الأساليبُ النَّبويَّةُ في التَّعليم
جمعُ وإعدادُ
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ - 2009 م
بهانج دار المعمور
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
لقد أكد القرآن الكريم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلمٌ للناس والبشرية جميعاً،على أميته وصحراوية بيئته.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة
وقال تعالى: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} (79) سورة النساء.
وكذلك أثبتت السنة المطهرة أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلمٌ هادٍ بصير. فقد روى ابن ماجه في سننه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ،فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ،فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ،إِحْدَاهُمَا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ،وَيَدْعُونَ اللَّهَ،وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ،هَؤُلاَءِ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ،وَيَدْعُونَ اللَّهَ،فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ،وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ،وَهَؤُلاَءِ يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ،وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا , فَجَلَسَ مَعَهُمْ. (1)
إلى جانب ذلك أثبت التاريخ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معلماً وأي معلم؟ فنظرة يسيرة إلى ما كانت عليه البشرية قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى ما آلت إليه البشرية بعد رسالته، تعطينا أوضح شاهد ودليل على ثبوت ذلك. فأي معلم من المربين تخرَّج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم، الذي تخرج من تحت يديه هؤلاء الأصحاب والأتباع؟ فكيف كانوا قبله؟ وكيف صاروا بعده؟! (2)
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (1 / 155)(229) حسن لغيره
(2) - انظر معالم في الطريق بتحقيقي- (1 / 16) جيل قرآني فريد(1/1)
إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلم المربي الفريد الأوحد، وهذا يذكرنا بكلمة طيبة لبعض الجهابذة الأصوليين، يقول فيها: "لو لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معجزة إلا أصحابه، لكفوه لإثبات نبوته".
هذا المعلم للخير - صلى الله عليه وسلم - رغم أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، قد منحه الله تعالى العلم الذي لا يدانيه أحد من البشر، وأتم عليه النعمة بما آتاه من شخصية فذة جامعة فريدة، وامتن عليه بقوله سبحانه: { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء .
فنهض - صلى الله عليه وسلم - ينشر العلم في الناس ويذيعه بينهم، وكان بحق المعلم الأول للخير في هذه الدنيا، في جمال بيانه، وفصاحة لسانه، ونصاعة منطقه، وحلاوة أسلوبه، ولطف إشارته، وإشراق روحه، ورحابة صدره، ورقة قلبه، ووفرة حنانه وحكيم شدته، وعظيم انتباهه، وسمو ذكائه، وبالغ عنايته، وكثير رفقه بالناس، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا".
ولقد حذر هذا المعلِّم الكريم من العلم الذي لا ينفع، حتى جعل ذلك دعاءً له يدعو به في أكثر أحيانه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تمثلت شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - المعلم في الرأفة والرحمة، وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم، والحرص عليه، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة، بالمكان الأسمى والخلق الأعلى، قال الله تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (128) سورة التوبة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخير في تعليمه من الأساليب أحسنها وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدها تثبيتا للعلم في ذهنه وأكثرها مساعدة على إيضاًحه له.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُلوِّن الحديث لأصحابه ألوانا كثيرة، فتارة يكون سائلاً، وتارة يكون مجيباً وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيده على ما سأل، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه، وتارة يصحب كلامه القسم بالله تعالى، وتارة يلفت السائل عن سؤاله(1/2)
لحكمة بالغة منه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يُعلم بطريقة الكتابة، وتارة بطريق الرسم، وتارة بطريق التشبيه أو التصريح، وتارة بطريق الإبهام أو التلويح. (1)
هذا وقد انتبه المسلمون أخيراً إلى خطورة استيراد مناهج للتعليم سواء من الشرق أو الغرب ، حيث إنها تمثل ثقافةً وفكراً مختلفاً تمام الاختلاف عن منابع ثقافتنا ومثلنا العليا، والفت العديد من الكتب في هذا المجال ، ومن أهمها كتابان :
الأول - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم للشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله ، وهو كتاب قيِّمٌ ومليء بالفوائد ،وهو مطبوع ومتداول وعدد صفحاته (238) صفحة من القطع المتوسط.
وقد ذكر فيه أربعين نوعاً من أنواع الأساليب النبوية ، ولكننا يمكن أن ندمج بعضها مع بعض فتصبح دون ذلك ، والأمثلة فيه كلها مخرجة من مصادرها ، ولكنها ليست بالكثيرة ، فهو يأتي لكل قاعدة ببعض الأمثلة وأحياناً بمثال واحد .
والثاني - كتاب (( المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - )) تأليف الشيخ الفاضل فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب.
وهو موجود بمكتبة صيد الفوائد :
http://saaid.net/book/open.php?cat=5&book=282
وغيرها على النت .
والكتاب حوالي 80صفحة من القطع المتوسط ، وقد قسمه لمدخل و ثلاثة أقسام وخاتمة:
القسم الأول-صفات ينبغي توفرها في المعلم ، وفيه أحد عشر موضوعاً
القسم الثاني-( مهمات وواجبات المعلم ) وفيه ستة موضوعات ...
القسم الثالث - ( طرق وأساليب التعليم ) والثالث فيه عشرون موضوعاً
وفي الغالب يمهد لكل موضوع ثم يأتي بالأحاديث المناسبة ، ويعلق عليها في الغالب تعليقات نافعة ومفيدة ، وهذا التقسيم دقيق وجيد . ويختم كل بحث بخلاصة .
__________
(1) - انظر كتاب : الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 12)(1/3)
ومما يؤخذ عليه - بالرغم من أهميته - هو أن الأحاديث لم يشكل حديثاً واحدا منها والآيات كذلك - على قلتها- ، فقد وقعت أخطاء مطبعية لهذا السبب ، وهو يخرجها ولكن لم يسر على وتيرة واحدة في ذلك ، وكثيرا ما يترك التحريج فلا يذكر الجزء والصفحة أو رقم الحديث .
والأحاديث التي ليست في الصحيحين يعتمد في الغالب كلام الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله عليها .
ولكنه - مع ذلك - يبقى من الكتب النافعة في هذا المجال ، ولكنه يحتاج لتحقيق علمي لاستدراك هذه الملاحظات .
وقد رأيت أن أقوم بجمع ما تناثر في هذا الموضوع الجلل ، والكتابان اللذان أشرت إليهما استفدت منهما كثيرا ، ولكني لم أقف عندهما فقط ، بل تجاوزتهما كثيراً.
فأما هذا الكتاب فقد قسمته إلى مدخل وأربعة أبواب :
الباب الأول=صفات ينبغي توفرها في المعلم
الباب الثاني= مهمات وواجبات المعلم
الباب الثالث= صفات الرسول المعلم
الباب الرابع= أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية
ثم خاتمة .
وهذه هي مفصلة :
الباب الأول=صفات ينبغي توفرها في المعلم وفيه أحد عشر مبحثاً
] 1 [ إخلاصُ العلم لله
] 2[ صدق المعلم
] 3[ مطابقة القول العمل
] 4[ العدل والمساواة
] 5[ التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة
] 6[ تواضع المعلم
] 7[ شجاعة المعلم(1/4)
]8 [مزاح المعلم مع تلاميذه
]9[ الصبر واحتمال الغضب
]10[ تجنب الكلام الفاحش البذيء
]11[ استشارة المعلم لغيره
الباب الثاني= مهمات وواجبات المعلم وهي سبعة :
]1[ غرس العقيدة الصحيحة وتقوية الإيمان خلال التعليم
]2[ إسداءُ النصيحة للمتعلم
]3[ الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن
]4[ عدم التصريح بالأسماء أثناء التوبيخ
]5[ إلقاء السلام على المتعلِّم قبل الدرس وبعده
]6[ استخدام العقوبات أثناء التعليم
]7[ تقديم المكافآت للمتعلم
الباب الثالث= صفات الرسول المعلم وفيه مبحثان
المبحث الأول-كلمةٌ موجزةٌ عن شَخْصيةِ الرسول المعلِّم
المبحث الثاني-بيان خصائص الرسول المعلِّم وفضائِله
الباب الرابع= أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعليمية
]1[ تهيئة المتعلِّم لاستقبال العلم
]2[ الاتصال السمعي والبصري بين المعلم والمتعلم
]3[ الأسلوب العملي في التعليم
]4[ عرض المادة العلمية بأسلوب يناسب عقل الطالب وفهمه
]5[ أسلوب المحاورة والإقناع العقلي
]6[ التعليم عن طريق القصص
]7[ ضرب الأمثال أثناء التعليم
]8[ أسلوب التشويق في التعليم
]8[ استخدام الإيماءات ( حركات اليدين والرأس ) في التعليم
]10[ استخدام الرسومات للتوضيح والبيان
]11[ توضيح المسائل المهمة عن طريق التعليل
]12[ ترك استخراج الجواب للمتعلم(1/5)
]13[ استخدام التكرار في التعليم
]14[ استخدام أسلوب التقسيم في التعليم
]15[ استخدام أسلوب الاستفهام أثناء التعليم
]16[ طرح بعض المسائل العلمية المهمة لاختبار مقدرة الطالب العقلية
]17[ حثُّ المعلم طلابَه على طرح الأسئلة
]18[ تقديم السائل من خلال سؤاله،وإجابته بما يناسب حاله
]19[ التعليق على إجابة المتعلم
]20[تأخير جواب السائل لمصلحة معينة
]21[عدم السخرية من سؤال الجاهل
]22[إعادة السؤال على السائل لتنبيهه إلى السؤال الأهم
]23[تأخير جواب السائل إذا كان مرتبطا بشيء عمليٍّ
]24[السكوت عن جواب السائل ساعة أو نحوها حسب مقتضى الحال
[25]السؤال واحد والجواب مختلف حسب طبيعة السائل
]26[استخدام القياس أثناء التعليم أو الإجابة على الأسئلة
]27[الحوار المشوق مع المتعلم
]28[هل يخص بعض طلابه ببعض العلم دون غيرهم ؟
]30[الإيجاز في الموعظة
]31[انتِهازُه - صلى الله عليه وسلم - المناسباتِ العارِضةَ في التعليم
]32[القراءة على العالم
]33[الجدال والتنازع يؤدي إلى نسيان المعلم بعض أفكاره
]34[ النهي عن كثرة الأسئلة على المعلم
]35[حَضُّه - صلى الله عليه وسلم - على محوِ العاميّة وتحذيرُه من الفتور في التعليم والتعلُّم
]36[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسيرة الحسنة والخلق العظيم
]37[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - الشرائعَ بالتدريج
]38[رِعايتُه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال
]39[رعايتُه - صلى الله عليه وسلم - الفروقَ الفردية في المتعلمين
]40[ابتداؤه - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم
]41[إجابتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ عما سأل عنه(1/6)
]42[جوابُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه
]43[لَفْتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه
]44[استِعادتُه - صلى الله عليه وسلم - السؤالَ من السائِل لإيفاء بيان الحكم
]46[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه
]47[تعليمه - صلى الله عليه وسلم - بالمُمازَحةِ والمُداعَبة
]48[تأكيدُه - صلى الله عليه وسلم - التعليم بالقَسَم
]49[إمساكُه - صلى الله عليه وسلم - بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه
]50[إبهامُه - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ لحملِ السامِع على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه
]51[إجمالُه - صلى الله عليه وسلم - الأمر،ثم تفصيلُه ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم
]52[تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب والترهيب
]53[اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه
]54[اهتمامُه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم النساء ووعظِهن
]55[اتخاذُه - صلى الله عليه وسلم - الكتابة وسيلةً في التعليم والتبليغ ونحوِهما
]56[أمرُه - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بتعلُّم اللغة السُّريانية
]57[ قول المعلم لا أدري لما لا يدري جزء من العلم
--------------
وأما طريقتي فهي ذكر نصوص القرآن والسنة من مصادرها مباشرة ، مشكلة ، ومخرجة،وإذا لم تكن في الصحيحين حكمت عليها بما يناسبها وفق المنهج الوسط في الجرح والتعديل .
وقد قمت بشرح معظم الآيات بشكل مختصر .
وكذلك قمت بشرح غريب الأحاديث ، وذكر ما يستنبط منها تعليميا ، وقد زدت أحاديث كثيرة لكل قاعدة تركتها دون تعليق اكتفاء بالأمثلة المعلق عليها لشرح القاعدة .
وقد تكررت بعض الأحاديث بسبب دخولها تحت مباحث متعددة ، وغالب الأحاديث تدور بين الصحة والحسن .
والباب مفتوح أمام طلاب العلم لكي يستنبطوا قواعد وأساليب تعليمية جديدة.
فكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - غزير المعاني ومتنوعها .(1/7)
نسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
قال تعالى : {... وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (113) سورة النساء.
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 26 جمادى الآخرة 1430 ه الموافق ل 21/6/2009 م
- - - - - - - - - - - - -(1/8)
مدخل عام
مهنة التعليم لا تساويها مهنةٌ في الفضل والرفعة،ووظيفةُ المعلم من أشرف الوظائف وأعلاها . وكلما كانت المادة العلمية أشرف وأنفع،ارتفع صاحبها شرفاً ورفعة ً،وأشرفُ العلوم على الإطلاق العلوم الشرعية،ثم العلوم الأخرى كل بحسبه . والمعلم إذا أخلص عمله لله،ونوى بتعليمه نفع الناس ،وتعليمهم الخير كان له أجر عظيم عند الله،فعن عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىِّ قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ،وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى،فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » . (1) .
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ ». " (2) .
ومهمة المعلم لا تقتصر على طرح المادة العلمية على طلابه فقط،بل هي مهمة عسيرة وشاقة - وهي يسيرة على من يسَّرها الله عليه - فهي تتطلب من المعلم صبراً،وأمانة،ونصحاً،ورعاية لمن تحته،ولو عددنا ما الذي ينبغي توفره في المعلم لطال بنا المقام (3) . وقبل أن ندخل في فصول هذا الكتاب أحب أن أنوه إلى مسألة توضح مقصود هذا الكتاب،وهو أنني جعلت من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله،مستنداً لي في استنباط صفات المعلم،وطرق التدريس المختلفة،وذلك لأن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1 )
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2901 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(3) - سيأتي تفصيل ذلك ، ولذلك أعرضت عن ذكره ههنا .(1/9)
وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة
فاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولاً فِي العَرَبِ الأُميِّينَ هُوَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهُوَ أُميٌّ مِنْهُمْ . لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ،وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِليْهِمْ لِيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ القُرآنِ التِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى،لِيُطهرَهُمْ مِنْ خَبَائِث العَقَائِِدِ وَلِيعَلِّمَهُم الشَّرَائِعَ والأَحْكَامَ،وَحِكْمَتَهَا وَأَسْرَارَهَا،وَقَدْ كَانَ هَؤُلاَءِ الأُمِّيونَ،قَبْلَ إِرْسَالِ النَّبِيِّ إِليهِمْ،فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ عَنْ جَادَّةِ الهُدَى،إِذْ إِنَّ العَرَبَ كَانُوا قَبْلاً عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ،ثُمَّ ابْتَعَدُوا عَنِ التَّوْحِيدِ،وَتَسَرَّبَتِ الضَّلاَلاَتُ إِلَى عَقِيدَتِهِمْ،فأَصْبَحُوا مُشْرِكِينَ . (1)
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - المعلم الأول الذي علَّم وربَّى صحابته فكانوا خير طلاب لخير معلم،وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2) ،أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ،وَأَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ وَالآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَهُ،فَقَالَ : كِلا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5057)
(2) 5 قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ، في مقدمة ((شرحه على صحيح مسلم)) 1 : 39 : ((فصل : يُستَحَبُّ لكاتب الحديث إذا مَرَّ بذكر الله عزَّ وجلَّ أن يكتُبَ (عزَّ وجلَّ) أو (تعالى) أو (سبحانه وتعالى) أو (تبارك وتعالى) أو (جَلَّ ذكرُه) أو (تبارك اسمُه) أو (جَلَّت عظَمَتُه) أو ما أشبَهَ ذلك .
وكذلك يكتُبُ عند ذكرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( - صلى الله عليه وسلم - ) بكاملها ، لا رامِزاً إليهما أي الصلاةِ والتسليم ولا مقتصراً على أحدهما.
وكذلك يقول في الصحابي : (رضي الله عنه) ، فإن كان صحابياً ابنَ صحابي قال : (رضي الله عنهما) . وكذلك يَترضّى ويتَرحَّم على سائر العلماء والأخيار أي يُستَحَبُّ ذلك أيضاً ، ويَكتُبُ كلَّ هذا وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي يَنقُلُ منه ، فإن هذا ليس روايةً وإنما هو دُعاء .
وينبغي أن يَقرأ كلَّ ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يَقرأ منه ، ولا يَسأمَ من تكرُّرِ ذلك ، ومن أَغفَلَ هذا حُرِمَ خيراً عظيماً ، وفَوَّتَ فضلاً جسيماً)) .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في كتابه ((الأذكار)) ص 100 ، في آخر (باب الصلاة على الأنبياء وآلهم تبعاً لهم) : ((يُستَحَبُّ التَّرضّي على الصحابة والتابعين فمن بعدَهم ، من العلماءِ والعُبّادِ وسائر الأخيار ، فيقال : رضي الله عنه ، أو رحمه الله ، ونحوَ ذلك .
ويقال في غيرهم : (رحمه الله) ، فقط : فليس كما قال ، ولا يُوافَقُ عليه ، بل الصحيحُ الذي عليه الجمهورُ استحبابُه ، ودلائلُه أكثَرُ من أن تُحصَر .
فإن كان المذكور صحابياً ابنَ صحابي ، قال : (قال ابنُ عُمَر رضي الله عنهما) ، وكذا ابنُ عباس ، وابنُ الزُّبير ، وابنُ جعفر ، وأسامةُ بن زيد ، ونحوُهم ، لتَشْمَلَه وأباه جميعاً .(1/10)
الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ،أَمَّا هَؤُلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ،إِلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ،وَأَمَّا هَؤُلاءِ فَيَعْلَمُونَ الْعِلْمَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ،فَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ثُمَّ جَلَسَ مَعَهُمْ. (1)
نعم : إنما بَعَثه الله مُعلِّماً - صلى الله عليه وسلم - . وهذا المُعلم المُربّي الكبير ولا أكبرَ منه مُعلماً في البشر ،والهادي الأُمّي البصير، والرسولُ المبلِّغ المُنير : هو الذي تَدينُ لتعليمِه وتربيتِه أُممٌ كثيرة،وتُبَجِّلُه شُعوبٌ وأقوامٌ مختلفة في شَتّى أنحاء المعمورة،تُعَدُّ بمِئات الملايين،تَخْضَعُ لقولِه،وتَسترشِدُ بهَدْيه،وتلتمِسُ رِضوانَ الله تعالى في اتِّباعِه والاقتداء به
ومن تأمَّلَ حُسْنَ رعايتِه للعَرَبِ مع قَسوةِ طِباعِهم،وشِدّة خُشونتهم،وتنافُرِ أمزجتِهم،وكيف ساسَهم واحتمَل جَفاءَهم،وصبر على أذاهم،إلى أن انقادوا إليه،والتفّوا حوْلَه،وقاتلوا أمامَه ودونَه أعزَّ الناسِ عندهم : آباءَهم وأقاربَهم،وآثروه على أنفسهم،وهجروا في طاعته ورِضاه أَحِبّاءَهم وأوطانهم،وعشيرتَهم وإخوانهم،وكان كلُّ ذلك وأعظَمُ منه منهم له - صلى الله عليه وسلم - ،وهو لم يُمارِس الكتاابة والقراءة،ولا طالَعَ كُتُبَ الماضين،ولا أخبار المُرَبّين السّالفين ...
ومن تأمَّل هذا تحقّضقَ له بنظرِ العقلِ أنه - صلى الله عليه وسلم - هو المعلِّمُ الأوَّلُ،والنبيُّ المرسَل،وأنه سيِّدُ العالمين . صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليه .
يقول كارليل في حال العرب : ((هم قومٌ يَضرِبون في الصحراء،لا يُؤْبَهُ لهم عِدّةَ قرون،فلما جاءهم النبي العربي،أصبحوا قبلةَ الأنظار في العلوم والعِرفان،وكثُروا بعد القِلّة،وعزّوا بعد الذِلّة،ولم يَمضِ قَرْنٌ حتى استضاءَتْ أطرافُ الأرضِ بعقولِهم وعُلومِهم)) . (2)
قال تعالى : {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (151) سورة البقرة
__________
(1) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (12 / 718) (3090 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (234) وسنن الدارمى- المكنز - (357) ومسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (6 / 428) (2458) حسن
(2) - الرسول المعلم ص 4(1/11)
كَانَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلاَمُ قَدْ دَعَا رَبَّهُ،وَهُوَ يَرْفَعُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ،أَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِي أَهْلِ البَيْتِ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِم آيَاتِ اللهِ،وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ،وَيُزَكِّيهم . فاستجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَائِهِ وَأَرْسَلَ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً مِنْ نَسْلِ وِلْدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،وَأنزَلَ عَلَيهِ القُرْآنَ لِيَتْلُوهُ عَلَى النَّاسِ،وَجَعَلَ رَسُولَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ،وَمَنْهَجٍ قَويمٍ،لِيَقْتَدِيَ بِهِ المُؤْمِنُونَ في أَعْمَالِهِمْ،يُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ،وَيُزَكِّي نُفُوسَهُمْ وَيُطَهِّرُهَا مِن رَذَائِلِ الأَخْلاَقِ وَانْحِرَافاتِ الجَاهِلِيّةِ،وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُُلُمَاتِ الجَهْلِ وَفَسَادِ الأَخْلاَقِ إِلى نُورِ الإِيمانِ وَالعِلْمِ وَسُمُوِّ الأَخْلاَقِ،وَهُوَ مَا صَارُوا إِليهِ فِي الإِسْلاَمِ .
وَقَدْ كَانَتْ سُنَّةُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - العَمَلِيَّةُ،وَسِيرَتُهُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعَ أَصْحَابِهِ مُفَصِّلَةً لِمُجْمَلِ القُرآنِ،مُبَيِّنَةً لِمُبْهَمِهِ،كَاشِفَةً عَنِ المَنَافِعِ وَالأَسْرَارِ التِي تَنْطَوي عَلَيهَا الأَحْكَامُ،وَيُعَلِّمُهُمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ مِنْ قَبْلُ،مِمَّا جَاءَ بِهِ الوَحْيُ . (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ : دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا بِبَابِهِ،لَمْ يُؤْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ،قَالَ : فَأُذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ،فَدَخَلَ،ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ،فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ،فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ،وَاجِمًا سَاكِتًا،قَالَ : فَقَالَ : لَأَقُولَنَّ شَيْئًا أُضْحِكُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ،سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ،فَقُمْتُ إِلَيْهَا،فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا،فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَ : " هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى،يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ "،فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا،فَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا،كِلَاهُمَا يَقُولُ : تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَيْسَ عِنْدَهُ،فَقُلْنَ : وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ،ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا - أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ - ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ حَتَّى بَلَغَ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا،قَالَ : فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ،فَقَالَ : " يَا عَائِشَةُ،إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أَمْرًا أُحِبُّ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ "،قَالَتْ : وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَتَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ،قَالَتْ : أَفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ ؟ بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،وَالدَّارَ الْآخِرَةَ،وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِكَ بِالَّذِي
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 158)(1/12)
قُلْتُ،قَالَ : " لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا أَخْبَرْتُهَا،إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا،وَلَا مُتَعَنِّتًا،وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا " (1)
وعن مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّا كُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ فَجَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ،وَإِنَّ رِجَالاً مِنَّا يَتَطَيَّرُونَ،قَالَ : ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ،وَلاَ يَضُرُّهُمْ.
قُلْتُ : وَرِجَالاً مِنَّا يَأْتُونَ الْكَهَنَةَ ؟ قَالَ : فَلاَ تَأْتُوهُمْ.
قُلْتُ : وَرِجَالاً مِنَّا يَخُطُّونَ ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ،فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ.
قَالَ : ثُمَّ بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلاَةِ،إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ،فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ،فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ،فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمَّاهُ (2) ،مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ قَالَ : فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ،قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُسَكِّتُونِي سَكَتُّ،فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَلاَتِهِ دَعَانِي،فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي (3) مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ،وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (3763 )
المعنِّت : الذي يُوقع غيرَه في العَنَت ، والعنتُ له معان كثيرة ، والمناسِب منها هنا : المشقّة ، والأذى . والمتعنِّت : هو الذي يطلب زَلّة الآخَر وأذاه . قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : وفي إبهامه - صلى الله عليه وسلم - وعدَمِ مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر ، إشعارٌ بأنَّ من دقائق صناعة التعليم أن يَزجُرَ المعلّشمُ : المتعلِّمَ عن سوء الأخلاق ، باللّثطفِ والتعريضِ ما أمكن ، من غير تصريح ، وبطريقِ الرحمةِ من غير توبيخ ، فإن التصريح يَهتك حجاب الهيبة ، ويورِثُ الجُرأةَ على الهجوم بالخلاف ، ويُهيِّجُ الحرصَ على الإصرار . أفاده المُناوي في ((فيض القدير)) 2 : 573 .
(2) 4 - وا : حَرْفٌ للنُّدبة والحسرة . والثُّكل : فِقدانُ المرأةِ ولَدَها . وأُمِّياه بضم الهمزة وكسر الميم المشددة ، بعدها ياء ثم ألف ثم هاء ساكنة للسكت . وهي : نَدْبُ أُمّي ، بياء المتكلم ، قتُقلَبُ الياء ألفاً لمدّ الصوت وتلحقها هاء السكت ، فيقال : يا أُمّاه . وقد يُجمع بين الألف والياء فيقال : يا أُمِّيَاه ، كما هنا . للمبالغة في الندب والتحسُّر . والمعنى : وا فَقْدَ أُمّي إيايَ فإني هلكتُ! أي ما أعظَمَ مُصابَ أمي بي فقد هلكتُ وفَقَدَتْني!
(3) 5- أي أَفديه بأبي وأمي .(1/13)
مِنْهُ،وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي،وَلاَ كَهَرَنِي (1) ،وَلاَ سَبَّنِي (2) ،وَلَكِنْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ صَلاَتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ،إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَتِلاَوَةُ الْقُرْآنِ." (3)
وكذلك أثبتَ التاريخ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معلِّماً وأيَّ معلم؟ فنظرةً يسيرةً إلى ما كانت عليه البشرية قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،وإلى ما آلَتْ إليه البشريّة بعد رسالته،تُعطينا أوضحَ شاهدٍ ودليلٍ على ثبوت ذلك .
وإذا لاحظنا النماذج المعلِّمة الهادية من النوع الإنساني،التي شاهدتها البشرية بعد الرسول المعلِّم - صلى الله عليه وسلم - رأيناها تدلُّ أقوى الدلالة على عِظم هذا المعلِّم المربّي الكبير،الذي تَتقاصَرُ أمامَه أسماء كلِّ الكبار الذين عُرِفوا وذُكروا في عالَم التعليم والتربية وتاريخِهما .
فأيُّ معلِّم من المربّين تخرَّج على يديه عددٌ أوفَرُ وأهدى من هذا الرسول الكريم،الذي تخرَّج به هؤلاء الأصحابُ والأتباع؟ فكيف كانوا قبلَه؟ وكيف صاروا بعده؟! إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليلٌ ناطق على عِظَم هذا المعلِّم المربّي الفريد الأوحد . وهذا يُذكِّرنا بكلمةٍ طيبةٍ جدّاً لبعض الجَهابذة الأصوليين،يقول فيها : لو لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معجزةٌ إلا أصحابَه،لَكَفَوْه لإثبات نبوته .
وقبلَ الدخول في بيان أساليبه في التعليم،أرى من المناسب أن أذكر كلمةً وجيزة في حَذَرِ هذا المعلِّم الكريم وتحذيره من العلم الذي لا ينفع،حتى جَعَل ذلك دُعاءً له يدعو به في أكثر أحيانه - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) 6- أي ما نَهَرني .
(2) 7- أي ما سبَّني ولا عابني .
(3) - صحيح ابن حبان - (6 / 22) (2247) وصحيح مسلم- المكنز - (1227)
يعني أن الذي يقال في الصلاة هو هذا : التكبير ، وحمدُ الله والثناء عليه ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتشهد ، والدعاء ، كما وردت فيها الأحاديث أيضاً . وأما ما سوى ذلك من كلام الناس فيُمنع منه في الصلاة ، فلا يجوز فيها تشميتٌ لعاطس ، ولا رَدُّ سلام لمسلم ، ولا جوابُ سؤال لسائل ، إذ كلُّ ذلك من الكلام المبطِل للصلاة .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 5 : 20 تعليقاً على هذا الحديث الشريف : ((وفيه بيانُ ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من عظيم الخُلُق الذي شَهِدَ الله تعالى له به ، ومن رِفْقِهِ بالجاهل ، ورَأفتِهِ بأمته وشفقته عليهم . وفيه التخلُّقُ بخُلُقه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق بالجاهل ، وحُسْنِ تعليمه ، واللطفِ به ، وتقريب الصواب إليه)) .(1/14)
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ،وَعَمَلٍ لاَ يُرْفَعُ،وَقَلَبٍ لاَ يَخْشَعُ،وَقَوْلٍ لاَ يُسْمَعُ. (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كَانَ يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ». (2)
( العلم الذي لا ينفع ) هو العلمُ الذي يؤدّي إلى ضرر لصاحبه أو لغيره من الناس،فهو مذموم من حيث ما يؤدي إليه،إذ الوسيلةُ إلى الشرِّ شرٌ بلا ريب. فالعلمُ بالحِيَل والإفساد والطُّرقِ التي يتمكن بهاعالِمُها من إضاعة الحقوق : مذموم يُتعوَّذ بالله منه،وكذلك العِلمُ الذي يتمكن به صاحبُه من سَرِقة أموال الناس والسطوِ عليها وطمسِ آثار الجريمة فيها : عِلْمٌ لا ينفع،وهو شرٌّ لا ريب فيه .
فمِثلُ هذا العلم أو ذاك،الجهلُ به أحسنُ على الإنسان مآلاً من العلم به،ولا يُنكَرُ كونُ بعض العلم ضاراً لبعض الناس،كما يَضرُّ لحمُ الطير وأنواعُ الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع،بل رُبَّ شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور .
وكم من إنسان خاضَ فُضولاً منه في علم لا حاجة له به،فاستَضَرَّ به في دينه أو دنياه،وأضاع فيه جزءاً كبيراً من عمره الذي هو أنفسُ ما يملكه،وذلك غايةُ الخُسران . وما كان أغناه عن مثل هذا العلم الفضولي،الذي لو لم يَخُض فيه لكان خيراً له،فاللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا،وانفعنا بما علَّمتنا،وجنِّبنا ما يَضرُّنا في ديننا أو دُنيانا،يا أرحم الراحمين .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلِّماً بحالِهِ ومَقالِه جميعاً،فهذا الدعاء منه تعليمٌ للعالِمِ والمتعلِّم جميعاً أن لا يَتعلَّموا أو يُعلِّموا إلا ما فيه نفعٌ بميزان الشرع الحنيف الأغرّ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 283) (83) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7081 )(1/15)
ولعلك بعد تطالع كتابنا هذا يتبن لك أن ما ادعاه منظروا التربية والتعليم من إحداث طرق وأساليب متنوعة،في التربية والتعليم ليس بمستقيم لهم ولا مسلَّم به على كل حال،بل إن معلم البشرية - صلى الله عليه وسلم - سبقهم بذلك بأربعة عشر قرناً . والله الموفق .
وشتان ما بين تعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعاليم البشر !!!
- - - - - - - - - - - -(1/16)
الباب الأول
صفات ينبغي توفرها في المعلم
وفيه المباحث التالية :
الباب الأول صفات ينبغي توفرها في المعلم
1 - إخلاصُ العلم لله :
2- صدق المعلم :
3- مطابقة القول العمل :
4- العدل والمساواة :
5- التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة :
6- تواضع المعلم :
7 شجاعة المعلم :
8 -مزاح المعلم مع تلاميذه :
9- الصبر واحتمال الغضب :
10- تجنب الكلام الفاحش البذيء :
11- استشارة المعلم لغيره :(1/17)
1 - إخلاصُ العلم لله :
أمرٌ عظيم غفل عنه كثيرٌ من المعلمين والمربين،ألا وهو تأسيس وغرس مبدأ إخلاص العلم والعمل لله . وهو أمر لا يُفطن له لبعد فئام (1) من الناس عن المنهج الرباني . ولعمر الله كم من علوم مفيدة وأعمال جليلة للأمة ،لم يستفد أصحابها منها شيئاً وذهبت أدراج الرياح وكانت هباءً منثوراً . وذلك لأن أصحابها لم يخلصوا في علومهم وأعمالهم،ولم يجعلوها في سبيل الله،ولم يكن همهم نفع إخوانهم المسلمين بهذه العلوم والمعارف والأعمال،إنما كانت أغراضهم نيل منصب أو جاه ونحو ذلك،ولذلك استحقت أن تكون هباءً منثوراً،أي نعم قد ينتفع أولئك بعلومهم ومعارفهم في الدنيا،من مدح وثناء ونحو ذلك ولكن ذلك عاقبته إلى زوال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: لَهُ نَاتِلُ أَخو الشَّامِ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأَتَى بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ فَقَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ فأمر بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَتَى بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَعَلَّمْتُهُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَإِنَّما أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ عَالِمٌ فُلَانٌ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ فَأَتَى بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ فقَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ تُحِبَّ أَنْ أُنْفِقَ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهِ لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ فَأُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ " (2)
وعن عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ ،أَنَّ شُفَيًّا الأَصْبَحِيَّ حَدَّثَهُ،أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ،فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ،فقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : أَبُو هُرَيْرَةَ،قَالَ : فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ
__________
(1) - جماعة
(2) - شعب الإيمان - (4 / 191) (2378 ) صحيح وأصله في مسلم(1/18)
يَدَيْهِ،وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ،فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلاَ،قُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ بِحَقِّي لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ.فقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ،لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتُهُ،ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلاً،ثُمَّ أَفَاقَ،فقَالَ : لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ،ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى،فَمَكَثَ كَذَلِكَ،ثُمَّ أَفَاقَ،فَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ،فقَالَ : أَفْعَلُ،لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ،ثُمَّ نَشَغَ نَشْغَةً شَدِيدَةً،ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ،وَاشْتَدَّ بِهِ طَوِيلاً،ثُمَّ أَفَاقَ،فقَالَ : حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ،يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ،وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ.فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ،وَرَجُلٌ،يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ،فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ،قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ ؟ قَالَ : كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ،فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ : كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ : كَذَبْتَ،وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلاَنٌ قَارِئٌ،فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ , وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ،قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ ؟ قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : كَذَبْتَ،وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ لَهُ : كَذَبْتَ،وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْيُ،قَالَ : فُلاَنٌ جَوَادٌ،فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقَالُ لَهُ : فِي مَاذَا قُتِلْتَ ؟ فَيَقُولُ : أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ،فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ،فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : كَذَبْتَ،وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ : كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلاَنٌ جَرِئٌ،فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رُكْبَتِي،فقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ : فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا الْخَبَرِ.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْوَلِيدُ وَحَدَّثَنِي الْعَلاَءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ،أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ،قَالَ : فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ،فَحَدَّثَهُ بِهَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،فقَالَ مُعَاوِيَةُ : قَدْ فُعِلَ بِهَؤُلاَءِ مِثْلُ هَذَا،فَكَيْفَ بِمَنْ(1/19)
بَقِيَ مِنَ النَّاسِ ؟ ثُمَّ بَكَى مُعَاوِيَةُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ هَالِكٌ،وَقُلْنَا : قَدْ جَاءَنَا هَذَا الرَّجُلُ بِشَرٍّ،ثُمَّ أَفَاقَ مُعَاوِيَةُ،وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ،فقَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا،نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا،وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ،وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا،وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود : ]. (1)
ولذا كان حريٌّ بالمربين والمعلمين أن يغرسوا في نفوس ناشئتهم إخلاص العلم والعمل لله،وابتغاء الأجر والثواب من الله،ثم إن حصل بعد ذلك مدحٌ وثناء من الناس فذلك فضل من الله ونعمة والحمد لله . قال ابن رجب (2) : فأمَّا إذا عَمِلَ العملَ لله خالصاً،ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في قُلوبِ المؤمنين بذلك،ففرح بفضل الله ورحمته،واستبشرَ بذلك،لم يضرَّه ذلك ،وفي هذا المعنى جاء حديثُ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ « تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ». أخرجه مسلم (3)
ومدار ذلك كله على النية،والنيةُ محلُّها الصدور والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (29) سورة آل عمران .
فمن كانت نيته لله خالصة فليبشر بقبول عمله،وأجر من الله ومئوبة .
الخلاصة :
(1) ... علي المعلم أن يغرس في نفوس طلابه حقيقة الإخلاص .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 135) (408) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ كُلُّهَا مَقْرُونَةٌ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ : إِلاَّ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ عَلَى مُرْتَكِبِ تِلْكَ الْخِصَالِ بِالْعَفْوِ وَغُفْرَانِ تِلْكَ الْخِصَالِ ، دُونَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا وَكُلُّ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَعْدِ مَقْرُونَةٌ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ : إِلاَّ أَنْ يَرْتَكِبَ عَامِلُهَا مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ ، حَتَّى يُعَاقَبَ ، إِنْ لَمْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ ، ثُمَّ يُعْطَى ذَلِكَ الثَّوَابَ الَّذِي وُعِدَ بِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
(2) - جامع العلوم والحكم محقق - (3 / 36)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6891 )(1/20)
(2) ... وعلى المعلم استصحاب تلك الحقيقة في بدايات الأعمال،والتذكير بها دائماً .
(3) من حرم الإخلاص حرم الخير كله .
ــــــــ
2- صدق المعلم :
إن الصدق تاج على رأس المعلم،إذا فقده فقد ثقة الناس بعلمه،وبما يمليه عليهم من معلومات،لأن الطالب في الغالب يتقبل من معلمه كل ما يقوله ،فإذا بان للطلاب كذب معلمهم في بعض الأمور،فإن ذلك ينعكس عليه مباشرة،ويؤدي إلى سقوطه من أعين طلابه .
والصدق منجاة للعبد في الدنيا والآخرة،وقد أثنى الله على الصادقين،ورغب المؤمنين أن يكونوا من أهله بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة،وأرشد المعلم الأول إلى أن الصدق يهدي إلى الجنة،فعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا أَنْ يَعِدَ الرَّجُلُ ابْنَهُ، ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورَ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، إِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ صَدَقَ وَبَرَّ،وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ كَذَبَ وَفَجَرَ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صدِّيقًا، وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا " (2)
__________
(1) - شعب الإيمان - (6 / 438) (4450 ) وصحيح البخارى- المكنز - ( 6094 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6803 )
(2) - شعب الإيمان - (6 / 441) (4453 ) صحيح(1/21)
وعند تأمل السيرة النبوية،نجد أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يسمَّى بالصادق الأمين،ولم يعهد منه كفار مكة كذبة واحدة . ولما بعث وظهر أمره،عاداه سادات قريش وأعيانهم،لا لكذبه عليهم،ولكن استكباراً وتجبراً،وخوفاً من سقوط هيبتهم وجاههم ومقامهم بين القبائل،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ،يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا،فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ،فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ،أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ،مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ،أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1)
وقد صرح بحقيقة ذلك بعض أعيانهم فعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي جَهْلٍ،وَأَبِي سُفْيَانَ،وَهُمَا جَالِسَانِ،فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : هَذَا نَبِيِّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَتَعْجَبُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ وَالنَّبِيُّ يَكُونُ فِيمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنَّا وَأَذَلُّ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : عَجِبْتُ أَنْ يَخْرُجَ غُلَامٌ مِنْ بَيْنِ شُيُوخٍ نَبِيًّا،وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمَعُ فَأَتَاهُمْ،فَقَالَ " أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ،فَمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ غَضِبْتَ،وَلَكِنَّكَ حَمِيتَ لِلْأَصْلِ،وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا الْحَكَمِ فَوَاللَّهِ لَتَضْحَكَنَّ قَلِيلًا وَلَتَبْكِيَنَّ كَثِيرًا " . قَالَ : بِئْسَمَا تَعِدُنِي ابْنَ أَخِي مِنْ نُبُوَّتِكَ " (2)
ولقد كان لاتصافه - صلى الله عليه وسلم - بالصدق أثر كبير في دخول كثير من الناس في دين الله،قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ أنْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، فَقَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ أَنْظُرُ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ،
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4770 )
(2) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيّ(590 ) حسن مرسل(1/22)
فَتَكَلَّمَ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلَّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " (1)
وصدقُ المعلم يدعو المتعلم إلى الثقة به وبما يقول،ويكسبه احترام المعلمين،ويرفع من شأنه في عمله،ويتمثل صدق المعلم في مستلزمات المسئولية الملقاة على عاتقه،والتي منها نقل المعرفة بما فيها من حقائق ومعلومات للأجيال،فإن لم يكن المعلم متحلياً بالصدق فإنه سينقل لهم علماً ناقصاً ومبتوراً،وحقائق ومعلومات مغايرة للصورة التي يجب أن ينقلها،وإذا تعود التلميذ على قبول هذا السلوك السيء من المعلم فإنه ربما يستحسن هذا العمل حتى يصبح ملازماً له،وهو أمر خطير على المجتمع أ ه . (2)
وإليك أيها المعلم مثالاً يبين أثر الكذب على الطلاب . يقول الشيخ محمد جميل زينو : حدث أن سأل أحد الطلاب معلمه مستنكراً تدخين أحد المعلمين،فأجاب المعلم مدافعاً عن زميله،بأن سبب تدخينه هو نصيحة الطبيب له،وحين خرج التلميذ من الصف قال : إن المعلم يكذب علينا . ( قال محمد جميل ) وحبذا لو صدق المعلم في إجابته،وبين خطأ زميله،بأن التدخين حرام،لأنه مضر بالجسم،مؤذ للجار،متلف للمال،فلو فعل ذلك لكسب ثقة الطلاب وحبهم،ويستطيع أن يقول هذا المعلم إلى طلابه : إن هذا المعلم فرد من الناس تجري عليه الأعراض البشرية،فهو يصيب ويخطئ .. (3) .
الخلاصة :
(1) ... الصدق نجاة للمعلم في الدنيا والآخرة .
(2) الكذب على الطلاب،عائق عن التلقي،وفاقد للثقة .
(3)
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 183) (8375 ) صحيح
(2) - http://www.rasoulallah.net/subject2.asp?lang=ar&parent_id=108&sub_id=1145
http://islamport.com/d/3/amm/1/121/2261.html
(3) نداء إلى المربين ص14 .(1/23)
الكذب أثره يتعدى إلى المجتمع،ولا يقتصر على منتحله .
ــــــــ
3- مطابقة القول العمل :
قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) }الصف : 2،3]
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَن يَعِدُ وَعْداً،أَوْ يَقُولُ قَوْلاً لاَ يَفِي بِهِ،فَيَقُولُ تَعَالَى : لأَيِّ شَيءٍ تَقُولُونَ لَوَدِدْنَا أَنْ نَفْعَلَ كََذَا وَكَذَا مِنْ أَفْعَالِ الخَيْرِ،حَتَّى إِذَا طُلِبَ مِنْكُمْ فِعْلُ ذَلِكَ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَفْعَلُوهُ؟ . .
وَأَكَّدَ اللهُ تَعَالَى إِنْكَارَهُ هَذَا عَلَى هَؤُلاَءِ القَائِلِينَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ،فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّهُ يَكْرَهُ كُرْهاً شَدِيداً أَنْ تَقُولُوا شَيئاً لاَ تَفْعَلُونَهُ لأَنَّ الوََفَاءَ بِالعَهْدِ وَالوَعْدِ يُنَمِّي الثِّقَةَ بَينَ أَفْرَادِ الجِمَاعَةِ،كَمَا أَنَّ فُشُوَّ الخُلْفِ بِالوَعْدِ يُضْعِفُهَا . (1)
ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس مبادرة إليه،والناهي عن الشر،أن يكون أبعد الناس عنه،قال تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة.
يَنْعِى اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ - وَهُمْ أَهْلُ الكِتَابِ - أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالخَيْرِ وَالبِرِّ وَطَاعَةِ اللهِ،فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَنْسَوْنَ وَعْظَ أَنْفُسِهِمْ،وَحَمْلَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ،فَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ،مَعَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ المُنْزَلَ إِلَيْهِمْ،وَيَعْلَمُونَ مَا فِيهِ مِنْ عَقَابِ يَحِلُّ بِمَنْ يُقَصِّرُ فِي القِيَامِ بمَا أَمَرَ اللهُ.
وَلكِنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ مِنْهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ مِنَ الحَقِّ إِلاَّ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ،وَلا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ إِذَا عَارَضَ شَهَوَاتِهِمْ . (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5043)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 51)(1/24)
وقال شعيب عليه السلام : { يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر الناس بالخير وهو أول من يأتيه،وكان ينهاهم عن الشر وهو أول من يجتنبه ويبتعد عنه،وهذا من كمال خلقه عليه الصلاة والسلام،ولا عجب فقد كان خلقه القرآن . فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ،فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ،أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ،قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}،قُلْتُ : فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ،قَالَتْ : لاَ تَفْعَلْ،أَمَا تَقْرَأُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ} حَسَنَةٌ ؟ فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَدْ وُلِدَ لَهُ. (1)
ومطاقة القول العمل،أسرع في الاستجابة من مجرد القول بمفرده،يتبين لنا ذلك من خلال عرض هذا الحدث الذي وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - ،والمسلمين معه في قصة الحديبية . فعندما صالح المشركون المسلمين على شروط معينة ومنها أن يرجع المسلمون من عامهم هذا عن مكة ويحجوا في عامهم المقبل .
فعَنِ الزُّهْرِيِّ،قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ،وَمَرْوَانِ بْنِ الْحَكَمِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثُهُ حَدِيثُ صَاحِبِهِ،قَالاَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ،حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ،قَلَّدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَشْعَرَ،ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ رَجُلاً مِنْ خُزَاعَةَ يَجِيئُهُ،بِخَبَرِ قُرَيْشٍ،وَسَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ،قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ،أَتَاهُ عَيْنُهُ الْخُزَاعِيُّ،فَقَالَ : إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ،وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ،قَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِيشَ،وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا كَثِيرَةً وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَشِيرُوا عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ،فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِينَ،وَإِنْ نَجَوْا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 144)(24601) 25108- صحيح(1/25)
يَكُونُوا عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ أَمْ تَرَوْنَ،أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ،فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ ؟.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَا نَبِيَّ اللهِ،إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَلَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : فَرُوحُوا إِذَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ،وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ،وَمَرْوَانَ فِي حَدِيثِهِمَا فَرَاحُوا،حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً،فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ،فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ،حَتَّى إِذَا هُوَ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَأَقْبَلَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ. وَسَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ،الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا،فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا،بَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ،فَقَالَ النَّاسُ حَلَّ،حَلَّ فَأَلَحَّتْ،فَقَالُوا : خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ،وَمَا ذَلِكَ لَهَا بِخُلُقٍ،وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ،ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً،يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ،إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا،ثُمَّ زَجَرَهَا،فَوَثَبَتْ بِهِ،قَالَ : فَعَدَلَ عَنْهُمْ،حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ،إِنَّمَا يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا،فَلَمْ يَلْبَثْ بِالنَّاسِ،أَنْ نَزَحُوهُ،فَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ،فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ،ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ،قَالَ : فَمَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ،حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ،إِذْ جَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ،فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ،وَكَانَتْ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ،فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ،وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ،نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ،وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ،وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ،وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ،فَإِنَّ قُرَيْشًا،قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ،وَأَضَرَّتْ بِهِمْ،فَإِنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً،وَيَخْلُوا بَيْنِي،وَبَيْنَ النَّاسِ،فَإِنْ ظَهَرْنَا،وَشَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ،فِيهِ النَّاسُ،فَعَلُوا وَقَدْ جَمُّوا،وَإِنْ هُمْ أَبَوْا،فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا،حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي،أَوْ لَيُبْدِيَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ.(1/26)
قَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ سَأُبَلِّغُهُمْ،مَا تَقُولُ،فَانْطَلَقَ،حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا،فَقَالَ : إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ،وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً،فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ،فَعَلْنَا،فَقَالَ : سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا فِي أَنْ تُخْبِرُونَا عَنْهُ بِشَيْءٍ،وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ : هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ،يَقُولُ : قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا،وَكَذَا،فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - .
فَقَامَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو مَسْعُودٍ،عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ،فَقَالَ : يَا قَوْمُ أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ ؟ قَالُوا : بَلَى،قَالَ : أَلَسْتُ بِالْوَالِدِ،قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَهَلْ تَتَّهِمُونِي،قَالُوا : لاَ،قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ،فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي،وَوَلَدِي،وَمَنْ أَطَاعَنِي قَالُوا : بَلَى،قَالَ : فَإِنَّ هَذَا امْرُؤٌ عَرَضَ عَلَيْكُمْ،خُطَّةَ رُشْدٍ،فَاقْبَلُوهَا،وَدَعُونِي آتِهِ،قَالُوا : ائْتِهِ،فَأَتَاهُ قَالَ : فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ،لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ،فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ : ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ،هَلْ سَمِعْتَ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ،وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى،فَوَاللَّهِ إِنِّي أَرَى وُجُوهًا،وَأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خُلَقَاءَ أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ : امْصُصْ بِبَظْرِ اللاَّتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ،فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : مَنْ هَذَا،قَالُوا : أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ،فَقَالَ : أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ.
وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ،وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَعَلَيْهِ السَّيْفُ،وَالْمِغْفَرُ،فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ،إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ،وَقَالَ : أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ،وَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ الثَّقَفِيُّ،فَقَالَ : أَيْ غُدَرُ،أَوَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ،وَكَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَقَتَلَهُمْ،وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ،ثُمَّ جَاءَ،فَأَسْلَمَ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَّا الإِسْلاَمُ،فَأَقْبَلَ،وَأَمَّا الْمَالُ،فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.
قَالَ : ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،بِعَيْنِهِ،فَوَاللَّهِ مَا يَتَنَخَّمُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،نُخَامَةً،إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ،فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ،وَجِلْدَهُ،وَإِذَا أَمَرَهُمُ انْقَادُوا لأَمْرِهِ،وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ،وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ،وَمَا(1/27)
يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ،تَعْظِيمًا لَهُ.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَصْحَابِهِ،فَقَالَ : أَيْ قَوْمُ،وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ إِلَى الْمُلُوكِ،وَوَفَدْتُ إِلَى كِسْرَى،وَقَيْصَرَ،وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ،يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ،مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا،وَوَاللَّهِ إِنْ يَتَنَخَّمْ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ،فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ،وَجِلْدَهُ،وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ،وَإِذَا تَوَضَّأَ اقْتَتَلُوا عَلَى وَضُوئِهِ،وَإِذْ تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ،وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ،تَعْظِيمًا لَهُ،وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ،فَقَبَلَوهَا،فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ دَعُونِي آتِهِ،فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا فُلاَنٌ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ،فَابْعَثُوهَا لَهُ،قَالَ فَبُعِثَتْ،وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبُّونَ،فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ،لاَ يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ،أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ،فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ،قَالَ : رَأَيْتُ الْبُدْنَ،قَدْ قُلِّدَتْ،وَأُشْعِرَتْ،فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ،فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ،يُقَالُ لَهُ مِكْرَزٌ،فَقَالَ دَعُونِي آتِهِ،فَقَالُوا : ائْتِهِ،فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا مِكْرَزٌ،وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ،فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ،إِذْ جَاءَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ مَعْمَرٌ،فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ،عَنْ عِكْرِمَةَ،قَالَ : فَلَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا سُهَيْلٌ،قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ،قَالَ مَعْمَرٌ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ،وَمَرْوَانَ فَلَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ،قَالَ هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا،وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا،فَدَعَا الْكَاتِبُ،فَقَالَ : اكْتُبْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،فَقَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ،فَلاَ أَدْرِي وَاللَّهِ مَا هُوَ،وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ،ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اكْتُبْ هَذَا،مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ،فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ،مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ،وَلاَ قَاتَلْنَاكَ،وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ،وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي،اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ،قَالَ الزُّهْرِيُّ،وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ،إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.
وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عُرْوَةَ،عَنِ الْمِسْوَرِ،وَمَرْوَانَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا،وَبَيْنَ الْبَيْتِ،فَنَطُوفُ بِهِ،فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو،إِنَّهُ لاَ يَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ،أَنَّا أَخَذْنَا ضَغْطَةً،وَلَكِنْ لَكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ،فَكَتَبَ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : عَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ،وَإِنْ كَانَ عَلَى(1/28)
دِينِكَ،أَوْ يُرِيدُ دِينَكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا،فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ،وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا،فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ،إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ،فِي قُيُودِهِ،قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ،حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَا مُحَمَّدُ هَذَا أَوَّلُ مَنْ نُقَاضِيكَ عَلَيْهِ،أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا لَمْ نُمْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ،فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : فَأَجِزْهُ لِي،فَقَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ،قَالَ : فَافْعَلْ قَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ،قَالَ مِكْرَزٌ : بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ.
فَقَالَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو : يَا مَعْشَرُ الْمُسْلِمِينَ،أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ،وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا،أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى مَا قَدْ لَقِيتُ،وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللهِ،فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ،إِلاَّ يَوْمَئِذٍ،فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ.أَلَسْتَ رَسُولَ اللهِ حَقًّا،قَالَ : بَلَى،قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ،وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : بَلَى،قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا،إِذَا قَالَ : إِنِّي رَسُولُ اللهِ،وَلَسْتُ أَعْصِي رَبِّي،وَهُوَ نَاصِرِيٌّ،قُلْتُ : أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ،فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى،فَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيَهِ الْعَامَ،قَالَ : لاَ،قَالَ : فَإِنَّكَ تَأْتِيَهِ،فَتَطُوفُ بِهِ،قَالَ : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا،قَالَ : بَلَى،قُلْتُ : أَوَ لَسْنَا عَلَى الْحَقِّ،وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ،قَالَ : بَلَى،قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا،إِذَا قَالَ : أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ،وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ،وَهُوَ نَاصِرُهُ،فَاسْتَمْسَكَ بِغَرْزِهِ،حَتَّى تَمُوتَ،فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ،قُلْتُ : أَوَ لَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا،أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ،وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى،قَالَ : فَأَخْبَرَكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ،قُلْتُ : لاَ،قَالَ : فَإِنَّكَ آتِيَهِ،وَتَطُوفُ بِهِ،قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ : فَعَمِلْتُ فِي ذَلِكَ أَعْمَالاً،يَعْنِي فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،مِنَ الْكِتَابِ،أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ فَقَالَ : انْحَرُوا الْهَدْيَ،وَاحْلِقُوا،قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ،مِنْهُمْ رَجَاءَ،أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا،فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ،قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ،فَقَالَ : مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ،قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَوَ تُحِبُّ ذَاكَ اخْرُجْ،وَلاَ تُكَلِّمَنَّ أَحَدًا،مِنْهُمْ كَلِمَةً،حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ،وَتَدْعُو حَالِقَكَ،فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَخَرَجَ،وَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ،حَتَّى نَحَرَ،بُدْنَهُ،ثُمَّ دَعَا حَالِقَهُ،فَحَلَقَهُ،فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ جَعَلَ(1/29)
بَعْضُهُمْ،يُحَلِّقُ بَعْضًا،حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا.
قَالَ : ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة] إِلَى آخِرِ الآيَةِ،قَالَ : فَطَلَّقَ عُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ،فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ.قَالَ : ثُمَّ رَجَعَ - صلى الله عليه وسلم - ،إِلَى الْمَدِينَةِ ...." (1)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله معلقاً على موضوع الحلق والتقصير :
" ومنها: أن الأمر المطلقَ على الفور وإلا لم يَغْضَبْ لِتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر، وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنَّهُم كانوا يَرْجُون النسخ، فأخَّروا متأوِّلين لذلك، وهذا الاعتذارُ أولى أن يُعتذر عنه، وهو باطل، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لو فَهِمَ منهم ذلك، لم يشتَدَّ غضبُه لتأخير أمره، ويقول: "مَالى لا أغْضَبُ، وأَنَا آمُرُ بالأَمْر فلا أُتَّبعُ"،وإنما كان تأخيرُهم مِن السعى المغفور لا المشكور، وقد رضىَ الله عنهم، وغفر لهم، وأوجب لهم الجنَّة.
ومنها: أن الأصل مشارَكَةُ أُمَّتِه له فى الأحكام، إلا ما خصَّه الدليلُ، ولذلك قالت أُمُّ سلمة: "اخرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحدَاً حتى تَحْلِقَ رأسك وتنحر هَدْيك"، وعلمت أن الناس سيتابعونه.
فإن قيل: فكيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله، ولم يمتثِلُوه حين أمرهم به ؟ قيل: هذا هو السببُ الذى لأجله ظنَّ مَن ظنَّ أنهم أخَّروا الامتثال طمعاً فى النسخ، فلما فعلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، عَلِمُوا حينئذ أنه حكم مُسْتَقِرٌ غيرُ منسوخ، وقد تقدم فسادُ هذا الظن، ولكن لما تغيَّظَ عليهم، وخرج ولم يُكلمهم، وأراهُم أنه بادر إلى امتثال ما أمر به، وأنه لم يُؤخِّر كتأخيرهم، وأن اتباعهم له وطاعتَهم تُوجِبُ اقتداءهم به، بادرُوا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثالِ أمره." (2)
وفيه أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر وكرره ثلاث مرات، وفيهم
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 216) (4872) وصحيح البخارى- المكنز - (2731 و2732 )
(2) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (3 / 307)(1/30)
كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع العملية، فقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر وكرره ثلاث مرات، وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع " (1)
والمعلم هو أحوج الناس إلى التزام ذلك المنهج في واقع حياته،لأنه قدوة يحتذى،وطلابه يأخذون عنه الأخلاق،والأدب،والعلم ولعمر الله أي فائدة ترجى من معلم ينقض قوله عمله ! .
ثم إن التناقض الذي يشاهده الطالب من قبل معلمه يوقعه في حيرة عظيمة،وكأني بذلك الطالب المحتار وهو يسأل نفسه : لقد احترت في أمري،ماذا أفعل،هل أصدق قوله،أم فعله الذي يناقض قوله ؟،فهو يقول لنا : الكذب عادة سيئة مذمومة وعاقبتها إلى الخسران،ثم نسمعه بعد ذلك مراراً يكذب علينا ! .
من أجل ذلك كان النهي الشديد في قوله تعالى : {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) سورة الصف.
فالواجب على المربين والمعلمين أن يتقوا الله في فلذات الأكباد،فهم أمانة في أعناقهم،فليحرصوا على تعليمهم ما ينفعهم،ومطابقة أقوالهم لأعمالهم،لأن في ذلك ترسيخاً للعلم الذي تعلموه من معلميهم ومربيهم .
قال الإمام الغزالي (2) : "الوظيفة الثامنة : أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذِّب قوله فعله؛لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر . فإذا خالف العملُ العلمَ منع الرشد وكلُّ مَن تناول شيئاً وقال للناس : لا تتناولوه فإنه سمٌّ مهلكٌ
__________
(1) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (3 / 457)وانظر: تأملات في السيرة النبوية لمحمد السيد الوكيل، ص211.
(2) إحياء علوم الدين . (1/97) ط . دار الحديث .(1/31)
سخر الناسُ به واتهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون :لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به .ومثل المعلمُ المرشد من المسترشدين مثلُ النقش من الطين والظل من العود فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه ومتى استوى الظلُّ والعود أعوج ؟
قال الشاعر :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ مِنَ السَّقَامِ لِذِي الضَّنى . كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَأَرَاكَ تُلْقِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا ... نُصْحًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويهتدى ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلُق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
الخلاصةُ :
1. الحالة الذميمة التي يتحلى بها من خالف قوله عمله،وكفى بقوله تعالى : ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) فإنه فيه عظة وعبرة لمن عقل .
2. إن مخالفة القول للعمل توقع الطالب في حيرة،وتجعله لا يستقر على حال .
3. عظم المهمة الملقاة على المعلمين والمربين .
ــــــــ
4- العدل والمساواة :
قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالعَدْلِ وَالإِنْصَافِ،وَيَنْدُبُ إِلَى الإِحْسَانِ وَالفَضْلِ،وَيَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحْمِ وَإِعْطَاءِ ذَوِي القُرْبَى مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ،وَيَنْهَى عَنِ ارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالفَوَاحِشِ،مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ،مِمَّا يَأْتِيهِ العَبْدُ سِرّاً وَخِفْيَةً(1/32)
وَاللهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالخَيْرِ،وَيَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَالشَّرِّ،لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللهُ فِي الفِطْرَةِ مِنْ وَحْيٍ قَوِيمٍ أَصِيلٍ،فَتَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ . (1)
وقال السعدي : " فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره.
وخص الله إيتاء ذي القربى -وإن كان داخلا في العموم- لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم، والحرص على ذلك.
ويدخل في ذلك جميع الأقارب قريبهم وبعيدهم لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر.
وقوله: { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله والقتل بغير حق والزنا والسرقة والعجب والكبر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش.
ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق الله تعالى.
وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1991)(1/33)
فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى فهي مما أمر الله به.
وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى الله عنه. وبها يعلم حسن ما أمر الله به وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال، فتبارك من جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الأشياء.
ولهذا قال: { يَعِظُكُمْ } به أي: بما بينه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عما فيه مضرتكم.
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه، فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه عملتم بمقتضاه فسعدتم سعادة لا شقاوة معها. " (1)
وقس على ذلك الولاية التي تكون للمعلم على تلميذه فإن له ولاية على طلابه بحسبها .
وقال تعالى : {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (15) سورة الشورى.
فَادْعُ النَّاسَ إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ القَوِيمِ،الذِي أَوْحَى بِهِ اللهُ إِلَى جَمِيعِ المُرْسَلِينَ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ،الذِينَ جَاؤُوا قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ،وَبِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى تَحْقِيقِ وَحْدَةِ الدِّينِ كَمَا أَنْزَلَهَا اللهُ،وَاثْبُتْ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ،وَعَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دِينٍ وَشَرْعٍ كَمَا أَمَرَكُمْ،وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ المُشْرِكِينَ،الذِينَ شَكُّوا فِي الحَقِّ بِمَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ،وَقُلْ : إِنَّنِي صَدَّقْتُ بِجَمِيعِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ،لا أُكَذِّبُ بِشَيءٍ مِنْهَا،وَإِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِالعَدْلِ فِي الحُكْمِ والقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ،فَلا أَحِيفُ وَلاَ أَجُورُ،وَأَمَرَنِي رَبِّي بِأَنْ أَقُولَ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ : إِنَّ اللهَ هُوَ المَعْبُودُ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ،وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ،وَنَحْنُ نُقِرُّ بِهِ طَوْعاً وَاخْتِيَاراً،وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 447)(1/34)
رَبُوبِيَّتَهُ،وَلَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يَضِيرُهُ بِشَيءٍ فَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً،وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْمَلُونَ،فَنَحْنُ نُجْزَى بِأَعْمَالِنَا،وَأَنْتُمْ تُجْزَونَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ وِزْرَ أََحَدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ وَلاَ خُصُومَةَ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ وَلاَ احْتِجَاجَ،فَإِنَّ الحَقَّ قَدْ وَضَحَ وَلَيْسَ لِلمحَاجَّةِ مَجَالٌ،وَاللهُ تَعَالَى سَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،فَيَقْضي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِالحَقِّ فِيمَا كُنَّا نَخْتَلِفُ فِيهِ فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا،وَإِلَيهِ المَرْجِعُ والمآبُ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بَعَمَلِهِ إِنَّ خَيْراً فَخَيْراً،وَإِنْ شَرّاً فَشَراً . (1)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة .
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ هَمَّكُمْ وَدَأبُكُمُ التِزَامَ الحَقِّ فِي أَنْفُسِكُمْ ( بِدُونِ اعْتِدَاءٍ عَلَى أَحَدٍ )،وَفِي غَيْرِكُمْ ( بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ابْتَغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحْدَهُ،لاَ لأجْلِ إِرْضَاءِ النَّاسِ،وَاكْتِسَابِ السُّمْعَةِ الحَسَنَةِ عِنْدَهُمْ )،وَكُونُوا شُهَدَاءَ بِالعَدْلِ ( القِسْطِ )،دُونَ مُحَابَاةٍ لِمَشْهُودٍ لَهُ،وَلاَ لِمَشْهُودٍ عَلَيهِ،فَالعَدْلُ مِيزَانُ الحُقُوقِ،وَمَتَى وَقعَ الجُورُ فِي أُمًّةٍ،زَالَتِ الثِّقَةُ مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ،وَانْتَشَرَتِ المُفَاسِدُ،وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُ المُجْتَمَعِ . وَلاَ تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمُ الشَّدِيدَةُ لِقَوْمٍ،وَبُغْضُكُمْ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ العَدْلِ فِي أَمْرِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ حَقٍّ،أَوْ عَلَى عَدَمِ الحُكْمِ لَهُمْ بِذَلِكَ،فَالمُؤْمِنُ يُؤْثِرُ العَدْلَ علَى الجُورِ وَالمُحَابَاةِ . ثُمَّ يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ السَّابِقَ بِضَرُورَةِ إِقَامَةِ العَدْلِ،وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالقِسْطِ فَيَقُولُ : اعْدِلُوا لأنَّ العَدْلَ أَقْرَبُ لِتَقْوَى اللهِ،وَأبْعَدُ عَنْ سَخْطِهِ،وَاتَّقُوا سَخَطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لأنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا،وَاحْذَرُوا أنْ يُجَازِيَكُمْ بِالعَدْلِ عَلَى تَرْكِكُمُ القِيَامَ بِالعَدْلِ . (2)
وقال تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4166)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 678)(1/35)
يَقُولُ تَعَالَى : وَمِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ : ألاَّ يَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ،إذَا وَلُّوا أَمْرَهُ،أَوْ تَعَامَلُوا مَعَهُ،إلاَّ بِالطَّرِيقَةِ الحَسَنَةِ ( إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ) التِي تَحْفَظُ مَالَهُ،وَتُثَمِّرُهُ،وَتُرَجِّحُ مَصْلَحَتَهُ،وَأَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ،وَأَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اليَتِيمُ سِنَّ الرُّشْدِ،وَالقُوَّةِ وَالقُدّرَةِ عَلَى الإِدْرَاكِ وَالتَّصَرُّفِ
وَلَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ،فَأَخَذُوا فِي عَزْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَطَعَامِهِ،عَنْ مَالِهِمْ،فَكَانَ طَعَامُ اليَتِيمِ يَفْسَدُ،لاَ يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُمْ . فَشَكَوا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ . } فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّاسَ بِمُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ اليَتِيمِ،وَالعِنَايَةِ بِمَالِهِ،وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ،وَيُحَذِّرَهُمْ تَعَالَى مِنَ التَّجَاوُزِ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً : إِيفَاءَ الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ عِنْدَ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ،وَعَدَمَ غَمْطِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَاللهُ تَعَالَى يَدْعُو المُؤْمِنَ أَنْ يَبْلُغَ جُهْدَهُ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ،فَإِذَا بَلَغَ جُهْدَهُ،وَعَمِلَ مَا فِي وُسْعِهِ،يَكُونُ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ اللهِ،وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ إِن أَخَطَأَ بَعْدَ ذَلِكَ،لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها،وَقَدرَ طَاقَتِهَا .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا وَصَّى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً العَدْلُ فِي القَوْلِ واَلفِعْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ،وَفِي كُلِّ حَالٍ : فِي الشَّهَادَةِ وَفِي الحُكْمِ وَفِي الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ،وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِقَرِيبٍ،فَإِنَّ القَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَجِبُ ألاَّ تَصْرِفَا الإِنْسَانَ عَنْ قَوْلِ الحَقِّ،وَعَنِ العَدْلِ فِيهِ .
كَمَا يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ،وَالقِيَامِ بِطَاعَتِهِ،فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى،وَفِيمَا عَاهَدُوا النَّاسَ عَلَيْهِ .وَهَذَا مَا أَوْصَى بِهِ اللهُ المُؤْمِنِينَ،وَأَمَرَهُمْ بِهِ،وَأَكَّدَ عَلَيهِ .
وَيَقُولُ تَعَالَى : إذَا اجْتَهَدْتُمْ بِالوَفَاءِ بِمَا أَمَرَ اللهُ،وَتَوَاصَيْتُم بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَيْتُمْ عَنِ المُنْكَرِ،فَلَعَلَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَتَّعِظُونَ،وَتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ . (1)
فمما سبق يتبين أن القيام بالقسط والعدل بين الناس،شأنه عظيم،ولذلك جاءت الآيات في بيان أمره والتعظيم من شأنه .
__________
(1) = أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 942)(1/36)
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يضرب أروع الأمثلة في تحقيقه للعدل بين أفراد أمته .
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ،فَقَالَ وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ،حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ » . ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ،ثُمَّ قَالَ « إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ،وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ،وَايْمُ اللَّهِ،لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » (1) .
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ تَصَدَّقَ عَلَىَّ أَبِى بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّى عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَانْطَلَقَ أَبِى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ ». قَالَ لاَ. قَالَ « اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِى أَوْلاَدِكُمْ ». فَرَجَعَ أَبِى فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. (2)
وعَنِ الشَّعْبِىِّ حَدَّثَنِى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لاِبْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا وَهَبْتَ لاِبْنِى.فَأَخَذَ أَبِى بِيَدِى وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِى وَهَبْتُ لاِبْنِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا ». قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ: « أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا ». قَالَ :لاَ. قَالَ: « فَلاَ تُشْهِدْنِى إِذًا ،فَإِنِّى لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ». (3)
وعَنْ أَبِي حَرِيزٍ،أَنَّ عَامِرًا،حَدَّثَهُ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ،قَالَ : إِنَّ وَالِدِي بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ،أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ رَوَاحَةَ نُفِسَتْ بِغُلاَمٍ،وَإِنِّي سَمَّيْتُهُ نُعْمَانَ،وَإِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى جَعَلْتُ لَهُ حَدِيقَةً لِي أَفْضَلَ مَالِي هُوَ،وَإِنَّهَا قَالَتْ : أَشْهِدِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ لَكَ وَلَدٌ غَيْرَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : لاَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3475 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4505)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4267 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4269 )(1/37)
تُشْهِدْنِي،إِلاَّ عَلَى عَدْلٍ،فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ." (1)
والمعلمون،يتعرضون لمواقف كثيرة من قبل طلابهم،سواء في توزيع المهام والواجبات إن كانت هناك أعمال تحتاج إلى مشاركات جماعية أو تفضيل بعضهم دون بعض ونحو ذلك . ويتأكد العدل عند وضع العلامات ورصد الدرجات،فلا مجال لمحاباة أحد،أو تفضيل أحد على أحد سواء لقرابته أو معرفته أو لأي أمر كان،فإن هذا من الظلم الذي لا يرضاه الله وصاحبه متوعد بالعقوبة .
إنَّ اختلال هذا الميزان عند المعلم،أي وجود التمييز بين الطلاب،كفيل بان يخلق التوتر وعدم الانسجام والعداوة والبغضاء بين الطلاب،وكفيل بأن يجعل هناك هوة واسعة بين المعلم وطلابه الآخرين الذين بين طلابه لكي يشيع الإخاء والمحبة بينهم .
أيها المعلم : إن كانت لك علاقة قربى أو صداقة مع أحد طلابك،فلتكن بعيدة عن مسمع ومرأى الطلاب الآخرين .
عَنِ الْحَسَنِ،قَالَ : إِذَا لَمْ يَعْدِلِ الْمُعَلِّمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ كُتِبَ مِنَ الظُّلْمَةِ " (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 507) (5107) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَبَايُنُ الأَلْفَاظِ فِي قِصَّةِ النَّحْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ يُوهِمُ عَالِمًا مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَهَاتُرٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، لأَنَّ النَّحْلَ مِنْ بَشِيرٍ لاِبْنِهِ كَانَ فِي مَوْضِعَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ ، وَذَاكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا وُلِدَ النُّعْمَانُ أَبَتْ عَمْرَةُ أَنْ تُرَبِّيَهُ حَتَّى يَجْعَلَ لَهُ بَشِيرٌ حَدِيقَةً ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ، وَأَرَادَ الإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُشْهِدْنِي إِلاَّ عَلَى عَدْلٍ ، فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ، عَلَى مَا فِي خَبَرِ أَبِي حَرِيزٍ ، تُصَرِّحُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ، أَنَّ الْحَيْفَ فِي النَّحْلِ بَيْنَ الأَوْلاَدِ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّبِيِّ مُدَّةٌ ، قَالَتْ عَمْرَةُ لِبَشِيرٍ : انْحَلِ ابْنِي هَذَا فَالْتَوَى عَلَيْهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا فِي خَبَرِ ، أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ ، وَالْمُغِيرَةِ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، فَنَحَلَهُ غُلاَمًا ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - ، لِيُشْهِدَهُ ، قَالَ : لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النُّعْمَانُ ، قَدْ نَسِيَ الْحُكْمَ الأَوَّلَ ، أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ ، وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ ، فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ فِي نَفْيِ جَوَازِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّحْلَ فِي الْغُلاَمِ لِلنُّعْمَانِ كَانَ ذَلِكَ ، وَالنُّعْمَانُ مُتَرَعْرِعٌ ، أَنَّ فِيَ خَبَرِ عَاصِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الْغُلاَمُ ؟ قَالَ : غُلاَمٌ أَعْطَانِيهِ أَبِي ، فَدَلَّتْكَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ، عَلَى أَنَّ هَذَا النُّحْلَ غَيْرُ النُّحْلِ الَّذِي فِي خَبَرِ ، أَبِي حَرِيزٍ ، فِي الْحَدِيقَةِ ، لأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِ عَمْرَةَ ، عَنْ تَرْبِيَةِ النُّعْمَانِ عِنْدَمَا وَلَدَتْهُ ، ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ ، أَنَّ أَخْبَارَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - ، تَتَضَادُّ ، وَتَهَاتَرُ ، وَأَبُو حَرِيزٍ ، كَانَ قَاضِيَ سِجِسْتَانَ."
(2) - النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (351 ) وتَفْسِيرُ سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (106 ) حسن(1/38)
الخلاصة :
(1) عظم شأن العدل،حيث أمر الله به وأوجبه مع القريب والبعيد،ومع العدو أيضاً
(2) أهمية تحقيق العدل والمساواة بين الطلاب،لما فيه من إشاعة المحبة والمودة بينهم .
(3) يتأكد العدل ويتعين،عند وضع العلامات ورصد الدرجات
(4) الحرص على إبقاء علاقات القرابة أو الصداقة،بعيدة عن مسمع ومرأى الطلاب الآخرين .
