذه المنطقة واستفدت من ذلك كثيراً طريقة المعاملة وأسلوب حياة البادية التي نسبت نفسي إليها وكنت حريصاً على معرفة كل شيء في حياتهم وارتحت لذلك كثيراً فهم كرماء جداً ويقدرون من يعيش بينهم خصوصاً من يكون صادقاً معهم ..... و كانت أغلب بيوت الشعر هذه كمنتزهات يروّحون عن أنفسهم باقتناء الأغنام والإبل وجلب الرعاة لها والأشراف عليها .
كان معي سائقان آخران في الإدارة وكان العمل غير مرهق فكان كل واحد منا لا يزيد في يومه عن مشوار واحد إلى الكويت أو بعض المشاوير الصغيرة إلى الجهراء .........
كان في المكتب شاب مصري اسمه عصام أحسست أنني ارتاح لشكله كثيراً كان يدعوني دائماً بالأستاذ........( رفع الله قدره) .... فأنا لا احمل أكثر من الشهادة المتوسطة لكنه كان دائماً ينادي علي بالأستاذ عبد الله.
كان يخرج معي كثيراً إلى السوق وأحببت العمل في حبي له .. كان لطيفاً جذّاباً مرحاً لذلك سرعان ما قويت صداقتي معه حتى أنساني من كنت ارتاح لهم قبله فأن كان العقيد سليمان والمقدم عيسى أقدّرهم كثيراً واحترمهم لكن عصام أحسست بقلّة التكلّف معه ،(1/31)
كنا نلتقي بعد الدوام كثيراً... كان مثلي غير متزوج لذلك أخرجني من دائرة الانطواء والملل الذي كان قد خيم عليّ منذ دخولي إلى الكويت .
سألني يوماً من الأيام .
- لماذا لا تعمل في مجال التجارة ........؟
- أنني موظف ولا يمكنني أن أوفق بين عملين .
- بل يمكنك وكل الناس تشتغل في الأعمال الحرة .
- وكيف ...........؟
- المقاولات المعمارية .
- وأين رأس المال ..........؟
- بسيط .
- محتاج إلى رأس مال كبير .
- يتدبر رأس المال ، أطلب من المقدم عيسى أو عمك سليمان سيقدمون لك المبلغ الذي تطلبه .. فكّر قليلاً ثم قال ... يا عم يدخل معك شريك،، أنا الذي سأتولى أمر العمال وفي خلال سنة0( والله لتكسب ذهب).
- أفكر... الشراكة أنا لا أحبذها . وسأشاور المقدم عيسى.
- أنا تحت أمرك في موضوع العمال أن احتجت إلى أي مساعدة.
- سأذهب غداً الى المقدم عيسى وأخبره بالأمر .
وفي اليوم التالي فعلاً ذهبت إلى المقدم عيسى وأبدى عدم ارتياحه للفكرة وسألني :
- هل ستستقيل أنت من العمل...... ؟
- إذا كان ضروري فأنا أستقيل .
ثم طلب مني عدم التسرع في الأمر وذهبت إليه مرةً أخرى فقال لي:
- أنني غير مرتاح لموضوع الأعمال الحرّة التي تفكر بها ..
- يعني المقصود ... ؟
- المقصود انه لا يضحك عليك عصام والسلام .
- هذا قولك ....... ؟
- أي نعم .
- إذا ... شورك وهداية الله .
خرجت بعد الدوام مع عصام وأبديت له رغبتي في الزواج وأنني قد ضقت ذرعاً بالوحدة ...
- لو لم أقابلك لكنت وحدي في كل مكان لكن الله قد بعثك لي لكي تخفف عني من هذه الوحدة .
- تزوج وتوكل على الله . لا ينبغي أن تبقى أعزب فالعمر يمر بسرعة ، لابد أن تتزوج خلّينا نأكل عندك أكله ساخنة على الأقل.
- لكن الزواج يحتاج إلى بحث واختيار .
- يا عزيزي اللي يسعى للزواج الله يسعى معه .. ثم سكت قليلاً وقال .. ما رأيك في سميرة .
- من سميرة .
- سميرة زميلتنا في المكتب أنها طيبة جدا(1/32)
- تعتقد أنها تقبل بي زوجاً .
- عليك أن تدخل معها في تعارف ومن ثم عليك أن تستنتج شعورها نحوك .
فتح لي عصام نفقاً محصوراً للتفكير في تلك الفتاة التي تعمل معنا في المكتب وكنت استبطئ الدوام طيلة ليلتي تلك ، حتى أراها في الغد وكأنني لم أرها من قبل .
في صباح اليوم التالي كنت أول من دخل المكتب وكنت أنظر إلى الباب أتطلع إلى كل من يدخل من زملائنا حتى أتت وجلست على مكتبها .
كنت اختلس النظر إليها تارةً وتارة وأطيل النظرات المتكررة .. أعجبتني كثيراً...... فهي ليست بيضاء البشرة كثيراً لكنها مقبولة وجسمها جميل جداً، لا بل كل شيء فيها جميل .... لاحظ عصام تعلق عيناي بها ، فطلب مني أن أخفف من تلك النظرات .
كنت كأنني أنظر إلى جهاز التلفزيون , تعلقت عيناي بها فرسمتها في فكري ألف رسمة. تفحصت ملابسها وحليها وحذائها وحتى بكلات شعرها, كنت كلما رفعت عيني عنها اشتقت لأن أراها مرة أخرى كان اندفاعي لرؤيتها مثل ماء كان محبسه مقفلاً ثم ٌفتح ذلك المحبس فأنساب الماء منه ونسي من فتحه أن يقفله .. حتى أحسست أنها تضايقت من نظراتي تلك وحتى أن بعض العاملين معنا في المكتب لاحظوا مني ذلك وبدأت علامات الاشمئزاز عليهم ، فخجلت من نفسي وانطويت وخرجت بعيداً إلى فناء الإدارة ثم ذهبت إلى البوفية وطلبت لي كوباً من الشاي وعندما رأيتها تجلس في البوفية وقت الإفطار ذهبت إليها وجلست أمامها وكأنني أعرفها منذ زمن ، لكنها صاحت في وجهي عندما جلست ولكن بصوت منخفض :
- أنت وشفيك تطالع فينى من الصبح ؟
.... انعقد لساني ولم استطع الرد .
- وشفيك ما ترد... ؟
- أنا اعتذر أن كنت سببت لك أي إحراج .
- سببت لي إحراج ... أف ...
أحسست أن المسافة بيني وبينها بعيدة جداً فلم أجرؤ أن انبس ببنت شفه فتجرأت اخيرأً وقلت:.
- أنا يا أنسه......( ولم تدعني أكمل)
- أنت ايش أعوذ بالله .. من فين جيت لنا أنت....أنت السواق الجديد....... ؟(1/33)
- نعم أنا السواق الجديد .
- وشفيك كذا....حتى الأدب ما تعرفه .. أعوذ بالله ..
- ليس كذلك .......(وكنت أتكلم وأنا أتلعثم كمن يسبح في ماء بارد فلا تسمع إلا شهيقاً يكاد ينقطع معه النفس) ..... ثم سكتّ ...
وسحبت نفسي وخرجت من البوفيه لا الوي على شيء وكأنني حرامي قد انكشف أمره فيحاول أن يهرب بوجهه عن أعين الناس لا أستطع أن التفت ورائي
ولم أعد إلى المكتب في ذلك اليوم بل ذهبت لمقر سكني فألقيت بجثتي على السرير وأنا في حالة من الإحباط لا أحسد عليها .
زارني عصام في ذلك اليوم ليعرف ما دار بيننا أثناء جلوسنا في البوفية وجلس على كرسي كان بجانب سريري واستلقيت على فراش كان مبسوطاً على الأرض وسألني :
- رأيتك جالساً مع الأخت سميرة في البوفية .
- الله لا يوفقك ...... أنت من وضعني في هذه الورطة .
- ورطة (ثم ضحك)........... يارجل كانت نظراتك تخوّف.
- لقد أعجبتني حقاً.
- ضحك مرّةً أخرى ثم قال ........ : كانت نظراتك مدمية وأخذ يضحك بصوت مرتفع.
- لقد أخذت على ذلك درساً قاسياً. كادت أن تضربني في البوفية .
- من حقها .. لقد كنت نهماً .. مثل ألحرامي تماماً لقد كانت عاقلة وحليمة جداً ......يارجل كانت نظراتك إليها تكاد تقتلعها من مكانها رغم تلميحي لك لكي تقلع عن ذلك إلاّ انك كنت كذئب يريد أن ينقضّ على فريسته ....... وجهك محمرّ ..... راسك ممدود ... وشكلك يخوف ..... والله يخوّف..... أنا كنت عارف أنها ستبهدلك والله .
- هذا الذي صار . لقد ذهبت للهمّ طواعيةً إنني كمن أراد أن يذهب إلى جنّةٍ فسقط في حفرةٍ تتوهّج ناراً.......... كان مالي ومال الزواج !
- والخلاصة .......؟
- لقد انسحبت قبل أن تكمل الدرس الذي أعدته لي ...... إنني أرى أنني أسير في جانب الحياة المجدب ........ أما الجانب المخصب منها فإنه لغيري .
- لقد خرّبت كل شيء.
