مُسِيئِهِمْ. (1)
وعَنْ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِى طَوِىٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلاَّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِىِّ ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ « يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا » . قَالَ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ » . قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا (2)
وعَنْ أَبِى صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِى ، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ . وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ . وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ » . (3)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ ، قَالَ عُرْوَةُ فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَتُكَلِّمُنِى فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ » .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 260)(7271) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3976 )
العرصة: عرصة الدار : ساحتها.-طوي : الطوي : البئر ، وجمعه أطواء.-الركي : الركية : البئر ، وجمعها ركي.الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1904)
الجنة : الوقاية -الخلوف : تغير ريح الفم -يرفث : يفحش أو يجامع(1/469)
قَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَلَمَّا كَانَ الْعَشِىُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: « أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » . ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا ، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ . قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِىٌّ وَلاَ نَصْرَانِىٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ». (2)
" فِيهِ نَسْخُ الْمِلَلِ كُلِّهَا بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَفِي مَفْهُومِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَهَذَا جَارٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ) أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكُلُّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ ." (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَإِيمَانًا بِى وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِى فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِى خَرَجَ مِنْهُ نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4304 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (403 )
(3) - شرح النووي على مسلم - (1 / 279)(1/470)
سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّى أَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ». (1)
ضمن الله تعالى والتزم- كرماً منه وفضلا- أن من خرج يقاتل في سبيله مخلصاً نيته عن الأغراض الدنيوية، من غنيمة، أو عصبية، أو شجاعة، أو حُب للشهرة، أو الذكر. بل لمجرد الإيمان بالله تعالى الذي وعد المجاهدين بالمثوبة، وتصديقا برسله الذين بلغوا عنه وعده الكريم، فاللَه ضامن له دخول الجنة، إن قتل أو مات في سبيله. أو يرجعه إلى مسكنه وأهله نائلا الأجر العظيم، أو حاصلا له الحسنيان، الأجر والغنيمة. والله لا يخلف الميعاد.
وفي هذا الحديث جود الله تعالى وكرب، إذ ألزم نفسه بهذا الجزاء الكبر للمجاهدين.وفضل الجهاد في سبيل الله، إذ تحقق ربحه العظيم.فإما الشهادة العظمى التي تنيل صاحبها المقامات العالية مع النبيين والصد يقين.وإما الرجوع إلى مسكنه بجزيل الحسنات، وتكفير السيئات.
وإن كان معه غنيمة، فذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أنه لا يحصل هذا الثواب إلا لمن صحت نيته وخلصت من شوائب إرادة الأغراض الدنيوية.،وقال الطبري-: إذا كان أصل الباعث هو إعلاء كلمة الله فلا يفره ما عرض له بعد ذلك." (2)
" وَفِيهِ : مَا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الشَّفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالرَّأْفَة بِهِمْ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتْرُك بَعْض مَا يَخْتَارهُ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِح بَدَأَ بِأَهَمِّهَا . وَفِيهِ : مُرَاعَاة الرِّفْق بِالْمُسْلِمِينَ ، وَالسَّعْي فِي زَوَال الْمَكْرُوه وَالْمَشَقَّة عَنْهُمْ .
وفِيهِ : فَضِيلَة الْغَزْو وَالشَّهَادَة ، وَفِيهِ : تَمَنِّي الشَّهَادَة وَالْخَيْر ، وَتَمَنِّي مَا لَا يُمْكِن فِي
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4967 ) -الكلم : الجرح
(2) - تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (2 / 231)(1/471)
الْعَادَة مِنْ الْخَيْرَات ، وَفِيهِ : أَنَّ الْجِهَاد فَرْض كِفَايَة (1) لَا فَرْض عَيْن ." (2)
الخلاصة :
(1) يجوز الحلف بِأَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاته ، أَوْ مَا دَلَّ عَلَى ذَاته .
(2) يستخدم الحلف للتأكيد على وجود الشيء أو نفيه أو على حله أو تحريمه ونحو ذلك .
(3) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الحلف أثناء التعليم للتأكيد ما يريد تعليمه لأصحابه .
(4) ينبغي الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع مجالات التعليم .
ــــــــ
49-إمساكُه - صلى الله عليه وسلم - بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه:
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يُثيرُ انتباهَ المخاطبِ بأخذ يدِه أو منكِبِه،ليَزدادَ اهتمامُه بما يُعلِّمهُ،وليُلقِيَ إليه سمعَه وبصَرَه وقلبَه،ليكون أوعى له وأذكَر .
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ : عَلَّمَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ كَفَّىَ بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِى السُّورَةَ مِنَ الْقُرَآنِ :« التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عَبَّادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ». وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا : السَّلاَمُ عَلَى النَّبِىِّ. " (3)
(كما يُعلِّمني السورةَ من القرآن) هذه العبارةُ تُصوِّرُ شدةَ اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعليم هذا التشهُّد . وفي الحديث من أمورِ التعليم : أنَّ المعلِّم ينبغي له أن يُبدي الاهتمامَ البالغَ بالأمر
__________
(1) - يقصد جهاد الطلب ، وليس جهاد الدفع ، لأنه جهاد الدفع الجهاد فيه فرض عين بالإجماع .
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 353)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (2 / 138)(2934) وصحيح البخارى- المكنز - (6265 ) وصحيح مسلم- المكنز - (928 )(1/472)
الهام يُعلِّمُه للمُستفيدين ، وأن يُشعِرَهم بذلك ، ليُلقوا إليه بسمعِهم وبَصرِهم وقُلوبِهم ، وليكونوا على كمالِ التيقُّظ فيما يَتَحمَّلونه عنه ، فيَضبِطوا لفظَه وفعلَه وإشارتَه وعبارتَه ، دون زيادةٍ أو نقصٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ أو تهاوُنٍ
وفيه أيضاً : التعليمُ والتلقين في حالةٍ مذكِّرةٍ ، من شدة القرب ، والأخذ بيد المتعلِّم ، ليَزدادَ انتباهُه بما يُعلَّمه ، وليكون أذكَر لما يُلقى إليه ، من تعليمِه بخطابٍ عامٍّ وحالٍ عاديّةٍ
وفيه زيادةُ عنايةِ المتعلِّم ببعض المُتعلِّمين لفرطِ ذكائهم ، أو توسُّمِ الخير فيهم ، أو لَمْحِ مَخايِل الرَّجاحةِ والأصالةِ فيهم (1) .
وعَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ ,عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي , فَقَالَ: " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ " قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ , وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ , وَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِكَ لِمَسَاوِئِكَ " (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي أَوْ قَالَ بِمَنْكِبَيَّ ، فقَالَ : كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ، قَالَ : فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، يَقُولُ : إِذَا أَصْبَحْتَ ، فَلاَ تَنْتَظِرُ الْمَسَاءَ ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرُ الصَّبَّاحَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمَنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ : اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ." (4)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَعْضِ جَسَدِي ، وَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ، وَاعْدُدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ " (5)
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 143)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (3 / 369)(6747) وصحيح البخارى- المكنز - (6416 )
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 472)(698) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 527)(6156) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (11 / 119)(88) صحيح لغيره(1/473)
(وعُدَّ نفسَك من أهل القبور) لأنك ميِّت يقيناً ، والموتُ كامنٌ في بُنيتك وكيانِك ، ولأنك تَشهدُ بعينيك الناس من أقارب وأباعد يموتون يوماً بعدَ يوم ، فلا بُدَّ أن يكون لك يوم . وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : كلَّ يوم يقال : مات فلان وفلان ، ولا بُدَّ من يومٍ يقال فيه : مات عمر . فنحن كما قال القائل :
نموتُ ونحيا كلَّ يومٍ وليلةٍ ولا بد من يومٍ نموتُ ولا نحيا
وقد تدرَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - في تذكير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فذكر له الغريب ، ثم عابرَ السبيل ، ثم ساكن القبور . فالغريب المتنقل من بلد إلى بلد ، قلبُه معلَّقٌ بوطنه ، لا يُثقِل على نفسه بالتوسع في أمتعته لعزمه العودة إلى بلده ، فلا يستقر بدار غربته إلاّ بقدر الضرورة أو الحاجة .
وعابرُ السبيل أي المارُّ على الطريق من جانب إلى جانب ، لا أرب له إلاّ فيما يُبلِّغُه إلى مقصِده فلا يلتفتُ إلى شيء يُحوِّلُه عنه ، ولا يُغريه بالتوقف بُستانٌ جميل ، ولا هواء بليل ، ولا ظل ظليل .
وساكنُ القبور هم الموتى الذين سبقوا إلى لقاء الله تعالى ، ومصيرُ الأحياء إلى ما صاروا إليه ، فلذا كان عبد الله بن عمر يقول : إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح ...
قال الحافظ ابن حجر : ((وفِي الحَدِيث مَسّ المُعَلِّم أَعضاء المُتَعَلِّم عِند التَّعلِيم والمَوعُوظ عِند المَوعِظَة وذَلِكَ لِلتَّأنِيسِ والتَّنبِيه ، ولا يُفعَل ذَلِكَ غالِبًا إِلاَّ بِمَن يَمِيل إِلَيهِ ، وفِيهِ مُخاطَبَة الواحِد وإِرادَة الجَمع ، وحِرص النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إِيصال الخَير لأُمَّتِهِ ، والحَضّ عَلَى تَرك الدُّنيا والاقتِصار عَلَى ما لا بُدّ مِنهُ)) (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَوَضَعَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَهُورًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ وَضَعَهُ؟قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا، فَضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِي، وَقَالَ:اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. (2)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (11 / 235)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 128) (10467 ) صحيح لغيره(1/474)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي ، أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ، شَكَّ سَعِيدٌ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ آتِي الْمَسْجِدَ إِذَا أَنَا فَرَغْتُ مِنْ عَمَلِي ، فَأَضْطَجِعُ فِيهِ ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَأَنَا مُضْطَجِعٌ ، فَغَمَزَنِي بِرِجْلِهِ ، فَاسْتَوَيْتُ جَالِسًا فَقَالَ لِي : يَا أَبَا ذَرٍّ ، كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهَا ؟ فَقُلْتُ : أَرْجِعُ إِلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِلَى بَيْتِي . قَالَ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهَا ؟ فَقُلْتُ : إِذَنْ آخُذَ بِسَيْفِي ، فَأَضْرِبَ بِهِ مَنْ يُخْرِجُنِي . فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي ، فَقَالَ : غَفْرًا يَا أَبَا ذَرٍّ ، ثَلاَثًا ، بَلْ تَنْقَادُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَادُوكَ ، وَتَنْسَاقُ مَعَهُمْ حَيْثُ سَاقُوكَ ، وَلَوْ عَبْدًا أَسْوَدَ ،قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَلَمَّا نُفِيتُ إِلَى الرَّبَذَةِ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ أَسْوَدُ كَانَ فِيهَا عَلَى نَعَمِ الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا رَآنِي أَخَذَ لِيَرْجِعَ وَلِيُقَدِّمَنِي ، فَقُلْتُ : كَمَا أَنْتَ ، بَلْ أَنْقَادُ لأَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ." (2)
وعَنْ مِحْجَنِ بن الأَدْرَعِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حَاجِزٍ يَمِينَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، فَلَمَّا رَجَعْتُ ذَهَبْتُ مَعَهُ حَتَّى صَعِدَ أُحُدًا فَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ:وَيْلٌ أُمِّكَ قَرْيَةً، يَدَعُكِ أَهْلُكِ وَأَنْتِ خَيْرُ مَا يَكُونُ، ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَأَى رَجُلا يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَأَنَارَهُ بِضَوْئِهِ، فَقَالَ:أَيَقُولُهُ صَادِقًا؟، قَالَهَا ثَلاثًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا وَهَذَا أَعْبُدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :اتَّقِ، لا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ قَالَهَا ثَلاثًا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَقَالَهَا ثَلاثًا." (3)
وعَنْ رَجَاءِ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ : دَخَلَ بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ الْمَسْجِدَ وَمِحْجَنٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ بُرَيْدَةُ : وَكَانَ فِيهِ مَزَّاحًا أَلا تُصَلِّي كَمَا يُصَلِّي سُكْبَةُ ، فَقَالَ مِحْجَنٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِي ، فَصَعِدَ عَلَى أُحُدٍ ، فَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 695)(2397) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 145)(21291) 21616- حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 232)(17091 ) حسن(1/475)
: وَيْلُ أُمِّهَا مَدِينَةً يَدَعُهَا أَهْلُهَا وَهِيَ خَيْرُ مَا كَانَتْ وَأَعْمَرُهَا يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا مَلَكًا مُصْلِتًا بِجَنَاحَيْهِ فَلاَ يَدْخُلُهَا ، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ خَيْرًا ، فَقَالَ : اسْكُتْ لا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ ، ثُمَّ أَتَى بَابَ حُجْرَةِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَنَفَضَ يَدَهُ مِنْ يَدِي ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ" (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ إِنِّى لَوَاقِفٌ فِى قَوْمٍ ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِى قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِى ، يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ ، إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ ، لأَنِّى كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا . فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ . (2)
ومن هذا الباب أيضاً ضربُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخِذ بعضِ أصحابه في بعضِ الأحيان .
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَاءِ ، قَالَ : أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلاَةَ ، فَأَتَانِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتِهِ ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِي ، وَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ ، فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ ، فَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي ، وَضَرَبَ فَخِذِي (3) كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ ، فَقَالَ : صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتَ مَعَهُمْ فَصَلِّ ، وَلاَ تَقُلْ : إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلاَ أُصَلِّي." (4)
" قوله : (( صل الصلاة لوقتها )) ؛ يعني : الأفضل ، بدليل قوله : (( فإن أدركتها معهم
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (4 / 225)(2383) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3677 )
(3) - قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) : قوله : فضرب على فخذي ، أي للتنبيه وجَمْعِ الذهن على ما يقوله)) .
(4) - صحيح ابن حبان - (6 / 166) (2406) وصحيح مسلم- المكنز -(1501)(1/476)
)) ؛ أي : في الوقت . وبدليل قوله : " فإن صُلِّيَتْ لوقتها كانت لك نافلة )) ؛ أي : زيادة في العمل والثواب .
وقوله : (( وإلا كنت قد أحرزت صلاتك )) ؛ أي : فعلتها في وقتها ، وعلى ما يجب أداؤها . وفيه : جواز فعل الصلاة مرتين . ومحمل النهي عن إعادة الصلاة : على إعادتها من غير سبب . وتأخير ابن زياد الصلاة على رأي بني أمية في تأخيرهم الصلوات . وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذ أبي ذر تنبيهٌ له على الاستعداد لقبول ما يلقى إليه .