ــــــــ
5- التحلي بالأخلاق الفاضلة والحميدة :
لا شك أن الكلمة الطيبة والعبارة الحسنة تفعل أثرها في النفوس،وتؤلف القلوب،وتذهب الضغائن والأحقاد من الصدور، وكذلك التعبيرات التي تظهر على وجه المعلم تحدث مردوداً إيجابياً أو سلبياً لدى الطالب،وذلك لأنَّ انبساط الوجه وطلاقته مما تأنس به النفسُ وترتاح إليه . وأما عبوس الوجه وتقطيب الحاجبين فهو مما تنفر منه النفس وتنكره .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أطيب الناس روحاً ونفساً،وكان أعظمهم خلقاً {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم ,ولم يكن فظاً غليظاً حاد الطباع بل كان سهلاً سمحاً ليناً رءوفاً بأمته { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة.
يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاَ مِنْ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ وَقَوْمِهِمْ ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ )،يَعِزُّ عَلَيْهِ وَيَصْعُبُ الشَّيْءُ الذِي يَشُقُّ عَلَيْهِمْ،وَيَزِيدُهُمْ عَنَتاً،وَشَرِيعَتُهُ كُلُّها يُسْرٌ وَسَمَاحَةٌ وَكَمَالٌ،عَلَى مَنْ أرَادَها يُسْراً وَسَمَاحَةًُ،وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَصَلاحِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَهُوَ شَدِيدُ الرَأْفَةِ وَالرَحْمِةِ بِالمُؤْمِنِينَ . (1)
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1364)(1/39)
حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
لَقَدْ كَانَ مِنَ أَصْحَابِكَ مَا يَسْتَحِقُّ المَلاَمَةَ وَالتَّعْنِيفَ،بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ،إذْ تَخَلَّوْا عَنْكَ حِينَ اشْتِدَادِ الحَرْبِ،وَشَمَّرُوا لِلْهَزِيمَةِ وَالحَرْبِ قَائِمَةٌ،وَمَعَ ذَلِكَ لِنْتَ لَهُمْ،وَعَامَلْتَهُمْ بِالحُسْنَى،لِرَحْمَةٍ أوْدَعَها اللهُ فِي قَلْبِكَ،وَخَصَّكَ بِهَا . وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِحُسْنِ الخُلُقِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ . ثُمَّ قَالَ لَوْ كُنْتَ خَشِناً جَافِياً فِي مُعَامَلَتِهِمْ لَتَفَرَّقُوا عَنْكَ،وَلَنَفَرُوا مِنْكَ،وَلَمْ يَسْكُنُوا إلَيْكَ،وَلَكِنَّ اللهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ،وَأَلانَ جَانِبَكَ لَهُمْ تَأَلُّفاً لِقُلُوبِهِمْ . ثُمَّ أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمْ،وَأنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم الله،وَأنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الأَمْرِ تَطِييباً لِقُلُوبِهِمْ،وَشَحْذاً لِهِمَمِهِمْ
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ . فَإذا شَاوَرْتَهُمْ فِي الأَمْرِ،وَعَزَمْتَ عَلَى إِنْفَاذِهِ،فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فِيهِ،لأنَّ اللهَ يُحِبُّ مَنْ يَتَوكَّلُ عَلَيْهِ،وَيَثِقُ بِنَصْرِهِ . (1)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما - قُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّوْرَاةِ . قَالَ أَجَلْ،وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ،أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ،لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِى الأَسْوَاقِ،وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ،وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا،وَآذَانًا صُمًّا،وَقُلُوبًا غُلْفًا ." (2)
تلكم كانت بعض صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ،خلق عظيم،وبالمؤمنين رءوف رحيم،ليس بفظ ولا غليظ القلب ... إلخ وتلك صفات كانت من لوازم الدعوة إذ أن المدعوين يحتاجون إلى من يرفق بهم ويعلمهم أمور دينهم،ففيهم الجاهل وفيهم الصغير وفيهم الكبير،وكل أولئك يلزمهم رفق،وخلق،وحلم،وأناة،ولطف،وحسن تصرف وإلا انفضُّوا وغضبوا ولم يتبعوا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 452)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2125 ) -الحرز : الحصن -سخاب : صيَّاح(1/40)
الهدى ممن جاء به . ولقد ضرب رسولنا الكريم – بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في حسن الخلق،كيف لا وربنا عز وجل هو الذي امتدحه بذلك {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ: يَرْضَى لِرِضَاهُ، وَيَسْخَطُ لِسَخَطِهِ " (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ،فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً،حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ،ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ .فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . (2)
ما أعظم ذلك الخلق الرفيع الذي امتاز به النبي - صلى الله عليه وسلم - ،كان في مقدوره أن يؤدب ذلك الأعرابي على صنيعه،ولكن لم تكن تلك من شيم ولا أخلاق المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ،كيف يفعل ذلك وهو الذي قال : « مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِى أَىِّ الْحُورِ شَاءَ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ الْجَلِيلِ الْفِلَسْطِينِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَفَاذِهِ، مَلَأَهُ اللهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا.." (4)
والمربون والمعلمون حري بهم أن يترسموا خطى المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - ،في التحلي بالأخلاق الفاضلة والأدب الرفيع،وهي من أنجع الوسائل في التعليم والتربية،حيث إن الطالب في الغالب يتأثر ويتخلق بأخلاق معلمه ويتقبل منه أكثر من غيره،فإذا كان المعلم يتحلى بأخلاق حميدة أثَّر ذلك على طلابه إيجاباً،وعملت في نفوسهم ما لم تعمله عشرات النصائح والدروس،ومن هنا نفهم سر قوله - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ شَىْءٍ يُوضَعُ فِى الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (11 / 265) (4434 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5809 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2476 )-جبذ : جذب
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 117) (16818 ) وسنن الترمذى- المكنز - (2681 ) حسن
(4) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (6 / 3086) (7129 ) حسن(1/41)
حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ ». (1)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ " (2)
لأن حسن الخلق سجيةٌ تعمل عمل السحر في أسر القلوب،واستمالة النفوس،وإشاعة المحبة بين أفراد المجتمع . والمعلمون هم أولى الناس بذلك ! .
الخلاصة :
(1) الأخلاق صفة حميدة ينبغي للمعلم أن يتحلى بها،ويحث طلابه على التخلق بها .
(2) الكلمة الطيبة،والبشاشة وطلاقة الوجه،من الأسباب التي تزيل الحاجز النفسي بين المعلم وتلميذه .
(3) الحلم والأناة،وانشراح صدر المربي،في مقابل جهل الطالب .
ــــــــ
6- تواضع المعلم :
التواضع خلق حميد،يضفي على صاحبة إجلالاً ومهابة،ومن ظن أن التواضع خلق مرذول ينبغي تجنبه وترك التخلق به فقد أخطأ وأبعد النجعة،وحسبك بإمام الأتقياء مثلاً - صلى الله عليه وسلم - والتواضع وإن كان من لوازمه الذل،فهو إن كان في جانب الله فما ألذَّه من ذلٍّ وما أطيبه،لأن العبودية لا تتحقق ولا تكمل إلا بالذل لله والانكسار بين يديه،وأما الذل الذي يكون في جانب المخلوقين فهو في حق المؤمنين خاصة،قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2134 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (10 / 365) (7633 ) حسن(1/42)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ،وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ،وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ،فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ،وَأَشَدُّ مَنَعَةً،وَأَقْوَمُ سَبِيلاً،يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ : العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ،وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ،يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ،وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ،وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ،يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ،وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ . وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً،وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ،عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ،مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ . (1)
وقال السعدي : " ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله - أعزة، قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم، قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. " (2)
ويقال في اللغة: " ذليل لفلان " فلماذا - إذاً - يقول الحق هنا: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }،و" على " تفيد العلو.والذلة تفيد المكانة المنخفضة، فكيف يأتي هذا التعبير؟ لقد جاء هذا القول على هذا الشكل لحكمة هي: أن المؤمن ما دام يحب الله ويحبه الله. وساعة يكون في ذلة لأخيه المؤمن فهذا يرفع من قدره. وهي ليست ذلة بالمعنى المتعارف عليه، ولكنه لين جانب وعطف ورحمة. إذن فقوله الحق: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ { يعني أن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 724)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 235)(1/43)
المؤمنين يعطفون على غيرهم من المؤمنين حتى يبدو هذا العطف وكأنه ذلة. وبعض العلماء يقول: إن المادة " ذال " و " لام " تدل على معنيين متقابلين، مثال ذلك قوله الحق:{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ }[يس: 72]
أي جعلناها خاضعة لتصرفهم. وهذا التذليل ليس بقهر من الإنسان للأنعام ولكنه بتسخير من الله. وهي ميسرة لخدمة الإنسان. ومثال آخر. قوله الحق:{ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً }[النحل: 69]
أي متطامنة مهيأة. إذن فهذه ذلة اللين. وهناك " ذُل " - بضم الذال - وهو ضد العز. وهناك " ذِل " - بكسر الذال - وهو اللين. إذن فالذل بكسر الذال هو ضد الصعوبة؛ أي اللين. والذُّل - بضم الذال - هو ضد العز -، فإذا اردنا ذلّة اللين؛ فذل المؤمن للمؤمن من الذُّل، وإن أردنا الذلة التي هي ضد العز، فهي من الذُّل. وعندما يكون المؤمن على ذِلة للمؤمن. فهي ذِلة اللين والعطف. وعندما يريد الحق الشيء ليتدانى للمؤمن ولا يتعبه، فهو يقول:{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }[الحاقة: 23]
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }[الإنسان: 14]
أي دُلِّيت عناقيدها. فالفاكهة تنزل إلى المكان الذي يوجد فيه المؤمن. وإن وقف المؤمن لطال بيده أن يقطف الثمار. وإن اضطجع لاستطاع أن ينال أيضاً من الثمار لأنها تتدانى له. وإن نام المؤمن لتدانى قطاف الثمار إلى مكانه وبذلك يستطيع أن يأكل منها في أي وقت وعلى أي وضع.
وهنا يأتي الحق بالقول الحكيم: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي أن ذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته. وبها يكون المؤمن أهلاً لأن ترفع منزلته؛ لأنه مصطفى بأن الله يحبه وأنه يحب الله، ولا توجد رفعة أكثر من هذه رفعة. وعَنْ أَوْسِ بْنِ خَوْلِيٍّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " يَا أَوْسُ، مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللهُ " (1) أي من تواضع
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 302) (977 ) حسن(1/44)
وفي باله الله فإن الله يرفعه. (1)
والمعلم في أمس الحاجة إلى التخلق بهذا الخلق العظيم،لما فيه من تحقيق الاقتداء بسيد المرسلين،ولما فيه من نفع عظيم للمتعلمين .
وإذا كان الإنسان المسلم يحتاج إلى التواضع للنجاح في علاقته مع الله ثم مع المجتمع فإن حاجة المعلم إلى التواضع أشد وأقوى،لأن عمله العلمي والتعليمي والتوجيهي يقتضي الاتصال بالمتعلمين والقرب منهم حتى لا يجدوا حرجاً في سؤاله ومناقشته والبوح له بما في نفوسهم،لأن النفوس لا تستريح لمتكبر أو متجبر أو مغتر بعمله .أه (2)
وإليك بعض الأمثلة من تواضعه - صلى الله عليه وسلم - :
فعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى ». وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ فِيهِ « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ». (3)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ." (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ » . فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ « نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ » (5) .
وعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ،أَوْ ذِرَاعٍ،لأَجَبْتُ،وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ،لَقَبِلْتُ.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 716)
(2) - إعداد المعلم . د / عبد الله عبد الحميد محمود . ص181.
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7389 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6072 )
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (2262 ) -القراريط : جمع قيراط وهو من أجزاء الدينار(1/45)
قَالَ : وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَابَ طَعَامًا قَطُّ،إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ،وَإِلاَّ تَرَكَهُ. (1)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ،قَالَ : فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ،فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ،قَالَ : ثُمَّ تَلا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ : وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ" (2)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ،أَنَّ رَجُلا كَلَّمَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ،فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ" (3)
ويبلغ التواضع ذروته عند فتح مكة :
عَنْ أَنَسٍ،قَالَ : لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ اسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ،فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى رَحْلِهِ تَخَشُّعًا " (4) ،وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ،وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَضَعَ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ حَتّى إنّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ . (5)
أرأيتم تواضعاً أعظم من ذلك ؟ قائد يظفر بخصومه الذين أخرجوه من بلده،وقاتلوه،وسبوه ..،ثم يظفر بهم ويدخل معقلهم دخول الفاتحين،ومع ذلك يطأطىء رأسه عند انتصاره على عدوه تواضعاً لله وشكراً فما أعظمه من قائد،وما أجله من مربِ!!
والتواضع يضاد التكبر،وهي خصلة ذميمة لا تعود على صاحبها بالنفع .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 661)(10212) 10215-10216 – صحيح - الكراع : مستدق الساق من الغنم والبقر العارى من اللحم
(2) - المستدرك للحاكم(3733) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم (4366) صحيح
(4) - مسند أبي يعلى الموصلي (3393) فيه ضعف
(5) - سيرة ابن هشام - (2 / 405) صحيح مرسل(1/46)
ومن آثار التكبر الذي يصيب بعض المعلمين في المجتمعات الإسلامية :
أ- جحوده للحق وعدم الخضوع له .
ب- الغرور بما لديه من علم مع أنه قليل .
ج- ترك طلب العلم لظنه أنه قد علم وفهم كل شيء .
ثم إن المعلم المتكبر لا يستطيع أن يصل إلى أهداف التعليم،ولا يمكِّنه تكبره من أن يعرف ما تحقق منها لأنه بعيد عن مخالطة طلابه،والدنو منهم حتى يستطيع أن يعرف مشكلاتهم وما يعوق بلوغهم الأهداف التربوية المرسومة , وما يحتاجه من مراجعة للطريقة وترتيب المعلومات وتبسيطها وما إلى ذلك . كما أن الطلاب لا يرتاحون إلى المعلم المتكبر المتغطرس فلا يصدقونه مشاعرهم وأحاسيسهم وما يواجهونه من صعوبات،مما يجعل الفائدة التي يحصلون عليها من مثل هذا المعلم قليلة جداً . أ ه (1)
الخلاصة :
(1) أثر التواضع ليس قصراً على المعلم،بل يتعداه إلى الطلاب،ويؤثر فيهم إيجاباً
(2) التواضع سبب في إزالة الحواجز بين المعلم وتلميذه .
(3) التكبر سبب لنفور الطلاب من معلمهم،والإعراض عن تلقي العلم منه .
(4) بمقدار ما يكون الطالب قريباً من معلمه،يتحصل الطالب على العلم بشكل أفضل،والتواضع يحققه .
ــــــــ
7 شجاعة المعلم :
__________
(1) - http://www.rasoulallah.net/subject2.asp?lang=ar&parent_id=108&sub_id=1164(1/47)
قد يستغرب الكثيرون هذا العنوان،وقد يقول قائل : ما دخل الشجاعة بالتعليم،فضلاً عن المعلم !
نقول : الشجاعة التي نرمي إليها،هي الشجاعة الأدبية كما يحلو للكثيرين أن يسميها بهذا الاسم،ولا مشاحة في الاصطلاح،فأما الشجاعة التي يذهب الذهن إليها عندما نسمع هذه الكلمة لأول وهلة،فلقد كان نبيكم صلوات الله وسلامه عليه،أشجع الناس، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ : كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ،وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ،اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ القَوْمِ مِنْهُ." (1)
وأما الشجاعة المقصودة هنا،فهي شجاعة الكلمة،والاعتراف بالخطأ والقصور البشري،وهذا لا يكاد يسلم منه أحد.
أما التدليس،والجبن،والمراوغة فليست أمراً محموداً،ويحسن بالمعلم أن ينأى عنه . ولعل الصورة تتضح بعد تأمل الأمثلة التالية :
عن رَافِعَ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَدِمَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ « مَا تَصْنَعُونَ ». قَالُوا كُنَّا نَصْنَعُهُ قَالَ « لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ - قَالَ - فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ». (2)
من سياق الحديث يتضح لنا بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وأنه يخضع للأحوال التي تعتري البشر من النسيان والخطأ وغير ذلك . أما في مقام التشريع فلا يجوز عليه ذلك،نعم قد يحصل منه نسياناً في مقام التشريع لكي يشرع للأمة،كما سلم من ركعتين في صلاة رباعية، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِحْدَى صَلاَتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ،فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا،كَأَنَّهُ غَضْبَانُ،وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 431)(1347) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6276 ) - يأبر : يلقح -نفضت : أسقطت ثمرها(1/48)
الْيُسْرَى،وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ،وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى،وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ . وَفِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ،فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ،وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ فِى يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قَالَ « لَمْ أَنْسَ،وَلَمْ تُقْصَرْ » . فَقَالَ « أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ » . فَقَالُوا نَعَمْ . فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ،ثُمَّ سَلَّمَ،ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ،ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ،ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ،ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ . (1)
قال النووي عن حديث تأبير النخل: قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْل خَبَرًا،وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَات . قَالُوا : وَرَأْيه - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمُور الْمَعَايِش وَظَنّه كَغَيْرِهِ،فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوع مِثْل هَذَا،وَلَا نَقْص فِي ذَلِكَ،وَسَبَبه تَعَلُّق هِمَمهمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ ... (2)
ولو أننا أعدنا النظر إلى سياق الحديث مرة أخرى،فإننا لا نجد فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،حاول أن يجد لنفسه العذر عندما رأى هذا الرأي – وحاشاه ذلك – بل اعترف ببشريته،وأن هذه الأحكام تجري على البشر .
وتعالوا بنا لننظر إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنرى كيف ترسموا خطى نبيهم عليه أفضل الصلاة والتسليم فمن ذلك :
عَنْ مَسْرُوقٍ،قَالَ : رَكِبَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : لَا أَعْرِفَنَّ مَا زَادَ الصَّدَاقُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ،ثُمَّ نَزَلَ،فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ،فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (482 )
السرعان : أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشىء ويقبلون عليه بسرعة
(2) - شرح النووي على مسلم - (8 / 85)
قلت : ليس هذا الكلام على إطلاقه ، فكل قول قاله - صلى الله عليه وسلم - في جميع شئون الدنيا والدين ، ولم يأت الوحي بخلافه فكله حقٌّ ووحي من عند الله تعالى ، لا يجوز رده بحجة أنه من أمور الدنيا كما يفعل أصحاب المدرسة العقلية على حدِّ زعمهم احتجاجاً بهذا الحديث .(1/49)
الْمُؤْمِنِينَ،نَهَيْتَ النَّاسَ أَنْ يَزِيدُوا النِّسَاءَ فِي صَدُقَاتِهِنِّ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَتْ : أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا الْآيَةَ ؟ فَقَالَ : اللَّهُمَّ غَفْرًا،كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ،ثُمَّ رَجَعَ،فَرَكِبَ الْمِنْبَرَ،فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ،إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَزِيدُوا فِي صَدُقَاتِهِنِّ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ،فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ مَالِهِ مَا أَحَبَّ،أَوْ فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ فَلْيَفْعَلْ " (1)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ،قَالَ : " سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَةٍ،فَقَالَ فِيهَا،فَقَالَ الرَّجُلُ : لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا،قَالَ عَلِيٌّ : " أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " (2)
الله أكبر انظر إلى تلامذة محمد - صلى الله عليه وسلم - ،يضربون أروع الأمثلة في الشجاعة،والإنصاف،ولو كان على حساب النفس،وهذا والله ليزيد المرء عزاً ورفعة،ولا ينقص من قدره شيئاً،ومن ظن غير ذلك فقد حاد عن جادة الصواب .
والمعلم بحكم وظيفته وبشريته،معرض لمثل هذه المواقف،فيا ترى ماذا يقول المعلم إذا أخطأ في مسألة ما وعارضه بها أحد طلابه،ثم بان له الصواب،فهل يبادر إلى شكر الطالب والاعتراف بالخطأ ؟ أم أنه يراوغ،ويقلب الكلام بعضه على بعض،حتى يبرهن لهم صحة قوله ؟ أترك لك الجواب !
قال القرطبي : " ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبدالبر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه،ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم." (3)
الخلاصة :
(1) إتصاف المعلم بالشجاعة،مطلب لكل معلم .
(2)
__________
(1) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (8 / 94)(1566 ) حسن ، وضعفها بعض أهل العلم ، والراجح أنها حسنة، وقال ابن كثير : " إسناده جيد قوي" تفسير ابن كثير - دار طيبة - (2 / 244)
(2) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (16 / 192)(19588) فيه ضعف
(3) - تفسير القرطبي موافق للمطبوع - (1 / 286)(1/50)
الاعتراف بالخطأ،ليس فيه تنقيص لصاحب الخطأ،بل هو رفعه له،ودليل على شجاعته .
(3) الاعتراف بالخطأ معناه إصلاح الخطأ،وعكسه الاستمرار عليه والعناد فيه .
ــــــــ
8 -مزاح المعلم مع تلاميذه :
من المعلوم أن المواد العلمية تتميز بالجفاف في مادتها،وهي تستلزم حضوراً عقلياً وقلبياً،فتجد الطالب يشحذ حواسه كلها لاستيعاب المادة العلمية المطروحة.
ومهما يتميز به المعلم من حسن في الأداء،وجودة في الطرح،فإن عقل التلميذ له قدرة محدودة في استقبال المعلومات،ولذا كان حريٌّ بالمعلم أن يدخل الطرفة بين ثنايا الدروس العلمية لكي يطرد السآمة والملل الذي قد يخيم على أجواء الفصل من جراء تتابع عرض المواد العلمية
ومن فوائد بث الطرفة بين ثنايا الدرس من حين لآخر : أنها تطرد السآمة والملل،ومنها أنها تريح الذهن قليلاً من عناء المتابعة الدقيقة للمعلم،ومنها أنها تفيد المعلم أيضاً في أخذ قسط من الراحة،ومنها أنها تشحذ الذهن وتعطيه جرعة جديدة لمواصلة استقبال المعلومات،ومنها أنها تغير جو الفصل الذي خيم عليه الجفاف .. إلى غير ذلك .
والمزاح : بكسر الميم الانبساط مع الغير من غير تنقيص أو تحقير له (1) يقول النووي : اعلم أن المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ويشغل عن ذكر الله والفكر في مهمات الدين،ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء،ويورث الأحقاد،ويسقط المهابة والوقار . فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله على الندرة،لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته،وهو
__________
(1) - قطوف من الشمائل المحمدية . ص93 ( قال محمد جميل زينو : ذكره الزغبي محقق الشمائل المحمدية ) .(1/51)
سنة مستحبة،فاعلم هذا فإنه مما يعظم الاحتياج إليه اه (1) .
وقال الغزالي في الإحياء :" " وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مِزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَلَا يُؤْذِي قَلْبًا، وَلَا يُفْرِطُ فِيهِ . فَإِنْ كُنْت أَيُّهَا السَّامِعُ تَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا وَعَلَى النُّدُورِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْك . وَلَكِنْ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ الْمِزَاحَ حِرْفَةً , وَيُوَاظِبَ عَلَيْهِ وَيُفْرِطَ فِيهِ ثُمَّ يَتَمَسَّكُ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ مَعَ الزُّنُوجِ أَبَدًا لِيَنْظُرَ إِلَى رَقْصِهِمْ , وَيَتَمَسَّكُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَلْعَبُون".. (2)
ولقد وردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مداعبته لأهله،ومزاحه مع أصحابه،وسوف نتخير منها - إن شاء الله - ما يكفي ويشفي :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا،قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَالَ : إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا." (3)
وعَنْ أَنَسٍ،أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا،وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ،فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا،وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ،وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّهُ،وَكَانَ رَجُلاً دَمِيمًا،فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ،فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلاَ يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ،فَقَالَ : أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا،فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَعَلَ لاَ يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،حِينَ عَرَفَهُ،وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ،أَوْ قَالَ : لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ." (4)
__________
(1) - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي . للمباركفوري . باب البر والصلة . رقم 56 وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (7 / 384) رقم الفتوى 47474 أسباب قسوة القلب
(2) - إحياء علوم الدين (3/203) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 844) رقم الفتوى 11614 شروط جواز المزاح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 295)(8481) 8462- صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 416)(12648) 12676- صحيح(1/52)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ كَانَ فَطِيمًا - قَالَ - فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَآهُ قَالَ « أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ». قَالَ فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ. (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ عَلَيْنَا،وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكَنَّى أَبَا عُمَيْرٍ،فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ،فَقَالَ : أَبَا عُمَيْرٍ،مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟. (2)
وعَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَلَهُ فِي حَاجَةٍ،فَلَمَّا ذَهَبَ،ثُمَّ رَجَعَ رَأَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ،فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ لأَنَسٍ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا ذَا الأُذُنَيْنِ،فَمَا زَالَ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِي فِي أَمْرِ آخِرَتِي حَتَّى رَضِيتُ وَرَضِيَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ،فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ،وَوَلَدَهُ،وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ " (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَحْمَلَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ،قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ نَاقَةٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَهَلْ تَلِدُ الإِِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ." (4)
وعَنْ عَائِشَةَ،أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِيَ الْجَنَّةَ،فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ،فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى،ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ : لَقَدْ لَقِيَتْ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً . فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ،إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ،حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا " (5)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ : دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ،وَعِنْدَهَا عَجُوزٌ فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ : إِحْدَى خَالَاتِي . قَالَ : أَمَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْعُجَّزُ،فَدَخَلَ الْعَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6129 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5747 )
النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 313) (109) صحيح
(3) - الآحاد والمثاني - (4 / 78) (2227) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 680)(13817) 13853- صحيح
(5) - صِفَةُ الْجَنَّةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (416 ) حسن(1/53)
مَا شَاءَ اللَّهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً خَلْقًا آخَرَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا،وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ " . ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً *عُرُبًا أَتْرَابًا} (37-38) سورة الواقعة (1)
الخلاصة :
(1) الأثر الإيجاب الذي يحدثه المزاح في تلطيف جو الدراسة،وقطع الملل الذي يعتري الطلاب .
(2) مراعاة عدم الإكثار منه،كي لا يخرج الدرس عن مساره , وتضيع الفائدة المرجوة منه .
(3) الإكثار من المزاح،يزيل الهيبة والوقار .
(4) المزاح لا يكون إلا حقاً أي صدقاً
(5) عدم إيذاء أو إهانة أحد التلاميذ بالمزاح .
ــــــــ
9- الصبر واحتمال الغضب :
الصبر لغة بمعنى المنع والحبس (2) ،وهي منزلة رفيعة لا ينالها إلا ذوو الهمم العالية،والنفوس الزكية .والغضب هو ثورة في النفس،يفقد فيها الغاضب اتزانه،وتنقلب الموازين عنده،فلا يكاد يميز بين الحق والباطل.
وهي خصلة غير محمودة،إلا ما كان منها غضباً لله،وهو ما كان يتصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فإنه لم يكن يغضب لنفسه ولم ينتصر لها قط،إنما كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله
ووجه تعلق ذلك بالتعليم : أن المعلم يتعامل مع أفراد يختلفون في الطباع،والأفكار،فمنهم الجيد،ومنهم الضعيف،هذا بالإضافة إلى انشغال المعلم بعمليات
__________
(1) - الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ لِلْبَيْهَقِيِّ (332) حسن
(2) - عدة الصابرين لابن القيم الجوزيةص21 .(1/54)
التحضير،والتصحيح،والتدريس المتواصل أغلب فترات اليوم الدراسي،مع ما يتبع ذلك من تحمل لمشاكل الطلاب المتكررة،إلى غير ذلك من المهام المنوطة بالمعلم .
فكل الأمور السالفة الذكر وغيرها،تستلزم من المعلم صبراً وتحملاً،وهذا الصبر ليس سهل المنال،بل إنه يحتاج إلى طول ممارسة من المعلم حتى يعتاد ذلك ويألفه . وفقدان الصبر يوقع المعلم في حرج شديد،خصوصاً إذا كان ذلك أثناء ممارسته للتعليم،فإن المعلم يواجه عقليات متفاوتة في الإدراك والتصور،والاستجابة،إلى غير ذلك . فقد يظل المعلم يلقي درسه لمدة ساعة متواصلة، ثم يفاجأ بقول أحد طلابه بأنه لم يفهم هذا الدرس كله.
أو قد يتعرض المعلم إلى أسئلة تافهة أو في غير محلها،أو قد يفاجأ المعلم أثناء إلقائه بأن أحد طلابه نائم أو يبتسم .. الخ . بل إن من أشدها وقعاً وأثراً على المعلم وهو ما إذا تعرض المعلم لكلمة نابية من أحد طلابه،وليس ذلك بمستغرب لاختلافهم في الطباع،والإدراك ونحو ذلك .
إن احتواء الغضب والسيطرة عليه،علامة قوة للمعلم،وليست علامة ضعف،خصوصاً إذا كان ذلك المعلم قادراً على إنفاذ ما يريد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ "، قَالُوا: فَمَنِ الشَّدِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " (1)
ويجسد ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله فإنه كان أملك الناس لغضبه .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ -
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 516) (7917 ) وصحيح البخارى- المكنز - (6114) وصحيح مسلم- المكنز - (6809)
بالصرعة : رجل صرعة - بضم الصاد وفتح الراء - شديد الصرع للرجال ، والمراد به هاهنا : الحليم عند الغضب ، وهذا من الألفاظ التي نقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وضعها في اللغة بضرب من التوسع والمجاز ، وهو من فصيح الكلام ، كأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ ، وقد ثارت عليه شهوة الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته ، كان صرعة كما يصرع الصرعة الرجال.جامع الأصول في أحاديث الرسول - (8 / 438)(1/55)
- صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ.فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. (1)
علق النووي على هذا الحديث بقوله :" فِيهِ اِحْتِمَال الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاض عَنْ مُقَابَلَتهمْ . وَدَفْع السَّيِّئَة بِالْحَسَنَةِ وَإِعْطَاء مَنْ يُتَأَلَّف قَلْبُهُ،وَالْعَفْو عَنْ مُرْتَكِب كَبِيرَة لَا حَدّ فِيهَا بِجَهْلِهِ،وَإِبَاحَة الضَّحِك عِنْد الْأُمُور الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا فِي الْعَادَة،وَفِيهِ كَمَالُ خُلُق رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَحِلْمه وَصَفْحه الْجَمِيل " (2)
قلت : ولاشك أنه مهما بلغ من أمر الطالب ما بلغ،فهو دون فعل ذلك الأعرابي بكثير !! .
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَسَمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ،فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ . قُلْتُ أَمَّا أَنَا لأَقُولَنَّ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِى أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ،حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ « قَدْ أُوذِىَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ » (3) .
وفي الفتح : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز إِخْبَار الْإِمَام وَأَهْل الْفَضْل بِمَا يُقَال فِيهِمْ مِمَّا لَا يَلِيق بِهِمْ لِيُحَذِّرُوا الْقَائِل وَفِيهِ بَيَان مَا يُبَاح مِنْ الْغِيبَة وَالنَّمِيمَة لِأَنَّ صُورَتهمَا مَوْجُودَة فِي صَنِيع اِبْن مَسْعُود هَذَا وَلَمْ يُنْكِرهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَذَلِكَ أَنَّ قَصْد اِبْن مَسْعُود كَانَ نُصْح النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِعْلَامه بِمَنْ يَطْعَن فِيهِ مِمَّنْ يُظْهِر الْإِسْلَام وَيُبْطِن النِّفَاق لِيَحْذَر مِنْهُ،وَهَذَا جَائِز كَمَا يَجُوز التَّجَسُّس عَلَى الْكُفَّار لِيُؤْمَن مِنْ كَيْدهمْ،وَقَدْ اِرْتَكَبَ الرَّجُل الْمَذْكُور بِمَا قَالَ إِثْمًا عَظِيمًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَة . وَفِيهِ أَنَّ أَهْل الْفَضْل قَدْ يُغْضِبهُمْ مَا يُقَال فِيهِمْ مِمَّا لَيْسَ فِيهِمْ،وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْم كَمَا صَنَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اِقْتِدَاءًا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام " (4)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2476 ) -جبذ : جذب
(2) - شرح النووي على مسلم - (4 / 10)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6100) وصحيح مسلم- المكنز - (2495)
(4) - فتح الباري لابن حجر - (17 / 276)(1/56)
ولك أن تسأل عن أثر الغضب على المرء في جسمه،ولسانه،وأعضائه،وقلبه.
يقول صاحب الإحياء : "ومن أثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام،حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة،ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته،واستحالة خلقته .. وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب،وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ . وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة .. وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور .. أه (1) .
وعلاج ذلك يكون بالعلاج الرباني والنبوي :
أما العلاج الرباني فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يكظمون غيظهم وليس ذلك فقط بل مع العفو عن الناس . قال تعالى : {.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران.
وأما العلاج النبوي فقد عالج النبي الغضب بعدة طرق :
1- أن يقول الغاضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،فعَنْ عَدِىِّ بْنِ ثَابِتٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ،وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّى لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » . فَقَالُوا لِلرَّجُلِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنِّى لَسْتُ بِمَجْنُونٍ (2) .
2- أن يسكت الغاضب ولا يتكلم،حتى لا يتمادى به الغضب فيقع في المحذور، فعَنِ
__________
(1) - إحياء علوم الدين : لأبي حامد الغزالي ( 3/262، 263) بتصرف يسير .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6115 )(1/57)
ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلِّمُوا،وَيَسِّرُوا،وَلاَ تُعَسِّرُوا،وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ،وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ،وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ. (1)
3- إذا كان الغاضب قائماً فليجس،وإن لم ينطفئ غضبه فليضطجع،فعَنْ أَبِي ذَرٍّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ،فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ. (2)
4- أن يتوضأ الغاضب وضوءه للصلاة،فإن الغضب يطفأ بالماء، قَالَ أَبُو وَائِلٍ الْمُرَادِيُّ: كُنَّا عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَدَخَلَ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ: " الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " (3)
وقال أبو العتاهية (4) :
ولم أر في الأعداء حين خبرتهم عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب
الخلاصة :
(1) الصبر عامل قوي في نجاح المعلم .
(2) الغضب ثورة في النفس،واختلال في الموازين وضعف في التمييز،وعواقبه وخيمة
(3) براعة المعلم تكمن في كيفية امتصاص غضبه عند حدوثه والسيطرة على أعصابه .
(4) التدرج،وطول المران يكسبان المعلم،قوة ومنعة .
(5) المبادرة بعلاج الغضب عند حدوثه،وأفضله على الإطلاق العلاج الرباني النبوي
ــــــــ
10- تجنب الكلام الفاحش البذيء :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 731)(2556) صحيح لغيره
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 501)(5688) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (10 / 530) (7938 ) وسنن أبي داود - المكنز - ( 4786) حسن
(4) - المصدر السابق .(1/58)
الفحش في القول،والسباب،والسخرية من الآخرين،خصال ممقوتة،تلفظها النفوس،وتشمئز منها الطباع،وتنأى عنها النفوس الكريمة.
والمعلم يفترض فيه أنه قدوة يقتفى أثره،ويسلك سبيله . فإن اتصف المعلم ببعض هذه الخصال فهي نقيصة وأي نقيصة،وإن اجتمعت في معلم فهي طامة كبرى،لأن الطالب يتأثر بمعلمه سلباً وإيجاباً،فإذا كان هذا حال معلمه،فماذا نرجو من الطالب؟! .
وفائدة القول أن اللعن،والفحش،والسخرية،تستلزم تنقيص الآخرين،وتقتل فيهم روحهم المعنوية،وتفسد عليهم فطرهم وألسنتهم،وتوغر صدور بعضهم على بعض . . إلى غير ذلك .
هذا إلى جانب - وهو الأهم - أنها أمور مرفوضة شرعاً وصاحبها متوعد بالعقوبة .
بيان ذلك :
أ- السخرية :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
يَنْهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمنينَ عنِ السُّخرِيةِ مِنْ إِخْوانِهِم المُؤْمِنينَ،وَالاستْهزاءِ بِهِمْ،وَاسْتصْغَارِ شأَنِهِم،فَقَدْ يَكُونُ المُسْتَهزَأ بهِ أكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنهُ،وَالمُحتقِر لهُ،فَيَظْلمُ نَفْسَه بِتَحْقيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللهُ .
كَمَا نَهى تَعَالى النِّساءَ المُؤْمِنَاتِ عَنْ أنْ يَسْخَرْنَ مِنْ أخَواتِهِنَّ المُؤْمِنَاتِ،فَقَدْ تَكُونُ المُسْتَهزأ بِها أكرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرةِ مِنْها . كَما أمَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بألاَّ يَغْتَابَ بَعْضُهُم بَعْضاً،وَبأنْ لاَ يَعِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَبأنْ لا يَطْعَنَ بَعْضهُمْ في بَعْضٍ . وَاعْتَبَرَ تَعَالى لَمْزَ الإِنسَانِ أخَاهُ كَلمْزِهِ نَفْسَهُ،وَطَعنَهُ أخَاه كَطَعْنِهِ في نَفْسِهِ،لأنَّ المُسْلِمينَ جِسَدٌ وَاحِدٌ إِنِ اشتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهرِ وَالحمى . كَما قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وأمرُ الله تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِلَقَبِ يَسُوؤُهُ أو يَكْرَهُهُ،كَأنْ يَقُولَ(1/59)
مُسْلِمٌ لأخِيهِ المُسْلِمِ : يا فَاجِرُ،أوْ يَا غَادِرُ أو يَا عَدُوَّ اللهِ أو يَا مُنَافِقُ . . .
وَبِئْسَتِ الصِّفَةُ،وَبِئْسَ الاسْمُ للْمُؤْمِنينَ أنْ يُذكَرُوا بالفُسُوقِ بَعْدَ دُخُولِهمْ في الإيمَانِ . وَمَن لم يَتُبْ مِنْ نَبْزهِ أخَاهُ المُؤمِنَ بِلَقَبِ يَكْرَهُهُ،وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ لَمْزهِ إخْوَتَهُ،وَمِنْ سُخْرِيَتِهِ مِنْهُم . . فأولئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ الذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهم فَأكْسَبُوها عِقَابَ اللهِ بِعِصْيَانِهِم إيَّاهُ (1) .
وقال السعدي (2) : " وقوله : (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية، لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ » (3) .
ب - اللعن والسباب :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ،وَقِتَالُهُ كُفْرٌ » (4) .
وفي هذا الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق ... (5)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ لَعَّانًا وَلاَ سَبَّابًا،كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ « مَا لَهُ،تَرِبَ جَبِينُهُ » (6)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،قَالَ : كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ،قَالَ : وَرُبَّمَا بَاتَتْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4502)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 801)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6044 ) وصحيح مسلم- المكنز - (230)
(5) - فتح الباري / كتاب الإيمان (حديث 48) 1/135 .
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6046)(1/60)
عِنْدَهُ،قَالَ : فَدَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ خَادِمًا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ،فَقَالَ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ،فَقَالَتْ : لاَ تَلْعَنْهُ،فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّعَّانَيْنَ لاَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ،وَلاَ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." (1)
وحسبك بهذا ففيه غنية عن كثير من الآثار التي وردت في هذا الباب،وفيه كفاية لمن أعطاه الله فهماً وعقلاً .
ت - الفاحش البذيء :
عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ " (2)
قال ابن عثيمين : " " وهذا يدل على أن هذه الأمور نقص في الإيمان وأنها تسلب عن المؤمن حقيقة الإيمان وكمال الإيمان فلا يكون طعانا يطعن في الناس بأنسابهم أو بأعراضهم أو بشكلهم وهيئاتهم أو بآمالهم ولا باللعان الذي ليس له هم إلا اللعنة قل كلمة لعنك الله قل كذا لعنك الله لماذا تقول كذا أو يقول لأولاده: لعنكم الله هاتوا هذا أو ما أشبه ذلك فالمؤمن ليس باللعان ولا بالفاحش الذي يفحش في كلامه بصراخ أو نحو ذلك ولا بالبذيء الذي يعتدي على غيره فالمؤمن مؤمن مسالم ليس عنده فحش في قوله ولا في فعله ولا غير ذلك لأنه مؤمن " (3)
الخلاصة :
(1) هذه الخصال الذميمة،تتعدى آثارها إلى الغير،فتؤثر فيه .
(2) السخرية فيها تنقيص للمسخور به وإزدراء له،وهذا جالب للعداوة والبغضاء،فكيف إن كان هذا دأب المعلم ؟
(3) اللعن خلق ذميم وصاحبه متوعد بالعقوبة إن لم يتب .
(4) القول الفاحش ينبئ عن سوء الطوية وفساد النية .
ــــــــ
11- استشارة المعلم لغيره :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 56) (5746) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6777 )
(2) - شعب الإيمان - (7 / 140) (4786 ) وسنن الترمذى- المكنز - ( 2105) صحيح
(3) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (5 / 217)(1/61)
تواجه المعلم مسائل مشكلة،وقضايا معقدة،يحتار معها المعلم،ولا يجد لها حلاً أو مخرجاً . فقد يصعب على المعلم في بعض الأحيان فهم مسألة ما،أو قد يطرح عليه سؤال من أحد طلابه ولا يجد له حلاً أو تفسيراً . ومن جهة أخرى قد يجد المعلم نفسه أمام مشكلة عند أحد طلابه أو بعضهم وتحتاج من المعلم أن يفصل فيها،ويحل إشكالها . وهنا قد يسلك المعلم عدة مسالك فمنها : أن يجتهد في إيجاد حل لها،أو يعتذر عنها وهذا حسن بالنسبة إلى المعلم لأنه لم يخص فيها بغير علم وإن كان ذلك مشكلاً للطالب لأن مشكلته لم تحل بعد . ومنها أن يخوض فيها بغير علم فهذا مذموم وهو يفسد أكثر مما يصلح،ومنها أن يبحث عن حلها إما عن طريق المطالعة والبحث،وإما عن طريق طلب الاستشارة وهو مقصودنا.
والاستشارة مأخوذة من قول العرب:شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها،وقيل من قولهم : شرت العسل إذا أخذته من موضعه " (1) .
قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
لَقَدْ كَانَ مِنَ أَصْحَابِكَ مَا يَسْتَحِقُّ المَلاَمَةَ وَالتَّعْنِيفَ،بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ،إذْ تَخَلَّوْا عَنْكَ حِينَ اشْتِدَادِ الحَرْبِ،وَشَمَّرُوا لِلْهَزِيمَةِ وَالحَرْبِ قَائِمَةٌ،وَمَعَ ذَلِكَ لِنْتَ لَهُمْ،وَعَامَلْتَهُمْ بِالحُسْنَى،لِرَحْمَةٍ أوْدَعَها اللهُ فِي قَلْبِكَ،وَخَصَّكَ بِهَا . وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِحُسْنِ الخُلُقِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ . ثُمَّ قَالَ لَوْ كُنْتَ خَشِناً جَافِياً فِي مُعَامَلَتِهِمْ لَتَفَرَّقُوا عَنْكَ،وَلَنَفَرُوا مِنْكَ،وَلَمْ يَسْكُنُوا إلَيْكَ،وَلَكِنَّ اللهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ،وَأَلانَ جَانِبَكَ لَهُمْ تَأَلُّفاً لِقُلُوبِهِمْ . ثُمَّ أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمْ،وَأنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم الله،وَأنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الأَمْرِ تَطِييباً لِقُلُوبِهِمْ،وَشَحْذاً لِهِمَمِهِمْ
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ . فَإذا شَاوَرْتَهُمْ فِي الأَمْرِ،وَعَزَمْتَ عَلَى إِنْفَاذِهِ،فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ
__________
(1) = فتح القدير . محمد بن على الشوكاني . ( 1/439 ) .(1/62)
فِيهِ،لأنَّ اللهَ يُحِبُّ مَنْ يَتَوكَّلُ عَلَيْهِ،وَيَثِقُ بِنَصْرِهِ . (1)
قال السعدي : " { وشاورهم في الأمر } أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:
منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.
ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي: والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.
ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الناس عقلا وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا-: { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره؟! " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [آل عمران: 159] الْآيَةُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَمَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ غَنِيَّانِ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ جَعَلَهَا اللهُ رَحْمَةً لِأُمَّتِي، فَمَنْ شَاوَرَ مِنْهُمْ لَمْ يُعْدَمْ رُشْدًا، وَمَنْ تَرَكَ الْمَشُورَةَ مِنْهُمْ لَمْ يُعْدَمْ عَنَاءً " (3)
فأنت ترى في هذا الحديث،كيف كانت المشورة سبباً في القرب من إصابة الحق،ما في تركها من مقاربة الخطأ والوقوع فيه،فحري بكل معلم أن يسأل ويشاور من هو أعلم منه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 452)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 154)
(3) - شعب الإيمان - (10 / 41) (7136 ) وفيه ضعف(1/63)
فيما أشكل عليه،ليحصل له بذلك مقاربة الصواب وإصابة الحق.
وليبتعد عن الترفع،والأنفة،وتعاظم النفس من سؤال غيره وطلب رأيه ومشورته،فإن ذلك ترفع في غير محله،ولو كان ذلك محموداً لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس به ! .
فعليك أيها المعلم أن تسأل عما أشكل عليك فهمه،أو تعسر عليه حله،ولا تقل إن هذا تهوين من شأني،أو نقص من قدري،لا،بل هو دليل على كمال العقل ورجاحته .
الخلاصة :
1- المشورة معين للمعلم فيما يشكل عليه من المسائل والقضايا التي ترد عليه .
2- طلب الاستشارة من الغير ليست دليلاً على نقص في المرتبة أو في العلم،بل هو دليل على رجاحة العقل ورزانته .
3- في المشورة القرب من الحق،وفي تركها البعد عنه .
- - - - - - - - - - - - -(1/64)
الباب الثاني
مهمات وواجبات المعلم
وفيه المباحث التالية :
1- غرس العقيدة الصحيحة وتقوية الإيمان خلال التعليم
2- إسداءُ النصيحة للمتعلم
3- الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن
4- عدم التصريح بالأسماء أثناء التوبيخ
5- إلقاء السلام على المتعلِّم قبل الدرس وبعده
6- استخدام العقوبات أثناء التعليم
7- تقديم المكافآت للمتعلم(1/65)
1- غرس العقيدة الصحيحة وتقوية الإيمان خلال التعليم:
قليل من المعلمين الذين يتفطنون إلى هذه الطريقة،وهي تتلخص في ترسيخ العقيدة في نفوس الطلاب،عند تعليمهم مواد العلوم الطبيعية،والمواد ( الجغرافية ) والفلكية،ونحوها.
وقبل أن نورد خبر المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - تعال لنتأمل ونتدبر كلام الله عز وجل . قال الله تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (39) سورة فصلت
وَمِنَ الدَّلاَئِلَ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى البَعْثِ والنُّشُورِ،وَإِخْرَاجِ الأَمْوَاتِ مِنَ القُبُورِ،أَحْيَاءً يَنْظُرُونَ . . أَنَّكَ تَرَى الأَرْضِ يَابِسَةً غَبْرَاءَ لاَ نَبَاتَ فِيهَا،فَإِذَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا المَطَرَ،تَبْدأ النَّبَاتَاتُ بِالتَّحِرُّكِ فِي بَاطِنِ الأَرْضِ وَتَعْلُو التُّرْبَةُ ( تَرْبُو )،وَتَخْرُجُ سُوقُ النَّبَاتَاتِ،فَتُزَيِّنُ الأَرْضَ وَتُجمِّلُهَا . وَالذِي أَحْيَا هَذِهِ الأَرْضَ اليَابِسَةَ،وَأَخْرَجَ النَّبَاتَاتِ مِنْهَا،قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيَيَ المَوْتَى،وَعَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ،وَهُوَ القَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ . (1)
فيا ليت المعلمين يحسنون الربط بين الظواهر الطبيعية وبين أمور العقيدة (2) كما جاء في الآية السابقة،حيث بين الله سبحانه وتعالى حال الأرض الميتة التي لم تمطر،من الجفاف وموت النبات فيها،وأثر الماء عليها إذا جاءها وغمرها من ظهور الحياة عليها وتحرك النبات فيها،ثم بين الله سبحانه لعباده أن هذا الإحياء الذي يشاهده العباد له نظير يوم القيامة وهو إحياء الموتى،كما جاء في التفسير السابق قوله : فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها،لا تعجز عن إحياء الموتى . وفي هذا رد شاف على منكري البعث . ومثله لو أراد المعلم أن يتكلم عن الجبال فيحسن به أن يذكر فائدتها،والحكمة من
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4136)
(2) - يجب التنبه إلى مسألة هامة وهي أنه لا يلزم منا أن نستدل بلك ظاهرة من ظواهر العلم أو جزئية معينة ، بدليل من الكتاب والسنة ، ولا أن نلوي أعناق النصوص أو نتكلف ذلك ، فالقرآن الكريم أنزل ليتلى ويتدبر ويعمل به ، والسنة لتطبق ويعمل بها ، ولكن إن جاء أحد منهما مصرحاً بذكر شيء من الظواهر قبلناه وأثبتناه ولا نتكلفه .(1/66)
إيجادها وهو تثبيت الأرض ومنعها من الاضطراب،ثم يذكر قوله تعالى :{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} [النبأ : 6،7]
يَقُولُ تَعَالَى : كَيْفَ يُنْكِرُ هَؤُلاَءِ حُدُوثَ البَعْثِ،وَيَشُكُّونَ فِيهِ،وَهُمْ يعَايِنُونَ مَا يَدُّلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى،وَعَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ،وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ،فَلْيَنْظُرُوا إِلَى الأَرْضِ كَيْفَ جَعَلَهَا اللهُ مُمَهَّدَةً مُوَطَّأةً لِلنَّاسِ يُقِيمُونَ عَلَيْهَا،وَيَنْتَفِعُونَ بِخَيْرَاتِهَا؟
وَكَيْفَ جَعَلَ اللهُ الجِبَالَ كَالأَوْتَادِ أَرْسَى بِهَا الأَرْضِ وَثَبَّتَهَا،لِكَيْلاَ تَضْطَرِبَ وَتَمِيدَ بِالنَّاسِ وَالخَلاَئِقِ عَلَيْهَا؟ (1)
وقوله تعالى : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات : 30 - 33]
وَمَهَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ الأَرْضَ،وَبَسَطَهَا لسُكْنَى المَخْلُوقَاتِ .وَفَجَّرَ العُيُونَ والأَنْهَارَ وَاليَنَابِيعَ فِيهَا فَفَاضَتْ بِالمَاءِ،وَأَنْبَتَتِ النَّبَاتَاتِ لِيَأْكُلَ مِنْهَا النَّاسُ والأَنْعَامُ .وَثَبَّتَ الجِبَالَ فِي أَمَاكِنِهَا مِنَ الأَرْضِ،وَجَعَلَهَا كَالأَوْتَادِ التِي تُشَدُّ بِهَا الخِيَامُ لِكَيْلاَ تَذْهَبَ بِهَا الرِّيَاحُ وَذَلِكَ لِكَيْلاََ تَمِيدَ الأَرْضُ بِمَنْ عَلَيْهَا مِنَ الخَلاَئِقِ،وَتَضْطَرِبَ بِهِمْ .
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ النَّاسُ والأَنْعَامُ،وَيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ . فَاللهُ تَعَالَى يُقَرِّرُ هَذِهِ الحَقَائِقَ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ لِيَخْلُصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى لَفْتِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى أَنَّ الذِي خَلَقَ هَذَا الخَلْقَ البَدِيعَ العَظِيمَ لاَ يَعْجَزُ عَنْ بَعْثِ العِبَادِ مِنَ القَبُورِ يَوْمَ القِيَامَةِ،بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ صَارُوا تُرَاباً وَرُفَاتاً،وَتَفَرَّقَتْ ذَرَّاتُ أجْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ . (2)
وقوله :{ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) }[الغاشية : 17 - 20]
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5555)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5619)(1/67)
أَيُنْكِرُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الخَلْقِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ،وَأَمَامَهُمُ الإِبلُ - الجِمَالُ - وَفِي خَلْقِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقَهَا وَقُدْرَتِهِ؟ فَالإِبلُ مِنْ أَضْخَمِ الحَيَوَانَاتِ،وَأَكْثَرِهَا قُوَّةً،وَأَكْبِرهَا احْتِمَالاً،تَحْتَمِلُ العَطَشَ وَالجُوعَ،وَتَكْتَفِي بِاليَسِيرِ مِنَ المَرْعَى وَالمَاءِ فَمَنْ خَلَقَهَا،وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالجِبَالَ وَالأَرْضَ . . لقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ،وَبَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ .
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى لَفْتَ أَنْظَارِ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ إِلَى عَظَمَتِهِ،وَعَظَمَةِ مَا خَلَقَ،فَلَفَتَ نََظَرَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ نُجُومِ وَكَوَاكِبَ .
ثُمَّ لَفَتَ نَظَرَهُمْ إِلَى الجِبَالِ وَعُلُوِّهَا الكَبِيرِ،وَانْتِصَابِهَا وَرُسُوخِهَا فِي الأَرْضِ .
ثُمَّ لَفَتَ نَظَرَهُمْ إِلَى الأَرْضِ كَيْفَ مُهِّدَتْ وَبُسِطَتْ ( سُطِحَتْ )،لِيَنْتَفِعَ بِهَا الخَلْقُ .فَالمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ كُلَّ هَذَا الخَلْقِ العَظِيمِ أَمَامَ أَعْيُنِهِمْ،وَيَرَوْنَ بَدِيعَ صُنْعِهِ وَيُدْرِكُونَ عَظَمَتَهُ،وَإِبْدَاعَ خَلْقِهِ،فَكَيْفَ لاَ يَتَدَبَّرُونَ وَيَتَفَكَّرونَ فِي قُدْرَةِ الخَالِقَ وَعَظَمَتِهِ؟ وَكَيْفَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ،وَلاَ يَخْشَوْنَ بَطْشَهُ وَعِقَابَهُ؟ (1)
والقرآن الكريم مليء بذكر مثل ذلك وفيما ذكرنا غنية لمن عقل . ولعلنا نعرج على سنَّة المصطفى،لنرى كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسخ العقيدة عند صحبه رضوان الله عليهم .
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ » . فَقَالَ أَعْرَابِىٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِى تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِى الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا . فَقَالَ :« فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ » (2) .
قال الحافظ ابن حجر قوله : ( فيجربها ) وَهُوَ بِنَاء عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ الْعَدْوَى،أَيْ يَكُون سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحَرْب بِهَا،وَهَذَا مِنْ أَوْهَام الْجُهَّال،كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5861)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5717 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5919)
الصفر : حية تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه وهى معدية فى زعم العرب
الهامة : اسم طائر كانوا يتشاءمون به وقيل روح من لم يُدرك ثأره(1/68)
الْمَرِيض إِذَا دَخَلَ فِي الْأَصِحَّاء أَمْرَضَهُمْ فَنَفَى الشَّارِع ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ،فَلَمَّا أَوْرَدَ الْأَعْرَابِيّ الشُّبْهَة رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ : " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل " ؟ وَهُوَ جَوَاب فِي غَايَة الْبَلَاغَة وَالرَّشَاقَة . وَحَاصِله مِنْ أَيْنَ الْجَرَب لِلَّذِي أَعْدَى بِزَعْمِهِمْ ؟ فَإِنْ أُجِيبَ مِنْ بَعِير آخَر لَزِمَ التَّسَلْسُل أَوْ سَبَب آخَر فَلْيُفْصِحْ بِهِ،فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الْأَوَّل هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الثَّانِي ثَبَتَ الْمُدَّعَى،وَهُوَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ بِالْجَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ الْخَالِق الْقَادِر عَلَى كُلّ شَيْء وَهُوَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى " (1)
وعن زِيَادَ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ،فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ،لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ،فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِىَ » (2) .
وفي الفتح : " وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِبْطَال مَا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِير الْكَوَاكِب فِي الْأَرْض،وَهُوَ نَحْو قَوْله فِي الْحَدِيث الْمَاضِي فِي الِاسْتِسْقَاء " يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا " قَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوف يُوجِب حُدُوث تَغَيُّر فِي الْأَرْض مِنْ مَوْت أَوْ ضَرَر،فَأَعْلَمَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ اِعْتِقَاد بَاطِل،وَأَنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَان فِي غَيْرهمَا وَلَا قُدْرَة عَلَى الدَّفْع عَنْ أَنْفُسهمَا . وَفِيهِ مَا كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى أُمَّته وَشِدَّة الْخَوْف مِنْ رَبّه " (3)
__________
(1) - فتح الباري ( 10/252 )
ينبغي أن نشير هنا إلى أمر هام وهو أن الأسباب لا تؤثر بنفسها فالمؤثر هو الله ، ولكننا نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء .. وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرحه لكتاب التوحيد (2/82) قال : وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ( وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " ولا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " ) ليس نفياً للوجود ، لأنها موجودة ، ولكنه نفي للتأثير ، فالمؤثر هو الله ، فما كان سبباً معلوماً فهو سبب صحيح ، وما كان منها سبباً موهوماً فهو سبب باطل ، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببه . فقوله : " لا عدوى " العدوى موجودة ، ويدل لوجودها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يورد ممرض على مصح " أي : لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة ، لئلا تنتقل العدوى . أه .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1060 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2155 )
(3) - فتح الباري لابن حجر - (3 / 486)(1/69)
الخلاصة :
(1) إن غرس العقيدة عن طريق عرض العلوم غير علوم الشريعة،وسيلة نافعة جداً في ربط المسلم بدينه في كل مجالات الحياة .
(2) إن هذه الطريقة،تؤدي إلى تقوية الإيمان لدى الطلاب عموماً،فتنشئ لنا جيلاً قوياً في معتقده،وثيق الصلة بربه .
ــــــــ
2- إسداءُ النصيحة للمتعلم :
يخطئ المعلم عندما يظن أن علاقته بالطالب،تقتصر على توصيل المعلومات فقط.
والحقيقة أن هناك أمراً لا يقل أهمية عن التحصيل،ألا وهو النصح والتوجيه للطالب . فالمعلم موجه،ومربي،وناصح،وأب .
ولو أننا قارنا بين عدد الساعات التي يعيشها الطالب مع معلمه وهي قد تصل إلى خمس أو ست ساعات يومياً،لوجدنا أنها أكثر من عدد الساعات التي يلتزمها مع والديه،وهو معلوم عند الكل .
وإذا كان الأمر كذلك،فإن المعلم يرى من الأحوال والتصرفات التي تصدر من الطالب قد تخفى - بل إنها تخفى فعلاً -على والديه،ولذا كان حريٌّ بك أيها المعلم أن تبذل ما في وسعك،لإصلاح المعوج،وتقويم المائل،وتهذيب الأخلاق،وتصحيح الأفكار
وجماع ذلك كله،بذل النصيحة،والنصيحة : هي كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له (1) .
وبذل النصيحة مطلب شرعي،قبل أن يكون تعليمياً تربوياً .
__________
(1) - قاله الخطابي ( جامع العلوم والحكم لابن رجب ( 1/148) .(1/70)
فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ،ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ،وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،أَوْ لِلْمُؤْمِنِينَ،وَعَامَّتِهِمْ. (1)
قال الكلاباذي : " قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ : النُّصْحُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدِي هُوَ : فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَالْمُلَاءَمَةُ،مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصَاحَةِ،وَهِيَ السُّلُوكُ الَّتِي يُخَاطُ بِهَا،وَتَصْغِيرُهَا نُصَيْحَةٌ , يَقُولُ الْعَرَبُ : هَذَا قَمِيصٌ مَنْصُوحٌ أَيْ : مَخِيطٌ،وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ نُصْحًا إِذَا خِطْتُهُ،وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ النُّصْحُ فِي الْأَشْيَاءِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ : فَالنُّصْحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ : وَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ عَقْدًا وَقَوْلًا،وَالْقِيَامُ بِتَعْظِيمِهِ،وَالْخُضُوعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ،وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ،وَمُوَالَاةُ مَنْ أَطَاعَهُ،وَمُعَادَاةُ مَنْ عَصَاهُ،وَالْجِهَادُ فِي رَدِّ الْعَاصِينَ إِلَى طَاعَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا . وَإِرَادَةُ النَّصِيحَةِ لِكِتَابِهِ : إِقَامَتُهُ فِي التِّلَاوَةِ،وَتَحْسِينُهُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ،وَتَفَهُّمُ مَا فِيهِ وَاسْتِعْمَالُهُ،وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ،وَطَعْنِ الطَّاعِنِينَ . وَالنَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - : مُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ،وَالْحِمَايَةُ مِنْ ذَوِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا،وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ،وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ فِي بَثِّ الدَّعْوَةِ،وَتَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ،وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ الظَّاهِرَةِ . وَالنَّصِيحَةُ لِلْأَئِمَّةِ : مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ،وَفِي بَعْضُ النُّسَخِ " عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ " فِي تَنْبِيهِهِمْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ،وَتَقْوِيمِهِمْ عِنْدَ الْهَفْوَةِ،وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ،وَنُصْرَتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِمْ،وَرَدِّ الْقُلُوبِ النَّاضِرَةِ إِلَيْهِمْ . وَالنَّصِيحَةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ : الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ،وَتَوْقِيرُ كَبِيرِهِمْ،وَرَحْمَةُ صَغِيرِهِمْ،وَتَفْرِيجُ كُرَبِهِمْ،وَالسَّعْيُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآجِلِ،وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى مَا يُسْعِدُهُمْ،وَتَوَقِّي مَا يَشْغَلُ خَوَاطِرَهُمْ،وَفَتَحَ بَابَ الْوَسْوَاسِ عَلَيْهِمِ،وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا وَحَسَنًا،وَمِنَ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ رَفْعُ مُؤْنَةِ بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْهُمْ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ " (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 435) (4574) وصحيح مسلم- المكنز - ( 205)
(2) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ(67 )(1/71)
يقول الحافظ ابن حجر :" وَالنَّصِيحَة لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ الشَّفَقَة عَلَيْهِمْ،وَالسَّعْي فِيمَا يَعُود نَفْعه عَلَيْهِمْ،وَتَعْلِيمهمْ مَا يَنْفَعهُمْ،وَكَفّ وُجُوه الْأَذَى عَنْهُمْ،وَأَنْ يُحِبّ لَهُمْ مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ،وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ " (1) . ولا شلك أن الطلاب من عامة المسلمين .
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ،وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ." (2)
وعن إِبْرَاهِيمَ بِ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ : غَدَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْكُنَاسَةِ لِيَبْتَاعَ مِنْهَا دَابَّةً،وَغَدَا مَوْلًى لَهُ فَوَقَفَ فِي نَاحِيَةِ السُّوقِ،فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ تَمُرُّ عَلَيْهِ،فَمَرَّ بِهِ فَرَسٌ فَأَعْجَبَهُ،فَقَالَ لِمَوْلاهُ : انْطَلِقْ فَاشْتَرِ ذَلِكَ الْفَرَسَ،فَانْطَلَقَ مَوْلاهُ،فَأَعْطَى صَاحِبَهُ بِهِ ثَلاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ،فَأَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يَبِيعَهُ فَمَاكَسَهُ،فَأَبَى صَاحِبُهُ أَنْ يَبِيعَهُ،فَقَالَ : هَلْ لَكَ أَنْ تَنْطَلِقَ إِلَى صَاحِبٍ لَنَا نَاحِيَةَ السُّوقِ ؟ قَالَ : لا أُبَالِي،فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ،فَقَالَ لَهُ مَوْلاهُ : أَنِّي أَعْطَيْتُ هَذَا بِفَرَسِهِ ثَلاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَبَى،وَذَكَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ،قَالَ صَاحِبُ الْفَرَسِ : صَدَقَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ فَتَرَى ذَلِكَ ثَمَنًا ؟،قَالَ : لا،فَرَسُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ تَبِيعُهُ بِخَمْسِمئةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ ثَمَانَمئةٍ،فَلَمَّا أَنْ ذَهَبَ الرَّجُلُ أَقْبَلَ عَلَى مَوْلاهُ،فَقَالَ لَهُ : وَيْحَكَ انْطَلَقْتَ لِتَبْتَاعَ لِي دَابَّةً ،فَأَعْجَبَتْنِي دَابَّةُ رَجُلٍ،فَأَرْسَلْتُكَ تَشْتَرِيهَا،فَجِئْتَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُودُهُ،وَهُوَ يَقُولُ : مَا تَرَى،مَا تَرَى ؟،وَقَدْ " بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " (3) .
النصح لكل مسلم أن الإنسان ينصح لكل مسلم بحيث يعامله كما يعامل نفسه وكما يحب أن يعامله الناس فلا يشتمه ولا يقذفه ولا يخدعه ولا يغشه ولا يخونه ويكون له ناصحا من كل وجه وإذا استشاره في شيء وجب عليه أن يشير عليه بما هو الأصلح له في دينه ودنياه. (4)
__________
(1) - فتح الباري ( 1/166، 167 ) (ح57) .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (57 ) وصحيح مسلم- المكنز - (208)
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 489) (2343) فيه انقطاع
(4) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (4 / 353)(1/72)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » (1) .
معناه : أَنَّهُ لاَ يتمُّ إيمانُ أحدٍ الإيمانَ التامَّ الكامل،حتَّى يَضُمَّ إلى إسلامه سلامةَ النَّاسِ منه،وإرادةَ الخيرِ لهم،والنُّصْحَ لجميعهم فيما يحاوله معهم. (2)
والنقول في هذا الباب كثيرة وحسبنا بما ذكرنا .
يقول ابن رجب:" ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم : إيثارُ فقيرِهم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردِّهم إلى الحق،والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه" (3)
ثم إنه من المتعين على المعلم،أن يبذل نصيحته إلى طلابه سراً إن كانت خاصة بفرد معين،لأن ذلك أبلغ في قبول النصيحة،وأسرع للاستجابة،أما إن كانت علانية فهو توبيخ في قالب نصح! يقول ابن رجب :" وكان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ،وعظوه سراً حتّى قال بعضهم : مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه" (4) .
وقال الْمُزَنِيَّ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ،يَقُولُ : " مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ،وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَخَانَهُ " (5)
ومن النصح الذي يتعين على معلم بذله تجاه طلابه،هو تصحيح ( كراس الواجبات المدرسية ) (6) بأمانة وإخلاص،ومراعاة الأخطاء النحوية والإملائية ونحوها.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (13)
(2) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 140)
(3) - جامع العلوم والحكم محقق - (9 / 11)
(4) - جامع العلوم والحكم محقق - (9 / 13)
(5) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (13805 )
(6) - ذكرت الأدنى تنبيها على الأعلى .(1/73)
وباب النصح واسع ولكن يضبطه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » (1) .
أيها المعلم : قدم إليك الأب ثمرة فؤاده،وفلذة كبده،فهي عندك أمانة . فماذا عملت فيها ؟ هل رعيتها وأديت حق الأمانة ؟ أم ماذا ؟
الخلاصة :
(1) النصح والتوجيه،لا يقل أهمية عن التعليم،فلتعط حظها من الاهتمام .
(2) النصيحة مطلب شرعي،قبل أن تكون مطلباً تربوياً تعليمياً .
(3) توجيه الطالب وجهة سليمة،وأمره بما يصلحه،وتقويمه إذا مال عن الطريق المستقيم .. وغير هذه الأمور،كلها من واجبات المعلم .
(4) تقديم النصيحة سِراً سبب في القبول،وسرعة الاستجابة .
ــــــــ
3- الرفق بالمتعلم وتعليمه بالأسلوب الحسن :
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - أرفق الناس للناس،وكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي نفسياتهم وأحوالهم،كيف لا وهو الذي قال: « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ » (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ : دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكُمْ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيْكُمْ،قَالَتْ عَائِشَةُ : فَفَهِمْتُهَا،فَقُلْتُ : عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَهْلاً يَا عَائِشَةُ،إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ. قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قَدْ قُلْتُ : عَلَيْكُمْ." (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (13 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6767 )
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 352) (6441) وصحيح البخارى- المكنز - (6024 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5784)(1/74)
والرفق هو : لين الجانب بالقول والفعل،والأخذ بالأسهل،وهو ضد العنف (1) .
والنفس البشرية تميل إلى الرفق ولين الجانب وطيب الكلام وتأنس به،وتنفر من الجفوة والغلظة . ولذا كان حري بالمعلمين والمربين أن يعوا هذا الجانب ويطبقوه على تلاميذهم وطلابهم .
والشدة على المتعلمين مضرة بهم (2) وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة .. (3) .
ولد ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة وأعلاها في حسن تعليمه ورفقه بصحابته رضوان الله عليهم،فمنها :
عن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. (4)
__________
(1) - فتح الباري ( 10/6024 ) .
(2) - عنوان فصل عقده ابن خلدون في مقدمته . وهو الفصل الثاني والثلاثون من الباب الخامس . من الكتاب الأول .
(3) - مقدمة ابن خلدون ص540 .
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (687 )- شن : صبه صبا متقطعا
لا تزرموه : بتقديم الزاي المعجمة على الراء ،أي : لا تقطعوا بوله : يقال : زرم الدمع : إذا انقطع.
فسنه عليه : سننت الماء على الثوب وعلى الأرض ونحو ذلك : إذا صببته عليه، وقد جاء في كتاب مسلم «فشنه»» بالشين المعجمة ،أي : فرقه عليه من جميع جهاته ، ورشه عليه ، ومنه : شننت الغارة : إذا فرقتها من جميع الجهات والنواحي.
فأهريق : يقال : هراق الماء يهريقه : إذا صبه ، و أصله : أراقه ، فقلبت الهمزة هاء ، ويقال أيضا : أهرقه يهرقه ، وأهراق ، ويهريق بفتح الهاء.
بذنوب : الذنوب : الدلو العظيمة ، وكذلك السجل ، قال : ولا يسمى بذلك إلا إذا كان فيها ماء.جامع الأصول في أحاديث الرسول - (7 / 85)(1/75)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَبَالَ فِى طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ،فَزَجَرَهُ النَّاسُ،فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ،فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ،فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلاَ تَغْفِرْ لأَحَدٍ مَعَنَا . فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَ : لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا . ثُمَّ وَلَّى حَتَّى إِذَا كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَجَ يَبُولُ،فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : إِنَّمَا بُنِيَ هَذَا الْبَيْتُ لِذِكْرِ اللهِ وَالصَّلاَةِ،وَإِنَّهُ لاَ يُبَالُ فِيهِ . ثُمَّ دَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءٍ،فَأَفْرَغَهُ عَلَيْهِ،قَالَ : يَقُولُ الأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ : فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيَّ،بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي،فَلَمْ يَسُبَّ،وَلَمْ يُؤَنِّبْ،وَلَمْ يَضْرِبْ. " (2)
ففي هذا الحديث بيان لرفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأعرابي وحسن تعليمه له،وذلك لأن الأعرابي كان يجهل ذلك الحكم بطبيعة الحال ولهذا السبب لم يعنفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يوبخه،بل دعاه وعلمه برفق الأمر الذي يجهله .
ولقد صور الأعرابي ذلك الموقف بعد أن فقه،بقوله : بأبي هو وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب . وفي هذا القول دليل على تأثر الأعرابي برفق النبي - صلى الله عليه وسلم - به،وحسن تعليمه له .
قال الحافظ ابن حجر بعد حديث أنس : " وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ وَتَعْلِيمه مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عِنَادًا،وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْتَاجُ إِلَى اِسْتِئْلَافه . وَفِيهِ رَأْفَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحُسْنُ خُلُقِهِ " (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (221 م )
الذنوب : الدلو العظيمة وقيل لا تسمى كذلك إلا إذا كان فيها ماء
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 722)(10533) 10540- صحيح
(3) - فتح الباري 1/388 .(1/76)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِى لَكِنِّى سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِأَبِى هُوَ وَأُمِّى مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى وَلاَ شَتَمَنِى قَالَ « إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ « فَلاَ تَأْتِهِمْ ». قَالَ وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ.
قَالَ « ذَاكَ شَىْءٌ يَجِدُونَهُ فِى صُدُورِهِمْ فَلاَ يَصُدَّنَّهُمْ ». قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ « فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ ». قَالَ قُلْتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ. قَالَ « كَانَ نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ ». قَالَ وَكَانَتْ لِى جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِى قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِى آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّى صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَىَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُعْتِقُهَا قَالَ « ائْتِنِى بِهَا ». فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا « أَيْنَ اللَّهُ ». قَالَتْ فِى السَّمَاءِ.قَالَ « مَنْ أَنَا ». قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ « أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ».. (1)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1227)
كهرني : الكهر: الزبر والنهر، كهره يكهر: إذا زبره ونهره.
الكهان : جمع كاهن، وهو الذي كان في الجاهلية يرجعون إليه ويسألونه عن المغيبات ليخبرهم بها في زعمهم، وحقيقته: أن يكون له رئي من الجن يلقي إليه ما يستمعه، ويسترقه من أخبار السماء، فما يكون قد استمعه، وألقاه على جهته كان صحيحا، وما يكذب فيه مما لا يكون قد سمعه فهو الأكثر، وقد جاء هذا مصرحا به في الحديث الصحيح.
يتطيرون : التطير: التشاؤم بالشيء، وأصله: أن العرب كانوا إذا خرجوا في سفر، أو عزموا على عمل: زجروا الطائر تفاؤلا به، فما غلب على ظنهم وقوي في أنفسهم فعلوه: من قول أو عمل، أو ترك، أو نهي الشرع عنه، تسليما لقضاء الله وقدره، وجعل لهم بدل ذلك الاستخارة في الأمر، وما أحسن هذا البدل.
يخطون : الخط: الذي يفعله المنجم في الرمل بإصبعه ويحكم عليه، ويستخرج به الضمير، وقد تقدم ذكره فيما مضى من الكتاب.
آسف : أسف الرجل يأسف أسفا: إذا غضب، والأسف: الغضب.
صككتها : الصك: الضرب واللطم. جامع الأصول في أحاديث الرسول - (5 / 488)(1/77)
قال النووي في شرحه لهذا الحديث : " فِيهِ : بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَظِيم الْخُلُق الَّذِي شَهِدَ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِهِ،وَرِفْقه بِالْجَاهِلِ،وَرَأْفَته بِأُمَّتِهِ،وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ . وَفِيهِ التَّخَلُّق بِخُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرِّفْق بِالْجَاهِلِ،وَحُسْن تَعْلِيمه وَاللُّطْف بِهِ،وَتَقْرِيب الصَّوَاب إِلَى فَهْمه ." (1) .
ثم إنك لك أن تقارن بين الموقفين السابقين الذين وقعا لمعاوية بن الحكم رضي الله عنه،وكيف عامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاوية في كلا الموقفين .
ففي الحادثة الأولى : لم يعنفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يوبخه . لأنه كان جاهلاً والدليل على ذلك،الحديث الذي روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىُّ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُلِّمْتُ أُمُورًا مِنْ أُمُورِ الإِسْلاَمِ،فَكَانَ فِيمَا عُلِّمْتُ أَنْ قِيلَ لِى إِذَا عَطَسْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ،وَإِذَا عَطَسَ الْعَاطِسُ فَحَمِدَ اللَّهَ فَقُلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ - قَالَ - فَبَيْنَا أَنَا قَائِمٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الصَّلاَةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ فَحَمِدَ اللَّهَ فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ رَافِعًا بِهَا صَوْتِى،فَرَمَانِى النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ حَتَّى احْتَمَلَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ : مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ بِأَعْيُنٍ شُزْرٍ؟ قَالَ فَسَبَّحُوا،فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ قَالَ :« مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ ». قِيلَ : هَذَا الأَعْرَابِىُّ فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« إِنَّمَا الصَّلاَةُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ،فَإِذَا كُنْتَ فِيهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ شَأْنَكَ ». فَمَا رَأَيْتُ مُعَلَّمًا قَطُّ أَرْفَقَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
وفي الحادثة الثانية : عامله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقيض ذلك،حيث أنكر ذلك الفعل على معاوية ويؤخذ هذا من قوله : (فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ) (3) .
وإنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الفعل من معاوية وهو ضرب الجارية، يحتمل وجهان وقد يحتمل أكثر من ذلك :
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (2 / 298)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 249) (3478) و سنن أبي داود - المكنز - (932 ) حسن -الشزر : النظر بمؤخر العين
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1227) وصحيح ابن حبان - (1 / 383)(165)(1/78)
الأول :وهو أن معاوية لم يعد جاهلاً حيث أمضى فترة في الإسلام وعلم شرائعه وآدابه
الثاني :وهو أن هذا الصنيع من معاوية ليس من الأمور التي تجهل عادة،فالرفق والإحسان إلى الناس من الأمور المركوزة في الفطر وليست من باب العلم المكتسب . والله أعلم .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا،وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ." (1)
" أَمَّا اِخْتِلَاف الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ - فِي الْمُبَادَرَة بِالصَّلَاةِ عِنْد ضِيق وَقْتهَا،وَتَأْخِيرهَا،فَسَبَبه أَنَّ أَدِلَّة الشَّرْع تَعَارَضَتْ عِنْدهمْ بِأَنَّ الصَّلَاة مَأْمُور بِهَا فِي الْوَقْت،مَعَ أَنَّ الْمَفْهُوم مِنْ قَوْل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : ( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الظُّهْر أَوْ الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة ) الْمُبَادَرَة بِالذَّهَابِ إِلَيْهِمْ،وَأَلَّا يُشْتَغَل عَنْهُ بِشَيْءٍ لَا أَنَّ تَأْخِير الصَّلَاة مَقْصُود فِي نَفْسه مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَأْخِير،فَأَخَذَ بَعْض الصَّحَابَة بِهَذَا الْمَفْهُوم نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى لَا إِلَى اللَّفْظ،فَصَلَّوْا حِين خَافُوا فَوْت الْوَقْت،وَأَخَذَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ اللَّفْظ وَحَقِيقَته فَأَخَّرُوهَا،وَلَمْ يُعَنِّف النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ،لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ،فَفِيهِ : دَلَالَة لِمَنْ يَقُول بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاس،وَمُرَاعَاة الْمَعْنَى،وَلِمَنْ يَقُول بِالظَّاهِرِ أَيْضًا .
وَفِيهِ : أَنَّهُ لَا يُعَنَّف الْمُجْتَهِد فِيمَا فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِهِ إِذَا بَذَلَ وُسْعه فِي الِاجْتِهَاد،وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب،وَلِلْقَائِلِ الْآخَر أَنْ يَقُول لَمْ يُصَرِّح بِإِصَابَةِ الطَّائِفَتَيْنِ،بَلْ تَرَكَ تَعْنِيفهمْ،وَلَا خِلَاف فِي تَرْك تَعْنِيف الْمُجْتَهِد وَإِنْ أَخْطَأَ إِذَا بَذَلَ وُسْعه فِي الِاجْتِهَاد . وَاَللَّه أَعْلَم ." (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا بِأَسِيرٍ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ فَلَهَّيْنَهَا عَنْهُ فَذَهَبَ الأَسِيرُ فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« يَا عَائِشَةُ أَيْنَ الأَسِيرُ؟ ». فَقَالَتْ : نِسْوَةٌ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (946 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 220)(1/79)
كُنَّ عِنْدِى فَلَهَّيْنَنِى عَنْهُ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ ». وَخَرَجَ فَأَرْسَلَ فِى إِثْرِهِ فَجِىءَ بِهِ فَدَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ أَخْرَجَتْ يَدَيْهَا فَقَالَ :« مَا لَكَ؟ ». قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ دَعَوْتَ عَلَىَّ بِقَطْعِ يَدِى وَإِنِّى مُعَلِّقَةٌ يَدِى أَنْتَظِرُ مَنْ يَقْطَعُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَجُنِنْتِ؟ ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ :« اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ كَفَّارَةً وَطَهُورًا ». (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَسِيرٍ ، فَلَهَوْتُ عَنْهُ ، فَذَهَبَ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : مَا فَعَلَ الأَسِيرُ ؟ قَالَتْ : لَهَوْتُ عَنْهُ مَعَ النِّسْوَةِ فَخَرَجَ ، فَقَالَ : مَا لَكِ قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ ، أَوْ يَدَيْكِ ، فَخَرَجَ ، فَآذَنَ بِهِ النَّاسَ ، فَطَلَبُوهُ ، فَجَاؤُوا بِهِ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ فَقَالَ : مَا لَكِ ، أَجُنِنْتِ ؟ قُلْتُ : دَعَوْتَ عَلَيَّ ، فَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ ، أَنْظُرُ أَيُّهُمَا يُقْطَعَانِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ ، أَوْ مُؤْمِنَةٍ ، دَعَوْتُ عَلَيْهِ ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا ، وَلَا أَجْمَلْتَ قَالَ : فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَامُوا إِلَيْهِ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ ، فَدَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ ، فَقَالَ : إِنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، فَقُلْتَ : مَا قُلْتَهُ ، فَزَادَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّكَ كُنْتَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا ، فَأَعْطَيْنَاكَ ، وَقُلْتَ مَا قُلْتَ ، وَفَى أَنْفُسِ أَصْحَابِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ ، حَتَّى تُذْهِبَ مِنْ صُدُورِهِمْ مَا فِيهَا عَلَيْكَ . قَالَ : نَعَمْ . قَالَ عِكْرِمَةُ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوْ الْعَشِيُّ ، جَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا كَانَ جَاءَ فَسَأَلَنَا ، فَأَعْطَيْنَاهُ ، وَقَالَ مَا قَالَ ، وَإِنَّا دَعَوْنَاهُ إِلَى الْبَيْتِ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ ، أَكَذَلِكَ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (9 / 89)(18611) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 61)(24259) 24763- صحيح(1/80)
وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَلَا إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ ، فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا ، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُ النَّاقَةِ : خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي ، فَأَنَا أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ ، فَتَوَجَّهَ لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ ، فَرَدَّهَا هَوْنًا هَوْنًا هَوْنًا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا ، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ ، فَقَتَلْتُمُوهُ ، دَخَلَ النَّارَ" (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا قَامَ قُمْنَا ، فَقَامَ يَوْمًا فَقُمْنَا مَعَهُ ، حَتَّى لَمَّا بَلَغَ وَسَطَ الْمَسْجِدِ أَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ مِنْ وَرَائِهِ ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا ، فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي " فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا ، وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ : لَا ، وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي أَنْ لَا يَبْرَحَ مَقَامَهُ حَتَّى آذَنَ لَهُ " ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ : " يَا فُلَانُ ، احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا ، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْرًا " ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " انْصَرَفُوا " (2)
الخلاصة :
(1) الرفق بالطالب يتأكد عندما يكون جاهلاً .
(2) تقدير الخطأ الذي يقع من الطالب،وهل هو من الخطأ الذي يعذر بجهله،أم لا . وذلك يرجع إلى تقدير المعلم .
(3) معالجة الخطأ الذي يقع من الطالب الجاهل كما حدث ذلك في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد ،حيث نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته أن يقطعوا عليه بوله لئلا يتضرر،ثم
__________
(1) - أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (170 ) فيه ضعف
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي >> كِتَابُ الْقَسَامَةِ (5800) صحيح(1/81)
أمر رجلاً من أصحابه أن يزيل أثر النجاسة بالماء،ثم دعا الأعرابي وأخبره بخطئه،ثم دعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلمه ما الذي ينبغي عليه فعله وتركه في الصلاة .
(4) أما الخطأ الذي لا يعذر بجهله،فعلى المربي أو المعلم أن ينكر ذلك الخطأ أو الفعل الذي بدر من الطالب،كما جاء في قول الصحابي ( فعظم ذلك علي )،ثم إن على المربي بعد ذلك أن يسعى في إصلاح ذلك الخطأ ومساعدة الطالب في إصلاح خطئه،وذلك يتجلَّى في إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية عندما أراد أن يعتق الجارية،حيث قال له : (أَعْتِقْهَا،فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.) .
ــــــــ
4- عدم التصريح بالأسماء أثناء التوبيخ :
غالباً ما يكون التوبيخ له أثر في نفس الموبخ،ويعظم هذا الأثر إن كان التوبيخ بحضور جماعة من الناس،فإنه حينئذ يتضاعف.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له طريقة فريدة من نوعها في معالجة الأخطاء الظاهرة التي تحدث من صحابته،إذ إن الغاية من تشهيره - صلى الله عليه وسلم - بالخطأ ليس التشفي من المخطئ،بل هو تحذير من الوقوع في الخطأ،وذم للخطأ نفسه . وقصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشهورة:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَتَزَوَّجُ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ آكُلُ اللَّحْمَ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا،لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ،وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ،وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ سَرِيرَتِهِ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 191) (14) وصحيح مسلم- المكنز - (3469)(1/82)
بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ وَلا أُفْطِرُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ، وَأُصَلِّي، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " (1)
تأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ما بال أقوام،فهو لم يصرح بأسمائهم وإن كان بعض الصحابة يعرفونهم ومع ذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصرح بأسمائهم لأن الغرض - كما قلنا سابقاً - ليس هو التشهير بالمخطئ أو بصاحب الفعل المذموم،وإنما هو بيان ذلك الفعل المذموم أو القول المذموم والتحذير منه . قال النووي " قَوْله : ( إِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حَمِدَ اللَّه تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا بَال أَقْوَام قَالُوا كَذَا وَكَذَا ) هُوَ مُوَافِق لِلْمَعْرُوفِ مِنْ خُطَبه - صلى الله عليه وسلم - فِي مِثْل هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا فَخَطَبَ لَهُ ذَكَرَ كَرَاهِيَته،وَلَا يُعَيِّن فَاعِله،وَهَذَا مِنْ عِظَم خُلُقه - صلى الله عليه وسلم - ،فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْ ذَلِكَ الشَّخْص وَجَمِيع الْحَاضِرِينَ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَبْلُغهُ ذَلِكَ،وَلَا يَحْصُل تَوْبِيخ صَاحِبه فِي الْمَلَأ ." (2)
وإليك قصة أخرى،فعَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِىِّ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ عَلَى الصَّدَقَةِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ مِنْ أَعْمَالِنَا فَيَجِىءُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى. أَفَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ شَىْءٌ أَمْ لاَ،وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا بِشَىءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ فَقَالَ :« اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » (3) .
__________
(1) - مسند أبي عوانة (3223 ) صحيح
(2) - شرح النووي على مسلم - (5 / 72)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 158) (7914) وصحيح البخارى- المكنز - (2597 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4843)
الخوار : صوت البقرة -الرغاء : صوت الإبل -العفرة : بياض مشوب بالسمرة -تيعر : تصيح وتصوت صوتا شديدا(1/83)
وفي هذه الواقعة،قوله - صلى الله عليه وسلم - : ما بال العامل نبعثه،حيث لم يفصح الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اسمه مع أن كثيراً من الصحابة يعلمون هذا الذي عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ما بال العامل نبعثه،ولكن لما كان القصد هو التحذير من الفعل المذموم وبيان ضرره وسوء عاقبته حتى لا يقع في الآخرون،شهر بالفعل دون الفاعل،إذ ليس هناك مصلحة ترجى من ذكر اسم الفاعل.
وحول هذا الحديث وهذا المعنى يشير الحافظ ابن حجر بقوله :
"وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى مُتَأَوِّلًا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيل يَضُرّ مَنْ أَخَذَ بِهِ أَنْ يُشْهِر الْقَوْل لِلنَّاسِ وَيُبَيِّن خَطَأَهُ لِيَحْذَرَ مِنْ الِاغْتِرَار بِهِ . وَفِيهِ جَوَاز تَوْبِيخ الْمُخْطِئ،وَاسْتِعْمَال الْمَفْضُول فِي الْإِمَارَة وَالْإِمَامَة وَالْأَمَانَة مَعَ وُجُود مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ وَفِيهِ اِسْتِشْهَاد الرَّاوِي وَالنَّاقِل بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقهُ لِيَكُونَ أَوْقَع فِي نَفْس السَّامِع وَأَبْلَغ فِي طُمَأْنِينَته وَاَللَّه أَعْلَم ." (1)
والمعلمون كذلك يجب أن تكون طريقتهم في علاج الأخطاء التي تقع من الطلاب،عن طريق التشهير بالخطأ وذمه وبيان سوء عاقبته،والتحذير منه،مع عدم التصريح باسم المخطئ خصوصاً إذا كان الخطأ عن غير تعمد من الطالب نفسه،لكي لا يستغلها ضعاف النفوس في تحقيره ورميه بالنقائص،ولكي لا يوجد حالة من الكراهية والبغضاء بين المعلم والطالب.
أما إن كان المخطئ متعمداً عالماً فهذه حالة يقدرها المعلم،هل يشهر به أمام الآخرين لردعه عما هو فيه – مع ملاحظة تجرد النفس من قصد التشفي والانتصار لها - ؟ أم يستعمل أساليب أخرى لعلاج هذه الحالة ؟ وهذه كما قلت سابقاً،راجعة إلى تقدير المعلم . وعموماً فإن طريقة التعريض بالخطأ دون التصريح باسم صاحبه مهمة ليست بيسيرة،إذ فيها تكمن براعة المعلم في علاج الخطأ دون التعرض لكرامة الطالب.
قال الغزالي : " وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح . وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (13 / 167)(1/84)
حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار " (1) .
قلت : ويجوز التصريح باسمه إذا اقتضى الأمر ذلك،وعَنْ عَائِشَةَ،فَذَكَرَ أَحَادِيثَ بِهَذَا،ثُمَّ قَالَ : وَبِهِ : أَنَّ امْرَأَةَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ بَاذَّةٌ،فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ،وَيَقُومُ اللَّيْلَ،فَلَقِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَوْجَهَا،فَقَالَ : يَا عُثْمَانُ،إِنَّ لَكَ فِيَّ أُسْوَةً،وَاللَّهِ لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ،وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ لأَنَا." (2)
وعَنْ عَائِشَةَ،زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ : دَخَلَتْ عَلَيَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَتْ : فَرَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا،فَقَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ،مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ ؟ قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،امْرَأَةٌ لاَ زَوْجَ لَهَا يَصُومُ النَّهَارَ،وَيَقُومُ اللَّيْلَ فَهِيَ كَمَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا،فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا،قَالَتْ : فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ،فَقَالَ : يَا عُثْمَانُ،أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي ؟ قَالَ : فَقَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ،وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ،قَالَ : فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي،وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ،وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ،فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ،فَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،فَصُمْ وَأَفْطِرْ،وَصَلِّ وَنَمْ." (3)
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ،أَنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ،أَخَا بَنِي سَالِمٍ رَجَعَ بَعْدَ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَّامًا إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ،فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطٍ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا،وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً،وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا،فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشَيْنِ،فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ،فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الضِّحِّ،وَالرِّيحِ،وَالْحَرِّ،وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ وَمَاءٍ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ ؟ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ،ثُمَّ قَالَ : لَا وَاللَّهِ لَا أُدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَهَيِّئَا لِي زَادًا،فَفَعَلَتَا،ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ،ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ حِينَ نَزَلَهَا،وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ
__________
(1) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (6 / 55) وإحياء علوم الدين - (1 / 61)
(2) - كشف الأستار - (2 / 174)(1458) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 531)(26308) 26839- حسن صحيح(1/85)
الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَرَافَقَا حَتَّى إِذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ،قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ : إِنَّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَفَعَلَ،فَسَارَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النَّاسُ : هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ "،فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ،فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَوْلَى لَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ " ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَبَرَ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ " (1)
الخلاصة :
(1) ليس القصد من إعلان الخطأ التشهير بالمخطىء،بل هو تحذير وبيان لسوء الفعل أو القول،لكي لا يغتر به .
(2) عدم التصريح بالاسم أثناء بيان الخطأ،وإن كان المخطئ معلوماً عند البعض .
(3) إذا كان المخطئ عامداً عالماً،فللمعلم أن يجتهد في إيجاد السبيل الأقوم في معالجة وتأديب المخطئ .
(4) براعة المعلم تكمن في كيفية علاج الخطأ،دون التصريح باسم المخطئ .
ــــــــ
5- إلقاء السلام على المتعلِّم قبل الدرس وبعده :
يغفل كثير من المعلمين عن سنة عظيمة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ،وهي سنة السلام،وقد ورد في فضلها آثار كثيرة .
والعجب أن يعدل المعلمون عن السلام المشروع وهو سنة إلى غيرها من التحيات،ولا بأس أن يصبح بالخير،أو يمسي بالخير ولكن يكون ذلك بعد السلام،أما أن تكون هذه التحيات ونحوها هي المعتمد في كل حال فلا . ثم إنه قد يحدث من بعض المعلمين أمراً
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1978 ) صحيح مرسل(1/86)
مخالفاً للشرع وهو جعل الطلاب يقومون له عند مجيئه لهم، ويجلس هو ويسلمون عليه هم،وهذا مخالف للسنة.
وقد اختلفت الروايات في القيام للقادم،ففي مشكل الآثار :
" بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي قِيَامِ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ تَوْبَتِهِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ , وَيَقُولُونَ: لِتَهْنَكَ تَوْبَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ .(صحيح)
وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَمَّا طَلَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَمَا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ إِلَى خَيْرِكُمْ "(صحيح)
وعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِمَا حَكَمَ بِهِ فِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ " (صحيح)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ قُمْنَا "(حسن)
فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ , وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُخَالِفُهَا
فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَجِمَّ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ " (صحيح)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْأُوَلَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ فِيهَا إطْلَاقُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِيَامَ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِيَارِ الْقَائِمِينَ لِذَلِكَ لَا بِذِكْرِ مَحَبَّةِ الَّذِينَ قَامُوا لَهُمْ إِيَّاهُ مِنْهُمْ , وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ(1/87)
الْمَحَبَّةُ مِنَ الَّذِي يُقَامُ لَهُ لِذَلِكَ مِمَّنْ يَقُومُهُ لَهُ , فَتَصْحِيحُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ عَلَى مَا لَا مَحَبَّةَ فِيهِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ , وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ بِذَلِكَ الْقِيَامِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ مُحْتَمِلٌ لِمَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَبِنْ بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ تَضَادٌّ لِجِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ لِلْجِنْسِ الْآخَرِ مِنْهُمَا
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ "(صحيح)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ دَلَّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَامَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعِلْمِهِمْ بِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ مِنْهُمْ وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْلَا كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ لَقَامُوا لَهُ وَقَدْ تَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ ; لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَهُ , وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَامَ بِمَحْضَرِهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ نُزُولِ تَوْبَتِهِ مُهَنِّئًا لَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ .
وعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ بَيْتًا فِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَثَبَتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ أَوْزَنَهُمَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ يَا ابْنَ عَامِرٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " (صحيح)
فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَحَبَّةُ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ لِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ , وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَيْهِمْ , وَقَدْ تَكُونُ بِلَا قِيَامٍ إِلَيْهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِلْمَحَبَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِلْقِيَامِ الَّذِي لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ , وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَحِلُ اللُّغَةَ يَزْعُمُ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ إِنَّمَا هُوَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَخِمَّ لَهُ الرِّجَالَ قِيَامًا , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ بِعُظَمَائِهِمْ مِنْ قِيَامِهِمْ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَمِنْ إطَالَتِهِمْ لِذَلِكَ حَتَّى يَسْتَخِمُّوا مَعَهُ: أَيْ حَتَّى تَتَغَيَّرَ لَهُ رَوَائِحُهُمْ لِإِطَالَتِهِمْ لِذَلِكَ الْقِيَامِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا عِنْدَنَا مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي(1/88)
ذَلِكَ إِنَّمَا دَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ لَا مَخْرَجَ لَهُ سِوَاهُ وَقَدْ كَانَ فِيهِ مَا خَاطَبَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرٍ مَا كَانَ بِغَيْرِ إطَالَةٍ مِنَ ابْنِ عَامِرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ قِيَامًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ هَذَا التَّأْوِيلِ , وَفِي انْتِفَائِهِ ثُبُوتُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ ." (1)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
" وقد اختلف أهل العلم في قيام الرجال للرجل عند رؤيته: فجوزه بعضهم كالنووي وغيره، ومنعه آخرون.
قال النووي في الأذكار: وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام، لا للرياء والإعظام.
ونقل العيني في شرح البخاري عن أبي الوليد ابن رشد أن القيام على أربعة أوجه:
الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبراً وتعاظماً على القائمين إليه.
الثاني : مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر، ولكن يخشى أن يدخله بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة،
والثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البر لمن لا يريد ذلك، ويأمن معه التشبه بالجبابرة.
الرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحاً بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها.
وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل البر والإكرام لا يكره. وقال الحافظ في الفتح: هذا تفصيل حسن، ونحن نميل إلى القول بهذا التفصيل الذي ذكره الغزالي، واستحسنه الحافظ ابن حجر.والله أعلم." (2)
وبذل السلام أجر وغنيمة يستفيد منه المسلم في تكثير حسناته،ولذا رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته إلى ذلك وحثهم عليه :
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 150) فما بعد
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 4042)-رقم الفتوى 8430 شرح حديث " من أحب أن يمثل له الرجال قياماً..."وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (8 / 2357) -رقم الفتوى 52908 حكم القيام للمعلم(1/89)
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا لَقِىَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا." (1)
وإلقاء السلام سبب في إشاعة المحبة بين الأفراد والجماعات،والمعلم يحتاج إلى ذلك من باب أولى .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ." (2)
وعن الزُّبَيْرَ بْنِ الْعَوَّامِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الْحَسَدُ،وَالْبَغْضَاءُ،وَالْبَغْضَاءُ : هِيَ الْحَالِقَةُ،لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ،وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ،أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ." (3)
والمحبة إذا شاعت بين المعلم وطلابه،كان ذلك علامة على قبول العلم الذي يبثه ذلك المعلم،لأن النفس بطبعها تميل إلى الشيء الذي تحبه وتهواه،وهذا شيء متعارف عليه .
بقي ثمة أمر آخر لا يخطر ببال الكثيرين،وهو أن يسلِّم المعلم على طلابه،عند إرادة الانصراف من الدرس،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ،فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ،فَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ،فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ." (4)
الخلاصة:
(1) البداءة بالسلام عند لقاء الطالب .
(2)
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5202 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 472) (236) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 455)(1430) وصحيح الجامع (3361) حسن لغيره
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 247) (494) صحيح
وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (25 / 172) وإحياء علوم الدين - (2 / 49)(1/90)
السلام سبب في جلب المغفرة،وتكثير الحسنات .
(3) السلام سبب في إشاعة المحبة بين المعلم وطلابه .
(4) إلقاء السلام عد الدخول على الطلاب،وعند الانصراف .
ــــــــ
6- استخدام العقوبات أثناء التعليم :
يتفق المعلمون في وجوب معاقبة المخطئ وردعه عند تكرار خطئه،ولكنهم يختلفون في مسألة العقاب البدني للتلميذ،فالمانعون يقولون : إن هذا الأسلوب غير مجد،ويؤدي إلى حدوث أمراض نفسية لدى الطالب،وتجعل الطالب يتخوف من العلم لأدنى سبب،وكذلك هذا الأسلوب يدعو الطالب إلى الكذب للفرار من عقاب المعلم،قالوا : ولذا نرى عدم السماح للمعلم بمعاقبته بدنياً مطلقاً .
والفريق الآخر المؤيدون يقولون : إن إلغاء العقاب البدني بتاتاً له عواقب وخيمة،منها أن الطالب لا يأبه للمعلم،ولا يضع له اعتباراً،وبالتالي لن يلقي اهتماماً للعلم أي ( للمادة الدراسية )،وعملية إلغاء العقاب البدني ينشئ لنا جيلاً مستهتراً بالقيم والمثل والعلم .
والتحقيق أن يقال: أنه لا بد من التفصيل في هذه المسألة،وأن نتناولها من جوانب عدة:
أولاً : إلغاء الضرب بالكلية مرفوضٌ،وإطلاق العنان للمعلم بالضرب في كل الأحوال مرفوض أيضاً،ومستندنا في جواز الضرب حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ » (1) .
قال العلقمي : " إِنَّمَا أَمَرَ بِالضَّرْبِ لِعَشْرٍ لِأَنَّهُ حَدّ يَتَحَمَّل فِيهِ الضَّرْب غَالِبًا،وَالْمُرَاد بِالضَّرْبِ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح وَأَنْ يَتَّقِي الْوَجْه فِي الضَّرْب ." (2) .
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (495 ) صحيح
(2) - عون المعبود - (2 / 20)(1/91)
فهذا الحديث صريح في جواز ضرب من بلغ عشر سنين تأديباً له .
ثانياً : الضرب للتأديب فقط : وليس للانتقام والتشفي،ولذلك يخطئ بعض المعلمين عندما يضرب أحد طلابه ضرباً شديداً مبرحاً لخطأ وقع فيه،فيظن المعلم أنه يؤدبه،وفي الحقيقة أنه ينتصر لنفسه !
ثالثاً : اتقاء ضرب الوجه : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ،فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ." (1)
وذلك لأن الوجه هو أشرف الأعضاء في جسم الإنسان،وهو مكان التكريم،فالضرب على الوجه يبعث على الكراهية وحب الانتقام .
رابعاً : هناك عقوبات أخرى تسبق الضرب : أورد الشيخ محمد جميل زينو (2) بعض العقوبات التربوية المفيدة نأخذ منها على سبيل الاختصار :
? النصح والإرشاد ( لأن البعض تؤثر فيه الكلمة والتوجيه)
? التعبيس (أي تعبيس الوجه وتقطيب الحاجبين للتعبير عن الاستياء)
? الزجر
? الإعراض ( الإعراض عن طلابه أو عن أحدهم حتى يرجع عن خطئه)
? التوبيخ .
? جلوس القرفصاء ( أو إيقاف الطالب مع رفع يديه ونحو ذلك ) .
? ( تكليف الطالب بواجبات منزلية ونحو ذلك )
? تعليق العصي فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَهُمْ أَدَبٌ. (3)
?
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 420) (5605) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُرِيدُ بِهِ صُورَةَ الْمَضْرُوبِ ، لأَنَّ الضَّارِبَ إِذَا ضَرَبَ وَجْهَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ضَرَبَ وَجْهًا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.
(2) - نداء إلى المربين والمربيات ص93. وما بين المعكوفتين زيادة بيان مني .
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 153) (10523 ) حسن(1/92)
( المرحلة الأخيرة ) الضرب الخفيف .
قلت :
الذين قالوا بمنع العقوبات البدنية هم الذين تأثروا بالحضارة الغربية،حيث تعطف على الجاني ،وتجهز على الضحية،ومن ثم لو نظرنا إلى حياة القوم الاجتماعية لوجدنا الجرائم التي لا تعد ولا تحصى من كل فئات الناس ،وأهم سبب لذلك ترك العقوبات البدنية،التي أنزلها الله سبحانه وتعالى من السماء .
فالعقوبات البدنية ومنها الضرب هي تشريع رباني محكم،فكل من يريد منعها إنما يريد التحاكم إلى شرع الجاهلية – مهما نمقها أصحابها- قال تعالى : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) سورة المائدة.
فالزوجة أقرب الناس للزوج وموطن أسراره،وسكنه الروحي والنفسي،ومع هذا إذا أخطأت ولم يجد معها الوعظ والإرشاد والهجر في المضجع جاز ضربها ضربا غير مبرح،قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء .
فعن عَائِشَةَ،قَالَتْ : أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قُلْنَا : بَلَى،قَالَتْ : لَمَّا كَانَ لَيْلَتِي انْقَلَبَ - صلى الله عليه وسلم - ،فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عَنْ رِجْلَيْهِ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ،وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ،فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ،ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا،ثُمَّ فَتْحَ الْبَابَ،فَخَرَجَ وَأَجَافَهُ رُوَيْدًا ،فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي،ثُمَّ تَقَنَّعْتُ بِإِزَارِي،فَانْطَلَقْتُ فِي إِثْرِهِ حَتَّى أَتَى الْبَقِيعَ،فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَأَطَالَ الْقِيَامَ،ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ،فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ،فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ،فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ،فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتَ دَخَلَ،فَقَالَ : مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ ؟ قُلْتُ : لاَ شَيْءَ،قَالَ : لَتُخْبِرِنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ،قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ،قَالَ : أَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي ؟ قُلْتُ : نَعَمْ،قَالَتْ : فَلَهَزَ فِي صَدْرِي لَهْزَةً أَوْجَعَتْنِي،ثُمَّ قَالَ : أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ(1/93)
وَرَسُولُهُ،قَالَتْ : فَقُلْتُ : مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ،قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ،فَنَادَانِي فَأَخْفَى مِنْكِ،فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ،وَظَنَنْتُ أَنَّكِ قَدْ رَقَدْتِ،وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ،وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِيَ،فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ،قُلْتُ : كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : قُولِي السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ،وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ." (1)
وعَنْ أَبِي النَّضْرِ،أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ،كَانَ يَشْتَكِي رِجْلَهُ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَقَدْ جَعَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى وَهُوَ مُضْطَجِعٌ،فَضَرَبَهُ بِيَدِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْوَجِعَةِ فَأَوْجَعَهُ،فَقَالَ : أَوْجَعْتَنِي،أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ رِجْلِي وَجِعَةٌ ؟ قَالَ : بَلَى،قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ ؟." (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَجُلاً ضَاحِكًا مَلِيحًا قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَيُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِصْبَعِهِ فِى خَاصِرَتِهِ فَقَالَ : أَوْجَعْتَنِى. قَالَ :« اقْتَصَّ ».قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَىَّ قَمِيصٌ. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَهُ فَاحْتَضَنَهُ ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ فَقَالَ : بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ هَذَا." (3)
وعَنْ أَبِى الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ نُصَلِّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ أُمَرَاءَ فَيُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ - قَالَ - فَضَرَبَ فَخِذِى ضَرْبَةً أَوْجَعَتْنِى وَقَالَ سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ فَضَرَبَ فَخِذِى وَقَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ « صَلُّوا الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلاَتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً ». قَالَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذُكِرَ لِى أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 45) (7110) وصحيح مسلم- المكنز - ( 2301 )
الحشيا : وقع عليك الحشا وهو الربو والنهيج -أحضر : عدا عدوا -الرابية : التى أخذها الربو وهو التهيج وتواتر النفس الذى يعرض للمسرع فى مشيه -تقنعت : لبست -لهز : دفع بشدة فى الصدر
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 108)(11375) 11395- صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (8 / 49) (16443) صحيح(1/94)
فَخِذَ أَبِى ذَرٍّ." (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يغضبُ الغضب الشديد إذا جاوز المُتعلّم ببحثِه وسؤالِه إلى ما لا ينبغي السؤال عنه والدخول فيه .
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ ، فَقَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُمْ ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ (2) ، تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ , قَالَ : فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ (3) وَتَخَلُّفِي عَنْهُ. (4)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ ، فَقَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؟ إِنَّمَا ضَلَّتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ ، فَاعْمَلُوا بِهِ ، وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ ، فَانْتَهُوا." (5)
(فكأنما يُفقأ في وجهِهِ حَبُّ الرُّمّان من الغضب) أي فغَضِب فاحمرَّ وجهه احمراراً يشبه فقْأ حب الرمان في وجهه ، وهذا كناية عن مزيد حُمرة وجهه الشريف المنبئةِ عن مزيد غضبه ، وإنما لأن القدر سر من أسرار الله تعالى ، وطلبُ سر الله منهيٌ عنه ، ولأن من يبحث فيه لا يأمن من أن تزِلَّ قدمه كما زلَّت الجبريةُ والقدريةُ .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1503 )
(2) أي للخوض في بحث القدر والاختصام فيه؟! هل هو المقصود من خلقِكم! أو هو الذي وقع التكليف به؟ حتى اجترأتم عليه! يُريد أنه ليس بشيء من الأمرَيْن ، فأيُّ حاجةٍ إليه؟!
(3) أي ما استحسنتُ فعل نفسي وتغيُّبي مرةً عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ في هذا المجلس الذي اشتدَّ فيه غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وُلوجِ أصحابه فيما لا يعنيهم .
(4) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (1 / 63)(85) صحيح
(5) -مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 666)(6845) صحيح(1/95)
والعباد مأمورون بقبول ما أمرهم الشرعُ من غير ان يَطلُبوا سر ما لا يجوز طلبُ سِرِّه .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِى الْقَدَرِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِى وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ فَقَالَ « أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِى هَذَا الأَمْرِ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ (1) أَلاَّ تَتَنَازَعُوا فِيهِ » (2) .
وتأتي معاقبة الطالب من هذا القبيل،ففي الموسوعة الفقهية :
" وَيُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ وَكَذَا الصَّوْمُ،وَيُنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِيَأْلَفَ الْخَيْرَ وَيَتْرُكَ الشَّرَّ،وَيُؤْمَرُ بِالْغُسْل إِذَا جَامَعَ،وَيُؤْمَرُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ،وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ،وَيَكُونُ التَّأْدِيبُ بِالضَّرْبِ وَالْوَعِيدِ،وَالتَّعْنِيفِ بِالْقَوْل .،وَهَذَا التَّأْدِيبُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَلِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ . وَهُوَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا لِيَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا وَلاَ يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ،وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِ « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ ». (3) .
وَيُؤَدِّبُ الْمُعَلِّمُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ،وَلَيْسَ لَهُ التَّأْدِيبُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (4) .،وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمُ : الإِْجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ . (5)
وجاء فيها أيضاً :
" يُؤَدَّبُ الصَّبِيُّ بِالأَْمْرِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ بِالْقَوْل،ثُمَّ الْوَعِيدِ،ثُمَّ التَّعْنِيفِ،ثُمَّ الضَّرْبِ،إِنْ لَمْ تُجْدِ الطُّرُقُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ،وَلاَ يُضْرَبُ الصَّبِيُّ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ لِحَدِيثِ : مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،وَاضْرِبُوهُمْ
__________
(1) - أي أقسمتُ عليكم ، أو أوجَبْتُ عليكم .
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2280 ) صحيح لغيره
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4405 ) صحيح
(4) - حاشية ابن عابدين 3 / 189 ، 5 / 363 ، ومغني المحتاج 4 / 193
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (10 / 22) وابن عابدين 5 / 363 ، ومغني المحتاج 4 / 193 .(1/96)
عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ،وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1)
وَلاَ يُجَاوِزُ ثَلاَثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَهِيَ أَيْضًا عَلَى التَّرْتِيبِ،فَلاَ يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالْغَرَضِ وَهُوَ الإِْصْلاَحُ . (3)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية :
" إن أهل العلم يقولون بجواز ضرب الأب أو الأم أولادهما للتأديب، ولهم على ذلك أدلة منها: قوله - صلى الله عليه وسلم - : « مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ ». رواه أبو داود (4) .
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضربهم لترك الصلاة،وفي هذا الضرب تأديب لهم،ولكن أهل العلم يقولون: إن ضرب التأديب مقيد بوصف السلامة، ومحله في الضرب المعتاد كماً وكيفاً ومحلاً.
فينبغي للأب أو الأم عند ضرب الأولاد مراعاة الأمور الآتية:
أولاً: لا ينبغي الزيادة على عشر ضربات، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلاَّ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ » (5) .
ثانياً: لا يضرب الوجه،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ،وَلاَ يَقُلْ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ،وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ،فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. (6) .
ثالثاً: لا يضرب في مكان مؤلم أو متلف: المذاكير، أو البطن، أو ما شابه ذلك.
رابعاً: أن لا يؤدب وهو غضبان، لأن الغضب قد يخرج صاحبه عن السيطرة على نفسه، فمن ضرب أولاده لتأديبهم ملتزماً بالضوابط المذكورة، فلا إثم عليه.
__________
(1) - مر تخريحه
(2) - الرهوني 8 / 164 ، ومواهب الجليل 6 / 319 ، والمغني لابن قدامة 8 / 327 ، وابن عابدين 1 / 235 .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (10 / 24)
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (495 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6848 )
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 541)(9604) 9602- صحيح(1/97)
وأما تعدي الحدود في ضرب الأولاد، فلا يجوز،وعلى الوالد أن يتجنب أسباب الغضب،وأن يستعيذ بالله من الشيطان وقت الغضب، كما أرشد إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - .والله أعلم. " (1)
وجاء فيها أيضاً : " لا نعلم أحاديث تنهي عن ضرب الطفل؛ بل ورد ما يدل على جواز ضربه إذا كان مستحقاً للضرب،كما روى أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ ، وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (2) .
وعن شُمَيْسَةَ،قَالَتْ : سَمِعْت عَائِشَةَ،وَسُئلت عَنْ أَدَبِ الْيَتِيمِ فَقَالَتْ : إنِّي لأَضْرِبُ أَحَدَهُمْ حَتَّى يَنْبَسِطَ." (3)
وعَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مِمَّ أَضْرِبُ يَتِيمِي ؟ قَالَ : اضْرِبْهُ مِمَّا كُنْت ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ." (4)
وسئل الإمام أحمد عما يجوز فيه ضرب الولد؟ قال: يضرب على الأدب. وقال أيضاً: اليتيم يؤدب،والصغير يضرب ضرباً خفيفاً. وسئل عن ضرب المعلم الصبيان؟ فقال: على قدر ذنوبهم،ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه.
وذكر ابن الجوزي أن الولد إذا احتيج إلى الضرب ضرب ضرباً غير مبرح.
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ،أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ،أَوْ قَالَ : أَرْسِلْ مَوْلًى لَهُ وَأَنَا مَعَهُ يَسْأَلُهُ : مِمَّ يَضْرِبُ الرَّجُلُ يَتِيمَهُ ؟ قَالَ : مِمَّ يَضْرِبُ الرَّجُلُ وَلَدَهُ،قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَسَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ. (5) .
فالمقصود أن ضرب الطفل جائز بشرط استحقاقه الضرب ومنفعته له.والله أعلم." (6)
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 2264) -رقم الفتوى 14123 ضرب التأديب مقيد بوصف السلامة
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (495) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 576) (27222) حسن
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 576) (27223) صحيح مرسل
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 577)(27224) صحيح مقطوع
(6) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4 / 4773) -رقم الفتوى 24777 حكم ضرب الأطفال(1/98)
وبعد فإن على المعلم أن يتدرج في استعمال العقوبات،ولا يلجأ للضرب لأول زلة يقع فيها الطالب،بل عليه أن يستعمل الحكمة في استخدام الأسلوب الأمثل لمعالجة الخطأ كما بيناه سابقاً. ثم إن لم يجد بداً من الضرب،فليضرب ولكن بالشروط السالفة الذكر . ولا عبرة بقول،ولا حجة لمن أنكر الضرب مطلقاً .
الخلاصة:
(1) التدرج في معاقبة المخطئ،وعدم اللجوء إلى الضرب إلا في الحالات القصوى .
(2) عدم القسوة في الضرب،واتقاء الوجه .
(3) القصد من الضرب هو التأديب،وليس لإطفاء نار الغضب .
ــــــــ
7- تقديم المكافآت للمتعلم :
المكافآت بأنواعها لها فعل عجيب في أسر القلوب،وتجديد النشاط،وكسر طوق الخمول،وباعث على الاستزادة من العلم،إلى غير ذلك من الآثار التي تحدثها المكافآت وعلى المعلم أن يوجد هذا الأسلوب كلما وجد فتوراً بين طلابه،أو رأى مصلحة في تقديمها. وتختلف المكافآت اختلافاً متبايناً،ولكنها تشترك في الأثر الذي تحدثه مع اختلاف في مقدار هذا الأثر . وإليك بعضاً منها :
(أ) المكافآت المادية : وهي أقوى المكافآت والحوافز تأثيراً على المتعلم وإثارةً له،لأن فيها معنى زائداً على حيازة المكافأة المادية،وهو التفوق على الأقران،ورضى المعلم عنه،وحصوله على الثناء الحسن من قبل معلميه . ولقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ،قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُفُّ عَبْدَ اللهِ،وَعُبَيْدَ اللهِ ،وَكُثَيَّرًا بَنِي الْعَبَّاسِ،ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ :فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ،فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزَمُهُمْ." (1)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 569)(1836) حسن(1/99)
( ب ) المكافأة بالدعاء : وهو الدعاء للطالب بالبركة والخير والتوفيق ونحوه . وهذا الأسلوب عزيز ونادر وجوده بين المعلمين،ولا أدري أهو رغبة عنه أم جهل به ؟.
فإن كان رغبة عنه فلقد فعله خير البشر - صلى الله عليه وسلم - وإن كان جهلاً به فهاك علمه ،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْخَلاَءَ،فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ « مَنْ وَضَعَ هَذَا » . فَأُخْبِرَ فَقَالَ « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ » (1) .
قال الحافظ ابن حجر : " قال التيمي: فيه استحباب المكافأة بالدعاء. وقال ابن المنير: مناسبة الدعاء لابن عباس بالتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاثة أمور: إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئا، فرأي الثاني أوفق، لأن في الأول تعرضا للاطلاع، والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء، والثاني أسهلها، ففعله يدل على ذكائه، فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع، وكذا كان." (2)
(ت ) المكافأة بالثناء الحسن ( المدح ) :وهو قولك للطالب أحسنت،ممتاز،ونحوه .. وهذا الأسلوب يزرع في المتعلم الثقة بعلمه،ويحث غيره لنيل هذا الاستحسان من المعلم،ويبعث في الطالب الشعور بالارتياح لما يبذله من جهد في التعلم ومثاله ،عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِى صَدْرِى وَقَالَ « وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ » (3) .
قال القرطبي : " وقوله لأُبيٍّ حين أخبره بذلك : (( ليهنك العلم ))،وضربه صدره : تنشيط له،وترغيب في أن يزداد علمًا وبصيرة،وفرح بما ظهر عليه من آثاره المباركة،وفيه
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (143)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 244)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1921 )(1/100)
إلقاء العالم المسائل على المتعلم ؛ ليختبره بذلك ." (1)
قال النووي : " فِيهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِأُبَيٍّ وَدَلِيل عَلَى كَثْرَة عِلْمه . وَفِيهِ تَبْجِيل الْعَالِم فُضَلَاء أَصْحَابه وَتَكْنِيَتهمْ،وَجَوَاز مَدْح الْإِنْسَان فِي وَجْهه إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَة،وَلَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ إِعْجَاب وَنَحْوه ؛ لِكَمَالِ نَفْسه وَرُسُوخه فِي التَّقْوَى ." (2)
قلت ومن المصلحة ما تقدم آنفاً .
وعَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ . فَقَالَ « أَحَجَجْتَ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « بِمَا أَهْلَلْتَ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ « أَحْسَنْتَ،انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ » . (3)
يقول محمد بن جميل زينو (4) : "على المعلم الناجح أن يثني على الطالب إذا رأى منه أي بادرة حسنة في سلوكه،أو في اجتهاده،فيقول للطالب الذي أحسن الجواب:أحسنت،بارك الله فيك،أو نعم الطالب فلان،فمثل هذه الكلمات اللطيفة تشجع الطالب وتقوي روحه المعنوية،وتترك في نفسه أحسن الأثر،مما يجعله يحب معلمه ومدرسته ويتفتح ذهنه للتدريس،ويكون في نفس الوقت مشجعاً لرفاقه أن يقتدوا به في أدبه وسلوكه واجتهاده لينالوا الثناء والتشجيع من معلمهم .." (5)
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (7 / 69)
(2) - شرح النووي على مسلم - (3 / 164)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1724 )
(4) - نداء إلى المربين والمربيات ص83.
(5) - هناك مكافآت أخرى لم نذكرها في كلامنا عن المكافآت ، وذلك لأنها خلاف منهجنا الذي سرنا عليه ، وهو الاستدلال بكل خلق أو وسيلة في التعليم بخبر عن رسول الله ومن هذه المكافآت ما ذكرها محمد جميل زينو في كتاب نداء إلى المربين والمربيات ( وما بين المكوفتين مني ) :
أ - لوحة الشرف : ( أي يوضع اسم المتفوق ونحوه في هذه اللوحة ) . ب - توصية أهل الطالب : ( وذلك بمراسلة أهله وذكر محاسنه وتقدمه في دراسته ونحو ذلك )
( ونزيد : ت - خطابات الشكر : وهو تزويد الطالب بخطابات الشكر ويعلن عنه في مدرسته ويوضع في ملفه ونحو ذلك ) . اه فؤاد شلهوب(1/101)
الخلاصة:
(1) المكافآت لها أثر فعال في دفع المتعلمين وتحفيزهم على طلب العلم .
(2) يجب أن تكون الحوافز والمكافآت وسيلة لا غاية .
(3) المكافأة بالدعاء أمر محمود،وكلما كان الدعاء مناسباً للفعل كان أفضل .
(4) مكافأة الطالب بالثناء عليه،أسلوب حسن،ودافع جيد للاستزادة من العلم .
- - - - - - - - - - - - -(1/102)
الباب الثالث
صفات الرسول المعلم
وفيه مبحثان :
المبحث الأول-كلمةٌ موجزةٌ عن شَخْصيةِ الرسول المعلِّم
المبحث الثاني-بيان خصائص الرسول المعلِّم وفضائِله(1/103)
المبحث الأول
كلمةٌ موجزةٌ عن شَخْصيةِ الرسول المعلِّم
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرأفة والرحمة،وتَرْكِ العَنَتِ وحُبّ اليُسر،والرِّفق بالمتعلِّم،والحِرصِ عليه،وبَذْلِ العلم والخير له في كل وقت ومناسبة : بالمكان الأسمى والخُلُقِ الأعلى قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (128) سورة التوبة .
عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ،قَالَ : أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ (1) ،فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً،فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِينَا،سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا،فَأَخْبَرْنَاهُ،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَحِيمًا رَفِيقًا،فَقَالَ : ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ،وَمُرُوهُمْ،وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي،فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ،وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ." (2)
في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية : ارتحالُ الشباب جماعةً إلى العالِم،ليتلقّوا منه العِلم،وليأخذوا عنه الفقه في الدين،ولِيَصْطحِبوه فترةً من الزمن،فيَشهدوا منه سُلوكه،وهَدْيَهُ وعَمَله،فتَستَنير بذلك أفهامهم بقُربهم منه ومُلازمتهم له،ويأخذوا العلم مصحوباً بالعمل به،فيكون أوضح في نفوسهم،وأطيب في سلوكهم،كما كان شأن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - معه .
وفي هذا الحديث أيضاً النظرُ إلى ذاته الشريفة - صلى الله عليه وسلم - التي هي مَجْمَعُ القُدوة ونموذج الإنسان الكامل . وفيه أيضاً : تعلُّم أحكام الشريعة منه - صلى الله عليه وسلم - ،وفيه أيضاً : أن الأفضل بالمتعلِّم أن يقصد من علماء عصره : الأوفى علماً،والأعلى فهماً .. فقد كان آباءُ هؤلاء الشباب صَحابةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،التَقَوْا به وأخذوا عنه،وعَلِموا منه،فما اكتفى هؤلاء الشباب
__________
(1) - الشببة جمعُ شابّ . ومتقاربون أي في السِّنّ والعُمر .
(2) - صحيح ابن حبان - (4 / 541)(1658) وصحيح البخارى- المكنز - (6008 و7246 )(1/104)
بالأخذ منهم،بل قَصَدوا سيدَ العلماء،وتاجَ الأنبياء،وأعلم البشر - صلى الله عليه وسلم - .
وخصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا : الأكبر بالإمامة للصلاة فيهم،نظراً إلى تساويهم في العلم والتعلم منه عليه الصلاة والسلام،فإذْ تساوَوْا في ذلك كان وصف الكِبَر فيهم صفة مميزة للكبير على من دونه في السن،فيُقدَّمُ الكبير .
أما إذا كان بعضهم أعلَم من بعض فيقدَّم الأعلم على من سواه،لأن صفة العلم أعلم وأشرف من صفة كِبَر السن . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ : مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا،وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتكَلَّمُ بِكَلامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ " (2)
(يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا ) أي ما كان يأتي بالكلام متتابعاً يستعجل به،فإنه إذا كان كذلك يورِث لَبْساً على السامعين،ولا يُمكِّنهم من فهمه وحفظه .
(بِكَلامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ )أي ظاهرٍ واضحٍ مفصولٍ متميزٍ بعضُه من بعض،بحيث يتبيَّنُه من يسمعُه،ويُمكنُه عدُّه لو أراد عدَّه مثلاً . وهذا أدعى لحفظه ورُسوخِه في ذهن السامع،إذْ يتروّاه تروِّياً،فلا تبقى له فيه شُبهة ولا غموض .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلاَثًا لِتُعْقَلَ عَنْهُ. (3)
أي لتُفهم عنه،وتَثبُت في ذهن السامعين . وذلك لكمالِ هدايته وشفقته - صلى الله عليه وسلم - بأُمَّتِه عامّة،وبالمتعلِّمين خاصة . ويدلُّ هذا الحديث الشريف على أنه ينبغي للمعلِّم أن يتمهل في تقريره لما يُعلِّمُه،ويبذُل الجهد في بيانه،ويُعيدَه حتى يُفهم عنه .
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَأَلْتُ خَالِي هِنْدُ بْنُ أَبِي هَالَةَ،وَكَانَ وَصَّافًا،فَقُلْتُ : صِفْ لِي مَنْطِقَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ،طَوِيلُ السَّكْتِ،لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ،يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتِمُهُ بِاسْمِ اللَّهِ
__________
(1) - وانظر حقوق الكبر وصفة العلم في كُتَيِّب : ((من أدب الإسلام)) ، في الأدب 16 ، 17 ، 18 .
(2) - الشمائل المحمدية للترمذي - (221) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (4001 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ(1/105)
تَعَالَى،وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ،كَلَامُهُ فَصْلٌ،لَا فُضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ،لَيْسَ بِالْجَافِي وَلَا الْمُهِينِ،يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ،وَإِنْ دَقَّتْ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَّاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ،وَلَا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا،وَلَا مَا كَانَ لَهَا،فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ،وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ،وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا،إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا،وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا،وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا،وَضَرَبَ بِرَاحَتِهِ الْيُمْنَى بَطْنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى،وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ،وَإِذَا فَرِحَ غَضَّ طَرْفَهُ،جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ،يَفْتَرُّ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ " (1)
(مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ) قال العلماء : ليس المراد بهذا : التألُّمَ على فَوْتِ مطلوب أو حصول مكروه من أمور الدنيا،فإن هذا لم يكن من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،بل المراد : أنه كان دائم الاهتمام والتفكير فيما يستقبله من الامور العظيمة،وشؤون الدعوة إلى الله تعالى ،وجَلْبِ الناس إليها وإدخالهم فيها،مع ما هو عليه من جهادِ المشركين،وتعليمِ الجاهلين،والقيام بعبادة الله تعالى على أكملِ وجه . ويُفسِّرُ ذلك قولُ واصِفِه بعد هذه الجملة : ((دائمَ الفِكرة،ليست له راحة،طويلَ السَّكْت)) .
(وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ) أي يتكلَّم - صلى الله عليه وسلم - بالكلمات القليلة،الجامعةِ للمعاني العظيمة الكثيرة،مثل : قولِهِ : ((الدين النصيحة)) . وقوله : ((احفظ الله يحفظك)) . وقوله : ((اتق الله حيثما كنت)) . وقوله : ((الحلال بيِّن،والحرام بيِّن)) . وقوله : ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك)) . وقوله : ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) . وقوله : ((إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً)) .
وقوله :((لا ضَرَرَ ولا ضِرار)) . أي لا يجوز للإنسان ان يَضُرَّ نفسَه،ولا أن يُلحق الإضرار بغيره .
وقوله : ((من أَحدَثَ في أَمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) . أي كلُّ عَمَلٍ لا يكون على وَفْق أَمرِ الله وأمر رسوله،فهو مردودٌ على عامِلِه،إذ لا يُقبَلُ من الاعمال إلاّ ما كان جارياً على هَدْيِ أحكام الشريعة مُوافقاً لها .
__________
(1) - الشمائل المحمدية للترمذي - (223 ) وشعب الإيمان - (3 / 28) (1362) حسن لغيره(1/106)
وأمثالُ هذه الأحاديث الشريفة،من بدائع جَوامِعِه - صلى الله عليه وسلم - التي اختصه الله تعالى بها : كثيرةٌ،اكتفيتُ بإيرادِ هذه النماذج منها،وأغلَبُ ما أوردتُه هنا منها،ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى في آخر كتابه ((الأذكار))،مع بيان مَصدرِه الذي أُخرِجَ فيه من كتب الحديث الشريف المعتمدة .
(كلامُه فَصْل) أي فاصِلٌ مُبينٌ لما قاله فيه أتمَّ البيان،تَقبَلُه العقول لنصاعته وحَقِّيَّتِه،وتَستلِذُّهُ الأسماعُ لفصاحتِه وجَزالتِه .
( لا فُضولَ ولا تقصير) أي لا إفراطَ فيه ولا تفريط
(ليس بالجافي ولا المَهين) أي ليس بغليظِ الطبع ثقيل النفس . وقولُه : ولا المَهين : أي ليس هو بالمحتَقَرِ المبتذَل،بل كان مَهيباً مُوَقَّراً،من رآه بَديهةً هابَهُ،ومن خالطَهُ معرفةً أحبَّه .
(يُعظِّمُ النِّعمةَ وإن دَقَّتْ) أي صغُرَت وقلَّت .
(لم يكن يَذُمُّ ذَواقاً ولا يَمدَحُه) الذَّواقُ : الشيءُ المَذوق،سواءٌ كان طعاماً أو شراباً . فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يُذكَرُ في مجلسه الشريف المُفاضلة بين الأطعمة أو الاشرِبة،كشأن بعض أهل الدنيا الذين يَهتمُّن بالطعام والشراب والملذّات،وتكون حديث مجالسهم! .
(ولا تُغضِبُه الدنيا ولا ما كان لها) بل كان - صلى الله عليه وسلم - لا يَغضَبُ إلا لله تعالى .
(تُعدِّيَ الحقُّ لم يَقُمْ لغضبه شيءٌ حتى ينتصر له) أي لم يقُم لدفع غضبه حتى ينتصر للحق .
(وإذا غضِب أعرضَ وأشاح) أي قبض وجهه عمن غضِب عليه،فلا يُقابله بما يقتضيه الغضب .
(يَفْتَرُّ عن مثل حَبِّ الغمام) أي يضحكُ عن أسنانٍ جميلةٍ بيضاء ناصعة،مثل اللؤلؤ المشيَّهِ بحبِّ الغمام وهو البرد .
والضَّحك في مواطنه فِعلٌ حسنٌ محمود،لما فيه من الخير الملاقي للطباع،والمُواتي للمقام،فلا غرابة أن يَضحك سيِّدُ الناس وأعظم البشر - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو عمرو الجاحظ في فاتحة كتابه ((البخلاء)) ص 5 : بعدَ أن تحدَّث عن فوائد البكاءِ(1/107)
ومنافعِهِ التي تعود على الروح والجسم جميعاً،قال ((فما ظَنُّك بالضَّحِك الذي لا يزال صاحبُه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببُه . ولو كان الضَّحِك قبيحاً من الضاحك أي في مواطن الضحك وقبيحاً من المُضْحِك،لما قيل للزّضهرة،والحِبَرة،والحَلْي،والقَصْر المبنيِّ : كأنه يَضحكُ ضَحِكاً . وقد قال الله جلَّ ذِكرُه : (وأنَّه هو أضحكَ وأبكى وأنَّه هو أَماتَ وأحيَى) . فوََع الضَّحِك بحذاءِ الحياة،ووضع البكاء بِحِذاءِ الموت . وإنه لا يُضيفُ اللله إلى نفسه القبيح،ولا يمُنُّ على خَلْقِه بالنقص .
وكيف لا يكون موقِعُه من سرور النَّفس عظيماً،ومن مَصلحة الطِّباع كبيراً،وهو شيء في أصل الطباع،وفي أساس التركيب،لأن الضحك أوَّل خيرٍ يظهر من الصَّبي،وبه تَطيب نفسه،وعليه يَنْبُتُ شَحْمهُ،ويكثر دمُه الذي هو عِلّة سروره،ومادَّةُ قُوَّته . ولفضلِ خِصالِ الضحك عند العرب،تُسمّي أولادَها : بالضحّاك،وبِبسّام،وبطَلْق،وبطليق . وقد ضَحِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَزَحَ،وضحك الصالحون ومزحوا . وإذا مدحوا قالوا : هو ضَحوكُ السن،وبسّامُ العَشِيّات،وهشٌّ إلى الضَّيف،وذوا أَرْيَحيّضةٍ واهتزاز .
وإذا ذَمّوا قالوا : هو عَبوس،وهو كالح،وهو قطوب،وهو شيِّم المُحَيّا،وهو مُكْفَهِرٌّ أبداً،وهو كريه ومُقبَّض الوجه،وحامِضُ الوجه،وكأنما وجهه بالخلِّ منضوح .
وما أجمل قولَ الشاعر الوَصّاف المبدع :
ضَحوكُ السِّنِّ إنْ نطقوا بخيرٍ وعندَ الشَّرِّ مِطراقٌ عَبوسُ
وللضحك موضعٌ وله مقدار،وللمرح موضعٌ وله مقدار،متى جازَهُما أحدٌ،أو قصَّر عنهما أحد،صار الفاضِل خطلاً والتقصير نَقْصاً . فالناسُ لم يعيبوا الضحك إلا بقدَر،ولم يَعيبوا المزح إلا بقدر،ومتى أُريد بالمزح النفعُ،وبالضَّحِكِ الشيءُ الذي له جُعِل الضحك،صار المزح جِدّاً والضحكُ وقاراً))
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ الْحُسَيْنُ : سَأَلْتُ أَبِي،عَنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جُلَسَائِهِ،فَقَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَائِمَ الْبِشْرِ،سَهْلَ الْخُلُقِ،لَيِّنَ الْجَانِبِ،لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ،وَلَا صَخَّابٍ وَلَا فَحَّاشٍ،وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مُشَاحٍ،يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي،وَلَا يُؤْيِسُ مِنْهُ(1/108)
رَاجِيهِ وَلَا يُخَيَّبُ فِيهِ،قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءِ وَالْإِكْثَارِ وَمَا لَا يَعْنِيهِ،وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا وَلَا يَعِيبُهُ،وَلَا يَطْلُبُ عَوْرتَهُ،وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ،وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ،فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ،وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ،حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ،يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ،وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ،وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ وَيَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ حَاجَةٍ يِطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ،وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ " (1)
(دَائِمَ الْبِشْرِ ) أي دائم طلاقةِ الوجه والبشاشةِ مع الناس .
( لَيْسَ بِفَظٍّ ) أي ليس بغليظ الكلام ولا جافي القول .
( وَلَا غَلِيظٍ ) أي وليس بغليظ الطبع،بحيث يَجفوه الناس،بل كان سهْل الخُلُق ليِّن الجانب،قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران .
( وَلَا صَخَّابٍ) الصَّخَبُ هو اضطراب الأصوات وشِدَّتُها للخصومة . وصيغةُ (صخّاب) هنا صيغة نَسَب في سياق النفي،فهي لنفي الصَّخب عن حديثه - صلى الله عليه وسلم - إطلاقاً،لا في قليل ولا كثير،على حَدِّ صيغة (ظلاّم) في قوله تعالى : (وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد) أي لا يُنْسَبُ له سبحانه الظلمُ في قليل ولا كثير .
( وَلَا فَحَّاشٍ ) الفُحش هو كل ما يشتَدُّ قُبحُه من الأقوال أو الأفعال . و(فحّاش) صيغة نسب أيضاً في مَساق النفي،فتُفيد نفي أصل الفُحش عنه - صلى الله عليه وسلم - قليلِه وكثيرِه .
( وَلَا عَيَّابٍ ) أي لا يعيب الناس،أو الأشياء،على سبيل الانتقاص لهم،أو الإزراءِ بها،بل كان عفّاً متعالياً عن ذلك كلِّه .
( وَلَا مُشَاحٍ ) أي لا يُبالغ في المدح والثناء،وإنما يُنزِّلُ الناس منازلَهم،ويقول فيهم بالعدل
__________
(1) - الشمائل المحمدية للترمذي - (346 ) حسن لغيره(1/109)
والإنصاف .
( يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي ) أي يُظهر الغفلة والإعراض عما لا يستحسنه من الأقوال والأفعال،تلطُّفاً بأصحابه،ورفقاً بهم،وترفُّعاً عن التدخُّل في كل شيء،وقد قال أبو الطيب :
ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قومه لكنَّ سيِّدَ قومِه المتغابي
( وَلَا يُؤْيِسُ مِنْهُ رَاجِيهِ) أي لا يجعل راجيَه آيساً من كرمه وجوده وتلبيةِ ما أمَّله منه .
( وَلَا يُخَيَّبُ فِيهِ ) أي لا يُخيِّب الراجي فيه - صلى الله عليه وسلم - ،بل يُلبّي له رجاءَه .
(الْمِرَاءِ ) أي الجِدال ولو بحقّ .
(وَالْإِكْثَارِ) أي من الكلامِ أو المال .
(وَلَا يَطْلُبُ عَوْرتَهُ ) أي لا يَتتبَّعُ عوراتِ الناس وسَقَطاتِهم،ولا يَتجسِّس عليهم ويَتفحَّصُ عن عُيوبِهم وزلاّتِهم .
(وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ ) أي نظروا بأبصارهم إلى الأرض،وأَصغَوْا إليه لاستماع كلامه،مع سُرورهم وارتياحهم بحديثه،وذلك من أعلى الأدبِ والتبجيلِ للسادةِ والكُبراء .
( كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ) أي يسكنون السكون التامَّ مع السكوتِ عند كلامه،هيبةً له وإجلالاً،وتعلُّماً واستفادة . وقولُه : (كأنَّما على رؤوسهم الطير) كنايةٌ عن ذلك السُّكوتِ والسُّكونِ التامّ . وأصلُهُ أنَّ الغراب يقعُ على رأس البعير،فيلقُطُ منه القُراد،فلا يتحرَّك البعير حينئذٍ،لئلا ينفِرَ عنه ويبقى القُرادُ في رأس البعير فيُؤلِمُه،فقيل منه : كأنَّ على رؤوسِهم الطير .
(حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ ) أي من بَدَأ أوَّلاً بالحديث منهم فهو المتحدِّثُ حتى يَفرغ ولو كان أدناهم،ثم يَتحدَّثُ غيرُه بعده .
( فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ) أي يصبر عليه في جفاِ نُطقِه وغِلْظَةِ كلامه وخُشونة سؤاله . وقد كان يقع هذا من جُفاةِ الأعراب أهلِ البادية،الذين لم يختلطوا بالناس .
( لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ )أي يستجلبون أولئك الأعراب إلى مجلسه - صلى الله عليه وسلم - ،ليستفيدوا من سؤالهم(1/110)
له،إذ يسألونه ما يَهاب أصحابُه السؤال عنه توقيراً له .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ : كُنَّا نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ،وَكَانُوا أَجْرَأَ عَلَى ذَاكَ مِنَّا،قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ،فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ،أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ،قَالَ : صَدَقَ،قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : اللَّهُ،قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ ؟ قَالَ : اللَّهُ،قَالَ : فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ ؟ قَالَ : اللَّهُ،قَالَ : فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ فِيهَا هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنَافِعَ،اللَّهُ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا،قَالَ : صَدَقَ،قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا،قَالَ : صَدَقَ،قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرٍ فِي سَنَتِنَا،قَالَ : صَدَقَ،قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا،قَالَ : صَدَقَ،قَالَ : فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ،ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَزْدَادُ عَلَيْهِنَّ شَيْئًا وَلا أَنْتَقِصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا،ثُمَّ وَلَّى،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ،مَعْنَى حَدِيثِهِمْ وَاحِدٌ،كُلُّهُم قَالُوا : قَدْ نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ " (1)
والآية التي يُشير أنسٌ رضي الله عنه إلى وُرودِ النهي فيها،هي قولُه تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101) سورة المائدة،وقد كانوا قبلَ نزولها يسألون،ويكثرون السؤال،عما هو ضروري وغير ضروري،فنُهوا عن السؤال غير الضروري،وسُمِح لهم بالسؤال عما يُفيدُ ويُحتاجُ إليه .
ولذا قال : (كان يُعجبُنا أن يجيء الرجل العاقل) وذلك لكونه أعرف يكيفية السؤال وآدابه والمهم منه،وأدْرى بحُسن المراجعة،وبهذا يَعظُمُ الانتفاع بالسؤال ويعُمُّ النفعُ بجوابه
__________
(1) - مسند أبي عوانة (1 ) وصحيح مسلم- المكنز - (111و112 )(1/111)
أيضاً .
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى (1) : ((وكانوا يورِدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يُشكِلُ من الأسئلة والشُّبُهات،فيُجيبُهم عنها بما يُثلِجُ صدورهم،وقد أورد عليه - صلى الله عليه وسلم - الأسئلة أعداؤه وأصحابه،أعداءه للتعنُّت والمُغالبة،وأصحابُه للفهْمِ والبيان،وزيادة الإيمان،وهو يُجيبُ كُلاًّ عن سؤاله،إلاّ ما لا جواب عنه،كسؤالهم عن وقت السّاعة)) .
(فَأَرْفِدُوهُ ) أي فأعينوه أو أَعطوه،يُقال : رَفَدَه وأرْفَده إذا أعانه أو أعطاه .
( مِنْ مُكَافِئٍ ) أي لا يَقبل المدح إلا من مُكافىء على إنعام حصل من النبي له،فهو لا يُحِبُّ أن يُحمَد بما لم يفعل، - صلى الله عليه وسلم - .
( حَتَّى يَجُوزَ) أي حتى يقع في الجوْر ومُجاوزة الحق في كلامه .
وفي هذا الحديث الشريف ما لا يخفى من نهاية كماله - صلى الله عليه وسلم - ،ورفقِه،ولُطفِه،وحِلْمِه،وصبرِه،وصفْحِه،ورأفَتِه،ورحمَتِه،وعظيم أخلاقِه ...
وكلُّ ذلك مطلوبٌ من المعلِّم منا الاقتداءُ فيه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعلِّم الناصح الأمين .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعطي كل واحد من جُلسائه وأصحابه حقَّه من الالتفات إليه والعناية به،حتى يظُنَّ كل واحد منهم أنه أحبُّ الناس إلى رسول الله .
وعنه قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ،فَقَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَقُومُ وَلَا يَجَلِسُ إِلَا عَلَى ذِكْرٍ،وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ،يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ،لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ،مَنْ جَالَسَهُ أَوْ فَاوَضَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفُ عَنْهُ،وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ،قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ،فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً،مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ عِلْمٍ وَحِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَأَمَانَةٍ وَصَبْرٍ،لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ،وَلَا تُثَنَّى فَلَتَاتُهُ مُتَعَادِلِينَ،بَلْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالتَّقْوَى،مُتَوَاضِعِينَ يُوقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ فِيهِ
__________
(1) - في ((زاد المعاد)) 3 : 121(1/112)
الصَّغِيرَ،وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ " (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - أتَمَّ ما يكون تواضُعاً للمتعلِّم والسائل المستفيد والضعيف الفَهْم .
فعَنْ أَبِي رِفَاعَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخْطُبُ،فَقُلْتُ : رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ،لاَ يَدْرِي مَا دِينُهُ . قَالَ : فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ،ثُمَّ أُتِي بِكُرْسِيٍّ خَلِبٍ قَوَائِمُهُ حَدِيدٌ،فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عِلَّمَهُ اللَّهُ،ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ،فَأَتَمَّ آخِرَهَا." (2)
قال الإمام النووي (3) : ((في هذا الحديث تواضُعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ورِفقُه بالمسلمين،وشفقتُه عليهم،وخفْضُ جناحِه لهم،وفيه استحبابُ تلطُّفِ السائلِ في عبارتِه وسؤالِه العالمَ .
وفيه المبادَرةُ إلى جواب المستفتي،وتقديم أهمِّ الأمور فأهمِّها،ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمّة،وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وَجَب إجابتُه وتعليمُه على الفور .
وقعودُه - صلى الله عليه وسلم - على الكرسي ليسمَع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم)) . انتهى كلام النووي .
قلتُ : وفيه أيضاً جواز جلوس المعلِّم على الكرسي أثناء التعليم،وأنه لا يلزمه أن يعلِّم واقفاً .
وعَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ : بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ،دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ،فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ،ثُمَّ عَقَلَهُ،ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ؟ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ،قَالَ : فَقُلْنَا لَهُ : هَذَا الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ،فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ أَجَبْتُكَ،فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشْتَدٌّ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ،فَلاَ تَجِدَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْ
__________
(1) - الشمائل المحمدية للترمذي - (331) حسن لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2062 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 877)(24009/62)
(3) - في ((شرح صحيح مسلم)) 6 : 165(1/113)
مَا بَدَا لَكَ ،فَقَالَ الرَّجُلُ : نَشَدْتُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ،آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ نَعَمْ،قَالَ : فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ نَعَمْ،قَالَ : فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنَ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ نَعَمْ،قَالَ : فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا،فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ نَعَمْ،فَقَالَ الرَّجُلُ : آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ،وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي،وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَدِمَ عَلَيْهِ،فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ،ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِى أَصْحَابِهِ - وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلاً جَلْداً أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ - حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ». قَالَ : مُحَمَّدٌ؟ قَالَ :« نَعَمْ ». قَالَ : يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّى سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ فِى الْمَسْأَلَةِ،فَلاَ تَجِدَنَّ فِى نَفْسِكَ. قَالَ :« لاَ أَجِدُ فِى نَفْسِى فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ ». قَالَ : إِنِّى أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولاً؟ قَالَ :« اللَّهُمَّ نَعَمْ ». قَالَ : فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِى كَانَتْ آبَاؤُنَا تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِهِ؟ قَالَ :« اللَّهُمَّ نَعَمْ ». قَالَ : فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّىَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ :« اللَّهُمَّ نَعَمْ ». قَالَ : ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلاَمِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً : الزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَشَرَائِعَ الإِسْلاَمِ كُلَّهَا،وَيُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا نَاشَدَهُ فِى الَّتِى قَبْلَهَا حَتَّى إِذَا فَرَ غَ قَالَ : فَإِنِّى أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،وَسَأُؤَدِّى هَذِهِ الْفَرِيضَةَ،وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِى عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ : لاَ أَزِيدُ وَلاَ أُنْقِصُ،ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ وَلَّى :« إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ». فَأَتَى إِلَى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 367)(154) وصحيح البخارى- المكنز - (63)(1/114)
بَعِيرِهِ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ،فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ أَنْ قَالَ : بِئْسَتِ اللاَّتُ وَالْعُزَّى. قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ اتَّقِ الْبَرَصَ وَاتَّقِ الْجُنُونَ وَاتَّقِ الْجُذَامَ. قَالَ : وَيْلَكُمْ،إِنَّهُمَا وَاللَّهِ مَا يَضُرَّانِ وَلاَ يَنْفَعَانِ،إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولاً وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَاباً اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ،وَإِنِّى أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ. قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِى حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ إِلاَّ مُسْلِماً. قَالَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ." (1)
( فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ) أي في ساحة المسجد
(ثُمَّ عَقَلَهُ ) أي ربطه بشيء عند باب المسجد لئلا يشرد .
(بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ) قوله : (بين ظهرانيهم) أي بينهم . وفيه ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التواضُع وترك التكبُّر،وفيه أيضاً جوازُ اتكاءِ الإمام بين أتباعه .
(قَدْ أَجَبْتُكَ ) أي سَمِعتُك،فقُل ما تريد .
( فَلاَ تَجِدَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ ) وقوله (لا تجِدنَّ) أي لا تغضبنَّ من مُساءلتي وتشدُّدي فيها
( سَلْ مَا بَدَا لَكَ ) وفي الحديث بيان تواضعِه - صلى الله عليه وسلم - ،ورِفقُه بالسائل المستفيد على تشديده في السؤال وتغليظِه فيه،وفيه أنه ينبغي للمتعلِّم أن يقدِّم بين يدي سؤالِه مقدِّمة يتلطَّفُ فيها ويعتذر فيها ليَحسُنَ موقِعُ سؤالِه عند المعلِّم،وهو من حُسن التوصُّل إلى المقصود .
( اللَّهُمَّ نَعَمْ) أصلُ الجواب قوله (نعم)،وذكر لفظ (اللهم) للتبرُّك وليدُلَّ على تيقُّنِه في الجواب،فكأنه قال : يا الله إني أُشهدُك أنَّ ما أقولُ حقٌ .
( فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ ) أي أسألُك بالله .
(نصوم هذا الشهر من السنة) أي شهر رمضان .
(أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ ) أي الزكاة .
__________
(1) - سنن الدارمى- المكنز - (677) صحيح -العقيصة : الضفيرة -الغديرة : الشعر المضفور(1/115)
ما أغفل هذا الرجل السائل،وما أحسنَ مدْخَلهُ وتقديم اعتذاره بهذا التمهيد لأسئلته التي سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،واستحلفه على جواب كل سؤال منها،فقد توثَّق تمام التوثق من صِدق الصادِق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -
فلما استوفى أسئلته وأُعطي أجوبتها أعلَن إسلامه،وأنه رسول قومه الذين أوفدوه وهم تبعٌ له،ليعلموا صدق الرسول الداعي للإيمان بما جاء به من عند الله،فيُسلموا،فهم لم يوفدوه عنهم إلاّ وهم على تمام الثقة من رجاحة عقله،وثاقبِ نظرِه،وصادقِ تفرُّسِه،فلله دَرُّهم ودَرُّه،ولذا قال سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما : ما سمِعنا بوافد قوم قطُّ،كان أفضل من ضِمام . وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : ما رأيتُ أحداً أحسنَ مسأَلةً،ولا أوجَزَ من ضِمام بن ثعلبة . رضي الله عنه وأرضاه .
واسم (ضِمام) مأخوذ من ضِمام الشيء،وهو ما يَشملُه وينطوي عليه . يقال : التقوى ضِمامُ الخير كلِّه .
وعن مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِى سَفَرٍ. فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - أَوْ يَا مُحَمَّدُ - أَخْبِرْنِى بِمَا يُقَرِّبُنِى مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ. قَالَ فَكَفَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَظَرَ فِى أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ « لَقَدْ وُفِّقَ - أَوْ لَقَدْ هُدِىَ - قَالَ كَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ فَأَعَادَ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ دَعِ النَّاقَةَ ». (1)
(بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا) قوله (بخطام ناقته) أي ناقةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - . والخِطام هو الزِّمامُ،وهو كلُّ ما وُضِع في أنف البعير ليُقْتادَ به .
(فَكَفَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ) أي سكت عن الجواب هُنَيهة .
( نَظَرَ فِى أَصْحَابِهِ) تعجُّباً من حُسن سؤاله .
( لَقَدْ وُفِّقَ - أَوْ لَقَدْ هُدِىَ ) أي وُفِّق للسؤال عما يَهُمُّه ويحتاج إليه،أو هُدي إلى ذلك بفضل الله تعالى،والشكُّ من الراوي،والمعنى في اللفظين متقارب .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (113 )(1/116)
إنما قال ذلك لأن الأعرابي كان مُمسكاً بزِمام الناقة ليتمكّن من سؤاله بلا مشقّة،فلما حصل جوابُه قال : دعها . وفي الحديث بيانُ غايةِ تواضُعِه - صلى الله عليه وسلم - للسائل وشفقته عليه،ومع جفائه وتعرُّضه للسؤال في غير وقته .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيِّ، قَالَ : انْطَلَقْتُ إِلَى الْكُوفَةِ لأَجْلِبَ بِغَالاً،قَالَ : فَأَتَيْتُ السُّوقَ وَلَمْ تُقَمْ،قَالَ : قُلْتُ لِصَاحِبٍ لِي : لَوْ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ وَمَوْضِعُهُ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِ التَّمْرِ،فَإِذَا فِيهِ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ : ابْنُ الْمُنْتَفِقِ وَهُوَ يَقُولُ : وُصِفَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحُلِّيَ،فَطَلَبْتُهُ بِمِنًى فَقِيلَ لِي : هُوَ بِعَرَفَاتٍ،فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ،فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ،فَقِيلَ لِي : إِلَيْكَ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : دَعُوا الرَّجُلَ أَرِبَ مَا لَهُ،قَالَ : فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى خَلَصْتُ إِلَيْهِ،قَالَ : فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَوْ قَالَ زِمَامِهَا هَكَذَا حَدَّثَ مُحَمَّدٌ،حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ رَاحِلَتَيْنَا،قَالَ : فَمَا يَزَعُنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَوْ قَالَ : مَا غَيَّرَ عَلَيَّ،هَكَذَا حَدَّثَ مُحَمَّدٌ،قَالَ : قُلْتُ : ثِنْتَانِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا : مَا يُنَجِّينِي مِنَ النَّارِ ؟ وَمَا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ نَكَسَ رَأْسَهُ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ قَالَ : لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ،فَاعْقِلْ عَنِّي إِذًا،اعْبُدِ اللَّهَ لاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا،وَأَقِمِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ،وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ،وَصُمْ رَمَضَانَ،وَمَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْهُ بِهِمْ،وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ،ثُمَّ قَالَ : خَلِّ سَبِيلَ الرَّاحِلَةِ. (1)
( إِلَيْكَ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ) أي ابعُد عنه . ( فَقَالَ ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - . ( دَعُوا الرَّجُلَ أَرِبَ مَا لَهُ ) قوله (أربٌ) أي الحاجة،و(ما) زائدة،كأنه قال : له حاجةٌ ما . ( فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى خَلَصْتُ إِلَيْهِ ) أي وصلتُ إليه . (فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَوْ قَالَ زِمَامِهَا) يعني فما غَضِب عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيرُه من أصحابه . وفيه من تواضُع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفضِ جَناحِه للسائل المستفيد ما لا يخفى .( فَاعْقِلْ عَنِّي إِذًا ) أي فافهم ما أقوله جيِّداً .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 770)(27153) 27694- صحيح(1/117)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ،فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أُمَّ فُلاَنٍ،خُذِي أَيَّ الطُّرُقِ شِئْتِ،فَقُومِي فِيهِ حَتَّى أَقُومَ مَعَكِ،فَخَلاَ مَعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُنَاجِيهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ." (1)
(انظري أيَّ السِّكَكِ) أي الطُّرُق .
قال الإمام النووي (2) : ((في هذا الحديث بيانُ تواضُعِه - صلى الله عليه وسلم - ،بوقوفه مع المرأة الضعيفة،ليَقضي حاجتَها ويُفتيَها في الخَلْوةِ،ولم يكن ذلك من الخَلْوةِ بالمرأة الأجنبية،فإن هذا كان في مَمَرِّ الناس ومُشاهدتِهم إياه وإياها،ولكن لا يَسمعون كلامَها،لأن مسألتها مما لا يُظهَرُ،والله أعلم)) .
ــــــــ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 386) (4527) وصحيح مسلم- المكنز - (6189 )
(2) - في ((شرح صحيح مسلم)) 15 : 82(1/118)
المبحث الثاني
بيان خصائص الرسول المعلِّم وفضائِله
ومعرفَتُها من تمام معرفة شخصيته التعليميّة،التي هي جزء منها ولا يَستقلُّ عنها،كما يتبدّى منها أيضاً مَبعثُ قبول أقواله وأحكامه الصادرة عنه،والتأسّي بأفعاله الواردة منه،ومَدى وَقْعِها في النفوس،وهي تشمل كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة والدين .
وفي هذه الكلمات أيضاً هَدْيٌ وإرشادٌ لما ينبغي أن يكون عليه المعلِّم في سيرتِه،وفِكرِه،وخُلقِه،وعملِه،ومعاملتِه،ومنطِقِه ومَظهرِه،ومخبرِه ... {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب
قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماورْدي البَصْري البغدادي،أقضى قضاة عصره ،رحمه الله تعالى،في كتابه ((أعلام النُبُوّة)) في (الباب العشرين) وغيره (1) ،وهو يتحدَّثُ عما خَصَّ اللهُ به رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - من المزايا والخصائص ما مُلَخَّصُهُ (2) :
((لمّا كان أنبياءُ الله صفوة عباده وخيرةَ خَلْقِه،لِما كلَّفَهم من القيام بحقِّه،استخلصهم من أكرم العناصر،وأمدَّهم بأوكد الأواصر ،حِفظاً لنسبِهم من قَدْح،ولمنصبِهم من
__________
(1) - وقد نقلَ هذه الكلمات بطولها العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى ، في كتابه ((دلائل التوحيد)) ص 181 196 من طبعة دمشق ، وص 156 169 من طبعة جمعية النشر والتأليف الأزهرية بالقاهرة ، حين تحدَّث عن الرسول الكريم ودلائل نبوته وصفاته الشخصية العظيمة .
(2) - ومن غريب التوافق أن المعاني التي أشار إليها الإمامُ الماورديُّ إمامُ المشرق في عصره ، في كلماته الآتية في بيان مزايا الشخصية النبوية الكريمة ، قد أشار إليها بإجمالٍ عَصْرِيُّهُ إمام المغرب الإمام ابن حَزْم ، في كتابه ((الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) 2 : 88 91 من طبعة صُبيح بالقاهرة سنة 1384 ، حتى كأنَّ أحدهما قد استَقى من الآخَرِ فِكرَه أو حاوَرَه فيه .
ولكن لا غرابة في تقارُب النَّظر ، وتوافُق الفِكَر بين إمامي المشرق والمغرب ، لأنهما ينطلقان من مَهْيَعٍ واحد،هو تشخيصُ المزايا التي اتَّصفَ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي باديةٌ للمَشْرِقي كما تبدو للمَغْرِبي على سواء ، وقد كانت وفاةُ الماوردي سنة 450 ببغداد ، ووفاةُ ابن حزم سنة 456 في بلدة لَبْلَبة من بلاد الأندلس ، رحمهما الله تعالى .(1/119)
جَرْح،لتكون النفوس لهم أوطى،والقلوب لهم أصفى،فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع،ولأوامرهم أطوع .
وقد كانت آياتُ النبوة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باهرة،وشواهِدُهُ قاهرة،تشهَدُ مَباديها بالعواقب،فلا يَلتبِسُ فيها كِذبٌ بصدق،ولا مُنْتَحِلٌ بمُحِقّ،وقد أرسله الله بعد الاستخلاص،وطهَّره من الأدناس فانتفَتْ عنه تُهَمُ الظنون،وسَلِمَ من ازدراءِ العيون،لا يَدفعُهُ عقل،ولا يأباه قلب،ولا تَنفِرُ عنه نفس .
فهو المهيَّأُ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال،المؤهَّلُ لأعلى المنازل وأفضل الأعمال،لأنها أصولٌ تَقودُ إلى ما ناسَبَها ووافقَها،وتنفِرُ ما باينها وخالفها . ولا منزِلة في العالم أعلى من النبوّة التي هي سِفارةٌ بين الله تعالى وعبادِه،تبعَثُ على مصالح الخَلْق وطاعةِ الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخصَّ،وأكملهم بشروطها أحقَّ وأمَسّ.
ولم يكن في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما دانى طَرَفَيْهِ من قارَبَه في فَضْلِهِ،ولا داناه في كماله،خَلقاً وخُلُقاً،وقولاً وفعلاً،وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم.
والفضل وإن لم يكن من مُعجزات النبوة،لانه قد يُشارَكُ فيه،فهو من أمارتها . وتكامُلُ الفضل مُعْوِز (1) ،فصار كالمُعْجِز،وكمالُ الفضل موجِبٌ للصدق،والصَّدق موجِبٌ لقبول القول،فجاز أن يكون الفضلُ من دلائل الرُّسُل .
فإذا وَضَح هذا،فالكمال المعتَبَر في البَشَر،يكون من أربعة أوجه :
1 كمالُ الخَلْق،2 وكمالُ الخُلُق،3 وفضائل الأقوال،4 وفضائل الأعمال
1 فأمّا الوجه الأول في كمال خَلْقِهِ بعد اعتدال صورته،فيكون بأربعة أوصاف :
أحدها : السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم،الداعية إلى التقديم والتسليم،وكان أعظم مَهيب في النفوس،حتى ارتاعت رُسُل كسرى من هَيْبَتِه حين أتوه،مع ارتياضِهم بصَوْلَةِ
__________
(1) - أعوزَ الشيءُ فهو مُعْوِز ، إذا عَزَّ فلم يوجَد . أي تكامُلُ الفضل عزيز(1/120)
الأكاسرة ،ومكاثرة الملوك الجبابرة،فكان - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهم أهْيَب،وفي أعينهم أعظم،وإن لم يتعاظم بأُبَّهة،ولم يتطاول بسَطْوة،بل كان بالتواضع موصوفاً،وبالسهولة معروفاً .
والثاني : الطلاقةُ الموجبة للإخلاص والمحبّة ،الباعثة على المصافاة والمودّة ،وقد كان صلوات الله عليه وسلامه محبوباً ،ولقد استحكمتْ محبّةُ طلاقَتِه في النفوس،حتى لم يَقْلِهِ مُصاحِب (1) ،ولم يتباعد منه مُقارب،وكان أحبَّ إلى أصحابه من الآباء والأبناء،وشُرْب البارد على الظَّمَاء (2)
والثالث : حُسنُ القبول،الجالبُ لممايلة القلوب حتى تُسرِع إلى طاعته،وتُذعِن بموافقته ،وقد كان قبولُ منظره - صلى الله عليه وسلم - مستولياً على القلوب،ولذلك استَحكمت مصاحبتُه في النفوس،حتى لم ينفِر منه مُعانِد،ولا استوحَشَ منه مُباعِد،إلاّ من ساقه الحسَد إلى شَقوتِه،وقادهُ الحرمانُ إلى مخالفتِه .
والرابع:مَيْلُ النفوس إلى متابعته،وانقيادُها لموافقته وثباتُها على شدائدِه ومُصابرتِه،فما شَذَّ عنه معها من أخلصَ،ولا نَدَّ عنه فيها من تخصص (3) .
وهذه الأربعة من دواعي السعادة،وقوانين الرسالة،وقد تكاملت فيه،فكَمَل لما يوازيها، واستحقَّ ما يقتضيها .
2 وأما الوجه الثاني في كمالِ خُلُقه،فيكون بسِتّ خِصال :
الخِصلة الأولى : رجاحةُ عقله،وصحّة وَهْمِه (4) ،وصدقُ فِراسته،وقد دلَّ على وفور ذلك فيه صحةُ رأيه، وصوابُ تدبيره،وحسنُ تألُّفه،وانه ما استُغْفِلَ في مكيدة،ولا استُعجِزَ في
__________
(1) - أي لم يُبغضه أو يكرهه مُصاحب .
(2) - الظَّماء : العطش الشديد .
(3) - أي عاشره طويلاً واختصَّ بصحبته .
(4) - أي صحة ما يقع في ذهنه من الخواطر ، تقول في لغة العرب : وَهَمْتُ أهِمُ وَهْماً على وزن وعَدَ يَعِدُ وَعْداً إذا وقع الشيءُ في خاطرك وخَلَدك .(1/121)
شديدة،بل كان يَلحَظُ الأعجاز في المبادي (1) ،فيكشِفُ عيوبَها،ويحُلُّ خُطوبَها،وهذا لا ينتظم إلاّ بأصدق وَهْم،وأوضح حَزْم .
والخَصْلة الثانية : ثباتُه في الشدائد وهو مطلوب (2) ،وصبرُه على البأساء والضرّاء وهو مكروبٌ ومحروب (3) ،ونفسُهُ في اختلاف الأحوال ساكنة،لا يَخور في شديدة (4) ،ولا يَستكين لعظيمة (5) ،وقد لَقِيَ بمكة من قريش ما يُشيبُ النواصي،ويَهُدُّ الصَّياصي (6) ،وهو مع الَّعْف يُصابِر صبْرَ المستعلي،ويثبُتُ ثبات المستولي .
والخَصلة الثالثة : زهدُه في الدنيا وإعراضُه عنها،وقناعتُه بالبلاغ منها (7) ،فلم يَمِلْ إلى نضارتها،ولم يَلْهُ بحلاوتها (8) ،وقد مَلَك من أقصى الحجاز إلى عِذارِ العراق (9) ،ومن أقصى اليَمَن إلى شَحْرِ عُمان (10) ،وهو أزهد الناس فيما يُقتنى ويُدَّخَر،وأعرضُهم عما يُستفاد ويُحتَكَر .
لم يُخلِّف عيْناً ولا دَيْناً (11) ،ولا حَفر نهراً،ولا شيَّد قصراً،ولم يُورِّث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً،ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها،فيكونوا على مِثلِ حالِه في الزُّهد فيها .
__________
(1) - أي يبصر عواقب الأمور في مبادئِها .
(2) - أي مطلوب من أعدائه .
(3) - أي مُحارَب .
(4) - لا يخور : لا يضعف .
(5) - لا يستكين : لا يذل ولا يخضع .
(6) - الصياصي : الحصون المنيعة .
(7) - البلاغ : اليسير الذي يُتوصَّل به إلى الغاية .
(8) - أي لم يأنس بها ويعجب بلذتها .
(9) - العِذار : الجانب .
(10) - أي ساحل بحر عُمان .
(11) - أي دَيْناً له على الناس ، بل قد مات - صلى الله عليه وسلم - ودِرعُه مرهونة عند يهودي في طعام أهله .(1/122)
وحقيقٌ بمن كان في الدنيا بهذه الزَّهادة،حتى اجتَذَب أصحابَه إليها،أن لا يُتَّهَم بطلبها،ويكذب على الله في ادّعاء الآخرة بها،ويَقنَع في العاجل،وقد سُلِب الآجل،بالميسور النَّزْر،ورضيَ بالعيش الكَدْر .
والخَصلة الرابعة :تواضُعُه للناس وهم أتباع،وخفضُ جناحه لهم وهو مُطاع،يمشي في الأسواق،ويجلس على التُراب،ويَمتزِجُ بأصحابه وجُلسائِه،فلا يتميَّز عنهم إلاّ بإطراقِهِ وحيائِه،فصار بالتواضع متميِّزاً،وبالتذلُّل متعزِّزاً .
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ قَالَ : فَقَالَ لَهُ : " هَوِّنْ عَلَيْكَ (1) فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ " قَالَ : ثُمَّ تَلَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ : وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ " (2)
وهذا من شرف أخلاقه،وكريم شِيَمه،فهي غَريزة فُطِرَ عليها،وجِبِلّةٌ طُبِعَ بها (3) ،لم تَنْذُرْ فتُعَدُّ (4) ،ولم تُحْصر فتُحَدّ .
والخصلة الخامسة : حِلمُهُ ووَقارُه عن طَيْشٍ يهُزُّه،أو خُرْقٍ يستفِزُّه (5) ،فقد كان أحلمَ في النِّفار من كل حليم (6) ،وأسلمَ في الخِصام من كل سليم،وقد مُني بجفوة الأعراب (7) ،فلم
__________
(1) - أي سكِّن قلبك واطمئن ولا تجزع مني .
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (3692 ) صحيح
القديد اللحمُ المجفَّف بالشمس . وأراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنما أنا ابنُ امرأةٍ كانت تأكل القَديد بمكة) : نفيَ صفة الملوكية عنه التي يلزمها الجبروتية والتكبر . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : (أنا ابن امرأة ...) نَسَب نفسه إلى المرأة ، ولم يقل : (أنا ابن رجل) زيادةً في شدة التواضع وتسكينِ الرَّوْع ، لِما عُلِمَ من ضعف النساء . ثم وصَفَها بأنها (تأكل القديد) تواضعاً ، لأن (القديد) أكلٌ مَفْضول ، وهو مأكول المساكين الفقراء ، والمتكبرون الجبابرة لا يأكلون من اللحم إلاّ ما ذُبح حديثاً ، فكأنه قال : إنما أنا ابنُ امرأةٍ مسكينة ، تأكل مَفْضول الأكل ، فكيف تَخافُ مني؟ . أفاده العلامة القَسطلاّني رحمه الله تعالى في ((المواهب اللدنية)) 4 : 319 320 بشرح الزرقاني .
(3) - الجِبِلّة : الخِلْقة .
(4) - لم تندر ، أي لم تكن نادرة قليلةً فتعد .
(5) الخُرْقُ : الجهل ، والحُمق .
(6) النِّفار : الجَزَعُ والخوف .
(7) - مُني : أُصيبَ .(1/123)
يوجد منه نادرة (1) ،ولم يُحفظ عليه بادِرة (2) . ولا حليمَ غيرَه إلاّ ذو عَثْرة،ولا وَقور سِواه إلاّ ذو هَفْوة،فإن الله تعالى عَصَمه،من نَزْغِ الهوى،وطَيْشِ القُدرة بهفوة أو عَثْرة،ليكون بأُمَّته رؤوفاً،وعلى الخلق عَطوفاً .
وقد تناولتْهُ قريشٌ بكل كبيرة،وقصدَتْهُ بكل جَريرة (3) ،وهو صبورٌ عليهم،ومُعرِض عنهم،وما تفرَّدَ بذلك سُفهاؤهم دون حُلمائهم،ولا أراذِلُهم دون عُظمائهم،بل تَمالأَ عليه الجِلّةُ والدُّون (4) .
فكلما كانوا عليه من الأمر ألحَّ،كان عنهم أعرضَ وأصفَح،حتى قَهرَ فعفا،وقدَرَ فغفَر .
وقال لهم حين ظَفِر بهم عامَ الفتح (5) ،وقد اجتمعوا إليه : ما ظنُّكم بي؟ قالوا : ابنُ عمٍّ كريم (6) ،فإنْ تعْفُ فذاك الظنُّ بك،وإن تنتقِمُ فقد أسأنا،فقال : بل أقول كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (92) سورة يوسف.
وأتَتْهُ هندٌ بنتُ عُتْبة وقد بَقَرَتْ بطنَ عمِّه حمزة،ولاكَتْ كَبِدَهُ (7) فصفحَ عنها،وبايَعَها .
__________
(1) أي كلمةٌ نابيةٌ خارجةٌ عن المعتاد .
(2) - البادِرة : حِدّة الغضب السريعة .
(3) الجريرة : الجناية .
(4) يقال : تمالأ القوم على كذا ، إذا اجتمعوا وتعاونوا عليه . وجِلّةُ القوم : عظماؤهم . والدّون : الخسيس الحقير
(5) - أي فتح مكة .
(6) - كذا وقع في كلام الماوردي : ابن عمٍّ كريم ، والمحفوظ في هذا الخبر : ((قالوا : أخٌ كريم ، وابنُ أخٍ كريم ..)) . كما في ((السيرة)) لابن اسحاق ، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 8 : 15 ، والزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) 2 : 377 ، وكما في ((مغازي الواقدي)) 2 : 835 ، و((عيون الأثر)) لابن سيد الناس 2 : 178 ، و((زاد المعاد)) لابن القيم 2 : 394 ، و((بهجة المحافل)) لليمني 1 : 410 . وبقية ألفاظ الخبر في هذه الكتب قريبة المعنى من النص المذكور هنا .
وجاء في رواية ثانية : ((ما تُرَوْن أني فاعل بكم ..)) . و(تُرَوْن) بضم التاء ، بمعنى تظنون ، كما ضبطها في ((بهجة المحافل)) .
(7) - أي مضَغَت كَبِد عمِّه حمزة في فمها حين بقَرَتْ بطنَه ، زيادة في التشفي بقتله رضي الله عنه ، لأنه قتل أباها في بدر وأخاها...(1/124)
والخَصْلة السادسة : حِفظُه للعَهْد،ووفاؤُه بالوَعْد،فغنه ما نَقَض لمحافظ عهداً،ولا أخلَفَ لمُراقِبٍ وعداً،يرى الغَدْرَ من كبائر الذنوب،والإخلافَ من مساوىء الشِّيَم،فيَلتزِم فيهما الأغلظ،ويرتكبُ فيهما الأصعب،حِفظاً لعهده،ووفاءً بوعده،حتى يَبتدىء مُعاهِدوه بنقضه،فيجعل اللهُ تعالى له مخرجاً،كفعل اليهود من بني قُريظة وبني النَّضير،وكفعل قُريش بصُلْح الحُدَيْبِية،فجعل الله تعالى له في نَكْثِهم الخِيَرة (1) .
فهذه سِتُّ خصال تكاملتْ في خُلُقِه،فضَّلَه الله تعالى بها على جميع خَلْقِه .
3 وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله،فمعتَبَرٌ بثمانِ خصال :
الخَصْلةُ الأولى : ما أوتي من الحكمة البالغة،وأُعطيَ من العلوم الجَمّة الباهرة،وهو أُمّيٌّ من أُمّةٍ أُمِّيّة،لم يقرأ كتاباً،ولا درس علماً،ولا صَحِب عالماً ولا مُعلِّماً،فأتى - صلى الله عليه وسلم - بما بَهَر العقول،وأذهَلَ الفِطَن،من إتقانِ ما أبان،وإحكام ما أَظهر،فلم يَعْثُر فيه بزلَل،في قولٍ أو عمل .
وما هذه الفِطرة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،إلاّ من صَفاءِ جوهرِه،وخُلوصِ مَخبَرِه
والخَصْلة الثانية : حِفظُه لِما أطلعه الله تعالى عليه،من قِصَص الانبياء مع الأمم،وأخبار العالم في الزمن الأقدم،حتى لم يَعزُب عنه منها صغير ولا كبير،ولا شَذَّ عنه منها قليلٌ ولا كثير،وهو لا يَضبطها بكتاب يَدْرسُهُ،ولا يَحفَظُها بعينٍ تَحرُسُه،وما ذاك إلاّ من ذِهنٍ صحيح،وصدْر فسيح،وقلبٍ شَريح (2) ،وهذه الثلاثة آلةُ ما استُدِعَ من الرسالة،وحُمِّلَ من أعباء النبوة،فجديرٌ أن يكون بها مبعوثاً،وعلى القيام بها مَحثوثاً .
والخصلة الثالثة : إحكامُه لما شَرََع بأظهرِ دليل،وبيانُه بأوضح تعليل،حتى لم يَخرُجْ عنه ما يوجبُه معقول،ولا دَخَلَ فيه ما تَدفَعُه العُقول،ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ " ، وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا ً)) (3) . لأنه نبَّهَ بالقليل على الكثير،فكفَّ عن
__________
(1) - أي ما هو الأفضل .
(2) - أي قلب واسع .
(3) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (3947 ) صحيح لغيره
والمراد بهما هنا : أنه - صلى الله عليه وسلم - أُعطِيَ البلاغة والفصاحة ، والتوصُّل إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ، ومحاسنِ العبارات والألفاظ التي أُغلِقَتْ على غيره وتعذَّرتْ ، وواسع المعاني الجليلة الشاملة ، بلفظٍ موجز لطيف جامع ، لا تعقيد فيه ولا التواء ولا غموض .
و(جوامع الكلم) واحدُها : كلمةٌ جامعة هي الكلمات التي يُعبَّرُ بها عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة .
و(خواتمُ الكلم) واحدها : كلمةٌ خاتمة هي الكلمات الخاتمة الحاوية للمعاني الكثيرة بحيث لا يَخرُجُ عنها شيء عن طالبه ، مع عُذوبتها وجزالتها وإستيفائها ، وحسنِ الوقف ورعاية الفواصل .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس ، يفتتح كلامَه بأعذب لفظ وأجزله ، وأفصحِه وأوضحِه ، ويختمه بمقطع وجيز بليغ جامع ، يشوِّقُ السامع إلى الإقبل على الاستماع له والحرصِ عليه .
وقولُه : (واختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً) يعني أوجِزَ لي الكلام ، حتى صار ما أتكلم به كثيرَ المعاني قليلَ الألفاظ .
وذلك كلُّه مما اختصَّه الله به ، وفضَّله به على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام(1/125)
الإطالة،وكشَفض عن الجهالة،وما تيسَّر له ذلك،إلاّ وهو عليه مُعان،وإليه مُقاد .
والخصلة الرابعة : ما أمَرَ به من محاسن الأخلاق،ودَعا إليه من مُستحسَن الآداب،وحَثَّ عليه من صِلةِ الأرحام،ونَدَبَ إليه من التعطُّفِ على الضعفاء والأيتام .
ثم ما نهى عنه من التباغُض والتحاسُد،وكفَّ عنه من التقاطع والتباعُد،لتكونَ الفضائلُ فيهم أكثر،ومحاسِنُ الأخلاق بينهم أنشَر،ومُستحسَنُ الآدابِ عليهم أظهر،ويكونوا إلى الخير أسرع،ومن الشرِّ أمنَع .
فيتحقَّقُ فيهم قولُ الله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران . فلَزِموا أوامرَه،واتَّقوا زواجِرَه،فتكاملَ بهم صَلاحُ دينهم ودُنياهم،حتى عَزَّ بهم الإسلامُ بعدَ ضعفِه،وذلَّ بهم الشِّركُ بعد عِزِّه،فصاروا أئمةً أبراراً،وقادةً أخياراً .
والخصلة الخامسة : وُضوحُ جوابِه إذا سُئل،وظُهورُ حِجاجِه إذا جودِل (1) ،لا يَحْصُرُه عِيّ (2) ،ولا يَقطَعُه عَجْز،ولا يُعارِضُه خَصْمٌ في جدال،إلاّ كان جوابُه أوضح،وحِجاجُه أرجح .
والخصلة السادسة : أنه محفوظُ اللسان من تحريفٍ في قول،واسترسالٍ في خبرٍ يكون إلى
__________
(1) الحِجاج : المُجادلة .
(2) أي لا يضايقه ولا يمنعه عن أداء مراده ضعف .(1/126)
الكذب منسوباً،وللصدقِ مُجانباً،فإنه فإنه لم يَزَلْ مشهوراً بالصدق في خَبَرِه ناشِئاً وكبيراً،حتى صار بالصِّدق مَرقوماً (1) ،وبالأمانة مَوسوماً (2) .
وكانت قريش بأَسْرِها تتيقَّنُ صِدقَه قبل الإسلام،فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه (3) ،فمنهم من كذَّبه حَسَداً،ومنهم من كذَّبه عناداً،ومنهم من كذَّبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً . ولو حَفِظوا عليه كِذبةً نادرةً في غير الرسالة،لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة .
ومن لَزِمَ الصدقَ في صِغَره،كان له في الكبر ألزَم،ومن عُصِمَ منه في حقِّ نفسه،كان في حُقوقِ الله تعالى أعصَم . وحَسْبُك بهذا دَفْعاً لجاحِد،ورَدّاً لمعانِد .
والخصلة السابعة : تَحريرُ كلامه في التوخّي به إبّانَ حاجتِه،والاقتصارُ منه على قَدْرِ كفايتِه،فلا يَسترسِلُ فيه هَذَراً (4) ،ولا يُحْجِمُ عنه حَصَراً (5) ،وهو فيما عدا حالتيْ الحاجة والكِفاية،أجملُ الناسِ صَمْتاً،وأحسنَهُم سَمْتاً (6) ،ولذلك حُفِظَ كلامُه حتى لم يَخْتَل،وظَهَرَ رَوْنَقُهُ حتى لم يَعْتَلّ،واستَعذَبَتْه الأفواه،حتى بقي محفوظاً في القلوب،ومُدوَّناً في الكُتُب .
والخصلة الثامنة : أنه أفصحُ الناس لِساناً،وأوضَحُهم بياناً،وأوجَزُهم كلاماً،واجْزَلُهم ألفاظاً،وأصحُّهم مَعانيَ،لا يَظهَرُ فيه هُجْنَهُ التكلُّف (7) ، ولا يَتخَلَّلُه فيْهَقَةُ التَّعسُّف (8) ،وقد دُوِّنَ كثيرٌ من جوامع كَلِمه ومن كلامه الذي لا يُشاكَلُ في فصاحته وبلاغته (9) ،ومع ذلك فلا يأتي عليه إحصاء،ولا يَبلُغُه استقصاء
__________
(1) أي مزيَّناً ومعرَّفاً .
(2) - أي صارت الأمانة له وِساماً وعلامة .
(3) - أي حين طلب منهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من الدين .
(4) يقال : هذر الرجلُ في منطقه هَذْراً وهَذَراً : إذا تكلَّم بما لا ينبغي . وهَذِرَ كلامُه هَذَراً : كثُرَ فيه الخطأ والباطل .
(5) الحَصَر : العجزُ عن البيانِ والقولِ المُفهِم .
(6) - السَّمتُ هنا : السكينةُ والوقار .
(7) - هُجنةُ التكلُّفِ : قُبحُه وعَيْبُه .
(8) - فيْهَقَةُ التَّعسُّف : التوسُّع والتنطُّع في النطق .
(9) - أي لا يُشابَهُ ولا يُماثَل في فصاحته وبلاغته .(1/127)
ولو مُزِجَ كلامُه بغيره لتميَّز بأسلوبه،ولظَهَر فيه آثارُ التنافر، فلم يَلتبس حَقُّه من باطِله،ولَبانَ صِدقُه من كذبِه (1) .
هذا،ولم يكن مُتعاطِياً للبلاغة،ولا مُخالِطاً لأهله من خُطَباءَ أو شُعراءَ أو فُصحاء (2) ،وإنما هو من غرائز فِطْرَتِه،وبِدايةِ جِبِلَّتِه (3) ،وما ذاك إلاّ لِغايةٍ تُراد،وحادثةٍ تُشاد (4) .
4 وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله،فمختَبَرٌ بثمانِ خِصال :
الخَصْلة الأولى : حُسُن سيرته،وصِحّةُ سِياستِه،في دينٍ نقلَ به الأُمّة عن مألوف،وصَرَفهم به عن معروفٍ إلى غير معروف (5) ،فأذْعَنَتْ به النفوسُ طوْعاً،وانقادَتْ له خوفاً وطَمَعاً،وليس ذلك بالسهل اليسير،إلاّ لمن كان مع التأييد الإلهي مُعاناً بحَزْمٍ صائب،وعزْمٍ ثاقب .
ولئن كان مأموراً بما شرع،فهي الحُجّةُ القاهرة،ولئن كان مجتهداً فيه فهي الآيةُ الباهرة،وحسبُك بما استقرَّتْ قواعدُه على الأبد حتى انتقَلَ عن سَلَفٍ إلى خَلَف تزدادُ فيهم حلاوتُه،وتشتدُّ فيهم جِدَّتُه،ويَرَوْنه نظاماً لأعصار تتقلَّبُ صُروفُها،ويختلف مألوفُها أن يكون لمن قام به بُرهاناً،ولمن ارتاب به بياناً .
والخَصْلة الثانية : أنه جَمَع بين رغبةِ من استمال،ورهبةِ من استطاع،حتى اجتمع الفريقان على نُصرتِه،وقاموا بحقوقِ دعْوتِه،رَغَباً في عاجل وآجل،ورَهباً من زائلٍ ونازِل،لاختلافِ الشِّيَم والطباع في الانقياد الذي لا يَنتظمُ بأحدهما،ولا يَستديمُ إلاّ بهما،فلذلك صار الدّين بهما مستقراً،والصلاح بهما مستمراً .
__________
(1) - يعني : لو كُذِبَ عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل على لسانه كلامٌ لم يقله ، لعُرِفَ كلامُه الحقُّ من الكلام الباطل المكذوب عليه ، بأمارةِ فصاحته وتميُّزِ أسلوبه .
(2) - أي لم يكن - صلى الله عليه وسلم - مخالطاً لهؤلاء على سبيل التعلُّم والتلقف منهم .
(3) أي خِلْقتِه .
(4) وهي القيام بأعباءِ النبوة وإبلاغِها للناس .
(5) - أي صَرَفهم عن شيء معروف عندهم مألوف بينهم ، إلى أمرٍ جديد عليهم ، غير معروفٍ لديهم ، وفي التمكن من ذلك صُعوباتٌ لا تخفى جَسامتُها .(1/128)
والخَصْلة الثالثة : أنه عَدَلَ فيما شَرَعه من الدين عن الغُلوِّ والتقصير،إلى التوسُّط،وخيرُ الأمور أوساطُها . لأنه العَدْلُ بين طرَفَيْ سَرَفٍ وتقصير،وليس لما جاوَزَ العدلَ حظٌّ من رشاد،ولا نصيبٌ من سَداد .
والخَصْلة الرابعة : أنه لم يَمِلْ بأصحابه إلى الدنيا،ولا إلى رَفْضِها،وإنما أمَرهم فيها بالاعتدال،وقال : ((خيرُكم من لم يترُكْ دُنياه لآخِرَتِه،ولا آخِرتَه لدنياه،ولكن خيرُكم من أخَذَ من هذه وهذه)) (1) .
وهذا صحيح،لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال،والجمعَ بينهما اعتدال .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((نعم المطيّةُ الدُّنيا،فارتحلوها تُبَلِّغُكم الآخِرة)) (2) . وإنما كانت كذلك،لأن منها يَتزوَّدُ المرءُ لآخرتِه، ويستكثر فيها من طاعتِه،ولأنه لا يخلو تاركُها من أن يكون محروماً مُضاعاً،أو مرحوماً مُراعى،وهو في الأوَّل كَلّ،وفي الثاني مُستَذَلّ .
والخَصْلة الخامسة : تَصدّيه لمعالِم الدين،ونوازِل الأحكام،حتى أوضح للأُمّة ما كُلِّفوه من العبادات،وبيّن لهم ما يَحِلُّ ويَحرُمُ من مُباحاتٍ ومحظورات،وفصَّلَ لهم ما يجوزُ ويمتنعُ من عقود ومناكحَ ومُعاملات،حتى احتاجَ أهلُ الكتاب في كثيرٍ من معاملاتهم ومَواريثهم لشرعِه،ولم يَحتَجْ شرعُه إلى شَرْعِ غيره .
__________
(1) - أخرجه الديلمى (3/409 ، رقم 5249) ، وابن عساكر (65/197) .عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولفظه قريب مما ذُكر هنا وهو : ((ليس بخيركم من تَرَك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه ، حتى يُصيبَ منهما جميعاً ، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ، ولا تكونوا كَلاًّ على الناس)) . ولا يصحُّ
(2) - لم أجده بهذا اللفظ ، ففي حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ >> يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ >>( 14947 ) قَالَ مُحَمَّدُ الرَّازِيُّ الْمُذَكِّرَ : سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ : " الدُّنْيَا أَمِيرٌُ مَنْ طَلَبَهَا وَخَادِمُ مَنْ تَرَكَهَا ، الدُّنْيَا طَالِبَةٌ وَمَطْلُوبَةٌ ، فَمَنْ طَلَبَهَا رَفَضَتْهُ ، وَمَنْ رَفَضَهَا طَلَبَتْهُ ، الدُّنْيَا قَنْطَرَةُ الْآخِرَةِ ، فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا ، لَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ بُنْيَانُ الْقُصُورِ عَلَى الْجُسِورِ ، الدُّنْيَا عَرُوسٌ وَطَالِبُهَا مَاشِطَتُهَا ، وَبِالزُّهْدِ يُنْتَفُ شَعْرُهَا ، وَيُسَوَّدُ وَجْهُهَا ، وَيُمَزَّقُ ثِيَابُهَا ، وَمَنْ طَلَّقَ الدُّنْيَا فَالْآخِرَةُ زَوْجَتُهُ , فَالدُّنْيَا مُطَلَّقَةُ الْأَكْيَاسِ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا أَبَدًا ، فَخَلِّ الدُّنْيَا وَلَا تَذْكُرْهَا ، وَاذْكُرِ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَهَا ، وَخُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُبَلِّغُكَ الْآخِرَةَ ، وَلَا تَأْخُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا يَمْنَعُكَ الْآخِرَةَ "
وفي المستدرك للحاكم ( 7870) عن سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآخِرَتِهِ ، حَتَّى يُرْضِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَاءِ رَبِّهِ ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيَا ، قَالَتِ الدُّنْيَا : قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ " وفي سنده جهالة .(1/129)
ثم مهَّدَ لشرعه أُصولاً تَدُلُّ على الحوادث المُغْفَلة،وتُستنْبَطُ لها الاحكام المعلَّلة،فأغنى عن نَصٍّ بعد ارتفاعه،وعن التباس بعد انقطاعه (1) ،ثم أمَرَ الشاهد أن يُبلِّغَ الغائب ليَعلضم بإنذاره،ويحتجَّ بإظهاره،فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، ولا تكْذِبوا عليّ،فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع،ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقَهُ منه)) (2) .
فأحكَمَ ما شَرَعَ من نصٍّ وتنْبيه (3) ،وعمَّ الناس بما أمر من حاضرٍ وبعيد،حتى صار لما تَحَمَّلَه من الشرع مُؤَدِّيا،ولما تَقلَّده من حقوقِ الأُمّة مُوَفِّيا،لئلا يكون في حقوق الله زَلَل،ولا في مصالح الأمّة خَلَل،وذلك في بُرهةٍ من زمانه،لم يَستوفِ تَطاوُلُ الاستيعاب،حتى
__________
(1) - هذا المقطع وقع فيه تحريف لم أهتد إلى تصويبه! وجاء في الأصل : (وعن التباس بعدَ إغفالِه) فأثبته كما ترى ، لعله أقرب للصواب؟ .
والإمام الماوردي يعني : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَهَّدَ وأصَّلَ لهذا الشرعِ أصولاً يُرجَع إليها لمعرفة الأحكام التي لم يُنَصَّ عليها ، فأغنى بتلك الأصول المَقيسِ عليها بعد ارتفاع النصّ أي الوحي وانقطاعه عن التخبُّط والاشتباه في معرفة الأحكام والحوادث والوقائع غيرِ المنصوص عليها . وفي هذا يُسرٌ عظيمٌ للناس .
(2) كأنَّ الماوردي رحمه الله تعالى جَمَع في هذا السياقِ بين أحاديثَ مختلفةٍ ، ففي صحيح البخارى- المكنز - (3461 ) مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ (20 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " وفي صحيح ابن حبان - (1 / 268) (66) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ."(صحيح) وفي صحيح ابن حبان - (1 / 269)(67)عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ هُوَ ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ ، فَقُلْتُ : مَا بَعَثَ إِلَيْهِ إِلاَّ لِشَيْءٍ سَأَلَهُ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : أَجَلْ ، سَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ سَمِعْنَاهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنِّي حَدِيثًا فَحَفِظَهُ ، حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ..".
(3) - المراد بالنَّص والتنبيهِ هنا : ما اصطلح عليه علماء أصول الفقه ، وهو أن (النص) : ما جاء فيه لفظُ التعليل للحُكمِ صَراحةً ، مِثلُ قولِه تعالى : (لكيلا تأسَوْا على ما فاتكم) . وقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إنَّما جُعِلَ الاستئذان من أجل البصر)) .
و(التنبيه) : الإيماء والإشارة إلى علةِ الحكم ، مِثلُ قوله تعالى : (السارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما) . فأشار بلفظ الفاء الداخلة على الحكم : (فاقطعوا) إلى أن علته هي السرقة . ومثلِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) . أي تحوَّل عن الإسلام لغيره . وقوله : ((القاتل لا يرث)) . فأشار إلى أن عِلّة قتلِه رِدَّتُه عن الإسلام ، وأن علة حرمانه من الميراث هي أنه قتلَ مورِّثه .
وهذان المسلكان لبيان الأحكام إلى مسالك أخر يدلان على اتساع الشريعة وشمولها لبيان أحكام الوقائع والحوادث مهما تجدَّدَتْ ، وذلك بقياسِ ما لم يُنصَّ عليه منها ، على ما نُصَّ عليه ، استناداً إلى علةِ الحكم المشتركة بينهما .(1/130)
أوجَز وأنجَز،وما ذاك إلاّ بديعٌ مُعْجِز .
والخَصْلة السادسة : انتصابُه لجهادِ الأعداء،وقد أحاطوا بجهاته،وأحدقوا بجَنَباته،وهو في قُطْرٍ مهجور،وعَدَدٍ محقور،فزاد به من قَلَّ،وعزَّ به من ذَلّ،وصار بإثخانِه في الأعداء مَحذوراً (1) ،وبالرُّعبِ منه منصوراً،فجمع بين التصدّي لشرع الدين حتى ظَهَر وانتشَر،وبَيَْ الانتصاب لجهاد العدو حتى قَهَر وانتصر،والجمعُ بينهما مُعْوِز إلاّ لمن أمَدَّه الله بمعونته،وأيَّده بلُطفه،والمُعْوِز مُعْجِز .
والخَصْلة السابعة : ما خُصَّ به من الشجاعة في حُروبه،والنَّجدةِ في مُصابرةِ عَدوِّه،فإنه لم يَشهد حَرْباً فيها أَفْزاع (2) ،إلاّ صابَرَ حتى انجلَتْ عن ظَفَرٍ أو دِفاع،وهو في مَوقفِه لم يَزُلْ عنه هَرَباً،ولا انحاز منه رَغَباً،بل ثَبَتَ بقلبٍ آمن،وجأْشٍ ساكِن .
قد ولّى عنه أصحابُه يوم حُنَيْن،حتى بَقِيَ بإزاءِ جَمْعٍ كثير،وجَمٍّ غَفير،في تِسعةٍ من أهل بيته وأصحابِه،على بَغْلةٍ مسبوقةٍ إن طُلِبَتْ،غير مستعدةٍ لهَرَبٍ ولا طَلَب،وهو ينادي أصحابه،ويُظهِرُ نفسه،ويقول : إليَّ عِباد الله : ((أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)) (3) .
فعادوا أفذاذاً وأرْسالاً5،وهَوَازِنُ تراه وتُحجِمُ عنه،فما هاب حَرْبَ مَنْ كاثَرَه،ولا انكفَأَ عن مُصاوَلةِ من صابَرَه،وقد عَضَده الله بإنجادٍ وأجْناد فانحازوا وصَبَر،حتى أَمَدَّه الله بنصر (4) ،وما لهذه الشجاعة من عَديل .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ذُكِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : " كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ . وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً ، فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ (5) ،
__________
(1) - أثْخَن في العدوّ إذا بالغ في قتاله .
(2) - الأفزاع : جمع فَزَع ، وهو الخوف والذعر .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2864)
(4) - الأفذاذ جمع فَذّ ، وهو الفَرْد . والأرسال جمع رَسَل ، وهو الجماعة .
(5) - أي ليس عليه سَرْج ولا شيء .(1/131)
مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لَنْ تُرَاعُوا " (1) يَرُدُّهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : لِلْفَرَسِ " وَجَدْنَاهُ بَحْرًا (2) " أَوْ " إِنَّهُ لَبَحْرٌ " و" كَانَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ يُبَطَّأُ فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ " (3)
وما ذاك إلاّ عن ثِقَةٍ من أنَّ الله تعالى سينصُرُه،وأنَّ دينه سيُظهِرُه تحقيقاً لقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة،وتصديقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَأَعْطَانِي الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ ، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)) (4) . وكفى بهذا قياماً بحقه،وشاهداً على صِدقِه .
والخَصْلة الثامنة : ما مُنِحَ من السَّخاء والجود،حتى جادَ بكل موجود،وآثَرَ بكل مطلوب ومحبوب، وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا (5) مِنْ شَعِيرٍ (6) .
وقد مَلَك جزيرة َ العرب وكان فيها ملوكٌ وأقيال (7) ،لهم خزائنُ وأموال،يقتنونها ذُخْراً،ويتباهون بها فخْراً،ويستمعون بها أشَراً وبَطَراً،وقد حاز مُلكَ جميعِهم،فما اقتنى ديناراً ولا دِرهماً .
لا يأكلُ إلاّ الخَشِبَ (8) ،ولا يلْبَسُ إلاّ الخَشِنَ،ويُعطي الجَزْلَ الخطير،ويَصِلُ الجمَّ
__________
(1) - أي ليس هناك شيء تخافونه)) .
(2) أي واسع الجري .
(3) - سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ >> كِتَابُ الْجِهَادِ >> (2785 ) وصحيح البخارى- المكنز - (2908 ) واللفظ لابن ماجة
(4) - صحيح ابن حبان - (15 / 109)(6714) وصحيح مسلم- المكنز - (7441 )
(5) - الصاعٍ مكيالٌ تُكالُ به الحبوبُ ونحوها
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (2916 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 262) (5936)
وفي صحيح ابن حبان - (13 / 263)(5937)عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : رَهَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِدِينَارٍ ، فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهَا بِهِ حَتَّى مَاتَ.(صحيح)
(7) الأقيال جمع قَيْل وهو الملِكُ من ملوك اليمن في الجاهلية ، دون الملك الأعظم .
(8) الخَشِبُ كالخَشِن لفظاً ومعنى . واخشَوشَب في مطعمه صار صُلباً خشِنا فيه .(1/132)
الغفير،ويَتجرَّعُ مَرارةَ الإقلال،ويَصبرُ على سَغَب الاختلال (1) .
وقد حاز غنائمَ هوازن،وهي من السَّبي : ستةُ آلافِ رأس،ومن الإبل : أربعةٌ وعشرون ألفَ بعير،ومن الغنم : أربعون ألفَ شاة،ومن الفضة : أربعةُ آلاف أُوقيّة،فجادَ بجميع حقِّه وعاد خِلْواً .
وروى أبو وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَلاَ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا وَلاَ أَوْصَى بِشَىْءٍ. (2) .
وعَنْ زِرٍّ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ مِيرَاثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ : تَسْأَلُونِي عَنْ مِيرَاثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دِينَارًا ، وَلاَ دِرْهَمًا ، وَلاَ شَاةً ، وَلاَ بَعِيرًا ، وَلاَ أَوْصَى بِشَيْءٍ." (3)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ ، إِلاَّ أَنْ أَرْصُدَهُ لِغَرِيمٍ." (4) .
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا، يَأْتِي عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ " (5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا لآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارَانِ ، إِلاَّ أَنْ أُعِدَّهُمَا لِدَيْنٍ قَالَ : فَمَاتَ وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا ، وَلاَ عَبْدًا وَلاَ
__________
(1) السَّغب : الجوع .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4316)
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 572)(6606) صحيح - زيادة مني
وكيف يمكن أن يوصي بشيء وهو مَدينٌ بالرهن!
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 155)(21322) 21648- صحيح
(5) - شعب الإيمان - (7 / 388) (5174 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2349 )(1/133)
وَلِيدَةً ، وَتَرَكَ دِرْعَهُ رَهْنًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. (1)
وكان إذا سُئل العطاءَ وهو مُعْدِم،أمَرَ السائل بالشراءِ عليه،ولم يَرُدَّه صِفراً، عَنْ أَسْلَمَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا عِنْدِي شَيْءٌ ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ ، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ أَعْطَيْتَهُ ، فَمَا كَلَّفَكَ اللهُ مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَ عُمَرَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنْفِقْ وَلاَ تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلاَلاً ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ ، لِقَوْلِ الأَنْصَارِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُ." (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لِمَوَالِى الْعَصَبَةِ ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ أَوْ ضَيَاعًا (3) ، فَأَنَا وَلِيُّهُ فَلأُدْعَى لَهُ » (4) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ ، وَعَلاَ صَوْتُهُ كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ قَالَ : صُبِّحْتُمْ مُسِّيتُمْ قَالَ : وَكَانَ يَقُولُ : أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً ، فَلأَهْلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا ، فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ ، فَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ. (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ سَأَلَ :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 771)(2743) صحيح
(2) - الشمائل المحمدية للترمذي - (350 ) صحيح
(3) - الضَّياع بفتح الضاد ، مصدر ضاع يَضيعُ ضياعاً . سُمّي به : ما هو في مَعرِض أن يَضيع إن لم يُتَعهَّد ، كالذُّرية الصِّغار ، والزَّمْنى الذين لا يَقومون بأمر أنفسهم ، ومن يَدْخُل في معناهم . ويجوز فيه الضَّياع بكسر الضاد : جمع ضائع كجائع وجِياع . وهو من حيث المعنى كلفظِ الضَّياع بالفتح .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في ((شرح صحيح مسلم)) 11 : 60 ((ومعنى هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا قائمٌ بمصالحكم في حياة أحدِكم وموْتِه ، وأنا وَليُّه في الحالَيْن ، فإن كان عليه دَينٌ قضَيْتُه من عندي إنلم يُخلِّف وفاءً ، وإن كان له مال فهو لِورَثَتِه لا آخُذُ منه شيئاً ، وإن خلَّفَ عيالاً مُحتاجين ضائعين فليأتوا إليَّ ، فعليَّ نفقتُهم ومَؤونَتُهم)) .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6745 )
(5) -صحيح ابن حبان - (7 / 332) (3062) صحيح(1/134)
هَلْ لَهُ وَفَاءٌ ؟ فَإِذَا قِيلَ : نَعَمْ ، صَلَّى عَلَيْهِ ، وَإِذَا قِيلَ : كَلاَّ قَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ فَلَمَّا فَتْحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفُتُوحَ قَالَ : أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِلْوَارِثِ." (1)
فهل مثلُ هذا الكرم والجود،كرمٌ وجود؟ أم هل مِثل هذا الإعراضِ والزَّهادة،إعراضٌ وزُهْد؟
هيهات أن يُدْرَكَ شَأْوُ مَنْ هذه شُذورٌ من فضائِلِه،ويَسيرٌ من مَحاسِنِه،التي لا يُحصى لها عَدَد،ولا يُدرَكُ لها أمَد . لم تكْمُلْ في غيرِه فيُساويه،ولا كَذَّبَ بها ضِدٌّ يُناويه (2) .
ولقد جَهَد كلُّ مُنافق ومُعانِد،وكلُّ زِنديق ومُلْحِد،أن يُزرِيَ عليه في قولٍ أو فعل،أو يَظفَرَ بهفْوةٍ في جِدٍّ أو هَزْل،فلم يَجِد إليه سبيلاً وقد جَهَد جُهدَه،وجَمَعَ كَيْدَه!
فأيُّ فضلٍ أعظَمُ من فَضْلٍ شاهَدَه الحَسَدةُ والأعداء،فلم يَجدوا فيه مَغْمَزاً لثالِبٍ أو قادِح،ولا مَطعَناً لجارحٍ أو فاضح،فهو كما قال الشاعر :
شَهِدَ الأنامُ بفضلِهِ حتى العِدا والفَضْلُ ما شَهِدَتْ بهِ الأعداءُ
وحقيقٌ بمن بَلَغ من الفضائل غايتَها،واستكمَلَ لغاياتِ الأمور آلتها،أن يكون لزعامةِ العالَم مُؤهَّلاً،وللقيام بمصالح الخلق مُوكَّلاً،وأن يَعُمَّ به الصلاح،ويَنْحَسِمَ به الفساد،ولا غايَةَ بعد النُّبوّة،فاقتضى أن يكون لها أهلاً،وللقيام بها مؤهَّلاً .
ولذلك استقرَّتْ به حين بُعِثَ رسولاً،ونَهَضَ بحُقوقِها حين قام بها كفيلاً،فناسبَتْه،ولم يَذْهَلْ لها حين أتَتْه،وكلُّ مُتَناسِبَيْنِ مُتَشاكِلانِ،وكلُّ مُتَشاكِلينِ مؤتلِفان،وكلُّ مؤتلِفَينِ متفقان،والاتفاقُ وِفاق،وهو أصلُ كلِّ انتظام،وقاعدةُ كلِّ التئام .
فكان ذلك من أوضح الشواهِدِ على صِحّةِ نُبوَّتِه،وأظهرِ الأماراتِ في صِدْقِ رسالتِه،فما يُنكِرُها بعد الوُضوح،إلاّ مَفْضوح،والحمد لله الذي وفَّق لطاعتِه،وهَدى إلى التصديقِ برسالتِه)) (3) ..
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 333) (3063) صحيح
(2) - أي يُعاديه . بل أقرَّ بها أعداؤه وأولياؤه جميعاً .
(3) - انتهى كلامُ الإمام الماوردي ملخصاً مع زيادة وتصرُّفٍ يسير(1/135)
الباب الرابع
أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعليمية
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختار في تعليمه من الأساليب أحسنَها وأفضَلَها،وأَوْقَعَها في نفسِ المخاطب وأقربَها إلى فهمه وعقلِه،وأشدَّها تثبيتاً للعلم في ذهن المخاطب،وأكثرها مُساعَدةً على إيضاحه له .
ومن دَرَس كُتُب السُّنّة وقرأها بإمعان رأى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُلوِّن الحديث لأصحابه ألواناً كثيرة،فكان تارةً يكون سائلاً،وتارةً يكون مُجيباً،وتارةً يُجيبُ السائلَ بقَدْرِ سُؤالِه،وتارةً يَزيدُه على ما سأل،وتارةً يَضرِبُ المثلَ لما يُريد تعليمَه،وتارةً يُصحِبُ كلامَه القَسَمَ بالله تعالى،وتارةً يَلْفِتُ السائلَ عن سُؤاله لحكمةٍ بالغةٍ منه - صلى الله عليه وسلم - ،وتارةً يُعلِّم بطريق الكتابة،وتارةً بطريق الرَّسْم،وتارةً بطريق التشبيه أو التصريح،وتارةً بطريق الإبهام أو التلويح .
وكان - صلى الله عليه وسلم - تارةً يورِدُ الشبهة ليَذكُرَ جوابَها،وتارة يَسلُكُ سبيل المُداعبة والمُحاجاةِ فيما يُعلِّمُه،وتارةً يُمهِّدُ لما يَشاءُ تعليمَه وبيانَه تمهيداً لطيفاً،وتارةً يَسلُكُ سبيلَ المُقايَسةِ بين الأشياء،وتارةً يُشيرُ إلى عِلَلِها لذِكرِ جوابِها،وتارةً يَسألُ أصحابَه وهو يَعْلَم ليمْتَحِنَهم بذلك،وتارةً يَسألُهم لِيُرشِدَهم إلى موضع الجواب،وتارة يُلقي إليهم العلمَ قبل السُّؤال،وتارةً يَخُصُّ النساءَ ببعض مجالسه ويعلمهُنَّ ما يحتجن إليه من العلم،وتارةً يُراعي حالَ من بحضرتِه من الأطفال والصِّغار،فيَتنزَّلُ إليهم بما يُلاقي طفولتهم ولَهوَهم البريء،إلى غير ذلك من فُنون تعليمِه - صلى الله عليه وسلم - التي سَنَمُرُّ بها .
وأسوق فيما يلي نماذجَ كثيرةً للأساليب والطرائق المذكورة وغيرها،من خلال تعليمات النبي - صلى الله عليه وسلم - المدوَّنةِ في كتب السنة المطهَّرة،وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب .
وفيه المباحث التالية :
1- تهيئة المتعلِّم لاستقبال العلم(1/136)
2- الاتصال السمعي والبصري بين المعلم والمتعلم
3- الأسلوب العملي في التعليم
4- عرض المادة العلمية بأسلوب يناسب عقل الطالب وفهمه
5- أسلوب المحاورة والإقناع العقلي
6- التعليم عن طريق القصص
7- ضرب الأمثال أثناء التعليم
8- أسلوب التشويق في التعليم
8- استخدام الإيماءات ( حركات اليدين والرأس ) في التعليم
10- استخدام الرسومات للتوضيح والبيان
11- توضيح المسائل المهمة عن طريق التعليل
12- ترك استخراج الجواب للمتعلم
13- استخدام التكرار في التعليم
14- استخدام أسلوب التقسيم في التعليم
15- استخدام أسلوب الاستفهام أثناء التعليم
16- طرح بعض المسائل العلمية المهمة لاختبار مقدرة الطالب العقلية
17- حثُّ المعلم طلابَه على طرح الأسئلة
18- تقديم السائل من خلال سؤاله،وإجابته بما يناسب حاله
19- التعليق على إجابة المتعلم
20-تأخير جواب السائل لمصلحة معينة
21-عدم السخرية من سؤال الجاهل
22-إعادة السؤال على السائل لتنبيهه إلى السؤال الأهم
23-تأخير جواب السائل إذا كان مرتبطا بشيء عمليٍّ
24-السكوت عن جواب السائل ساعة أو نحوها حسب مقتضى الحال
25-السؤال واحد والجواب مختلف حسب طبيعة السائل(1/137)
26-استخدام القياس أثناء التعليم أو الإجابة على الأسئلة
27-الحوار المشوق مع المتعلم
28-هل يخص بعض طلابه ببعض العلم دون غيرهم ؟
30-الإيجاز في الموعظة
31-انتِهازُه - صلى الله عليه وسلم - المناسباتِ العارِضةَ في التعليم
32-القراءة على العالم
33-الجدال والتنازع يؤدي إلى نسيان المعلم بعض أفكاره
34- النهي عن كثرة الأسئلة على المعلم
35-حَضُّه - صلى الله عليه وسلم - على محوِ العاميّة وتحذيرُه من الفتور في التعليم والتعلُّم
36-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسيرة الحسنة والخلق العظيم
37-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - الشرائعَ بالتدريج
38-رِعايتُه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال
39-رعايتُه - صلى الله عليه وسلم - الفروقَ الفردية في المتعلمين
40-ابتداؤه - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم
41-إجابتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ عما سأل عنه
42-جوابُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه
43-لَفْتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه
44-استِعادتُه - صلى الله عليه وسلم - السؤالَ من السائِل لإيفاء بيان الحكم
46-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه
47-تعليمه - صلى الله عليه وسلم - بالمُمازَحةِ والمُداعَبة
48-تأكيدُه - صلى الله عليه وسلم - التعليم بالقَسَم
49-إمساكُه - صلى الله عليه وسلم - بيد المُخاطَب أو منكِبِه لإثارةِ انتباهِه
50-إبهامُه - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ لحملِ السامِع على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه
51-إجمالُه - صلى الله عليه وسلم - الأمر،ثم تفصيلُه ليكون أوضحَ وأمكَنَ في الحفظ والفهم(1/138)
52-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب والترهيب
53-اكتفاؤه - صلى الله عليه وسلم - بالتعريض والإشارة في تعليم ما يُستحيا منه
54-اهتمامُه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم النساء ووعظِهن
55-اتخاذُه - صلى الله عليه وسلم - الكتابة وسيلةً في التعليم والتبليغ ونحوِهما
56-أمرُه - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بتعلُّم اللغة السُّريانية
57- قول المعلم لا أدري لما لا يدري جزء من العلم(1/139)
1- تهيئة المتعلِّم لاستقبال العلم :
لا يختلف اثنان أن إعراض الطالب وانشغاله عن معلمه لأي سبب كان،صارف له عن تلقي العلم،وسبب يمنعه من فهم كلام معلمه . وإقبال الطالب بكليته على معلمه عامل هام في تحصيل العلم وفهمه على طريق صحيح.
ولذا يستحب للمعلم أن يلفت أنظار طلابه إليه بين الفينة والفينة،وله - أي المعلم - أن يستخدم أساليب عدة وطرائق متنوعة في جذب طلابه إليه،نقتصر على ثلاث منها تاركين لك البحث عن غيرها :
أ-أسلوب الاستنصات:وهو طلب السكوت والاستماع من المتعلمين،وهذا أسلوب مباشر يستخدم غالباً قبل البدء في إلقاء الدرس،وعند تعذر الأساليب الأخرى غير المباشرة.فعَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ « اسْتَنْصِتِ النَّاسَ » فَقَالَ « لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » (1)
يقول الحافظ ابن حجر : " قال ابن بطال: فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء. كأنه أراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن الخطبة(1)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (121 ) وصحيح مسلم- المكنز - (232 )
قوله يضرب برفع الباء وهو الصواب وهو الرواية التي رواها المتقدمون والمتأخرون وفيه وجوه أحدها أن يكون صفة لكفار أي لا ترجعوا بعدي كفارا متصفين بهذه الصفة القبيحة يعني ضرب بعضكم رقاب آخرين والثاني أن يكون حالا من ضمير لا ترجعوا أي لا ترجعوا بعدي كفارا حال ضرب بعضكم رقاب بعض والثالث أن يكون جملة استئنافية كأنه قيل كيف يكون الرجوع كفارا فقال يضرب بعضكم رقاب بعض فعلى الوجه الأول يجوز أن يكون معناه لا ترجعوا عن الدين بعدي فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حق على وجه التحقيق وأن يكون لا ترجعوا كالكفار المقاتل بعضكم بعضا على وجه التشبيه بحذف أداته هو على الثاني يجوز أن يكون معناه لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض بينكم لاستحلال القتل بغير حق وأن يكون لا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفار في الانهماك في تهييج الشر وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب وعلى الثالث يجوز أن يكون معناه لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حق فإنه فعل الكفار وأن يكون لا يضرب بعضكم رقاب بعض كفعل الكفار على ما تقدم "عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 669)(1/140)
المذكورة كانت في حجة الوداع والجمع كثير جدا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم: "خذوا عني مناسككم " كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات. وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى :{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع كأن يكون مفكرا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر." (1)
ولو أعدت النظر في الحديث وفي كلام الحافظ لتبين لك الحاجة التي دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن يطلب من الصحابي أن يستنصت الناس،ففي الحج يكثر الناس ويكونون منهمكين في أداء مناسكهم ولذا كان من المتعذر أن يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعلمهم أمور دينهم وهم على هذه الحال،فناسب أن يأمر جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه باستنصات الناس .
ب - أسلوب النداء ( طريقة مباشرة ) : وهذه الطريقة تستخدم في نداء المتعلمين قبل بدء الدرس،وقد تستخدم في أثنائه،وهذا الأسلوب يكثر استعماله من قبل المعلمين،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ،قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِلَىَّ » . فَثَابُوا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ هَذَا الْحَىَّ مِنَ الأَنْصَارِ يَقِلُّونَ،وَيَكْثُرُ النَّاسُ،فَمَنْ وَلِىَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا،فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ،وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ » (2) .
ونلحظ في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " أيها الناس إلي " وهو نداء منه - صلى الله عليه وسلم - وأمره لهم بالاجتماع والإنصات لما سيلقي عليهم.وقوله : " فثابوا إليه " أي اجتمعوا . و(ثاب) الناس (أي)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 217)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (927 )(1/141)
اجتمعوا وجاءوا (1) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« يَا أَبَا ذَرٍّ لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ،وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِى إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِى،وَإِذَا طَبَخْتَ قِدْرًا فَأَكْثِرْ مَرَقَتَهَا وَاغْرِفْ لِجِيرَانِكَ مِنْهَا » (2) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،قَالَ : لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَنِ ،خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوصِيهِ مُعَاذٌ رَاكِبٌ،وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ،قَالَ : يَا مُعَاذُ،إِنَّكَ عَسَى أَنْ لاَ تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا،لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي فَبَكَى مُعَاذٌ خَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ الْمَدِينَةِ،فقَالَ : إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاَءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي،وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ،مَنْ كَانُوا حَيْثُ كَانُوا،اللَّهُمَّ إِنِّي لاَ أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتَ،وَايْمُ اللهِ لَيَكْفَؤُونَ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاءِ." (3)
ت - أسلوب الحث على الاستماع والإنصات ( طريقة غير مباشرة ) :
وهذا أسلوب جميل في جذب النفوس وحثها على الاستماع لأن النفس البشرية في الغالب تنفر من العبارات التي تكون على هيئة الأمر والإلزام،ولذا كان من المناسب أن يعمد المعلم إلى طرق غير مباشرة في جذب واستدعاء الحواس،لكي يحصل التلقي بنفس طيبة . وقد ضرب لنا المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في بيان هذه الطريقة،فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا عَنِّي،خُذُوا عَنِّي،قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (4)
__________
(1) - مختار الصحاح . مادة ( ثوب ) (ص62) .
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (4 / 188) (8076) وصحيح مسلم- المكنز - (6855 ) مختصرا - صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 414) (647) صحيح
(4) إشارة إلى قوله تعالى : {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (15) سورة النساء . كانت المرأة إذا زنت تمسك في البيوت وتحبس حتى يتوفاها الموت ، أو يجعل الله لها سبيلاً .ثم أوحى الله إلى نبيه وبين له هذا السبيل الذي جاء في الآية . وهو الحديث الذي بين أيدينا .(1/142)
الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ،وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ. (1)
ولك أن تتأمل قوله : " خذوا عني،خذوا عني " وما فيه من عنصر الجذب،وشحذ النفس،وترغيبها في الاستماع إلى هذا الشيء المراد بثه وإرساله . وأيضاً فيه ميزة أخرى وهو التكرار - وسوف يأتي بيانه
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَأَوْضَعَ فِى وَادِى مُحَسِّرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَقَالَ :« خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّى لاَ أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِى هَذَا ». (2)
وعَنِ الْحَسَنِ،حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ،قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَآنِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْعَرَبِ " قَالَ : فَلَمَّا نَزَلْنَا أَتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ،قَالَ : قُلْتٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَالُ الَّذِي لَا يَكُونُ عَلَيَّ فِيهِ تَبِعَةٌ مِنْ ضَيْفٍ ضَافَنِي وَعِيَالٍ كَثُرُوا،قَالَ : " نِعْمَ الْمَالُ الْأَرْبَعُونَ،وَالْأَكْثَرُ السِّتُّونَ،وَوَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْمِائَتَيْنِ إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي رِسْلِهَا وَنَجْدَتِهَا،وَأَفْقَرَ ظَهْرًا وَنَحَرَ سَمِينَهَا فَأَطْعَمَ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ " قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَكْرَمَ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَأَحْسَنَهَا،يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَحِلُّ بِالْوَادِي الَّذِي أَكُونُ فِيهِ لِكَثْرَةِ إِبِلِي،قَالَ : " فَكَيْفَ تَصْنَعُ ؟ " قُلْتُ : تَغْدُو الْإِبِلُ وَيَغْدُو النَّاسُ،فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ بِرَأْسِ بَعِيرٍ فَذَهَبَ بِهِ،فَقَالَ : " مَا تَصْنَعُ بِإِفْقَارِ الظَّهْرِ ؟ " قُلْتُ : إِنِّي لَا أُفْقِرُ الصَّغِيرَ وَلَا النَّابَ المُدْبِرَةَ قَالَ : " فَمَالُكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مَالُ مَوَالِيكَ ؟ " قَالَ : قُلْتُ : مَالِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ،قَالَ : " فَإِنَّ لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ،أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ،أَو أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ،وَإِلَّا فَلُمُّوا إِلَيْكَ " فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيَتُ لَأَفْنِيَنَّ عَدَدَهَا،قَالَ الْحَسَنُ : فَفَعَلَ وَاللَّهِ،فَلَمَّا حَضَرَتْ قَيْسًا الْوَفَاةُ قَالَ : يَا بَنِيَّ خُذُوا عَنِّي،لَا أَجِدُ أَنْصَحَ لَكُمْ مِنِّي : إِذَا أَنَا مُتُّ فَسَوِّدُوا كِبَارَكُمْ،وَلَا تُسَوِّدُوا صِغَارَكُمْ فَيَسْتَسْفِهَكُمُ النَّاسُ فَيَهُونُوا عَلَيْكُمْ،وَعَلَيْكُمْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 271)(4425) وصحيح مسلم- المكنز - (4509)
انظر شرح النووي على مسلم - (6 / 109) والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (16 / 5) وعون المعبود - (9 / 442)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 125) (9796) صحيح(1/143)
بِاسْتِصْلَاحِ الْمَالِ،فَإِنَّهُ مَنْبَهَةُ الْكَرِيمِ وَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ اللَّئِيمِ،وَإِيَّاكُمْ وَالْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهَا آخِرُ كَسْبِ الْمَرْءِ،إِنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا تَرَكَ كَسْبَهُ،وَإِذَا مُتُّ فَلَا تَنُوحُوا عَلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يَنْهَى عَنِ النِّيَاحَةِ " وَكَفِّنُونِي فِي ثِيَابِي الَّتِي كُنْتُ أُصَلِّي فِيهَا وَأَصُومُ،وَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَلَا تَدْفِنُونِي فِي مَوْضِعٍ يَطَّلِعُ عَلَيَّ أَحَدٌ،فَإِنَّهٌ قَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ خَمَاشَاتٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ يَنْبُشُونِي فَيَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ مَا يَذْهَبُ فِيهِ دِينُكُمْ وَدُنْيَاكُمْ "قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ : نَصَحَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ،وَنَصَحَ لَهُمْ فِي الْمَمَاتِ " (1)
وكان - صلى الله عليه وسلم - تارةً يُمهِّدُ التمهيدَ اللطيفَ الرقيقَ،إذا شاء أن يُعلِّم أصحابَه ما قد يُستَحيا من التصريح به : فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، أُعَلِّمُكُمْ ، إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ (2) فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ (3) ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا (4) , وَأَمَرَ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ (5) , وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ (6) ، وَالرِّمَّةِ (7) , وَنَهَى أنْ يَسْتَطِيبَ الرَّجلُ بِيَمِينِهِ. (8)
الاستطابة : الاستنجاء . يقال : استطاب الرجلُ يستطيبُ فهو مستطيب إذا استنجى ، ومعنى الطيب هنا الطهارة . وذكرُ (الرَّجُل) في قول أبي هريرة رضي الله عنه : (ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه) لفظ اتفاقي ، إذ المرأة مثله . وهذا النهي إنما جاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رعايةً منه للنظام العام الذي رَسَمه الإسلامُ في أعمال اليدين : فكلُّ عمل رفيع يكون
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 281) (15263) فيه ضعف
(2) - الغائط هنا على أصل معناه اللغوي ، وهو المكانُ المنخفِضُ من الفضاء والعراء ، وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة فيه ، بغيةَ السَّتْر بارتفاع ما حوله ، وذلك قبل أن تُتخَذَ المراحيضُ في المنازل والبيوت . ثم أطلِق لفظ (الغائط) على الخارج نفسه من الإنسان ، تجوُّزاً ، وهذا غيرُ مراد هنا .
(3) المراد بالقِبلة : الكعبةُ المعظمة . وأراد جهتها ، ولذلك عبَّر بلفظ (القِبلة) . والنهي يشمل قضاء الحاجة ببول أو غائط .
(4) - أي لا تستدبروا الكعبة المعظمة عند قضاء الحاجة .
(5) - يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ من يستنجي بالحجر ، أن يستنجي بثلاثة أحجار ، لأن النَّقاء يحصل بها غالباً . والاستنجاءُ بالماء لمن يجده أفضل
(6) - الرَّوْث هو خُرءُ ذوات الحوافر كالبقرة والفرس والغنمة . والاستنجاءُ به إنما يتصوَّر عند يُبْسِه ، بدلاً من الحجر ، وإنما نهى عنه لأنه النجاسة بعينها .
(7) - الرِّمّة : العَظْمُ البالي . والمراد هنا مطلق العظم .
(8) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (1 / 208)(313) صحيح(1/144)
باليد اليمنى ، وكلّ عمل وضيع يكون باليد اليسرى .
وفي هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية : تواضعُ المعلِّم الأول - صلى الله عليه وسلم - ، وكمالُ شفقته على المتعلمين ، وجميلُ تلطفه بهم لتعليمهم ما يُستحيا منه ، وتعليمُه لهم التزامَ النظام في تصرفاتهم وشؤونهم وأمور نظافتهم .
وقال المناوي رحمه الله (1) : ((قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا لكم ، أي لأجلكم ما أنا لكم إلاّ مثلُ الوالد وبمنزلةِ الوالد ، في الشفقة والحُنُوّ ، لا في الرُّتْبة والعُلُوّ ، وفي تعليم ما لا بُدَّ منه ، فكما يُعلِّمُ الأبُ ولدَه الأدب ، فأنا أُعلِّمُكم ما لكم وما عليكم . وأبو الإفادة أقوى من أبي الوِلادة ، وهو الذي أنقَذَنا الله به من ظلمة الجهل ، إلى نور الإيمان . وقدَّم - صلى الله عليه وسلم - هذه المقدِّمة أمام المقصود :
إعلاماً بانه يجب عليه تعليمُهم أمرض دينهم ، كما يَلزم الوالد تعليمُ ولده ما يَحتاج إليها مطلقاً ، ولا يُبالي بما يُستحيا من ذكره ، فهذا تمهيد منه - صلى الله عليه وسلم - لما بيَّنه لهم من آداب قضاءِ الحاجة ، وهي من الأمور التي يُستحيى من ذكرها ، ولا سيما في مجالس العظماء
وإيناساً منه - صلى الله عليه وسلم - للمخاطَبين ، لئلا يحتشموا عن السؤال عما يَعرِضُ لهم ، مما يُستحيى منه
وبَسْطاً للعُذْرِ عن التصريح بقوله : (فإذا أتى أحدُكم الغائط) أي محلِّ قضاء الحاجة ، (فلا يَستقبلْ القِبلة) بفَرْجِه والخارج منه ، (ولا يَستدبِرْها) ببول ولا غائط وجوباً في الصحراء وندباً في غيرها ، (ولا يستطب بيمينه) أي لا يستنجِ بها بغَسْلٍ أو مَسْح ، فيُكرَهُ ذلك تنزيهاً ، وقيل تحريماً . وسُمّي هذا الفعلُ بالاستطابة لِطيب الموضع بطهارته من النجاسة ، أو لطيب نفس المستطيب بإزالة النجاسة .
وقد أفاد الحديث الشريف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأُمّةِ كالأب ، وكذا أزواجُه أُمَّهاتُ المؤمنين ، لأنَّ منه ومن أزواجه تعلَّمَ الذكورُ والإناثُ معانيَ الدين كلِّه ، ولم يتولَّد خيرٌ إلاّ منه ومنهن ، فبِرُّه وبِرُّهنَّ أوجَبُ من كل واجب ، وعقوقُه وعقوقُهن أهلَك من كل مُهلِك .