- ماذا تعني .........؟(1/34)
- اعني أنها لو كانت تدرك حقاً إن قصدك شريف وأنك لاتريد إلا الخير فبعد الذي رأته اليوم منك فلن تقبل بك أبدا
- ياعمي هذا حظي وأنا أعرفه جيداً.
- مار أيك أن أبحث الأمر معها . فهي زميلتي منذ زمن وأعتقد أنها تطمئن لي وبإمكاني أن افهمها بقصدك ولعلني أٌصلح ما أفسدته .
عند ذلك استويت جالساً واقتربت منه :
- هذا الذي أٌريده منك . وكان المفروض بك من الأول أن تقوم بهذا الدور .
- أنت لم تعطني فرصة فمنذ أن أخبرتك أنها غير متزوجة أصبحت عليها من أول الدوام كأنك لم تر النساء من قبل ....
- هذا صحيح ........ أنا لا اعرف ولا أحسن التصرف . ....غير أنني اعرف انك لن تتركني أتخبط في هذه المشكلة لوحدي لذلك أريد أن أبثك كل شيء فأنت من أرى أنني اقتسم همومي معه ..... ثم استلقيت على فراشي وأتممت حديثي معه :-
- .... من أفضل أوقات العمر أن تجد من تبثّه همك أو تشكي إليه وهو مصغ إليك أو يتأوه لما أصابك خصوصاً إذا رجوت منه فائدةً أو مساعدةً بعد ذلك ... آه ..... إنني أحس أن ّ فؤادي ثقيل عليّ وأحسّ برغبة في أن يتقدم إنسان ليحمله عني وأني أراك ذلك الإنسان يا عصام ...
- يا رجل ...... توكل على الله وأنا سأتدبر الأمر بأذن الله ..
- جزاك الله خير .
بعد ذلك ذهبنا سوياً إلى شارع الخليج العربي وقضينا ليلتنا بالقرب من البحر نمشي تارة ثم نجلس تارة أُخرى وأخيراً تعشينا في مطعم قريب من بيت عصام وذهب كل منا إلى سكنه .
وفي اليوم التالي لم أجلس على مكتبي أكثر من عشر دقائق فقد كنت احسب إن جميع زملائي كانوا يراقبون نظراتي إلى سميرة وأنهم يرون أنني قد خرجت عن نطاق الأدب والعرف الذي يحكمهم في ذلك المكتب .
كنت في ذلك اليوم اتفقّد سيارات الإدارة وأعمل على صيانتها ولم اجروء على الجلوس في المكتب .(1/35)
لاحظت فجأة أن عصام يجلس مع سميرة في بوفية الإدارة فارتحت لذلك لعلها غمامة يأتيني مطرها خصوصاً أنني كنت أراقبهما من خلف السيارات فاستنتجت أن الجو بينهما رطباً وبقيت أراقبهما حتى انتهى اللقاء وتوادعا بعد ذلك بابتسامة من كل منهما أحسست أنها أسرع إلى قلبي من عيني التي رأتهما.
لم اجروء على اللحاق بزميلي للأستفسار منه عن ماجرى بينهما في تلك الجلسة لكنني تبعته عندما انتهى الدوام لأسأله عن ذلك ولم يترجل من سيارته إلا وأنا واقف أمامه .
- حياك الله يا أستاذ عبد الله .
- اخبرني أولاً ... ما نتيجة المباحثات......؟
- كل خير ان شاء الله.. أدخل يارجل .
- قبل ان ادخل قل لي هل في الأمر أمل......؟
- نعم أمل كبير إن شاء الله . تفضل وبعد الغداء سوف أخبرك بكل شيء.
- هل اعتذرت لي منها..... ؟
- نعم لقد اعتذرت باسمك ورسمتك لها صورةًً ًغير متوفرة في هذا الزمن .
- هذا من حقي عليك فلا يجب أن تتركني لوحدي في هذا الموقف الحرج.
- أنت الذي احرجته سامحك الله.
- وهل اقتنعت بما قلته لها......؟
- هي بالعذر مقتنعة ... لكن الزواج عليك أنت أن تقوم باقتناعها .
- أنا أخاف منها ولا أريد أن أتلقى منها درساً آخر فأذهب آنت من الغد لتمهد لي الطريق فهي تثق بك وعند ذلك تكون قد أكملت جميلك علي.
- ( حلوه دي ... أنا صرت خاطبة عند أهلك).
- لا .... ليس الأمر كذلك .
- إذاً عليك أن تقلع شوكك بيدك .
- أنا لا أقوى على مثل ذلك العقاب .
- لن يكون هناك عقاب .
- عليك أن تمهّد لي الطريق على الأقل .
- حاضر ياسيدي .... ( ادخل بقى ) ... أريد أن أتغدى.
- توكلنا على الله .
ولم يطل بي الانتظار كثيراً بعد ذلك ففي نهاية ذلك الأسبوع أتى إلي عصام قائلاً :
ينبغي أن تزورهم في البيت فشكرته وطلبت منه مرافقتي فأمتنع عن ذلك نهائياً.(1/36)
ترددت في الزيارة فقد كنت أخشى أن أٌقابل بجفوة فبقيت أكثر من أسبوع وسألني عصام بعد ذلك عن نتيجة زيارتي لبيت سميرة فأخبرته أنني لم اذهب بعد فرد علي بلهجة لم أتعودها منه :
- لو كنت اعرف انك تكذب علي لما تقدمت لك في هذا الأمر.
- أنا لا أكذب لكنني أخشى أن ترفضني ففضلت أن أبقى على أمل ولو لفترة قصيرة.
- هذا عذر غير مقبول . لكنك لست جاداً في هذا الأمر فأردت أن تتسلى بي وبتلك الفتاة....
- اقسم لك أنني جاد كل الجد . لكنني اخشي مقابلتها ...
- جّرب حظك ولن تخسر شيء.
- سأجرب حظي ويكتب الله مافيه الخير.
في اليوم التالي شاهدتها جالسةً لوحدها في كفتريا الإدارة فاستجمعت ما بقي معي من العزيمة والجرأة ولحقت بها عازماً على أن أسبر غورها قبل أن أذهب إلى بيتها ومقابلة أهلها .
ذهبت وجلست أمامها وفي يدي كاسة شاي .
سلّمت ولساني يكاد يسد حلقي . فردت علي السلام بصوت منخفض وأنا لا أكاد اسمعها لكنني كنت ألاحظ من تحريك شفتيها أنها ترد التحية وتشجعت لأن افتح الحديث معها . فقلت:
- انأ آسف يا آنسة سميرة إن كنت قد تسببت في إزعاجك من حيث لم اقصد الإساءة.
- لقد انتهى الأمر وقد قلت ذلك لعصام .
- كان قصدي شريف لكنني لم أحسن التصرف في المرة السابقة فوصلت إليك الرسالة معكوسة
- وماهي الرسالة التي تريد أن تبعثها . ...؟. ولاح لي منها طرف ابتسامة خفيفة فأحسست أن هذه بادرة طيّبة .
- كانت تلك النظرات من فرط إعجابي ....
- من فرط إعجابك...... وابتسمت ابتسامة أخرى نقلتني إلى عالم لم أكن احلم أن أصل إليه .
- قد كنت مندفعاً أكثر مما يجب لكنني صادق .
- مندفع .... بس ... ... ؟
- مندفع ... نهم ... قلي ماشئت.
- كانت عيناك تنهشني نهشا ًلقد كان الزملاء يلاحظون ذلك فوددت لو أنني أستطيع أن انغمس في الأرض لأهرب من ذلك الموقف ً.
- اعترف لك أنني لم أحسن التصرف . إنني كما يعلم الله أكن لك كل تقدير واحترام.
- أتمنى ذلك .(1/37)
- هناك أمر أريد أن أبحثه معك قبل أن تذهبي .
- ماذا تريد أن تبحث ... ..؟ .
- هل أنت مخطوبة ؟.
- هذا أمر لا يهمك .
- أريد ............. ثم سكت .
- عن إذنك .. ثم قامت
- اسمعيني .
التفتت إلي وقالت بحدّه : لاتمشي وراي ثم أردفت قائلة ً.
والله أمرك عجيب .
وتركتني واقفاً أمام الجالسين في البوفية .
عادت إلى مكتبها وأنا احسب أنني قد أنزلت من على ظهري حملاً غير أني لم ألق به كاملاً ..
*************************
8
مضي على ذلك عدة أيام كنت اختلس النظر إليها اختلاساً وأصبحت أخشاها بل خائف منها فقد كانت قويّة ًجداً ،
فكّرت أن أغير رأي فيها فأنا أخاف أن عشرتها صعبة ، غير أنني لا زلت متعلقاً بها .. كنت أحس بالرغبة في القرب منها مع تأكدي أنني سأكون الحلقة الأضعف في سلسلة الحياة الزوجية إن كتب الله لنا ذلك وكنت أحبها وأخافها في نظرة واحدة .
سألني عصام عنها ذات يوم فأبديت تذمري من فكرته هذه التي بموجبها أصبحت متعلقاً بسميرة .
ـ الله يجازيك .. أنت سبب هذه المشكلة .
ـ في صالحك إذا بدأت بهذا الشكل ستكون العاقبة طيبة بإذن الله .
ـ هذا شيء أوله .. .........
ـ أتريدني أن أبحث الأمر معها مرّةً أٌخرى .
ـ ياليت .. على الأقل أعرف أين أنا .
ـ أترك هذا الأمر لي وأنا أخدمك بإذن الله .