وقوله : (( ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي )) ؛ نهاه عن إظهار خلافٍ على الأئمة ، ولذلك قال : " إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدًا مُجَدَّع الأطراف". (1)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلَنِى قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِى ثُمَّ قَالَ :« يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا ». (2)
" هَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَات ، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عَنْ الْقِيَام بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَة ، وَأَمَّا الْخِزْي وَالنَّدَامَة فَهُوَ حَقّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا ، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِل فِيهَا فَيُخْزِيه اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَفْضَحهُ ، وَيَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ ، وَعَدَلَ فِيهَا ، فَلَهُ فَضْل عَظِيم ، تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَحَدِيثِ : " سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه " وَالْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا عَقِب هَذَا ( أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور ) وَغَيْر ذَلِكَ ، وَإِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِد عَلَيْهِ ، وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَر فِيهَا حَذَّرَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا ، وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاء ، وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِق مِنْ السَّلَف ، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِين اِمْتَنَعُوا ." (3)
وقال الطحاوي : : " إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا , وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا " أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (6 / 59)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (10 / 95)(20707) وصحيح مسلم- المكنز - (4823)
(3) - شرح النووي على مسلم - (6 / 296)(1/477)
, فَلَيْسَ مِمَّنْ لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ , وَلَا لَحِقَتْهُ فِيهِ كَرَاهَةٌ , وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِذَلِكَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُ , الطَّالِبِينَ لِوِلَايَتِهِ ." (1)
الخلاصة :
(1) وضع اليد على منكب المتعلم أو ضربه ضرباً خفيفاً لتنبيهه سنَّة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التعليمية .
(2) لا بأس باستخدام مثل هذا الأسلوب في التعليم ، فهو يبعد الملل ، وينبه طالب العلم إلى ما يلقى عليه ، ويجعله أكثر حفظا له .
(3) الضرب هنا ليس مقصوداً لذاته ، فهو ليس من باب العقوبة ، بل من باب المحبة .
ــــــــ
50-إبهامُه - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ لحملِ السامِع على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه:
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يُبهِمُ الشيءَ ترغيباً فيه لحملِ السامع على الاستِكشافِ عنه فيكونَ أوقعَ في نفسِه وأحَضَّ له على إتيانِه .
وتقدمت بعض الأمثلة سابقا مثل حديث والله لا يؤمن ... وحديث السؤال عن النخلة، وغير ذلك، ومنها ما جاء عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "،قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطُفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ صَرَّتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالَتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 46)(57 )(1/478)
لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْتَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ: بَاتَ مَعَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، قَالَ: فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ مِنَ اللَّيْلِ، وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ (1) ، وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ لَا يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا . قَالَ: فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلُهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ (2) ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " يَطْلُعُ الْآنَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ، فَأُنْظِرَ مَا عَمَلُكَ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: فَهَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا تُطَاقُ " (3) .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (4) ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ
__________
(1) يقال : تَعارَّ فلان : أَرِقَ وتقلَّب في فراشه ليلاً مع كلام وصوت .
(2) ناداه بأعمِّ أسمائِه ، فإن الخلقَ كلُّهم عبدُ الله ، قلت : لو كان هو الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص ، ما ناداه باسم مجهول .
(3) - شعب الإيمان - (9 / 8) (6181 ) صحيح
(4) - وفي بعض الروايات ذكر أنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (8 / 80) وسير أعلام النبلاء - (1 / 109) وفيه مبهم
وفي مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (724 ) حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ ، ثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ ، ثنا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ ، ثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، وصالح المري ضعيف
وفي كشف الأستار - (2 / 409)(1981) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَهْوَازِيُّ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ ، يُخْبِرُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ح وَحَدَّثَنَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرنا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أنَسٍ ، وَاللَّفْظُ لَفْظُ عُقَيْلٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا لأَصْحَابِهِ : يَدْخُلُ مِنْ هَهُنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، قَالَ مَعْمَرٌ فِي حَدِيثِهِ : تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوءٍ تَوَضَّأَهُ ، مُعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ ، فَدَخَلَ سَعْدٌ ..... قلت : وسعد غير معروف من هو على الصحيح ، والخلط من ابن لهيعة، والصواب رجل من الأنصار غير معروف الاسم ، وهو المشهور وأنسب للقصة .
وأخطأ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عندما جزم بأنه سعد بن أبي وقاص دون أن يمحص الروايات في ذلك ، انظر كتاب الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 146)(1/479)
وُضُوئِهِ (1) ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ (2) ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، مِثْلَ ذَلِكَ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى . فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ : إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثَ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ . قَالَ عَبْدُ اللهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاَثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ ، قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرٌ ثَمَّ ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاَثَ مِرَارٍ ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ . قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا ، وَلاَ أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . فَقَالَ عَبْدُ اللهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ." (3)
قوله : (لاحيت أبي) أي خاصمتُه وجادلتُه في أمرٍ . وإنما احتال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه بهذه الطريقة ليتوصَّل بها إلى الوقوف على عَمَل ذلك الرجلِ الصالِحِ فيَقتَدي به ، وهذا من الحِيَل المشروعةِ التي لا تُناقِضُ مقاصِدَ الشرع .
والضابطُ العام في الحِيَل المشروعة أنها ما كان المقصودُ بها إحياءَ حقٍّ ، أو دفع ظلم ، أو
__________
(1) - أي يَقطُرُ منها قطراتٌ من ماء الوضوء . والوَضوء بفتح الواو : الماءُ الذي يتوضأُ به .
(2) - أشار بقوله (علَّق نعليه بيدشه الشِّمال) إلى أن الرجل متمثِّلٌ بالسنّة في حَمْلِ الحِذاء ، فهو يحمله باليد اليُسرى كما هي السنة .
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 429)(12697) 12727- صحيح(1/480)
فعل واجبٍ ، أو تركَ محرَّمٍ ، أو إحقاقَ حق ، أو إبطال باطل ، أو جَلْبَ محبوبٍ مشروعٍ ، أو دفعَ مكروهٍ ، أو نحو ذلك مما يُحقِّقُ مصلحةً مشروعةٍ ولا يُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم ، ولا يكون فيه تفويتُ حق للخالق أو المخلوق (1) .
في هذا الحديث : فضلُ سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وشهادةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - له بأنه من أهل الجنة ، وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة ، وفيه حرصُ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه على الاقتداء بالصالحين في أعمالِهم .
وفيه تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - وترغيبُه في الخير والبِرِّ بالثناء على أهلِهما بإبهامِ الأمر على المخاطَب ، ليقومَ هو بالكشفِ عنه فيكون أوقَعَ في نفسه ، وفيه فضلُ تزكيةِ القلب وطهارتِه من الغِلِّ والحَسَد وأن ذلك من الأعمال التي يَستحِقُّ المرءُ بها الجنةَ (2) .
الخلاصة :
(1) يجوز للعالم أن يبهم بعض المسائل ليكتشف حال طلابه .
(2) في طريقة الابهام تنبيه للسامع ، وتشغيل لعقله لكي يعرف الجواب بنفسه.
(3) في إبهام اسم الرجل مقصد شرعي ، وهو النظر إلى عمله ، وليس إلى اسمه.
(4) وفيه اهتمام الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنها – وكان من أعبد الصحابة - بمعرفة سِرِّ شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة ليقتدي به ، وهكذا فليكن طالب العلم
(5) وفيه أن من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فهو من أهل الجنة بلا ريب .
(6) وفيه أن سلامة الصدر من غش المسلمين أو خيانتهم أو حسدهم تكون سبباً للنجاة يوم القيامة قال تعالى :{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ
__________
(1) - وقد أوسعَ بيانَ ذلك بحثاً وتمحيصاً واستدلالاً من الكتابِ والسنةِ وآثارِ السلف الصالح ، الشيخُ العلاّمة الأستاذ محمد عبد الوهاب البُحَيري رحمه الله تعالى في كتابه ((الحِيَل في الشريعة الإسلامية)) ص303 432 ، فقِفْ عليه إذا شئت .
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 148)(1/481)
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء : 88 ، 89]
ــــــــ
51-إجمالُه - صلى الله عليه وسلم - الأمر،ثم تفصيلُه ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم:
هذا الأسلوب قد ورد في القرآن الكريم أولاً كما في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) }[الشعراء : 132 - 134]
خافوا الله، وامتثلوا ما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم، واخشوا الله الذي أعطاكم من أنواع النعم ما لا خفاء فيه عليكم، أعطاكم الأنعام: من الإبل والبقر والغنم، وأعطاكم الأولاد، وأعطاكم البساتين المثمرة، وفجَّر لكم الماء من العيون الجارية. (1)
وكما في قصة الأنفال ، قال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال
ثم جاء الجواب بعد آيات كثيرة ، وهو قوله تعالى : {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (41) سورة الأنفال
" ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شي ء ، وهاجروا إلى اللّه بعقيدتهم ، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين ، وشاركوهم ديارهم وأموالهم ، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم :
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 411)(1/482)
«يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» .. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن اللّه سبحانه وتعالى ، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين! ..
ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم اللّه سبحانه به ، وردهم إليه .. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل ، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي اللّه عنه - : «فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ..».
ولقد أخذهم اللّه سبحانه بالتربية الربانية قولا وعملا. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها ، فلم يعد الأمر حقا لهم يتنازعون عليه إنما أصبح فضلا من اللّه عليهم يقسمه رسول اللّه بينهم كما علمه ربه ... وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل ، الذي بدأ بهذه الآيات ، واستطرد فيما تلاها كذلك.
« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ : الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال ، هو الهتاف بتقوى اللّه .. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب .. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا ، والنزاع عليها - وإن كان هذا النزاع متلبسا هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى اللّه وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى .. إن قلبا لا يتعلق باللّه ، يخشى غضبه ويتلمس رضاه ، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض ، ولا يملك أن يرف شاعرا بالانطلاق! إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن(1/483)
أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة .. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها :«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» ..وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله :«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق ، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول ، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه طيبة قلوبهم ، راضية نفوسهم وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم ، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم .. ذلك :«إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها ، ليثبت وجوده ، ويترجم عن حقيقته. ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيرا في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولتعريف الإيمان وتحديده وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان ، أو تمنيا لا واقعية له في عالم العمل والواقع. (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان يُجمِل الأمرَ في حديثِه لحضِّ المخاطَب على السؤالِ،وتَشويقِه إلى الاستكشافِ عنه،ثم يُفصِّلُه ببيانٍ واضحٍ فيكون أوقع في نفس المخاطَب وأمكن في حفظِه وفهمه .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ "، وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: " وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ " . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فِدَاؤُكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتَ: " وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ (2) "، وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن موافقا للمطبوع - (3 / 1473)
(2) قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19 ((هكذا جاء هذا الحديث في الأصول : وجَبَتْ ، وجبت ، وجبت ثلاث مرات ، وأنتم شهداء الله في الأرض ثلاث مرات)) . وقال الإمام العيني في ((عمدة القاري)) 8 :195 ((والتكرير في الحديث لتأكيد الكلام ، لئلا يشكّوا فيه)) .(1/484)
عَلَيْهَا شَرًّا (1) فَقُلْتَ: " وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ "، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ , وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ،وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ " (2)
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمُرَّ بِجِنَازَةٍ ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا : جِنَازَةُ فُلانِيِّ الْفُلانِ كَانَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ، وَيَسْعَى فِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى ، قَالُوا : جِنَازَةُ فُلانٍ الْفُلانِيِّ كَانَ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيَسْعَى فِيهَا ، فَقَالَ : وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلُكَ فِي الْجِنَازَةِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا أُثْنِيَ عَلَى الأَوَّلِ خَيْرٌ ، وَعَلَى الآخَرِ شَرٌّ فَقُلْتَ فِيهَا وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، وَجَبَتْ ، فَقَالَ : نَعَمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ، إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ " (3)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : (أنتم شُهداء الله في الأرض) ، خطابٌ منه - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضي الله عنهم ، ولكن قال العلماء : ليس هذا القولُ الكريم مخصوصاً بهم فحسب ، بل يَدخلُ فيه الصحابة ومن كان صفتهم من المتقين والمتقيات والمؤمنين والمؤمنات .
واختلف العلماء في فهم معنى هذا الحديث الشريف ، قال الإمام النووي (4) ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (5) : ((قال بعضهم : معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أَثنى عليه أهلُ الفضل والدين ، وكان مطابقاً للواقع ، فهو من أهل الجنة ، فغن كان غيرَ مطابق فلا ، وكذا عكسُه .
__________
(1) قوله هنا : فأُثنِيَ عليها خيراً ، ثم قوله بعد قليل : وأثنِيَ عليها شراً ، هو بالبناء للمجهول فيهما . والثناء يُستعمل في الخير وفي الشر ، فيقال : أثنيتُ عليه خيراً ، وأثنيت عليه شراً ، لأنه بمعنى وصفتُه ، نصَّ عليه جماعة من أئمة اللغة المحققين ، كما بسطه الفيومي في ((المصباح المنير)) في (ثنى) ، وغلَّط من قال : لا يُستعمل الثناء إلاّ في الخير ، وزعم أنه جاء في الحديث مستعملاً في الشر للازدواج والمشاكلة . وأسهب في تغليطه وأجاد .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2243) وشرح مشكل الآثار - (8 / 354)(3304 )
(3) - المستدرك للحاكم (1397) صحيح
(4) - في ((شرح صحيح مسلم)) 7 :19
(5) - ((فتح الباري)) 3 :231(1/485)
تعالى الناسَ الثناء عليه بخير ، كان دليلاً على أنه من أهل الجنة ، سواء كانت أفعالُه تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، فإذا أَلهم الله عز وجل الناسَ الثناءَ عليه بالخير ، استدللنا بذلك على أنه سبحانه قد شاء المغفرة له .
وبهذا تظفر فائدةُ الثناءِ وقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((وجبت ، وأنتم شهداءُ الله في الأرض ...)) . ولو كان لا ينفعه ذلك إلاّ أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء عليه فائدة ، وقد أثبَتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - له فائدة)) . انتهى .