__________
(1) - ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) 2 :570(1/145)
قال ابن الحاج في كتابه ((المَدْخَل)) : أُمّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة أولادُه ، لأنه السببُ للإنعام عليهم بالحياةِ السَّرْمَدِيّة ، والخلود في دار النعيم فحقُّهُ أعظَمُ من حقوق الوالدين . قال - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه : ((ابدَأْ بنفسِك ثم بمن تَعول)) ، فأفادَهُ تقديمَ نفسه على غيره والله سبحانه قدَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابه على نفس كل مؤمن فقال : (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ، ومعناه إذا تعارَض للمؤمن حقّان حقٌّ لنفسه وحقٌّ لنبيه ، فآكدُهما وأوجبُهما حقُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يَجعلُ حقَّ نفسه تبعاً للحق الأوَّل .
وإذا تأمَّلتَ الأمرَ في الشاهد أي الواقع ، وجدتَ نفع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ من نفع الآباء والأمَّهات ، وجميعِ الخلق ، فإنه أنقَذَك وأنقذ آباءك من النار ، وغاية أمرِ أبويك أنهما أوجداك في الحِسّ ، فكانا سبباً لإخراجك إلى دار التكليف والبلاء والمِحَن ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبباً لنجاتك ودخولك إلى دار التشريف والمِنَح ، فجزى الله عنا نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما هو أهلُه)) . انتهى بزيادة يسيرة وتصرف يسير
ومن أجلِ هذا المعنى العظيم الذي تقدَّم في كلام ابن الحاج رحمه الله تعالى ، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في ((إحياء علوم الدين)) 1 :55 ، وهو يتحدَّثُ عن عِظَم مسؤولية المعلِّم نحو المتعلِّمين منه ، ولزومِ شفقتِه عليهم في الوظيفة الأولى من وظائف المعلِّم ، في الباب الخامس من آداب المتعلم والمعلِّم : ((ولذلك صار حقُّ المعلِّم أعظمَ من حق الوالدين ، فإن الوالد سبَبُ الوجود الحاضر والحياة الفانية ، والمعلِّم سبب الحياة الباقية ، ولولا المعلِّم لانساق ما حصل من جهة الوالدين إلى الهلاك الدائم ، وإنما المعلِّم هو المُفيدُ للحياة الأخروية الدائمة ، أعني معلِّمَ علوم الآخرة ، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة ، لا على قصد الدنيا . فأما التعليمُ على قصد الدنيا أي على قصد تحصيل حُطام الدنيا ، والتمكن في زينتها ، والتفاخر بها في الملابس والمآكل والمراكب فهو هلاك وإهلاك ، نعوذ بالله منه)) . انتهى . (1)
الخلاصة:
(1)
__________
(1) - ((إحياء علوم الدين)) 1 :55(1/146)
تهيئة الطالب لاستقبال المعلومات،قد تكون بأسلوب مباشر وقد تكون غير مباشرة
(2) طريقة طلب السكوت من الطلاب من أقوى الوسائل في جذب الانتباه .
(3) للمعلم أن يستخدم أسلوب النداء المباشر،كقولك ( يا طلاب انتبهوا ) أو ( يا طالب انتبه ) ونحو ذلك .
(4) أسلوب النداء المباشر قد يكون في بداية الدرس،وقد يكون في أثنائه .
(5) الطريقة غير المباشرة تحتاج إلى براعة من المعلم،وهي قد تكون في بداية الدرس وفي أثنائه .
ــــــــ
2- الاتصال السمعي والبصري بين المعلم والمتعلم :
إن أسلوب الإلقاء أثناء التعليم،أو أسلوب عرض المادة العلمية - الشرح - على المتعلمين،هو الوسيلة الأقوى في الاتصال بين المعلم وتلميذه،أي أن صوت المعلم له خاصية الاتصال أكثر من غيرها . وقد يعترض معترض بقوله:ماذا تقولون في الاتصال النظري بين المعلم والتلميذ ؟
الجواب عن ذلك من وجوه :
أولاً : إن كلا الاتصال السمعي والبصري إذا أحسن استخدامهما مجتمعين كان لهما أثر فعال في إيصال المعلومة بشكل أفضل ما لو كانت إحداهما معزولة عن الأخرى .
ثانياً : إن الاتصال البصري قد يتخلف في جميع أوقات التعليم،كأن يكون المتعلم كفيفاً،أو في بعض أوقات التعليم إذا كان الطالب في حالة شرود وذهول أو انشغال بعمل ما عن الدرس،أما الاتصال السمعي فهو يتخلف في حالة واحدة إذا كان المتعلم أبكم.ولذلك قلنا إن الاتصال السمعي هو الوسيلة الأقوى في إيصال المعلومات إلى الطالب.وهذا الاتصال - أي السمعي والبصري - يساعد المدرب على ضبط الفصل وإدارته،وفي المقابل فهو يفيد الطالب في حفظ المعلومات وصيانتها عن النسيان.قال تعالى(1/147)
: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء.
وسوف نستعرض هنا بعض أنواع الاتصال السمعي والبصري التي تساعد المعلم - أثناء الشرح - في أداء مهمته التربوية والتعليمية على الوجه الأكمل،آخذين ذلك من سنَّة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أولاً : الاتصال السمعي : منها :
أ طريقة الكلام ( السرد - الشرح )
،فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ،أَنَّ عَائِشَةَ،قَالَتْ : أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى بَابِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ،فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي،وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ،إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : يَقُولُونَ : إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ،أَوْ قَالَ : أَكْثَرَ وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ،وَيَقُولُونَ : مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يَتَحَدَّثُونَ بِمِثْلِ أَحَادِيثِهِ،وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ أَرَضِيهِمْ ،وَأَمَّا إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ،فَكَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ،وَكُنْتُ أَخْدِمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مِلْءِ بَطْنِي،فَأَشْهَدُ مَا غَابُوا،وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا،وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا : أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ،فَيَأْخُذُ حَدِيثِي هَذَا ثُمَّ يَجْمَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ،فَإِنَّهُ لَنْ يَنْسَى شَيْئًا يَسْمَعُهُ،فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي،فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ،وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حُدِّثْتُ شَيْئًا أَبَدًا : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إِلَى آخِرِ الآيَةِ (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْرِدُ الْكَلَامَ كَسَرْدِكُمْ هَذَا،كَانَ كَلَامُهُ فَصْلًا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 104) (7153) صحيح ، وصحيح البخارى- المكنز - (3568 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6554 ) مختصرا
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : قَوْلُ عَائِشَةَ وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ لاَ الْحَدِيثَ نَفْسَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَعْقِيبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ.(1/148)
يُبَيِّنُهُ،يَحْفَظُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ " . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ :"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ،كَانَ إِذَا جَلَسَ تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ يُبَيِّنُهُ،يَحْفَظُهُ مَنْ سَمِعَهُ " (2)
قولها : ( ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد .. ) بضم الراء من السرد وهو الإتيان بالكلام على الولاء والاستعجال فيه .. والمعنى لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع.وقوله :( فصل ) أي بين ظاهر يكون بين أجزائه فصل . (3)
إن عرض المادة العلمية بسرعة يسبب إرباكاً لدى الطالب،ويشتت ذهنه،ويحرمه الانتفاع بكثير من الفوائد والمسائل التي قد تمر سريعاً ولا يتصيدها الذهن،وهذه الطريقة يقع فيها كثير من المعلمين،ولذا وجب التنبيه لها .وعكس ذلك البطء الشديد الممل،الذي يبعث على الاسترخاء والنوم،ويولد الضجر والسآمة لدى الطالب .
والطريق الأمثل،هو الفصل بين الكلمات،حيث يفصل بين الكلمة وأختها فلا تتداخل الكلمات والحروف لكي لا تشكل وتصعب على الطالب،وكذلك التوسط في السرد فلا هو بالسريع المفرط ولا البطيء المخل .
ب- عدم التشدق في الكلام وتكلف السجع :
التشدق : " أَيْ التَّوَسُّع فِي الْكَلَام مِنْ غَيْر اِحْتِيَاط وَاحْتِرَاز . وَقِيلَ الْمُتَشَدِّق الْمُتَكَلِّف فِي الْكَلَام فَيَلْوِي بِهِ شِدْقَيْهِ،وَالشِّدْق جَانِب الْفَم" (4) .
وتكلف الكلام،والإتيان بغرائبه،والمبالغة في إخراج حروفه،أمر مذموم شرعاً،ومرفوض عقلاً،لأن من كانت هذه صفته لابد وأن يرى في نفسه التعاظم على الغير وازدراء الآخرين لكونهم أقل منه بلاغة وفصاحة. فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي >> كِتَابُ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ (8950 ) صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي >> كِتَابُ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ (8951 ) صحيح
(3) - تحفة الأحوذي / أبواب المناقب / باب 39 . بتصرف يسير .
(4) - عون المعبود - (11 / 43)(1/149)
: إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَى اللهِ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا،وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى اللهِ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ." (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا،الْمُوَطَّؤُنَ أَكْنَافًا،وَإِنَّ شِرَارَكُمُ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ " (2)
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَىَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ « الْمُتَكَبِّرُونَ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِى يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ الْبَاقِرَةِ بِلِسَانِهَا ». (4)
يقول الغزالي في الإحياء :" التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة.وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت .. ثم بعد أن ساق أخباراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده :ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك من تصنع مذموم.ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراط وإغراب" (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 231) (482) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (10 / 358) (7621 ) صحيح لغيره
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2150 ) حسن
الثرثارون : الذين يكثرون في الكلام تكلفا وخروجا عن حد الواجب.
المتفيهقون: الذين يتوسعون في الكلام ، ويفتحون به أفواههم مأخوذ من الفهق ، وهو الامتلاء.
الْمُتَشَدِّقون : هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحا وتعظيمَا لنطقهم.جامع الأصول في أحاديث الرسول - (4 / 7)
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (5007 ) صحيح
(5) - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (5 / 93) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (4 / 429) وإحياء علوم الدين - (2 / 309) و(2 / 319)(1/150)
قلت : هذا إذا كان المتكلم ممن يحسن التحدث بالعربية ولكن بلينا بقوم فرطوا في لغتهم،فأدخلوا عليها ما ليس فيها كقول بعضهم ( أوكي / ok )،و(يس/yes ) ونحو ذلك،فلا لغتهم نصروا،ولا لغة عدهم دفعوا ! .
ت – رفع الصوت ( أو تغيير نبرات الصوت ) بالتعليم
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا،فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ،فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا،فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ » . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا (1) .
هذا الحديث بوب عليه البخاري في صحيحة بقوله:باب من رفع صوته بالعلم.قال الحافظ ابن حجر : " واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: "فنادى بأعلى صوته " وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث عَنْ جَابِرٍ،قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ،وَعَلاَ صَوْتُهُ،وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ،حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ،يَقُولُ : صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ،وَيَقُولُ : بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ : أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ،وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ،ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ،مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ،وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ." أخرجه مسلم. (2) ولأحمد من سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ : سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ،يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَخْطُبُ يَقُولُ : أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ،أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ،حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلاً كَانَ بِالسُّوقِ،لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا،قَالَ : حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ." (3)
واستدل به أيضا على مشروعية إعادة الحديث ليفهم" (4)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (60 ) -أرهق : أخر
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 186) (10) وصحيح مسلم- المكنز ( 2042)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 283)(18398) 18588- صحيح
(4) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 143)(1/151)
يستفاد مما سبق من رفع الصوت أثناء التعليم،في بيان المسائل المهمة جداً التي تستلزم جذب انتباه السامعين،لكي تطرد الغفلة والشرود عن أذهانهم وتهيئتهم لما سيلقى إليهم،وكذلك يستفاد من رفع الصوت في الإنكار كما جاء في الحديث المتقدم،وقد يستفاد من رفع الصوت قليلاً أثناء الشرح،إذا أراد المعلم أن ينبه فرداً أو أفراداً معينين من الطلاب،ولم يرد أن يقطع حديثه .
ث – استمرار ا لمعلم في الإلقاء وعدم قطعه :
يلجأ بعض الطلاب إلى إيقاف شرح المعلم لتوضيح نقطة غامضة،أو إعادة لشرح مضى،وقد يستجيب المعلم لهذا الطلب وقد لا يستجيب،وفي استجابة المعلم عدة محاذير:
أولاً : تقديم رغبة طالب واحد أو اثنين على حساب مجموعة كبيرة وهي الأغلبية .
ثانياً : قطع الحديث بعضه عن بعض وكان حقه أن يكون متصلاً . ثالثاً :التشويش عل أذهان الطلاب بهذا القطع الطارئ .
رابعاً : التشويش على المعلم نفسه وقطع تسلسل أفكاره.ومستندناً في ذلك ما روي فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ الْقَوْمَ،جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ،فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ،وَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا،قَالَ : إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ،قَالَ : فَمَا إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَ اشْتَدَّ الأَمْرُ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ." (1)
تأمل هذا الحديث يتضح لك ما قلناه آنفاً،وفيه زيادة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجاب على سؤال السائل بعد فراغه من حديثه،ونستنبط من هذا عدم قطع الحديث المتصل،وإجابة السائل بعد الفراغ من الحديث المتصل .
وعن مُجَاهِد قال : بَيْنَمَا ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما جَالِسًا فِي حَوْضِ زَمْزَمَ،وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ،إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ { وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } فَسَكَتَ رَضِيَ الله عَنْه،فَلَمَّا ثَوَّبَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 307) (104) وصحيح البخارى- المكنز - (59)(1/152)
الْمُؤَذِّنُ،أَوْ نَادَى الْمُنَادِي،قَالَ رَضِيَ الله عَنْه أَيْنَ السَّائِلُ عن : الليل إذا أَدْبَرَ قَالَ : قَدْ دَبَرَ اللَّيْلُ " (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الصُّبْحِ،فَلَمَّا صَلَّى صَلاتَهُ نَادَاهُ رَجُلٌ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَزَبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَانْتَهَرَهُ،وَقَالَ : اسْكُتْ حَتَّى إِذَا أَسْفَرَ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ،فَقَالَ : تَبَارَكَ رَافِعُهَا وَمُدِيرُهَا،ثُمَّ رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى الأَرْضِ،فَقَالَ : تَبَارَكَ دَاحِيهَا وَخَالِقُهَا،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ فَجَثَا الرَّجُلُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ،فَقَالَ : أَنَا بِأَبِي وَأُمِّي،سَأَلْتُكَ،فَقَالَ : ذَلِكَ عِنْدَ حَيْفِ الأَئِمَّةِ،وَتَصْدِيقٍ بِالنُّجُومِ،وَتَكْذِيبٍ بِالْقَدَرِ،وَحِينَ تُتَّخَذُ الأَمَانَةُ مَغْنَمًا،وَالصَّدَقَةُ مَغْرَمًا،وَالْفَاحِشَةُ زِيَادَةٌ،فَعِنْدَ ذَلِكَ هَلَكَ قَوْمُكَ." (2)
ج- السكوت أثناء الإلقاء ( الشرح )
للسكوت أثناء شرح المعلم فوائد يحسن بنا الوقوف عندها قليلاً فمنها : أنها تجذب انتباه الطلاب،فكون المعلم يتكلم في موضوع معين ثم يسكت فجأة فإن هذا بلا شك يستلزم انتباهاً من المستمع.
ومنها : أنها تسمح بتراد نفس المعلم وأخذ قسط قليل من الراحة. ومنها : أنها تعطي المعلم فرصة لترتيب أفكاره وهي عملية ذهنية لا تستغرق سوى ثوان معدودة .
ولعل الحديث الآتي يقرب ما قلناه آنفاً،فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ،السُّنَّةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا،مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ،ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ،وَذُو الْحِجَّةِ،وَالْمُحَرَّمُ،وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ثُمَّ قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ،قَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ،قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ : فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ،قَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْبَلْدَةَ ؟ قُلْنَا
__________
(1) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (15 / 416) (3771 ) صحيح
(2) - كشف الأستار - (4 / 147) (3406) وفيه جهالة(1/153)
: نَعَمْ،قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ : أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى،قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ،وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ : وَأَحْسِبُهُ قَالَ : وَأَعْرَاضَكُمْ -،عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ،أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ،أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ،فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ،قَالَ : فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،قَدْ كَانَ ذَاكَ،ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟. (1)
فأنت ترى أثر هذا السكوت على الصحابة،وكيف جذب حواسهم وانتباههم،ولك أيها المعلم أن تستخدم هذه الطريقة أثناء شرحك،بعد كل نقطة رئيسة للفصل بين النقاط،وللتهيؤ لشرح النقطة التي تليها.
ثانياً : الاتصال البصري : منه :
أ - إدامة الاتصال النظري بين المعلم والمتعلم :
إن المحافظة على الاتصال النظري بين المعلم وتلميذه،مفيد جداً للمعلم وللمتعلم.فالمعلم يبقي طلابه تحت سيطرته من خلال متابعته لهم بنظره،ومن ثم يلاحظ الغافل فينبهه،والناعس فيوقظه،والمتلاعب فيزجره .. إلخ.ولذا كان حري بالمعلم أن يوزع نظره على عموم طلابه حتى يعتقد كل طالب أنه المعني بالكلام،ولا يغفل عن طلابه أثناء الشرح،فإن بعض المعلمين يصوب بصره على جهة معينة أثناء تدريسه،وهذا خطأ يؤدي إلى فقدانه السيطرة على طلابه،ومن ثم يعطي الطالب الفرصة بالتشاغل عن الاستماع والإنصات للدرس . ويستحب أن يكون مكان المعلم مرتفعاً ولو قليلاً عن طلابه لتحصل المتابعة الجيدة من قبله،ولكي يتسنى لكل طالب متابعة معلمه دون عناء أو مضايقة ممن حوله .
وأما المتعلم فمن خلال رؤيته المستمرة وإدامته لنظره لمعلمه،يحصل له فهم أقوى لما يطرح
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 313)(5974) وصحيح البخارى- المكنز - (1741) وصحيح مسلم- المكنز - (4477)(1/154)
ويقال في الدرس،لأن اشتراك حاستين وهما السمع والبصر أقوى في التلقي من الاقتصار على واحدة.ولنا أن نلمس السبب من جعل المنبر عالياً.ولقد كان منبرة - صلى الله عليه وسلم - بارتفاع ثلاث درجات وهي كافية جداً في تبادل النظر بين الخطيب والمصلين .. يوضح ذلك ،ما جاء عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ « أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ » . قَالَ لاَ . قَالَ « قُمْ فَارْكَعْ » (1) .
وعَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِى مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ « إِنِّى مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا » . فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ . قَالَ - فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ » وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ . فَقَالَ « إِنَّهُ لاَ يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ،وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ،أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ،فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ،وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ،فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ - أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - - وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ،وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . (2)
والجلوس حول الخطيب يقتضي النظر إليه،وكذا الجلوس حول المعلم يقتضي النظر إليه.وهذا الحديث أورده البخاري في صحيحه وعقد عليه باباً بقوله :باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ الْقَوْمَ وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ (3) قال الحافظ ابن حجر معلقاً : " ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان أدعى لتفهم موعظته وموافقته فيما
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (930 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2055)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1465) -ثلط : رجع رجيعا رقيقا -الرحضاء : العرق
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4 / 41)28 -(1/155)
شرع له القيام لأجله". (1)
ب - استخدام تعابير الوجه :
يغفل كثير من المعلمين عن توظيف هذه الطريقة في التعليم،بل إنك لا تكاد تجد من يعمل بها،إما لجهله بها أو لغفلته عنها . وهذه الطريقة تغني المعلم عن الإنكار باللسان،أو ترديد عبارات الرضا والارتياح تجاه عمل معين أو قول معين،وهذه الطريقة نافعة جداً مع فئة معينة من الناس،فإن هناك من تؤثر فيه النظرة الحادة،وهي كافية في زجره وردعه،وهناك من تؤثر فيه الابتسامة والبشاشة أكثر مما لو قلت له : أحسنت أو هذا جيد هكذا دون مشاركة تعابير الوجه التي تدل على الارتياح والرضا.وهناك من لا يؤثر فيه ذلك كله،فيعامل كل بحسبه . ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف الغضب في وجهه،فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ،فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ،ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ،وَقَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ » (2) .
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ،فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ،فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ « إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ،فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ،وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ،أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ » . ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ،ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ،فَقَالَ « أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا » . (3)
قال الحافظ ابن حجر : قوله: "حتى رؤي" أي شوهد في وجهه أثر المشقة، وللنسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَحَكَّتْهَا وَجَعَلَتْ مَكَانَهَا خَلُوقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا أَحْسَنَ هَذَا » (4) . وللمصنف (5) في الأدب من حديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (2 / 402)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6109 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (405 )
(4) - سنن النسائي- المكنز - (736 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (1213 )(1/156)
عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ،فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ،فَإِذَا كَانَ فِى صَلاَتِهِ،فَلاَ يَبْزُقَنَّ - أَوْ قَالَ - لاَ يَتَنَخَّمَنَّ » . ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ " (1) .
فهذه الألفاظ كلها تدل على أن هذا الغضب أحدث عند الصحابة علماً جازماً بأن هذا الفعل الذي غضب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - منكراً،ولو سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يزد على ذلك،لكان كافياً في الإنكار والردع،ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بين سبب الغضب لأنه في مقام التبليغ والتعليم .. والله أعلم .
أما التبسم فقد ورد عنه كثيرا:
فعَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدْرِ النَّهَارِ،قَالَ : فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ،أَوِ الْعَبَاءِ،مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ،عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ،بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ،فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ،قَالَ : فَدَخَلَ،ثُمَّ خَرَجَ،فَأَمَرَ بِلاَلاً،فَأَذَّنَ،وَأَقَامَ،فَصَلَّى،ثُمَّ خَطَبَ،فَقَالَ : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}،إِلَى آخِرِ الآيَةِ : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}،وَقَرَأَ الآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ : {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ،مِنْ دِرْهَمِهِ،مِنْ ثَوْبِهِ،مِنْ صَاعِ بُرِّهِ،مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ : وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا،بَلْ قَدْ عَجَزَتْ،ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ،يَعْنِي كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَنَّ فِي الإِِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً،فَلَهُ أَجْرُهَا،وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ،وَمَنْ سَنَّ فِي الإِِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً،كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا،وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ. (2)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ،أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِصُرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 508)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 503)(19174) 19388- صحيح(1/157)
تَمْلأُ مَا بَيْنَ أَصَابِعِهِ،فَقَالَ : هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَوْا فَأَعْطَى،ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَى،ثُمَّ قَامَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَعْطَوْا . قَالَ : فَأَشْرَقَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رَأَيْتُ الإِِشْرَاقَ فِي وَجْنَتَيْهِ،ثُمَّ قَالَ : مَنْ سَنَّ سُنَّةً صَالِحَةً فِي الإِِسْلاَمِ فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ،كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ،وَمَنْ سَنَّ فِي الإِِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ،كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ." (1)
وعَنْ جَرِيرٍ،قَالَ : مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ أَسْلَمْتُ،وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي. (2)
ولا يخفى أثر ذلك الابتسام على جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه .
وفي الفتح : " قوله: "باب التبسم والضحك" قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ.، وقال : ثم ذكر في الباب تسعة أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك، وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب، وبعضها للإعجاب، وبعضها للملاطفة " (3)
الخلاصة:
(1) مراعاة القصد في الكلام -أثناء الشرح – والترسل فيه،والتوسط،لا سريع مفرط،ولا بطيء مخل.
(2) الغاية من التوسط في الكلام وعد السرد السريع،هو ضمان وصول المعلومات إلى ذهن الطالب بعيداً عن الإثارة والتشويش .
(3)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 506)(19183) 19397- صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 175)(7200) وصحيح البخارى- المكنز - (3035 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6519 )
(3) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 504)(1/158)
تكلف الكلام خصلة ذميمة شرعاً وحساً وعقلاً .
(4) تكلف الكلام والإتيان بغرائبه،يوجب النفرة بين المعلم والمتعلم .
(5) رفع الصوت أثناء التعليم،وسيلة جيدة في جذب انتباه السامعين وفي الإنكار .
(6) قطع الشرح يسبب إرباكاً للطلاب،ويفسد على المعلم تسلسل أفكاره ورط بعضها ببعض .
(7) على المعلم أن يطلب من طلابه أن يؤخروا أسئلتهم إلى أن يفرغ من الشرح .
(8) السكوت أثناء الشرح له فوائد منها :جذب انتباه الطلاب،وتراد نفس المعلم،وترتيب الأفكار .
(9) تبادل النظر بين المعلم والمتعلم،عامل هام في سيطرة المعلم على طلابه،وفي فهم المتعلم لما يلقى إليه من مسائل وعلوم .
(10) توظيف تعابير الوجه في التعليم،يساعد المعلم في تحقيق أغراضه .
(11) مراعاة اختلاف الطلاب،ومقدار تأثرهم بهذه الانفعالات،فإن بعضهم لا تجدي معه مثل هذه التعابير الظاهرة .
ــــــــ
3- الأسلوب العملي في التعليم :
لا شك أن عرض المادة وتقديمها عن طريق الإلقاء،وسيلة جيدة في التحصيل والتعلم،ولكن هذه الوسيلة تبلغ ذروتها إذا انضاف إليها وسيلة أخرى،وهي الأسلوب العملي،فإذا اشترك الأسلوب النظري مع الأسلوب العملي في آن واحد أثناء التعليم،كان ذلك عاملاً قوياً في ترسيخ المعلومات في ذهن الطالب،ومثبت لها من النسيان . والأسلوب العملي قد يكون من جهة المعلم،وقد يكون من جهة المتعلم،أي أن الفعل قد يكون من المعلم،وقد يكون من المتعلم،وإليك بسطاً لكل منهما :
أ - الأسلوب العملي من قبل المعلم :
عن قَيْسَ بِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُصَلِّي(1/159)
أَحَدُنَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى إِذَا حَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، طَابَقَ بَيْنَ إِزَارِهِ وَبَيْنَ مِلْحَفَتِهِ، ثُمَّ تَوَشَّحَ بِهِمَا هَكَذَا، ثُمَّ صَلَّى بِهِمَا الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟"قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"أَوَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟" (1) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُ الصَّلاَةَ،فَجَاءَهُ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ،وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى الظُّهْرَ،ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ صَارَ الظِّلُّ مِثْلَ قَامَةِ شَخْصِ الرَّجُلِ،فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى الْعَصْرَ،ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى الْمَغْرِبَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِىَ الْحَدِيثِ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ أَتَاهُ الْيَوْمَ الثَّانِىَ جَاءَهُ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ،فَتَقَدَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ وَالنَّاسُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى الْمَغْرِبَ. قَالَ وَقَالَ فِى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ : مَا بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ وَقْتٌ. قَالَ : فَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلاَةِ فَصَلَّى بِهِمْ كَمَا صَلَّى بِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،ثُمَّ قَالَ :« أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الصَّلاَةِ؟ مَا بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ وَقْتٌ ». (2)
وقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا،سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ فَأَذَّنَ بِلاَلٌ بِصَلاَةِ الظُّهْرِ حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسَ , فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالْعَصْرِ حِينَ ظَنَنْتُ أَنَّ ظِلَّ الرَّجُلِ قَدْ صَارَ أَطْوَلَ مِنْهُ فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ , فَصَلَّى ثُمَّ أَذُّنَ بِلاَلٌ الْمَغْرِبِ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ الْعِشَاءِ حِينَ ذَهَبَ بَيَاضُ النَّهَارِ , وَهُوَ الشَّفَقُ , فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ الْفَجْرِ حِينَ طَلَعَ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 392) (8174 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 865)(24009/22) 24239- صحيح لغيره
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (1 / 368) (1793) صحيح(1/160)
الْفَجْرُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الظُّهْرَ حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَامَ الصَّلاَةَ حِينَ ظَنَنَّا أَنَّ ظِلَّ الرَّجُلِ قَدْ صَارَ مِثْلَهُ , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ الْعَصْرَ فَأَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ ظَنَنَّا أَنَّ ظِلَّ الرَّجُلِ قَدْ كَانَ مِثْلَيْهِ , ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ لِلْمَغْرِبِ فَأَخَّرَ الصَّلاَةَ حِينَ كَانَ يَذْهَبُ بَيَاضُ النَّهَارِ , وَهُوَ أَوَّلُ الشَّفَقِ , ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ بَيَاضُ النَّهَارِ , وَهُوَ الشَّفَقُ , فَنِمْنَا ثُمَّ قُمْنَا مِرَارًا , ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا , قَدْ نَامُوا , وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ , لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الصَّلاَةَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ فَصَلَّى قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ اللَّيْلُ , ثُمَّ أَذَّنَ الْفَجْرُ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَسْفَرَ , وَرَأَى الرَّائِيِّ نَبْلَهُ , ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى , ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ؟ فَقَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَقَالَ : الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ " (1)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ،فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ،فَقَالَ : صَلِّ مَعَنْا هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ،فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ،صَلَّى الظُّهْرَ،ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ،وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ،وَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ،وَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ،فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَمَرَ بِلاَلاً فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ،فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا،وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ،وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ،وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ،وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ،فَأَسْفَرَ بِهَا،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ؟ قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : وَقْتُ صَلاَتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ." (2)
وعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ سَائِلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ،فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا،ثُمَّ أَمَرَ بِلاَلاً فَأَقَامَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ فَصَلَّى،ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ لَمْ تَزَلْ،وَهُوَ كَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ،ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (2 / 53)(907) صحيح لغيره
(2) - صحيح ابن حبان - (4 / 359)(1492) صحيح(1/161)
الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ،ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ،ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ قَالَ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ لَمْ تَطْلُعْ،وَهُوَ كَانَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ،وَصَلَّى الظُّهْرَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَمْسِ،وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ،وَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الأَوَّلَ،ثُمَّ قَالَ :« أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْوَقْتِ،مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ ». (1)
وعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ : أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَسُئِلَ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرَاقَ الْمَاءَ فِى الرَّحَبَةِ،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا وَوَجْهَهُ ثَلاَثًا وَذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا،وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ حَتَّى أَلَمَّ أَنْ يَقْطُرَ،وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا،ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ. (2)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ صَلاةِ الْفَجْرِ،فَلَمَّا أَصْبَحْنَا مِنَ الْغَدِ أَمَرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ،فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَخَّرَهَا حَتَّى أَسْفَرَ،ثُمَّ أَمَرَ فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ،فَصَلَّى بِنَا،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاةِ ؟ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " (3)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ،قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمرو عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى إذَا تَهَبَّطَتْ أَيْدِي رَوَاحِلِنَا بِالْمُزْدَلِفَةِ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ؟ هَذَا الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ." (4)
وعن أبي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالاً أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِىَّ،وَقَدِ امْتَرَوْا فِى الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ،وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ،وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى فُلاَنَةَ - امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ - « مُرِى غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِى أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ » . فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جَاءَ بِهَا،فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (1 / 366)(1786) صحيح ، واصله في مسلم
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (1 / 74)(355) صحيح
(3) - مسند أبي يعلى الموصلي (3801) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 544)(14982) صحيح(1/162)
بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا،ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَيْهَا،وَكَبَّرَ وَهْوَ عَلَيْهَا،ثُمَّ رَكَعَ وَهْوَ عَلَيْهَا،ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِى أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ،فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِى » (1) .
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِى الْقِبْلَةِ،فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِىَ فِى وَجْهِهِ،فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ « إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِى صَلاَتِهِ،فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ - أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ (2) - فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ،وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ،أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ » . ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ،ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ،فَقَالَ « أَوْ يَفْعَلْ هَكَذَا » . (3)
قوله: "ثم أخذ طرف ردائه الخ" فيه البيان بالفعل ليكون أوقع في نفس السامع" (4)
وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: " رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلُ ذَلِكَ "، ثُمَّ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا "، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مثل وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " (5)
قال ابن حجر :" وفي الحديث التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم" (6)
والأمثلة كثيرة في هذا الباب،وفيما سبق غنية عن الإطالة .فعلى المعلم أن يعتني بهذا الأسلوب فإنه ناجع ومفيد. وزيادة على ما مضى فإن هذا الأسلوب يختصر المسافة على
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (917 )
(2) - قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين قبلته. وقيل هو على حذف مضاف أي عظمة الله أو ثواب الله. وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة.فتح الباري لابن حجر - (1 / 508)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (405 )
(4) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 509)
(5) - شعب الإيمان - (4 / 244)(2464) وصحيح البخارى- المكنز - (159 ) وصحيح مسلم- المكنز - (561)
(6) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 261) وعون المعبود - (1 / 130)(1/163)
المعلم في ضرب الأمثلة،ويوفر الوقت والجهد،فبدلاً من أن يحفظهم صفة الوضوء – مثلاً – ويستهلك وقتاً طويلاً في تعليمهم،يكفيه أن يحضر الماء ويطبقه عملياً أمامهم ثم يجعلهم يفعلون ذلك عملياً بتطبيق ما شاهدوه من معلمهم على أنفسهم . وكذلك الأمر في تعليم الصلاة ونحوها .
وعلى المعلم أن يتذكر أن استخدام الأسلوب العملي في التعليم لا يتأتى لكل مادة علمية،ولكن عليه أن يبذل جهده في استخدام هذا الأسلوب أثناء أدائه لمهمته التعليمية،فإنه مجرب ومفيد في حفظ المعلومات واستدامتها في الذهن .
ب - الأسلوب العملي من قبل المتعلم :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،دَخَلَ الْمَسْجِدَ،فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،فَقَالَ الرَّجُلُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَعْرِفُ غَيْرَ هَذَا،فَعَلِّمْنِي،قَالَ : إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلاَةِ،فَكَبِّرْ،وَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ،ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا،ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا،ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا،ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا،وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا." (1)
فهذا الحديث فيه تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،لذلك الذي أساء في صلاته ولم يحسن فيها،بأسلوب عملي يجعل المتعلم يكتشف الخطأ الذي وقع فيه بنفسه،وذلك يتبين من رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ،لذلك المصلي ثلاث مرات،لعله يكتشف سبب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإعادة الصلاة .
" فَإِنْ قِيلَ :لِمَ سَكَتَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ تَعْلِيمه أَوَّلًا حَتَّى اِفْتَقَرَ إِلَى الْمُرَاجَعَة كَرَّة بَعْد أُخْرَى ؟
قُلْنَا : لِأَنَّ الرَّجُل لَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِف الْحَال مُغْتَرًّا بِمَا عِنْده سَكَتَ عَنْ تَعْلِيمه زَجْرًا لَهُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (5 / 212) (1890) وصحيح البخارى- المكنز - (757 ) وصحيح مسلم- المكنز - (911)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، يُرِيدُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ : ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ، نَفَى الصَّلاَةَ عَنْ هَذَا الْمُصَلِّي ؛ لِنَقْصِهِ عَنْ حَقِيقَةِ إِتْيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِهَا ، لاَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ ، فَلَمَّا كَانَ فِعْلُهُ نَاقِصًا عَنْ حَالَةِ الْكَمَالِ ، نَفَى عَنْهُ الاِسْمَ بِالْكُلِّيَّةِ.(1/164)
وَإِرْشَادًا إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَكْشِف مَا اِسْتَبْهَمَ عَلَيْهِ،فَلَمَّا طَلَبَ كَشْف الْحَال بَيَّنَهُ بِحُسْنِ الْمَقَال . قَالَهُ اِبْن الْمَلَك فِي شَرْح الْمَشَارِق . قَالَ الْقَارِي : وَاسْتَشْكَلَ تَقْرِيره عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى صَلَاته وَهِيَ فَاسِدَة ثَلَاث مَرَّات عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ النَّفْي لِلصِّحَّةِ،وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ اِسْتِدْرَاجه بِفِعْلِ مَا جَهِلَهُ مَرَّات لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ غَافِلًا فَيَتَذَكَّر فَيَفْعَلهُ مِنْ غَيْر تَعْلِيم،فَلَيْسَ مِنْ بَاب التَّقْرِير عَلَى الْخَطَأ بَلْ مِنْ بَاب تَحَقُّق الْخَطَأ،أَوْ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمهُ أَوْ لَا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي تَعْرِيفه وَتَعْرِيف غَيْره وَلِتَفْخيمِ الْأَمْر وَتَعْظِيمه عَلَيْهِ . وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : لَا شَكّ فِي زِيَادَة قَبُول الْمُتَعَلِّم لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِ بَعْد تَكْرَار فِعْله وَاسْتِجْمَاع نَفْسه وَتَوَجُّه سُؤَاله مَصْلَحَة مَانِعَة مِنْ وُجُوب الْمُبَادَرَة إِلَى التَّعْلِيم لَا سِيَّمَا مَعَ عَدَم خَوْف " (1)
وقال النووي : " وَإِنَّمَا لَمْ يُعَلِّمْهُ أَوَّلًا لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي تَعْرِيفه وَتَعْرِيف غَيْره بِصِفَةِ الصَّلَاة الْمُجْزِئَة كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِفَسْخِهِ إِلَى الْعُمْرَة لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَقْرِير ذَلِكَ عِنْدهمْ . وَاَللَّه أَعْلَم ." (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا،سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَالَ : " صَلِّ مَعَنَا غَدًا فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِغَلَسٍ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ : " أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ هَأَنَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَلَيْسَ قَدْ شَهِدْتَ مَعَنَا أَمْسِ وَالْيَوْمَ ؟ " قَالَ : بَلَى قَالَ : فَمَا بَيْنَهُمَا وَقْتٌ " (3)
قال ابن عبد البر (4) : " وقد يكون البيان بالفعل أثبت أحياناً فيما فيه عمل من القول،لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ،إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ،فَلَمْ يُلْقِ الأَلْوَاحَ،فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا،أَلْقَى
__________
(1) - عون المعبود - (2 / 356)
(2) - شرح النووي على مسلم - (2 / 132) وفتح الباري لابن حجر - (2 / 281) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (6 / 657)
(3) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (4 / 332) وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (115) صحيح
(4) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (4 / 334)(1/165)
الأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ. " (1)
(ج) عن طريق المعلم والمتعلم
عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ،قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ،وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ،حَاضِرٌ يُصَدِّقُهُ قَالَ :كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ غَرِيبٌ ؟ يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ . فَقُلْنَا : لاَ يَا رَسُولَ اللهِ . فَأَمَرَ بِغَلْقِ الْبَابِ،وَقَالَ : ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ،وَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا سَاعَةً ،ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ،ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ،اللَّهُمَّ بَعَثْتَنِي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ،وَأَمَرْتَنِي بِهَا،وَوَعَدْتَنِي عَلَيْهَا الْجَنَّةَ ،وَإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ثُمَّ قَالَ : أَبْشِرُوا،فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ." (2)
وعن يَعْلَى بن شَدَّادِ بن أَوْسٍ،عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:"انْظُرُوا هَلْ فِيكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟"، فَقَالُوا: لا، فَقَالَ:"أَحَفِ الْبَابَ"، فَأَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَ:"ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، وَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ"، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَفَعْنَا أَيْدِيَنَا، ثُمَّ قَالَ:"ضَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَأَبْشِرُوا، فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ،إِنِّي بُعِثْتُ بِهَا, وَبِهَا أُمِرْتُ، وَعَلَيْهَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ". (3)
ونلاحظ في هذا الخبر اشتراك الكل في الفعل،فهو - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعلمهم عمليا هو وإياهم .
الخلاصة:
(1) الجمع بين الأسلوب النظري والأسلوب العملي في التعليم،من الوسائل النافعة في التربية والتعليم .
(2) هذه الطريقة تختصر الطريق على المعلم،وتوفر الوقت والجهد.
(3) إشراك الطلاب في التطبيق العملي،لكي تتم الفائدة .
(4) على المعلم أن يجعل طلابه يكتشفون الخطأ بأنفسهم،كأن يعيد المعلم كراسة الواجبات إلى الطالب بدون تصحيح لكي يعيد النظر فيها ويكتشف الخطأ بنفسه .
(5)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 96) (6213) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 705)(2447) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 835)(17121) 17251- حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (6 / 446) (7017 ) حسن(1/166)
ممارسة الشيء وتطبيقه،عامل قوي في حفظ المعلومة وصيانتها عن النسيان .
ــــــــ
4- عرض المادة العلمية بأسلوب يناسب عقل الطالب وفهمه :
تختلف العقول والمدارك،من شخص لآخر،ومن جماعة لأخرى،وذلك أمر بين وواضح،ويدلك على ذلك أن الطلاب في الفصل الواحد يختلفون في سرعة الاستجابة لأسئلة المطروحة،وفي الفهم،ولعل حديث أبي سعيد الخدري المروي في الصحيحين وغيرهما يجلي لنا الأمر :
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ « إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ،وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ،فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ » . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَعَجِبْنَا لَهُ،وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ،يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهْوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرَ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ،وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ،إِلاَّ خُلَّةَ الإِسْلاَمِ،لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِى بَكْرٍ » (1)
قال النووي : " كَانَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْد الْمُخَيَّر،فَبَكَى حُزْنًا عَلَى فِرَاقه،وَانْقِطَاع الْوَحْي،وَغَيْره مِنَ الْخَيْر دَائِمًا . وَإِنَّمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّ عَبْدًا ) وَأَبْهَمَهُ،لِيَنْظُر فَهْم أَهْل الْمَعْرِفَة،وَنَبَاهَة أَصْحَاب الْحِذْق ." (2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْرَبَ النَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَوْلَاهُمْ بِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِمُرَادِهِ لِمَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ فَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَفْهَمُهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَزْدَادُ الصِّدِّيقُ بِفَهْمِ آخَرَ يُوَافِقُ مَا فَهِمُوهُ وَيَزِيدُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3904 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6320 ) -الخوخة : الباب الصغير
(2) - شرح النووي على مسلم - (8 / 120)(1/167)
عَلَيْهِمْ وَلَا يُخَالِفُهُ . ثم ذكر حديث أبي سعيد ثم قال :" فَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا وَهَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ لَا لُغْزَ فِيهِ فَفَهِمَ الصِّدِّيقُ لِقُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَقَاصِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ هُوَ الْعَبْدُ الْمُخَيَّرُ وَمَعْرِفَةُ أَنَّ الْمُطْلَقَ هَذَا الْمُعَيَّنَ خَارِجٌ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَكِنْ يُوَافِقُهُ وَلَا يُخَالِفُهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ . " (1)
وقال في موضع آخر : " فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِمُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَقَاصِدِهِ فِي كَلَامِهِ ؛ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُشْتَرِكِينَ فِي فَهْمِهِ " (2)
ثم إن المقدرة على إيصال المعلومات إلى ذهن الطالب،تختلف قوة وضعفاً من وسيلة لأخرى،ومن هذه الوسائل،طريقة الشرح،شرح المادة المراد تدريسها،وهذه الطريقة تعد من أفضل الطرق في الإفصاح والكشف عن مراد المعلم،ولذا كان من المهم جداً أن يعرف المعلم مستوى طلابه العقلي،لأن ذلك يساعد على تحديد أسلوبه في عرض المواد العلمية،وتلخيصها بما يوفق عقولهم ومداركهم . ويوضح ذلك الآثار التالية :
فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ « نَعَمْ » . قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ قَالَ « إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ » . قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ « فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا،وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ » (3) .
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك بناء الكعبة على أساسها الذي بناها عليه إبراهيم عليه السلام،من أجل الأمن من الوقوع في المفسدة،والمفسدة " لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَظِّم أَمْر الْكَعْبَة جِدًّا،فَخَشِيَ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَظُنُّوا لِأَجْلِ قُرْب عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيَّرَ بِنَاءَهَا لِيَنْفَرِد بِالْفَخْرِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ،وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَرْك الْمَصْلَحَة لِأَمْنِ الْوُقُوع فِي الْمَفْسَدَة،وَمِنْهُ تَرْك إِنْكَار الْمُنْكَر خَشْيَة الْوُقُوع فِي أَنْكَر مِنْهُ،وَأَنَّ الْإِمَام يَسُوس رَعِيَّته بِمَا فِيهِ إِصْلَاحهمْ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا مَا لَمْ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (2 / 460)
(2) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (2 / 217)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1584 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3313 )(1/168)
يَكُنْ مُحَرَّمًا ." (1) فانظر رعاك الله كيف ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً عظيماً كهذا،خشية أن تقصر أفهامهم عن إدراك الأمر على وجهه.
وفي الموسوعة الفقهية :
" يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي مُرَاعَاةُ أَحْوَال الْمُسْتَفْتِي،وَلِذَلِكَ وُجُوهٌ،مِنْهَا :
أ- إِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي بَطِيءَ الْفَهْمِ،فَعَلَى الْمُفْتِي التَّرَفُّقُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَالِهِ وَتَفْهِيمِ جَوَابِهِ . (2)
ب - إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَفْهِيمِهِ أُمُورًا شَرْعِيَّةً لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهَا فِي سُؤَالِهِ،فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي بَيَانُهَا لَهُ زِيَادَةً عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ،نُصْحًا وَإِرْشَادًا،وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ » (3)
.وَلِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِل عَنْ جَوَابِ السُّؤَال إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ،وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (215) سورة البقرة. فَقَدْ سَأَل النَّاسُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ . (4)
ج - أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَيُفْتِيَهِ بِالْمَنْعِ،فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْهُ،كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ إِذَا مَنَعَ الْمَرِيضَ مِنْ أَغْذِيَةٍ تَضُرُّهُ يَدُلُّهُ عَلَى أَغْذِيَةٍ تَنْفَعُهُ . (5)
د - أَنْ يُسْأَل عَمَّا لَمْ يَقَعْ،وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً،فَيَتْرُكُ الْجَوَابَ إِشْعَارًا لِلْمُسْتَفْتِي بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَال عَمَّا يَعْنِيهِ مِمَّا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَوَرَاءَهُ عَمَلٌ،لِحَدِيثِ : « إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ » (6) .
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 201)
(2) - المجموع للنووي 1 / 48 .
(3) - موطأ مالك(42 ) صحيح
(4) - إعلام الموقعين 4 / 158 .
(5) - إعلام الموقعين 4 / 159 .
(6) - صحيح البخارى(1477) ومسلم (4582)(1/169)
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ : مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِ فَلاَ تُفْتِهِ (1) .
ه - أَنْ يَكُونَ عَقْل السَّائِل لاَ يَحْتَمِل الْجَوَابَ،فَيَتْرُكُ إِجَابَتَهُ وُجُوبًا،قَالَ عَلِىٌّ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ،أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (2)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا،عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ،وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " (3)
" وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " بِمَا يَعْرِفُونَ " أَيْ : يَفْهَمُونَ ... وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة ." (4)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ،أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ،قَالَ : مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ " (5) .
و- تَرْكُ الْجَوَابِ إِذَا خَافَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفُتْيَا (6) أَيْ هَلاَكًا أَوْ فَسَادًا أَوْ فِتْنَةً يُدَبِّرُهَا الْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرُهُ،وَالأَْصْل وُجُوبُ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ إِنْ كَانَ الْحُكْمُ جَلِيًّا (7) فَلاَ يَتْرُكُ الْمُفْتِي بَيَانَهُ لِرَغْبَةٍ وَلاَ رَهْبَةٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى : {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (187) سورة آل عمران .
__________
(1) - شرح المنتهى 3 / 457، وإعلام الموقعين 4 / 221، والموافقات 4 / 286 - 290 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (127 )
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (497 ) صحيح
(4) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 203)
(5) - شرح المنتهى 3 / 457، والموافقات 4 / 313، والحديث أخرجه الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (498 ) صحيح
(6) - شرح المنتهى 3 / 458 .
(7) - إعلام الموقعين 4 / 175 .(1/170)
لَكِنْ إِنْ خَافَ الْغَائِلَةَ فَلَهُ تَرْكُ الْجَوَابِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْفُتْيَا إِنْ خَافَ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا الظَّلَمَةُ أَوْ أَهْل الْفُجُورِ لِمَآرِبِهِمْ " (1) .
والمعلمون لهم نصيب من ذلك،وعليهم عبء كبير،إذ إن على المعلم أن يجتهد في تبسيط المسائل،وصياغة الألفاظ بعبارات واضحة مفهومة تناسب مستوى طلابه،كي لا يقعوا في حيرة من أمرهم،ولكي لا يصعب العلم عليهم .
قال الغزالي في الإحياء :"الوظيفة السادسة : أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى مالا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر - صلى الله عليه وسلم - .فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها .. (2)
قال ابن مفلح : " " وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا حَدَّثْتُمُ النَّاسَ عَنْ رَبِّهِمْ فَلَا تُحَدِّثُوهُمْ بِمَا يَغْرُبْ عَنهِمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ " (3) .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ : سُئِلَ الْخَلِيلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَبْطَأَ بِالْجَوَابِ فِيهَا قَالَ : فَقُلْتُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَرِ قَالَ : فَرَغْتُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَجَوَابِهَا وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجِيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ إلَى فَهْمِكَ قَالَ أَبُو قُدَامَةَ : فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُبَيْدٍ فَسُرَّ بِهِ .
وَفِي تَارِيخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ السَّرَخْسِيِّ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَقِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْتُ الرَّبِيعَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ كَانَ يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ مَا فَهِمْنَا عَنْهُ لَكِنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُنَا عَلَى قَدْرِ عُقُولِنَا فَنَفْهَمُهُ ." (4)
الخلاصة:
(1) اختلاف عقول وأفهام الطلاب من شخص لآخر،ومن جماعة لأخرى .
(2)
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 3 / 264 ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (32 / 38) فما بعد
(2) - إحياء علوم الدين . (1/96) ط دار الحديث .
(3) - شعب الإيمان - (3 / 265) (1631 ) والمعجم الأوسط للطبراني - (18 / 8)( 8430 ) حسن لغيره
(4) - الآداب الشرعية - (2 / 244)(1/171)
براعة المعلم تكمن في قدرته على إيصال المعلومة للطالب كما ينبغي،وليست في حشد النصوص والأدلة،وكثرة المسائل .
(3) تقدير المستوى العقلي للطلاب،ومن ثم تعليمهم وتدريسهم على هذا الأساس .
(4) أن تكليف عقل الطالب ما لا يحتمله،وتحميله فوق طاقته،لا يزيد الطالب إلا حيرة وجهلاً .
ــــــــ
5- أسلوب المحاورة والإقناع العقلي :
تختلف عقول الناس ومداركهم من حيث الفهم،وسرعة الاستجابة . ويختلف الناس أيضاً من حيث الانقياد والتسليم لشرع الله أمره ونهيه،فمنهم من لا يقنع بالدليل إلا إذا ظهرت له الحكمة من ذلك التشريع (1) ،ومنهم من يكفيه الدليل ويقف عنده .
والتلاميذ عموماً فيهم من ذلك الشيء الكثير،فمنهم من لا ترضيه بعض القواعد والأسس التي اصطلح عليها العلماء في أمور الطبيعة مثلاً ،إلا إذا تبين له وجه الحكمة من ذلك.ومنهم من لا يحصل له الفهم الكامل إلا بعد أن تختصر له هذه القاعدة أو هذه المسألة،وتعرضها عليه بأسلوب الحوار والإقناع.
ومن أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم أنه كان يَسلُك في بعض الأحيان سبيلَ المحاكمةِ العقليةِ على طريقة السؤالِ والاستجواب،لقلعِ الباطلِ من نفسِ مستحسِنه،أو لترسيخ الحقِّ في قلب مُستبعِدِه أو مُستَغرِبهِ .
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا،فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا : مَهْ . مَهْ (2) . فَقَالَ : ادْنُهْ (3) ،فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا . قَالَ : فَجَلَسَ
__________
(1) - وصاحب هذا يخشى عليه الفتنة في دينه ،لأننا تعبدنا الله بالسمع والطاعة ، ومن صفات المؤمنين أنهم يقولون : ربنا إننا سمعنا وأطعنا ولو لم تظهر لهم حكمة التشريع من ذلك الأمر أو النهي . ولكن تلمس الحكمة من التشريع مع التسليم والانقياد للدليل ، أسكن للنفس وأهدأ للبال.والله أعلم .
(2) لفظ (مَهْ) اسمُ فعلِ أمر ، معناه : اكفُفْ .
(3) هو فعلُ أمرٍ من الدنو ، وهو القربُ ، والهاءُ فيه للسَّكتِ جيءَ بها لبيان الحَرَكةِ ، كما في ((النهاية)) لابن الأثير 2 :33 .(1/172)
قَالَ : أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ؟ قَالَ : لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ ؟ قَالَ : لاَ،وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ . قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ . قَالَ : وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ . قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ،وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ." (1)
فانظُر كيف استأصَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفس الفَتى تعلُّقَه بالزنى،عن طريقِ المُحادثَةِ والمُحاكَمةِ النفسيّة والمُوازنةِ العقلية،دون أن يَذكُر له الآياتِ الواردة في تحريم الزنى والوعيدِ للزاني والزانيةِ،نظراً منه أن هذا أقلَعُ للباطل في ذلك الوقت من قلبِ الشابِّ بحَسَب تصوُّرِه وإدراكِهِ .
وفي هذا إرشادٌ للدعاةِ أن يَلجَؤوا إلى العقلِ في بعضِ الأحيان وبعضِ الناس إذا كانت الحالُ تَستدْعي ذلك،كحالِ هذا الشابِّ الذي طَهَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قلبَه من الزنى بتلك المُحاكَمةِ العقليةِ الهادية . (2)
وفي هذا الحديث نلمس عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وحسن تعليمه وتعامله في هذا الموقف.فهذا شاب يعلم ماذا يعني ( الزنا ) ولذلك قال يا رسول الله ائذن لي بالزنا! ولا يخفى موقف الصحابة وغيرتهم الشديدة على دين الله رضي الله عنهم وأرضاهم،ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعامل ذلك الشاب بالزجر كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم،ولا قال له إن الله حرم الزنا ورتب على ذلك وعيداً شديداً،كل ذلك لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الأمور مستقرة لدى الشاب ومعلومة لديه.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 407)(22211) 22564- صحيح
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 81)(1/173)
إذاً،كان العلاج النبوي بالمحاورة والإقناع العقلي هو أنجح وسيلة لمثل هذه الحالة،فتأمل هذه الوسيلة في التعليم يتبين لك عظمة المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِى غُلاَمٌ أَسْوَدُ . فَقَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « مَا أَلْوَانُهَا » . قَالَ حُمْرٌ . قَالَ « هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ » . قَالَ نَعَمْ .قَالَ « فَأَنَّى ذَلِكَ » . قَالَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ « فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ » (1) .
فهذا الرجل أو الأعرابي جاء سائلاً مستفتياً مستنكراً أن يأتيه ولد أسود على خلاف لونه ولون أمه،فبين له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب عقلي (2) سهل وميسور،وحاوره وضرب له مثالاً من بعض ما يملكه هذا الأعرابي ليكون أقرب إلى فهمه،حيث سأله عن إبله وهل يأتي منها ما هو مخالف لأبويه في الشكل والصفة،فقال نعم : عندئذ أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك حاصل في البشر أيضاً.فانظر رعاك الله كيف حاوره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرره بأسلوب عقلي بسيط وواضح.ولقد كان من الممكن أن يخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا ابنه،وهذا بحد ذاته كاف،لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى،ولكن لما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال الأعرابي وجهله،أراد أن يبين له الأمر حتى تطمئن نفسه ويرتاح فؤاده،ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بهذا التقرير أن يكون ذلك حكماً عاماً لذلك الأعرابي ولمن خلفه (3) والله أعلم .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ،فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ،ثُمَّ قَالَ : هَذَا أَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يُرْفَعَ،فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ : أَيُرْفَعُ الْعِلْمُ يَا رَسُولَ اللهِ وَفِينَا كِتَابُ اللهِ،وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،ثُمَّ ذَكَرَ ضَلاَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ،وَعِنْدَهُمَا مَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5305 ) -الأورق : الأسمر
(2) -يستدل الفقهاء بهذا الحديث وغيره على إثبات القياس والرد على من أنكره . انظر فتح الباري كتاب الاعتصام (حديث7314).
(3) - هذه القصة ترشد كل من جاء ولد تختلف أوصافه عن أوصاف والديه ، بأن لا يتعجل ويصدر حكماً على زوجه بالزنا،بل عليه أن يحسن الظن ،والأصل البراءة إلا بينة والله أعلم .(1/174)
عِنْدَهُمَا مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَلَقِيَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالْمُصَلَّى،فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ : صَدَقَ عَوْفٌ،ثُمَّ قَالَ : وَهَلْ تَدْرِي مَا رَفْعُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ أَدْرِي . قَالَ : ذَهَابُ أَوْعِيَتِهِ . قَالَ : وَهَلْ تَدْرِي أَيُّ الْعِلْمِ أَوَّلُ أَنْ يُرْفَعَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : لاَ أَدْرِي . قَالَ : الْخُشُوعُ،حَتَّى لاَ تَكَادُ تَرَى خَاشِعًا." (1)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ،قَالَ : حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمًا،فَقَالَ : هَذَا أَوَانٌ يُرْفَعُ الْعِلْمُ،فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ زِيَادٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،يُرْفَعُ الْعِلْمُ،وَقَدْ أُثْبِتَ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ ؟ فَقَالْ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،ثُمَّ ذَكَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ،قَالَ : فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ،فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ،فَقَالَ : صَدَقَ عَوْفٌ،أَلاَ أَدُلُّكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ ؟ يُرْفَعُ الْخُشُوعُ،حَتَّى لاَ تَرَى خَاشِعًا." (2)
ومن النوع الثاني من المُحادَثةِ والمُوازَنةِ العقلية :
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَضْحًى ، أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى (3) ، فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَقَامَ ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ ، قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، تَصَدَّقُوا ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ ، فَإِنِّي أَرَاكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ (4) ، فَقُلْنَ : وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ (5) ، مَا رَأَيْتُ مِنَ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ ، يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، فَقُلْنَ لَهُ : مَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 946)(23990) 24490- صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 115) (6720) صحيح
(3) أي مصلّى العيد .
(4) إن الله تعالى أراهن له كذلك في ليلةِ الإسراء .
(5) أي الزوج . تكفرن نعمته وتجحدنها لأدنى خصومة أو خلاف .(1/175)
مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ؟ قُلْنَ : بَلَى ، قَالَ : فَذَاكَ نُقْصَانُ عَقْلِهَا (1) ، أَوَ لَيْسَتْ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ : بَلَى ، قَالَ : فَذَاكَ نُقْصَانُ دِينِهَا " (2)
قَالَ الكلاباذي رحمه اللهُ : " فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْعَطَاءَ وَلَمْ يَصْبِرْ عِنْدَ الْبَلَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّكُورَ فِي الْعِبَادِ قَلِيلٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ أَيِ الشَّكُورُ مِنَ النَّاسِ قَلِيلٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ ، فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ " فَالْوَاحِدُ مِنَ الْأَلْفِ قَلِيلٌ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ " . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشَّكُورُ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ وَالْمُوَحِّدِينَ بِأَجْمَعِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُورُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلًا ، ذَلِكَ إِنَّ الشَّكُورَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَةِ الشُّكْرِ فَيَكُونُ شَاكِرٌ وَشَكَّارٌ وَشَكُورٌ ، فَالشَّكُورُ الَّذِي يَشْكُرُ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَكَادُ يَكْفُرُ نِعْمَةً مَا ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ قَلِيلٌ وَكُلُّهُمْ شَاكِرُونَ ، وَالشَّكَّارُ فِيهِمْ كَثِيرٌ ، وَالشَّكُورُ قَلِيلٌ فَيَكُونُ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ شَاكِرِينَ ، وَالشَّكُورُ مِنْهُمْ قَلِيلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ خَصَّ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَكُلُّهُمْ عِبَادُهُ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ . وَمَعْنَى تَفْسِيرِ الْفُسَّاقِ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَنَّ صِفَةَ كُفْرَانِ الْعَطَاءِ وَتَرْكِ الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ فِيهِنَّ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي نُقْصَانٍ مِنْ آلَةِ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ وَعِلَّتِهِمَا ، وَذَلِكَ هَوَانُ الْعَقْلِ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا رَأَيْتُ مِنَ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَسْلَبَ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْهُنَّ " وَنُقْصَانُ دِينِهِنَّ بِالْحَيْضِ ، وَنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ بِالشَّهَادَةِ . فَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الدِّينِ ، فَمَنْ رَقَّ دِينُهُ وَسَخِفَ عَقْلُهُ ، قَلَّ شُكْرُهُ وَصَبْرُهُ ، وَمَنْ تَرَكَ الشُّكْرَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ ، وَالصَّبْرَ فِي أَكْثَرِ الْبَلْوَى ، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر : ((بكسر الكاف خطاباً للواحدة التي تولت الخطاب . ويجوز فتحها على أنه للخطاب العام))
(2) - صحيح ابن حبان - (13 / 54) (5744) وصحيح البخارى- المكنز - (304 )(1/176)
الدِّينِ وَالْعَقْلِ ، وَالنَّارُ مَأْوَى مَنْ لَا دَيِنَ لَهُ وَلَا عَقْلَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النَّارِ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الدِّينِ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَقْلِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّاتِي لَا يَشْكُرْنَ الْعَطَاءَ ، وَلَا يَصْبِرْنَ عَلَى الْبَلَاءِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِنَّ ، وَأَكْثَرِ حَالَاتِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ فُسَّاقٌ ، وَالْفُسَّاقُ فِي النَّارِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " قُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ يَدْخُلُهَا النِّسَاءُ " (1)
قال القرطبي : " قوله : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ ، وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، هذا نداءٌ لجميع نساء العالم إلى يوم القيامة ، وإرشادٌ لهنَّ إلى ما يُخَلِّصُهُنَّ من النار ، وهو الصدقةُ مطلقًا ، واجبُهَا وتطوُّعُهَا.
والظاهر : أنّ المراد هنا القدرُ المشترَكُ بين الواجبِ والتطوُّع ؛ لقوله في بعض طرقه : ولو مِنْ حُلِيِّكُنَّ.
والاستغفار : سؤالُ المغفرة ، وقد يعبَّر به عن التوبة ؛ كما قال تعالى :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (10) سورة نوح، أي : توبوا إليه وإنما عبَّر عن التوبةِ بالاستغفارِ ؛ لأنَّه إنَّما يصدُرُ عن الندمِ وحَلِّ الإصرار ، وذلك هو التوبة.
فأمَّا الاستغفارُ مع الإصرارْ ، فحالُ المنافقين والأشرارْ ، وهو جديرٌ بالردِّ وتكثيرِ الأوزارْ ، وقد قال بعضُ العارفين : "الاستغفارُ باللسانِ توبةُ الكذَّابين".
وقوله : رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، أي : اطَّلَعَ على نساءٍ آدميَّات ، من نوع المخاطَبَات ، لا أنفس المخاطبات ؛ كما قال في الرواية الأخرى : اطَّلَعْتُ عَلَى النَّارِ ، فَرَأَيْتُ َأكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ.
فلمَّا سمع النساءُ ذلك ، عَلِمْنَ أنَّ ذلك بسبب ذنبٍ سبَقَ لهنَّ ، فبادرَتْ هذه المرأةُ لجزالتها وشِدَّةِ حرصها على ما يُخَلِّصُ من هذا الأمر العظيم ، فسأَلَتْ عن ذلك ، فقالت : " وَمَا لَنَا أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟" ، فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله : تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ ، وتَكْفُرْنَ العشيرَ ، أي : يدور
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (279 )(1/177)
اللعنُ على ألسنتهنَّ كثيرًا لمن لا يجوزُ لعنه ؛ وكأنَّ هذا كان عادةً جاريةً في نساء العرب ، كما قد غَلَبَتْ بعد ذلك على النساءِ والرجال ، حتَّى إنَّهم إذا استحسنوا شيئًا ربَّما لعنوه ، فيقولون : "ما أشعرَهُ! لَعَنَهُ الله!!" ، وقد حكى بعضهم أنَّ قصيدةَ ابنِ دُرَيْدٍ كانتْ تسمَّى عندهم : الملعونة ؛ لأنَّهم كانوا إذا سمعوها ، قالوا : "ما أشعرَهُ! لعَنَهُ اللهُ!!" ، وقد تقدَّم أنَّ أصل اللعن : الطردُ والبُعْد.
والعَشِير : هو المعاشرُ والمخالط مطلقًا ، والمرادُ به هنا : الزَّوْج ، والكفر : كفرانُ الحقوق ؛ ويدلُّ على صحَّة الأمرين : حديثُ الموطَّأ ، الذي قال فيه : يَكْفُرْنَ ، قيل : أَيَكْفُرْنَ بالله ؟ قال : يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ .
والجَزَالَة : الشهامةُ والحِدَّة ، مع العقل والرفق ؛ قال ابن دُرَيْد : "الجزالةُ : الوقارُ والعقل ، وأصلُ الجزالة : العِظَمُ من كلِّ شيء ، ومنه : عطاءٌ جَزْلٌ.
واللُّبُّ : العقلُ ، سمِّي بذلك ؛ لأنَّه خلاصةُ الإنسان ولبُّه ولبابُهُ ، ومنه سُمِّيَ قلب الحبَّة : لُبًّا.
والعقلُ الذي نُقِصَهُ النساء : هو التثبُّتُ في الأمور ، والتحقيقُ فيها ، والبلوغُ فيها إلى غاية الكمال ، وهُنَّ في ذلك غالبًا بخلافِ الرجال.
وأصل العقل : العلمُ ، وقد يقال على : الهدوءِ والوقارِ والتثبُّتِ في الأمور.
وللعلماءِ خلافٌ في حَدِّ العقل المشتَرَطِ في حَدِّ التكليف ليس هذا موضعَ ذكره.
والدِّين هنا يرادُ به : العباداتُ ، وليس نقصانُ ذلك في حقِّهنَّ ذمًّا لهنَّ ؛ وإنَّمَا ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك مِنْ أحوالهنَّ على معنى التعجيبِ من الرجال ، حيثُ يغلبهم مَنْ نقَصَ عن درجتهم ، ولم يبلُغْ كمالهم ؛ وذلك هو صريحُ قوله - صلى الله عليه وسلم - : مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ ؛ وذلك نحوٌ ممَّا قاله الأعشى فيهنَّ :
وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
ونحوُ قولهم فيما جرَى مجرى المثل : يَغْلِبْنَ الكِرَامْ ، ويَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامْ.(1/178)
وفيه : مايدلُّ على أنَّ الحائضَ لا تُصَلِّي ولا تصومُ مُدَّةَ حَيْضِها ، وهو مجمعٌ عليه ، وبالله تعالى التوفيق." (1)
وقال الحافظ ابن حجر : " وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية الخروج إلى المصلى في العيد، وأمر الإمام الناس بالصدقة فيه، واستنبط منه بعض الصوفية جواز الطلب من الأغنياء للفقراء وله شروط، وفيه حضور النساء العيد، لكن بحيث ينفردن عن الرجال خوف الفتنة، وفيه جواز عظة الإمام النساء على حدة وقد تقدم في العلم، وفيه أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم، استدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليها بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو محمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج عن الملة تغليظا على فاعلها لقوله في بعض طرقه: "بكفرهن " كم تقدم في الإيمان، وهو كإطلاق نفي الإيمان، وفيه الإغلاظ في النصح بما يكون سببا لإزالة الصفة التي تعاب، وأن لا يواجه بذلك الشخص المعين لأن التعميم تسهيلا على السامع، وفيه أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها قد تكفر الذنوب التي بين المخلوقين، وأن العقل يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك الإيمان كما تقدم، وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرا من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس، نقص، الدين منحصرا فيما يحصل به الإثم بل في أعم من ذلك قاله النووي، لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهري أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليست كذلك. وعندي - في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب - وقفة، وفي الحديث أيضا مراجعة المتعلم لمعلمه والتابع لمتبوعه فيما لا يظهر له معناه، وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الخلق العظيم والصفح الجميل
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (2 / 32)(1/179)
والرفق والرأفة، زاده الله تشريفا وتكريما وتعظيما." (1)
وعن ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ ، وَأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ » . قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) قَالَتْ فَقَالَ « إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ » (2) .
" وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تقهم معاني الحديث، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم. وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب. وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نهي الصحابة عنه في قوله تعالى :{لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} وفي حديث أنس: "كنا نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء " (3) وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث عَنْ حَفْصَةَ ، قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي لأَرْجُو أَلاَّ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَالْحُدَيْبِيَةَ ، قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ، قَالَ : أَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ : {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. (4) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالُوا : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ : {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. " (5) . والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاص. ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلا مع توجه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي، فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتا كما قال تعالى
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 406)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (103 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (111)
(4) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (5 / 345)(4281) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 164)(4240) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (4240)(1/180)
:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وفي حديث عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَاحْذَرُوهُمْ (1) . ومن ثم أنكر عمر على صبيغ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك (2) وعاقبه " (3)
الخلاصة:
(1) استخدام الأسلوب العقلي في الإقناع وسيلة جيدة تضمن وصول المعلومة إلى ذهن السامع،على ما أراده المتحدث .
(2) مراعاة البساطة في المحاورة العقلية،وإشراك التلميذ في المحاورة لكي يحصل التفاعل .
(3) تقريب ( المحاورة العقلية ) إلى أدنى شيء ممكن أن يحسه أو يعقله التلميذ،كقصة الأعرابي الذي جاءه ولد أسود،فضرب له الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالاً من أقرب الأشياء إليه وهي إبله .
(4) مراعاة حال السامع،وهل هو ممن تؤثر فيه الأدلة العقلية أم لا
ــــــــ
6- التعليم عن طريق القصص :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 50)(24210) 24714- وصحيح البخارى- المكنز - (4547 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6946 )
(6/48)
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (146) صحيح
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار الفكر - (1 / 197)(1/181)
القصة لها قدرة عظيمة في جذب النفوس،وحشد الحواس كلها للقاص . وذلك لأن القصة بطبعها محببة إلى النفس البشرية،لما فيها من ذكر أخبار الماضين،وذكر الوقائع،والنوادر وغير ذلك،أضف إلى ذلك أن القصة من شأنها أنها تعلق بالذهن ولا تكاد تنسى وهذا أمر واضح للعيان يعلمه كل أحد.ولذا فقد اعتنى القرآن الكريم بذكر القصص في القرآن لما فيها من تسلية النفس،وتقوية العزائم،وأخذ العبر والاتعاظ ومعرفة أخبار الماضين،وحفظ الأحداث،وغيرها كثير،والقرآن الكريم لم يعرض هذه القصص لمجرد التسلية فقط،لا .
بل إن المتأمل لهذه القصص يجد بين طياتها وبين ثناياها تقرير مسائل التوحيد،وكذلك بيان حكم الله الباهرة وسننه في عباده التي لا تتبدل ولا تتغير،وقد يوجد في بعض منها بيان أحكام فقهية كقوله تعالى في قصة يوسف {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} (72) سورة يوسف.
وفي هذه الآية كثير من الأحكام الفقهية،قال القرطبي :
" الزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء والزعيم الرئيس. قال :
وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزورا
وقالت ليلى الأخيلية ترثي أخاها :
ومخرق عنه القميص تخاله ...يوم اللقاء من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما
الثانية : -إن قيل : كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول،وضمان المجهول لا يصح ؟ قيل له : حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق ؛ فصح ضمانه،غير أنه كان بدل مال للسارق،ولا يحل للسارق ذلك،فلعله كان يصح في شرعهم أو كان هذا جعالة،وبذل مال لمن كان يفتش ويطلب.
الثالثة : - قال بعض العلماء : في هذه الآية دليلان :
أحدهما : جواز الجُعْل وقد أجيز للضرورة ؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره
الرابعة : - متى قال الإنسان،من جاء بعبدي الآبق فله دينار لزمه ما جعله فيه إذا جاء به ؛(1/182)
الخامسة : - الدليل الثاني : جواز الكفالة على الرجل ؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف عليه السلام ...
السادسة : - واختلف العلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال ؛ هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما ؟
السابعة : - الزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها،مما يتعلق بالذمة من الأموال ...." (1)
فمن هذا يعلم أن القصص لها دور كبير في تعليم الناس وتربيتهم، وكثيراً ما كان - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُ أصحابَه بطريق القَصَصِ والوقائع التي يُحدِّثُهم بها عن الأقوام الماضين،فيكونُ لها في نفوسِ سامعيها أطيبُ الأثر،وأفضلُ التوجيه،وتَحْظى منهم بأوفى النشاطِ والانتباه،وتقَعُ على القلبِ والسَّمع أطيب ما تكون،إذ لا يُواجَهُ فيها المخاطَبُ بأمْرٍ أو نَهْي،وإنما هو الحديثُ عن غيره،فتكونُ له منه العِبْرةُ والموعظةُ والقُدوةُ والائتساء . وقد سنَّ الله تعالى هذا الأسلوبَ الكريم في تعليمه لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ،فقال سبحانه : (وكُلاًّ نقُصُّ عليك مِن أنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ به فُؤادَكَ) .
ومن ذلك حَديثُه - صلى الله عليه وسلم - في الترغيبِ في الحُبِّ في الله،والمؤاخاةِ الخالِصَةِ للخيرِ والدّين .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، قَالَ : فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا (2) ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ (3) ، قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، فقَالَ لَهُ : هَلْ لَهُ عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا (4) ؟ قَالَ : لاَ ، غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّهُ فِي اللهِ ، قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ ، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ." (5)
__________
(1) - تفسير القرطبي موافق للمطبوع - (9 / 231)
(2) المدرجة : الطريق . وأرصده : أقعَدَه يرقُبُه ، والملَكُ الذي أرصده الله تعالى على طريق الرجل الزائر لأخيه في الله تعالى ، كان في صورة إنسان عاديّ ، لا في صورتِهِ على خِلْقتِهِ الحقيقيّة .
(3) أي الملَكُ للزائر المسافِرِ لزيارة أخيه في بلدٍ آخر .
(4) أي تقومُ بإصلاحها وتُسافِرُ إليه بسببها ، وتزورُهُ من أجلها .
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 331) (572) وصحيح مسلم- المكنز - ( 6714)(1/183)
" قَالَ الْعُلَمَاء : مَحَبَّة اللَّه عَبْده هِيَ رَحْمَته لَهُ ، وَرِضَاهُ عَنْهُ ، وَإِرَادَته لَهُ الْخَيْر ، وَأَنْ يَفْعَل بِهِ فِعْل الْمُحِبّ مِنْ الْخَيْر . وَأَصْل الْمَحَبَّة فِي حَقِّ الْعِبَاد مَيْل الْقَلْب ، وَاَللَّه تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ . فِي هَذَا الْحَدِيث فَضْل الْمَحَبَّة فِي اللَّه تَعَالَى ، وَأَنَّهَا سَبَب لِحُبِّ اللَّه تَعَالَى الْعَبْد ، وَفِيهِ فَضِيلَة زِيَارَة الصَّالِحِينَ وَالْأَصْحَاب ، وَفِيهِ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة ." (1)
والزيارة لها فوائد منها هذا الأجر العظيم ومنها أنها تؤلف القلوب وتجمع الناس وتذكر الناسي وتنبه الغافل وتعلم الجاهل وفيها مصالح كثيرة يعرفها من جربها (2)
ومن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - بطريق القصص والوقائع الماضية أيضاً : حديثُه في الحضِّ على الرحمةِ بالحيوان والإحسان إليه،والتحذيرِ من أذاه والإساءةِ إليه .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا ، فَشَرِبَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ (3) ، فقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي ، فَنَزَلَ الْبِئْرَ ، فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ ، فَسَقَى الْكَلْبَ (4) ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. (5) . يعني : في الإحسان إلى كل ذي روحٍ وحياةٍ أجر .