ـ أشكرك .
رأيت عصام بعد يوم أو يومين جالس مع سميرة في البوفية وكان الحديث بينهما حاداً حتى كرهت سميرة والنظر إلى وجهها.. لقد كانت تتكلم معه بحدّة وتحرّك يدها هنا وهناك وإن كان هو أيضاً لم يكن بعيداً عن تلك الحركات.
كنت أنظر إليها وأنا أتصور ذلك الضابط الذي عملت عنده فترة في صيانة القوات البرية أنها تذكرني بحركاته تلك وأصبحت لا أنشد إلا الفكاك ، نعم الفكاك فقط ، ومهما يأتني به عصام فلن أكون حريصاً على الزواج منها ، لكنه قد كفاني ذلك المجلس فربما لو كنت أنا الذي فيه لتركتها تهذي بمفردها وقمت .(1/38)
كنت أتابع الموقف من بعيد دون أن تراني سميرة أما عصام فقد رآني عدة مرات لذلك ما أن انتهى اللقاء حتى أشار إلي أن أقابله خارج المكتب فذهبت مباشرة إلى سيارتي فلحق بي وتوجهنا إلى الكويت .
بداء حديثه معي وكأنه قد أنهى مشكلة عويصة بينما كنت أنتظر منه أن يطلب مني الكف عن خطبة هذه الفتاة .
ـ خير ماذا عندك .
ـ كل خير بإذن الله .
ـ تعرف ... أنا أصبحت أخاف منها .
ـ يا رجل .. هي طيبةً جداً .. لكن أنت لم تفهمها بعد أنها على قدر عصبيتها ، محترمة وطيّبة .
ـ كادت أن تضربك في الكفتريا .. أليس كذلك .
ـ لا عليك .. هي قد مّرت بتجربة فاشلة لا تريد أن تكررها . فقد رأت أنه لم يمض عليك وقت طويل منذ أن انتقلت إلى المكتب وتريد أن تخطبها فجأة دون أن تعرفها أو تسأل عنها .
- هذه مشورتك أليس كذلك ؟... هل تريد أن تتخلى عني الآن........ ؟.
ـ ليس الأمر كذلك لقد أزعجتها نظراتك أمام الزملاء .
ـ نظرات إعجاب وقد انتهى الأمر .
ـ نظرات الإعجاب انتهينا منها أما موضوع الزواج فلم تستوعبه بعد إنها لاتعرف عنك شيء
يا رجل نظرات الإعجاب معها ابتسامة , معها كلمة طيبة ، أما أنت لاحول ولا قوّة إلا بالله ........ أعوذ بالله...... أنت تخوّف يا رجل وضحك ضحكةً خفيفة .
ـ بل هي التي أخاف من القرب منها .
ـ المهم .. قد شرحت لها الأمر ووعدتني أن تنظر في الأمر .
ـ إلى متى...... ؟
ـ لقد طلبت بعض الوقت وأنا وافقت على ذلك .
ـ سيكون الرد من قبلك .
ـ وهو كذلك .
كنت فيما بعد أحسب أنني قد تسرعت في أمري فلماذا أقحم نفسي عند فتاة لا تريدني فالبنات كٌثر وأنا لست مرغماً بها فهذه الفتاة يظهر لي أنها صعبة الِمراس...... وأنها ...... وأنها ........... ثم أعود إلى نفسي فألتمس لها عذراً كمن يكتب رسالة ثم يمزقها أو كمن يخيط ثوباً ثم ينقضه .
قد تكون هذه الفتاة قد حسبت أني من أولئك الأشرار يريد أن يلعب بمشاعرها
أو قد تكون مرتبطة بشاب آخر .(1/39)
? وأنا أيضاً قد فاجأتها بالأمر .
? حتى نظراتي فيها كانت مريبة .
? أنها على حق .
لم يطل بي الوقت حتى جاءني عصام وأخبرني أنه ينبغي عليّ ان اقابل والدها فقلت في نفسي هذه موافقة مبدئية من سميرة ، ليكتب الله ما فيه الخير سوف تنتهي وساوسي أما بالموافقة أو عدمها .
طلبت من صديقي عصام أن يأتيني بالعنوان فأنا أصبحت أخاف منها ولا أستطيع أن أتجرأ وأسألها حتى عن العنوان ، فأخذه عصام منها وبعد الدوام ذهبت إلى مدينة الكويت وهناك كنت أحسب الوقت بالثانية والدقيقة أريد أن يحل الموعد فالذي مثلي يريد أن يرى نهاية لهذا الوضع وأياً كانت النتيجة وكأني مجرم سيقدم للمحاكمة فهو يريد أن يصدر القاضي حكمه عليه في أسرع وقت ممكن فاللحظات السابقة لصدور الحكم أصعب عشرات المرات وأكثر خوفاً من الحكم نفسه وقد قرأت أن بعض المحكوم عليهم بالإعدام يريدون إسراع التنفيذ حتى تنتهي معاناة انتظارهم .
وصلت إلى البيت المعنون في ورقة عصام ......رجلاي تخط في الأرض وكأنني اسحبهما من وحل ..... وكأن هناك خلفي من يسحب ثوبي إلى الوراء .. وجهي في حالة شحوب كامل ..... ضربات قلبي تزيد تارة ثم تنخفض تارة أٌخرى , كنت على عجلةٍ من أمري أريد أن أنهي هذا الوضع المتعب .
عند باب الفيلا قابلني غلام في سن العاشرة تقريباً فرحب بي ورأيت في وجهه علامات الرضى فخف حملي قليلاً وتقدمت معه حتى وصلت إلى باب المجلس فاستقبلني رجل حسن الهيئة في الستينات من عمره ....
لم تكن المقابلة مشجعة كثيراً فقد كان الأب تظهر عليه علامات الجدية أكثر من طيبة الاستقبال.
كدت أن أتعّثر وأنا متّجه إليه في سجادة كانت في وسط المجلس .
زادت حرارة جسمي وأنا أصافحه وابنه وجلست بينهما :
ـ أهلاً وسهلاً .
ـ الله يسلمك .
ـ الله يحييك .
ـ الله يبقيك .
ـ كيف الحال .
ـ سلمك الله .
ـ كيف الأهل .
ـ الله يسلمك ، (لابد أن يكون لي أهل).(1/40)
ـ جاءت سميرة فسلمت وجلست وعلى وجهها علامات لا تشجع فكأنها غير مبالية أو كأن في فيها كلام تريد أن تهددني به .
التفت الرجل إلى ابنته :
ـ أين القهوة’ .
ـ الآن تحضر .
دخلت في هذه الفترة أمها ، وكأنني ارتحت لمقدمها فقد جاءت مبتسمة ورحبت بي وجلست إلى جانب ابنتها ....
لم يعد في فمي ريق فاستجمعت قواي وطلبت كأس ماء .
التفت الرجل إلى ابنته .
ـ جيبي كاس ماي وأنا أبوك .
ـ قامت سميرة ولا حضتها وهي منصرفة ، أنها تبتسم ، وكنت في موقف لا أحسد عليه .
شربت الماء واستجمعت ما بقي من قوتي التي تناثرت في أشلاء جسمي وأخبرتهم بما جئت من أجله وقد أحسست أنني عندما بدأت في الكلام إن الله قد فتح علي فتكلمت بكلام منسق لم أتلعثم ولم أتعثر فيه .
لكنني عندما انتهيت من كلامي لم يجبني أحد ..
التفت الرجل إلى ابنته وإلى زوجته ولم يجب بكلمة فأحسست صغاراً لم أحس به من قبل .
التفتٌّ إليه .
ـ قد أنهيت كلامي .
ـ أهلاً وسهلاً . ثم سكت .... لا إله إلا لله .... لا حول ولا قوة إلا بالله ، لقد أحسنت يا ولدي وقد أخبرتنا سميرة أنك تريد التحدث معنا في أمر الزواج لكننا لا نرى معك أحد من أهلك .... أو عائلتك وأنت تعرف القوانين والعادات .
ـ أنا شخص مقطوع من شجرة .
ـ هذا الكلام لم يعد يصّدقه أحد .
الشجرة لا يطلع منها إنسان . هل أنت متزوج .
ـ لا أبداً .
ـ أين عائلتك .. أبن عمك .. أبن خالك . أختك .. طالع من الصحراء .. الصحراء لا تلد بشراً .
ـ أنا الآن رقيب في الجيش وقد مضي لي في الكويت ست سنوات أصلي من شمال السعودية ولي عشيرة هناك ، لكنني أنا الذي سأتزوج وليس أهلي فأن قبلتموني كما أنا فقد تكون سميرة سألت عني في الإدارة وإن كان هناك أي مانع فهذا شيء راجع لكم وكل شيء يحدده النصيب أخيراً.
ـ عندك بيت .
ـ تقدمت بطلب بيت في المدينة العسكرية .
ـ والمهر .(1/41)
ـ نتفق عليه كبقيّة الناس . ... كنت مرتبكاً حقاًً وكنت أجيب على الأسئلة بخوف مثلما يجيب الطالب البليد .
ـ يكتب الله ما فيه الخير ، نحن سنتشاور في الأمر ونرد عليك قريباً إن شاء الله وخرجت من عندهم بعد أن استولى عليّ القنوط كمن أنهى الاختبار وقد أعاد ورقته بيضاء فهو يعرف نتيجته قبل أن تعلّق النتائج . .