وفي الحديث من الأمور التعليمية : استحبابُ توكيد الكلام المُهِمّ بتكراره ، ليُحفَظ ، وليكون أبلغ في نفس سامعه . وفيه من أساليب التعليم : الإجمال ثم البيان ليكون أشوق وأوقع في السمع ، فقد أَجملَ - صلى الله عليه وسلم - في قوله (وجبت) لكل من الجنازتين ، ثم بيَّن أن = = قوله لذي الخير : (وجبت) أي وجبت له الجنة ، وأنَّ قولَه لذي الشر : (وجبت) أي وجبت له النار . والمرادُ بالوجوب هنا : الثبوت ، لتحقق وقوعه . والأصل أنه لا يجب على الله شيء ، بل الثوابُ فضلُه ، والعقاب عدلُه (1) .
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إِذْ طَلَعَتْ جَنَازَةٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قُلْنَا : مَا يَسْتَرِيحُ وَيُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ وَيَسْتَرِيحُ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا (2) وَبَلاَئِهَا وَمُصِيبَاتِهَا ، وَالْكَافِرُ يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. (3)
قال الإمام النووي : (4) ((معنى الحديث أن الموتى قسمان : مستريح ، ومستراح منه .
وأما استراحةُ العباد من الفاجر ، فمعناه اندفاعُ أذاه عنهم ، وأذاه يكون من وجوه ، منها ظُلمُهُ لهم ، ومنها ارتكابُه للمنكرات ، فإن أنكروها قاسَوْا مشقةً من ذلك ، وربما نالهم
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 150)
(2) نَصَبُ الدنيا : تَعَبُها .
(3) - صحيح ابن حبان - (7 / 277) (3007) وصحيح البخارى- المكنز - (6512) وصحيح مسلم- المكنز - (2245 )
(4) - ((شرح صحيح مسلم)) 7 :20(1/486)
ضَررُه ، وإن سكتوا عنه أَثِموا .واستراحةُ الدوابّ منه كذلك ،، لأنه كان يؤذيها ويَضرِبُها ويُحمِّلُها ما لا تُطيقُه ، ويُجيعها في بعض الأوقات ، وغيرُ ذلك .واستراحةُ البلاد والشجر ، فقيل : لأنها تُمنع القطرَ بمَعْصِيَتِه ، قاله الداودي وقال الباجي : لأنه يَغْصِبُها ويَمنعُها حقَّها من الشُّرب وغيره))
ومن الإجمال ثم التفصيل قولُه - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من أَذى الجار ، فعَنْ أَبِى شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ » . قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ » (1) .
ومن هذا الباب أيضاً قولُه - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من التقصير في بِرِّ الوالِدَين ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ». (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ جَعَلَ لَهُ ثَلَاثَ عَتَبَاتٍ، فَلَمَّا صَعِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَتَبَةَ الْأُولَى، قَالَ: " آمِينَ "، ثُمَّ صَعِدَ الْعَتَبَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: " آمِينَ "، حَتَّى إِذَا صَعِدَ الْعَتَبَةَ الثَّالِثَةَ، قَالَ: " آمِينَ " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْنَاكَ تَقُولُ آمِينَ آمِينَ آمِينَ وَلَا نَرَى أَحَدًا، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَعِدَ قَبْلِي الْعَتَبَةَ الْأُولَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فقُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، فقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا صَعِدَ الْعَتَبَةَ الثَّانِيَةَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ نَهَارَهُ، وَقَامَ لَيْلَهُ ثُمَّ مَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: أَمِينَ، فَلَمَّا صَعِدَ الْعَتَبَةَ الثَّالِثَةَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ " (3)
وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6016 ) -بوائقه : أي شُرورَه وأذاياه .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6675 )
(3) - شعب الإيمان - (5 / 233)(3350 ) صحيح لغيره(1/487)
دَرَجَةً:"آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الأُخْرَى، فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ"، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟، قَالَ:"وَسَمِعْتُمُوهُ؟"، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:"إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الَسَلامَ، عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً، فَقَالَ: بَعُدَ، مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: آمِينَ، وَقَالَ: بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ". (1)
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وهذا دعاء مؤكد على من قصر في بر أبويه، ويحتمل وجهين: أحدهما أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما. وثانيهما أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذل إلى الغاية القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان برهما واجبًا على كل حال - إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك" (2)
وقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، والعطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضًا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما لقلة دينه وضعف بصيرته، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 14)(15647) صحيح لغيره
(2) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 6 / 518.(1/488)
الضجر، وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب (2) فقال عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } (سورة الإسراء, الآية : 23) وأمره الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتسابا للأجر لا للخوف منهما،وأمره عَزَّ وَجَلَّ أن يدعو لهما بالرحمة أحياءً وأمواتا، جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } (1)
ومما يقرُبُ من الأسلوب المتقدِّم ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَختارُه في التعليم،من الإجمالِ للمعدودات ثم بيانِها واحداً بعدَ واحدٍ،لتكون أضبط لدى السامع وأعون له على الحفظِ والفهم .
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ , شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ , وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ , وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ , وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلُكَ , وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ " (2)
في الحديث التنبيهُ على أهمِّيّةِ الأمور الخمسةِ المذكورة وعِظمِ نفعها ، وكلٌّ من هذه الأمور الخمسةِ لا يُعرَف قدرُه إلاّ بعدَ زوالِهِ واحتلالِ مُقابِله مَقامَه ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ » (3) . .
فينبغي للعالم والمتعلم أن يغتنم الفرص، والفراغ، والصحة، والشباب، والغنى قبل حصول ما يضاد هذه النعم؛ فإنه إذا اغتنمها كتب الله له أعماله عند مفارقة هذه النعم (4)
__________
(1) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (2 / 496)
(2) - شعب الإيمان - (12 / 476)(9767 ) موصولاً مصنف ابن أبي شيبة - (19 / 58)(35460) مرسلاً وصحيح الجامع ( 1077) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6412 )
(4) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (2 / 478)(1/489)
قال حجة الإسلام : الدنيا منزل من منازل السائرين إلى اللّه تعالى والبدن مركب ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتم سفره وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل والانقطاع إلى اللّه الذي هو السلوك. (1)
وعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (2) .
قوله : (تربت يداك) أي لَصِقَتا بالتراب ، وهي كنايةٌ عن الفقر ، وهو خبرٌ بمعنى الدعاء ، لكن لا يُراد به حقيقتُه ، كما في قولهم (وَيْحَكَ) و(وَيْلَكَ) .
قال النووي (3) : ((في هذا الحديث الحثُّ على مُصاحَبةِ أهل الدين في كل شيءٍ ، لأن صاحبَهم يَستفيدُ من أخلاقِهم وبركتِهم وحُسنِ طرائِقِهم ، ويأمَنُ المفسدةَ من جِهتِهم)) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ." (4)
وقالَ النَّووِيّ : هَذا الحَدِيث عَدَّهُ جَماعَة مِنَ العُلَماء مُشكِلاً مِن حَيثُ إنَّ هَذِهِ الخِصال قَد تُوجَد فِي المُسلِم المُجمَع عَلَى عَدَم الحُكم بِكُفرِهِ . قالَ : ولَيسَ فِيهِ إِشكال ، بَل مَعناهُ صَحِيح والَّذِي قالَهُ المُحَقِّقُونَ : إِنَّ مَعناهُ أَنَّ هَذِهِ خِصال نِفاق ، وصاحِبها شَبِيه بِالمُنافِقِينَ فِي هَذِهِ الخِصال ومُتَخَلِّق بِأَخلاقِهِم.
قُلت : ومُحَصَّل هَذا الجَواب الحَمل فِي التَّسمِيَة عَلَى المَجاز ، أَي : صاحِب هَذِهِ الخِصال كالمُنافِقِ ، وهُو بِناء عَلَى أَنَّ المُراد بِالنِّفاقِ نِفاق الكُفر.
وقَد قِيلَ فِي الجَواب عَنهُ : إِنَّ المُراد بِالنِّفاقِ نِفاق العَمَل كَما قَدَّمناهُ . وهَذا ارتَضاهُ
__________
(1) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (3 / 341)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5090 ) وصحيح مسلم- المكنز-(3708 )
(3) - ((شرح صحيح مسلم)) 10 :52
(4) - صحيح ابن حبان - (1 / 488) (254) وصحيح البخارى- المكنز-(34 ) وصحيح مسلم- المكنز - (219)(1/490)
القُرطُبِيّ واستَدَلَّ لَهُ بِقَولِ عُمَر لِحُذَيفَة : هَل تَعلَم فِيَّ شَيئًا مِنَ النِّفاق ؟ فَإِنَّهُ لَم يُرِد بِذَلِكَ نِفاق الكُفر ، وإِنَّما أَرادَ نِفاق العَمَل.
ويُؤَيِّدهُ وصفه بِالخالِصِ فِي الحَدِيث الثّانِي بِقَولِهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا" . وقِيلَ : المُراد بِإِطلاقِ النِّفاق الإِنذار والتَّحذِير عَن ارتِكاب هَذِهِ الخِصال وأَنَّ الظّاهِر غَير مُراد ، وهَذا ارتَضاهُ الخَطّابِيُّ . وذَكَرَ أَيضًا أَنَّهُ يَحتَمِل أَنَّ المُتَّصِف بِذَلِكَ هُو مَن اعتادَ ذَلِكَ وصارَ لَهُ دَيدَنًا . قالَ : ويَدُلّ عَلَيهِ التَّعبِير بِإِذا ،فَإِنَّها تَدُلّ عَلَى تَكَرُّر الفِعل . كَذا قالَ . والأَولَى ما قالَ الكَرمانِيُّ : إِنَّ حَذف المَفعُول مِن " حَدَّثَ " يَدُلّ عَلَى العُمُوم ، أَي : إِذا حَدَّثَ فِي كُلّ شَيء كَذَبَ فِيهِ . أَو يَصِير قاصِرًا ، أَي : إِذا وجَدَ ماهِيَّة التَّحدِيث كَذَبَ . وقِيلَ هُو مَحمُول عَلَى مَن غَلَبَت عَلَيهِ هَذِهِ الخِصال وتَهاونَ بِها واستَخَفَّ بِأَمرِها ، فَإِنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ كانَ فاسِد الاعتِقاد غالِبًا .
وهَذِهِ الأَجوِبَة كُلّها مَبنِيَّة عَلَى أَنَّ اللاَّم فِي المُنافِق لِلجِنسِ ، ومِنهُم مَن ادَّعَى أَنَّها لِلعَهدِ فَقالَ : إِنَّهُ ورَدَ فِي حَقّ شَخص مُعَيَّن أَو فِي حَقّ المُنافِقِينَ فِي عَهد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وتَمَسَّكَ هَؤُلاءِ بِأَحادِيث ضَعِيفَة جاءَت فِي ذَلِكَ لَو ثَبَتَ شَيء مِنها لَتَعَيَّنَ المَصِير إِلَيهِ . وأَحسَن الأَجوِبَة ما ارتَضاهُ القُرطُبِيّ ، والله أَعلَم." (1)
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ : الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ : الْجَارُ السُّوءُ ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ." (2)
وهذا يبيِّن للعالم أهمية اختيار الوسائل المناسبة التي تعينه على القيام بالدعوة إلى اللّه عز وجل وبالتعليم؛ لأن لهذه الأشياء أهمية عظمى في حياة الإِنسان ، فإن كانت الزوجة صالحة ، والدار صحِيَّة واسعة ، والفرس أو السيارة قوية مريحة ، والجار صالحا ارتاح
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (1 / 90)
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 341) (4032) حسن(1/491)
الإِنسان وشعر بالسعادة والاستقرار النفسي وتفرَّغ للدعوة إلى اللّه تعالى وتعليم الناس (1)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : النِّسَاءُ ثَلاَثَةٌ : امْرَأَةٌ هَيِّنَةٌ لَيِّنَةٌ عَفِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ وَدُودٌ وَلُودٌ تُعِينُ أَهْلَهَا عَلَى الدَّهْرِ , وَلاَ تُعِينُ الدَّهْرَ عَلَى أَهْلِهَا , وَقَلَّ مَا تَجِدُهَا ، ثَانِيَةٌ : امْرَأَةٌ عَفِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ إنَّمَا هِيَ وِعَاءٌ لِلْوَلَدِ لَيْسَ عِنْدَهَا غَيْرُ ذَلِكَ ، ثَالِثَةٌ : غُلٌّ قَمِلٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي عُنُقِ مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يَنْزِعُهَا غَيْرُهُ ،الرِّجَالُ ثَلاَثَةٌ : رَجُلٌ عَفِيفٌ مُسْلِمٌ عَاقِلٌ يَأْتَمِرُ فِي الأُمُورِ إذَا أَقْبَلَتْ وَتَشَبَّهت ، فَإِذَا وَقَعَتْ خَرَجَ مِنْهَا بِرَأْيِهِ وَرَجُلٌ عَفِيفٌ مُسْلِمٌ لَيْسَ لَهُ رَأْيٌ فَإِذَا وَقَعَ الأَمْرُ أَتَى ذَا الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ فَشَاوَرَهُ وَاسْتَأْمَرَهُ ثُمَّ نَزَلَ عِنْدَ أَمْرِهِ ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بَائِرٌ لاَ يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلاَ يُطِيعُ مُرْشِدًا." (2)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " النِّسَاءُ ثَلَاثٌ ، وَالرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ : فَامْرَأَةٌ عَاقِلَةٌ عَفِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ هَيِّنَةٌ لَيِّنَةٌ ، وَدُودٌ وَلُودٌ ، تُعِينُ أَهْلَهَا عَلَى الدَّهْرِ ، وَلَا تُعِينُ الدَّهْرَ عَلَى أَهْلِهَا ، وَقَلِيلٌ مَا تَجِدُهَا ، وَأُخْرَى وِعَاءٌ لِلْوَلَدِ لَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْأُخْرَى غُلٌّ قَمِلٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي عُنُقِ مَنْ يَشَاءُ ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْ يَنْزِعَهُ نَزَعَهُ . وَالرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ عَاقِلٌ عَفِيفٌ بَرٌّ مُسْلِمٌ ، يَنْتَظِرُ الْأُمُورَ وَيَأْتَمِرُ فِيهَا أَمْرَهُ إِذَا أُشْكِلَتْ عَلَى عَجَزَةِ الرِّجَالِ وَضَعَفَتِهِمْ ، وَرَجُلٌ لَيْسَ عِنْدَهُ رَأْيٌ فَإِذَا نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ أَتَى ذَوِي الرَّأْيِ وَالْقُدْرَةِ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَإِذَا أَمَرُوهُ بِشَيْءٍ نَزَلَ عِنْدَ رَأْيِهِمْ ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بَائِرٌ لَا يَأْتَمِرُ الرُّشْدَ وَلَا يُطِيعُ الْمُرْشِدَ " (3)
الخلاصة :
(1) الإجمال ثم التفصيل بعده سنَّة ربانية ونبوية محكمة .