أي في كل كبدٍ حيَّةٍ . والمرادُ بالرطوبة في الكبد : رُطوبةُ الحياة فيها ، وهي لازمةٌ لكبد الإنسان أو الحيوان ما دام حياً ، والمعنى : في الإحسان إلى كل ذي حياة حيواناً كان أو إنساناً أجْر .
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 366)
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (2 / 498)
(3) الثرى : التراب النَّدِيّ . ومعنى (يأكلُ الثرى) أي يَلْحَسُ الثرى بلسانه من شدة العطش ، ليتبرَّد بطراوته ونداوته .
(4) أمسكه بفيه أي بفمه . وذلك لأنَّ يدَيْه مشغولتان بصُعودِه من البئر!
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6009) وصحيح مسلم- المكنز -(5996) وصحيح ابن حبان - (2 / 302) (544)(1/184)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « غُفِرَ لاِمْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِىٍّ يَلْهَثُ ، قَالَ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا ، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا ، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ » (1) .
" أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه. قال ابن العربي: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ " (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْض" (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لاَ هِىَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِىَ حَبَسَتْهَا وَلاَ هِىَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ (4) ». (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : دَخَلْتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلاَ هِيَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3321 )
(2) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (10 / 46)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2365) وصحيح مسلم- المكنز -(5989) وصحيح ابن حبان - (2 / 305)(546)
(4) - أي هَوامِّها وحشراتِها من فأرةٍ ونحوها من الحيوانات الصغيرة
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6841 )(1/185)
أَطْعَمَتْهَا ، وَلاَ هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ. (1)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو ، يَقُولُ : انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ وَقُمْنَا ، فَصَلَّى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا يُحَدِّثُنَا ، فَقَالَ : لَقَدْ عُرِضَتَ عَلَيَّ الْجَنَّةُ ، حَتَّى لَوْ شِئْتُ لَتَعَاطَيْتُ مِنْ قُطُوفِهَا ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَلَوْلاَ أَنِّي دَفَعْتُهَا عَنْكُمْ لَغَشِيَتْكُمْ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ثَلاَثَةً يُعَذَّبُونَ : امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْدَاءَ طَوِيلَةً ، تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا ، أَوْثَقَتْهَا فَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ ، وَلَمْ تُطْعِمْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَهِيَ إِذَا أَقْبَلَتْ تَنْهَشُهَا وَإِذَا أَدْبَرَتْ تَنْهَشُهَا ، وَرَأَيْتُ أَخَا بَنِي دَعْدَعٍ صَاحِبَ السَّائِبِتَيْنِ يُدْفَعُ بِعَمُودَيْنِ فِي النَّارِ ، وَالسَّائِبَتَانِ بَدَنَتَانِ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرَقَهُمَا ، وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْمِحْجَنِ مُتَّكِئًا عَلَى مِحْجَنِهِ ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمِحْجَنِ يَسْرِقُ مَتَاعَ الْجّاجِّ بِمِحْجَنِهِ ، فَإِذَا خَفِيَ لَهُ ذَهَبَ بِهِ ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أَسْرِقْ ، إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي. (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَاكَ فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ثُمَّ قَالَ « إِنَّهُ عُرِضَ عَلَىَّ كُلُّ شَىْءٍ تُولَجُونَهُ فَعُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ - أَوْ قَالَ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا - فَقَصُرَتْ يَدِى عَنْهُ وَعُرِضَتْ عَلَىَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِى هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِى النَّارِ. وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ إِلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ وَإِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُرِيكُمُوهُمَا فَإِذَا خَسَفَا فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِىَ ». (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 438)(5621) وصحيح مسلم- المكنز - (5992)
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 439)(5622) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (2138 )
الخشاش : هوام الأرض وحشراتها واحده خَشَاشَة -القُصب : الأمعاء(1/186)
وَفِي الْحَدِيث دَلِيل لِتَحْرِيمِ قَتْل الْهِرَّة ، وَتَحْرِيم حَبْسهَا بِغَيْرِ طَعَام أَوْ شَرَاب . وَأَمَّا دُخُولهَا النَّار بِسَبَبِهَا فَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَة ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ النَّار بِسَبَبِ الْهِرَّة . وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوز أَنَّهَا كَافِرَة عُذِّبَتْ بِكُفْرِهَا ، وَزِيدَ فِي عَذَابهَا بِسَبَبِ الْهِرَّة ، وَاسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مُؤْمِنَة تُغْفَر صَغَائِرهَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر . هَذَا كَلَام الْقَاضِي ، وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَة ، وَأَنَّهَا دَخَلَتْ النَّار بِسَبَبِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِر الْحَدِيث ، وَهَذِهِ الْمَعْصِيَة لَيْسَتْ صَغِيرَة ، بَلْ صَارَتْ بِإِصْرَارِهَا كَبِيرَة ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّهَا تَخْلُد فِي النَّار ، وَفِيهِ وُجُوب نَفَقَة الْحَيَوَان عَلَى مَالِكه . وَاللَّهُ أَعْلَم ." (1)
وعَنْ خَبَّابٍ،قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ،فَقُلْنَا : أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا،أَلاَ تَدْعُو لَنَا ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ،فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ،فَيُجْعَلُ بِنِصْفَيْنِ،وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ فِيمَا دُونَ عَظْمِهِ وَلَحْمِهِ،فَمَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ،وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ،لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ،وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. (2)
فهذه القصة التي ساقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها من الحكم والعبر لا يعلمها إلا من أعطاها حقها من التأمل،ففيها أن الابتلاء بالتعذيب وغيره لأهل التوحيد سنَّة ماضية،وفيها ثبات من كان قبلنا على الحق لا يصده عن دينه شيء ولو كان الثمن حياته،وفيها إخبار بالغيب عندما أخبر عن ظهور هذا الدين،وفيها بيان فضيلة الصبر وذم الاستعجال بقوله : ( ولكنكم تستعجلون ) .
قال ابن عثيمين : " أقسم - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر يعني سيتم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من دعوة الإسلام حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون أي فاصبروا وانتظروا الفرج من الله فإن الله سيتم
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (7 / 415)
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 91) (6698) وصحيح البخارى- المكنز - (6943)(1/187)
هذا الأمر وقد صار الأمر كما أقسم - صلى الله عليه وسلم - ففي هذا الحديث آية من آيات الله حيث وقع الأمر مطابقاً لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وآية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صدقه الله بما أخبر به وهذه شهادة له من الله بالرسالة كما قال الله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً وفيه أيضاً دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين وإذا صبر الإنسان ظفر فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ولا يظن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة .
قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذنهم وربما يقتلونهم كما قتلوا الأنبياء .
اليهود من بني إسرائيل قتلوا الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين، فليصبر ولينتظر الفرج ولا يمل ولا يضجر بل يبقى راسيا كالصخرة والعاقبة للمتقين والله تعالى مع الصابرين .
فإذا صبر وثابر وسلك الطرق توصل إلى المقصود ولكن بدون فوضى وبدون استنفار وبدون إثارة بطريق منظمة لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطا ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم .
أما السطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويستنفروا فإنه قد يفوتهم شيء كثير وربما حصل منهم زلة تفسد كل ما بنوا إن كانوا قد بنوا شيئاً .
لكن المؤمن يصبر ويتئد ويعمل بتؤده ويوطن نفسه ويخطط تخطيطاً منظماً يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ويفوت عليهم الفرص لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير يريدون أن يثيروهم حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا هذا الذي نريد وحصل بذلك شر كبير .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه اصبروا فالمؤمن فيمن قبلكم - وأنتم أحق بالصبر منه - كان يعمل به هذا العمل ويصبر فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان فاصبروا حتى يأتي الله بأمره والعاقبة للمتقين .(1/188)
فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر ولكن اعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله ولا تمل فالدرب طويل لا سيما إذا كنت أول الفتنة فإن القائمين بها سوف يحاولون ما استطاعوا أن يصلوا إلى قمة ما يريدون فاقطع عليهم السبيل وكن أطول منهم نفساً وأشد منهم مكراً فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين والله الموفق ." (1)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَرَجَ ثَلاَثَةٌ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ،فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى جَبَلٍ،فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ . قَالَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ . فَقَالَ أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ،إِنِّى كَانَ لِى أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ،فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى،ثُمَّ أَجِىءُ فَأَحْلُبُ،فَأَجِىءُ بِالْحِلاَبِ فَآتِى بِهِ أَبَوَىَّ فَيَشْرَبَانِ،ثُمَّ أَسْقِى الصِّبْيَةَ وَأَهْلِى وَامْرَأَتِى،فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً . فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ - قَالَ - فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا،وَالصِّبِيْةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَىَّ،فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِى وَدَأْبَهُمَا،حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ . قَالَ فَفُرِجَ عَنْهُمْ . وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّى كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ،فَقَالَتْ لاَ تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ . فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا،فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتِ اتَّقِ اللَّهَ،وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ . فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا،فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً،قَالَ فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ .
وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ،وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ،فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ،فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا،ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِى حَقِّى . فَقُلْتُ انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا،فَإِنَّهَا لَكَ . فَقَالَ أَتَسْتَهْزِئُ بِى . قَالَ فَقُلْتُ مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ وَلَكِنَّهَا لَكَ . اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (1 / 127) وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 7126) رقم الفتوى 68459 شرح حديث(..لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه..)(1/189)
وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا . فَكُشِفَ عَنْهُمْ » (1)
وقال ابن تيمية : " وفي هذا: دليل على الإخلاص لله عز وجل في العمل وأن الإخلاص عليه مدار كبير في قبول العمل فتقبل الله منه هذه الوسيلة وانفرجت الصخرة لكن انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه .
الثاني توسل إلى الله عز وجل بالعفة التامة وذلك أنه كان له ابنة عم وكان يحبها حباً شديداً كأشد ما يحب الرجال النساء فأراداها عن نفسها أي بالزنا ليزني بها ولكنها لم توافق وأبت، فألمت بها سنة من السنين أي أصابها فقر وحاجة فاضطرت إلى أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة وهذا لا يجوز، ولكن هذا الذي حصل فجاءت إليه فأعطاها مائة وعشرين ديناراً أي: مائة وعشرين جنيهاً من أجل أن تمكنه من نفسها .
ففعلت من أجل الحاجة والضرورة، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته على أنه يريد أن يفعل بها قالت هذه الكلمة العجيبة العظيمة: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه .
فخوفته بالله عز وجل وأشارت إليه إلا أنه إن أراد هذا بالحق فلا مانع عندها لكن كونه يفض الخاتم بغير حق هي لا تريده، ترى أن هذا من المعاصي ولهذا قالت له اتق الله فلما قالت هذه الكلمة التي خرجت من أعماق قلبها دخلت في أعماق قلبه وقام عنها وهي أحب الناس إليه، يعني ما زالت رغبته عنها ولا كرهها بل حبها باق في قلبه، لكن أدركه خوف الله عز وجل فقام عنها وترك لها الذهب الذي أعطاها مائة وعشرين ديناراً، ثم قال: اللهم إن كنت فعلت هذا لأجلك فافرج عنا ما نحن فيه فانفجرت الصخرة إلا أنهم لا يستطيعون الخروج وهذا من آيات الله لأن الله على كل شيء قدير لو شاء الله تعالى لانفرجت عنهم لأول مرة .
ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يبقي هذه الصخرة حتى يتم لكل واحد منهم ما أراد أن يتوسل به من صالح الأعمال .
__________
(1) صحيح البخارى- المكنز - (2215 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7127 )
الحلاب : الإناء الذى يحلب فيه اللبن -يتضاغون : يبكون ويصيحون
الفرق : مكيال يسع ستة عشر رطلا(1/190)
أما الثالث فتوسل إلى الله عز وجل بالأمانة والإصلاح والإخلاص في العمل فإنه يذكر أنه استأجر أجراء، على عمل من الأعمال فأعطاهم أجورهم إلا رجلاً واحداً ترك أجره فلم يأخذه، فقام هذا المستأجر فثمر المال فصار يتكسب به بالبيع والشراء وغير ذلك حتى نما وصار منه إبل وبقر وغنم ورقيق وأموال عظيمة .
ففي هذا الحديث من الفوائد والعبر فضيلة بر الوالدين وأنه من الأعمال الصالحة التي يفرج بها الكربات ويزيل بها الظلمات .
وفيه فضيلة العفة عن الزنا وأن الإنسان إذا عف عن الزنا مع قدرته عليه فإن ذلك من أفضل الأعمال وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله .
فهذا الرجل مكنته هذه المرأة التي يحبها من نفسها فقام خوفاً من الله عز وجل فحصل عنده كمال العفة فيرجى أن يكون ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
وفي هذا الحديث دليل على فضل الأمانة وإصلاح العمل للغير فإن هذا الرجل بإمكانه لما جاءه الأجير أن يعطيه أجره ويبقي هذا المال له، ولكن لأمانته وثقته وإخلاصه لأخيه ونصحه له أعطاه كل ما أثمر أجره .
ومن فوائد هذا الحديث بيان قدرة الله عز وجل حيث إنه تعالى أزال عنهم الصخرة بإذنه لم تأت سيارة تزيلها ولم يأت رجال يزحزحونها وإنما هو أمر الله عز وجل .
أمر الله هذه الصخرة أن تنحدر فتنطبق عليهم ثم أمرها أن تنفرج عنهم والله سبحانه على كل شيء قدير .
وفيه من العبر: أن الله سميع الدعاء فإنه سمع دعاء هؤلاء واستجاب لهم .
وفيه من العبر: أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه .
أما الرياء والعياذ بالله والذي لا يعمل الأعمال إلا رياء وسمعة حتى يمدح عند الناس فإن هذا كالزبد يذهب جفاء لا ينتفع منه صاحبه نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص له(1/191)
الإخلاص هو كل شيء لا تجعل نصيباً من عبادتك لأحد اجعلها كلها لله عز وجل حتى تكون مقبولة عند الله لأنه ثبت عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ » (1) . والله الموفق . " (2)
والقصص في السنة كثيرة ولولا الإطالة لسقت بعضاً منها ولكن أكتفي بإشارات إليها،فمنها قصة الثلاثة (الأعمى،والأبرص،والأقرع ) الذين أتاهم الملك..وقصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر،وغيرها كثير .
وعلى المعلم .. أن لا يكون همه سرد القصص فقط،بل عليه بيان مواضع العبر منها،وبيان الفوائد المستنبطة من القصة،وبيان الأحكام الواردة فيها إن كان فيها أحكام .. إلخ .
الخلاصة:
(1) القصص تألفها النفوس،ولها تأثير عجيب في جذب انتباه السامع وحفظ أحداث القصة بسرعة.
(2) القصة لم توضع للتسلية المجردة فقط بل للاعتبار والاتعاظ والتعلم .
(3) القصص لها أثرها البالغ في التأثير على سلوكيات الطلاب،خصوصاً إذا كانت القصة واقعية وتعالج قضايا هامة .
(4) القصة وسيلة قوية للتعليم فيجب الاعتناء بها،وإعطاؤها قدراً كبيراً من الاهتمام . (3)
ــــــــ
7- ضرب الأمثال أثناء التعليم :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7666 )
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (1 / 45)
(3) - انظر كتابي (( قصة قارون دروس وعبر )) وكتابي (( قصة أصحاب القرية دروس وعبر ))(1/192)
يحتاج المعلم والمربي إلى وسيلة تقرب المسألة المعقدة أو المعضلة إلى الأذهان،أو توضح الفكرة الصعبة.وبأسلوب آخر فإن المعلم قد تواجهه بعض الصعوبات في إيصال المعلومات إلى ذهن السامع،فيحتاج إلى وسيلة أخرى مساعدة تحل هذا الإشكال،وتفتح المجال أمام ذهن الطالب فيتعلم المسألة الصعبة بسهولة ويسر.
والمثل لغة : صيغة المثل وما يشتق منها تفيد التصوير والتوضيح،والظهور والحضور والتأثير . فالمثل هو الشيء المضروب الممثل به الذي تتضح به المعاني وهو صفة الشيء أيضاً (1) .
والقرآن الكريم حافل بذكر الأمثال،وهي كثيرة جداً : فمن ذلك قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24)تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } (26) سورة إبراهيم
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ حَالَ الأَشْقِيَاءَ،وَمَا يُلاَقُونَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الأَهْوَالِ الشَّدِيدَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،كَمَا بَيَّنَ حَالَ السُّعَدَاءِ الأَبْرَارِ وَمَا يَنَالُونَهُ مِنْ فَوْزٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلاً يُبَيِّنُ حَالَ الفَرِيقَيْنِ،وَيُوَضِّحُ الفَرْقَ بَيْنَهُمَا،لِتَقْرِيبِ الصُّورَةِ إِلَى العُقُولِ وَالأَفْهَامِ فَقَالَ تَعَالَى : أَلَمْ تَعْلَمْ يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ عِلْمَ اليَقِينِ،كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً وَوَضَعَهُ المَوْضِعَ اللاَّئِقَ بِهِ،فَشَبَّهَ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ ( وَهِي الإِيمَانُ الثَّابِتُ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ الذِي يَرْفَعُ بِهِ عَمَلُهُ إِلَى السَّمَاءِ،وَتَنَالُهُ بَرَكَتُهُ وَثَوَابُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ )،بِالشَّجَرَةِ المُثْمِرَةِ الجَمِيلَةِ المَنْظَرِ التِي أَصْلُهَا رَاسِخٌ فِي الأَرْضِ وَفُروعُهَا مُتَصَاعِدَةٌ إِلى السَّمَاءِ .
وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ عَلَيْهَا ثِمَارُهَا فِي كُلِّ حِينٍ،وَفِي كُلٍّ آنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا اللهِ،كَذَلِكَ المُؤْمِنُ لاَ يَزَالُ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ،فِي كُلِّ وَقْتٍ،وَفِي كُلِّ حِينٍ،وَاللهُ يَضْرِبُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لِيُقَرِّبَ الأُمُورَ إِلَى أَفْهَامِهِمْ،وَيَزِيدَ فِي إِيضَاحِهَا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ وَيَتَذَكَّرُونَ . وَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِكَلِمَةِ الكُفْرِ وَمَا مَاثَلَهَا ( كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ )،شَجَرَةً خَبِيثَةً كَالحَنْظَلِ
__________
(1) - الأمثال في القرآن الكريم . لابن القيم الجوزية . ص28 تحقيق سعيد محمد نمر الخطيب ( ط.دار المعرفة ) والكلام من قول المحقق .(1/193)
وَنَحْوِهِ،لَيْسَ لَهَا جُذُورٌ ثَابِتَةٌ فِي الأَرْضِ،وَفُرُوعُهَا لاَ تَتَجَاوَزُ سَطْحَ الأَرْضِ،وَقَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ فَوْقِ الأًَرْضِ لأنَّ عُرُوقَها قَرِيبةٌ مِنْ سَطْحِ الأَرْضِ،وَأُلْقِيَتْ .
كَمَا أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الخَبِيثَةَ لاَ ثَبَاتَ لَهَا وَلاَ دَوَامَ،وَثَمَرُهَا مُرُّ المَذَاقِ،كَذَلِكَ الكُفْرُ لاَ يَدُومُ وَلاَ يَثْبُتُ،وَعَاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ . (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ : تَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْإِقْرَارَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَتُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ , وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ , وَتَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُنْكَرُ هُوَ التَّكْذِيبُ , وَهُوَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرِ وَفِي قَوْلِهِ : وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا , قَالَ : هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،وَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَفِي قَوْلِهِ : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ يَقُولُ لِلَّذِينَ شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْجَنَّةَ وَفِي قَوْلِهِ : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ , يَقُولُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ يَقُولُ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَفِي قَوْلِهِ : إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا قَالَ : الْعَهْدُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَيَبْرَأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ وَفِي قَوْلِهِ : وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى يَقُولُ : الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَفِي قَوْلِهِ : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا , يَقُولُ : مَنْ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمِنْهَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَيْرُ , وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ وَهُوَ الشِّرْكُ يَقُولُ : فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وَفِي قَوْلِهِ : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَصَدَّقَ بِهِ يَعْنِي : بِرَسُولِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ يَقُولُ : اتَّقُوا الشِّرْكَ , وَفِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا يَقُولُ : إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّبُّ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ مُنْتَهَى الصَّوَابِ , وَفِي قَوْلِهِ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ : أَصْلُهَا ثَابِتٌ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ , وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يَقُولُ : يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إِلَى السَّمَاءِ , ثُمَّ قَالَ : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ يَقُولُ : الشِّرْكُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يَعْنِي : الْكَافِرَ , اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يَقُولُ : الشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَأْخُذُ بِهِ الْكَافِرُ وَلَا بُرْهَانٌ , وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا " (2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1775)
(2) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (205 ) حسن(1/194)
وعن سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ،فِي قَوْلِهِ : ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ قَالَ : " فَكَذَلِكَ مَثَلُ الْكَافِرِ فِي الْبَحْرِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَهِيَ ظُلُمَاتٌ إِحْدَاهُنَّ اللَّيْلُ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ إِلَى قَوْلِهِ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ،وَذَلِكَ أَنَّ عَمَلَهُ كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ،يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ،مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ،ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ،فَهَذِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الظُّلَمِ،وَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الظُّلَمِ،فَمَدْخَلُهُ فِي ظُلْمَةٍ،وَمَخْرَجُهُ فِي ظُلْمَةٍ،وَكَلَامُهُ فِي ظُلْمَةٍ،وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٍ،وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُّلُمَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَكَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ يَمْشِي فِي النَّاسِ لَا يَدْرِي مَا لَهُ وَمَاذَا عَلَيْهِ،إِنَّ اللَّهِ جَعَلَ طَاعَتَهُ نُورًا،وَمَعْصِيَتَهُ ظُلْمَةً،إِنَّ الْإِيمَانَ فِي الدُّنْيَا هُوَ النُّورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،ثُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ " (1)
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ... والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة،اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .. هو مشهد مأخوذ من جو السياق،ومن قصة النبيين والمكذبين،ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص. وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح،وهي تؤتي أكلها كل فترة،أكلا جنيا طيبا .. نبيا من الأنبياء .. يثمر إيمانا وخيرا وحيوية ..
ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقا،وأعرض مساحة،وأعمق حقيقة.
إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - كالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة .. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير،ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية،تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها،لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن ..
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - كالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى وتتشابك ويخيل إلى
__________
(1) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (13650 ) حسن(1/195)
بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة،وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض .. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض،فلا قرار لها ولا بقاء.
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب،ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة،ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان.
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي. مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق .. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعند ما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية،فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.
إن الخير بخير! وإن الشر بشر! «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض،ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة.
وفي ظل الشجرة الثابتة،التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه،فيرسمها : أصلها ثابت مستقر في الأرض،وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر،قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات.
في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة : «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» ..
وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات : «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» .. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق! يثبت اللّه الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر،الثابتة في الفطر،المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول وبوعده للحق بالنصر في الدنيا،والفوز في الآخرة .. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة،لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل،ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب.
ويضل اللّه الظالمين بظلمهم وشركهم (و الظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب) وبعدهم عن النور الهادي،واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم(1/196)
مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار اللّه .. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
«وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ..بإرادته المطلقة،التي تختار الناموس،فلا تتقيد به ولكنها ترضاه. حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة،ولا يقوم في طريقها عائق والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء. (1)
والمَثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي. وأنت تقول لصديق لك: هل رأيت فلاناً؟ فيقول لك: لا لم أراه؛ فتقول له: إنه يُشبه صديقنا علان. وهكذا توضح أنت مَنْ خَفِي عن مُخَيلة صديقك بمَنْ هو واضح في مُخَيلته.
والحق - سبحانه وتعالى - يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسَّة، كي ينقل المعاني إلى أذهاننا؛ لأن الإنسان له إلْفٌ بالمحُسِّ؛ وإدراكات حواسه تعطيه أموراً حسية أولاً، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].
وقد قال الكافرون: أيضرب الحق مثلاً ببعوضة؟ ذلك أنهم لم يعرفوا أن البعوضة لها حياة، وفيها حركة كأيِّ كائن؛ وتركيبها التشريحي يتشابه مع التركيب التشريحي لكل الأحياء في التفاصيل؛ ويؤدي كل الوظائف الحيوية المطلوبة منه.
ولا أحدَ غير الدارسين لعلم الحشرات يمكن أن يعرف كيف تتنفس، أو كيف تهضم طعامها؛ ولا كيفية وجود جهاز دمويّ فيها؛ أو مكان الغُدد الخاصة بها؛ وهي حشرة دقيقة الصنع.
وهو سبحانه ضرب الأمثال الكثيرة لِيُوضِّح الأمر الخفيّ بأمر جَليّ. ومن بعد ذلك ينتشر المثَل بين الناس. ونقول: إن كلمة " ضرب " مثلها مثل " ضرب العملة "،وكان الناس قديماً يأتون بقطع من الفضة أو الذهب ويُشكِّلونها بقدْر وشَكلْ مُحدّد لِتدُل على قيمة ما، وتصير بذلك عُمْلة متداولة، ويُقَال وشكَلْ - أيضاً - " ضُرِب في مصر " أي: اعتمد وصار أمراً واقعاً.
__________
(1) - فى ظلال القرآن موافقا للمطبوع - (4 / 2098)(1/197)
وكذلك المثل حين ينتشر ويصبح أمراً واقعاً.
والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة؛ ولها أربع خصائص:{ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ... } [إبراهيم: 24].أي: تعطيك طِيباً تستريح له نفسُك؛ إما منظراً أو رائحة أو ثماراً؛ أو كُل ذلك مجتمعاً؛ فقوله:{ كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ.. } [إبراهيم: 24].يُوحي بأن كُلّ الحواس تجد فيها ما يُريحها؛ وكلمة " طيبة " مأخوذة من الطِّيب في جميع وسائل الإحساس.
فالخاصة الأولى، أنها شجرة طيبة، أما الخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت، كإيمان المؤمن المحب، والثالثة أن فروعها في السماء، وهذا دليل أيضاً على ثبات الأصل وطيب منبتها.أما الخاصية الرابعة فهي أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: فيها عطاء المدد المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد، وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين.
وبما أنها شجرة طيبة؛ فهي كائن نباتيّ لا بُدّ لها من أن تتغذَّى لتحفظ مُقوِّمات حياتها. ومُقوِّمات حياة النبات توجد في الأرض، فإنْ كانت الشجرة مُخَلْخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ غذاءها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن تلك الشجرة: { أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ... } [إبراهيم: 24].وكلنا نظن أن الشجرة تأخذ غذاءها من الجذور فقط؛ ولكن الحقيقة العلمية تؤكد أن الشجرة تأخذ خمسة بالمائة من غذائها عَبْر الجذور؛ والباقي تأخذه من الهواء، وكلما كان الهواء نظيفاً فالشجرة تنمو بأقصى ما فيها من طاقة حتى تكاد أن تبلغ فروعها السماء. ... ... ...
أما إنْ كانت البيئة غيرَ نظيفة ومُلوّثة؛ فالهواء يكون غيرَ نظيف بما لا يسمح للشجرة أن تنمو المناسب؛ فتمُرُّ الأغيار غير المناسبة على الشجرة، فلا تستخلص منها الغذاء المناسب، ولا تنمو النمو المناسب.اللهم إلا إذا نزل عليها المطر فيغسل أوراقها.
إذن: فقول الحق سبحانه: { أَصْلُهَا ثَابِتٌ... } [إبراهيم: 24].يعني: أنها تأخذ من الأرض.وقوله:{ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ.. }[إبراهيم: 24].يُبيِّن أنها تأخذ من أعلى.
ويتابع سبحانه:{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ... } [إبراهيم: 25].والأُكُل هو ما يُؤْكل ويُتمتَّع به، ولكنّا لا نأخذ المعنى هنا على ما يُؤْكَل بالفم فقط؛ ذلك أن هناك أشجاراً ونباتات طيبة؛ لأن(1/198)
مزاجَ الكون العام يتطلبها؛ فالظل مثلاً يُستفاد منه؛ وكذلك هناك أشجار يتفاعل وجودها مع الأثير؛ ويأخذ منها رائحة طيبة.
والمثل في ذلك: الطفل البدويّ الذي شاهد نخيل جيرانه مثمراً بالبلح، ولكن النخلة التي يملكونها غير مثمرة، وتساءل: لماذا؟ وذهب ليقطعها، فلحقه والده ومنعه من ذلك، وقال له: إن نخلتنا هي الذكر الذي يُنتج اللقاح اللازم لبقية النخيل كي تثمر.
ولذلك فأنا لا أوافق المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير قوله الحق: { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ... }[إبراهيم: 24].
بأنها مثل شجرة التفاح وغيرها من الأشجار المثمرة؛ ذلك أن كل شجرة حتى ولو كانت شجرة حَنْظل فهي طيبة بفائدتها التي أودعها الحق إياها؛ فشجرة الحنظل نأخذ منها دواءً - قد يكون مرير الطَّعْم - لكنه يشفي بعضاً من الأمراض بإذن الله.
ذلك أن كل ما هو موصوف بشجرة له مهمة طيّبة في هذا الكون. وقَوْل الحق سبحانه: { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ... } [إبراهيم: 25].
يدلُّنا على أن هناك قدراً مشتركاً بين الشجر كله؛ مثمراً بما نراه من فاكهة أو غير ذلك.
وقد نبهنا العِلْم الحديث إلى أن كل خُضْرة إنما تُنَقِّي الجو بما تأخذ منه من ثاني أوكسيد الكربون، وبما تضيف لنا من أوكسجين؛ وتستمر الخضرة في ذلك نهاراً؛ وتقلب مهمتها بإرسال ثاني أوكسيد الكربون ليلاً وامتصاص الأوكسجين، وكأنها مُبَرْمجة على فَهْم أن النهار يقتضي الحركة.
ويحتاج الكائن الحي فيه إلى المزيد من وقود الحركة وهو الأوكسجين؛ والإنسان أثناء الحركة يستهلك كمية كبيرة من الأوكسجين؛ ونجد مَنْ يصعد سُلّماً ينهج لأن رئتيه تحاولان امتصاص أكبر قَدْر من الأوكسجين ليؤكسد الدم، وينتج الطاقة اللازمة للصعود. وهكذا نجد كل خُضْرة إنما تقوم بوظائف محددة لها سلفاً من قِبلَ الخالق الأعلى.
ولذلك اختلف العلماء عند تفسير: { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ.. } [إبراهيم: 25].فمنهم مَنْ قال: إن " الحين " يُطلْق على اللحظة؛ مثل قول الحق سبحانه:{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *(1/199)
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة: 83-84].
وقال مُفسِّر آخر: إن " الحين " يُقصد به الصباح والمساء، والحق سبحانه هو القائل:{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }[الروم: 17].
وأقول: فلننتبه إلى أن " الحين " هو الوقت الذي يحين فيه المقدور؛ فإذا كان الحين هو لحظةَ بلوغ الرُّوح إلى الحُلْقوم؛ فهذه اللحظة هي المراد ب " الحين " هنا، وإذا كان المقصود بها زمناً أطول من ذلك؛ صباحاً أو مساء؛ فهذا الزمن ينسحب عليه معنى الحين.
والحق سبحانه هو القائل:{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ... }[البقرة: 177].
والبأس يعني الحرب؛ ومُدة الحرب قد تطول. وكذلك يقول الحق سبحانه:{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }[الأعراف: 24].
وهكذا يكون معنى " الحين " هنا هو الأجل غير المُسمّى الذي يمتد إلى أن تتبدّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماء غير السماء. إذن: فلا يوجد توقيت مُحدد المدة يمكن أن نُحدد به معنى " حين ".
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم: 25].
وضَرْب المثل معناه إيقاع شيء صغير ليدل على شيء كبير؛ أو بشيء جليّ ليدل على شيء خفيّ؛ لِيُقرِّب المعنويات إلى وسائل الإدراكات الأولى، وهي مُدْركات الحِسِّ من سمع وبصر وبقية وسائل الإدراك.
وحين تأتي المعاني التي تناسب الطموح العقلي؛ فالإنسان يتجاوز مرحلة الحِسِّ إلى المعلومات المعنوية؛ فيقربها الحق سبحانه بأن يضرب لنا الأمثال التي توصل لنا المعنى المطلوب إيصاله.
والحق سبحانه لا يستحي - كما قال - أنْ يضربَ مثلاً بالبعوضة وما فوقها. والبعض من المستشرقين يقول: ولماذا لم يَقُلْ " وما تحتها "؟
ونقول لِمَنْ يقول ذلك: أنت لم تفهم اللغة العربية؛ لذلك لم تستقبل القرآن بالمَلَكة العربية؛ ذلك أن المَثل يُضرَب بالشيء الدقيق؛ وما فوق الدقيق هو الأدقُّ.(1/200)
والحق سبحانه يضرب لنا المَثل للحياة الدنيا، وهي الحياة التي من لَدُن خَلْق الله للإنسان؛ ذلك أنه كانت هناك أجناسٌ قبل الإنسان، وهو سبحانه هنا يُوضِّح لنا بالمثَل ما يخص الحياة من لحظة خَلْق آدم إلى أنْ تقومَ الساعة، وهو يطويها - تلك الحياة الطويلة العريضة التي تستغرق أعمال أجيالٍ - ويعطيها لنا في صورة مَثَلٍ موجز، فيقول لنا:{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }[الكهف: 45].
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة كلها في هذا المثل من ماء ينزل ونبات ينمو لينضج ثم تذروه الرياح.
وأيضاً يقول الحق سبحانه:{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً.. } [الحديد: 20].
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة الدنيا بطُولها وعَرْضها في هذا المَثل البسيط لنرى ما يُوضِّح لنا المعاني الخفية في صورة مُحسَّة بحيث يستطيع العقل الفطري أن يُدرِك ما يريده الله منها.
ونعلم أن المُحسَّات تدرك أولاً بعض الأشياء؛ ثم ترتقي إلى مرتبة التخيُّل؛ ثم يأتي التوهُّم؛ فمراحل الإدراك للأشياء الخفية هي الحِس أولاً؛ ثم التخيل ثانياً؛ ثم التوهم ثالثاً.
والتخيُّل هو أن تجمع صورة كلية ليس لها وجود في الخارج؛ وإنْ كانت مُكوَّنة من مادة وأشياء موجودة في هذا الخارج. والمَثل على ذلك هو قول الشاعر الذي أراد أنْ يصف الوَشْم على يد حبيبته، فقال:خوض كأنَّ بَنانَها في نَقْشهِ الوَشْم المُزردسَمكٌ من البِلَّور في شَبَكٍ تكوَّن من زَبرجَدِ وحين تبحث في الصورة الكلية لتلك الأبيات من الشعر؛ لن تجدها موجودة في الواقع؛ ولكن الشاعر أوجدها من مُكوِّنات ومُفْردات موجودة في الواقع؛ فالسمك موجود ومعروف؛والبِلَّور موجود ومعروف؛ وكذلك الشَّبك والزبرجد، وقام الشاعر بنسج تلك الصورة غير الموجودة من أشياء موجودة بالفعل، وهذا هو الخيال الذي يُقرِّب المعنى.
والتوهمُّ يختلف عن الخيال؛ فإذا كان التخيُّل هو تكوين صورة غير موجودة في الواقع من مفردات موجودة في هذا الواقع؛ فالتوهُّم هو صورة غير موجودة في الواقع، ومُكوَّن من(1/201)
مفردات غير موجودة في الواقع.والحق سبحانه يقول لنا عن الجنة:{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ... }[الزخرف: 71].
ويشرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك بمذكرة تفسيرية، فيقول: " فيها مَا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْب بشر ".
والعَيْن وسيلة إدراك وحسٍّ؛ وكذلك الأذن، أما ما لا يخطر على القلب فهو ليشرحه الخيال أوَ الوَهْم.وهكذا نعلم لماذا يضرب الله لنا الأمثال؛ لِيُوجِز لنا ما يشرح ويُوضِّح بأشياء قريبة من الفهم البشري.
وأنت حين تريد أن تكتب لصديق؛ فقد تُمسك الورقة والقلم وتُدبِّج رسالة طويلة؛ ولكن إنْ كنتَ تملك وقتك فستحاول أن تُركِّز كل المعاني في كلمات قليلة.
وحين طلب أحد القادة المسلمين النُّصْرة من خالد بن الوليد؛ وكان القائد الذي يطلب المساعدة مُحَاصَراً؛ وأرسل لخالد بن الوليد كلمتين اثنتين " إياك أريد "،وهكذا اختصر القائد المحاصر ما يرغب إيصاله إلى مَنْ ينجده، بإيجاز شديد.
والشاعر يقول:
إذَا أرادَ الله نَشْرَ فَضِيلَة طُوِيَتْ أتاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُود
لَوْلاَ اشتعالُ النَّار فيمَا جَاورَتْ مَا كَان يُعْرَف طيِبُ عَرْفِ العوُدِ
أي: أنه إذا كانت هناك فضيلة مكتومة نسيها الناس؛ فالحقُّ سبحانه يتيح لها لسانَ حاسدٍ حاقد لِيثُرثر ويُنقِّب؛ لتظهر وتنجلي؛ مثلما يُوضَعُ خشب العود - وهو من أَرْقَى ألوان البخور - في النار، فينتشر عِطْره بين الناس.
وهكذا ضرب الشاعر المَثَل لِيُوضِّح أمراً ما للقارئ أو السامع.
ويقول الشاعر ضارباً المَثل أيضاً:
وإذَا امْرؤٌ مدحَ امْرءاً لِنَوالِه وأَطَالَ فِيه فقدْ أطَالَ هِجَاءَه
ُلَوْ لَمْ يُقدِّر فيه بُعْد المُسْتقَى عند الوُرودِ لَمَا أطالَ رِشَاءَهُ
والمقاييس العادية تقول: إن المرء حين يمدح أحداً لفترة طويلة، فهذا يعني الرِّفْعة والمجد(1/202)
للممدوح. ولكن حين يقرأ أحدٌ قول هذا الشاعر قد يتعجَّب ويندهش، ولكنه يتوقف عند قول الشاعر أن الماء لو كان قريباً في البئر؛ لأخرجه العطشان بدلو مربوط بحبل قصير؛ ولكن إنْ كان الماء على بُعْد مسافة في البئر فهذا يقتضي حبلاً طويلاً لينزل الدلو إلى الماء.
وهذا يعني أن طول المدح إنما يُعبِّر عن فظاظة الممدوح الذي لا يستجيب إلا بالثناء الطويل؛ ولو كان الممدوح كريماً حقاً لاكتفى بكلمة أو كلمتين في مدحه.وهكذا يكون ضَرْبُ المثل توضيحاً وتقريباً للذهن.وهنا قال الحق سبحانه: { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم: 25]. والتذكر معناه أن شيئاً كان معلوماً بالفطرة؛ ولكن الغفلة طرأتْ؛ فيأتي المَثَلُ ليُذكِّر بالأمر الفطريّ. (1)
وقال السعدي : " إن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسوسة، ويتبين المعنى الذي أراده الله غاية البيان، ويتضح غاية الوضوح، وهذا من رحمته وحسن تعليمه. فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها، في قلب المؤمن." (2)
وكان - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحيان يَستَعين على توضيح المعاني التي يُريد بيانَها بضَرْبِ المثل،مما يَشْهَدُه الناسُ بأبصارِهم،ويَتَذَوَّقونَه بألسنتِهم،ويَقَع تحت حواسِّهم وفي مُتناوَلِ أيديهم،وفي هذه الطريقة تيسيرٌ للفهمِ على المتعلِّم،واستيفاءٌ تامٌ سريعٌ لإيضاح ما يُعلِّمُه أو يُحذِّرُ منه .
وقد تقرَّر عند علماء البلاغة أن لضربِ الأمثالِ شأناً عظيماً،في إبراز خَفِيّاتِ المعاني ورَفْعِ أستارِ مُحجَّباتِ الدَّقائق،وقد أكثرَ الله سبحانه من ضَرْبِ الأمثال في كتابه العزيز،واقتدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بالكتاب العزيز فكان يُكثِرُ من ذكر الأمثالِ في مُخاطباتِه ومَواعِظِه وكلامِه .
وقد جَمَع غيرُ واحد من الحفاظ (الأمثال) من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في كُتُب مُستقلّةٍ كما فعله الحافظ أبو الحسن العَسْكري،المتوفى سنة 310،وأبو أحمد العسكري،والقاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خَلاّد الرّامَهُرْمُزي،وكتابُه مطبوع متداوَل .
وفي كتب الصحاح والسنن والمسانيد من تلك الأحاديث جملةٌ وافرةٌ فمن ذلك :
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 1761)
(2) - تفسير السعدي - (1 / 425)(1/203)
ما جاء عَنْ أَبِي مُوسَى،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ،طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ،وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ،طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا،وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ،رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ،وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ،طَعْمُهَا مُرٌّ،وَلاَ رِيحَ لَهَا. (1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ شَىْءٌ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ (2) إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ » (3) .
الأُتْرُجَّة بتشديد الجيم ، وقد تُخفَّف ، ثَمَرٌ معروف في جزيرة العرب ، وموجود فيها حتى الآن ، الواحدة : أُتْرجّة ، والجمع أُتْرُجّ ، ويقال له أيضاً : تُرُنْج . ويقال له في بلاد الشام : (الكَبّاد) . وهو ثمر جامعٌ إلى طيب الطعم والرائحةِ حُسْنَ اللونِ والمنظر ، وله منافع كثيرة ذكَرَتْها كتبُ الطب .
والمقصودُ بضرب المثل به : بيانُ عُلوِّ شأنِ المؤمن وارتفاعِ عمله ، وكشفُ انحطاطِ شأنِ الفاجر ، وسقوطِ عمله . وفي الحديث أيضاً : ضربُ المثل لتقريب الفهم .
قال الشيخ الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((مفتاح دار السعادة)) (4) :
((وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الناسَ أربعةَ أقسام : الأول أهلُ الإيمان والقرآن ، وهم خيار الناس . الثاني أهلُ الإيمان الذين لا يقرأون القرآن ، وهم دونهم ، فهؤلاء هم
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 47) (770) وصحيح البخارى- المكنز - ( 5427) وصحيح مسلم- المكنز - (1896)
(2) الكِيْرُ هو الزِّقُّ الذي يَنفُخُ فيه الحدّاد ، لزيادةِ اشتعالِ النار وامتدادِ لَهَبها ، ليَلُفَّ ما يوضَعُ فيها .
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4831 ) صحيح
(4) - ((مفتاح دار السعادة)) 1 :55(1/204)
السعداء . والأشقياء قسمان : أحدهما من أوتي قرآناً بلا إيمان فهو منافق . والثاني من لم يُؤتَ قرآناً ولا إيماناً .
والإيمانُ والقرآنً هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده ، وإنهما أصلُ كل خير في الدنيا والآخرة ، وعِلْمُهما أجلُّ العلوم وأفضلُها ، بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبَه إلاّ عِلمُهما)) .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب أمثلة للمؤمن والمنافق المؤمن إما أن يكون قارئا للقرآن أو غير قارئ فإن كان قارئا له فمثله كمثل الأترجة يعني الثمرة ريحها طيب وطعمها طيب فهذا المؤمن الذي يقرأ القرآن لأن نفسه طيبة وقلب طيب وفيه خيره لغيره الجلسة معه خير .. فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله خير في ذاته وفي غيره فهو كالأترجة لها رائحة طيبة ذكية وطعمها طيب أما المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فهو كمثل التمرة طعمها حلو ولكن ليس لها رائحة ذكية كرائحة الأترجة ونفى النبي - صلى الله عليه وسلم - ريحها لأنه ليس بريح طيب وإن كان كل شيء له رائحة لكن ليست رائحتها ذكية لكنها حلوة طيبة هذا المؤمن الذي لا يقرأ القرآن إذا فالمؤمن القارئ للقرآن أفضل بكثير من الذي لا يقرأ القرآن ومعنى لا يقرؤه يعني لا يعرفه ولم يتعلمه ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة لها رائحة طيبة لكن طعمها مر لأن المنافق في ذاته خبيث لا خير فيه والمنافق هو الذي يظهر أنه مسلم ولكن قلبه كافر والعياذ بالله، هو الذي قال الله فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (8) سورة البقرة
يوجد منافقون يقرءون القرآن قراءة طيبة مرتلة مجودة لكنهم منافقون والعياذ بالله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم هؤلاء والعياذ بالله ضرب لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا بالريحانة ريحها طيب وذلك لما معهم من القرآن وطعمها مر وذلك لخبث طويتهم وفساد نيتهم والمنافق الذي لا يقرأ القرآن ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - له مثلا بالحنظلة طعمها مر وليست لها ريح هذا المنافق الذي لا يقرأ القرآن لا خير فيه طعمه مر وليس معه قرآن ينتفع الناس به هذه أقسام الناس بالنسبة لكتاب الله عز وجل فاحرص أخي المسلم على أن تكون من المؤمنين الذين يقرءون القرآن ويتلونه حق تلاوته حتى تكون كمثل الأترجة(1/205)
ريحها طيب وطعمها حلو والله الموفق" (1)
وفي هذا التشبيه النبوي الكريم أبلغُ ترغيبٍ في الخير،وأزجَرُ تحذيرٍ عن الشر، بأقربِ أسلوبٍ يُدرِكه المخاطبون،وفيه إرشاد إلى الرغبة في صحبةِ الصُّلَحاء والعُلَماء ومُجالَستِهم،فإنها تنفَع في الدنيا والآخرة،وفيه أيضاً تحذيرُ من صحبة الأشرار والفُسّاق
فانظر أخي المبارك إلى هذا التفصيل ما أروعه،ثم تأمل أثر التمثيل في بيان حقيقة المؤمن والمنافق الذي يقرأ القرآن والذي لا يقرأ القرآن .
وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ (2) ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى ، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً ، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ » (3) .
قال الحافظ ابن حجر (4) : ((قال القُرطبي وغيرُه : ضَرَب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِما جاء به من الدينِ مثلاً بالغيثِ العام الذي يأتي الناسَ في حالِ حاجتِهم إليه ، وكذا كان حالُ الناسِ قبل مَبعَثِه - صلى الله عليه وسلم - ، فكما أن الغيثَ يُحيي البلد الميِّت ، فكذا عُلومُ الدين تُحيي القلبَ الميِّتَ .
ثم شَبَّه السامعين له بالأرضِ المختلفةِ التي يَنزِلُ بها الغيث .
فمنهم العالمُ العامِلُ المُعلِّمُ ، فهو بمنزلةِ الأرض الطيِّبةِ شَرِبَتْ فانتفَعَتْ في نفسِها وأنبَتَتْ فنَفَعتْ غيرَها .
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (4 / 159)
(2) (أجادِب) جمعُ أجدَب ، والأجادبُ : صِلابُ الأرض التي تُمسكُ الماء ولا تَشرَبُهُ سريعاً .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (79 )
الأجادب : جمع أجدب وأجدب جمع جدب وهى الأرض التى لا تنبت كلأ
القيعان : جمع القاع ومعناها هنا الأرض التى لا نبات فيها
(4) - في ((فتح الباري)) 1 :177(1/206)
ومنهم الجامعُ للعلمِ المُستَغرِقُ لزمانه فيه غيرَ أنه لم يَعمَلْ بنوافِله أو لم يَتَفقَّه فيما جَمَع لكنَّهُ أدّاه لغيرِه ، فهو بمنزلة الأرض التي يَسْتَقِرُّ فيها الماء فيَنتَفِعُ الناس به ، وهو المشارُ إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((نَضَّرَ الله امرءاً سَمِعَ مَقالتي فوَعاها ، ثم أدّاها كما سَمِعَها ، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه)) .
ومنهم من يسمع العلمَ فلا يَحفَظُه ولا يعمَلُ به ولا يَنقُلُه لغيرِه ، فهو بمنزلةٍ الأرض السَّبِخَةِ أو المَلْساء التي لا تَقبَلُ الماءَ أو تُفسِدُه على غيرِها. وإنما جَمَع في المَثَل بين الطائفتين الأُوْلَيين المحمودتين لاشتِراكِهما في الانتفاعِ بهما،وأفراد الطائفةَ الثالثةَ المذمومةَ لعدم النفع بها ، والله أعلم)) . انتهى .
فالصنفُ الأولُ هم أهلُ روايةٍ ودِرايةٍ ودعوةٍ وعَمَلٍ ، والصنفُ الثاني أهلُ رِوايةٍ ورِعايةٍ وعَمَلٍ ، ولهم نصيبٌ من الدِّراية ، والصنفُ الثالث الأشقياء لا رِوايةَ عندهم ولا دِرايةَ ولا رِعايةَ ، ولا حِفظَ ولا فَهْمَ ، لم يَقْبَلوا هُدى الله ولم يَرفعوا به رأساً ، بل أعرضوا عنه ، كما أوضحه الشيخُ ابن القيِّم رحمه الله تعالى في ((الوابل الصَيِّب من الكِلم الطيِّب)) (1)
وقال الإمام النووي (2) : ((في هذا الحديث أنواع من العلم ، منها ضربُ الأمثال ، ومنها فضلُ العلم والتعليم ، وشدةُ الحَثِّ عليهما ، وذمُّ الإعراض عن العلمِ ، والله أعلم))
وقَالَ عَامِرٌ : سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ ، وَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا ، الْمُدَّهِنِ فِيهَا ، مَثَلُ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، وَأَوْعَرَهَا ، وَشَرَّهَا ، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا الْمَاءَ ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَآذَوْهُمْ ، فَقَالُوا : لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا ، فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ ، هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ ، نَجَوْا جَمِيعًا." (3)
فالذين أرادوا خرقَ السفينةِ بمنزلةِ الواقع في حدود الله ، ومن عَداهم إما مُنكِرُ عليهم وهو
__________
(1) - ص57 59 ، فانظره لزاماً .
(2) - في ((شرح صحيح مسلم)) 15 : 48
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 276)(18370) 18560- وصحيح البخارى- المكنز - (2493 )(1/207)
القائمُ على حدود الله ، وإما ساكتُ عنهم وهو المُدْهِن ، والمُدْهِنُ المُحابي .
والمعنى أن إقامة الحدودِ يَحصُل بها النجاةُ لمن أقامَها وأقيمَتْ عليه ، وإلاّ هَلَكَ العاصي بالمعصيةِ ، والسّاكتُ بالرضا بها .
قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامة بذنب الخاصة، وفيه نظر لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يكفر من ذنوب من وقع به أو يرفع من درجته. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحكم بضرب المثل، ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضررا، وأنه ليس لصاحب السفل أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر. وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقرعة وإن كان فيه علو وسفل. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً » (2) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ فِى هَذِهِ مَرَّةً وَفِى هَذِهِ مَرَّةً لاَ تَدْرِى أَيَّهَا تَتْبَعُ ». (3)
والعائرة: هي التي تفارق جماعة الغنم، وتعدل إلى بعض النواحي، ومنه قيل للذي يعير نحو الباطل، ويفارق أهل الاستقامة والحق: العَيَّار.
وعَنْ أَبِي مُوسَى،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ :" مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ،وَالْبَيْتِ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ." (4)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (5 / 296)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7220 )
العائرة : أي المُتَرَدِّدةِ بين قَطيعين من الغنم . يقال : عارَتْ الشاةُ تَعيرُ : تردَّدَتْ بين القطيعين ، لا تَدري أيَّهما تتبع!
(3) - سنن النسائي- المكنز - (5054 ) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 135) (854) وصحيح مسلم- المكنز - (
1859)(1/208)
قال النووي : " فِيهِ : النَّدْب إِلَى ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي الْبَيْت،وَأَنَّهُ لَا يُخْلَى مِنْ الذِّكْر،وَفِيهِ : جَوَاز التَّمْثِيل . وَفِيهِ : أَنَّ طُول الْعُمْر فِي الطَّاعَة فَضِيلَة،وَإِنْ كَانَ الْمَيِّت يَنْتَقِل إِلَى خَيْر،لِأَنَّ الْحَيّ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَزِيد عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلهُ مِنْ الطَّاعَات ." (1)
" ذلك لأن الذي يذكر الله تعالى قد أحيا الله قلبه بذكره وشرح له صدره فكان كالحي وأما الذي لا يذكر الله فإنه لا يطمئن قلبه والعياذ بالله ولا ينشرح صدره للإسلام فهو كمثل الميت وهذا مثل ينبغي للإنسان أن يعتبر به وأن يعلم أنه كلما غفل عن ذكر الله عز وجل فإنه يقسو قلبه وربما يموت قلبه والعياذ بالله ." (2)
وعَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: " ضَرَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا , وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورٌ فِيهِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ , وَعَلَى الْأَبْوَابِ السُّتُورُ مُرْخَاةٌ,وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ , ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعْوَجُّوا , وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ " . فَإِذَا أَرَادَ - كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ رَجُلًا - فَتْحَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ , قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ , فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ فَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ , وَالسُّتُورُ: حُدُودُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ,وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ:مَحَارِمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ تَعَالَى , وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِهِ كَأَنَّهُ يَعْنِي الصِّرَاطَ: وَاعِظُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ،وَكَمَّلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ،فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ،وَيَعْجَبُونَ،وَيَقُولُونَ : هَلاَّ وَضَعْتَ هَذِهِ اللَّبِنَةَ ؟. قَالَ : فَأَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةُ،وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ." (4)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (3 / 130)
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (5 / 39)
(3) - شرح مشكل الآثار - (5 / 390) (2141 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 59)(17634) 17784- صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (14 / 315) (6405) وصحيح البخارى- المكنز - (3535) وصحيح مسلم- المكنز - (6100 )(1/209)
قال ابن حجر :" فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت ..وقد وقع في رواية همام عند مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها" فيظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصا، وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة.
وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على سائر النبيين،وأن الله ختم به المرسلين،وأكمل به شرائع الدين." (1)
الخلاصة:
(1) ضرب الأمثال وسيلة جيدة في تقريب المعاني والأفكار
(2) يلجأ المعلم لضرب المثل عندما تصعب مسألة ما على الأذهان،فيعمد إلى المثل لتبسيطها وتقريبها للفهم .
(3) يتوقف مدى الفائدة من ضرب المثال على براعة المعلم في تصوير المثال لكي يطابق الفكرة التي يريد إيضاحها .
ــــــــ
8- أسلوب التشويق في التعليم :
أسلوب التشويق : هو أسلوب أو طريقة من الطرق تبعث على إيقاظ الهمم،وإذكاء النفوس،إذ إن النفس البشرية تتطلع إلى استكشاف كل جديد،بل إن إثارة المتعلم وتشويقه،تجعله يبحث ويستقصي بلهف شديد،ورغبة شديدة،في معرفة ذلك الشيء المشوق.يوضح ذلك الحديث الذي التالي،عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى،قَالَ : كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ،فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمْ أُجِبْهُ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي،فَقَالَ :
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (6 / 559)(1/210)
أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال : ] ؟ ثُمَّ،قَالَ : أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى،فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي،وَالْقُرْآنُ الَّذِي أُوتِيتُهُ. (1)
" وفيه أن الأمر يقتضي الفور لأنه عاتب الصحابي على تأخير إجابته. وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها قال الخطابي: فيه أن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع مقتضاه، وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص، لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. وفيه أن إجابة المصلي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تفسد الصلاة، هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم. وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقا سواء كان المخاطب مصليا أو غير مصل، أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه. فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء أو يشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحث وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك." (2)
ففي هذا الحديث يظهر لنا جلياً شوق ذلك الصحابي إلى معرفة أعظم سورة في القرآن،حيث أنه لم يصبر ولم يمهل الرسول حتى يخرج بل بادره بقوله : إِنَّكَ قُلْتَ لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، (3) فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أَرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ ثُمَّ خَرَجَ , فَقَالَ: " إِنِّي قُلْتُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 56) (777) وصحيح البخارى- المكنز - ( 4474 )
(2) - فتح الباري لابن حجر - (8 / 158)
(3) - وقوله : " فحشد من حشد " ؛ أي : اجتمع من اجتمع ، [ والحشد] : الجمع ، قاله الهروي وغيره "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (7 / 75)(1/211)
لَكُمْ إِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " (1)
ألا إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله،كان له أثر كبير في تشوقهم،لسماع ثلث القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - . ففي هذه القصة فوائد منها دلالة واضحة على فضل قراءة سورة الإخلاص،ومنها تلهف الصحابة لسماع ثلث القرآن من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ومنها أن قوله ( احشدوا ) ثم دخوله وخروجه مرة أخرى يلزم منه رسوخ هذه القصة بأحداثها عند الصحابة وحفظهم لها .
وعَنِ الزُّهْرِيِّ،قَالَ : أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ،تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ،قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ،فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،مِثْلَ ذَلِكَ،فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الأُولَى . فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا،فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى،فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ : إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا،فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثَ،فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا،غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ،حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ . قَالَ عَبْدُ اللهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا،فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاَثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ،قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرٌ ثَمَّ،وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاَثَ مِرَارٍ،فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ،فَأَقْتَدِيَ بِهِ،فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ،فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ . قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي،فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ،غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا،وَلاَ أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . فَقَالَ عَبْدُ اللهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 255) (1223 ) وصحيح مسلم- المكنز (1924 )
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ مَعْنَى مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنَ هُوَ مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا قَبْلَهَا فِي قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ أَنَّهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا فِي الثَّوَابِ كَثُلُثِ الْقُرْآنِ جَازَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْضًا فِي الْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِيهَا الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهَا الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا فِي الثَّوَابِ بِهَا كَالثَّوَابِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ . وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ(1/212)
بِكَ،وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ." (1)
وأما قوله (إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي،فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ)، ثم قوله بعد ذلك (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرَةٌ ) فهو قول أراد به الوصول إلى مصلحة دينية راجحة، ولذا قال الحافظ في الفتح: الكذب وإن كان قبيحا مخلا، لكنه قد يحسن في مواضع .
وقال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى: " وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ قَوْلًا وَفِعْلًا مَقْصُودُهُ بِهِ مَقْصُودٌ صَالِحٌ،وَإِنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مَا قَصَدَ بِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ دَفْعِ ظُلْمٍ عَنْ نَفْسِهِ،أَوْ عَنْ مُسْلِمٍ،أَوْ دَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الِاحْتِيَالِ عَلَى إبْطَالِ حِيلَةٍ مُحَرَّمَةٍ،أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ حِيلَةٌ جَائِزَةٌ .
وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مَا شُرِعَتْ الْعُقُودُ لَهُ ،فَيَصِيرَ مُخَادِعًا لِلَّهِ ،كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَادَعَ النَّاسَ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ وَسُقُوطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ ،كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. " (2)
وفي هذه القصة كان الدافع الذي حدا بعبد الله بن عمرو بن العاص إلى أن يقول ما يقول لذلك الصحابي،لكي يعلم السبب الذي من أجله كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول ثلاث مرات : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "،ولا يخفى ما في هذه القصة من أسلوب إثارة وتشويق وهو بين ظاهر .
وعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ قَالَ : لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْنًا - أَوْ قَالَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُنَيْنٍ - أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ : اللَّهُ أَكْبَرُ،لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا،إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ ». قَالَ : وَأَنَا خَلْفَ رَايَةِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 429)(12697) 12727- صحيح
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 3058) رقم الفتوى 32860 التفسير الشرعي لقول ابن عمرو "إني لاحيت أبي.." والآداب الشرعية - (1 / 26) والفتاوى الكبري لابن تيمية - (9 / 130)(1/213)
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعَنِى وَأَنَا أَقُولُ : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ فَقَالَ :« يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ». فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ :« أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟ ». قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى. قَالَ :« لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ » (1) .
وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَبِي دَفَعَنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْدُمَهُ،فَأَتَى عَلَيَّ وَقَدْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ،فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ،وَقَالَ : أَلا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى،يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ " (2)
وعن مَعْقِلَ بْنِ يَسَارٍ قال: انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : " يَا أَبَا بَكْرٍ،لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ "،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ،أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ؟ " قَالَ : " قُلِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ،وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ،يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ،يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ،فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا : هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ،فَيَحُفُّونَ بِهِمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا،فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ،فَيَقُولُ : مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : يُكَبِّرُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ،فَيَقُولُ : هَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ،فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ عِبَادَةً وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا،فَيَقُولُ : وَمَا يَسْأَلُونِي ؟ قَالَ : فَيَقُولُونَ : يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ،فَيَقُولُ : فَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ،فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا عَلَيْهَا أَشَدَّ حِرْصًا وَأَشَدَّ طَلَبًا،وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً،فَيَقُولُ : وَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : مِنَ النَّارِ،فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ،فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا مِنْهَا أَشَدَّ فِرَارًا،وَأَشَدَّ هَرَبًا،وَأَشَدَّ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (2 / 184) (3132) وصحيح البخارى- المكنز - (4205)
(2) - الآحاد والمثاني - (3 / 529) (2022) صحيح لغيره
(3) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (738 ) صحيح لغيره(1/214)
خَوْفًا،فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ.،قَالَ : فَقَالَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ : إِنَّ فِيهِمْ فُلاَنًا لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ،قَالَ : فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ. (1)
الخلاصة:
(1) إن استخدام أسلوب التشويق والإثارة،من أقوى الدوافع على التعلم والبحث والاستقصاء.
(2) يجب أن يضع المعلم في اعتباره،أن العبارات المستخدمة في هذا الأسلوب،يجب أن تؤدي إلى معنى تهواه وتستشرف إليه النفس .
(3) كلما كان أسلوب التشويق قوياً،كلما كانت الدوافع أقوى .
ــــــــ
9- استخدام الإيماءات ( حركات اليدين والرأس ) في التعليم
كان - صلى الله عليه وسلم - يَجمَعُ في تعليمه بين البيان بالعبارة،والإشارة باليدين الكريمتين،توضيحاً للمَرام وتنبيهاً على أهميةِ ما يذكُره للسامعين أو يُعلِّمُهم إياه.
إن المعلم لا ينفك بحال من الأحوال عن إيماءات اليدين والرأس،أثناء ممارسته للتعليم،فهي ملازمة للمتحدث أياً كان نوع الحديث.ولكن هل من سبيل إلى توظيف هذه الحركات والإيماءات لصالح التعليم ؟ الجواب نعم، وإن سألتني كيف ذلك ؟ قلت لك : تابع معي السطور التالية :
إن عين التلميذ تتابع حركات المعلم وسكناته،ولذلك فهو يتأثر بالانفعالات التي يحدثها المعلم،إذاً فهو يتأثر بحركة اليدين والرأس . والمعلم قد يستفيد من هذه الحركات والإشارات في أمور عدة :
أحدها : زيادة بيان وإيضاح وتأكيد على الكلام :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 139) (857) وصحيح البخارى- المكنز - (6408)(1/215)
نأخذ هذه من حديث جابر رضي الله عنه،في سياق حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ،فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي،فَنَزَعَ زِرِّيَ الأَعْلَى،ثُمَّ نَزَعَ زِرِّيَ الأَسْفَلَ،ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ،وَأَنَا غُلاَمٌ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ،فَقَالَ : مَرْحَبًا يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ،فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى،وَجَاءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ،فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفٍ بِهَا،كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا،وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ،فَصَلَّى بِنَا،فَقُلْتُ : أَخْبَرَنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ بِيَدِهِ وَعَقَدَ تِسْعًا،وَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ،ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجٌّ،فَقَدِمَ الْمَدِينَةِ بَشَرٌ كَثِيرٌ،كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ،فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ،فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ،فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ أَصْنَعُ،فَقَالَ : اغْتَسِلِي،وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ،وَأَحْرِمِي.
فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ،ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ،نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشِي،وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ،وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ،وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ،وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا،وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ،وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ،وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمَلْنَا بِهِ،فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ،إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ،لاَ شَرِيكَ لَكَ،وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ،فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ شَيْئًا،وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ جَابِرٌ : لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ،لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ،اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا،وَمَشَى أَرْبَعًا،ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ،فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة]،فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ،فَكَانَ أَبِي يَقُولُ : - وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ،ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا،فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة] أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ،فَبَدَأَ بِالصَّفَا،فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى(1/216)
الْبَيْتَ،فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ،وَوَحَّدَ اللَّهَ،وَكَبَّرَهُ،وَقَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،لَهُ الْمَلِكُ،وَلَهُ الْحَمْدُ،وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ،نَجَزَ وَعْدَهُ،وَنَصَرَ عَبْدَهُ،وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ،ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ،قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي،سَعَى،حَتَّى إِذَا صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ،فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا،حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرَ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ : لَوْ أَنِّيَ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ،وَجَعَلْتُهَا عَمْرَةً،فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عَمْرَةً.
فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ ؟ قَالَ : فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى،وَقَالَ : دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ،لاَ بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ،لاَ بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ. وَقَدِمَ عَلِيُّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ قَدْ حَلَّ،وَلَبِسَتْ ثِيَابَ صِبْغٍ،وَاكْتَحَلَتْ،فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا،فَقَالَتْ : أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا،قَالَ : فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ،فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةِ لِلَّذِي صَنَعَتْ وَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : صَدَقَتْ،مَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ،قَالَ : فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ،فَلاَ تَحِلَّ،قَالَ : فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً،قَالَ : فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ،وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ،تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى،فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ،ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ،فَسَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ،فَوَجَدَ الْقُبَّةَ،قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ،فَنَزَلَ بِهَا،حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ،فَرُحِلَتْ لَهُ،فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي،يَخْطُبُ النَّاسَ،ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ،وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ،وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ(1/217)
ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ،وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ،فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ،وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ،وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلَّهُ،فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ،فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ،وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ،وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ،فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ،وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ،وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنَّ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ : كِتَابَ اللهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ،قَالُوا : نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ،يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ -
ثُمَّ أَذَّنَ،ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ،ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ،وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا،ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَاطِنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ،وَجَعَلَ حَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ،فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ،وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً،وَغَابَ الْقُرْصُ،أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُسَامَةَ خَلْفَهُ ،وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ،حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ،وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ،حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ،وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ،فَصَلَّى الْفَجْرَ،حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ،ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ،فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ،فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ،فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا،دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ،وَأَرْدَفَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا،فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ ظُعُنٌ يَجْرِينَ،فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ،فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ،فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ،فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ،فَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ حَتَّى أَتَى مُحَسِّرًا،فَحَرَّكَ قَلِيلاً،ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى،حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ،يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَا الْخَذْفِ،رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي،ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى(1/218)
الْمَنْحَرِ،فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ،ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا،رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَنَحَرَ مَا غَبَرَ مِنْهَا،وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ،وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ،فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ،فَطُبِخَتْ،فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا،وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ،فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْتَقُونَ عَلَى زَمْزَمٍ،فَقَالَ : انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ،فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا،فَشَرِبَ مِنْهُ." (1)
قلت:قد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الطويل كل الإشارات التي تجذب أنظار المشاهدين له كالإشارة بالإصبع وتشبيك الأصابع،والركوب على الدابة،والنظر إليهم،من حين خروجه لحين عودته - صلى الله عليه وسلم -
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ « فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (9 / 253) (3944) وصحيح مسلم- المكنز - (3009 )
نساجة : ضرب من الملاحف المنسوجة.-المشجب : أعواد مركبة يوضع عليها الرحل والثياب.-واسثفري استثفار الحائض : هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته علي وسطها ،ليمتنع الدم أن يجري ويقطر.-القصواء : اسم ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن قصواء ، لأن القصواء ،هي المقطوعة الأذن.-صبيغا : ثوب صبيغ، أي : مصبوغ ، فعيل بمعني : مفعول.-محرشا : التحريش : الإغراء ،ووصف ما يوجب عتاب المنقول عنه وتوبيخه.-بكلمة الله : كلمة الله : هي قوله تعالى :{ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } البقرة : 229.-لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهون معناه : أن لايأذن لأحد من الرجال أن يتحدث إليهن ، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ، لا يرون ذلك عيبا ،ولا يعدونه ريبة ، إلى أن نزلت آية الحجاب ، وليس المراد بوطء الفراش : نفس الزنا ، لأن ذلك محرم علي الوجوه كلها ، فلا معنى لا شتراط الكراهة فيه ، ولو كان ذلك كذلك لم يكنن الضرب فيه ضربا غير مبرح ، إنما كان فيه الحد ، والضرب المبرح : هو الضرب الشديد.-ينكبها نكب إصبعه : أمالها إلى الناس، يريد بذلك أن يشهد الله عليهم.-حبل المشاة الحبل : واحد حبال الرمل ، وهو ما استطال منه مرتفعا.-شنق زمام ناقته : إذا جمعه إليه كفا لها عن السرعة. في المشي.
مورك : الرحل:ما يكون بين يدي الرحل ، يضع الراكب رجله عليه ، يقال : ورك وورك ، مخففَا ومثقلا.-ولم يسبح بينهما : السبحة : الصلاة ، وقيل : هي النافلة من الصلاة ، أي : لم يصل بينهما سنة.-وسيما : رجل وسيم : له منظر جميل.-ظعن : جمع ، ظعينة وهي المرأة في الهودج ، والهودج أيضا يسمى : ظعينة.-ماغب : الغابر : الباقي. -انزعوا : النزع : الاستقاء.جامع الأصول في أحاديث الرسول - (3 / 473)(1/219)
عَبْدٌ مُسْلِمٌ،وَهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّى،يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ » . وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا (1)
وبتأمل هذا الحديث،يتبين أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - أفادت معنى جديدً زائداً على كلامه - صلى الله عليه وسلم - ،وهو أن هذه الساعة أمرها يسير في مقابل نيل أمر عظيم،وهذا من فضل الله على عباده.قال الزين بن المنير: الإشارة لتقليلها هو للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها (2) .
ثانيها : جذب الانتباه وترسيخ بعض المعاني في الذهن :
نلمس ذلك من الحديث السابق الذي ساقه جابر بن عبد الله رضي الله عنه،وذلك عندما خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس في نمرة يوم عرفة،حيث بين لهم في هذه الخطبة أموراً كثيرة وعظيمة،ثم بعد أن بلغهم قال لهم: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي،فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ،فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ،يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ،اللَّهُمَّ اشْهَدْ،ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) (3)
ففي رفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصبعه إلى السماء ثم الإشارة به إليهم،جذب لأنظار الناس لهذا الأمر الهام والخطير وهو مقام الشهادة على التبليغ .
وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ،قَالَ : أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلاَةَ،فَأَتَانِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ،فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا،فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ،فَعَضَّ عَلَى شَفَتِهِ،وَضَرَبَ فَخِذِي،وَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ كَمَا سَأَلْتَنِي،فَضَرَبَ فَخِذِي كَمَا ضَرَبْتُ عَلَى فَخِذِكَ،وَقَالَ : إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي فَضَرَبَ فَخِذِي،كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ،فَقَالَ : صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا،فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ مَعَهُمْ فَصَلِّ،وَلاَ تَقُلْ إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ وَلاَ أُصَلِّي." (4)
قال القرطبي : " وقوله : (( صل الصلاة لوقتها )) ؛ يعني : الأفضل،بدليل قوله : (( فإن أدركتها معهم )) ؛ أي : في الوقت . وبدليل قوله : " فإن صُلِّيَتْ لوقتها كانت لك نافلة
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (935 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2006)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (2 / 416)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3009 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (1501 )(1/220)
)) ؛ أي : زيادة في العمل والثواب .
وقوله : (( وإلا كنت قد أحرزت صلاتك )) ؛ أي : فعلتها في وقتها،وعلى ما يجب أداؤها . وفيه : جواز فعل الصلاة مرتين . ومحمل النهي عن إعادة الصلاة : على إعادتها من غير سبب . وتأخير ابن زياد الصلاة على رأي بني أمية في تأخيرهم الصلوات . وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذ أبي ذر تنبيهٌ له على الاستعداد لقبول ما يلقى إليه .
وقوله : (( ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي )) ؛ نهاه عن إظهار خلافٍ على الأئمة،ولذلك قال : " إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع،وإن كان عبدًا مُجَدَّع الأطراف". (1)
قال في شرح مسلم :قَوْله : ( وَضَرَبَ فَخِذِي ) أَيْ لِلتَّنْبِيهِ وَجَمْع الذِّهْن عَلَى مَا يَقُولهُ لَهُ (2) ..
وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » . وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ . (3)
" قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( الْمُؤْمِن لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضه بَعْضًا ) صَرِيح فِي تَعْظِيم حُقُوق الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ، وَحَثّهمْ عَلَى التَّرَاحُم وَالْمُلَاطَفَة وَالتَّعَاضُد فِي غَيْر إِثْم وَلَا مَكْرُوه . وَفِيهِ جَوَاز التَّشْبِيه وَضَرْب الْأَمْثَال لِتَقْرِيبِ الْمَعَانِي إِلَى الْأَفْهَام ." (4)
" وهو دال على جواز التشبيك مطلقا،وحديث أبي هريرة وهو دال على جوازه في المسجد، وإذا جاز في المسجد فهو في غيره أجوز.
وقال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث،والذي في الحديث إنما هو لمقصود التمثيل، وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس. قلت: هو في حديث أبي موسى وابن عمر كما قال، بخلاف حديث أبي هريرة. وجمع
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (6 / 59)
(2) - شرح النووي على مسلم - (2 / 446) والآداب الشرعية - (2 / 156)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (481 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6750 )
(4) - شرح النووي على مسلم - (8 / 394)(1/221)
الإسماعيلي بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدا لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي،وأحاديث الباب الدالة على الجواز خالية عن ذلك،أما الأولان فظاهران، وأما حديث أبي هريرة فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة.والرواية التي فيها النهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة كما قدمنا، فهي غير معارضة لحديث أبي هريرة كما قال ابن بطال. " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : جَاءَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حُجَّاجًا فَأَمَرَهُمْ فَجَعَلُوهَا عُمْرَةً ثُمَّ قَالَ : لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا فَعَلْتُ ذلك وَلَكِنْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ. (2)
أظهَرُ ما قيل في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((دخَلَتْ العُمرةُ في الحجّ)) : أنَّ العمرة يجوز فعلُها في أشهر الحج ، خلافاً لما كانت الجاهلية تَزعمُهُ من امتناع العمرة في أشهر الحج ، فهذا إبطالٌ منه - صلى الله عليه وسلم - لما زعموه . (3)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. (4)
وعَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا » . وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا . (5)
قال الحافظ في الفتح : " وفيه: "وفرج بينهما" أي بين السبابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 566)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 773)(16028) صحيح
(3) - وهناك وجوه أخرى في معنى هذه الجملة تراها في ((شرح صحيح مسلم)) للنووي 8 :166 ، و((فتح الباري)) لابن حجر 3 :485 .