9
نزلت من ذلك السلّم مرهق أنوء بحمل ثقيل لا الوي على شيء لكنني راض عن نفسي فقد قلت كل ما عندي فأن صدقوني فهذا ما أردت أن يفهموه وإن كان غير ذلك فلعلي قد بلغت جهدي وعذري أنني لم أكن مقبولاً لديهم ..
توجهت مباشرةً إلى بيت المقدم عيسى ... فتح لي ابنه الباب .
ـ أبوك موجود .
ـ نعم .. تفضل .
دخلت المجلس وجلست .. انتظرته فترة ليست قصيرة حتى فكّرت أن أعود من حيث أتيت فلربما أنني أتيت في وقت غير مناسب ..
جاء وعليه آثار النوم كان لابساً بجامة وعلى كتفه منشفة مخططة :
ـ أهلاً وسهلاً .
ـ سلمك الله .
ـ أي ريح طيبة أتت بك ( قالها باللغة العربية الفصحى ).
ـ ريح طيبة ........... أنت لا تدري بأمري .
ـ خيراً إن شاء الله .
ـ والله ما أدري .
ـ أخفتني يا رجل ، قل ما عندك ...؟
ـ كنت أخطب .
ـ مبروك هذا شيء طيب .. لكن من صاحبة الحظ السعيد ...؟
ـ إحدى زميلاتنا في المكتب .
ـ وانتهيت .......؟
ـ أي انتهيت ، يا رجل كأنني داخل اسرق من بيتهم .
ـ ألم يكن لدى البنت خبر قبل أن تذهب إليهم...؟
ـ بلى ... لكن سألوني عن عائلتي فقلت لهم أنا مقطوع من شجرة ، وعند ذلك زادت شكوكهم فيّ ... وكنت في موقف لا أحسد عليه .
ـ المهم .. انتهيت .....؟
ـ لا انتهيت ولا شيء .. طلبوا مني أن انتظر لكي يفكروا في الموضوع.
ـ ماذا طلبوا بالضبط .
ـ قالوا .. أين قرابتك .. عمك .. خالك .
ـ بسيطة ، أنا ابن خالك .
ـ أي والله ما خطرت على بالي ، هم كانوا يريدون أي واحد يعرفني من الديرة ويكون كل شيء ، على ما يرام .(1/42)
ـ هذه بسيطة .... انا ابن خالك وعائلتك في حفر الباطن .
ـ قلت لهم أن عائلتي هناك .
ـ بسيطة أين ساكنين وأنا اذهب إليهم .
ـ .. آه...... أنت ياأخي مثل زاد المسافر بالنسبة لي إذا نسيته ممكن أن أموت جوعا.
- وأنا يشّرفني ذلك ....
ثم ناولته العنوان وهممت بالانصراف ولم يدعني أذهب إلا بعد العشاء.
عادت نفسي تتعلق بسميرة من جديد وبدأ الأمل يدخل إلى حياتي من خلال ذلك الباب الذي وعدني به عيسى..
في صباح اليوم التالي كنت انتظر الوجه الذي ستأتي به سميرة فأن كان متجهّماً فمعني ذلك أن كل شيء قد انتهى ولا أمل لي في الزواج منها وإن كان غير ذلك فلعل الأمل الذي بنيته في ليلتي تلك لم يكن إلا سراباً .
كانت سميرة آخر من حضر إلى المكتب في ذلك اليوم وكانت في ملابس لا تنبي أنها ملابس فرح بل كأنها قد لبستها من على حبل الغسيل أو كمن لبست ثياب امرأة اكبر منها ، فقلت في نفسي هذه علامةٌ على أنها في هذا اليوم نفسها خبيثة وينبغي أن لا انتظر منها خبر طيب فأخذت افتح صفحات كتاب على مكتبي لكن عيوني لم تكن تنظر في ذلك الكتاب وإنما إليها لعلي أرى منها أي إشارة خير أو بادرة تطمين... فرأيتها قد انهمكت في جمع وطرح حسابات في معاملات مكدسة على مكتبها ورأيت أنها قد شعرت بنظراتي إليها لكنها لم تعرني أي انتباه فأيقنت أن لا أمل لي فيما تأملته بها .. الشيء الذي دعاني إلى أن أشير إلى عصام فاخرج به خارج مبنى الإدارة بل إلى سوق الكويت ونذهب إلى كازينو كنا عادةً نذهب إليه .
أثناء الطريق لم أخفيه انزعاجي من نصحه لي بتلك الفتاة التي أصبحت أتصورها متعبةً جداً أما أبوها فأنني أتصوره كأحد خزنة جهنم ...
- آه يا عصام أنت من تقول عنها دائماً طيبة ومتزنة ولا يصلح لي سواها .(1/43)
وجدته لا يزال متمسك برأيه بل أنه أقنعني أنها وأهلها على حق في كل ما طلبوه وهذا الشيء لا يزعج أبداً ولم أعد من ذلك المشوار إلا وأنا مقتنع تماماً أنهم جميعاً على حق أما أنا فأما أنني متسرع أو لا أحسن التصرّف وأن الحق كلّه عليّ.
عاد إلى مكتبه وأنا جلست على مكتبي فلاح لي أن سميرة تنظر إلي وتطلب مني أن الحق بها في الكفتريا ...
عند ذلك لا أدري أي رجل حملتني وكنت أحس أن قلبي يسير أمامي وإن الأمر لا يزال فيه أمل ....... لكنني أيضاً كنت خائفاً أن يكون ذلك هو الدرس الأخير الذي سأتلقاه منها قبل أن أقطع الأمل في الزواج منها ..... لذلك عزمت على أن لا يكون فرحي ظاهراً على وجهي .
جلست أنا وهي على طاولة متقابلان ، وأنا خائف من أن تصب غضبها علي أمام الناس ، فبدأت هي بالتحيّة.
ـ أهلاً وسهلاً .
ـ حياك الله .
ـ وشفيك أمس على غير العادة كئيباً عندما سألك أبي عن عائلتك . كأنك لاتريد أن ترد عليه .
ـ الذي يسمع كلامكم، لابد أن يكون كذلك ... لم أكن أتوقع تلك المقابلة.
ـ لماذا لا تقول أن المقدم عيسى قريبك .
ـ أنا الذي سأتزوج وليس عيسى .
ـ أنت تقول إنك مقطوع من شجرة ، ثم رشفت من كأس عصير كان أمامها .
ـ هذا صحيح فالأمر يهمني أنا .
ـ لازلت ترى أنك على حق ... يارجل هذه عادات يمكن أن نتغاضى عن بعضها أما كلها فلا أعتقد أننا نستطيع أن نتناساها .. لقد تغيرت الأمور عندما جاء المقدم عيسى.
ـ كيف .
ـ يعني ... تعال اليوم .
ـ الحمد لله .. أعرف من هذا إن المقدم عيسى جاء إلى بيتكم ، بعد ما انصرفت ....... ؟.
ـ كأنك ما تدري ! . أنت الذي أرسلته.......... .
ـ .. بعدما كاد أبوك أن يضربني .
ـ يا رجل أتق الله .. ثم ابتسمت .
ـ .. حتى أنتي كنت تتفرجين علي .. المهم ...
ـ المهم في نفس الوقت اليوم تجي نتفق على التفاصيل ، وحبذا لو أخذت المقدم عيسى معاك .(1/44)
ـ لا أريد أن أخذ معي أحداً .. أنا متأكد أنك لو أردت أن تقنعي والدك من ألأساس لكان الأمر انتهى بسرعة ً .
ـ يا ابن الناس هذي حياتي ، ما هي سيارة تأخذها من الكراج .
ـ هذا صحيح ، لكنك مٌلامة على عدم التحدث أمس وكدت أن أموت من القهر .
لقد كنت أتكلم فلا أحد يرد عليّ ، ألم تلاحظي ذلك
ـ حقك ، ما دامك مقطوعاً من شجرة .
ثم همّت بالانصراف .. فسألتها .
ـ سؤال أخير .. يعني أنت موافقة .
ـ إذ جيت يكون خير ....... ثم انصرفت وبقيت في مكاني وطلبت من الجرسون كأس عصير آخر وأحسست كل عضلة من جسمي ترتخي بمفردها وأحسست أنني أشم رائحة إزهارا تملاْ الأرض والسماء بأنسام مختلفة وروائح عطريّة نفّاثة يستنشقها كل عضو في جسمي ويرقص لها بحركات مختلفة و لا أريد أن أقوم من مكاني حتى لا تضيع تلك الراحة النفسية التي شعرت بها ، بعد فترة من التعب والتوتر النفسي .
كنت أستطيل مرور الوقت حتى جاء موعدي فذهبت وطرقت جرس الباب وخرج أخوها فسألته عن والده فطلب مني الدخول .
عرفت طريقي إلى المجلس فاتجهت إليه وجلست في نفس المكان الذي كنت فيه بالأمس انتظر قدوم العم محروس .
ـ السلام عليكم قالها بصوت لا يكاد يسمع .
ـ وعليكم السلام .
ـ حياك الله .
ـ الله يحييك .
ـ ليش ما قلت لنا أنك من أقارب عيسى البلوشي .
ـ لم أكن أتوقع إن هذا الأمر يهمكم جداً .
ـ بل يهمنا ويهمنا ورفع صوته في وجهي حتى خفت منه ، ثم التفت إلى ابنه مبارك وقال بصوت لا تزال به حدّة وصياح .