(2) قد يستخدم المعلم أسلوب الإجمال ليشد انتباه طلابه إليه ، أو كي يسألوه، فيكون أدعى للحفظ والفهم .
(3)
__________
(1) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (2 / 30) بتصرف
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (9 / 331)(17432) صحيح
(3) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1222 ) صحيح(1/492)
هذا الأسلوب قد يستخدم أيضاً للتشويق، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاتَيْنِ يَنْتَطِحَانِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي فِيمَا يَنْتَطِحَانِ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : وَلَكِنْ رَبُّكَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ." (1)
ــــــــ
52-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب والترهيب:
ومن أجلى أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الترغيبُ في الخير الذي يدعو إليه،والترهيبُ عن الشرِّ الذي يُحذِّر منه،فكان - صلى الله عليه وسلم - يُرغِّب في الخير بذكر ثوابِه والتنبيه على مَنافِعِه، ويُرهِّبُ عن الشرِّ بذكرِ عقابِه والتنبيه على مساويه .
وكان يَجمَع في أحاديثه بين الترغيب حيناً والترهيب حيناً آخر،وما كان يَقتَصِرُ على الترهيب فيُؤدّي إلى التنفير،ولا على الترغيب فيؤدي إلى الكَسَل وترك العمل .
وقد جَمَع أئمةُ الحديث رضوانُ الله تعالى عليهم (أحاديثَ الترغيب والترهيب) من السنة النبوية الشريفة،في كُتُبٍ مستقلةٍ،وأوفى تلك الكُتُب جمعاً لأحاديث هذا الصنف،وأكثرُها فائدةً،وأقربُها منالاً : كتابُ ((الترغيب والترهيب من الحديث الشريف)) للإمام الحافظ أبي محمد زكي الدين عبد العظيم المُنذِري رحمه الله تعالى،وهو مطبوع متداول . (2)
وقد سبقَتْ في الأساليب السابقة أحاديثُ كثيرة من باب الترغيب والترهيب ، وسأذكر القليل من الأحاديث المتعلقة بالترغيب والترهيب .
فمن باب الترغيب :
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (3) .
__________
(1) - مسند الطيالسي(482) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 187)(21769) حسن لغيره
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 155)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (38 )(1/493)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » (1) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَحَجَّ الْبَيْتَ لا أَدْرِي ذَكَرَ الزَّكَاةَ أَمْ لا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ، قُلْتُ : أَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ذَرِ النَّاسَ يَعْمَلُونَ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَالْفِرْدَوْسُ الأَعْلَى أَعْلاهَا دَرَجَةً وَأَوْسَطُهَا ، وَفَوْقَهَا الْعَرْشُ ، وَفِيهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ : { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ : عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [سورة التغابن آية 1 ] ، قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ( ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ( ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاةَ ، وَالصِّيَامَ ، وَالْجِهَادَ ، وَالصَّدَقَةَ ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ : سَمِعْنَا وَعِصينَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ ، أَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إِلَى قَوْلِهِ : وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [سورة البقرة آية 285 ] ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا إِلَى قَوْلِهِ : أَوْ أَخْطَأْنَا } [سورة البقرة آية 286 ] ، قَالَ : نَعَمْ ، { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } [سورة البقرة آية 286 ] ، قَالَ : نَعَمْ ، { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [سورة البقرة آية 286 ] ، قَالَ : نَعَمْ ، إِلا { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1817 )
(2) - كشف الأستار - (1 / 23)(26) صحيح لغيره(1/494)
} [سورة البقرة آية 286 ] ، قَالَ : نَعَمْ ، وفي رواية، قَالَ : قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَرَحِمْتُكُمْ " (1) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ ، فَأَصَابَ النَّاسَ مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللهِ فِي نَحْرِ بَعْضِ ظَهْرِهِمْ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَكَيْفَ بِنَا إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا جِيَاعًا رَجَّالَةً ؟ وَلَكِنْ إِنْ رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ تَدْعُوَ النَّاسَ بِبَقِيَّةِ أَزْوِدَتِهِمْ. فَجَاؤُوا بِهِ ، يَجِيءُ الرَّجُلُ بِالْحِفْنَةِ مِنَ الطَّعَامِ وَفَوْقَ ذَلِكَ ، وَكَانَ أَعْلاَهُمُ الَّذِي جَاءَ بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ ، فَجَمَعَهُ عَلَى نِطَعٍ ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ، فَمَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وِعَاءٌ إِلاَّ مَمْلُوءٌ وَبَقِيَ مِثْلُهُ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ، وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ لاَ يَلْقَاهُ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ بِهِمَا إِلاَّ حَجَبَتَاهُ عَنِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2)
وعن عَائِشَةَ قالت قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِى آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثُلاَثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ عَزَلَ شَوْكَةً عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاَثِ مِائَةٍ السُّلاَمَى فَإِنَّهُ يُمْسِى يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ (3)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَجْمَعُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي جَوْفِ رَجُلٍ غُبَارًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانَ جَهَنَّمَ ، وَمَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمُاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ سَائِرَ جَسَدِهِ عَلَى النَّارِ ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ مِنْهُ النَّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْتَعْجَلِ ، وَمَنْ جُرِحَ جِرَاحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِخَاتَمِ الشُّهَدَاءِ ، لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهَا مِثْلُ لَوْنِ الزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا مِثْلُ رِيحِ
__________
(1) - مسند أبي عوانة (169 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 454)(221) حسن
(3) - صحيح مسلم(2377) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 188)(8074)(1/495)
الْمِسْكِ ، يُعْرِفُهُ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : فُلَانٌ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ ، وَمَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " (1) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا ، رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةٌ ، فَجَاءَهُ وُضُوءُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ ، فَجَاءَتْهُ صِلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ ، فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَخَلَّصَهُ مِنْهُمْ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ ، فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ ، وَعَنْ شِمَالِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ ، وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ ، فَجَاءَهُ حَجُّهُ ، وَعُمْرَتُهُ ، فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ ، فَجَاءَتْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ ، فَقَالَتْ : إِنَّ هَذَا كَانَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ فَكَلَّمَهُمْ ، وَكَلَّمُوهُ وَصَارَ مَعَهُمْ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ عَنْ وَجْهِهِ ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ ، فَصَارَتْ ظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ وَسِتْرًا عَنْ وَجْهِهِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ ، فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ ، فَجَاءَتْهُ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ إِلَى شِمَالِهِ ، فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فِي يَمِينِهِ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ خَفَّ مِيزَانُهُ ، فَجَاءَهُ إِقْرَاضُهُ فَثَقُلَ مِيزَانُهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يُرْعِدُ كَمَا تُرْعِدُ الزَّعْفَةُ ، فَجَاءَهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رِعْدَتَهُ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ مَرَّةً وَيَجْثُو مَرَّةً وَيَتَعَلَّقُ مَرَّةً ، فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَيَّ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ عَلَى الصِّرَاطِ حَتَّى جَاوَزَ . وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ ، فَجَاءَتْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ " (2)
__________
(1) - مسند أحمد(28267) فيه انقطاع
(2) - مجمع الزوائد ( 11746 ) والْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ (41 ) وأَمَالِي ابْنِ بِشْرَانَ(249 ) و التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (526 ) حسن لغيره.(1/496)
وأما الترهيب فكثير جدا :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُلُّ مُخَمِّرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا بُخِسَتْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ ». قِيلَ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لاَ يَعْرِفُ حَلاَلَهُ مِنْ حَرَامِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ » (1)
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنَّكَ كُنْتَ لَتُكْرِمُنِي فِي الصِّحَّةِ، وَتَعُودُنِي فِي الْمَرَضِ، وَلَوْلا مَا أَتَى بِهِ يَعْنِي الْمَوْتَ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ رَاعٍ غَشَّ رَعِيَّتَهُ، إِلا وَهُوَ فِي النَّارِ.
وعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ صَالِحِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: فَهَلْ كَانَتْ لَهُ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا النُّخَالَةُ فِي غَيْرِهِمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. (2)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيِّ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ( فِيمَا يَقُولُ : هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْ رُؤْيَا ؟ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَإِنَّهُ قَالَ لَنَا ذَاتَ غَدَاةٍ : إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي ، وَإِنَّهُمَا ، قَالاَ لِي : انْطَلِقْ ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ، فَيَثْلَغُ بِهَا رَأْسَهُ ، فَتُدَهْدِهَهُ الصَّخْرَةُ هَا هُنَا ، فَيَقُومُ إِلَى الْحَجَرِ فَيَأْخُذُهُ فَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَحْسِبُهُ ، قَالَ : حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى ، قَالَ : قُلْتُ : سُبْحَانَ اللهِ مَا هَذَانِ ؟ قَالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، قَالَ : فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ ، فَإِذَا هُوَ يَأْتِيَ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ
__________
(1) - سنن أبى داود (3682) صحيح
(2) - مسند أبي عوانة (5669 -5671) صحيح(1/497)
فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمِنْخَرَهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ الْجَانِبُ الأَوَّلُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى ، قَالَ : قُلْتُ : سُبْحَانَ اللهِ ، مَا هَذَانِ ؟ قَالاَ : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ ، قَالَ عَوْفٌ : أَحْسِبُ أَنَّهُ ، قَالَ : فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ، فَاطَّلَعْنَا فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا بِنَهْرٍ لَهِيبٍ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ تَضَوْضَوْا ، قَالَ : قُلْتُ : مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، قَالَ : فَانْطَلَقْنَا عَلَى نَهَرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ ، قَالَ : أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عِنْدَ شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي جَمَعَ الْحِجَارَةَ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ، قَالَ : قُلْتُ : مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، قَالَ : فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلاً مَرْآهُ ، فَإِذَا هُوَ عِنْدَ نَارٍ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ قَالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبِيعِ ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ قَائِمٌ طَوِيلٌ لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولاً فِي السَّمَاءِ ، وأَرَى حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ وَأَحْسَنَهُ ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالاَ لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا وَأَتَيْنَا دَوْحَةً عَظِيمَةً لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلاَ أَحْسَنَ ، قَالاَ لِي : ارْقَ فِيهَا ، قَالَ : فَارْتَقَيْنَا فِيهَا ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ ، فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَفْتَحْنَا ، فَفُتِحَ لَنَا ، فَقُلْنَا : مَا مِنْهَا رِجَالٌ ، شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، قَالَ : قَالاَ لَهُمُ : اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ ، فَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ ، وَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، قَالَ : قَالاَ : لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ ، قَالَ : فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا ، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ ، قَالَ : قَالاَ لِي : هَذَاكَ مَنْزِلُكَ ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ، ذَرَانِي أَدْخُلْهُ ، قَالَ : قَالاَ لِي : أَمَّا الآنَ فَلاَ ، وَأَنْتَ دَاخِلُهُ ، قَالَ : فَإِنِّي رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا ، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ ؟ قَالَ : قَالاَ لِي : أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ.(1/498)
أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتَبْلُغُ الآفَاقَ.
وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ ، فَيَلْتَقِمُ الْحِجَارَةَ ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ.
قَالَ : فقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللهِ وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ( : وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ ، فَهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (1)
الخلاصة :
(1) أسلوب الترغيب والترهيب منهج رباني ونبوي ثابت لا يتغير ولا يتبدل .
(2) من لا ينفعه الترغيب نفعه الترهيب ، فالإنسان بين هذه وتلك.
(3) على المعلم استخدام هذا الأسلوب، لأن النفس بجب وتكره .
(4) يجب الابتعاد عن الأحاديث المنكرة والموضوعة .
ــــــــ
53-اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه:
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 427)(655) صحيح(1/499)
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يكتفي بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ (1) فَقَالَ « تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا (2) فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُئُونَ رَأْسِهَا (3) ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ. ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا (4) ». فَقَالَتْ أَسْمَاءُ وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِينَ بِهَا » (5) . فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِى ذَلِكَ (6) تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ (7) . وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَقَالَ « تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ - أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ - ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُئُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ » (8) . فَقَالَتْ عَائِشَةُ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ. (9)
في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية الشيءُ الكثير :
__________
(1) أي عن الغُسْلِ بعد انتهاء الحَيْض .
(2) السِّدْرة : واحدةُ ورق السِّدر ، وهو شجرٌ معروف ينبُت في الأرياف والجبال والرَّمْل ، ويُسْتَنْبَتُ فيكون أعظمَ ورقاً وثمراً . وثمرةُ الرّيفيِّ منه طيذِبةُ الرائحة ، وورقُه يَقلَعُ الأوساخ ويُنقّي البشرة ويُنعِّمُها ، ويشُدُّ الشعر . وإذا أُطلِقَ (السِّدر) في (باب الغُسل) فالمراد به الورق المطحون منه . أفاده الفيومي في ((المصباح المنير)) والحكيم داود الأنطاكي في ((تذكرته)) .
(3) شؤون الرأس : مَواصِلُ قبائل قُرون الشعر ومُلتَقاه . والمراد : طلبُ إيصال الماء إلى منابت الشعر ، مُبالغة في الغسل والنظافة .
(4) الفِرْصة بكسر الفاء : قِطعة من القُطن أو نحوه . و(مُمَسَّكةً) أي مُطيَّبةً بالمِسْك وهو من أفضل أنواع الطيب : أي تأخُذُ قطعة قطنٍ أو نحوِه مطيَّبةً تتطيَّبُ بها في موضع خروج الدم ، لدفع الرائحة الكريهة .
وهذا الفعل من المرأة أمرٌ مستحبٌّ شرعاً ، أخذاً من هذا الحديث الشريف .
(5) لم يُفصِح لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تتطهَّرُ بتلك القِطعة الممسَّكة ، إذْ كان موضع ذلك مما يُستحيا من ذكره ، واكتفى بالتسبيح إيذاناً أن ذلك ينبغي أن يكون معلوماً لديها من أمثالِها من النساء .
(6) معناه : قالت لها عائشة كلاماً خَفِيّاً تَسمعُهُ المخاطَبة وحدها ، ولا يسمعه الحاضرون في المجلس . وجملة (كأنها تُخفي ذلك) مُدرجةٌ من كلام الراوي في الحديث ، وليست من كلام عائشة رضي الله عنها .
(7) أي موضعه الذي يخرُج منه ، فادلُكيه بتلك القُطنة المطيَّبةِ الممسَّكة ، لتزول الرائحة المُنفِّرة من بقايا الحيض .