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 207) (460)وصحيح البخارى- المكنز - (6005 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - هَكَذَا أَرَادَ بِهِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ، لاَ أَنَّ كَافِلَ الْيَتِيمِ تَكُونُ مَرْتَبَتُهُ مَعَ مَرْتَبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِي الْجَنَّةِ وَاحِدَةً.
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5304 )(1/222)
الحديث الآخر "بعثت أنا والساعة كهاتين " الحديث، وزعم بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية تأكيدا لأمر كفالة اليتيم. قلت: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى
قال شيخنا في "شرح الترمذي" لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك اه ملخصا." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ (2) : عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، وَكَانَ عَابِدًا، فَابْتَنَى صَوْمَعَةً (3) فَجَعَلَ يُصَلِّي فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي (4) ، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ ثُمَّ جَاءَتْهُ يَوْمًا آخَرَ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْهُ يَوْمًا ثَالِثًا فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ:اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَرَى أَوْ يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ (5) ، قَالَ: فَذَكَرَ يَوْمًا بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَفَضْلَهُ، فَقَالَتْ: بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنْ شِئْتُمْ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 436)
(2) ذكر الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :344 أن هناك غيرَ هؤلاء الثلاثة تكلَّموا في المهد ، كما جاء ذلك في السنّة الثابتة ، وأشار إلى وجهِ التوفيق بين ظاهرِ هذا الحَصْر في الحديث والأحاديث الأخرى ، فراجعه إذا شئت .
(3) الصومعة : البناء المرتفع المحدَّد أعلاه . مأخوذة من صَمَعْتُ إذا دَققتُ ، لأنها دقيقة الرأس .
(4) أي اجتمع عليَّ إجابةُ أمي وإتمام صلاتي ، فوفِّقْني لأفضلهما . قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 6 :345 : ((وكلُّ ذلك قاله أي في المرات الثلاث من مُناداةِ أُمِّه حال صلاتِه محمولٌ على أنه قالَهُ في نَفْسِه ، لا أنه نَطَق به ، ويُحتمَلُ أن يكون نَطَق به على ظاهره ، لأن الكلام كان مُباحاً عندهم ، وكذلك كان في صدر الإسلام)) .
(5) المومسات : الزَّواني المتجاهِراتُ بذلك . وفي رواية ثانية عند مسلم فقالت : اللهم إنَّ هذا جريج وهو ابني ، وإني كلَّمتُه فأبى أن يُكلذِمني ، اللهم فلا تُمِتْهُ حتى تُريَه وجوه المومسات ، قال : ولو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن!)) . أي لفتن بالزنى أو القتل! ولكن كانت رفيقةً رحيمةً به ، فكانت دَعْوَتُها أن تكون عُقوبتَهُ رؤيةَ وجوهِ الزَّواني فقط ، وما أشدَّها من عقوبة على قلوبِ العابدين الصالحين ، نسألُ الله السلامةَ والعافية .(1/223)
لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، فَقَالُوا: قَدْ شِئْنَا، فَانْطَلَقَتْ فَعَرَضَتْ لِجُرَيْجٍ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ بِغَنَمِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوهُ وَشَتَمُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ (1) ، وَوَلَدَتْ غُلَامًا، قَالَ: فَأَيْنَ الْغُلَامُ ؟ قَالَ: فَجِيءَ بِهِ فَقَامَ وَصَلَّى (2) وَدَعَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلَامِ فَطَعَنَهُ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ، مَنْ أَبُوكَ ؟ قَالَ: أَبِي الرَّاعِي، قَالَ فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ وَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، ابْنُوهَا كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ.
وَبَيْنَا امْرَأَةٌ جَالِسَةٌ وَفِي حَجْرِهَا ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ (3) ، فَقَالَتِ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَ هَذَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي مَصَّهُ، وَوَضْعَهُ إِصْبَعَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ مَعَهَا النَّاسُ تُضْرَبُ، فَقَالَتِ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ (4) ، فَقَالَتْ: حَلْقَى (5) ، أَيْ بُنَيَّ، مَرَّ بِيَ الرَّاكِبُ ذُو شَارَةٍ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَقُلْتَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ مُرَّ بِهَذِهِ الْأَمَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ الْأَمَةِ (6) ، فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ الرَّاكِبَ الَّذِي مَرَّ بِكِ جَبَّارٌ، فَدَعَوْتِ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِثْلَهُ فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَهَذِهِ يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، وَزَنَتْ، وَلَمْ تَزْنِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ " (7) .
__________
(1) وكان في حُكمهم أنَّ من زنى قُتِل .
(2) وقد صلى ركعتين ، وكانت الصلاةُ مشروعة عندهم .
(3) أي ذو هيئةٍ جميلة ومَلْبَسٍ حسن .
(4) قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 16 :107 ((قوله (تراجعا الحديث) ، أي أقبلَتْ الأم على الرضيع تحدثه ، وكانت أولاً لا تراه أهلاً للكلام ، فلما تكرَّر منه الكلام ، علمَتْ أنه أهل ، فسألتْه وراجَعْته)) .
(5) أي عجباً لكَ؟!
(6) أي سالماً من المعاصي كما هي سالمة منها ، وليس المراد : اجعلني مِثلَها في النسبة إلى باطلٍ أكونُ منه بريئاً .
(7) - شعب الإيمان - (10 / 280) (7495 ) وصحيح البخارى- المكنز - (3436 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6673 )(1/224)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَاجِرًا ، فَكَانَ يَنْقُصُ مَرَّةً ، وَيَزِيدُ مَرَّةً أُخْرَى ، فَقَالَ : مَا لِي فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ مِنْ خَيْرٍ ، لَأَلْتَمِسُ تِجَارَةً لَا نُقْصَانُ فِيهَا ، فَأَتَى صَوْمَعَةً ، فَتَرَهَّبَ فِيهَا ، فَكَانَ اسْمَهُ جُرَيْجٌ ، فَكَانَ يُرِيحُ إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِي ضَأْنٍ ، وَرَاعِيَةُ مِعْزَى قَالَ : وَإِنَّ أُمَّ جُرَيْجٍ أَتَتْهُ يَوْمًا ، فَصَرَخَتْ ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، فَقَالَتْ : جُرَيْجُ ، فَقَالَ جُرَيْجٌ : أُمِّي وَالصَّلَاةَ ، ثُمَّ قَالَتْ : جُرَيْجُ ، فَلَمْ يُجِبْهَا ، فَقَالَ : أُمِّي وَالصَّلَاةَ قَالَ : فَذَهَبَتْ ، ثُمَّ أَتَتْهُ يَوْمًا آخَرَ ، فَقَالَتْ : جُرَيْجُ ، فَقَالَ : أُمِّي وَالصَّلَاةَ ، فَلَمْ يُجِبْهَا ، فَقَالَ : أُمِّي وَالصَّلَاةَ . قَالَ : فَذَهَبَتْ أُمُّهُ ، وَقَالَتِ : اللَّهُمَّ لَا تُمِتْ جُرَيْجًا حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ قَالَ : وَوَقَعَ صَاحِبُ الضَّأْنِ عَلَى صَاحِبَةِ الْمِعْزَى ، فَأَحْبَلَهَا ، فَقِيلَ لَهَا حِينَ وَلَدَتْ : وَيْحَكِ ، مِمَّنْ وَلَدْتِ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ جُرَيْجٍ قَالَ : فَذَهَبُوا إِلَى الْمَلِكِ ، فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : أَنْزِلُوهُ ، وَائْتُونِي بِهِ ، وَكَسَّرُوا صَوْمَعَتَهُ ، فَأَنْزَلُوهُ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا جُرَيْجُ كُنَّا نَرَاكَ خَيْرَ النَّاسِ ، فَاحْتَبَلْتَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ ، اذْهَبُوا بِهِ ، وَاصْلُبُوهُ . قَالَ : فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ ، وَخَرَجَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى أُنْشِئَ ، وَبَرَزَ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ ابْنِي ، أَرُونِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ قَالَ : فَأُتِيَ بِالْمَرْأَةِ ، وَالصَّبِيِّ ، فَمُهُ فِي ثَدْيِهَا ، فَقَالَ جُرَيْجٌ : يَا غُلَامُ ، مَنْ أَبُوكَ ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ ، وَنَزَعَ فَمَهُ مِنَ الثَّدْيِ : أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ قَالَ : فَسَبَّحَ النَّاسُ ، وَعَجَبُوا ، قَالَ : فَضَحِكَ ، فَذَهَبُوا إِلَى الْمَلِكِ ، فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : رُدُّوهُ ، فَأُتِيَ بِهِ ، فَقَالَ : يَا جُرَيْجَ ، فَلْنَصْنَعْهَا لَكَ كَيْفَ شِئْتَ ، وَاللَّهِ لَئِنْ شِئْتَ لَنَبْنِيهَا لَكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ، قَالَ : بَلْ رُدُّوهَا كَمَا كَانَتْ . قَالَ : فَرَدُّوهَا ، وَرَجَعَ فِي صَوْمَعَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ : بِاللَّهِ ، مِمَّ ضَحِكْتَ ؟ (1) قَالَ : مَا ضَحِكْتُ إِلَّا مِنْ دَعْوَةٍ دَعَتْهَا أُمِّي عَلَيَّ " (2)
قال الحافظ ابن حجر (3) : ((وفي الحديث إثارُ إجابةِ الأمّ على صلاة التطوُّع ، لأنَّ الاستمرار فيها : نافلة ، وإجابَةَ الأم وبِرِّها : واجبٌ . وفي حديث يَزيد بن حَوشَب عن
__________
(1) - أي أنه تذكَّرَ أن هذه العُقوبة بسبب تلك المعصية!
(2) - فُنُونُ الْعَجَائِبِ لِأَبِي سَعِيدٍ النَّقَّاشِ (56 ) حسن
(3) - ((فتح الباري)) 6 :347 و3 :63(1/225)
أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لو كان جريج فقيهاً وفي رواية : عالِماً لعلِمَ أنَّ إجابة أُمِّه أولى من عبادة ربه)) أخرجه الحسن بن سفيان . و(يزيد) والد حَوْشَب : مجهول ))
" ففي هذه القصة أن هذا الصبي تكلم وهو في المهد وقال إن أباه فلان الراعي واستدل بعض العلماء من هذا الحديث على أن ولد الزني يلحق الزاني لأن جريج قال من أبوك قال أبي فلان الراعي وقد قصها النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا للعبرة فإذا لم ينازع الزاني في الولد واستلحق الولد فإنه يلحقه وإلى هذا ذهب طائفة يسيرة من أهل العلم وأكثر العلماء على أن ولد الزنى لا يلحق الزاني لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش وللعاهر الحجر ولكن الذين قالوا بلحوقه قالوا هذا إذا كان له منازع كصاحب الفراش فإن الولد لصاحب الفراش وأما إذا لم يكن له منازع واستلحقه فإنه يلحقه لأنه ولده قدرا فإن هذا الولد لا شك أنه خلق من ماء الزاني فهو ولده قدرا ولم يكن له أب شرعي ينازعه وعلى هذا فيلحق به قالوا وهذا أولى من ضياع نسب هذا الولد لأنه إذا لم يكن له أب ضاع نسبه وصار ينسب إلى أمه .
وفي هذا الحديث دليل على صبر هذا الرجل جريج حيث إنه لم ينتقم لنفسه ولم يكلفهم شططا فيبنون له صومعته من ذهب وإنما رضي بما كان رضي به أولا من القناعة وأن تبنى من الطين أما الثالث الذي تكلم في المهد فهو هذا الصبي الذي مع أمه يرضع فمر رجل على فرس فارهة وعلى شارة حسنة وهو من أكابر القوم وأشراف القوم فقالت أم الصبي اللهم اجعل ابني هذا مثله فترك الصبي الثدي وأقبل على أمه بعد أن نظر إلى هذا الرجل فقال اللهم لا تجعلني مثله .
وحكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتضاع هذا الطفل من ثدي أمه بأن وضع إصبعه السبابة في فمه يمص تحقيقا للأمر - صلى الله عليه وسلم - فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبلوا بجارية امرأة يضربونها ويقولون لها زنيت سرقت وهي تقول حسبنا الله ونعم الوكيل فقالت المرأة أم الصبي وهي ترضعه اللهم لا تجعل ابني مثلها فأطلق الثدي وجعل ينظر إليها وقال اللهم اجعلني مثلها فتراجع الحديث مع أمه طفل قام يتكلم معها قالت إني مررت أو مر بي هذا الرجل ذو الهيئة الحسنة فقلت اللهم اجعل ابني مثله فقلت أنت اللهم لا تجعلني مثله فقال نعم هذا رجل كان جبارا عنيدا فسألت الله ألا يجعلني مثله أما المرأة فإنهم يقولون زنيت وسرقت وهي(1/226)
تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقلت اللهم اجعلني مثلها أي اجعلني طاهرا من الزنى والسرقة مفوضا أمري إلى الله في قولها حسبي الله ونعم الوكيل وفي هذا آية من آيات الله أن يكون هذا الصبي يشعر وينظر ويتأمل ويفكر وعنده شيء من العلم يقول هذا كان جبارا عنيدا وهو طفل وقال لهذه المرأة اللهم اجعلني مثلها علم أنها مظلومة وأنها بريئة مما اتهمت به وعلم أنها فوضت أمرها إلى الله عز وجل فهذا أيضا من آيات الله أن يكون عند هذا الصبي شيء من العلم والحاصل أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير فقد يحصل من الأمور المخالفة للعادة ما يكون آية من آياته إما تأييدا لرسوله أو تأييدا لأحد من أوليائه " (1)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ ، لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ قُرَشِيٌّ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ صَفْحَةَ وُجُوهِ رِجَالٍ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ وُجُوهِهِمْ يَوْمَئِذٍ ، فَذَكَرُوا النِّسَاءَ ، فَتَحَدَّثُوا فِيهِنَّ ، فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ ، حَتَّى أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُتَ ، قَالَ : ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَتَشَهَّدَ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الأَمْرِ ، مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ لِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ (2) يَصْلِدُ." (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ يَوْمَ النَّحْرِ عَنْ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا قَبْلَ شَىْءٍ وَشَيْئًا قَبْلَ شَىْءٍ (4) - قَالَ - فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ « لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ ». (5)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنِى الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا يَعْنِى بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (2 / 383)
(2) - يَصْلِدُ : يَبْرُق .
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 195)(4380) صحيح
(4) - يعني : قدَّم أفعالِ الحج على بعض .
(5) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2605 ) صحيح(1/227)
الْمِيلَ الَّذِى تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ. قَالَ « فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ (1) وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا ». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ (2) . (3)
وعن أبي عُشَّانَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الأَرْضِ ، فَيَعْرَقُ النَّاسُ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى الْعَجُزِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى الْخَاصِرَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ ، فَأَلْجَمَ فَاهُ ، قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُشِيرُ هَكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ ، وَضَرَبَ (4) بِيَدِهِ إِشَارَةً." (5)
ثالثها طلب الاختصار :
أما طلب الاختصار فنأخذه من حديث ابنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ،وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ،وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ » (6) .
ألا ترى أنه قال أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ثم قال الجبهة وأشار بيده إلى الأنف،فهذا فيه بيان إلى أن الأنف تابع للجبهة،أي كأنهما عضو واحد،وفيه أيضاً اختصار بديع،إذ أنه - صلى الله عليه وسلم - استغنى عن ذكر الأنف بالإشارة إليه،ألا ترى أنه لو لم يشر إلى الأنف لكان يتوجه أن يقال : الجبهة والأنف،فلما استخدمت الإشارة على الأنف مع قوله الجبهة،أغنى ذلك عن ذكر الأنف . والله أعلم .
__________
(1) - الحَقوْ بفتح الحاء وكسرها مع سكون القاف : هو الموضع الذي يُعْقَدُ عليه الإزار ، أي يَبْلُغ به العَرَقُ إلى وسَطه .
(2) - أي أشار إلى فَمِهِ الشريف - صلى الله عليه وسلم - .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7385 )
(4) - (وضَرَب بيده إشارةً) أي أشارَ إشارةً إلى ما فوقَ رأسِه!
(5) - صحيح ابن حبان - (16 / 324) (7329) صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (812 ) وصحيح مسلم- المكنز - ( 1126 )- يكفت : يضم ويجمع(1/228)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ فِى حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ،فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ وَلاَ حَرَجَ . قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلاَ حَرَجَ . (1)
وعَنْ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُقْبَضُ الْعِلْمُ،وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ،وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ » . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ،فَحَرَّفَهَا،كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ (2)
قوله: "كأنه يريد القتل" كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ،مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَنَاجَشُوا،وَلاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَلاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا،الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ،لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ،التَّقْوَى هَاهُنَا،وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،حَسْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ،كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ،وَمَالُهُ،وَعِرْضُهُ. " (4)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ حَرْمَلَةُ بن زَيْدٍ , فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،الإِيمَانُ هَهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ،وَالنِّفَاقُ هَهُنَا،وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَلا يَذْكُرُ اللَّهَ إِلا قَلِيلا،فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ،وَسَكَتَ حَرْمَلَةُ،فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِطَرَفِ لِسَانِ حَرْمَلَةَ،فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ لِسَانًا صَادِقًا،وَقَلْبًا شَاكِرًا،وَارْزُقْهُ حُبِّي وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّنِي،وَصَيِّرْ أَمْرَهُ إِلَى الْخَيْرِ "،فَقَالَ حَرْمَلَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ لِي إِخْوَانًا مُنَافِقِينَ كُنْتُ فِيهِمْ رَأْسًا أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لا،مَنْ جَاءَنَا كَمَا جِئْتَنَا اسْتَغْفَرْنَا لَهُ كَمَا اسْتَغْفَرْنَا لَكَ،وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى ذَنْبِهِ فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِ،وَلا تَخْرِقْ عَلَى أَحَدٍ سَتْرًا ". (5)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (84 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (85 )
(3) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 182)
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 131)(7727) 7713- صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 487) (3397) حسن(1/229)
الخلاصة:
(1) توظيف إيماءات اليدين والرأس في صالح التعليم .
(2) الإشارات تفيد المعلم في الاختصار،أو زيادة تأكيد على الكلام،أو ترسيخ وتعميق بعض الأمور الهامة أو جذب انتباه السامع،أو تساعد المعلم في التعبير عن بعض المعاني التي قد يتعذر على اللسان الإتيان بها . وغيرها .
(3) هناك وظائف كثيرة متعارف عليها،وهي معلومة لنا بحكم العادة،كإشارة طلب السكوت،أو النفي،أو طلب المجيء والانصراف .
(4) إن الإسراف في حركة اليدين،مزعجة للطالب،ونقيضه تعطيل هذه الوسيلة يفوت على المعلم وسائل مساعدة في إيضاح بعض مواد الشرح . فكلا قصد طرفي الأمور ذميم .
ــــــــ
10- استخدام الرسومات للتوضيح والبيان :
يحتاج المعلمون إلى وسائل مساعدة،تساعد المعلم في إيصال المعلومات بشكل أفضل وأيسر،ومن هذه الوسائل ( السبورة ) حيث يتمكن المعلم من دعم شرحه بالكتابة أو بالرسم على ( السبورة ) ونحوها . ولك أن تقارن بين معلم يجمع بين الشرح والكتابة أو الرسم على(السبورة ) وبين معلم يقتصر على أسلوب الإلقاء فقط . قطعاً الأول أكثر إيضاحاً للمعنى المراد بيانه،وأسرع فهماً.وهذا أمر لا يحتاج إلى تدليل لإثباته.والرسول - صلى الله عليه وسلم - سبق التربية الحديثة بأربعة عشر قرناً حيث كان يدعم قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض حديثه برسومات تقرب المعنى للأذهان،وتعين على الحفظ . فمن ذلك :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا مُرَبَّعًا،وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ،وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ،مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ وَقَالَ « هَذَا الإِنْسَانُ،وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِى هُوَ(1/230)
خَارِجٌ (1) أَمَلُهُ،وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ (2) ،فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا (3) ،وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا » (4) .
الأجل
الأمل
الأعراض
فبيَّن لهم - صلى الله عليه وسلم - بما رسَمَه أمامَهم على الأرض،كيف يُحالُ بين الإنسانِ وآمالِه الواسعة،بالأجَل المُباغِت،أو العِلَلِ والأمراضِ المُقْعِدة،أو الهَرَمِ المُفني،وحَضَّهم على قِصَر الأملِ والاستعدادِ لِبَغْتَةِ الأجل،وكانت وسيلةُ الإيضاح في ذلك : الأرض والتُّرابَ كما رأينا .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ : خَطَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،خَطًّا بِيَدِهِ،ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا،قَالَ : ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ،وَشِمَالِهِ،ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ السُّبُلُ،لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153) سورة الأنعام (5)
فقد وضح النبي - صلى الله عليه وسلم - الفكرتين في هذين الحديثين بالرسم في الأرض، فرسم في الأول شكلا هندسيا وهو المربع، فيفيد هذا جواز الرسم للإيضاح إذا لم يكن فيه رسم لذوات الأرواح (6)
__________
(1) أي خارجٌ عن الخط .
(2) أي الحوادثُ والنوائبُ المفاجِئة .
(3) عبَّر بالنَّهْش وهو لَدْغُ الأفعى ذاتِ السُّم مبالَغةً في الإصابة والإهلاكِ السريع .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6417 )
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 210)(4437) صحيح
(6) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 4427) رقم الفتوى 65307 جوازالتعليم بالرسم لغير ذوات الأرواح(1/231)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَّ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ خَطَطْتُ هَذِهِ الْخُطُوطَ ؟ قَالُوا : لاَ . قَالَ : أَفْضَلُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ ابْنَةُ مُزَاحِمٍ." (1)
لم أرَ من بيَّن المعنى الذي أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خطِّه لتلك الخطوط الأربعة ، وهو يُبيِّنُ أفضليةَ هؤلاء النسوة الأربع ، والظاهرُ عندي والله أعلم أنَّ المعنيَّ من ذلك توكيدُ أفضلية هؤلاء النسوة الأربع على سائر نساء أهل الجنة ، فيكون إعلامُ ذلك حاصلاً من طريق السماع للقول من فمه - صلى الله عليه وسلم - ، والمشاهدةِ لخَطِّه بيده ، فيكون آكدَ ما يكون البيانُ في حَصْرِ الأفضلية فيهن ، والله أعلم . (2)
وقد استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائل إيضاح مادية أيضاً غير الرسم، فتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يَحمِلُ بيده الشيءَ الذي يَنهى عنه،ويَرفعُه إلى أنظارِ المخاطَبين،فيَجمعُ لهم بين النَّهي عن الشيء بالقَوْلِ والمُشاهَدةِ للمنهيِّ عنه بالعَيْن،فيكون ذلك أَوعى للنفوس،وأوضحَ في الدلالةِ على التحريم والمنع ،فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ ، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ ، وَقَالَ : هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي." (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِىِّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ يَقُولُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَرِيرًا بِشِمَالِهِ وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ فَقَالَ « إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِى حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ ». (4)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ يَأْخُذُ الْوَبَرَةَ مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ فَيَقُولُ : مَا لِي فِيهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا لأَحَدِكُمْ مِنْهُ ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ ؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ خِزْيٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ ، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ لَيُنَجِّي اللَّهُ بِهِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 815)(2957) 2959- صحيح
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 93)
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 250) (5434) صحيح لغيره
(4) - سنن ابن ماجه- المكنز - (3726 ) و سنن النسائي- المكنز - (5163 ) حسن(1/232)
مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَلاَ تَأْخُذْكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ." (1)
وقال عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ :أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ (2) لَهُمَا قِبَالاَنِ ، فَحَدَّثَنِى ثَابِتٌ الْبُنَانِىُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلاَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (3)
وعَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ - رضى الله عنها - كِسَاءً مُلَبَّدًا وَقَالَتْ فِى هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - – (4)
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ:أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ إِزَارًا غَلِيظًا، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الْمُلَبَّدَةِ، فَأَقْسَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ فِيهِمَا. (5)
وعَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَكِسَاءً مِمَّا يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةَ ، فَأَقْسَمَتْ بِاللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ. (6)
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ ، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي يَدِهِ قُصَّةٌ مِنْ شَعَرٍ ، قَالَ : فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِه ، وَقَالَ : إِنَّمَا عُذِّبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَتْ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ." (7)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي يَدِهِ قُصَّةٌ مِنْ شَعْرٍ يَقُولُ : مَا بَالُ نِسَاءٍ يَجْعَلْنَ فِي رُؤُوسِهِنَّ مِثْلَ هَذَا ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَجْعَلُ فِي رَأْسِهَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ غَيْرِهَا ، إِلاَّ كَانَ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 576)(22795) 23181- حسن لغيره
(2) - أي لا شَعَر عليهما
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3107 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3108 ) -الملبدة : المرقع أو الذى ثخن وسطه حتى صار كاللبدة
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (5563) ومسند أبي عوانة (6895 )
(6) - صحيح ابن حبان - (14 / 593)(6623) صحيح
(7) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 763)(16865) 16990- وسنن الترمذى- المكنز - (3009 ) صحيح(1/233)
زُورًا." (1)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَنَا ، وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ ، وَقَالَ : مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُهُ إِلاَّ الْيَهُودَ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَلَغَهُ ، فَسَمَّاهُ الزُّورُ." (2)
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ ، عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ (3) وَكَانَتْ فِى يَدَىْ حَرَسِىٍّ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ ، وَيَقُولُ « إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ » (4) .
والحرسي بفتح الحاء والراء وبالسين المهملات نسبة إلى الحرس وهم خدم الأمير الذين يحرسونه، ويقال للواحد حرسي لأنه اسم جنس
قوله: "أين علماؤكم؟" تقدم في ذكر بني إسرائيل أن فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، ويحتمل أنه أراد بذلك إحضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك أو لينكر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك ،"ألا وهذا الزور" قال قتادة: يعني ما تكثر به النساء أشعارهن من الخرق. وهذا الحديث حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشيء آخر سواء كان شعرا أم لا ... (5)
وقال النووي : "قَوْله : ( يَا أَهْل الْمَدِينَة أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ ) هَذَا السُّؤَال لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِهِمْ إِنْكَار هَذَا الْمُنْكَر وَغَفْلَتهمْ عَنْ تَغْيِيره . وَفِي حَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا اِعْتِنَاء الْخُلَفَاء وَسَائِر وُلَاة الْأُمُور بِإِنْكَارِ الْمُنْكَر ، وَإِشَاعَة إِزَالَته ، وَتَوْبِيخ مَنْ أَهْمَلَ إِنْكَاره مِمَّنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 320)(5510) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 321) )(5511) صحيح
(3) - ما أقبل على الجبهة من شعر الرأس سمي بذلك لأنه يقص والقص ما في وسط الصدر من شعر وقيل المشاش المغروزة فيه أطراف الأضلاع 0 فتح الباري لابن حجر - (1 / 174)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3468 ) وصحيح مسلم- المكنز -(5700 )
(5) - فتح الباري لابن حجر - (10 / 375)(1/234)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيل حِين اِتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ ) قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : يُحْتَمَل أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ ، فَعُوقِبُوا بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَهَلَكُوا بِسَبَبِهِ . وَقِيلَ : يُحْتَمَل أَنَّ الْهَلَاك كَانَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا اِرْتَكَبُوهُ مِنْ الْمَعَاصِي ، فَعِنْد ظُهُور ذَلِكَ فِيهِمْ هَلَكُوا . وَفِيهِ مُعَاقَبَة الْعَامَّة بِظُهُورِ الْمُنْكَر ." (1)
وقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض أمور الطبيعة للتعليم أيضا ، فعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ وَفِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ ، أَخْشَنُ الثِّيَابِ ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ، وَيُوضَعَ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةَ ثَدْيهِ ، فَوَضَعُوا رُؤُوسَهُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا ، قَالَ : وَأَدْبَرَ ، فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ ، فَقُلْتُ : مَا رَأَيْتُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ ، قَالَ : إِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ ، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَانِي ، فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ : فَأَجَبْتُهُ ، قَالَ : أَتَرَى أُحُدًا ، قَالَ : فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ وَأَنَا أَظُنُّهُ يَبْعَثُنِي لِحَاجَةٍ لَهُ ، فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ غَيْرَ ثَلاَثَةِ دَنَانِيرَ ، ثُمَّ هَؤُلاَءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا ، قَالَ : قُلْتُ : مَا لَكَ وَلِإِخْوَانِكَ قُرَيْشٍ ؟ قَالَ : لاَ وَرَبِّكَ لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ فِي دِينِي حَتَّى أَلْحَقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : " يَا أَهْلَ السُّوقِ ، مَا أَعْجَزَكُمْ " قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : " ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقْسَمُ،وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ " قَالُوا : وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : " فِي الْمَسْجِدِ " فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ،وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا،فَقَالَ لَهُمْ : " مَا لَكُمْ ؟ " قَالُوا : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ ، فَدَخَلْنَا ، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ . فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ : " أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا ؟ " قَالُوا : بَلَى،رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ،وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحرَامَ ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ :
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (7 / 242)
(2) - صحيح ابن حبان - (8 / 51) (3259) صحيح(1/235)
" وَيْحَكُمْ ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
إن استخدام وسائل الإيضاح الحسية في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ وفي العلم من الأمور المهمة؛ وقد استخدمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وهذا فيه إيضاح للناس وتعليم لهم بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزهد في الدنيا، وإيثار الآخرة والرغبة فيها؛ لأن ما عند الله خير وأبقى. فينبغي للداعية أن يستخدم وسائل الإيضاح الحسية في دعوته إلى الله عزّ وجلّ، وما ورد من أمثلة يؤكد للداعية والعالم أهمية استخدام الوسائل الحسية للإيضاح والتبيين وشد الانتباه للمدعوين والله المستعان. (2)
وعْن عَلِيٍّ ، قَالَ : انْطَلَقَ بِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى بِي الْكَعْبَةَ ، فَقَالَ : اجْلِسْ ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ الْكَعْبَةِ ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْكِبَيْ ، ثُمَّ قَالَ لِي : انْهَضْ بِي ، فَنَهَضْتُ بِهِ ، فَلَمَّا رَأَى ضَعْفِي تَحْتَهُ ، قَالَ : اجْلِسْ ، فَجَلَسْتُ فَنَزَلَ عَنِّي ، وَجَلَسَ لِي ، فَقَالَ : يَا عَلِيُّ ، اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبَي ، فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبِهِ ، ثُمَّ نَهَضَ بِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا نَهَضَ بِي خُيِّلَ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ نِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ ، فَصَعِدْتُ عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَتَنَحَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لِي : أَلْقِ صَنَمَهُمْ الأَكْبَرِ ، صَنَمِ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ مِنْ نُحَاسٍ ، وَكَانَ مَوْتُودًا بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي الأَرْضِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَالِجْهُ ، فَجَعَلْتُ أُعَالِجُهُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لِي : إِيهٍ ، فَلَمْ أَزَلْ أُعَالِجُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ ، فَقَالَ : اقْذِفْهُ ، فَقَذَفْتُهُ وَنَزَلْتُ. " (3)
وبعد . فإننا نضيف أموراً أخرى،وهي :
(1) أن يراعي المعلم وضوح المادة المكتوبة أو المرسومة .
(2) أن يتأكد من أن جميع الطلاب يشاهدون المادة المكتوبة أو المرسومة وإزالة جميع العوائق التي تمنع ذلك .
(3) استخدام الألوان وتنويعها لجذب الانتباه .
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1483 ) والمعجم الكبير للطبراني - (19 / 164)(402) حسن
(2) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (3 / 341)
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (20 / 471)(38062) حسن(1/236)
الخلاصة:
(1) دعم الشرح بالرسومات والكتابة،يزيد الشرح قوة إلى قوة .
(2) الرسومات والكتابات مع الشرح،تساعد في إيصال المعلومة بشكل سريع .
(3) يجب أن تكون الكتابة والرسومات واضحة يراها جميع الطلاب،مع مراعاة إزالة الحواجز التي قد تعيق رؤية الطلاب لها .
ــــــــ
11- توضيح المسائل المهمة عن طريق التعليل (1) :
قد تغلق بعض المسائل على الطالب،ويحتار فيها ولا يجد تفسيراً لها أو فكاً لرموزها،وعندئذ يأتي دور المعلم في بيان ما أشكل على الطالب وأغلق عليه . ومن ذلك استخدام أسلوب التعليل،أي بيان الأسباب والعلل التي جعلت هذه المسألة أو هذا الحكم على هذه الصورة . والتعليل يحل رموز المسائل المشكلة،ويدخل على النفس الراحة،ويكسبها الطمأنينة،هذا بالإضافة إلى رسوخ المسألة في الذهن وصيانتها عن النسيان،لأن حفظ ما علم علته وسببه أيسر ممن جهلت علته وسببه . وبالمثال يتضح الحال ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ،فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ،ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ،فَإِنَّ فِى أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِى الآخَرِ دَاءً » (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ،فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الآخَرِ شِفَاءٌ،وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ " (3)
ففي هذا الحديث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكمة من غمس الذبابة جميعها في الإناء أو
__________
(1) - عقد ابن القيم فصلاً ساق فيه بعض ما ورد في السنة من تعليل الأحكام . فارجع إليه إن شئت . ( أعلام الموقعين 1/152ط . دار الكتب العلمية ) .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5782 )
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 55) (5250) صحيح(1/237)
الشراب،وعللها بأن في أحد جناحي الذبابة داء وفي الآخر شفاء.ولو أن الحديث جاء هكذا بدون تعليل منه،لأصبح مشكلاً محيراً،ولكن لما جاء هذا التعليل بان لنا سبب الغمس والطرح .
وهذا الحديث ذكر قضيتين كلتاهما لم تكن معروفة قديماً:
أولاهما: أن الذباب ناقل داء وهذا شيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع.
وثانيهما: وهي التي يجهلها الكثير أن الذباب يحمل مضادات للجراثيم من النوع الممتاز كذلك. وهذا تحقيق كتبه الدكتور عز الدين جوالة حول هذا الموضوع ننقل منه ما يلزمنا هنا، يقول: قبل الخوض في هذا الموضوع لنتذكر ما يلي:
1- من المعروف منذ القديم أن بعض المؤذيات يكون في سمها نفع "ودواء" فقد يجتمع الضدان في حيوان واحد، فالعقرب في إبرتها سم "نافع" وقد يداوى سمها بجزءٍ منها، وفي ذلك يقول العلماء: وقد وجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء والآخر دواء وشفاء فيما أقامه الله من عجائب خلقه وبدائع فطرته شواهد ونظائر، منها: النحلة يخرج من بطنها شراب "نافع" ويكمن في إبرتها السم الناقع، والعقرب تهيج الداء بإبرتها ويتداوى من ذلك بجرمها.
2- وفي الطب: يحضر لقاح من ذبيب الأفاعي والحشرات السامة يحقن به لديغ العقرب أو لديغ الأفعى، بل وينفع في تخفيض آلام السرطان أيضاً.
3- إن الطب الحديث استخرج من مواد مستقذرة أدوية حيوية قلبت فن المعالجة رأساً على عقب "فالبنسلين" استخرج من العفن، و"الستربتومايسين" من تراب المقابر.... إلخ، أو بمعنى أدق من طفيليات العفن وجراثيم تراب المقابر.
أما والحالة كذلك، فهل يمتنع عقلاً ونظرياً أن يكون الذباب هذه الحشرة القذرة، والتي تنقل القذر طفيلي أو جرثوم يخرج أو يحمل دواء يقتل هذا الداء الذي تحمله.
4- من المعروف في فن الجراثيم أن للجرثوم "ذيفان" مادة منفصلة عن الجرثوم، وأن هذا "الذيفان" إذا دخل بدن الحيوان كون البدن أجساماً ضد هذا "الذيفان" لها قدرة على(1/238)
تخريب "الذيفان" والتهام الجراثيم تسمى بمبيدات الجراثيم.
فهل يستبعد القول بأن الذباب تلتهم الجراثيم فيما تلتهم، فيكون في جسم الذباب الأجسام الضدية المبيدة للجراثيم، والتي مر ذكرها، ولها القدرة على الفتك بالجراثيم الممرضة التي ينقلها الذباب إلى الطعام والشراب، فإذا وقعت في الطعام فما علينا إلا نغمس الذبابة فيه فتخرج تلك الأجسام الضدية فتبيد الجراثيم التي تنقلها وتقضي على الأمراض التي تحملها.
وبعد كلام الدكتور عز الدين يستمر فينقل تحقيقاً للطبيبين المصريين محمود كمال و محمد عبد المنعم حسين في إثبات ما في الحديث ننقل بعضاً منه، يقولان: ما تقوله المراجع العلمية: في سنة 1871، وجد الأستاذ الألماني بريفلد من جامعة "هال" بألمانيا أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات سماها "امبوزاموسكي" وهو طفيلي يعايش الذبابة على الدوام، وبالتدقيق فيه وجده من نوع من الفطور التي تسمى "انتوموفترالي" تنتمي إلى أهم فصيلة في الفطور الأشنية وهي المسماة بالفطور الأشنية المرتبطة أو المتحدة، وهو من النوع الثاني للفطر المسمى الفطور الأشنية الطفيلية، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة بشكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة سيأتي ذكرها، ثم لا تلبث هذه الخلايا المستديرة أن تستطيل فتخرج من الفتحات أو من بين مفاصل حلقات بطن الذبابة فتصبح خارج جسم الذبابة.
ودور الخروج هذا يمثل الدور التناسلي لهذا الفطر، وفي هذا الدور تتجمع بذور الفطر داخل الخلية، فيزداد الضغط الداخلي للخلية من جراء ذلك، حتى إذا وصل الضغط إلى قوة معينة لا تحتملها جدر الخلية انفجرت الخلية وأطلقت البذور إلى خارجها بقوة دفع شديدة، تدفع البذور إلى مسافة 2سم خارج الخلية، على هيئة رشاش مصحوباً بالسائل الخلوي.
وعلى هذا إذا أمعنا النظر في ذبابة ميتة ومتروكه على الزجاج نشاهد:
أ- مجالاً من بذر هذا الفطر حول الذبابة المذكورة.
ب- ويشاهد حول القسم الثالث والأخير من الذباب على بطنها وعلى ظهرها وجود(1/239)
الخلايا المتفجرة، والتي خرجت منها البذور وقد برز منها رؤوس الخلايا المستطيلة التي مر ذكرها.
وقد جاءت مكتشفات العلماء الحديثة مؤيدة ما ذهب إليه "بريفلد" ومبينة خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يعيش في بطن الذبابة، منها:
1- في عام 1945 أعلن أكبر أستاذ في علم الفطريات وهو "لانجيرون" أن هذا الفطر الذي يعيش دوماً في بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة فيها خميرة خاصة (إنزيم) قوية تحلل وتذيب من أجزاء الحشرة الحاملة للمرض.
2- في عام 1947- 1950 تمكن العالمان الإنجليزيان آرنشتين و كوك والعالم السويسري روليوس من عزل مادة سموها "جافاسين" استخرجوها من فصيلة الفطور التي تعيش في الذباب، وتبين لهم أن هذه المادة مضادة للحيوية تقتل جراثيم مختلفة من بينها جراثيم غرام السالبة والموجبة والديزانتريا والتيفوئيد.
3- في عام 1948 تمكن بريان وكورتيس و هيمنغ وجيفيرس وماكجوان من بريطانيا من عزل مادة مضادة للحيوية أسموها "كلوتيزين" وقد عزلوها عن فطريات تنتمي إلى نفس فصيلة الفطريات التي تعيش في الذباب وتؤثر في جراثيم غرام السالبة كالتيفوئيد والديزنيتريا.
4- وفي عام 1949 تمكن عالمان إنجليزيان هما كومسي وفارمر وعلماء آخرون من سويسرا هم جرمان وروث واثلنجر وبلاتز من عزل مادة مضادة للحيوية أيضاً أسموها "انياتين" عزلوها من فطر ينتمي إلى فصيلة الفطر الذي يعيش في الذباب، ووجدوا لها فعالية شديدة جداً وتؤثر بقوة على جراثيم غرام وسالب وعلى بعض الفطريات الأخرى كالزحار والتيفوئيد والكوليرا.
5- وفي عام 1947 عزل موفيس مواد مضادة للحيوية من مزرعة للفطريات الموجودة على نفس جسم الذبابة، فوجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم السالبة لصيفة غرام، كالزحار والتيفوئيد وما يشابهها، ووجدها ذات مفعول قوي على الجراثيم المسببة لأمراض الحميات ذات الحضانة القصيرة المدة، وأن غراماً واحداً من هذه المادة يمكنه أن يحفظ أكثر(1/240)
من 1000 ليتر من اللبن المتلوث بالجراثيم المذكورة.
والخلاصة أنه يستدل من كل ما سبق على الآتي:
أ- يقع الذباب على الفضلات والمواد القذرة والبراز وما شابه ذلك، فيحمل بأرجله أو يمج كثيراً من الجراثيم المرضية الخطرة.
ب- يقع الذباب على الأكل فيلمس بأرجله الملوثة الحاملة للمرض هذا الطعام أو هذا الشراب، فيلوثه بما يحمل من سم ناقعٍ، أو يتبرز عليه فيخرج مع ونيمها تلك الجراثيم الدقيقة الممرضة.
ت- فإذا حملت الذبابة من الطعام، وألقيت خارجه دون غمس، بقيت هذه الجراثيم في مكان سقوط الذباب، فإذا التهمها الآكل وهو لايعلم طبعاً، دخلت فيه الجراثيم، فإذا وجدت أسباباً مساعدة، تكاثرت ثم صالت وأحدثت لديه المرض، فلا يشعر إلا وهو فريسة للحمى طريحاً للفراش.
ث- أما إذا غمست الذبابة كلها، أو مقلت في الطعام فماذا يحدث؟ إذا غمست الذبابة أحدثت هذه الحركة ضغطاً داخل الخلية الفطرية الموجودة مع جسم الذبابة فزاد توتر البروز والسائل داخلها زيادة تؤدي لانفجار الخلايا، وخروج الأنزيمات الحاملة لجراثيم المرض والقاتلة له، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة بأرجلها فتهلكها وتبيدها، ويصبح الطعام طاهراً من الجراثيم المرضية.
ج- وهكذا يضع العلماء بأبحاثهم تفسيراً للحديث النبوي المؤكد لضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الغذاء ليخرج من بطنها الدواء الذي يكافح ما تحمله من داء. (1)
والحاصل أن كون الذبابة تحمل في إحدى جناحيها داء وفي الآخر شفاء أمر ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رد ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بثبوته عنه فقد خرج عن ملة الإسلام أما إذا رده لمجرد أنه لا يثبت عنده بمقتضى عدم مطابقته لما يسمى قواعد العلوم التجريبية، أو بأن العقل لا يقبله فإن هذا على خطر عظيم فإن قواعد العلوم التجريبية تنفي اليوم
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 4918)(1/241)
وجود شيء وتثبته غدا وتثبته اليوم وتنفيه غدا إضافة إلى أنها قد وقفت أمامها عقبات كأداء في الإجابة على كثير من التساؤلات ويكفي من ذلك أنها لا تعرف، ولن تعرف شيئا عن الروح هذا الكائن الذي إذا فقده الجسم صار جثة هامدة وصدق الله إذ يقول : (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)[الإسراء:85] والله تعالى أعلم . (1)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو قِلاَبَةَ قَالَ حَدَّثَنِى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ : نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إِنِّى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ ». قَالُوا : لاَ. قَالَ : « هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ». قَالُوا : لاَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ». (2)
وهذا الحديث فيه أن الرجل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليه نذراً في مكان يقال له بوانة،فلما عين ذلك الرجل المكان استفسر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبب ذلك فسأله هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية،وهل كان فيها عيد من أعيادهم،فلما قالوا:لا،وانتفى المحذور من أن يكون المكان مكان معصية،أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفائه بنذره،ثم علل ذلك بقوله : (لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ) أي إن نذر المعصية لا يجوز إمضاؤه.وأنت ترى كيف جاء هذا التعليل بياناً لاستفسار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك المكان،فلو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل،لسأل سائل،ما هو المقصود من استفسار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الموقع ؟ ولكن لما جاء التعليل وضح المقصود وأزال التوهم
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ،وَإِنِّي سَأُبَيِّنُ لَكُمْ شَيْئًا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذَلِكَ،إِنَّهُ أَعْوَرُ،وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ،وَإِنَّهُ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 883) و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 3010) رقم الفتوى 6776 الرد على من أنكر حديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم...."
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (3315 ) صحيح
وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (6 / 259) رقم الفتوى 40298 نذر قربة في مكان ما ثم عجز عن الذهاب إليه(1/242)
بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتَبٍ وَغَيْرِ كَاتَبٍ." (1)
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ : الْمَوْتُ،وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ،وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ،وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ. " (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ،وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ،فقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ فُلاَنًا ؟ قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَكَيْفَ تَرَاهُ وَتَرَاهُ ؟ قُلْتُ : إِذَا سَأَلَ أُعْطِيَ،وَإِذَا حَضَرَ أُدْخِلَ،ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ،فقَالَ : هَلْ تَعْرِفُ فُلاَنًا ؟ قُلْتُ : لاَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَمَا زَالَ يُحَلِّيهِ وَيَنْعَتُهُ حَتَّى عَرَفْتُهُ،فَقُلْتُ : قَدْ عَرَفْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ ؟ قُلْتُ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ،فقَالَ : هُوَ خَيْرٌ مِنْ طِلاَعِ الأَرْضِ مِنَ الآخَرِ،قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَفَلاَ يُعْطَى مِنْ بَعْضِ مَا يُعْطَى الآخَرُ ؟ فقَالَ : إِذَا أُعْطِيَ خَيْرًا فَهُوَ أَهْلُهُ،وَإِنْ صُرِفَ عَنْهُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَسَنَةً." (3)
الخلاصة:
(1) أسلوب التعليل يوضح ما صعب على الطالب فهمه،وما أشكل عليه .
(2) أسلوب التعليل يبعث في النفس الطمأنينة،ويقر المعنى للذهن .
(3) أسلوب التعليل،سبب في رسوخ المعلومات في ذهن الطالب .
ــــــــ
12- ترك استخراج الجواب للمتعلم :
إن ترك المعلم الطالب يستخرج الجواب بنفسه،وسيلة نافعة في إعمال الذهن،وتحريضه
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (15 / 183) (6780) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 797)(23625) 24024- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 460)(685) صحيح(1/243)
على التفكير والإدلاء بالجواب.ويكفي هذه الطريقة فائدة،أنها شحذت الذهن والحواس،وجعلتها تبحث جاهدة للعثور على الجواب المطلوب،وهذا في حد ذاته تقدماً ومكسباً ينضاف إلى رصيد الطالب.بيان ذلك،بأن يطرح المعلم مسألة معينة،ثم يقربها لهم ويترك الجواب أو الحكم النهائي لهم.وقد تكون هذه المسألة المطروحة تستلزم جواباً من الطالب،وقد لا تستلزم ذلك ولكنها تتطلب إعمالاً ذهنياً وشحذاً فكرياً . وإليك الأمثلة،فعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنِ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ تَسْلِيمُهُ عَلَى مَنْ لَقِىَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُهُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ وَبُضْعَةُ أَهْلِهِ صَدَقَةٌ وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَحَدِيثُ عَبَّادٍ أَتَمُّ وَلَمْ يَذْكُرْ مُسَدَّدٌ الأَمْرَ وَالنَّهْىَ زَادَ فِى حَدِيثِهِ وَقَالَ كَذَا وَكَذَا وَزَادَ ابْنُ مَنِيعٍ فِى حَدِيثِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يَقْضِى شَهْوَتَهُ وَتَكُونُ لَهُ صَدَقَةٌ قَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِى غَيْرِ حِلِّهَا أَلَمْ يَكُنْ يَأْثَمُ ». (1)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث،أرأيت لو وضعها في غير حلها ألم يكن يأثم ؟ .فالجواب وإن كان مسكوتاً عنه، فهو إن وضعها في حلها فهو له صدقة .أليس هذا إعمالاً للذهن ؟
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا قَالَ : حُمْرٌ،قَالَ : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقٍ فَقَالَ : إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا،قَالَ : فَأَنَّى تَرَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ " (2)
وفي الفتح : " وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبا لفهم السائل، واستدل به لصحة العمل بالقياس، قال الخطابي: هو أصل في قياس الشبه. وقال ابن
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (1287 ) صحيح
سلامى : السلامى : واحدة من السلاميات ، وهي مفاصل الأصابع.-الأذى : كل شيء يؤذي الناس في طرقهم.-إماطة : و«الإماطة» الإزالة : وتنحيته من الطريق.-بضعة : البضع : النكاح ، وقيل : هو الفرج ، فكنى به عن النكاح.
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 417) (4107) وصحيح البخارى- المكنز - (6847) وصحيح مسلم- المكنز - (3839 )(1/244)
العربي: فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير، وفيه أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرد الظن، وأن الولد يلحق به ولو خالف لونه لون أمه.
وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه الاحتياط للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزجر عن تحقيق ظن السوء. وقال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حد فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر بالنسبة إلى صيانة النسب، والله أعلم." (1)
وعند التأمل لهذا الحديث نرى كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاوره وقرب إليه المسألة حتى أجاب السائل بقوله : عسى أن يكون نزعه عرق . ولا شك أن هذه الطريقة تتطلب براعة من المعلم،وحسن اختيار للمسائل المطروحة،ومراعاة البساطة والسهولة فيها،وتقريبها للذهن بذكر القرائن والأحوال المصاحبة ونحو ذلك
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا لأَصْحَابِهِ : أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ،قَالَ : فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَذَاكَرُونَ شَجَرًا مِنْ شَجَرِ الْوَادِي قَالَ عَبْدُ اللهِ : وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَوْ رَوْعِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ،قَالَ : فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ،فَأَرَى أَسْنَانًا مِنَ الْقَوْمِ،فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ،فَلَمْ يَكْشِفُوا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هِيَ النَّخْلَةُ. (2)
الخلاصة:
(1) استخراج الطالب الإجابة بنفسه من المسألة،طريقة مفيدة ونافعة في إعمال الذهن،وشحذ الفكر .
(2) قد تستلزم المسألة المطروحة إجابة من الطالب،وقد لا تستلزم ذلك .
(3) هذه الطريقة تتطلب براعة من المعلم،وحسن اختيار للأمثلة .
(4)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (9 / 444)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 480) (245) وصحيح مسلم- المكنز - (7277) -الأسنان : كبارهم وشيوخهم وذوو السن منهم(1/245)
كلما كانت المسألة المطروحة،سهلة - ليست من النوع التي تصعب على الذهن - كان ذلك أدعى لحصول المقصود .
ــــــــ
13- استخدام التكرار في التعليم:
إن استخدام أسلوب التكرار في التعليم له فوائد عظيمة النفع منها :
التأكيد على مسألة مهمة،أو حكم هام،ومنها تنبيه الغافل ومن به نعاس ونحوه،ومنها حفظ الشيء المكرر .والاقتصار على ثلاث مرات،أمر قد تكر كثيراً في أحاديث المصطفي - صلى الله عليه وسلم - ، فقدكان - صلى الله عليه وسلم - يُكرِّرُ حديثَه تأكيداً لمضمونِه،وتنبيهاً للمخاطب على أهمِّيَّته،وليفهَمَه السامعُ ويُتقِنَه،قال ابن التين : فيه أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان . أه (1) .
وقد تَرجَمَ الإمام البخاري لهذا المعنى (بابَ من أعادَ الحديث ثلاثاً ليُفهَمَ عنه) (2)
ومن تأمل ذلك وجده كما قال . وقد يزاد على الثلاث للحاجة كما ستراه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - قريباً . والتكرار قد يكون في الكلمات والجمل،وقد يكون في الأسماء،وقد يكون في غيرهما .
فأولاً : تكرار الكلمات :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهُا قَالَتْ : كَانَ كَلاَمُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلاَمُا فَصْلاً،يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ. (3)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 189)
(2) - 6 1 :188 189 في كتاب العلم . قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :189 : ((قال ابنُ المنيِّر : نَبَّه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كَرِه إعادةَ الحديث ، وأنكَرَ على الطالب الاستعادة ، وعَدَّه من البَلادَةِ
قال : والحقُّ أن هذا يَختَلِفُ باختلاف القَرائحِ ، فلا عيب على المُستفيد الذي لا يَحفَظ من مرةٍ إذا ستعادَ ، ولا عُذرَ للمفيدِ إذا لم يُعِد ، بل الإعادةُ عليه آكدُ من الابتداء ، لأن الشروعَ مُلزِم .
وقال ابنُ الِّيْن : في هذا الحديث أنَّ الثلاثَ غايةُ ما يَقَع به الاعتذارُ والبيان)) . انتهى كلام الحافظ ابن حجر .
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 407) (26821) حسن(1/246)
أي فاصلاً بين الحق والباطل وآثره عليه لأنه أبلغ أو مفصولاً عن الباطل أو مصوناً عنه فليس في كلامه باطل أصلاً أو مختصاً أو متميزاً في الدلالة على معناه وحاصله أنه بين المعنى لا يلتبس على أحد بل (يفهمه كل من سمعه) من العرب وغيرهم لظهوره وتفاصيل حروفه وكلماته واقتداره لكمال فصاحته على إيضاح الكلام وتبيينه "فيض القدير (1)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ،وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلاَثًا لِتُعْقَلَ عَنْهُ. (3)
قال المباركفوري : " وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ الْكَلَامَ ثَلَاثًا إِذَا اِقْتَضَى الْمَقَامُ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْمَعْنَى أَوْ غَرَابَتِهِ أَوْ كَثْرَةِ السَّامِعِينَ لَا دَائِمًا فَإِنَّ تَكْرِيرَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِتَكْرِيرِهِ لَيْسَ مِنْ الْبَلَاغَةِ كَذَا فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِلْبَيْجُورِيِّ
( لِتُعْقَلَ عَنْهُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لِتُفْهَمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - ." (4)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ » . ثَلاَثًا (5) . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ (6) ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ » (7) . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ » . قَالَ
__________
(1) - شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (10 / 500)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (95)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (4001 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
(4) - تحفة الأحوذي - (9 / 49)
(5) قالها ثلاث مراتٍ ، جرياً على عادتِه - صلى الله عليه وسلم - في تكرير الشيء ثلاث مراتٍ تأكيداً ، ليُنبِّه السامع إلى إحضارِ قلبِه وفهمِه للخبر الذي يَذكُره .
(6) قوله ((الإشراكُ بالله)) يُرادُ به مطلقُ الكفرِ ، لأنَّ بعضَ الكفر مثل الإلحاد وجحد الخالق أعظمُ من الإشراك بالله ، وإنما خَصَّه بالذكرِ لغَلَبةِ الشِّركِ آنئذٍ في بلادِ العرب ، فذكره تنبيهاً على غيرِه من أصنافِ الكفر
(7) قال الشيخ أبو عمرو بنُ الصلاح رحمه الله تعالى في ((فَتاويه)) 1:201 : ((العقوقُ المحرَّم كلُّ فعل يتأذى به الوالدُ أو الوالدةُ تأذِّياً ليس بالهيِّن ، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة ، قال : وربما قيل : طاعةُ الوالدين واجبةٌ في كلِّ ما ليس بمعصيةٍ ، ومُخالفَةُ أمرِهما في ذلك عقوق)) . نَقَله النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 :87 .(1/247)
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . (1)
" قوله: "ثلاثا" أي قال لهم ذلك ثلاث مرات، وكرره تأكيدا لينتبه السامع على إحضار فهمه، ووهم من قال: المراد بذلك عدد الكبائر" (2)
قول الزور وشهادة الزور بمعنى واحد ، وعطفُ أحدِهما على الآخر عطفُ تفسيرٍ ، ومن باب التوكيد وزيادة التفظيع له .
وإنما كرَّر قوله : ألا وقولُ الزّور وشهادةُ الزّور ، ولم يُكرِّر قوله : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، اهتماماً منه - صلى الله عليه وسلم - بالزجر عن شهادة الزور ، لأنها أسهلُ وُقوعاً على الناس ، والتهاوُنِ بها أكثر ، ومفسدتُها أيسرُ وقوعاً .
لأن الشرك يَنبو عنه المسلم ، والعقوق ينبو عنه الطبعُ ، وأما شهادةُ الزور فالدَّوافعُ والبواعثُ عليها كثيرة ، فحَسُنَ الاهتمامُ بها ، وليس التكرارُ لعِظَمِها بالنسبةِ إلى ما ذُكِر معها ، فالشركُ أو الكفرُ أعظمُ الذنوبِ جميعاً .
وشهادة الزور هي الشهادةُ بالكذبِ ليَتَوصَّل بها إلى الباطل من إتلافِ نَفْسٍ ، أو أخذِ مالٍ ، أو إلى إبطالِ حقٍّ للغير ، ولا شيء من الكبائر أعظمُ ضرراً منها ، ولا أكثرُ فساداً ، بعد الشرك بالله ، ومن ثم جُعِلَتْ عَدْلاً للشرك ، ووَقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكرِها من الغضب والتكرير ما لم يَقَع منه عند ذكر أكبَرَ منها كالقتلِ والزنا .
قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) : ((وفي هذا الحديث : استحبابُ إعادة الموعظة ثلاثاً لتُفهَم ، وانزِعاجُ الواعظِ في وعظِه ليكون أبلغَ في الوعي عنه ، والزجرِ عن فعل ما يَنهى عنه .
وفيه إشفاقُ التلميذ على شيخِه إذا رآه مُنزعِجاً وتمنّي عدم غضبه لما يترتَّب على الغضب من تغيُّر مزاجه)) . انتهى (3) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2654 )
(2) - فتح الباري لابن حجر - (5 / 262)
(3) - ((فتح الباري)) 10 :412(1/248)
وفيه أيضاً : أنه ينبغي للعالم أن يَعرِضَ على أصحابِه ما يُريدُ أن يُخبِرهم به ، لحَثِّهم على التفرُّغِ والاستماعِ له .
وما هذا التكرارُ وتغييرُ الحال التي هو عليها إلاّ للَفْتِ أذهانِ السامعين إلى خُطورةِ ذلك العمل الذي يُحذِّر منه،وهو شهادةُ الزّور .
وقال أَبُو ظَبْيَانَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ،فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ،فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . فَكَفَّ الأَنْصَارِىُّ،فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ،فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (1) .
قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد. وقال القرطبي: في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك"
وفيه دليل عل ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة. قوله: "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" أي أن إسلامي كان ذلك اليوم لأن الإسلام يجب ما قبله، فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة، ولم يرد أنه تمنى أن لا يكون مسلما قبل ذلك. قال القرطبي: وفيه إشعار بأنه كان استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة (2)
والمعنى أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم وخاطب الناس أن يكلمهم بكلام بين لا يستعجل في إلقاء الكلمات، ولا يدغم شيئا في شيء ويكون حقه الإظهار بل يكون كلامه فصلا بينا واضحا حتى يفهم المخاطب بدون مشقة وبدون كلفة فبعض الناس تجده في الكلام ويأكل
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4269 ) وصحيح مسلم- المكنز - (288)
غَيِيناه : أدركناه ولحقناه ، كأنهم أتَوهُ من فَوقه.-مُتعوِّذا المُتَعوِّذُ : الملتجئ خوفا من القتل.
(2) - فتح الباري لابن حجر - (12 / 195)(1/249)
الكلام،حتى إن الإنسان يحتاج إلى أن يقول له: ماذا تقول ؟ فهذا خلاف السنة فالسنة أن يكون الكلام بينا واضحا يفهمه المخاطب وليس من الواجب أن يكون خطابك باللغة الفصحى .فعليك أن تخاطب الناس بلسانهم وليكن بينا واضحا كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه فقوله: حتى تفهم عنه يدل على أنها إذا فهمت بدون تكرار فإنه لا يكررها وهذا هو الواقع فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسمع عنه أحاديث كثيرة يقولها في خطبة وفي المجتمعات ولا يكرر ذلك، لكن إذا لم يفهم الإنسان بأن كان لا يعرف المعنى جيدا فكرر عليه حتى يفهم أو كان سمعه ثقيلا لا يسمع أو كان هناك ضجة حوله لا يسمع فهنا يستحب أن تكرر حتى يفهم عنك ،وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا معناه أنه كان لا يكرر أكثر من ثلاث يسلم مرة فإذا لم يجب سلم الثانية فإذا لم يجب سلم الثالثة فإذا لم يجب تركه،وكذلك في الاستئذان كان - صلى الله عليه وسلم - يستأذن ثلاثا يعني إذا جاء للإنسان يستأذن في الدخول على بيته يدق عليه الباب ثلاث مرات فإذا لم يجب انصرف فهذه سنته - صلى الله عليه وسلم - أن يكرر الأمور ثلاثا ثم ينتهي .
وهل مثل ذلك إذا دق جرس الهاتف ثلاث مرات ؟ يحتمل أن يكون من هذا الباب، وأنك إذا اتصلت بإنسان ودق الجرس ثلاث مرات وأنت تسمعه وهو لم يجبك، فأنت في حل إذا وضعت سماعة الهاتف ويحتمل أن يقال: إن الهاتف له حكم آخر وأنك تبقى حتى تيأس من أهل البيت لأنهم ربما لا يكونون حول الهاتف عند اتصالك فربما يكونون في طرف المكان ويحتاجون إلى خطوات كثيرة حتى يصلوا إلى الهاتف فلذلك قلنا باحتمال الأمرين ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلامه فصلا يعني مفصلا لا يدخل الحروف بعضها على بعض ولا الكلمات بعضها على بعض حتى لو شاء العاد أن يحصيه لأحصاه من شدة تأنيه - صلى الله عليه وسلم - في الكلام وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يكون كلامه متداخلا بحيث يخفي على السامع لأن المقصود من الكلام هو إفهام المخاطب وكلما كان أقرب إلى الإفهام كان أولى وأحسن، ثم إنه ينبغي للإنسان إذا استعمل هذه الطريقة يعني إذا جعل كلامه فصلا بينا واضحا وكرره ثلاث مرات لمن لم(1/250)
يفهم ينبغي أن يستشعر في هذا أنه متبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يحصل له بذلك الأجر وإفهام أخيه المسلم وهكذا جميع السنن اجعل على بالك أنك متبع فيها لرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يتحقق لك الاتباع " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا (2) صَلاَةُ الْعَصْرِ ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثًا.. (3)
قوله (ويلٌ للأعقاب من النار) الويلُ : وادٍ في جهنَّم ، يريدُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا تهديدَ من لم يَستوف غَسْل قدمَيْه بالماء . و(الأعقاب) جمعُ عَقِب ، وهو مؤخَّر القَدَم ، قال البغوي : معناه ويلٌ لأصحاب الأعقاب المُقصِّرين في غَسْلِها .
وفي الحديث من المسائل : تعليمُ الجاهل ، ورفعُ الصوت بالإنكار ، وتكرارُ المسألة لتُفهم (4)
وقولُه (مرتين أو ثلاثاً) قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (5) : ((هو شك من الراوي ، وهو يَدُلُّ على أن الإعادةَ ثلاثَ مرَاتٍ ليستْ شرطاً ، بل المرادُ التفهيمُ ، فإذا حَصَل بدونِها أجزأ)) .
وعَنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ بِالنَّاسِ قِبَلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلاَةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَكِبُوا ، فَلَمَّا أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ نَعَسَ النَّاسُ عَلَى أَثَرِ الدُّلْجَةِ (6) ، وَلَزِمَ مُعَاذٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتْلُو أَثَرَهُ ، وَالنَّاسُ تَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ تَأْكُلُ وَتَسِيرُ ، فَبَيْنَمَا مُعَاذٌ عَلَى أَثَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَنَاقَتُهُ تَأْكُلُ مَرَّةً وَتَسِيرُ أُخْرَى عَثَرَتْ نَاقَةُ مُعَاذٍ ، فَكَبَحَهَا بِالزِّمَامِ ، فَهَبَّتْ حَتَّى نَفَرَتْ مِنْهَا نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَشْفَ عَنْهُ قِنَاعَهُ ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا لَيْسَ مِنَ الْجَيْشِ
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (3 / 330)
(2) قولُه (أَرْهَقَتْنا) أي أدركَتْنا الصلاةُ وضاق وقتُها .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (60 )
(4) - كما في ((فتح الباري)) 1 :266 .
(5) - في ((فتح الباري)) 1 :189
(6) الدُّلْجَةُ السفر من أول الليل ، أي بسبب سفرهم من أول الليل نَعَسوا .(1/251)
رَجُلٌ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ مُعَاذٍ ، فَنَادَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا مُعَاذُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ . قَالَ : ادْنُ دُونَكَ . فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى لَصِقَتْ رَاحِلَتَاهُمَا إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا كُنْتُ أَحْسِبُ النَّاسَ مِنَّا كَمَكَانِهِمْ مِنَ الْبُعْدِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : يَا نَبِيَّ اللهِ نَعَسَ النَّاسُ ، فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ تَرْتَعُ وَتَسِيرُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا كُنْتُ نَاعِسًا . فَلَمَّا رَأَى مُعَاذٌ بُشْرَى (1) رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ وَخَلْوَتَهُ لَهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ائْذَنْ لِي أَسْأَلْكَ عَنْ كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْنِي وَأَحْزَنَتْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْنِي عَمَّ شِئْتَ . قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ لاَ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا . قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَخٍ بَخٍ بَخٍ لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ ، لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ ، ثَلاَثًا ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ، فَلَمْ يُحَدِّثْهُ بِشَيْءٍ إِلاَّ قَالَهُ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، يَعْنِي أَعَادَهُ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ؛ حِرْصًا لِكَيْ مَا يُتْقِنَهُ عَنْهُ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ ، وَتَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا حَتَّى تَمُوتَ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَعِدْ لِي فَأَعَادَهَا لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ يَا مُعَاذُ بِرَأْسِ هَذَا الأَمْرِ (2) ، وَقَوَامِ هَذَا الأَمْرِ وَ ذُرْوَةِ السَّنَامِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : بَلَى بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ فَحَدِّثْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ رَأْسَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَإِنَّ قَوَامَ هَذَا الأَمْرِ إِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَإِنَّ ذُرْوَةَ السَّنَامِ مِنْهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، وَيَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ ، وَلاَ اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ تُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ ثَقُلَ
__________
(1) أي ارتياحَه وتوجهه إليه .
(2) المرادُ بقوله (هذا الأمر) الدّين ، أو العَمَلُ الذي يُدخِلُ الجنة .(1/252)
مِيزَانُ عَبْدٍ كَدَابَّةٍ تَنْفُقُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. " (1)
ثانياً : تكرار الاسم :
وكان - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان يُكرِّرُ نداء المُخاطَب مع تأخير الجواب،لتأكيد الانتباه والاهتمام بما يُخبِرُه به،وليُبالِغَ تفهُّمِه وضبطِه عنه .
فعَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ (2) قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ (3) . قَالَ « يَا مُعَاذُ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ (4) . ثَلاَثًا .
قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا » . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا (5) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،قَالَ : كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ،فقَالَ : يَا مُعَاذُ قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ،قَالَ : ثُمَّ سَارَ سَاعَةً،ثُمَّ،قَالَ : يَا مُعَاذُ،قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ،قَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ (6) ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ : أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا،قَالَ : ثُمَّ سَارَ سَاعَةً،ثُمَّ،قَالَ : هَلْ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 381) (22122) 22473- حسن
(2) الرَّحْل للبعير كالسَّرْج للفَرَس والحِمار ، وآخِرَةُ الرَّحْل : هي العود الذي يُجعَلُ خلف الرّاكِب يَستَنِدُ إليه . وفائدةُ ذكر ذلك بيانُ شدة قُربِه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هو رديفُه خلفَ ظهرِه على الدّابةِ ، فهو أوعى ما يكون وأضبطُ ما يكون لما يسمَعُه منه ، فهو يَذكُرُ الهيئةَ والحالَ التي كان عليها وقت سماعه هذا الحديث ، وهذا قرينُه زيادةِ الضبط .وكان مركوبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال حِماراً ، كما جاء ذلك مُصرَّحاً به في رواية مسلم 1 :232 عن عمرو بن ميمون ، عن معاذ بنِ جبل ، وفي رواية ((مسند أحمد)) 5 :238 عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن معاذ ، فيكون المرادُ (بآخِرَةِ الرَّحْلِ) موضعُ آخِرَةِ الرَّحل .
(3) معنى (لبيك) : أجبتُك إجابةً بعدَ إجابةٍ ، و(سعديك) : ساعَدتُ طاعتَك مُساعدةً بعدَ مُساعَدةٍ .
(4) هذا النداءُ المكرَّر ثلاثاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذ ، مع تأخير جوابِ النداء ، لتأكيد الاهتمام بما يُخبِره ، وليَكْمُلَ انتباه معاذ فيما يَسمعُه ، ليتَدبَّره ويَعيَه كما ينبغي .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (128 )
(6) أي ما يَستحقُّه الله تعالى على عبادِه مما جَعَله حَتْماً عليهم .(1/253)
تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ (1) ،إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ (2) ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ : فَإِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ. (3)
وذلك فضلاً منه وكرماً ، بحكم وعدِه الصادقِ . وفي الحديث من الأمور التعليمية كما قال الحافظ ابن حجر (4) : ((حُسنُ أدب معاذ رضي الله عنه في القولِ ، وفي العلم بردِّه لما لم يُحِطْ بحقيقتِه إلى علمِ الله ورسولِه ، وفيه قُرب منزلتِه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه تكرار الكلام لتأكيدِه وتفهيمه ، وفيه استِفسارُ الشيخِ تلميذَه عن الحكم ليَختَبِر ما عنده ، ويُبَيِّن ما يُشكلُ عليه منه .
وفي هذا الحديث نلحظ تكرار منادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل ثلاث مرات،والسر في ذلك والله أعلم هو تهيئة معاذ للخبر العظيم الذي سوف يحمله،ويدلك على ذلك قول معاذ في الحديث أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟ فإن فيه دلالة واضحة على عظم هذا الحديث وجلالة قدره،لما فيه من البشرى العظيمة.ونخرج من هذا الحديث،أن المعلم إذا أراد أن يبث خبراً هاماً لأحد طلابه أن يناديه باسمه ثلاث مرات،ثم يلقي إليه الخبر،وقس على ذلك لو كانوا جماعة فله أن يناديهم بالاسم الذي يجمعهم،كأن يقول : يا طلاب ( ثلاثاً ) أو نحواً من ذلك .
3- تكرار الجواب
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِى . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . فَرَدَّدَ مِرَارًا،قَالَ « لاَ تَغْضَبْ » . (5) ...
__________
(1) قال بعضُ العلماء : يُريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (حق العباد على الله) : حقّاً عُلِم من جهةِ الشرع ، لا بإيجابِ العقلِ ، فهو كالواجب في تحقُّقِ وقوعِهِ . أو هو على جهة المُشاكَلَةِ ، كقوله تعالى : (فيَسخَرون منهم سَخِرَ الله منهم) ، وقوله سبحانه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام : (تعلَمُ ما في نفسي ولا أعلَمُ ما في نفسك) .
(2) أي إذا فَعَلوا العبادة له مُخلِصين له فيما دون إشراكِ أحَدٍ معه .
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 82) (362) وصحيح البخارى- المكنز - (6500 )
مؤخرة الرحل : الرحل : كور البعير ، ومؤخرته مخففا مهموزا : الخشبة التي في آخره يستند إليها الراكب.- تأثما : يقال : فعل فلان ذلك تأثما ، أي : تجنبا للإثم وكفا عنه.
(4) - ((فتح الباري)) 11 :291
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6116 )(1/254)
وعَنِ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ،أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،قُلْ لِي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ،وَأَقْلِلْ لَعَلِّي لاَ أُغْفِلُهُ،قَالَ : لاَ تَغْضَبْ فَعَادَ لَهُ مِرَارًا،كُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَغْضَبْ. (1)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تَغْضَبْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لاَ تَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الْغَضَبِ مِمَّا نَهَيْتُكَ عَنْهُ،لاَ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْغَضَبِ،إِذِ الْغَضَبُ شَيْءٌ جِبِلَّةٌ فِي الإِنْسَانِ،وَمُحَالٌ أَنْ يُنْهَى الْمَرْءُ عَنْ جِبِلَّتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا،بَلْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَمَّا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْغَضَبِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ.
الخلاصة:
(1) التكرار ثلاثاً غاية ما يحصل به البيان،ولكن قد يزاد فوق الثلاث للحاجة .
(2) التكرار وسيلة ناجعة في حفظ المعلومات،وفي التركيز على النقاط الهامة .
(3) تكرار الاسم يجعل المنادي يتهيأ لاستقبال الخبر .
(4) تكرار الجواب يبين أهمية الموضوع وخطره .
ــــــــ
14- استخدام أسلوب التقسيم في التعليم :
هذا أسلوب عزيز وجودة عند المعلمين وقليل هم الذين يستخدمونه أثناء طرحهم لموادهم العلمية،وأعني بأسلوب التقسيم،أن يعمد المعلم إلى دراسة المادة العلمية التي يراد طرحها على الطلاب،ثم يقسمها إلى أقسام أو مراتب أو فقرات أو نقاط - سمها ما شئت - ثم يقوم بطرحها على الطلاب.ولا يخفى ما في هذه الطريقة من فائدة عظيمة للطالب،إذ إنها تجعل الطالب يلم بأطراف الموضوع،وتجعله يحفظ المعلومات ويستوعبها بشكل سريع،هذا بالإضافة إلى صيانة المعلومات وحفظها من النسيان.فإذا نسي الطالب معلومة منها ثم تذكر أن عددها كذا،أو أقسامها كذا،كان ذلك معيناً لاسترجاع المعلومة المفقودة.ولعل الذي يطالع الكتب الفقهية،يرى أنواعاً عديدة من التقسيمات،فهناك شروط،وواجبات،وأركان،ومحظورات .. إلخ . وكل هذه التقسيمات لم يرد بها نص عن المعصوم عليه الصلاة والسلام،وإنما وضعها العلماء والفقهاء - رحمهم الله - من أجل
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 502) (5689) صحيح(1/255)
تقريب العلم لطالبيه،وحصر مواده،وجمع متفرقاته،فيسهل على مريده حفظه ومراجعته.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل ذلك :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ،وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ رَبِّهِ،وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ،وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ،وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا،وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ ».قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ». (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ،وَالسِّحْرُ،وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ،وَأَكْلُ الرِّبَا،وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ،وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ،وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ » (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ،وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :
لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ،حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا،إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ،وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (660 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2427)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 488) (254) وصحيح البخارى- المكنز( 34) وصحيح مسلم- المكنز - (219)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5778 ) -سمت : ادع له والتسميت الدعاء بالخير والبركة
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2766 ) وصحيح مسلم- المكنز - (272 )(1/256)
تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.
وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ،إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ،وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ،وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ،إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ،وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.
وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ،وَعَهْدَ رَسُولِهِ،إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ،فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.
وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ،وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ،إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ." (1)
والأخبار في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جداً،ولو ذهبنا نستقصي بعضها،لطال بنا المقام،وفيما ذكرنا غنية وكفاية .