ـ قم ناد على أمك وأختك خلهم يجون ثم التفت إليّ مرة أخرى .
ـ قلت لي ما عندك بيت ......؟.
ـ لا والله ما عندي .
ـ وين تبي تتزوج........ ؟.
ـ أنا قدمت على بيت في مساكن العسكريين .
ـ في الجهراء ........؟.
ـ نعم .
ـ لا يبه .. بنتي لازم تسكن هنا في بيتي .
ـ كيف يعني في بيتك ........ ؟ .
ـ فيه شقه في الدور الأرضي أفرشوها وتزوجوا فيها .
ـ هذا الأمر ما نختلف عليه .
ـ إلا هذا أول شرط .(1/45)
ـ أنا خائف أننا نغثكم لو صار نصيب .
ـ بالأجرة ، يعني ما هو بلاش .
ـ هذا الأمر بسيط .
في تلك اللحظة دخلت سميرة وأمها وأنا منزوي في مقعدي وصوت أبيها يملأ المجلس .
ـ وشفيكم صراخكم واصل الشارع...( قالت ذلك أم سميرة ).
ـ ما فينا شيء يعني ما نتكلم (بنفس حدّة الصوت ).
ـ لا تأخذ عليه يا وليدي هذه طبيعة كلامه اللي يسمعه يقول انه يصارخ ، لكنه طيّب وأنت ستحكم على ذلك مستقبلاً .
ـ لا عليك يا أم مبارك .. زي ولده ، ثم التفت إلى ابنته وقال .
ـ هذا الرجّال أنت تعرفينه أكثر منا .. أنت موافقة عليه .
ـ اللي تشوفه .
ـ أنا اللي باتزوج وإلا أنتي ...... ياه .
ـ توكلت على الله يا بوي .
ـ يعني موافقة .
- توكلت على الله .
ـ ترى ما عنده بيت ويقول يبيك تسكنين معه في مساكن العسكريين في الجهراء وأنا قلت أنكم لازم تسكنون في الشقة ، اللي تحت ... تجهزونها وتسكنون فيها فقالت سميرة :.
ـ وما المانع أن نأخذ سكناً هناك و نجهز الشقة اللي تحت .... عندئذ تدخلت أنا فقلت :
ـ أن تجهيز وإيجار بيتين في وقت واحد ثقيل علينا بعض الشئ.
ـ تجهيز الشقة اللي تحت أنا التي سأقوم به على حسابي قالت ذلك سميرة .
ـ إذا لا يمنع وزيادة الخير خيرين .
ـ توكلنا على الله ..... والمهر قال ذلك أبو مبارك .
ـ المتعارف عليه ولا تنسوا أني سأكون ابنكم .
ـ إن جيت طيّب فلن تكون أطيب منا..... وهذه بنتنا الوحيدة لكننا خائفون منك .. هذا المقطوع من شجرة ، ما يطمن .
ـ سأكون عند حسن ظنك بأذن الله .
ـ هذا اللي نبيه .
ـ توكلنا على الله ..
_ نقول ألفين دينار .
ـ وأنا موافق .. ومتى يكون عقد الملاك .
ـ اتفق أنت وسميرة ونحن جاهزون .. التفت إليها فإذا هي مبتسمة فقررت أن أترك هذا الأمر حتى نلتقي في المكتب .
قدمت لعمي بعد ذلك (500) دينار وشكرته وانصرفت .
10(1/46)
ازداد تعلقي بخطيبتي فكنت انتظر حضورها صباحاً لنختلس بعض الوقت نذهب فيه إلى البوفية نتناول هناك إفطارنا أو نشرب شاياً سوياً وعرف زملاؤنا في المكتب بخطوبتنا ، وأخذوا يطلقون علينا النكات خصوصاً على نظراتي التي كنت انظر بها إلى سميرة وأتضح لي أنهم كانوا يراقبون جميع حركاتنا منذ بداية الأمر وكانت سميرة تلاحظ ذلك إلاّ أنا ..... فكأنني طالب كان خلف لوح السبورة لا ادري ما يكتب عليها وكانوا بكل سخريةٍِ ودعابة يقلّدون ما كنت افعله و يعيدون عليّ جميع حركاتي التي كانت تصدر مني و بعضهم يقوم بتمثيل الدور الذي شاهده مني كاملاً لكنهم جميعاً باركوا لنا وهنئونا من قلوبهم وتمنوا لنا كل خير وسعادة ....
كانت سميرة كل يوم تكبر في نظري عن اليوم الذي قبله وكانت دائماً تلح أن أحكي لها قصة حياتي وطفولتي فأنصاع أحكي لها قصصاً خيالية عن شمال الجزيرة العربية والتي أصبحت أعرف حياة الناس فيها من واقع رحلاتي في الفترة الأخيرة في الكويت التي كنت أقوم بها مع بعض الزملاء في الطريق بين الجهراء والعبدلي , فكنت أتذكر ما وجدته هناك وانسج لها حكايات لا تمت إلى الواقع بصلة ، لكنني كنت أرى الارتياح في عينيها فاعلم أن ذلك علامة التصديق بما أخبرها به , أكملت المهر وعقد قراننا بعد شهر تقريباً وقد كان التقارب النفسي بيننا يزداد يوماً بعد يوم كما أنني بدأت أحس بقربي من عمي فقد أصبح يلقاني باسماً كما أن زوجته أم مبارك غدت تعزم عليّ في الجلوس حتى أتناول معهم وجبة أن ذهبت إليهم .. أما أنا فقد وجدت ضالتي .. أنها سميرة .. اتفقنا بعد ذلك على الزواج وتم في أحد الفنادق وحضر الفرح جميع زملائنا في المكتب وبعض الأصدقاء وأقارب العروس وكان على رأس المعازيم عيسى البلوشي ومديرنا سليمان الوافي الذي قال في تلك الليلة وهو يبارك لنا :
- لو كنت ادري ياعبدالله كان نقلتك التموين من زمان.(1/47)
سكّناً في الشقة التي في بيت أبى مبارك وكانت زوجتي نعم الزوجة وأهلها قد عوضني الله بهم عن أهلي الّذين فقدتهم .. وكنت دائماً أتذكر قول أختي :
(إن كنت مظلوم فلن يضيعك الله) .
بعد مرور ثلاثة أشهر على زواجنا أفصحت لي زوجتي عن سر امتلاكها لمحل بيع العطور الواقع في السالمية مع إحدى زميلاتها .
ـ أريد أن أخبرك بسر لأول مرة.
ـ خيراً .......( كنت احسبها ستقول لي أنها حامل ).
ـ لديّ أنا وزميلتي أزهار محل في السالمية لبيع العطور .
ـ ومن يعمل فيه ...... ؟ .
ـ لدينا عاملتان في المحل ودخله ممتاز جداً .
ـ بارك الله لك .
ـ قل لنا .
ـ هل تحتاجين أي خدمات أقدّمها.......... ؟.
ـ نعم .
ـ أنا حاضر .
ـ سوف أحاول أن اشتري لك حصة أزهار ويبقى المحل لي أنا وأنت.
ـ أنا موافق ، لكن .
ـ ماذا....... ؟.
ـ يمكن أزهار لا تريد أن تترك المحل .
ـ أنا سأقنعها .
ـ توكلي على الله ، وأنا مستعد بالمبلغ المطلوب .
لكنني ضحكت بعد ذلك .
ـ ما بك .......؟.... (قالت ذلك سميرة).
ـ كنت اعتقد أنك ستقولين أنك حامل ..
ـ لم ترد .
ـ لعلني قد أزعجتك .
ـ بل هو كما توقعت .
ـ يعني ...
ـ نعم .
ـ مبروك .. هل ذهبت إلى الطبيب .
ـ لا ... لكنني أتوقع ذلك .
بعد ذلك تم شراء حصة زميلتها أزهار ثم استأجرنا شقة قريبة من المحل وجهزناها مشغلاً نسائياً تجهيزاً كاملاً لمتطلبات النساء من أقمشة وملابس ومفارش وخلافه ، حتى أصبح يدرّ دخلاً أفضل من الوظيفة .
وتمر الأيام وتبتسم لنا الدنيا.
أنجبنا ولدنا خالد وبنتين هما ، سوزان ونهلة وأنا أشعر في كل عام أن القدر لازال يخبئ لنا كثيراً ًمن الأيام السعيدة .
خلال تلك الفترة توفي عمي أبو مبارك وتزوج مبارك وبقيت زوجة عمي بين بيت ابنها مبارك وبيتنا(1/48)
انتقلنا إلى بيت جديد اشتريناه في ضواحي الكويت وافتتحنا أكثر من فرع لمحلنا الذي في السالمية وجرت الفلوس في أيدينا وأخذ رصيدنا في البنك يزداد يوماً بعد يوم وأصبحنا نذهب للصيف مثل بقية الأٌسر الكويتية إلى لبنان وسوريا ومصر وبريطانيا لكننا كنا نستغل تلك السفريات في صفقات تجارية ، لذلك فكنا نربح أضعاف ما نصرفه في سفرياتنا ، ومع بداية سوق المناخ كنا من أصحاب رؤوس الأموال فدخلنا في شراء وبيع الأسهم وكسبنا الكثير والكثير وتضاعفت أموالنا بشكل كبير حتى ظننت أننا لو نبتاع الحجارة لكسبنا في بيعها .