(8) أرشدها - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف إلى أن الغسل من الحيض ، يزيد على غُسل الجنابة ، باستحباب وضع السِّدر في مائه ، ثم بتطييب موضع الدم بعد الفراغ من الاغتسال منه .
(9) - صحيح مسلم- المكنز - (776 )(1/500)
التسبيحُ من المعلِّم عند التعجُّب . ومعناه هنا : كيف يخفى عليكِ هذا الظاهرُ الذي لا يُحتاجُ في فهمه إلى فكر .
واستحبابُ الكنايات عند تعليم ما يتعلَّق بالعَوْرات .
وسؤالُ المرأةِ العالم عن أحوالها التي يُحتشَمُ منها .
والاكتفاءُ بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجَنة .
وتكريرُ الجواب لإفهام السائل . وإنما كرَّره - صلى الله عليه وسلم - ، مع كونها لم تفهمه أوَّلاً ، لأن الجواب به يؤخذُ من إعراضه - صلى الله عليه وسلم - بوجهه عند قولِه للسائلة : (تطهَّري) ، أي في المحلِّ الذي يُستحيا التصريحُ به في مواجهة المرأة . فاكتفى بلسانِ الحال عن لسانِ المقال . وفهمَتْهُ عائشة رضي الله عنها ، فتَولَّتْ تعليمَ السائلة .
وفيه أيضاً من الأمور التعليمية : سَواغِيَةُ تفسير كلام العالم بحضرتِهِ ووجودِه لمن خَفِيَ عليه ، إذا عَرَف أن ذلك يُعجِبُه .
وجوازُ الأخذِ عن المفضولِ وهو عائشة بحضرة الفاضل وهو سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وصحّةُ العَرْضِ أي القراءة من الطالب على (المُحَدِّث) إذا أَقَرَّه، ولو لم يَقُل عَقِبَ ما عرَضه عليه : (نَعَمْ) .
وأنه لا يُشترَطُ في صحة تحميل العلم فهم السامع لجميع ما يسمعُه .
والرِّفْقُ بالمتعلِّم ، وإقامةُ العُذْر لمن لا يفهم .وأنَّ المرءَ مطلوبٌ منه ستر عيوبِه ، وإن كانت مما جُبِلَ عليها ، وذلك من جهة أمرِهِ - صلى الله عليه وسلم - للمرأة بالتطيُّبِ ، لإزالة الرائحة المكروهة .
وعدم مواجهة السائل بجوابه في مثل ... هذه الأمور المُستحيا منها ، فإنه قال لها : (تأخُذُ إحداكُنَّ) ولم يقل لها : (تأخذين) رعايةً لزيادةِ الأدب في هذا المقام .
وحُسْنُ خُلُق المعلِّم الأعظم - صلى الله عليه وسلم - ، وعظيم حاله وحَيائِه ، زاده الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً بأبي هو وأمي . (1)
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 164)(1/501)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ » . فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ - تَعْنِى وَجْهَهَا - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ « نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا » . (1)
قال النووي : " قَوْلهَا : ( إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ ) قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ لَا يَمْتَنِع مِنْ بَيَان الْحَقّ ، وَضَرَبَ الْمَثَل بِالْبَعُوضَةِ وَشَبَهِهَا كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى : { إِنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا ) فَكَذَا أَنَا لَا أَمْتَنِع مِنْ سُؤَالِي عَمَّا أَنَا مُحْتَاجَة إِلَيْهِ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : إِنَّ اللَّه لَا يَأْمُر بِالْحَيَاءِ فِي الْحَقّ وَلَا يُبِيحهُ ، وَإِنَّمَا قَالَتْ هَذَا اِعْتِذَارًا بَيْن يَدَيْ سُؤَالهَا عَمَّا دَعَتْ الْحَاجَة إِلَيْهِ : مِمَّا تَسْتَحْيِي النِّسَاء - فِي الْعَادَة - مِنْ السُّؤَال عَنْهُ ، وَذِكْره بِحَضْرَةِ الرِّجَال ، فَفِيهِ : أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مَسْأَلَة أَنْ يَسْأَل عَنْهَا ، وَلَا يَمْتَنِع مِنْ السُّؤَال حَيَاء مِنْ ذِكْرِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقِيّ لِأَنَّ الْحَيَاء خَيْر كُلّه ، وَالْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ، وَالْإِمْسَاك عَنْ السُّؤَال فِي هَذِهِ الْحَال لَيْسَ بِخَيْرٍ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ . فَكَيْف يَكُون حَيَاء ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاح هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي أَوَائِل كِتَاب الْإِيمَان وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : نِعْمَ النِّسَاء نِسَاء الْأَنْصَار ، لَمْ يَمْنَعهُنَّ الْحَيَاء أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّين . وَاللَّهُ أَعْلَم . (2)
وقال ابن بطال : " إنما أراد البخارى بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقولها: إن الله لا يستحيى من الحق، فإن الاستحياء من الله غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا قال أهل التفسير فى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [البقرة: 26]، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلا، وإنما قالوا ذلك، لأن الحياء هو الانقباض بتغيير الأحوال، وحدوث الحوادث فيمن يتغير به، لا يجوز على الله.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (130 ) وصحيح مسلم- المكنز - (738 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (2 / 12)(1/502)
وقولها: لا يستحيى من الحق - يقتضى أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق.
وفيه: أن المرأة تحتلم، غير أن ذلك نادر فى النساء، ولذلك أنكرته أم سلمة.
وقوله: تربت يمينك - هى كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلا لذلك، كما يقول: قاتله الله ما أسعده، وهو لا يريد قتله الله، وسيأتى تفسيرها لأهل اللغة فى كتاب الأدب إن شاء الله.
وقوله: فبم يشبهها ولدها - يعنى إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام. " (1)
إن الحياء لا يجوز أن يمنع الإنسان من السؤال عن دينه فيما يجب عليه لأن ترك السؤال عن الدين فيما يجب ليس حياء ولكنه خور فالله سبحانه وتعالى لا يستحي من الحق ..وعلى هذا فالحياء الذي يمنع من السؤال عما يجب السؤال عنه حياء مذموم ولا ينبغي أن نسميه حياء بل نقول إن هذا خور وجبن وهو من الشيطان فاسأل عن دينك ولا تستح " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فَذَكَرُوا مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ أَوْ خَالَطَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، وَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَارِ: لا، حَتَّى يَدْفِقَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَنَا آتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، فَقَامَ إِلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَأَنَا أَسْتَحْيِي؟ فَقَالَتْ: لا تَسْتَحْيِ أَنْ عَنْ شَيْءٍ كُنْتَ سَائِلا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟
__________
(1) - شرح ابن بطال - (1 / 223)
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (3 / 313)
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 453)(1177)(1/503)
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ." (1)
قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ غَيَّبْت ذَكَرَك فِي فَرْجهَا وَلَيْسَ الْمُرَاد حَقِيقَة الْمَسِّ وَذَلِكَ أَنَّ خِتَان الْمَرْأَة فِي أَعْلَى الْفَرْج وَلَا يَمَسّهُ الذَّكَر فِي الْجِمَاع ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ذَكَرَهُ عَلَى خِتَانهَا وَلَمْ يُولِجْهُ لَمْ يَجِب الْغُسْل ، لَا عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد مَا ذَكَرْنَاهُ . وَالْمُرَاد بِالْمُمَاسَّةِ الْمُحَاذَاة ، وَكَذَلِكَ الرِّوَايَة الْأُخْرَى إِذَا اِلْتَقَى الْخِتَانَانِ أَيْ تَحَاذَيَا . (2)
الخلاصة :
(1) على طالب العلم ذكراً كان أو أنثى أن يسأل عن أمور دينه كلها .
(2) الحياء لا يمنع التفقه بالدين والسؤال عما يجهله المرء .
(3) على العالم تقبل أي سؤال برحابة صدر (3)
ــــــــ
54-اهتمامُه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم النساء ووعظِهن:
وكان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم النساء ما يحتجن إليه،فكان يَخصُّهن ببعض مجالسِه ومواعظِه .
عن عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ - قَالَ - ثُمَّ خَطَبَ فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فَأَتَاهُنَّ فَذَكَّرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ وَبِلاَلٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْخَاتَمَ وَالْخُرْصَ وَالشَّىْءَ. (4)
(الخُرْص) الحلقة الصغيرة من حَلْي الأذن . وقوله (بلال باسط ثوبه) معناه أنه بسطه
__________
(1) - مسند أبي عوانة (646 ) صحيح مسلم- المكنز - (812 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (2 / 64)
(3) - انظر كتابي (( الفتاوى المعاصرة في الحياة الزوجية ))
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (2082 )(1/504)
ليَجمَع الصدقة فيه ، ثم يُفرِّقُها النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحتاجين ، كما كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات المتطوع بها والزكَوات .
وفي هذا الحديث استحبابُ وعظِ النساء وتذكيرهن الآخرة وأحكام الإسلام ، وحثِّهن على الصدقة ، وهذا إذا لم تترتَّب على ذلك مفسدة وخوف على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما .
وفيه أيضاً أن النساء إذا حضرن صلاة الرجال ومجامعَهم يكُنَّ بمعزل عنهم خوفاً من فتنةٍ او نظرةٍ أو فكرٍ ونحوِه . (1)
جاء في روايةٍ أخرى لهذا الحديث عند مسلم 6 :174 قولُ ابن جُريج راويها لشيخه عطاء بن أبي رباح : أحقاً على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يَفرُغ من خطبة الرجال فيُذكِّرُهُنَّ؟ قال عطاء : ((أي لعَمري إن ذلك لحقٌ عليهم ، ومالهم لا يفعلون ذلك؟)) .
وعن ابْنِ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ ، فَصَلَّى ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ، فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ ، وَأَتَى النِّسَاءَ ، فَذَكَّرَهُنَّ ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ ، وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ ، يُلْقِينَ النِّسَاءُ صَدَقَةً " قُلْتُ لِعَطَاءٍ : زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ ؟ قَالَ : " لَا ، وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ بِهَا حِينَئِذٍ ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ فَتَخَهَا ، وَيُلْقِينَ وَيُلْقِينَ " ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ : أَحَقًّا عَلَى الْإِمَامِ الْآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِّسَاءَ حِينَ يَفْرُغُ فَيُذَكِّرَهُنَّ ؟ قَالَ : " إِي ، لَعَمْرِي إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ ، وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؟ " (2)
قال القرطبي : " وقوله : " يُجَلِّسُ الرجال بيده " ، يعني : يشير عليهم بالجلوس ، وكأنهم ظنوا أنه قد كمّل الخطبة .
وأما نزوله - صلى الله عليه وسلم - إلى النساء ؛ فذلك ليسمعهن ، وقيل : هذا خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز للإمام اليوم قطع الخطبة ووعظ من بَعُد عنه . ويظهر أن دعوى خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - قاله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 6 :172 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2084)(1/505)
بذلك فيه بعد ؛ لعدم البيان ، وإنما يحمل هذا - والله أعلم- على أنه لم يقطع الخطبة ، ولم يتركها تركًا فاحشًا ، وإنما كان ذلك كله قريبًا ؛[ إذ ] لم يكن المسجد كبيرًا ، ولا صفوف النساء بعيدة ، ولا محجوبة ، والله أعلم .
وفيه من الفقه : هبة المرأة اليسير من مالها بغير إذن زوجها ، ولا يقال في هبة المرأة هذا : إن أزواجهن كانوا حُضُورًا ؛ لأن ذلك لم ينقل ، ولو نُقل ذلك فلم ينقل تسليم أزواجهن في ذلك ، ومن ثبت له حق فالأصل بقاؤه حتى يُصرِّح بإسقاطه ، ولم يصرَّح القوم ولا نُقل ذلك ، فصحّ ما قلناه ." (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ , ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ . فَقَالَ: " اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا " فَاجْتَمَعْنَ , فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ , ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا " . فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللهِ , وَاثْنَيْنِ ؟ قَالَ: فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ " (2)
قال المهلب: فيه من الفقه أن العالم إذا أمكنه أن يحدث بالنصوص عن الله ورسوله فلا يحدث بنظره ولا قياسه، هذا معنى الترجمة؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - حدثهم حديثًا عن الله لا يبلغه قياس ولا نظر، وإنما هو توقيف ووحي، وكذلك ما حدثهم به من سنته فهو عن الله أيضًا؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « أوتيت الكتاب ومثله معه » قال أهل العلم: أراد بذلك السنة التى أوتى. وفيه سؤال الطلاب العالم أن يجعل لهم يومًا يسمعون فيه عليه العلم، وإجابة العالم إلى ذلك، وجواز الإعلام بذلك المجلس للاجتماع فيه، وترجم له فى كتاب العلم هل يجعل للنساء يومًا على حده فى
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (8 / 7)
(2) - شعب الإيمان - (12 / 208)(9287 ) وصحيح البخارى- المكنز - (7310) وصحيح مسلم- المكنز - (6868 )(1/506)
العلم." (1)
الخلاصة :
(1) النساء كالرجال من حيث التكليف والتفقه في الدين .
(2) الإسلام اهتم بتعليم الرجال والنساء جميعاً أمور دينهم .
(3) ينبغي التركيز في الدروس الخاصة بالنساء على ما يهم النساء .