أصبح لنا مكتباً ومحاسبين لمتابعة تجارتنا وعلى أثرها طلبنا أحالتنا على المعاش لنتفرغ لما لدينا من أعمال وبعد ذلك توفيت أم مبارك ...
كانت زوجتي أقدر مني بحكم دراستها في متابعة الأعمال المالية أما أنا فقد كنت الخبرة والحظ فأنا كمن قال الشاعر فيه : ـ
أن جاد حظك باع لك واشترى لك فوائد من كل الآفاق تأتيك
أقمنا عمارة سكنية وتجارية في شارع رئيسي في الكويت كانت ثمرة أعمالنا التجارية فأجّرناها بأجر سنوي على شركة بمبلغ (20) ألف دينار ، وبلغ ابني خالد العشرين من عمره فخطب فتاة من أقارب والدته.
في تلك السنة 1989م ذهبت مع زوجتي إلى الحج ونزلنا في عمارة بالمسفلة في مكة المكرمة وكنت أخرج عندما تكون زوجتي في الحرم أو في الفندق بمفردي وأخبرها أنني ذاهب استطلع الحركة التجارية في مكة، لكنني كنت أذهب لأرى الأماكن التي كنت أعرفها في مكة قبل سفري إلى الأردن ...
أخذني الحنين إلى مكة وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) ، فهي أحب البقاع إلى الله وأخذت أحدث نفسي في العودة إلى مكة أما بطريقة تجارية أو أن امتلك بها منزلاً سيما وأن التابعية السابقة لا زالت معي وأخذت أحدث نفسي بذلك ، لكن كيف أظهر التابعية بعد فترة طويلة من إخفائها..... ؟(1/49)
ذات مرة عدت إلى زوجتي في المسجد الحرام وكنت سارحاً يأخذني التفكير إلى كل جهة وكانت تراني بتلك الحال فسألتني وكان جوابيً أنني معجب بمكة المكرمة وأريد أن أمشي في طرقاتها ، فكانت تصدق ذلك .
ذهبت مرة إلى تاجر عقار وأخبرته بما يجول في خاطري من رغبتي في امتلاك عقار في مكة وأنني رجل أعمال كويتي وأريد أن أمارس التجارة وأحتاج لمشورته .
فأبدى استعداده لمساعدتي لكنه أشار علي أن مدينة جدة هي أكثر تجارة من مكة وأن بإمكاني أن اشتري هناك, فكثير من أصحاب رؤوس الأموال الخليجيين يأتون إلى جدة في أعمال تجارية وأيضاً فأن جدة مدينة سياحية ومناخها في أيام الشتاء دافئ كثيراً عن أجواء منطقة الخليج .
والحقيقة أنني كنت دائماً أسمع عن مدينة جدة والحركة التجارية والسياحية فيها ، فشكرته وانصرفت مما دعاني بعد أداء فريضة الحج إلى أن أ تأخر عن الحملة أنا و زوجتي لمدة أسبوع في مدينة جدة.
11
عدت إلى الكويت مع بداية الحملات الإعلامية العراقية على الكويت .. قبل بداية الحرب .. وعزمت على أن أرحل بعائلتي إلى مدينة جدة واشتري لنا هناك منزلاً وأن استطعنا أن نمارس التجارة هناك فهذا الأمر لن يقطع علاقتنا بالكويت فبيوتنا وأملاكنا لا تزال بها وقد أصبحت الكويت بلدي وكنت أتذكر ما قالهٌ لي العقيد سليمان ذات مرّةٍ: (بلدك هو البلد الذي تُرزق فيه )، فعزمت على ذلك واقتنعت زوجتي بأنه من حسن الخاتمة أن نقتني منزلاً يكون قريباً من الحرم فلدينا من الأموال ما يكفي وأيضاً لو أردنا أن نبتاع ذلك العقار الذي سنشتريه في جدة في يوم من الأيام فأن قيمته ستزيد يوماً عن يوم ولم تمض أكثر من ثلاثة أشهر بعد ذلك إلا و قد عدت مع عائلتي إلى جدة واشتريت منزلاً وقمت بتأثيثه وسكنت فيه،
عدت إلى الكويت بعد أن تركت عائلتي في مدينة جدة وبدأت المشكلة تزيد يوماً بعد يوم ونحن نرى أن الأمر يزداد خطورة....(1/50)
فتحت حساباً باسمي في إحدى البنوك السعودية وقمت بتحويل أغلب أموالي من الكويت إلى السعودية ومع ازدياد المشاكل رأيت انه من الضروري اللحاق بعائلتي في جدة .
قمت بشحن سيارتين من سياراتي إلى جدة وأخذت من البيت ما غلي ثمنه وخف حمله وركبت طائرة وسافرت ...قبل الغزو بأسبوع واحد .
وحدث الغزو وكأي كويتي خسرت الكثير من محلاتي التجارية وغيرها لكنني سلمت بنفسي وعائلتي وبقيت في جدة انتظر الفرج .
ذهبت إلى السفارة الكويتية في جدة وسجلت أسمي وعائلتي وأخبرتهم أن عندي منزلاً هنا وأنني مستعد في استضافة أسرة أو أسرتين من الكويتيين القادمين إلى السعودية .. كنت أذهب لكي أتعرف على بعض أصحابي أو جيراني لكن أغلبهم كانوا في مصر أو الشام وكنت أذهب كغيري إلى السفارة الكويتية في كل يوم لأستطلع الأخبار عن بلدي وكنت اسمع حكايات تصم لها الآذان وتتقطّع لها القلوب .
بدأت أحدّث نفسي عن مسقط رأسي .. المنطقة الجنوبية وأنني أريد أن أرى أهلي وأقاربي لكنني كنت خائفاً من تلك الجريمة التي ألقيت على كأهلي دون أن يكون لي فيها أي سبب.
كنت أريد أن يعرف أولادي أهلهم وأقاربهم ففكرت أن اكتب وصيةً وأدعها في مكان سرّي لأولادي لكن لا يزال الحنين يشدني لأن أراهم ولو من بعيد. وارى ما وصلت إليه قريتنا من تغيير ولو استطعت أن أرى أخي وأختي ولا أريد من الأقدار غير ذلك . لقد حال بيني وبينهم ظروف لا أستطيع أن أتجاهلها أنها أسوار من الخوف الذي لاادرك مدى ارتفاعه ولا أحتمل أن أرفع بصري لأنظر إلى أي مدى يصل علوّه .(1/51)
كنت أتابع أخبار الكويت وبدأت الحرب وتم تحرير الكويت ورفع الله الغمّة عن الناس فتركت أهلي في جدة وسافرت مع من سافر من أهل الكويت لنرى ماذا بقي لنا هناك فكل شيء يهون وإذا بقيت للناس بلادهم بقيت حياتهم . ومكثت في الكويت أسبوعين كنت أتخابر مع أهلي كل يوم وأشرح لهم ما وجدته هناك وكنا جميعاً مسرورين بالتحرير رغم ما تعرضت له تجارتنا وأملاكنا من خسائر وقمت خلال هذه الفترة بإصلاح ما يمكن إصلاحه وعدت إلى جدة .
أصلح الله الأمر فلماذا لا أذهب إلى الجنوب لأرى أهلي هناك فلن يعرفني أحد فأنا كويتي وأسمي ليس من يبحثون عنه ولن يعرفني أحد ، وقد غادرتهم وأنا شاب وأنا الآن في الخمسينات من عمري وقد تغيرت ملامح وجهي ولن يكون علي أي خطر غير أنني كنت خائفاً أن يتعرّف علي أحد أفراد ألقرية فأكون قد ذهبت إلى المصيدة برجلي غير أني عزمت على الذهاب وقلت في نفسي (عليّ أن أكون حذراً والله وحده يعلم أنني غير مذنب ) .
أخبرت زوجتي بأنني على موعد مع تأجر في مدينة الطائف و أريد مقابلته قبل العودة إلى الكويت.
سافرت إلى الجنوب بمفردي وكأن قلبي في كفي. مشتاق لأرى القرية ثم أعود..لأرى أخي وأختي ثم أعود مشتاق أن المس التراب الذي ولدت فوقه ثم أعود .
وصلت إلى مدينة بلجرشي وسكنت في فندق في وسط المدينة ولم اغفل عن الطريق التي توصلني إلى قرية المرابعة واتجهت إلى القرية .
كانت الساعة حوالي الرابعة عصراً ومن تلّةٍ كانت مطلّةٍ على القرية . أوقفت سيارتي قبل أن أصل إليها...... نزلت من سيارتي وجلست على حجر كان نصفه منغرساً في الأرض أتأمل قريتنا ، كانت البيوت قد انتشرت حول القرية القديمة من كل الجهات .
أقيمت فلل وعمارات وتعبدت الطرقات بينها .. كنت أنظر إلى بيتنا القديم الذي كان في طرف القرية فلم أرى له أثر فعرفت أن أخي قد أزاله وبنى مكانه بيتا حديثاًً .(1/52)
وقفت في مكاني أتأمل أين أذهب وعن من أسأل... ؟ ..... وماذا أقول لأي شخص أقابله وأقول لنفسي :
* أقول أنني من أهل القرية .
* أقول أنني أعرف أحداً من هنا .
* أنني خائف أن ينم بي أحد إلى السلطات وأنا الذي ذهبت وأنا مطلوب بدم لم اسفكه .
* لقد أنجاني الله من الغزو فاعتقد أنني جئت للسجن هنا .
* قل لن يصبنا إلا ما كتب الله لنا .
12
كانت سيارتي تحمل لوحات كويتية وكانت ملفتة للنظر فأتى إليّ شاب أوقف سيارته بجانب سيارتي ثم ترجّل وسلّم على :
ـ وعليكم السلام .
ـ حياك الله يا ضيف .
ـ الله يسلمك .
ـ أراك تنظر إلى القرية .
ـ نعم لقد جئت هنا ً قبل عدة سنوات إثناء إجازة الصيف .. أن منظر القرية من هنا جميل جداً .
ـ حياك الله تفضل ... تسأل عن أحد بعينه .
ـ نعم ، قابلت هنا منذ زمن رجلاً كان اسمه إبراهيم ربيع .
ـ انه الآن موجود في القرية .
ـ كان يخبرني ....... عن قصة لأخ له سافر منذ زمن .
ـ هذا صحيح .
ـ ألم يعد أخوه .
ـ لا لم يعد .. لماذا تسأل ..؟...... وأخذ يحدّق فيّ بعينيه فظننته قد حسبني من الشرطة التي لازالت تبحث عني (هكذا فسّرت نظراته تلك).
ـ لقد أحزنتني قصّته عندما رواها .
ـ فعلاً هذا صحيح، المسكين سافر ولم يعد .
ـ كان يقول لي عن أخوه ... أنه مظلوم .
ـ هذا صحيح فالرجل الذي كان متّهم به لم يمت فقد عاش وعاد إلى القرية ولكن المسكين يعتقد أنه مات ... كما أن الرجل المصاب قد برأه مما حصل له ولا يزال حياً وهو في القرية أيضا.
عند ذلك لم امتلك نفسي فوقفت بجانب السيارة بعد أن أحسست أنني قد أٌطلقت من قيد وأنني مثل شخص كان في لجّة بحر على لوح من خشب فلفظه الموج إلى بر الأمان بعد أن صارع الموت أكثر من مرّة ..(1/53)
كان ذلك الخبر بمثابة صعقة كهربائية ألهبت انتفاضة الحياة في جسد عبثت به المتاعب وأنهكته مشاوير السفر..... انه أمل في الحرّية لنفس نالت من العذاب أقصى العقوبة لكن المفاجآت الكبرى عندما قال ذلك الشاب .
ـ أن ذلك الشخص الذي تتكلم عنه هو خالي سعيد.
ـ خالك !.
فهممت أن احتظنه وأقبله لكنني حبست نفسي ..
ـ كان يقول إن بيته في ذلك المكان وأشرت إلى مكان بيتنا القديم .
ـ نعم وقد أعاد عمارته من جديد .
ـ هل أولاده يعملون ...؟
ـ نعم ... ثلاثة منهم والرابع لا يزال يدرس .
ـ والبنات.......؟
- تزوج واحدة وبقي اثنتان ...... هل تريد أن تخطب عنده ..؟
ـ وأنت .......؟
ـ ماذا تريد أن تعرف عني ثم ابتسم وقال :
سبحان الله لم يبق احد من العائلة إلا وسألت عنه فمن أين تعرفهم....... ؟.
ـ وأنت هل لديك عملاً ....؟
ـ نعم إنني مدرس .
ـ والدتك على قيد الحياة ....؟
ـ نعم والحمد لله ... وعقدت العزم أنني لا أسافر حتى أراهم جميعاً.
ـ متزوج ...؟
ـ نعم. ثم ابتسم مرّة أخرى وقال :
هل تريد أن تعرف من هي ابنته .
لكنه ذهل عندما انفجرت باكيا وألقيت بنفسي عليه لا الوي على شيء .. وبكيت بدموع كثيرة كانت محبوسة أكثر من 35 سنة .
اخذ ذلك الشاب يقلب عينية فيّ ولا يدري لماذا أبكي ... أمسكت به من كتفيه وهززته بحدة .
ـ هل أنت صادق في كل ما قلت .
ـ نعم والله .
ـ وهل مساعد بن خضران على قيد الحياة .
ـ سكت قليلاً عندما ذكرت له اسم الرجل وقال :
- إن شئت ذهبت بك إلى بيته الآن وهل تعرفه. لقد احترت في أمرك يا رجل.
ـ بل أذهب معك إلى بيتك أنت .
ـ من أنت بالله عليك .
ـ عندما تصل إلى البيت سوف تعرفني .
سار ذلك الشاب أمامي بسيارته ومشيت بسيارتي خلفه حتى وصل بي إلى بيت حديث مكون من دورين تحيط به حديقة كبيرة ونزل من سيارته فقلت له :-
ـ أنا خالك سعيد أريد أن أرى أمك .(1/54)
ـ وقف الشاب برهةً بعد أن اختلط الخبر في رأسه فقبّلني مرة أخرى وأنا أبكي وأمشي تتساقط دموعي على ملابسي مندفعاً نحو البيت .
أدخلني الشاب إلى المجلس ودخل غرفة أخرى فإذا بي اسمع وقع إقدام يهتز من سرعة حركاتها البيت بكامله وكأن هناك زلزالاً.
لم احبس نفسي عندما رأيت أختي فأخذت أبكي بصوت مرتفع وأقبلت عليها أقبل وجهها ورأسها وكفها وهي أيضاً تبكي في منظر لم يكن أصدق منه في أيام عمري جميعها .
نادت أختي أولادها وبناتها والتفّوا حلقة حولي:
ـ هل كنت ترين أنني سأعود.
ـ نعم .. كنت واثقة بأنك ستعود كنت أقول لأولادي ذلك .. أنك لم تفارقني لحظة منذ أن سافرت أنني أناجيك في كل ليلة ، أدعي لك ، وأدعي الله أن يردك سالماً وهاهو ربي قد استجاب دعائي ... عندما أنام أدعي الله أن يحفظك وعندما استيقظ كذلك .
ـ لذلك فقد استجاب الله دعاك ووفق لي ..... ولو أن الغربة صعبة جداً وكنت أتذكر قولك عندما ودعتني ، (إن كنت مظلوماً فلن يضيعك الله)، وأبشرك أنني بخير وفي أحسن حال.....
التفتت إلى ابنها الأوسط أذهب يا سعيد (أنه على اسمك) . أخبر خالك إبراهيم بعودة خالك .....
ـ بل أنا الذي أذهب إليه ، لقد انتظرني كثيراً .
ـ آه ...لا تدري كم كان يبحث عنك وكم سيفرح إذا رآك .. لقد تعب أكثر منك .. تعب في البحث عنك كثيرا..
نهضت من بينهم وطلبت من ذلك الشاب الذي أوصلني إلى البيت الذي عرفت أن اسمه عبد الله أن يذهب بي إلى أخي إبراهيم .. فطلبت أختي مرافقتنا . ركبنا جميعاً في سيارتي واتجهنا إلى بيت أخي إبراهيم .
ترجلنا من السيارة ودخل عبد الله ثم أمه وهي تنادي .(1/55)
ـ يا إبراهيم .. جاك ضيف .. أين أنت .. يا إبراهيم ثم بكت فخرج كل من في البيت ينظرون إلينا وأنا وأختي نبكي بصوت مرتفع ..أخذوا ينظرون إلى الرجل الغريب الذي جاء فلم يعرفني أحد ، إلا زوجة أخي فقد صاحت بصوت عالي سعيد .. سعيد .. أما أخي فلم يتكلم بكلمة واحدة .. فقد عجم عن الكلام لكنه أقبل إليّ وعيناه تقطر دموعاً دون صوت فألقيت بنفسي بين يديه وأخذنا نجهش بالبكاء سوياً ... أحسست أنه سيقع فأجلسته إلى أريكة كانت قريبةً منا .
رحب بي الجميع وسلموا عليّ أولاده وبناته وجلسنا في المجلس .. كانت الدموع هي وسيلة التعبير الذي ساد في تلك اللحظة .... جلست بجانب أخي وقد كنت أحسب أنني لن أراه أبدا.
كانت زوجة أخي كما عهدتها تلك المرأة القوية الجسورة والتي صاحت بنا.
ـ ليس هذا وقت الدموع ، فحمداً لله على سلامتك.
- سلمك الله .
ـ كيف حالك وكيف أهلك .
ـ أبشرك أني في أحسن حال وأهلي بخير والحقيقة أنهم لا يعرفون عن أمري شيء لأنني كنت أتوقع أنني لم أزل مطلوباً بدم . ذلك الرجل الذي هربت عنه .
ـ الحمد لله ، لقد ظهر الحق والحمد لله على سلامتك ...
كان كلام زوجة أخي فيه موقف القوّة كما عهدتها وكنت أكّن لها كل احترام وتقدير فلا أنسى أنها كانت لي في يوم من الأيام الأخت والأم وأنني لا أزال أحفظ لها هذا الجميل .
أما أخي فقد بدأ يتكلم :
ـ أين أنت ومن أين أتيت .. وحرام عليك ما تكتب لنا كتاب .. تطمنّا فيه عن نفسك ، ما تركت مكان ما سألت عنك فيه فأيقنت أنك ..... وسكت .