ــــــــ
55-اتخاذُه - صلى الله عليه وسلم - الكتابة وسيلةً في التعليم والتبليغ ونحوِهما:
ومن أساليبه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً التعليمُ عن طريق الكتابة،وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُتّابٌ أكثرُ من خمسةَ عشر كاتباً،يكتبون عنه القرآن،وكُتّابٌ آخرون خَصَّهم بكتابة رسائله إلى الآفاق والملوك لتبليغهم الإسلام ودعوتهم إليه،وكتاب آخرون خصهم بكتابة أمور اخرى،كما ترى تفصيل كل ذلك مُستوعباً في كتاب حافظ المغرب في عصره العلامة عبد الحي الكتاني : ((التراتيب الإدارية)) (2)
ومن الذين كانوا يكتبون القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه : الخلفاء الأربعة : أبو بكر،وعمر،وعثمان،وعلي،ومنهم زيد بنُ ثابت وأُبيّ بن كعب،والزبير بنث العوام،وخالد بن سعيد،وأخوه أبانُ بن سعيد بن العاص،وحنظلةُ بنُ الربيع،ومعاوية بنُ أبي سفيان،وغيرهم رضي الله عنهم،كانوا إذا نزل الوحيُ بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،دعاهم فكتبوه تلقِّياً من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - .وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أَذِنَ لبعض أصحابه بكتابة حديثه بل أمَرَ بعض أصحابِه بكتابتِه أيضاً ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا : إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، فَأَمْسَكْتُ
__________
(1) - شرح ابن بطال - (19 / 472)
(2) 1 :114 172 .(1/507)
عَنِ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ : اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلاَّ حَقٌّ. (1)
قال الخطابي : " يشبه أن يكون النهي متقدماً وآخر الأمرين الإباحة ، وقد قيل أنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارىء فأما أن يكون نفس الكتاب محظوراً وتقييد العلم بالخط منهياً عنه فلا . وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته بالتبليغ وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة ، والنسيان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لرجل شكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك ، وقال اكتبوها لأبى شاه خطبة خطبها فاستكتبها وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتباً في الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعمل بها الأمة وتناقلتها الرواة ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا فَتْحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ ، قَتَلَتْ هُذَيْلُ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ ، لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلاَ يُلْتَقَطُ سَاقِطُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو شَاهٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اكْتُبُوا لِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ ، ثُمَّ قَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 596)(6510) وسنن أبي داود - المكنز - (3648) صحيح
(2) - معالم السنن للخطابي 288 - (4 / 184)(1/508)
، وَفِي بُيُوتِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِلاَّ الإِذْخِرَ." (1)
وعَنْ أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِىٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ (2) قَالَ لاَ ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ (3) . قَالَ قُلْتُ فَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ . (4)
فى آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول أمر بكتابه؟ فقال: تمت اكتبوا لأبى فلان - ، وقد كتب على الصحيفة التى قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو. وقد كره قوم كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ. والقول الأول أولى للآثار الثابته بكتابة العلم.
ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذى هو أصل العلم، فكتبته الصحابة فى الصحف التى جمع منها المصحف، وكان للنبى، - صلى الله عليه وسلم - ، كُتَّاب يكتبون الوحى.
وإنما كره كتابه من كرهه، لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقى منه شىء لنبوِّ طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبى: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو فى الحائط.
وقال المهلب: فى حديث علىِّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصى، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخص به غيره، لقوله ويمينه:
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2434 ) وصحيح مسلم- المكنز -(3371 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 28)(3715)
(2) - أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أوحيَ إليه ، وإنما سأله أبو جُحيفة عن ذلك لأن جماعةً من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت لاسيما علياً أشياءَ من الوحي خَصَّهم النبي صلى الله عليه وسم بها لم يطَّلع غيرُهم عليها .
(3) - أي الورقة المكتوبة ، وقد كتب فيها أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (111 )
وكانت في هذه الصحيفة أحاديثُ أخرى في غير هذه الموضوعات الثلاثة ، كما ترى تفصيل ذلك في ((فتح الباري)) 1 :205 ، و((فيض الباري)) للشيخ أنور الكشميري 1 :213 .(1/509)
أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحل على الفهم الذى الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشىء غير ما هو ممكن فى غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصى للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جاء حديث أبى جحفة عند على لفظ العهد، فقال له: هل عهد إليك رسول الله بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فأجابه بالحديث." (1)
وقد أرسل صلى الله عليه وسم كُتُباً باسمِه الشريف إلى الآفاق والملوك،منها ما فيه الدعوةُ إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى،ومنها ما فيه بيانُ الأحكام وشرائع الإسلام للداخلين فيه،وقد حَفِظَتْ كُتُبُ السيرة والحديث والتاريخ نصوصُ تلك الكتب الكريمة وألفاظها .
وقد جُمِعَتْ تلك الكُتُب والرسائلُ في مجاميع مستقلّةٍ بعضُها مطبوع ومتداول،ومن أجمعها كتاب ((إعلام السائلين عن كُتُب سيد المرسلين)) - صلى الله عليه وسلم - ،لابن طولون المشقي،المتوفى سنة 953 رحمه الله تعالى (2)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّهُ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ بِهَذَا الْكِتَابِ : هَذَا الْكِتَابُ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ ، فَلَحِقَ بِهِمْ ، فَحَلَّ مَعَهُمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ : أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ النَّاسِ وَالْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ - قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ : عَلَى رَبَعَاتِهِمْ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَنَا رَبَاعَتِهِمْ - يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ : رَبَعَاتِهِمْ - وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَبَنُو الْحَارِثِ بْنُ الْخَزْرَجِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِبَاعَتُهُمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) - شرح ابن بطال - (1 / 198)
(2) - طَبَعه الأستاذ حسام الدين القدسي رحمه الله تعالى بدمشق قبل سنة 1348 . ومن الكتب الجامعة في هذا الموضوع كتاب ((مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)) للأستاذ محمد حميد الله ..(1/510)
وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النَّجَّارِ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْقِسْطِ وَالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رَبَاعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا مِنْهُمْ أَنْ يُعِينُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ أَيْدِيهِمْ عَلَى كُلِّ مَنْ بَغَى وَابْتَغَى مِنْهُمْ دِسْيَعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إِثْمٍ ، أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ . لَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ ، وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ ، وَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ ، وَأَنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنَ الْيَهُودِ فَإِنَّ لَهُ الْمَعْرُوفَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ ، وَلَا مُتَنَاصَرٌ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدٌ ، وَلَا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ ، وَأَنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ يُعْقِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هَذَا وَأَقْوَمِهِ وَأَنَّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا يُعِينُهَا عَلَى مُؤْمِنٍ وَأَنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا فَإِنَّهُ قَوَدٌ ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِالْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا كَافَّةً وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ أَوْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا أَوْ يُؤْوِيَهُ فَمَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَأَنَّكُمْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ ، وَأَنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ وَمَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ دِينُهُمْ ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَأَنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَأَنَّ لِيَهُودِ الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -(1/511)
، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصِيحَةَ وَالنَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ جَوْفُهَا حَرَمٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ يُخِيفُ فَسَادُهُ فَإِنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دَعُوا الْيَهُودَ إِلَى صُلْحِ حَلِيفٍ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ ، وَإِنْ دَعَوْنَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ الدِّينَ ، وَعَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَأَنَّ يَهُودَ الْأَوْسِ وَمَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ مَعَ الْبَرِّ الْمُحْسِنِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَنَّ بَنِي الشَّطْبَةِ بَطْنٌ مِنْ جَفْنَةَ ، وَأَنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ فَلَا يَكْسِبْ كَاسِبٌ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ ، لَا يَحُولُ الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَلَا آثَمٍ ، وَأَنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمَنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمَنٌ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ ، وَإِنَّ أَوْلَاهُمْ بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ الْبَرُّ الْمُحْسِنُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَوْلُهُ : بَنُو فُلَانٍ عَلَى رَبَاعَتِهِمِ الرَّبَاعَةُ هِيَ الْمَعَاقِلُ وَقَدْ يُقَالَ : فُلَانٌ رِبَاعَةُ قَوْمِهِ ، إِذَا كَانَ الْمُتَقَلِّدُ لِأُمُورِهِمْ ، وَالْوَافِدُ عَلَى الْأُمَرَاءِ فِي مَا يَنُوبُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا فِي فِدَاءِ الْمُفْرَحِ : الْمُثْقَلِ بِالدَّيْنِ ، يَقُولُ : فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِينُوهُ ، إِنْ كَانَ أَسِيرًا فُكَّ مِنْ إِسَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ جَنَى جِنَايَةَ خَطَأٍ عَقَلُوا عَنْهُ ، وَقَوْلُهُ : وَلَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانَ وَادَعَهُمْ . يَقُولُ : فَلَيْسَ مِنْ مُوَادَعَتِهِمْ أَنْ يُجِيرُوا أَمْوَالَ أَعْدَائِهِ ، وَلَا يُعِينُوهُمْ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ : وَمَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا فَهُوَ قَوَدٌ الِاعْتِبَاطُ : أَنْ يَقْتُلَهُ بَرِيًّا مُحَرَّمَ الدَّمِ ، وَأَصْلُ الِاعْتِبَاطِ فِي الْإِبِلِ : أَنْ تُنْحَرَ بِلَا دَاءٍ يَكُونُ بِهَا ، وَقَوْلُهُ : إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْعَقْلِ ، فَقَدْ جَعَلَ - صلى الله عليه وسلم - الْخِيَارَ فِي الْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ أَوْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِهِ الْآخَرِ : وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِي الْعَمْدِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنَ الْقَاتِلِ وَمُصَالَحَةٍ مِنْهُ لَهُ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ : وَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا أَوْ يُؤْوِيَهُ الْمُحْدِثُ : كُلُّ مَنْ أَتَى حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ الْآخَرِ : مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودٍ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَقَوْلُهُ : لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ عَنْ مَكْحُولٍ ، قَالَ : الصَّرْفُ التَّوْبَةُ ، وَالْعَدْلُ : الْفِدْيَةُ . وَهَذَا أَحَبُّ إِلِيَّ مِنْ(1/512)
قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْفَرِيضَةُ وَالتَّطَوُّعُ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ عَدْلُهُ . وَقَوْلُهُ : وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ ، فَهَذِهِ النَّفَقَةُ فِي الْحَرْبِ خَاصَّةً ، شَرْطٌ عَلَيْهِمُ الْمُعَاوَنَةُ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِ وَنَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُسْهِمُ لِلْيَهُودِ إِذَا غَزَوْا مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ سَهْمٌ " (1)
تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة» (المادة21) وقد جاء به القرآن الكريم قال تعالى ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء: 92].
وبين سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمة في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: 143]. ووضح سبحانه وتعالى أنها بكونها أمة إيجابية فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعوا إلى الفضائل، وتحذر من الرذائل، قال تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )[آل عمران: 110].
وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب،
__________
(1) - الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (443 ) صحيح لغيره(1/513)
اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس «من دون الناس» فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء.
ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس
وجعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة (23)، وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم - » والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الدولة فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى؛ لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال تعالى: ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [يوسف: 40].
يعني: «ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا(1/514)
باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة»
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ - أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) [الزمر: 2،3]. وقال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [النساء: 105] فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب، فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بماله أصل في شرع منزل.
إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56]. (1)
الخلاصة :
(1) الكتابة أحدى وأهم الوسائل التعليمية
(2) اهتم الإسلام بالكتابة منذ البداية ، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابة القرآن الكريم ، وكتبت المعاهدات والديات والرسائل وغيرها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
(3) على طالب العلم الاهتمام بالكتابة وتلخيص ما يسمعه أو يقرؤه ليحفظه.
ــــــــ
56-أمرُه - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه بتعلُّم اللغة السُّريانية:
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ:أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ ، قَالَ : إِنِّي وَاللهِ ، مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ ، قَالَ : فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ ، قَالَ :
__________
(1) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (1 / 495)(1/515)
فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ ، كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ ، كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ ، قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. (1)
قال الطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَمْرِهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ , وَقَوْلِهِ مَعَ ذَلِكَ: " إِنِّي لَا آمَنُ يَهُودًا عَلَى كُتُبِي "
عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَتُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ ؟ إِنَّهُ لَيَأْتِينِي كُتُبٌ " قَالَ: قُلْتُ: لَا . قَالَ: " فَتَعَلَّمْهَا " قَالَ: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " " أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ " " فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ , وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " " إِنِّي مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي " " فَلَمَّا تَعَلَّمْتُ لَهُ كُنْتُ أَكْتُبُ إِلَى يَهُودَ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِمْ , وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَوَجَدْنَا مَا كَانَ يَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كُتُبِ يَهُودَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ يَقْرَؤُهُ لَهُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَحْضُرُونَهُ , وَهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَى كِتْمَانِهِ بَعْضَ مَا فِيهِ , وَغَيْرُ مَأْمُونِينَ عَلَى تَحْرِيفِ مَا فِيهِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ , وَكَانَ مَا يَنْفُذُ مِنْ كُتُبِهِ إِلَى الْيَهُودِ جَوَابًا لِكُتُبِهِمْ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَتَحْتَاجُ الْيَهُودُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهِمْ إِلَى مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لِيَقْرَأَهُ عَلَيْهِمْ ؛ إِذْ كَانُوا لَا يُحْسِنُونَ الْعَرَبِيَّةَ , فَلَعَلَّهُ أَنْ يُحَرِّفَ مَا فِي كُتُبِهِ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُ , لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَا خَفَاءَ بِهِ , وَفِي قُلُوبِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا فِيهَا , فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْدًا أَنْ يَتَعَلَّمَ لَهُ السُّرْيَانِيَّةَ لَيَقْرَأَ كُتُبَهُمْ إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ قِرَاءَةً , فَيَأْمَنَ بِهَا كِتْمَانَ مَا فِيهَا , وَيَأْمَنَ بِهَا تَحْرِيفَ مَا فِيهَا , وَيَكُونَ كِتَابُهُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَرَدَ عَلَى الْيَهُودِ وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ يَقْرَؤُهُ عَامَّتُهُمْ , يَأْمَنُ فِيهِ مِنْ كِتْمَانِ بَعْضِ مَا فِيهِ , وَمِنْ تَحْرِيفِ مَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ مَا كَتَبَ بِهِ , فَهَذَا وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَنَا , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (2)
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2933) صحيح
(2) - شرح مشكل الآثار - (5 / 280)(2038و2039)(1/516)
فاستخدامُ اللغات الاجنبية في مجال التعليم والدعوة والتبليغ،عند الحاجةِ إليها مما ثبت من هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وهو أحدُ أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم .
ثم اللّغاتُ اليوم مفتاحُ العلوم الكونية التي أصبحَتْ ضروريةً،لمُجاراة العَجَم والفَرَنجة،والترقي بين الأمم،وصارت مفتاحاً للتعارُف الذي أصبح ضرورياً للعيش وأمنِ الإنسان على حقوقِه حين الاختلاط،وللشيخِ صفي الدين الحِلّي وهو ممن كان يحفَظُ عِدّة لُغاتٍ :
بقَدْرِ لُغاتِ المرءِ يَكثُرُ نفعُهُ وتلك له عندَ المُلِمّاتِ أعوانُ
فبادِرْ إلى حفظِ اللغاتِ مُسارعاً فكلُّ لِسانٍ في الحقيقةِ إنسانُ (1)
قلت : تعلم اللغات الأخرى لتبليغهم الدعوة أو تعليم المسلمين فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين ، أما أن تفرض اللغات الأجنبية على المسلم مقابل اللغة العربية وعلى حسابها ، فهذه مؤامرة دنيئة على الإسلام ، واللغة العربية هي أقدر اللغات على استيعاب كل العلوم ، ولكن اللغات الأجنبية –ولاسيما اللغة الإنكليزية قد فرضت بالقوة على المسلمين .
فاليهود كانوا يتكلمون العربية والسريانية ، وهم يعيشون في المدينة ، فلم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ليعلموا اللغة السريانية،بل أمر واحدا من أصحابه،فتعلمها خلال وقت قصير ، ولم يأمر بالباقين .
فالانبهار بهذه اللغات ما هو إلا نوع من الهزيمة النفسية التي يعاني منها المسلمون بعد سقوط الخلافة ، وعزوهم فكريا وثقافيا وعسكريا وسياسياً...
ولم تعد القضية نعلم اللغة الأجنبية فقط ، بل ثقافتهم وفكرهم وقيمهم الساقطة الهابطة ، والتغني بها لظن المغلوب أنه إذا قلد الغالب في كل شيء استرد فوته وعافيته ، فهذا غير صحيح بتاتا .
ولكن سيبقى المسلمون عالة على الأمم ولو تعلموا كل لغاتهم ، فنحن بغير الإسلام لا
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 171)(1/517)
قيمة لنا ولا وزن ولا اعتبار ، فإذا عاد الإسلام إلى الحياة عقيدة وعبادة وشريعة منهج حياة عندئذ تأتي خيرا العالم كله صاغرة لنا ، لأننا عندئذ نمثل الروح بالنسبة للجسد. (1)
الخلاصة :
(1) يجوز تعلم اللغات الأجنبية إذا اقتضت الحاجة ذلك .
(2) التوسع في تعلم اللغات الأجنبية يضر بالإسلام والمسلمين .
(3) الذين يروجون لتعلم اللغات الأجنبية ما هم إلا حفنة من المأجورين الذين باعوا دينهم بثمن بخس .
(4) لا يجوز أن تزاحم اللغات الأخرى اللغة العربية لغة الدين ، والذي لا يمكن فهمه بغيرها بشكل صحيح .
ــــــــ
57- قول المعلم لا أدري لما لا يدري جزء من العلم:
لقد عاب الله على الذين يتكلمون بغير علم،وذمهم في كتابه،وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وذلك لأن القائل بلا علم،يضل ولا يهدي،ويفسد ولا يصلح.وقول المرء لا أعلم أو لا أدري لما لا يعلم ولا يدري،ليس عيباً،ولا نقصاً في علمه وقدره،بل هو من تمام العلم .
ولما سأل الله رسله يوم القيامة بقوله : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (109) سورة المائدة
__________
(1) - انظر كتبنا (( موسوعة الغزو الفكري والثقافي ))
وكتاب (( هل البقاء للأقوى أم للأصلح))
وكتابنا (( المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية ))
وكتاب هويتنا أو الهاوية للمقدم(1/518)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ سَيَسْألُ المُرْسَلِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا أجَابَتْهُمْ بِهِ الأمَمُ التِي أرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَيْهَا فَيَقُولُونَ : لاَ عِلْمَ لَنَا يَارَبَّنا بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِكَ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيءٍ،وَأنْتَ تَعْلَمُ ظَاهِرَ النَّاسِ وَبَاطِنَهُمْ،وَأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ (1)
ولما سأل الله ملائكته بقوله {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (32) سورة البقرة
وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا : الأَرْضِ والسَّمَاءِ وَأَصْنَافِ الحَيَوانَاتِ والسَّهْلِ وَالجَبَلِ وَالبَحْرِ . . وَذَواتِها وَخَصَائِصِهَا وَأَفْعَالِها . . ثُمَّ عَرَضَ هذِهِ المُسَمَّيَاتِ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ لَهُمْ : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هذِهِ الأَشْيَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا تَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّني لَمْ أَخْلُق أَعْلَمَ مِنْكُمْ؟
قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : تَنزَّهَ اسْمُكَ يَارَبُّ ( سُبْحَانَكَ ) إِنَّنا لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا،وَهذِهِ الأَشْيَاءُ لاَ نَعْرِفُها،وَأَنْتَ العَلِيمُ بِكُلِّ شَيءٍ،الحَكِيمُ في خَلْقِكَ وَأَمْرِكَ،وَفِي تَعْلِيمِكَ مَا تَشَاءُ،وَمَنْعِكَ مَا تِشاءُ (2) .
والعلم ساحل لا بحر له،ولا يحيط به إلا من وسع كل شيء علماً جل جلاله.والبشر،كل البشر بضاعتهم في العلم قليلة،قال تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء ،
فإذا كان الأمر كذلك فلا حياء ولا عيب أن يقول المعلم أو غيره لا أدري .
يقول الماوردي في أدبه (3) : فإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم سبيل،فلا عار أن يجهل بعضه،وإذا لم يكن في جهل بعضه عار،لم يقبح به أن يقول لا أعلم فيما ليس يعلم . اه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 779)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 38)
(3) - أدب الدين والدنبا ص123.(1/519)
وإنما القبح كل القبح،أن يوهم ويدلس على الناس بكلام خاطئ مغلوط . والطلاب -وإن دلس عليهم معلمهم بإعطائهم معلومات خاطئة لينجو من موقف معين- إلا أنهم سوف يكتشفون ذلك إن عاجلاً أو آجلاً،ومن ثم تهتز صورته لديهم،ولا يثقون بعدها بالمعلومات والمواد التي يطرحها عليهم .
والمعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ،كان يقول لما لا يدري،لا أدري حتى يأتيه الوحي بذلك،ولم يمنعه أن يقول تلك المقالة قول حاسد أو منافق!،فتأمل ذلك وتدبره،يهون عليك الكثير .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ،قَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِى اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ،فَقَالَ الْيَهُودِىُّ وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ . فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِىِّ،فَذَهَبَ الْيَهُودِىُّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ،فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ،فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى،فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ،فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ،فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ،فَلاَ أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى،أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ » (1) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ؟ قَالَ :« لاَ أَدْرِى ». فَقَالَ : أَىُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ :« لاَ أَدْرِى ». قَالَ : فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ لَهُ :« يَا جِبْرِيلُ أَىُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ؟ ». قَالَ : لاَ أَدْرِى. قَالَ : أَىُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ ». قَالَ : لاَ أَدْرِى قَالَ :« سَلْ رَبَّكَ ». قَالَ : فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ انْتِفَاضَةً كَادَ يُصْعَقُ مِنْهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : مَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَىْءٍ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ لِجِبْرِيلَ : سَأَلَكَ مُحَمَّدٌ أَىُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ فَقُلْتَ لاَ أَدْرِى وَسَأَلَكَ أَىُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ فَقُلْتُ لاَ أَدْرِى فَأَخْبِرْهُ أَنَّ خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ وَأَنَّ شَرَّ الْبِقَاعِ الأَسْوَاقُ. (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2411 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6302 )
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (7 / 50) (13713) صحيح(1/520)
أما تلامذة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد ضربوا أروع الأمثلة في التأسي بمعلمهم - صلى الله عليه وسلم - ، فعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سُئِلَ عَنْ {وفَاكِهَةً وَأَبًّا}،فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ (1) .
وعَنِ الشَّعْبِيِّ،قَالَ : أَدْرَكْت أَصْحَابَ عَبْدِ اللهِ وَأَصْحَابَ عَلِيٍّ وَلَيْسَ هُمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ أَكْرَهُ مِنْهُمْ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ،قَالَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ. (2)
وعَنْ مَسْرُوقٍ،قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ،فَقَالَ : إِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ تَقُولَ لِمَا لاَ تَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ،إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ،قَالَ : " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا العِظَامَ وَالمَيْتَةَ مِنَ الجَهْدِ،حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجُوعِ،قَالُوا : رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فَقِيلَ لَهُ : إِنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا،فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا،فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ،فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ" (3)
وعن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ : سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ " لَا أَعْلَمُ "،ثُمَّ قَالَ : " وَيْلٌ لِلَّذِي يَقُولُ لِمَا لَا يَعْلَمُ : إِنِّي أَعْلَمُ " وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ،عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ : " مَا أَبْرَدَهَا عَلَى الْكَبِدِ،مَا أَبْرَدَهَا عَلَى الْكَبِدِ " فَقِيلَ لَهُ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : " أَنْ تَقُولَ لِلشَّيْءِ لَا تَعْلَمُهُ : اللَّهُ أَعْلَمُ "
وعَنِ الْقَاسِمِ قَالَ : " يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَسْأَلُونَا عَنْهُ،وَلَأَنْ يَعِيشَ الْمَرْءُ جَاهِلًا إِلَّا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَعْلَمُ " (4)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (15 / 500)(30731) صحيح لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (15 / 499) (30727) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4822 )
(4) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ(998 )(1/521)
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ،عَنْ فَرِيضَةٍ مِنَ الصُّلْبِ فَقَالَ : " لَا أَدْرِي " فَقِيلَ لَهُ : فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَهُ ؟ فَقَالَ : " سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ : لَا أَدْرِي " (1)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،" إِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا أَعْلَمُ فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ " (2)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا فَكَثِيرًا مَا كَانَ يُسْأَلُ فَيَقُولُ : " لَا أَدْرِي " ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَيَّ فَيَقُولُ : " تَدْرِي مَا يُرِيدُ هَؤُلَاءِ ؟ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا ظُهُورَنَا جِسْرًا لَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ " قَالَ أَبُو دَاوُدَ :" قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ :لَا أَعْلَمُ نِصْفُ الْعِلْمِ "
وَقَالَ الرَّاجِزُ :
فَإِنْ جَهِلْتَ مَا سُئِلْتَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْهُ
فَلَا تَقُلْ فِيهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ إِنَّ الْخَطَأَ مُزْرٍ بِأَهْلِ الْعِلْمِ
وَقُلْ إِذَا أَعْيَاكَ ذَاكَ الْأَمْرُ مَا لِي بِمَا تَسْأَلُ عَنْهُ خَبَرُ
فَذَاكَ شَطْرُ الْعِلْمِ عَنِ الْعُلَمَا كَذَاكَ مَا زَالَتْ تَقُولُ الْحُكَمَا (3)
والكلام في ذكر أقاويل الصحابة والسلف يطول،وفيما ذكر يكفي ويشفي .
الخلاصة:
(1) القائل بلا علم مذموم أبداً في كتاب الله،وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(2) القائل بلا علم،يفسد ولا يصلح .
(3) عدم المعرفة ليس عيباً ولا نقصاً في حق المعلم .
(4)
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (996 ) صحيح
(2) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (1002 )
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ(1005 ) صحيح(1/522)
الحياء والخجل من قول ( لا أدري ) ليس سبباً مقنعاً في تمرير المعلومات الخاطئة على الطلاب
(5) يجب على المعلم أن يغرس هذا المبدأ في نفوس طلابه،ويؤكد عليه .
(6) قول لا أعلم . جزء من العلم .
- - - - - - - - - - - - - -(1/523)
الخاتمة
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُعلِّماً اختاره الله تعالى لتعليم البشرية دينَ الله وشريعتَه الخاتمةَ والخالدةَ،وليس في الدنيا أغلى على الله من (دين الله تعالى)،فاختار الله سبحانه لنشرِه وتعليمِه أفضلَ الأنبياء والرُّسُل محمداً عليه وعليهم أفضلُ الصلاة والسلام.
وكان هذا المُعلِّم المصطفى من الله تعالى لتبليغ شريعتِه للناس،معلِّماً بمظهَرِه ومَخبَرِه،وحالِه ومقالِه،وجميع أحوالِه،فتكامُلُ شخصيتِه الشريفة أسلوبٌ مُعلِّم للمُتعلِّمين أن يكونوا كمثالِه الشريف وهَدْيِه المُنيف .
ومن أهم صفاتِ المعلِّم أن يكون في ذاته مُتكامِل المحاسِن عقلاً وفضلاً،وعلماً وحكمةً،ومَنظراً ورُواءً،ولَباقةً ولَياقةً،وحركةً وسكوناً،وطِيبَ حديثٍ،وذكاءَ رائحةٍ،ونظافةَ ثيابٍ،وجمالَ طَلْعةٍ،وحُسنَ منطِقٍ وتَصرُّفٍ وإدارةٍ ...
وقد كان كلُّ هذا في ذاتِ الرسول المُعلِّم - صلى الله عليه وسلم - على أتمِّ وجهٍ وأعلى حُسنٍ واكتمال،فهو معلِّم بذاتِه الشريفة النَّموذجية لكل متعلِّم ومُسترشِد،فهو - صلى الله عليه وسلم - تَتَمثَّل فيه غايةُ التعليم بأساليبِه المختلفة،لأن كلَّ تلك الوسائل والأساليب تتوجَّه لأن يكون المسلمُ مُحقِّقاً لقوله تعالى : (كنتم خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناس)،فهذا الكمالُ الجامعُ فيه - صلى الله عليه وسلم - غايةُ الغايات من جميع الأساليب،وزُبدةُ التعليم والتهذيب،ولقد حَظِيَتْ ذاتُه الشريفة بأعلى الثناء العزيز الفريد،المؤكَّد من الله تعالى كلَّ التأكيد،بقوله تعالى : (وإنك لَعَلى خُلُقٍ عظيم).
فلا غرابةَ أن تُعدَّ محاسِنُه الشريفة من أساليب التعليم،وأيُّ مُعلِّمٍ أثَّر في البشرية تأثيرَه،وتقبَّل الناسُ على اختلاف ألوانِهم وألسنتِهم دينَه وشريعتَه؟ واتخذوه القدوة والأسوةَ الحسنةَ في سائر شؤونِ الحياة سوى هذا الرسول الكريم والنبي العظيم،عليه من الله أفضلُ الصلاة والتسليم . (1)
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 171)(1/524)
إن ما طالعته آنفاً،جزء يسير من سيرته - صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم،وما تركت أكثر مما ذكرت،وحسبي أني مهدت السبيل لك،ودللتك على ينبوع لا ينضب،ونهر لا يدرى أوله من آخره،فشمر عن ساعد الجد واستن بمن أمرنا بالاستنان به،فهو لعمر الله الأسوة الحسنة والسراج المنير . وإنه لمن المؤسف أن يعدل معلمونا عن سنَّة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويطلبوا غيرها وهي دونها بمراحل.ولو تقصينا كثيراً من الآثار النبوية لخرجنا بكمٍّ هائل من الفوائد التربوية والتعليمية،ولكن نشكو إلى الله ضعف همتنا وقلة علمنا .
أخي المعلم .. إن الأمة تعلِّق عليك آمالاً كبيرة , لأنها قدمت لك أغلى ما تملك،قدمت لك ثمرة فؤادها،وفلذة كبدها،فماذا ستفعل فيها،هل سترعاها وتؤدي ما اؤتمنت عليه،أم ماذا ؟
ولعل الحديث التالي يغني عن كثير من الكلام،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ رَاعٍ، وَكُلَّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَامْرَأَةُ الرَّجُلِ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " (1) . ..