ـ لاتلمني فأنا قد عانيت من الغربة والسفر والخوف من المجهول ما الله به عليم فأنا كنت أخشى أن يعرف مكاني أحد فيخبر عني وأعود ليقتص مني في ذنب ماجنيته .(1/56)
ـ إن الرجل حي وقد انتهت مشكلته بعد شهر من سفرك تقريباً لكن بعد أن قاسينا الأمرّين ... كانت الوساوس والأوهام شبحاً يطارد كل من في البيت .... الإحساس بالظلم ... الصمت الذي نخشى الخروج منه .. .. الضحكة لاتكاد تسمعها في بيتنا حتى بعد أن ظهرت برآتك كان همّنا أن نعرف أين أنت ..... ....آه بحثت عنك كثيراً في مكة وجدة والطائف والرياض . لم أكن أعود من سفر حتى أعود مسافراً مرّةً أخرى خفتت أصواتنا داخل البيت مثلنا كركب من المسافرين لايجمعهم إلا هم الطريق وقد سار كل منهم بمفرده نحو هدف واحد هو ذلك النفق المظلم الذي يأوون إليه كل ليله . الفرحة ضالتنا لكننا لا ندري أين نبحث عنها ... يبس الحزن في أفئدتنا . كأننا نسير بقلوب مخرّمة نسترق الابتسامة الميتة في وجوه بعضنا بعضا ... وبقينا على ذلك حيناً من الدهر . نعيش في مستنقع آسن من الكآبة والوسواس.... ثم انقطع كلامه وبكى..... وبكى معه كل من في المجلس ... ثم أكمل :
كل منّا كأنه قد فقد جزأً من فؤاده . كنت اذهب إلى أختي لعلي أجد عندها ما أتسلى به معها لكننا لا نمكث أن نتذكر غدر الزمان بك فنذرف ما شاء الله من الدموع ثم ينصرف كل واحد منّا إلى بيته .
كنت اذهب إلى أيّ مسافر اسمع عن وصوله من قريتنا أو القرى المجاورة متظاهراً بالسلام عليه وأنا لا اقصد إلاّ أن اسأل عنك أو لعله يخبرّني عنك من غير سؤال ... وأخيراً تعلّقت قلوبنا بالسماء ننتظر الفرج من مفرّج الكربات .
ـ أنت على حق في كل ما قلته لكنني كنت معذوراً في غيبتي أنا أيضا ، آه ... الحمد لله قد كدت أن أعود إلى الكويت الآن دون أن أراكم لأنني كنت اعتقد أن الرجل قد مات .
ـ وأنت الآن تعيش في الكويت ...؟.
ـ نعم وأنا في أحسن حال .
ـ وأين أهلك .....؟.
ـ أنهم في جدة .
ـ اذهب وأت بهم .
ـ لا استطيع الآن ولكن في العام القادم إذا كتب الله لنا الحياة سآتي بهم جميعاً .. ولكن كيف انتهى الأمر .(1/57)
ـ بعد سفرك ، أقصد هروبك بقينا ننتظر فرج الله وأخذ الجنود عليّ تعهداً أنني أخبرهم عن أي مكان أعرف أنك موجود به لكن الله سبحانه قد شافي مساعد ومنذ أن أفاق من غيبوبته .. سأله أخوه فقال إن الأمر قضاء وقدر وأنك لم تكن سبباً له وتم تصديق ذلك في المستشفى وانتهى الأمر عند ذلك .
بعد ما طال بنا المجلس خرجت أتجول في الطرقات ... انظر إلى الوادي .. إلى القرية القديمة بت ليلتي تلك عند أخي واتصلت بأهلي في جدة وأخبرتهم أن لدي خبراً سعيداً لكنني لن استطيع العودة إليهم إلا بعد يومين .. وبقيت يومين في القرية .. اطلع من طريق وأعود من طريق أخرى .. أجول بين البيوت القديمة وأرسم في مخيلتي صوراً لكل الناس الّذين كانوا يسكنون بها وحركاتهم وسكناتهم ، أعدت في خلال اليومين ذكريات الصبا وأيام الشباب ..زرت اغلب آهل القرية وزرت مساعد بن خضران وكان في حال ميسور وقد سرّ بعودتي أما الرجل الذي لم أزره فأنه علي بن حمدان خصوصاً بعد أن عرفت أنه مريض ومقعد فخشيت أن يحسب زيارتي له شماتةً فلم أذهب إليه .. لكنني أعود فأحمد الله وأقول لولا ذلك الأمر لم اتعرف على زوجتي ولم أكن بحالتي الراهنة و لو أن المشوار الذي قطعته حتى وصلت إليها كان شاقاً جداً . ورب ضارة نافعة ..
بعد يومين سافرت وأصّرت أختي أن تأتي معي مع ولدها وإحدى بناتها وكذلك أخي وأبنه الأكبر وزوجة أخي .
وصلنا إلى جدة وهناك أدخلتهم إلى المجلس وبعد أن قدمت لهم مشروبات الضيافة استأذنتهم حتى أخبر أهلي بالقصة من أولها ثم بعد ذلك آتي بهم جميعاً .
جلست مع زوجتي أولاً في غرفتنا وطلبت من الأولاد أن ينتظرونا في الصالة .
كان الجميع يرون أن هناك أمراً مهماً فما الذي أتى بهؤلاء إلى بيتنا وبعضهم يعتقد أنهم من الجيران فبدأت أتكلم مع زوجتي .
- يا أم خالد .. أريد أن أحدثك بأمر حبسته عنك منذ أن تزوجنا في الكويت .
- خيراً.(1/58)
- هو خير والحمد لله .. ثم قصصت عليها قصتي من أولها ، حتى عودتي من قرية المرابعة .
- أخوك وأختك وأولادهم ثم ضحكت ضحكةً دوّت لها جنبات الغرفة .. وقالت :
كنت احسب انك ستقول انك كنت متزوج قبل أن تأتي إلى الكويت
- من هذه الناحية اطمئني فأنت ( الأولى والأخيرة إن شاء الله).
_ إن شاء الله .
ـ هؤلاء أهلي ولكن الخوف من المجهول جعلني لا أخبرك بما أخبرتك به إلاّ الآن .
ـ وما الذي أتى بهم الآن .
ـ قد أصّروا على التعرف عليكم والترحيب بكم .
ـ لقد اختصروا الطريق .. كنت أريدك أن تذهب بنا إليهم ، فأنهم أهلنا الآن ، أنك لم تعد مقطوع من شجرة ، ثم ابتسمت .
ـ الزمان جعلني أكذب عليك .
ـ رب ضارة نافعة ... لولا ذلك لما تعرفنا عليك في الكويت .
ـ وأنا أقول ذلك .
ـ ومتى نرجع إلى الكويت .
ـ متى شئت .
ـ يعني ما تقول زي ما قال المثل .. من لقي أحبابه ..
ـ لا تكملي ،... أنت الآن كل شيء في حياتي ثم لا تنسي أنك قد قبلتني وأنا مقطوع من شجرة وأن الكويت الآن هي بلدي أيضا .
ـ أخذتنا في الكلام، ارجع إلى ضيوفك حتى أخبر الأولاد ثم آتي بهم.
ثم عدت أنا إلى ضيوفي أما سميرة فقد أخذت بدورها تشرح للأولاد القصة ثم أتت بهم إلينا .
كانت ليلة لا تنسى فقد كانت من أحلي ليال العمر وبقينا جميعاً في جدة ثلاثة أيام .
لم أخبر أخي أنني قد غيرت اسمي إلى عبد الله عبد الرحمن، لكنني وقبل سفرهم وعدتهم بزيارة في العام القادم وقلت لأخي .
ـ أريد أن تبحث لي عن قطعة أرض في أي مخطط قريباً من بلجرشي وتشتري لي هناك أرضا لكي أبني لي فيه مسكناًً صغيراً يضل يربطني وأهلي بكم ان بقي في العمر متسع ثم يربط أولادي بأهلهم وذويهم فيما بعد وأنا سأدفع لك قيمة الأرض ومن ثم سأرسل لك نقوداً وأنت بدورك تساعدني في الإشراف على بناء المنزل ..فربما يأتي يوم من الأيام ويحتاج أولادي أن يكونوا بين أبناء عمومتهم.(1/59)
ـ إن لك حصة في الأرض التي خلّفها أبي فنحن سنختار لك قطعة أرض وأنت عليك أن تقوم بعمارتها.
ـ لن أخذ من ما تركه أبي شيء وأنا لست بحاجة بل أن كنت بحاجة إلى أي مبلغ فلعلني أدبّره لك قبل أن أسافر .
ـ أبداً هذا من حقك .
ـ هو مني لأولادك، ثم غادروا جدة ونحن عدنا بعد ذلك إلى الكويت.
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقياً .
وأرسلت لأخي مالاً وأشترى بأسمى أرضا وبنى لي عليها مسكناً لكنني إلى الآن لم اسكنه ولم أسافر الى قرية المرابعة فقد مات أخي بعد ان أنهى عمارة البيت وكذلك ماتت أختي فلم يعد للحياة طعم بدونهما في القرية فتركت هذا البيت لأولادي أو أحفادي إن هم احتاجوا إليه .... وانتهت القصة.
ص4 (القف): عبارة عن حوض مجوف مفتوح في الأرض يصب فيه الماء لتشرب منه الحيوانات.
ص20البقشة: عبارة عن قطعة مربعة من القماش تلف فيها الملابس استعيض عنها بالحقيبة الآن .(1/60)