ألا فاتقوا الله في أولاد المسلمين ولا تغشوهم،وعلموهم العلم والأدب،وقدموا لهم النصيحة ولا تبخلوا عنهم بشيء فهم عماد المستقبل وعليهم تقوم الأمة .
والله أعلم .. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماُ كثيراً إلى يوم الدين،والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 155) (8330 ) وصحيح البخارى- المكنز - (5188)(1/525)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير الميسر
3. تفسير ابن أبي حاتم
4. تفسير ابن كثير - دار طيبة
5. تفسير السعدي
6. تفسير الشعراوي
7. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
8. تفسير القرطبي موافق للمطبوع
9. فى ظلال القرآن موافقا للمطبوع
10. أخبار مكة للفاكهي
11. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
12. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
13. الأدب المفرد
14. الترغيب والترهيب للمنري
15. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
16. السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد
17. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
18. الشمائل المحمدية للترمذي
19. الفوائد لتمام 414
20. المجالسة وجواهر العلم (333)
21. المدخل إلى السنن الكبرى
22. المستدرك للحاكم مشكلا
23. المسند الجامع
24. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (852)
25. المعجم الأوسط للطبراني
26. المعجم الصغير للطبراني
27. المعجم الكبير للطبراني
28. جامع الأصول في أحاديث الرسول
29. دلائل النبوة للبيهقي
30. سنن أبي داود - المكنز
31. سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة
32. سنن ابن ماجه- المكنز
33. سنن الترمذى- المكنز
34. سنن الدارقطنى- المكنز
35. سنن الدارمى- المكنز
36. سنن النسائي- المكنز
37.(1/526)
شرح مشكل الآثار (321)
38. شرح معاني الآثار (321)
39. شعب الإيمان (458)
40. صحيح ابن حبان
41. صحيح ابن خزيمة مشكل
42. صحيح البخارى- المكنز
43. صحيح مسلم- المكنز
44. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة
45. كشف الأستار
46. مجمع الزوائد
47. مسند أبي عوانة مشكلا
48. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
49. مسند أحمد (عالم الكتب)
50. مسند أحمد - المكنز
51. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار
52. مسند الحميدي - المكنز
53. مسند الشاشي 335
54. مسند الشاميين 360
55. مسند الطيالسي
56. مصنف ابن أبي شيبة
57. مصنف عبد الرزاق مشكل
58. معرفة السنن والآثار للبيهقي
59. معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
60. موسوعة السنة النبوية
61. موطأ مالك- المكنز
62. الإصابة في معرفة الصحابة
63. فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر
64. إبراز الحكم من حديث رفع القلم
65. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
66. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
67. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي
68. تحفة الأحوذي
69. تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام
70. جامع العلوم والحكم محقق
71. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
72. شرح ابن بطال
73. شرح النووي على مسلم
74. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
75. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
76.(1/527)
عون المعبود
77. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين
78. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
79. فيض الباري شرح صحيح البخاري
80. فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
81. معالم السنن للخطابي
82. الرسول المعلم ( وأساليبه في التعليم -للشيخ: عبد الفتاح أبو غدة
83. نداء إلى المربين
84. زاد المعاد في هدي خير العباد - (3 / 307)
85. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
86. تأملات في السيرة النبوية لمحمد السيد الوكيل
87. إحياء علوم الدين ط . دار الحديث .
88. النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
89. تَفْسِيرُ سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
90. إعداد المعلم . د / عبد الله عبد الحميد محمود
91. سيرة ابن هشام
92. http://www.rasoulallah.net/subject2.asp?lang=ar&parent_id=108&sub_id=1164
93. قطوف من الشمائل المحمدية
94. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
95. صِفَةُ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ
96. الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ لِلْبَيْهَقِيِّ
97. عدة الصابرين لابن القيم الجوزية
98. فتح القدير . محمد بن على الشوكاني
99. حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ جامع الحديث
100. مقدمة ابن خلدون
101. أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
102. الموسوعة الفقهية الكويتية
103. حاشية ابن عابدين
104. مغني المحتاج
105. مواهب الجليل
106. المغني لابن قدامة
107. من أدب الإسلام أبو غدة
108. زاد المعاد لابن القيم
109. دلائل التوحيد للقاسمي طبعة دمشق
110. الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل
111. المواهب اللدنية بشرح الزرقاني .
112. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
113. مختار الصحاح
114.(1/528)
المجموع للنووي
115. إعلام الموقعين
116. شرح المنتهى
117. الموافقات للشاطبي
118. الآداب الشرعية
119. النهاية في الحديث والأثر لابن الأثير
120. قصة قارون دروس وعبر للمؤلف
121. قصة أصحاب القرية دروس وعبر للمؤلف
122. الأمثال في القرآن الكريم . لابن القيم الجوزية تحقيق سعيد محمد نمر الخطيب ( ط.دار المعرفة )
123. الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ
124. مفتاح دار السعادة لابن القيم
125. الفتاوى الكبري لابن تيمية
126. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
127. شرح السنة للبغوي
128. التراتيب الإدارية عبد الحي الكَتّاني رحمه الله تعالى
129. أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ
130. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للصلابي
131. المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان
132. السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ
133. الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ
134. الفِكْر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي
135. الاعتصام للشاطبي - ط دار ابن عفان
136. حاشية السندي على ابن ماجه
137. نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم
138. فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم للعلامة شبّير أحمد العثماني
139. منهَجُ السلف في السؤال عن العلم وفي تعلُّم ما يَقَع وما لم يَقَع لأبي غدة
140. مجموع فتاوى ومقالات ابن باز
141. الفتوحات الربانية على الأذكار النووية للشيخ ابن عَلاّن
142. التراتيب الإدارية الكتاني
143. نفح الطيب للتلمساني
144. المِرقاة شرح المشكاة لعلي القاري 4
145. البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع
146. سير أعلام النبلاء
147. مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
148. تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ
149. الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ
150. أَمَالِي ابْنِ بِشْرَانَ
151. التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ
152.(1/529)
الفتاوى المعاصرة في الحياة الزوجية للمؤلف
153. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للأستاذ محمد حميد الله
154. الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ
155. موسوعة الغزو الفكري والثقافي للمؤلف
156. هل البقاء للأقوى أم للأصلح للمؤلف
157. المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية للمؤلف
158. هويتنا أو الهاوية للمقدم
159. أدب الدين والدنبا الماوردي
160. جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ
161. معالم في الطريق بتحقيقي
162. الشاملة 3
163. برنامج قالون
164. المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - فؤاد شلهوب
165. دراسات في الحديث النبوي . د/ محمد لقمان الأعظمي الندوي .
166. http://www.rasoulallah.net/subject2.asp?lang=ar&parent_id=108&sub_id=1145
167. http://islamport.com/d/3/amm/1/121/2261.html(1/530)
الفهرس العام
مدخل عام ... 9
الباب الأول ... 17
صفات ينبغي توفرها في المعلم ... 17
وفيه المباحث التالية : ... 17
] 1 [ إخلاصُ العلم لله: ... 18
] 2[ صدق المعلم : ... 21
] 3[ مطابقة القول العمل : ... 24
] 4[ العدل والمساواة : ... 32
] 5[ التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة : ... 39
] 6[ تواضع المعلم : ... 42
] 7[ شجاعة المعلم : ... 47
]8 [مزاح المعلم مع تلاميذه : ... 51
]9[ الصبر واحتمال الغضب : ... 54
]10[ تجنب الكلام الفاحش البذيء : ... 58
]11[ استشارة المعلم لغيره : ... 61
الباب الثاني ... 65
مهمات وواجبات المعلم ... 65
]2[ إسداءُ النصيحة للمتعلم : ... 70
]3[ الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن : ... 74
]4[ عدم التصريح بالأسماء أثناء التوبيخ : ... 82
]5[ إلقاء السلام على المتعلِّم قبل الدرس وبعده : ... 86(1/531)
]6[ استخدام العقوبات أثناء التعليم : ... 91
]7[ تقديم المكافآت للمتعلم : ... 99
الباب الثالث ... 103
صفات الرسول المعلم ... 103
المبحث الأول ... 104
كلمةٌ موجزةٌ عن شَخْصيةِ الرسول المعلِّم ... 104
المبحث الثاني ... 119
بيان خصائص الرسول المعلِّم وفضائِله ... 119
1 فأمّا الوجه الأول في كمال خَلْقِهِ بعد اعتدال صورته،فيكون بأربعة أوصاف : ... 120
2 وأما الوجه الثاني في كمالِ خُلُقه،فيكون بسِتّ خِصال : ... 121
3 وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله،فمعتَبَرٌ بثمانِ خصال : ... 125
4 وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله،فمختَبَرٌ بثمانِ خِصال : ... 128
الباب الرابع ... 136
أساليب الرسول ( التعليمية ... PAGEREF _Toc233253995 \h 136
]1[ تهيئة المتعلِّم لاستقبال العلم : ... 140
]2[ الاتصال السمعي والبصري بين المعلم والمتعلم : ... 147
أولاً : الاتصال السمعي : منها : ... 148
أ ... طريقة الكلام ( السرد – الشرح ) ... 148
ب- عدم التشدق في الكلام وتكلف السجع : ... 149(1/532)
ت – رفع الصوت ( أو تغيير نبرات الصوت ) بالتعليم ... 151
ث – استمرار ا لمعلم في الإلقاء وعدم قطعه : ... 152
ج- السكوت أثناء الإلقاء ( الشرح ) ... 153
ثانياً : الاتصال البصري : منه : ... 154
أ - إدامة الاتصال النظري بين المعلم والمتعلم : ... 154
ب - استخدام تعابير الوجه : ... 156
]3[ الأسلوب العملي في التعليم : ... 159
أ - الأسلوب العملي من قبل المعلم : ... 159
ب - الأسلوب العملي من قبل المتعلم : ... 164
(ج) عن طريق المعلم والمتعلم ... 166
]4[ عرض المادة العلمية بأسلوب يناسب عقل الطالب وفهمه : ... 167
]5[ أسلوب المحاورة والإقناع العقلي : ... 172
]6[ التعليم عن طريق القصص : ... 181
]7[ ضرب الأمثال أثناء التعليم : ... 192
]8[ أسلوب التشويق في التعليم : ... 210
]8[ استخدام الإيماءات ( حركات اليدين والرأس ) في التعليم ... 215
أحدها : زيادة بيان وإيضاح وتأكيد على الكلام : ... 215
ثانيها : جذب الانتباه وترسيخ بعض المعاني في الذهن : ... 220
ثالثها طلب الاختصار : ... 228
]10[ استخدام الرسومات للتوضيح والبيان : ... 230
]11[ توضيح المسائل المهمة عن طريق التعليل: ... 237
]12[ ترك استخراج الجواب للمتعلم : ... 243(1/533)
]13[ استخدام التكرار في التعليم: ... 246
فأولاً : تكرار الكلمات : ... 246
ثانياً : تكرار الاسم : ... 253
]14[ استخدام أسلوب التقسيم في التعليم : ... 255
]15[ استخدام أسلوب الاستفهام أثناء التعليم : ... 257
]16[ طرح بعض المسائل العلمية المهمة لاختبار مقدرة الطالب العقلية: ... 261
]17[ حثُّ المعلم طلابَه على طرح الأسئلة : ... 271
]18[ تقديم السائل من خلال سؤاله،وإجابته بما يناسب حاله : ... 279
أ - معاملة السائل من جهة جهله : ... 279
ب - معاملة السائل من جهة ما هو أنفع له : ... 281
]19[ التعليق على إجابة المتعلم : ... 283
]20[تأخير جواب السائل لمصلحة معينة : ... 290
]21[عدم السخرية من سؤال الجاهل : ... 298
]22[إعادة السؤال على السائل لتنبيهه إلى السؤال الأهم: ... 301
]23[تأخير جواب السائل إذا كان مرتبطا بشيء عمليٍّ: ... 304
]24[السكوت عن جواب السائل ساعة أو نحوها حسب مقتضى الحال : ... 305
[25]السؤال واحد والجواب مختلف حسب طبيعة السائل : ... 306
]26[استخدام القياس أثناء التعليم أو الإجابة على الأسئلة: ... 316
]27[الحوار المشوق مع المتعلم : ... 322
]28[هل يخص بعض طلابه ببعض العلم دون غيرهم ؟ : ... 330
]30[الإيجاز في الموعظة : ... 344
]31[انتِهازُه - صلى الله عليه وسلم - المناسباتِ العارِضةَ في التعليم: ... 351(1/534)
]32[القراءة على العالم : ... 370
]33 [ترك الجدال والتنازع الذي يؤدي إلى نسيان المعلم بعض أفكاره: ... 372
]34[ النهي عن كثرة الأسئلة على المعلم : ... 373
]35[حَضُّه - صلى الله عليه وسلم - على محوِ العاميّة وتحذيرُه من الفتور في التعليم والتعلُّم : ... 374
]36[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسيرة الحسنة والخلق العظيم: ... 379
]38[رِعايتُه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال: ... 391
]39[رعايتُه - صلى الله عليه وسلم - الفروقَ الفردية في المتعلمين: ... 401
]40[ابتداؤه - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم: ... 415
]41[إجابتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ عما سأل عنه: ... 420
]42[جوابُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه: ... 428
]43[لَفْتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه: ... 434
]44[استِعادتُه - صلى الله عليه وسلم - السؤالَ من السائِل لإيفاء بيان الحكم: ... 438
]46[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه: ... 451
]47[تعليمه - صلى الله عليه وسلم - بالمُمازَحةِ والمُداعَبة: ... 456
]48[تأكيدُه - صلى الله عليه وسلم - التعليم بالقَسَم: ... 461
]49[إمساكُه - صلى الله عليه وسلم - بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه: ... 472
]50[إبهامُه - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ لحملِ السامِع على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه: ... 478
]51[إجمالُه - صلى الله عليه وسلم - الأمر،ثم تفصيلُه ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم: ... 482
]52[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب والترهيب: ... 493
]53[اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه: ... 499
]54[اهتمامُه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم النساء ووعظِهن: ... 504(1/535)
]55[اتخاذُه - صلى الله عليه وسلم - الكتابة وسيلةً في التعليم والتبليغ ونحوِهما: ... 507
]56[أمرُه - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه بتعلُّم اللغة السُّريانية: ... 515
]57[ قول المعلم لا أدري لما لا يدري جزء من العلم: ... 518
الخاتمة ... 524(1/536)