ثم لو دققنا النظر في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ،لوجدنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر العدد مجملاً ثم يفصل في ذلك،ولا شك أن هذه الطريقة أشد جذباً للنفس،وأحسن ترتيباً وسياقاً.والمعلمون ينبغي عليهم أن يسلكوا هذا السبيل،إن أرادوا أن ييسروا العلم ويذللوه لطلابهم .
الخلاصة:
(1) إن أسلوب التقسيم،معين على حفظ المعلومات،ويصونها من النسيان .
(2) إن هذه الطريقة تستلزم من المعلم دقة ومهارة .
(3) يفضل عند استخدام هذه الطريقة،استخدام أسلوب الإجمال ثم التفصيل .
ــــــــ
15- استخدام أسلوب الاستفهام أثناء التعليم :
يحتاج المعلم في جذبه لانتباه الطالب إلى وسائل متعددة،وطرق متباينة،ولا بد للمعلم من التنويع بين وسائل الجذب لكي لا يألف الطالب طريقة معينة فيعتادها،ثم لا تحدث لديه أثراً بحكم الاعتياد . ومن وسائل الجذب التي يحتاجها المعلم،هو استخدام أسلوب
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (5 / 149) (4019) حسن(1/257)
الاستفهام بين يدي الحديث،أو في منتصف الحديث لجذب انتباه الطالب وحثه على استحضار الذهن.يبين ذلك الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ » . ثَلاَثًا . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ » . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . (1)
ف (ألا) أداة استفهام للتنبيه،والتحضيض لضبط ما يقال وفهمه على وجهه (2) .
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ،ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَقَفَ عَلَى بَعِيرِهِ،وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ قَالَ : بِزِمَامِهِ - فَقَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،فَقَالَ : أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى،قَالَ : فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،فَقَالَ : أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا : بَلَى،قَالَ : فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،قَالَ : أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامِ،قُلْنَا : بَلَى،فَقَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ،وَأَمْوَالَكُمْ،وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ،فَإِنَّ الشَّاهِدَ يَبْلُغُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ. (3)
" قال القرطبي: سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دمائكم الخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء. انتهى. ومناط التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم " وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم - مقررا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2654 ) وصحيح مسلم- المكنز - (269)
(2) دراسات في الحديث النبوي . د/ محمد لقمان الأعظمي الندوي .ص 192 .
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 158) (3848) وصحيح البخارى- المكنز - (67 )(1/258)
بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لاَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ،فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ،وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ،وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ،وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا،فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَقَامُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا،فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ،قَالَ : فَيَأْتِيهِمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ،فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا،وَيُضْرَبُ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ،وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ،وَبِهِ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ،هَلْ تَدْرُونَ شَوْكَ السَّعْدَانِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ،فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ،فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ،وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ،ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ ،وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ،مَنْ أَرَادَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ،فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثَارِ السُّجُودِ،قَالَ : وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ،قَالَ : فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ،يُقَالُ لَهُ : مَاءُ الْحَيَاةِ،فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ،قَالَ : وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ،فَيَقُولُ : يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا،وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا،فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ : فَلَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،فَيَقُولُ : لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ،فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ،ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ : يَا رَبِّ،قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ : أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ : فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ ،فَيَقُولُ : لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 159)(1/259)
غَيْرَهُ،وَيُعْطِي اللَّهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ،فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا قَرَّبَهُ مِنْهَا انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ،فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ،ثُمَّ يَقُولُ : يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ : أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ،وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ،فَيَقُولُ : يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ،قَالَ : فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ جَلَّ وَعَلاَ،فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ دُخُولِ الْجَنَّةِ،فَإِذَا دَخَلَ قِيلَ لَهُ : تَمَنَّ كَذَا وَتَمَنَّ كَذَا،فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ،فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ : هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ،قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ : هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ،فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : حَفِظْتُ : هُوَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً." (1)
والملاحظ في الأمثلة السابقة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعين شخصاً بعينه،للإجابة على الأسئلة المطروحة،بل كانت عباراته بصيغة الجمع غالباً وهذا يفيدنا في أن المعلم ينبغي عليه أن يطرح السؤال أولاً لكي يشترك الطلاب جميعهم في إيجاد جواب للسؤال المطروح،ثم إنه من المستحسن للمعلم أن يترك وقتاً مناسباً قبل الشروع في سماع إجابة الطالب،وذلك لأن قدرات الطلاب العقلية تختلف وتتباين من فرد لآخر،فبعضهم سريع استحضاره وبعضهم دون ذلك بمراحل . وبهذا يتبين لك خطأ ما يفعله بعض المعلمين من سؤال طلابهم حسب قائمة معينة من الأسماء،أو حسب ترتيبهم في مقاعد الصف،لأن هذه الطريقة تجعل الطلاب الآخرين الذين لم يقع عليهم الاختيار لا يتكلفون عناء البحث عن الإجابة اكتفاء بتعيين الطالب من قبل معلمهم .
نعم قد يسأل المعلم بعض طلابه في حالات معينة كأن يريد المعلم أن يفاجئ طالباً معيناً،ليستخبر حاله،أو لينبهه من غفلته ونحو ذلك .
وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بعض آحاد الصحابة في مسائل متفرقة،وهذا محله ما إذا كان
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 450) (7429) وصحيح البخارى- المكنز - (806 ) وصحيح مسلم- المكنز - (469)
الحبة : بذور العشب البرية -الذكاء : لهب النار واشتعالها -تضارون : لا تتخالفون ولا تتجادلون فى صحة النظر -انفهقت : انفتحت واتسعت -قشبنى : سمنى وأهلكنى -امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام(1/260)
النبي - صلى الله عليه وسلم - منفرداً بذلك الصحابي،كما جاء ذلك مع أبي ذر رضي الله عنه،فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا ذَرٍّ،قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ،قَالَ : كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ،تَأْتِي مَسْجِدَكَ فَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى فِرَاشِكَ،وَتَأْتِي فِرَاشَكَ فَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ إِلَى مَسْجِدِكَ،قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ،قَالَ : عَلَيْكَ بِالْعِفَّةِ،ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ،قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ،قَالَ : كَيْفَ أَنْتَ إِذَا رَأَيْتَ أَحْجَارَ الزَّيْتِ قَدْ عُرِّفَتْ بِالدَّمِ ؟ قُلْتُ : مَا خَارَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،قَالَ : تَلْحَقُ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ،أَوْ قَالَ : عَلَيْكَ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ،قُلْتُ : أَفَلا آخُذُ سَيْفِي،فَأَضَعُهُ عَلَى عَاتِقِي ؟ قَالَ : شَارَكْتَ إِذًا،قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : تَلْزَمُ بَيْتَكَ،قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي ؟ قَالَ : فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ،فَأَلْقِ رِدَاءَكَ عَلَى وَجْهِكَ،يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ" (1)
الخلاصة:
(1) أسلوب الاستفهام،أسلوب فعال في جذب انتباه السامع،وتهيئته لما سيلقى عليه
(2) قد يكون الاستفهام في أول الحديث،وقد يكون في أثنائه،بحسب ما تقتضيه الحاجة
(3) على المعلم أن يطرح السؤال على طلابه بشكل عام ثم يترك وقتاً كافياً لاستحضار الجواب،ثم يعين الطالب الذي سوف يقوم بالإجابة على السؤال .
(4) عدم تعيين طالب بعينه،قبل طرح السؤال،لأن ذلك يلغي مشاركة الطلاب الآخرين الذهنية اكتفاءً بتعيين زميلهم .
(5) للمعلم أن يعين طالباً بعينه قبل طرح السؤال لحالات خاصة،كإرادة المعلم معرفة قدرة الطالب على الاستجابة السريعة،أو تنبيه طالب من غفلة أو نوم ونحوه،ولكن لا يتخذ المعلم هذه عادة له .
ــــــــ
16- طرح بعض المسائل العلمية المهمة لاختبار مقدرة الطالب العقلية:
__________
(1) - المستدرك للحاكم(8305) حسن(1/261)
إن طرح بعض المسائل للاختبار على الطلاب بشكل عام،له فائدة كبيرة في تنمية المدارك وتقوية الأفهام.والطريقة المثلى لاستخدامها،هي أن يقوم المعلم بطرح المسألة بشكل جماعي،ثم تكون هناك مهلة قصيرة لا سترجاع المعلومات والتفكير في المسألة،ثم ترك جواب المسألة المطروحة للطلاب . والسنَّة حافلة بمثل هذا النوع من العلم .
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يَسألُ أصحابَه عن الشيء وهو يَعلَمُه،وإنما يَسْألُهم ليُثيرَ فِطْنَتَهم،ويُحرِّك ذكاءَهم،ويَسقِيَهم العلمَ في قالَب المُحاجاة ليَختَبِر ما عندهم من العلم .
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا (1) ،وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ،فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ » . فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ،فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « هِىَ النَّخْلَةُ » (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلُوسٌ إِذْ أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ (3) فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ (4) » . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هِىَ النَّخْلَةُ » (5) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَخْبِرُونِى بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا وَلاَ وَلاَ وَلاَ ، تُؤْتِى أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ
__________
(1) أي لا يَتَساقَطُ ورقُها ولا يتناثر .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (61 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7276 )
(3) - الجُمّار بوَزْن رُمّان : قَلْبُ النَّخْلَةِ وشَحْمُها ، تَموتُ بقطعه ، ويُستَخْرَجُ منها بعد قَطْعِها . ويقال له : الجامور أيضاً . وقال أبو بكر بن العربي في ((عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي)) : 10 :310 : ((الجُمّار شحْمُ النخلة الذي يؤكل بالعَسَل)) . وللأستاذ عباس العَزّاوي العراقي كتاب ((النَّخل في تاريخ العراق)) في 134 صفحة ، استوفى فيه كلَّ ما يتعلق بالنخلة من جميع أحوالها ، وقال فيه في ص 128 : ((والجُمّار من النَّخْلَةِ كالمُخِّ من الغنسان)) .
(4) بَرَكَتُها أي خَيْرُها ونَفْعُها .
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5444 )(1/262)
(1) » . قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لاَ يَتَكَلَّمَانِ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هِىَ النَّخْلَةُ » . فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِعُمَرَ يَا أَبَتَاهُ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ قَالَ لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا . قَالَ عُمَرُ لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كَذَا وَكَذَ (2) ا .
قال البغوي (3) : قال الإمام : فيه دليل على أنه يجوز للعالم أن يطرح على أصحابه ما يختبر به علمهم أه
وقال ابن حجر رحمه الله : " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وقد بوب عليه المؤلف " باب الفهم في العلم". وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت" (4)
رُوي لفظ (مِثْل) بكسر الميم وسكون الثاء ، كما روي (مَثَلُ المسلم) بفتح الميم وفتح الثاء ، وكلاهما بمعنى واحد . قال الجوهري في ((الصحاح)) : ((مِثْلُ الشيءِ ، ومَثَلُه : كلمةُ تسوية ، كما يقال : شِبْهُه وشَبَهُه بمعنى واحد)) .وجاء في بعض روايات البخاري ومسلم : ((مَثَلُها كمَثَل المُؤْمِن)) .ووجْهُ تشبيهِ النخلة بالمسلم أو المؤمن قائمٌ من جهات كثيرة ، وذلك في أنها تُعَدُّ أشرَفَ الشجرَ وأعلاها مرتبة ، وفي كثرةِ خيرها ، ودَوامِ ظلِّها ، وطيبِ ثَمَرِها ، ووُجودِهِ على الدوام ، فإنه من حين يَطلُعُ ثَمَرُها لا يَزالُ يؤكل أنواعاً حتى يُجَدَّ تَمْراً ويُقطَع .
وإذا يَبِسَتْ النَّخْلة يُتَّخَذُ منها منافعُ كثيرة ، فخَشَبُها ، ووَرَقُها ، وأغصانُها ، تُستعمَلُ جُذوعاً وحَطَباً وعِصِيّاً وحِبالاً ومَخاصِرَ وأوانيَ وغيرَ ذلك . ثم آخِرُ ذلك . ثم آخِرُ شيء
__________
(1) أي تُعطي ثَمَرَها كلَّ وقتٍ أَقَّتَه الله تعالى لذلك الثمر ، بإرادةِ خالقها سبحانه .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4698 )
(3) - شرح السنة . (1/308) .
(4) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 146)(1/263)
يُنتَفَعُ به منها هو نَواها ، فإنه يُتَّخَذُ عَلَفاً للإبِل .أما جَمالُ نباتِها ووَرَقِها ، وحُسْنُ خِلْقَتها وثَمَرِها ، وفارغُ طولِها وانبساقِها ، ودوامُ خُضرة أوراقِها ، وتماسُكُ جِذْعها أن تَلعَبَ به الرياح والاعاصير ، وكريمُ ظِلِّها وفَيْئِها ، لمن كان في جزيرة العرب : فمنافعُ مشهودة ، ومُتَعٌ متكاثرةٌ معروفة محمودة . وقد مدَحَها الله في القرآن بآياتٍ كثيرة أيَّما مَدْح .
وكذلك المسلم أو المُؤْمِن كلّه خيرٌ ونَفْع ، وبَرَكتُه عامّة في جميع الاحوال ، ونفعُه مستمِرٌّ له ولغيرِه حتى بعد موته . فهو ذو عَمَلٍ صالح ، وقولٍ حسن ، كثيرُ الطاعات على ألوانها ، ما بين صائمٍ ، ومُصَلٍّ ، وتالٍ للقرآن ، وذاكرٍ لله ، ومُذكِّرٍ به ، ومُتَصَدِّقٍ ، وآمرٍ بالمعروف ، وناهٍ عن المنكر .
يُخالِطُ الناس ويَصبِرُ على أذاهم ، آلِفٌ مألوف ، ينفعُ ولا يَضُرُّ ، جميلُ المَظهر والمَخبَر ، مَكارمُ أخلاقِه مبذولة للناس ، يُعطي ولا يَمنع ، ويُؤْثرُ ولا يَطمَع ، لا يَزيده طولُ الأيام إلاّ بُسوقاً وارتفاعاً عن الدنايا ، ولا تَجِدُ فيه الشَّدائِدُ والأهوالُ إلاّ رُسوخاً على الحق وثباتاً عليه ، وسُمُوّاً إلى الخيرِ والنفع ، وشُفوفاً عن السَّفاسِف .
عَمَلُه صاعِدٌ إلى ربِّه بالقبول والرضوان ، إنْ جالسْتَه نَفَعَك ، وإن شاركْتَه نَفَعَك ، وإن صاحَبْتَه نَفَعك ، وإن شاوَرْتَه نَفَعك ، وكلُّ شأن من شؤونه مَنْفَعة ، وما يَصْدُر عنه من العلوم فهو قُوْتٌ للأرواح والقلوب ، لا يزالُ مستوراً بدِيْنِه ، لا يَعْرى من لِباسِ التقوى ، ولا يَنقطِعُ عملُه في غِنىً أو فقر ، ولا في صِحّةٍ أو مرض .
بل لا يَنقطع عملُه حتى بعدَ موتِه ، إذا نَظَر من حياتِه لآخِرتِه ، واغتَنَم من يومِه لِغَدِه ، يُنتَفَعُ بكل ما يَصْدُرُ عنه حَيّاً وميتاً ، إذْ مَبْعَثُ تصرُّفاتِه كلِّها الإيمانُ بالله ، والنفعُ لعبادِ الله ، سبحان الله ما أعظَمَ المؤمن؟! (1)
وهو حديثٌ جليلُ القدر ، غزيرُ العلم ، كبيرُ الصلة بالتعليم وأسبابه وقد جَمَعْتُ رواياتِه من تلك الكتب أيضاً ، وشرحتُه مستقلاً في محاضرة عامّة ، ألقيتها في الرباط بالمغرب
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 83)(1/264)
الأقصى في رمضان سنة 1387 ، بدعوة من عاهل المغرب الحسن الثاني ، أرجو من الله تعالى تيسير نَشْرِها للناس .
وقد رأيتَ فيما تقدَّم أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى رواه في ((صحيحه)) في أحد عشر موضعاً .
قال العلاّمة الأريب الأديب والداعيةُ الكبير الشيخ أبو الحسن الحَسَني النَّدْوي رحمه الله تعالى ، في (تقديمه) لكتاب ((الأبواب والتراجم للبخاري)) للشيخ الحافظ المحدِّث الكبير مولاي محمد زكريا الكانْدهْلَوي رحمه الله تعالى :
((اشتَهر بين العلماء أنَّ فِقْهَ البخاري في (تراجم صحيحه) ، ولتنوُّع مقاصد الإمام البخاري ، وبُعْدِ مَراميه ، وفَرْطِ ذكائه ، وحِدّةِ ذهنه ، وتعمُّقِه في فهم الحديث ، وحِرصِه على الاستفادة والإفادة منه أكبرَ استفادةٍ ممكنة : أورَدَ الحديثَ الواحدَ في مواضع كثيرة في أبواب متنوِّعةِ العنوانِ ، والمعنى ، والموضوع ، فهو كنَخْلَةٍ حريصة تَوّاقة ، تَجتهدُ أن تتََشرَّب من الزهرة آخِرَ قطرةٍ من الرَّحيق ، ثم تُحوِّلُها إلى عَسَلٍ مُصَفّىً فيه شِفاء للناس .
وشأنُ الإمامِ البخاري مع الحديث النبوي الصحيح : شأنُ العاشِقِ الصادق ، والمحبِّ الوامِق ، مع الحبيبِ الذي أَسبغ الله عليه نعمةَ الجمال والكمال ، وكساه ثوباً من الرَّوعة والجلال ، فهو لا يكاد يَملأ عينيه منه ، وهو كلما نَظَر إليه اكتَشَف جديداً من آيات جماله ، فازداد افتتاناً وهُياماً ، ورأى جمالَه يَتجدَّدُ في كل حين .
ولذلك نَرى الإمام البخاري ، لا يكاد يَشبع من استخراجِ المسائلِ ، واستنباطِ الفوائد ، والنزولِ إلى أعماق الحديث ، والتقاط الدُّرَر منه ، والخروجِ على قُرّائه بها ، حتى يَذكُرَ حديثاً واحداً أكثرَ من عشرين مرة .
وقد روى (حديثَ بَريرَة عن عائشة) أكثرَ من اثنتين وعشرين مرة ، واستخراج منه أحكاماً وفوائدَ جديدة .
وروى (حديث جابر قال : كنتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ، فأبطأَ بي جَمَلي وأَعْيا ...) الحديث ، أكثرَ من عشرين مرة .(1/265)
وروى (حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ، ورَهَنهُ دِرْعاً من حَديد) في أحدَ عشَرَ موضعاً ، وعَقَدَ له أبواباً وتراجمَ لها .
وروى حديثَ ابن عمر : إنَّ من الشَّجَر شَجَرةً لا يَسقُطُ وَرَقُها ...) الحديث في أحد عشر موضعاً واستخراج منها فوائد جديدة .
وسِرُّ ذلك أن الإمام البخاري لا يقتصر على ما يَتَبادَرُ إليه الذهنُ من الأحكام الفقهية المستخرجة من الاحاديث ، شأنَ أقرانِهِ ومن سَبَقَه من المؤلِّفين في علم الحديث والفقه ، بل يَستخرِجُ من الاحاديث فوائدَ عِلمية وعَمَلِيّة ، لا تَدخُلُ تحت باب من أبواب الفقه المعروفة ، رحمه الله تعالى)) . انتهى ملخصاً
وأُشيرُ هنا إلى جُلِّ ما يُؤخَذ من هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :
استحبابُ إلقاءِ العالم المسألة على أصحابه ، ليَختَبِرَ أفهامَهم ، ويُرغِّبَهم في الفِكر والاعتناء ، مع بيانِه لهم ما خفي عليهم إن لم يفهموه .
التحريضُ على الفهم في العلم .
ضَرْبُ الأمثالِ والأشباه ، لزيادةِ الإفهام وتصويرِ المعاني لتَرْسُخ في الذهن ، ولتحديدِ الفكر في النظر في حكم الحادثة .
أنَّ تشبيه الشيء بالشيء ، لا يَلزَمُ منه أن يكون نظيرَه من جميع وجوهه ، فإنَّ المؤمن لا يُماثِلُه شيء من الجَمادات ولا يُعادِلُه .
استحبابُ الحياء ما لم يؤدِّ إلى تفويتِ مصلحة ، ولهذا تمنّى عمرُ أن يكون ابنُه لم يَسكت .توقيرُ الكبير ، وتقديمُ الصغير أباه في القول ، وأنه لا يُبادِرُه بما فَهِمَه ، وإن ظَنَّ أنه الصواب .
أنَّ العالِمَ الكبير قد يَخفى عليه بعضُ ما يُدركه من هو دونه ، لأن العلم مَواهب ، واللهُ يُؤتي فضله منْ يَشاءُ .
ما استَدلَّ به الإمام مالك رضي الله عنه ، على أن الخواطر التي تقع في القلب ، من مَحبَّةِ الثناء على أعمالِ الخير ، لا يُقْدَحُ فيها إذا كان أصلُها لله تعالى وذلك مُستفاد من تمنّي(1/266)
سيدنا عمر رضي الله عنه أن يكون ابنُه قد قال ما فَهِمَهُ ووقَعَ في نفسه من الصواب .
ووَجْهُ تمنّي عمر رضي الله عنه : ما طُبِعَ الإنسانُ عليه من مَحبّةِ الخير لنفسه ولوَلَدِه ، ولِتَظهَرَ فضيلةُ الولد في الفَهْم من صِغَره ، وليزدادَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - حُظوة ، ولعله كان يرجو أن يَدعوَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ ذاك بالفهم ، كما دعا - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس ، لمّا أَدْنى إليه الماءَ إلى بيت الخلاء ، مِن تلقاءِ نفسه دون سابق إشارةٍ منه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ((اللهم فَقِّهْهُ في الدّين وعَلِّمْه التأويل)) . فكان رضي الله عنه كذلك .
فَرَحُ الرجل بإصابةِ ولدِهِ وتوفيقِهِ للصواب .
الإشارةُ إلى حَقارةِ الدنيا في عينِ عمر رضي الله عنه ، لأنه قابل فَهْمَ ابنه لمسألةٍ واحدة بحُمُرِ النَّعَم كما جاء في رواية ، مع عِظَمِ قَدْرِها وغلاءِ ثمنها .
أنه لا يُكْرَهُ للوَلَد أن يُجيب بما عَرَف في حضرةِ أبيه ، وإن لم يَعرفه الأبُّ ، وليس في ذلك إساءةُ أدبٍ عليه .
ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحياءِ من أكابرهم وأَجِلاّئِهم ، وإمساكُهم عن الكلام بين أيديهم .
وقد أورد الإمامُ ابن فَرْحون هذا الحديث الشريف في كتابه : ((دُرَّةُ الغَوّاص في مُحاضرة الخَواصّ)) وهو المعروف بأَلغاز ابن فرحون ، ثم قال : ((قال العلماء : وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنه ينبغي للعالم أن يُميِّز أصحابَه بإلغازِ المسائل العَويصات عليهم ، لِيَختبِرَ أذهانَهم ، في كشف المُعْضِلات وإيضاح المُشْكِلات .
وهذا النوع سَمَّتْهُ الفقهاءُ : الألغاز ، وأهلُ الفرائض سَمّوه : المُعاياة ، والنحاةُ يُسمّونه : الأَحاجِيَّ ، وقد ألَّف العلماء في ذلك تصانيف عديدة)) . (1)
فعلى المعلم أن يحسن اختيار المسائل التي يطرحها على طلابه،وكذلك له أن يسمح بالمناقشة بين الطلاب والإدلاء بالآراء ألا ترى إلى قوله : ( فوقع الناس في شجر البوادي ) أن ذلك مشعر بأن الجميع قد ذهبوا في تحليل هذه المعضلة كل مذهب . قال الحافظ :
__________
(1) - انتهى من ((التراتيب الإدارية)) 2 :232 للشيخ محدِّث المغرب عبد الحي الكَتّاني رحمه الله تعالى . ...(1/267)
قوله: "فوقع الناس" أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة (1) .
والمتأمل في المسألة التي طرحها النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم،يجد أنها قد حفزت هممهم،وبعثتهم على التفكير في الحل،وتلهفت أنفسهم لمعرفة الجواب الصحيح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عجزوا عن حله .
أيضاً من الأمور المهمة التي يحسن التفطن لها،أن تكون هذه المسائل تؤصل فكرة معينة أو ترسخ مفهوماً معيناً لدى الطلاب.ولك أن تسأل ما وجه الشبه بين النخلة وبين المسلم،أو ما هي الفائدة المستفادة من هذا السؤال،يبين ذلك الحافظ ابن حجر بقوله : " وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته " (2) .
وهذه الطريقة نافعة جداً إذا أحسن استخدامها واستغلالها،فعلى المعلم أن يبتعد عن صعاب المسائل،وأن لا يكون همه تعجيز المتعلمين وإفحامهم،بل عليه أن يقرب لهم المسألة المطروحة عليهم بقرائن الأحوال وغيرها من الوسائل،لكي تكون عوناً لهم في الاهتداء إلى الجواب الصحيح،ويدل على ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما طرح عليهم هذه المسألة كان في يديه جمار،ففي إحدى روايات هذا الحديث، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا،قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُتِىَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ : « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ » . فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ،فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ،قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « هِىَ النَّخْلَةُ » (3)
فابن عمر رضي الله عنهما فهم المراد عندما رأى الجمار في يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولم يمنعه
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 146)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 145)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (72 )(1/268)
من الإجابة على السؤال إلا صغر سنِّه، قال الحافظ ابن حجر : " وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ،وَلاَ مَتَاعَ لَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ،وَقَدْ شَتَمَ هَذَا،وَأَكَلَ مَالَ هَذَا،وَسَفَكَ دَمَ هَذَا،وَضَرَبَ هَذَا،فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ،ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. " (2)
" الاستفهام هنا للاستعلام الذي يراد به الإخبار ؛ لأن المستفهم تارة يستفهم عن جهل ولا يدري فيسأل غيره، وتارة يستفهم لتنبيه المخاطب لما يلقى إليه أو لتقرير الحكم، فمثال الثاني حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْبَيْضَاءِ،بِالسُّلْتِ،فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ،بِالتَّمْرِ،فَقَالَ : أَلَيْسَ يَنْقُصُ الرُّطَبُ،إِذَا جَفَّ ؟ قَالُوا : نَعَمْ،قَالَ : فَلاَ إِذَا. (3)
أما في هذا الحديث فسيخبر الصحابة عن أمر لا يعلمونه، أو لا يعلمون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - به، قال: أتدرون من المفلس ؟ قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، يعني ليس عنده نقود ولا عنده متاع، أي: أعيان من المال، أي: إن المفلس يعني الفقير، وهذا هو المعروف من المفلس بين الناس، فإذا قالوا: من المفلس ؟ يعني الذي ليس عنده فلوس، ولا عنده متاع، بل هو فقير .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وفي رواية: من يأتي بحسنات مثل الجبال أي يأتي بحسنات عظيمة، فهو عنده ثروة من الحسنات لكنه يأتي وقد
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 146)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 258) (4411) وصحيح مسلم- المكنز - (6744)
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 372) (4997) حسن(1/269)
شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، أي: اعتدى على الناس بأنواع الاعتداء، والناس يريدون أخذ حقهم، ما لا يأخذونه في الدنيا يأخذونه في الآخرة، فيقتص لهم منه، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، وهذا من حسناته بالعدل والقصاص بالحق، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، والعياذ بالله .
تنقضي حسناته، ثواب الصلاة ينتهي، وثواب الزكاة ينتهي، وثواب الصيام ينتهي، كل ما عنده من حسناته ينتهي، فيؤخذ من سيئاتهم ويطرح عليه، ثم يطرح في النار، والعياذ بالله
وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا هو المفلس حقاً، أما مفلس الدنيا فإن الدنيا تأتي وتذهب، ربما يكون الإنسان فقيراً فيمسى غنياً، أو بالعكس، لكن الإفلاس كل الإفلاس أن يفلس الإنسان من حسناته التي تعب عليها، وكانت أمامه يوم القيامة يشاهدها، ثم تؤخذ منه لفلان وفلان .
وفي هذا: التحذير من العدوان على الخلق، وأنه يجب على الإنسان أن يؤدي ما للناس في حياته قبل مماته، حتى يكون القصاص في الدنيا مما يستطيع، أما في الآخرة فليس هناك درهم ولا دينار حتى يفدي نفسه، ليس فيه إلا الحسنات، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه، وطرح في النار .
ولكن هذا الحديث لا يعني أنه يخلد في النار، بل يعذب بقدر ما حصل عليه من سيئات الغير التي طرحت عليه، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة ؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار، ولكن النار حرها شديد، لا يصبر الإنسان على النار ولو للحظة واحدة، هذا على نار الدنيا فضلاً عن نار الآخرة، أجارني الله وإياكم منها " (1)
الخلاصة:
(1) أهمية هذه الطريقة في تقوية الفهم،وتوسيع المدارك .
(2) الاستفادة من هذه المسائل في ترسيخ معاني معينة في الأذهان
(3)
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (2 / 264)(1/270)
تقريب المسألة المطروحة بقرائن وأحوال،تساعد في الوصول إلى الحل .
(4) بيان الجواب الصحيح عند العجز عن الإتيان بالجواب .
ــــــــ
17- حثُّ المعلم طلابَه على طرح الأسئلة :
إن الأسئلة تزيل كثيراً من الخلط أو الوهم الذي قد يقع فيه الطالب،فعند عرض المعلم لمادته شرحاً،فإنه لا يتبين له ما إذا كانوا قد فهموا منه مادته كما ينبغي أم لا.
وطريق معرفة ذلك يكون بسؤالهم عن بعض ما تم عرضه،وأفضل من ذلك أن يبتدئ الطالب بسؤال معلمه عما أشكل عليه.والسؤال يوضح المعاني التي قصر فهم الطالب عن عقلها وتدبرها،ويرسخ الإجابة في ذهن السائل لكونه هو الذي ابتدر السؤال،وهو مزيل للجهل كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ) (1) والعي بكسر العين وتشديد الياء هو التحير في الكلام وعدم الضبط .كذا في الصحاح.وفي النهاية ولسان العرب العي بكسر العين الجهل،والمعنى أن الجهل داء وشفاؤه السؤال والتعلم (2) . ومن أجل ذلك قلنا إنه يتوجه على المعلم أن يحث طلابه على طرح الأسئلة عليه . وقد قال بذلك معلمنا الأول صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ،فَقَالَ : سَلُونِي،فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ. قَالَ : فَأَرَمَّ الْقَوْمُ،وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ عَظِيمٍ. قَالَ أَنَسٌ : فَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالاً،فَلاَ أَرَى كُلَّ رَجُلٍ إِلاَّ قَدْ دَسَّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي،وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : سَلُونِي،فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ،فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ،فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ مَنْ أَبِي ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ،فَقَامَ
__________
(1) - عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ ». أَوْ « يَعْصِبَ ». شَكَّ مُوسَى « عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ».سنن أبي داود - المكنز - (336 ) حسن
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود (ح 332)(1/271)
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا،وَبِالإِسْلاَمِ دَيْنًا،وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً،نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ. فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا رَأَيْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ،إِنَّهَا صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ،فَأَبْصَرْتُهُمَا دُونَ ذَلِكَ الْحَائِطِ. (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه . أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ،وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا أُمُورًا عِظَامًا (2) ثُمَّ قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَىْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ،فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ،مَا دُمْتُ فِى مَقَامِى هَذَا » (3) . قَالَ أَنَسٌ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ (4) ،وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى » . فَقَالَ أَنَسٌ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « النَّارُ » . فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ (5) فَقَالَ مَنْ أَبِى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 338)(6429) وصحيح مسلم- المكنز - (6272 )
أحفوا : أكثروا فى الإلحاح والمبالغة فيه -أرم : سكت ولم يجب -يلاحى : يُخاصم ويُسب
(2) - قوله : (فذكر أموراً عظاماً) ، الظاهر أنها من أمور الساعة وما يتقدمها أو يصحبها من أهوال عظام .
(3) فسألوه وأكثروا عليه الأسئلة ، وفيها ما يُشبهُ التعنُّتَ او الشك ، كسؤال أحدهم : أين ناقتي؟! وسؤال بعضهم عن الحج : أفي كل عام؟! وسؤال بعضهم : أين أنا؟ قال : في النار . ونحو هذه الأسئلة ، فغَضِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وغَضَبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَخرُج فيه فداه أبي وأمي عن الحق ، فإنه لا يقول إلاّ الحقَّ في الرضا والغضب .
(4) لخشيتهم أن تَنزل بهم العقوبةُ بسبب ذلك فبكَوْا بكاءً شديداً .
(5) - كان عبدُ الله بن حُذافة رضي الله عنه أحَدَ العقلاء النبلاء والمجاهدين الصناديد الشجعان من الصحابة الكرام ، وهو أبو حُذافة أو أبو حُذَيفة عبدُ الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السَّهْمي . وأمُّهُ بنت حَرثان من بني الحارث بن عبد مَناة من السابقين الأولين .
أسلم عبد الله قديماً ، وكان من المهاجرين الأولين ، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة ، ويقال : إنه شَهِدَ بدراً ، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أميراً على بعض البعوث ، وكان فيه فطانة وحَصافة ودُعابة ، وأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابه رسولاً وسفيراً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، فمزَّق كسرى الكتابَ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم مزِّق مُلكه ، وقال : إذا مات كسرى فلا كسرى بعده ، فسلَّط الله على كسرى ابنه شِيْرَوَيْهِ ، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع .
ووجَّهَ عمر جيشاً إلى الروم سنة 19 ، وفيهم عبد الله بن حذافة ، فأسرَتْهُ الروم في بعض المعارك ، فأرادوه على الكفر فأبي ، فقال له مَلِكُ الروم : تنصَّر أُشرِكْك في مُلكي ، فأبى ، فأمَرَ به فصُلِبَ وأَمر بِرَمْيِهِ بالسِّهام فلم يجزَعْ ، فأُنزِل وأَمر بِقِدْر فصُبَّ فيها الماء وأُغليَ عليه ، وأَمر بإلقاء أسيرٍ فيها ، فإذا عِظامُه تلوحُ ، فأمَرَ بإلقائه إن لم يتنصَّر ، فلما ذهبوا به بكى .
قال الملك : رُدّوه ، فقال : لِمَ بكيتَ؟ قال : تمنَّيتُ أن لي مِئةَ نفسٍ تُلقى هكذا في الله ، فعَجِبَ فقال : قبِّلْ رأسي وأُطلِقُك ، قال : لا، قال : قبِّل رأسي وأُطلِقُك ومَنْ معك من المسلمين ، فقبَّلَ رأسَه ، ففَعَل وأطلَق معه ثمانين أسيراً ، فقَدِمَ بهم على عمر ، فقال عمر : حَقّ على كل مسلم أن يُقبِّل رأسَ عبدِ الله ، وانا أبدأ ففعلوا . وشهد عبد الله بن حذافة فتحَ مصر ، ودفن في مقبرتها في خلافة عثمان رضي الله عنهما .(1/272)
يَا رَسُولَ اللَّهِ (1) قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . قَالَ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى سَلُونِى » . فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا،وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا،وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً (2) . قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِى عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ (3) وَأَنَا أُصَلِّى،فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ » . (4)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى لَهُمْ صَلاَةَ الظُّهْرِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِى عَنْ شَىْءٍ فَلْيَسْأَلْنِى عَنْهُ فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونَنِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِى مَقَامِى هَذَا ». قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى ». فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ ». فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى ». بَرَكَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً - قَالَ - فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوْلَى وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ
__________
(1) وسبَبُ سؤالِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (من أبي يا رسول الله) : أنَّه كان إذا لاحى الرجالَ أي خاصَمَ يُدعى لغير أبيه ويُطعَنُ في نسبه على عادة أهل الجاهلية من الطعن في الانساب . كما بيَّن هذا أنسٌ في الحديث نفسِه في رواية أخرى عند البخاري .
(2) قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :270 ((وفي مُرْسَلِ السُّدّي عند الطبري في نحو هذه القصة : فقام إليه عمر يقبِّلُ رِجْلَهُ ، وقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن إماماً ، فاعفُ عَفا الله عنك ، فلم يَزل به حتى رضي)) .
(3) - أي جانِبِهِ أو وسطِه .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (7294 )
آنفا : فعلت الشيء آنفا ، أي : الآن. -الخنين : بالخاء المعجمة ، شبيه بالبكاء مع مشاركة في الصوت من الأنف. -عرض : عرض الشيء : جانبه.-المقارفة : ها هنا : الزنا ، وهي في الأصل : الكسب والعمل.-أحفوه : الإحفاء في السؤال : الاستقصاء والإكثار.-أرموا : أرم الإنسان : إذا أطرق ساكتا من الخوف.-رهبة : الرهبة : الخوف والفزع.(1/273)
آنِفًا (1) فِى عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِى بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ. (2)
وفي هذا الحديث مراقبة الصحابة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة إشفاقهم إذا غضب، خشية أن يكون لأمر يعم فيعمهم، وإدلال عمر عليه، وجواز تقبيل رجل الرجل، وجواز الغضب في الموعظة، وبروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة، ومشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد يظهر منه قرينة وقوعها، واستعمال المزاوجة في الدعاء في قوله: "اعف عفا الله عنك " وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معفو عنه قبل ذلك. " (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « سَلُونِى » فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ « لاَ تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِحْسَانُ قَالَ « أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِى خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ ». ثُمَّ قَرَأَ (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ
__________
(1) معنى (آنفاً) الآن .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6270 )
أي لانتسبتُ إليه بالبنوّة . وفهمتُ من قوله : (لو ألحقني بعبدٍ أسوَدَ للحِقتُه) أنه كان أبيض اللون ، لأن الذي يقابل الأسودَ : الأبيضُ ،والمرادُ من كلمته هذه أنه لو نسبني إلى نقيض ما أنا عليه وما لا أُنسَبُ إليه لانتسبتُ . فالكلمة على طريق المجاز والمبالغة في التزام قوله - صلى الله عليه وسلم - وشديدِ صحته عنده .
(3) - فتح الباري لابن حجر - (13 / 270)(1/274)
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) قَالَ ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « رُدُّوهُ عَلَىَّ » فَالْتُمِسَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلَّمُوا إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا ». (1)
وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً،فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، حَدِّثْنَا عَنْ خِلالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا لا يَعْلَمُهَا إِلا نَبِيُّ، قَالَ: "سَلُونِي عَمَّ شِئْتُمْ ؟ وَلَكِنِ اجْعَلُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَهُ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ إِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُبَايِعُنِّي عَلَى الإِسْلامِ. فَقَالُوا: فَلَكَ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَلُونِي عَمَّ شِئْتُمْ. قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ. قَالَ: فَأَنْشَدْتُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً طَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْراً لَئِنْ شَفَاهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ مِنْ أَحَبِّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الإِبِلِ وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَ الإِبِلِ. فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ"." (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : " مَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُ : سَلُونِي غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " (3)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،قَالَ : إِنَّا لَعِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ،إِذْ قَالَ : سَلُونِي،فَقُلْتُ : أَبَا عَبَّاسٍ،جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ،بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ : نَوْفٌ،يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَّا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ،وَأَمَّا يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ،فَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مُوسَى رَسُولَ اللهِ ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى،إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ،وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ،وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،هَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ ؟ قَالَ : لاَ،قَالَ : فَعُتِبَ عَلَيْهِ،إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ،فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : إِنَّ لِي عَبْدًا أَعْلَمَ مِنْكَ،قَالَ : أَيْ رَبِّ،وَأيْنَ ؟ قَالَ : مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ،قَالَ : أَيْ رَبِّ،اجْعَلْ لِي عَلَمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ،قَالَ لِي عَمْرٌو : وَقَالَ : حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ،وَقَالَ يَعْلَى : خُذْ حُوتًا مَيْتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ،فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ،قَالَ لِفَتَاهُ : لاَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (108 )
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (3 / 86) (3866) حسن
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (526 ) صحيح(1/275)
أُكَلِّفُكَ إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنِي حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ،قَالَ : مَا كَلَّفْتَنِي كَثِيرًا،فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} يُوشَعَ بْنِ نُونَ،لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،قَالَ : فَبَيْنَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانٍ،إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ،قَالَ فَتَاهُ : لاَ أُوقِظُهُ،حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ،نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ،وَتَضَرَّبَ الْحَوْتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ،فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ جِرْيَةَ الْبَحْرِ،حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ،فَقَالَ لِي عَمْرٌو : وَكَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ،وَحَلَّقَ إِبْهَامَيْهِ،وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا،{لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}،قَالَ : قَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ،لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،فَأَخْبَرَهُ،فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا،فَقَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ،قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مُسَجًّى ثَوْبَهُ،قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ،وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى،فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ،وَقَالَ : هَلْ بِأَرْضِكَ مِنْ سَلاَمٍ ؟ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا مُوسَى،قَالَ : مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ : أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ أَنْبَاءَ التَّوْرَاةِ بِيَدِكَ،وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ،يَا مُوسَى،إِنَّ لِي عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَهُ،وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لاَ يَنْبَغِي أَنْ أَعْلَمَهُ،فَجَاءَ طَائِرٌ،فَأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ،فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللهِ إِلاَّ كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ،حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ،وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى هَذَا السَّاحِلِ عَرَفُوهُ،فَقَالُوا : عَبْدُ اللهِ الصَّالِحُ : فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ خَضِرٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ،لاَ يَحْمِلُونَهُ بِأَجْرٍ،فَخَرَقَهَا،وَوَتَدَّ فِيهَا وَتِدًا قَالَ مُوسَى : {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}،قَالَ مُجَاهِدٌ : نُكْرًا،قَالَ : {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}،وَكَانَتِ الأُولَى نِسْيَانًا،وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا،وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا،قَالَ : {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} فَلَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ،قَالَ يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَجَدَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلاَمًا كَافِرًا كَانَ ظَرِيفًا،فَأَضْجَعَهُ،ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ،قَالَ : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ فَانْطَلَقَا،فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ،فَأَقَامَهُ،قَالَ سَعِيدٌ : بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ قَالَ يَعْلَى : فَحَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ : فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ،قَالَ : {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}،قَالَ سَعِيدٌ : أَجْرًا نَأْكُلُهُ،قَالَ : وَكَانَ يَقْرَؤُهَا {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ}،وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا،وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : هَذَا الْغُلاَمُ الْمَقْتُولُ يَزْعُمُونَ أَنَّ اسْمَهُ جَيْسُورُ،قَالَ : يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا،وَأَرَادَ إِذَا مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا،فَإِذَا جَاوَزُوا،أَصْلَحُوهَا،فَانْتَفَعُوا بِهَا بَعْدُ،مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بِالْقَارِ وَكَانَ أَبَوَاهُ(1/276)
مُؤْمِنَيْنِ،وَكَانَ كَافِرًا،فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا،فَيَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ،فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً،وَأَقْرَبَ رُحْمًا : هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَهُ خَضِرٌ." (1)
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ،قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ،وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ فِي نَاسٍ مَعَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ لَيْلًا فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : سَلُونِي قَبْلَ أَنْ لَا تَرَوْنِي،فَسَأَلَهُ الْقَوْمُ فَأَكْثَرُوا،فَكَانَ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ أَنْ قَالَ رَجُلٌ : أَحَقٌّ مَا سَمِعْنَا يُذْكَرُ فِي الْمَقَامِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ : وَمَاذَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ الرَّجُلُ : سَمِعْنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حِينَ جَاءَ مِنَ الشَّامِ حَلَفَ لِامْرَأَتِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ،يَقُولُ الرَّجُلُ : فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الْمَقَامُ فَرَجَلَ عَلَيْهِ،فَقَالَ سَعِيدٌ : لَيْسَ كَذَلِكَ،حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ،وَلَكِنَّهُ حَدَّثَنَا أَنَّهُ حِينَ كَانَ بَيْنَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ سَارَةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ،أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ نَبِيُّ اللَّهِ بِأُمِّ إِسْمَاعِيلَ،وَإِسْمَاعِيلُ مَعَهَا،وَهُوَ صَغِيرٌ يُرْضِعُهَا حَتَّى قَدِمَ بِهِمَا مَكَّةَ،وَمَعَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ تَشْرَبُ مِنْهَا،وَتُدِرُّ عَلَى ابْنِهَا،لَيْسَ مَعَهَا زَادٌ "،يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " فَعَمَدَ بِهِمَا إِلَى دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ يُشِيرُ لَنَا بَيْنَ البير وَبَيْنَ الصَّفَا،يَقُولُ : فَوَضَعَهُمَا تَحْتَهَا،ثُمَّ تَوَجَّهَ إِبْرَاهِيمُ خَارِجًا عَلَى دَابَّتِهِ،وَاتَّبَعَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ أَثَرَهُ حَتَّى أَوْفَى إِبْرَاهِيمُ بِكُدَا " يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " فَقَالَتُ لَهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ : إِلَى مَنْ تَتْرُكُهَا وَابْنَهَا ؟ قَالَ : إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ،قَالَتْ : رَضِيتُ بِاللَّهِ تَعَالَى،فَرَجَعَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَحْمِلُ ابْنَهَا حَتَّى قَعَدَتْ تَحْتَ الدَّوْحَةِ وَوَضَعَتِ ابْنَهَا إِلَى جَنْبِهَا "،ثُمَّ سَاقَ حَدِيثًا طَوِيلًا يَقُولُ فِيهِ : " ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثَةَ،فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ قَاعِدًا تَحْتَ الدَّوْحَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْبِئْرِ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ نزل إليه فَقَعَدَ مَعَهُ،فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ،قَالَ : إسماعيل : فَأَطِعْ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ،قَالَ إِبْرَاهِيمُ : أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا،قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ : وَأَيْنَ ؟ " يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " فَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا،عَلَيْهَا رَضْرَاضٌ مِنْ حَصْبَاءَ يَأْتِيهَا السَّيْلُ مِنْ نَوَاحِيهَا،وَلَا يَرْكَبُهَا،قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقَامَا يَحْفِرَانِ عَنِ الْقَوَاعِدِ وَيَقُولَانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ،وَيَحْمِلُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِهِ،وَيَبْنِي الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ،فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْبُنْيَانُ،وَشَقَّ عَلَى الشَّيْخِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 91)(21119) 21436- صحيح(1/277)
تَنَاوُلُهُ،قَرَّبَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ هَذَا الْحَجَرَ،فَكَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ،وَيَبْنِي وَيُحَوِّلُهُ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى وَجْهِ الْبَيْتِ "،يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ : " فَذَلِكَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيَامُهُ عَلَيْهِ " (1)
وقال عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْفِرْيَابِىُّ : سَمِعْت الشَّافِعِىَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ بِمَكَّةَ يَقُولُ : سَلُونِى مَا شِئْتُمْ أُجِبْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقُلْتُ لَهُ : أَصْلَحَكَ اللَّهُ مَا تَقُولُ فِى الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ زُنْبُورًا؟ قَالَ : نَعَمْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِىٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ ».
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَمَرَ الْمُحْرِمَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ." (2)
ففي الآثار المتقدمة استحباب قول المعلم ( سلوني )،فإن في هذا حثاً للطلاب على طرح السؤال،وفيه أيضاً تجرئه للطالب الخجول على سؤال معلمه،وفيه استفادة الغير من السؤال المطروح،وفيه معرفة المعلم مقدار تحصيل طلابه للمادة المشروحة.وينبغي أن يراعي المعلم في أسئلة الطلاب الصادرة منهم،أن تكون ذات فائدة،وليست من باب التعجيز،أو السخرية أو التهكم،فإن هذه الأسئلة وأمثالها تطرح في الأرض ولا كرامة لصاحبها .
الخلاصة:
(1) السؤال يزيل غشاوة الجهل،ويصحح المعاني والأفكار .
(2) ابتدار المعلم طلابه وحثهم على طرح السؤال فيه فوائد منها :
أ - تقييم حال طلابه من حيث الفهم .
ب- دفع الطالب الخجول وتجرئته على طرح السؤال .
ت- استفادة الطلاب الآخرين عند سماع الإجابة .
__________
(1) - أَخْبَارُ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ (596 ) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 212) (10348و10349) صحيح(1/278)
ث- تقديم المعلم لنفسه،ومراجعته لطريقة عرضه لمادته،عندما يتضح له من خلال الأسئلة،عدم فهمهم كما ينبغي .
(3) رد الأسئلة التعجيزية،أو الأسئلة الساخرة،وتوبيخ قائلها .
ــــــــ
18- تقديم السائل من خلال سؤاله،وإجابته بما يناسب حاله :
يتلقى المعلمون والمربون،أسئلة كثيرة من طلابهم وتلاميذهم ونجد أن كثيراً من المعلمين والمربين يقتصرون في إجاباتهم على مراد السائل فقط لا يتعدونه.والتحقيق أن يقال : إن الاقتصار على مراد السائل فقط لا ينبغي في كل الأحوال،بل قد يكون في بعض الأحيان ما يدعو المعلم إلى الزيادة على مراد السائل وتوضيح بعض المسائل التي تتعلق بالسؤال،أو تقرير بعض المسائل المهمة والتي يمكن ربطها بالسؤال،وذلك الأمر يشتد إذا كان السائل يغلب عليه الجهل . وإليك التفاصيل :
أ - معاملة السائل من جهة جهله :
عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ،مِنْ آلِ بَنِي الأَزْرَقِ،أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ،وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ،أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنْا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ (1) ،فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا،أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ : هُوَ الطُّهُورُ مَاؤُهُ (2) ،الْحِلُّ (3) مَيْتَتُهُ. (4)
قَالَ الرَّافِعِيُّ : لَمَّا عَرَفَ - صلى الله عليه وسلم - اِشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَى السَّائِلِ فِي مَاءِ الْبَحْرِ أَشْفَقَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَيْتَتِهِ، وَقَدْ يُبْتَلَى بِهَا رَاكِبُ الْبَحْرِ فَعَقَّبَ الْجَوَابَ عَنْ سُؤَالِهِ بِبَيَانِ حُكْمِ الْمَيْتَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ سَأَلَهُ عَنْ مَائِهِ فَأَجَابَهُ عَنْ مَائِهِ وَطَعَامِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ يُعْوِزُهُمْ الزَّادُ فِيهِ كَمَا
__________
(1) أي الماء العذب ليَشربوه .
(2) أي ماؤه بالغ في الطهارة أتَمَّها .
(3) أي الحلال .
(4) - صحيح ابن حبان - (4 / 49) (1243) صحيح(1/279)
يُعْوِزُهُمُ الْمَاءُ فَلَمَّا جَمَعَتْهُمُ الْحَاجَةُ اِنْتَظَمَ الْجَوَابُ بِهِمَا .
وَقَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَتْوَى أَنْ يُجَاءَ فِي الْجَوَابِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ وَإِفَادَةً لِعِلْمٍ آخَرَ غَيْرِ مَسْئُولٍ عَنْهُ،وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ إِلَى الْحُكْمِ كَمَا هُنَا لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ فِي طَهُورِيَّةِ مَاءِ الْبَحْرِ فَهُوَ عَنِ الْعِلْمِ بحِلِّ مَيْتَتُهُ مَعَ تَقَدُّمِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ أَشَدَّ تَوَقُّفًا " (1)
فأجاب - صلى الله عليه وسلم - ذلك المُدْلِجيَّ البَحّار،عن حكم التوضُّؤ بماء البحر،بأنَّ ماءَه طَهور يَصِحُّ التوضُّؤُ به،ثم أشفَقَ - صلى الله عليه وسلم - على ذلك البحّار أن يَشتَبِهَ عليه حُكمُ مَيْتَةِ البحر،وهي شيء يقَعُ له أثناءَ إبحاره،فبيَّن له انَّ ميتة البحر حلالٌ أكلُها والانتفاعُ بها،فقال له زيادةً على سؤالِه : ((الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) .
فهذه الزيادة في الجواب مهمة لأنها بيَّنت طهارةَ ماءِ البحر وإن مات فيه ما مات،وبيَّنَتْ حِلَّ تلك المَيتةِ أيضاً،ومعرفةُ ذلك ضروريةٌ للبحار،لأنه قد يحتاج إلى أكلِ تلك المَيتة في بعض الأحيان اختياراً أو اضطراراً،فيأكُلُ منها ويَدَّخر ولا حرج عليه .
وهذا الصنيعُ منه - صلى الله عليه وسلم - من لُبابِ الخير في أُسلوب التعليم واستيفاءِ ما يَحتاجُ إليه المتعلِّم . (2)
وعَنْ أَبِى جُرَىٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ لاَ يَقُولُ شَيْئًا إِلاَّ صَدَرُوا عَنْهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا : رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قُلْتُ : عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ :« لاَ تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ قُلِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ ». قَالَ قُلْتُ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِى إِذَا أَصَابَكَ ضَرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ وَإِنْ أَصَابَكَ عَامَ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضِ قَفْرٍ أَوْ فَلاَةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ ». قَالَ قُلْتُ : اعْهَدْ إِلَىَّ. قَالَ :« لاَ تَسُبَنَّ أَحَدًا ». قَالَ : فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ بَعِيرًا وَلاَ شَاةً. قَالَ :« وَلاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
__________
(1) - تحفة الأحوذي - (1 / 80) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (6 / 500)
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 111)(1/280)
الْمَخِيلَةَ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلاَ تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ » (1) .
وفي هذا الحديث يتبين لنا جهل ذلك السائل واضحاً بأمور :
أولاً في قوله : ( رأيت رجلاً ) وهذا يدل على أنه لأول وهلة يرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً : في قوله ( عليك السلام )،فإن تحية الإسلام لا يجهلها أحد من الصحابة؛لأنها من الأمور المتكررة التي تحدث في اليوم الواحد مرات عديدة،فلما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،جهله أراد أن يدلَّه على خالقه ويعلمه، فأرشده أولاً إلى تصحيح خطئه بقوله :« لاَ تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ قُلِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ »ثم بين له أن كشف الضر،والاستغاثة كلها لا تصرف إلا لله."وفي الحديث لفتة كريمة للمسلم حيث دل الأعرابي على خالقه الذي يملك وحده الضر والنفع،وربطه به وحده دونه - صلى الله عليه وسلم - ،ورغبه في اللجوء إليه وطلب العون منه والاستغاثة به في الملمات ." (2)
ب - معاملة السائل من جهة ما هو أنفع له :
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ،إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ،وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ،وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ » (3) .
قال النووي قال العلماء هذا الجواب من بديع الكلام وجزله لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه انتهى. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 236) (21623) حسن
(2) - زاد المعاد حاشية (2) ص(2/420) مؤسسة الرسالة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1542 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2848)
البرانس : جمع البرنس وهو كل ثوب رأسه منه ملتصق به من أدراعه(1/281)
السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى: {يسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الآية، فعدل عن جنس المنفق وهو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة " (1)
وعَنِ الرَّبِيعِ،عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ،لِمَ خُلِقَتِ الْأَهِلَّةُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ يَقُولُ : " جَعَلَهَا اللَّهُ مَوَاقِيتَ لِصَوْمِ الْمُسْلِمِينَ وَإِفْطَارِهِمْ وَعِدَّةَ نِسَائِهِمْ وَمَحَلِّ دِينِهِمْ " (2)
وعَنْ قَتَادَةَ،قَوْلِهِ :يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ قَالَ قَتَادَةُ : سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ : لِمَ جَعَلْتَ هَذِهِ الْأَهِلَّةَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا مَا تَسْمَعُونَ : هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فَجَعَلَهَا لِصَوْمِ الْمُسْلِمِينَ ،وَلِإِفْطَارِهِمْ،وَلِمَنَاسِكِهِمْ،وَحَجِّهِمْ،وَلِعِدَّةِ نِسَائِهِمْ،وَمَحَلِّ دَيْنَهِمْ فِي أَشْيَاءَ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ خَلْقَهُ " (3)
يقول ابن القيم :" فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ ظُهُورِ الْهِلَالِ خَفِيًّا ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ فِيهِ النُّورُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَكْمُلَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ،فَأَجَابَهُمْ عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ مَوَاقِيتِ النَّاسِ الَّتِي بِهَا تَمَامُ مَصَالِحِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَوَاقِيتِ أَكْبَرِ عِبَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحَجُّ،وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ السَّبَبِ فَقَدْ أُجِيبُوا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ،وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ فَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ عَيْنِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ،وَلَفْظُ سُؤَالِهِمْ مُحْتَمِلٌ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى يَتِمَّ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النَّقْصِ ؟ ." (4)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (3 / 401)
(2) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ >> سُورَةُ الْبَقَرَةِ (1732 ) حسن مرسل
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (2799 ) صحيح مرسل
(4) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (4 / 489) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (4 / 168)(1/282)
الخلاصة:
(1) تقديم حال السائل،وبيان ما قد يحتاجه السائل،ففي المثال الأول من الفقرة الأولى : كان السائل جاهلاً بحكم معين وهو قد يخفى على بعض دون بعض ولذلك أجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سؤاله وأردفه بحكم آخر يجهله السائل وهو متعلق بالسؤال نفسه،فمن جهل الحكم الأول فلابد أن يجهل الآخر.فتأمله . وفى المثال الثاني من الفقرة الثانية : كان سؤال الصحابي يدل على جهله الشديد بأمور الإسلام حيث أخطأ في السلام وهو أمر لا يكاد يخطئه أحد لشيوعه بين الناس،ولذا عامله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحسب حاله،حيث أجاب على سؤاله ثم علمه ودل على خالقه .
(2) قد تكون إجابة السائل بخلاف السؤال ولكنها أنفع له ففي المثال الأول من الفقرة الثانية:كان السؤال عن جنس ما يلبس وهو كثير صعب الحصر،فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مالا يلبس وهو قليل محصور.وفي المثال الثاني من الفقرة الثانية : فيه سؤالهم عن طبيعة الهلال وخلقته،فأجابهم بما هو أنفع لهم من الحكمة العظيمة في إيجاده .
(3) ليس ذلك التقديم مضطرداً في كل أحوال السائلين،وإنما هي أمور يقدرها المعلمون
(4) الاستفادة من أسئلة الطلاب في ترسيخ معاني معينة،أو بيان أحكام جديدة،وغير ذلك .
ــــــــ
19- التعليق على إجابة المتعلم :
يحتاج المعلم إلى التعليق على إجابة الطالب بعد توجيه السؤال إليه،وذلك لأن الطالب قد يكون غير متأكد من الإجابة التي أدلى بها،وأيضاً فإن الطلاب الآخرين الذي يستمعون إلى إجابة الطالب في شوق لمعرفة ما إذا كانت إجابة الطالب صحيحة أم غير ذلك . وعلى المعلم أن يعلق على إجابة كل طالب فيستفيد الطالب من تصويب المعلم له،ويستفيد الطلاب الآخرون بمعرفة صحة الجواب من عدمه .(1/283)
وعلى المعلم أيضاً أن يتحرى الدقة في التصويب والتخطئة،وألا يسارع بتخطئة الطالب كلياً إن كان في إجابته شيء من الصحة،بل عليه أن يشيد بالصحيح ويوضح الخطأ ويبينه،وينبغي على المعلم أن يختار ألفاظ التخطئة فلا تكون ألفاظاً قاسية أو عبارات ساخرة فتصيب الطالب بإحباط وتمنعه من الإقدام على الإجابة على أسئلة المعلم خوفاً من لسان المعلم السليط وعباراته القاسية،بل تكون العبارة مخطئة للجواب ولكن في قالب تشجيعي.وإليك بيان ذلك :
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ،أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ،أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً (1) تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ،وَإِذَا النَّاسُ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ (2) ،فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ،وَأَرَى سَبَبًا (3) وَاصِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ،فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَعَلاَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلاَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ بِهِ،ثُمَّ وُصِلَ لَهُ فَعَلاَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَلَأَعْبُرُهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَبِّرْ،قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الإِسْلاَمِ،وَأَمَّا الَّذِي يَنْطِفُ مِنَ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ،فَالْقُرْآنُ حَلاَوَتُهُ وَلِينُهُ،وَأَمَّا مَا يَتَكَفَّفُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ،فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ،وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ،فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ،أَخَذْتَهُ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ،ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو،فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ،بِأَبِي أَنْتَ،أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَصَبْتَ بَعْضًا،وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا،قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ،لَتُخْبِرَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ،قَالَ : لاَ تُقْسِمْ." (4)
قال الداودي: قوله: "لا تقسم " أي لا تكرر يمينك فإني لا أخبرك وقال المهلب: توجيه تعبير أبي بكر أن الظلة نعمة من نعم الله على أهل الجنة وكذلك كانت على بني إسرائيل،
__________
(1) الظُلة : السحابة التي لها ظِل ، وكلُّ ما أظَلَّ من سَقيفة ونحوها ، ويَنطِفُ بضم الطاء وكسرها أي يَقْطُرُ قليلاً قليلاً
(2) أي يأخذون بأكفّهم .
(3) السَّبب : الحَبْل ، والواصل بمعنى الموصول .
(4) - صحيح ابن حبان - (1 / 315) (111) وصحيح البخارى- المكنز - (7046 )(1/284)
وكذلك الإسلام يقي الأذى وينعم به المؤمن في الدنيا والآخرة، وأما العسل فإن الله جعله شفاء للناس وقال تعالى إن القرآن {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} وقال إنه {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وهو حلو على الأسماع كحلاوة العسل في المذاق، وكذلك جاء في الحديث: "أن في السمن شفاء " قال القاضي عياض: وقد يكون عبر الظلة بذلك لما نطفت العسل والسمن اللذين عبرهما بالقرآن، وذلك إنما كان عن الإسلام والشريعة، والسبب في اللغة الحبل والعهد والميثاق، والذين أخذوا به بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدا بعد واحد هم الخلفاء الثلاثة وعثمان هو الذي انقطع به ثم اتصل انتهى ملخصا
قال ابن التين ومن بعده الأشبه بظاهر الحديث أن الخطأ في تأويل الرؤيا، أي أخطأت في بعض تأويلك
قال ابن التين وقيل أخطأ لكون المذكور في الرؤيا شيئين العسل والسمن ففسرهما بشيء واحد، وكان ينبغي أن يفسرهما بالقرآن والسنة، ذكر ذلك عن الطحاوي. قلت: وحكاه الخطيب عن أهل العلم بالتعبير، وجزم به ابن العربي. فقال: قالوا هنا وهم أبو بكر فإنه جعل السمن والعسل معنى واحدا وهما معنيان القرآن والسنة. قال: ويحتمل أن يكون السمن والعسل العلم والعمل، ويحتمل أن يكونا الفهم والحفظ"
قال النووي: قيل إنما لم يبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أبي بكر لأن إبرار القسم مخصوص بما إذا لم يكن هناك مفسدة ولا مشقة ظاهرة فإن وجد ذلك فلا إبرار، ولعل المفسدة في ذلك ما علمه من سبب انقطاع السبب بعثمان وهو قتله وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه فكره ذكرها خوف شيوعها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لو ذكر له السبب للزم منه أن يوبخه بين الناس لمبادرته، ويحتمل أن يكون خطؤه في ترك تعيين الرجال المذكورين، فلو أبر قسمه للزم أن يعينهم ولم يؤمر بذلك إذ لو عينهم لكان نصا على خلافتهم، وقد سبقت مشيئة الله أن الخلافة تكون على هذا الوجه فترك تعيينهم خشية أن يقع في ذلك مفسدة. وقيل هو علم غيب فجاز أن يختص به ويخفيه عن غيره، وقيل المراد بقوله أخطأت وأصبت أن تعبير الرؤيا مرجعه الظن، والظن يخطئ ويصيب، وقيل لما أراد الاستبداد ولم يصبر حتى يفاد جاز منعه ما يستفاد فكان المنع كالتأديب له على ذلك.(1/285)
قلت: وجميع ما تقدم من لفظ الخطأ والتوهم والتأديب وغيرهما إنما أحكيه عن قائله ولست راضيا بإطلاقه في حق الصديق، وقيل الخطأ في خلع عثمان لأنه في المنام رأى أنه آخذ بالسبب فانقطع به وذلك يدل على انخلاعه بنفسه، وتفسير أبي بكر بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ثم يوصل له، وعثمان قد قتل قهرا ولم يخلع نفسه فالصواب أن يحمل وصله على ولاية غيره، وقيل يحتمل أن يكون ترك إبرار القسم لما يدخل في النفوس لا سيما من الذي انقطع في يده السبب وإن كان وصل " (1)
" وقال ابن هبيرة: وفي السؤال من أبي بكر أولا وآخرا وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على انبساط أبي بكر معه وإدلاله عليه. وفيه أنه لا يعبر الرؤيا إلا عالم ناصح أمين حبيب وفيه أن العابر قد يخطئ وقد يصيب، وأن للعالم بالتعبير أن يسكت عن تعبير الرؤيا أو بعضها عند رجحان الكتمان على الذكر. قال المهلب: ومحله إذا كان في ذلك عموم، فأما لو كانت مخصوصة بواحد مثلا فلا بأس أن يخبره ليعد الصبر ويكون على أهبة من نزول الحادثة. وفيه جواز إظهار العالم ما يحسن من العلم إذا خلصت نيته وأمن العجب، وكلام العالم بالعلم بحضرة من هو أعلم منه إذا أذن له في ذلك صريحا أو ما قام مقامه، ويؤخذ منه جواز مثله في الإفتاء والحكم، وأن للتلميذ أن يقسم على معلمه أن يفيده الحكم." (2)
وهذا الحديث دليل لما قاله العلماء أن إبرار القسم المأمور به ، إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدةٌ ،ولا مشقةٌ ظاهرة ، فإن كان لم يؤمر بالإبرار ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَبر قسمَ أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة (3) .
وهنا يتبين لنا بجلاء تعليق النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعبير أبي بكر للرؤيا،وأخبره بأن بعضها صحيح وبعضها خطأ وهذا عين الإنصاف أن تذكر ما في الإجابة من صحة أو خطأ،ثم إن على المعلم أن يبين الخطأ ويوضحه،وفي المثال السابق لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطأ ولم يوضحه لما
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (12 / 435)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (12 / 437)
(3) الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 119)(1/286)
يترتب على ذكره من مفاسد كان الأولى ترك تعبيره ولكن غرضنا هنا هو بيان تقييم الإجابة في حالة الصحة أو الخطأ،أو بينهما .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ آيَةً،سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خِلاَفَهَا،فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَآ - أَكْبَرُ عِلْمِى قَالَ - فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأَهْلَكَهُمْ » (1) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ،أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،يَقُولُ : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ،فَقَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَنِيهَا،فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ،ثُمَّ أَمْهَلْتُ حَتَّى انْصَرَفَ،ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ،فَجِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ : إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَأْ،فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَكَذَا أُنْزِلَتْ،ثُمَّ،قَالَ لِي : اقْرَأْ،فَقَرَأْتُ،فَقَالَ : هَكَذَا أُنْزِلَتْ،إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ،فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ." (2)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ،فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ،ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ،فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ دَخَلاَ جَمِيعًا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ،ثُمَّ قَرَأَ الآخَرُ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ،فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اقْرَآ،فَقَرَآ،فَقَالَ : أَحْسَنْتُمَا،أَوْ،قَالَ : أَصَبْتُمَا،قَالَ : فَلَمَّا،قَالَ لَهُمَا الَّذِي،قَالَ،كَبُرَ عَلَيَّ،فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي،فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَبِّي فَرَقًا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أُبَيُّ : إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ : أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ،فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ : أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي مَرَّتَيْنِ،فَرَدَّ عَلَيَّ : أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ،وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُهَا مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَقُلْتُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي،ثُمَّ أَخَّرْتُ الثَّانِيَةَ إِلَى يَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْقُ حَتَّى أَبَرَّهُمْ. (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5062 )
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 16) (741-) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 15) (740) وصحيح مسلم- المكنز - (1941)(1/287)
قَوْله : ( عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب فَحَسَّنَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - شَأْن الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْقِرَاءَة،قَالَ : فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنْ التَّكْذِيب وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّة ) مَعْنَاهُ : وَسْوَسَ لِي الشَّيْطَان تَكْذِيبًا لِلنُّبُوَّةِ أَشَدَّ مِمَّا كُنْت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ غَافِلًا أَوْ مُتَشَكِّكًا فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطَان الْجَزْم بِالتَّكْذِيبِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : مَعْنَى قَوْله : ( سُقِطَ فِي نَفْسِي ) أَنَّهُ اِعْتَرَتْهُ حِيرَة وَدَهْشَة . قَالَ : وَقَوْله : ( وَلَا إِذْ كُنْت فِي الْجَاهِلِيَّة ) مَعْنَاهُ : أَنَّ الشَّيْطَان نَزَغَ فِي نَفْسه تَكْذِيبًا لَمْ يَعْتَقِدهُ . قَالَ : وَهَذِهِ الْخَوَاطِر إِذَا لَمْ يَسْتَمِرّ عَلَيْهَا لَا يُؤَاخَذ بِهَا . قَالَ الْقَاضِي : قَالَ الْمَازِرِيُّ : مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْس أُبَيّ بْن كَعْب نَزْعَة مِنْ الشَّيْطَان غَيْر مُسْتَقِرَّة،ثُمَّ زَالَتْ فِي الْحَال حِين ضَرَبَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ فِي صَدْره فَفَاضَ عَرَقًا .
قَوْله : ( فَلَمَّا رَأَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْت عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُر إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا ) قَالَ الْقَاضِي : ضَرَبَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدْره تَثَبُّتًا لَهُ حِين رَآهُ قَدْ غَشِيَهُ ذَلِكَ الْخَاطِر الْمَذْمُوم
قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى : ( وَلَك بِكُلِّ رَدَّة رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَة تَسْأَلنِيهَا ) مَعْنَاهُ : مَسْأَلَة مُجَابَة قَطْعًا . وَأَمَّا بَاقِي الدَّعَوَات فَمَرْجُوَّة لَيْسَتْ قَطْعِيَّة الْإِجَابَة (1)
وهنا كان التعليق على قراءة أبي والصحابي الآخر بقوله - صلى الله عليه وسلم - أحسنت لكل منهما لأن الصحابيين كليهما قد قرأ قراءة صحيحة،استوجبت التصحيح،ولو بعبارة مغايرة لكلمة الصحة بل يكفي أي عبارة تدل على المقصود .
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَ : قُلْتُ لَهَا : إِنِّي لَأَظُنُّ رَجُلًا ، لَوْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، مَا ضَرَّهُ ، قَالَتْ : " لِمَ ؟ " قُلْتُ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَقَالَتْ : " مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ، وَهَلْ تَدْرِي فِيمَا كَانَ ذَاكَ ؟ إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ ، يُقَالُ لَهُمَا إِسَافٌ وَنَائِلَةُ ، ثُمَّ يَجِيئُونَ فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (3 / 174)(1/288)
وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، قَالَتْ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا ، قَالَتْ : فَطَافُوا "
وقال هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ،أَخْبَرَنِي أَبِي ، قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ : مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، قَالَتْ : " لِمَ ؟ " قُلْتُ : لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ ، فَقَالَتْ : " لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ ، لَكَانَ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ، إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَار كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا ، أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَجِّ ، ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، فَلَعَمْرِي ، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ "
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، قَالَ : قُلْتُ لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا ، وَمَا أُبَالِي أَنْ لَا أَطُوفَ بَيْنَهُمَا ، قَالَتْ : " بِئْسَ مَا قُلْتَ ، يَا ابْنَ أُخْتِي ، طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ ، فَكَانَتْ سُنَّةً وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ ، لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ سَأَلْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ، وَلَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ ، لَكَانَتْ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا " قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ : " إِنَّ هَذَا الْعِلْمُ ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ ، يَقُولُونَ : إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَار : إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَأُرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ " وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ ، وَسَاقَ(1/289)
الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَلَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ : قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بِهِمَا " (1)
الخلاصة:
(1) التعليق على إجابة المتعلم،تفيد المجيب في تصحيح إجابته،وتفيد الطلاب الآخرين في قبول الإجابة أو رفضها .
(2) قد تكون الإجابة صحيحة،وقد تكون الإجابة صحيحة جزئياً،وقد تكون خطأ.ولكل إجابة ما يناسبها من عبارات التعليق
(3) الإجابة الخاطئة يراعى فيها نفسية الطالب وروحه المعنوية .
(4) لا يلزم أن يتقيد المعلم بلفظ ( صحيح،خطأ ) بل أي عبارة تدل على المقصود (كأحسنت،جيد،ممتاز،تحتاج العبارة إلى تصحيح أكثر،الجواب غير مكتمل . ونحوه )
ــــــــ
20-تأخير جواب السائل لمصلحة معينة:
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ قَالَ:"جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَضَمِّخًا بِالزَّعْفَرَانِ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي عُمْرَتِي ؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ "،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ ؟ فَقَالَ: هَا أَنَاذَا، فَقَالَ لَهُ: الْقِ عَنْكَ ثِيَابَكَ ثُمَّ أَغْتَسِلْ وَاسْتَنْشِقْ مَا اسْتَطَعْتَ، ثُمَّ مَا كُنْتَ يَعْنِي صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ" (2) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز ->> كِتَابُ الْحَجِّ >> بَابُ بَيَانِ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ >> (3138-3142 )
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (2 / 10) (1794) صحيح(1/290)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ قَالَ هَمَّامٌ أَوْ قَالَ أَثَرُ الصُّفْرَةِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى؟ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَسُتِرَ بِثَوْبٍ قَالَ وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ : وَدِدْتُ لَوْ أَنِّى قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ : أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَلَهُ غَطِيطٌ قَالَ هَمَّامٌ أَحْسِبُهُ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ :« أَيْنَ السَّائِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ اخْلَعْ عَنْكَ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكِ » (1) .
وعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِىِّ قَالَ : سَأَلْتُ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُرِيَنِىَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَهُ فِى سَفَرٍ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَإِنَّ النَّاسَ يَسْخَرُونَ مِنِّى فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ قَالَ :« أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ ». فَقَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ :« انْزَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ هَذِهِ وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِى حَجِّكَ إِذَا أَحْرَمْتَ فَاصْنَعْهُ فِى عُمْرَتِكَ » (2) .
في هذا الحديث الشريف أخر جواب السائل،ليشد انتباهه أكثر،ثم نزل عليه الوحي،ثم بعد ذلك سال عنه وأعطاه الجواب وصحح له خطأه .
وقال عُثْمَانُ - هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ - : جَاءَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا،فَقَالَ مَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ قَالَ هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ . قَالَ فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ قَالُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ شَىْءٍ فَحَدِّثْنِى هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ . قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ نَعَمْ . قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ . قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ .
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 56)(9364) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 56) (9367) صحيح(1/291)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ،وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ،فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ مَرِيضَةً،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ » . وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرُّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ الْيُمْنَى « هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ » . فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ،فَقَالَ « هَذِهِ لِعُثْمَانَ » . فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ (1) .
قوله: "هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد إلخ" الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه، ولذلك كبر مستحسنا لما أجابه به ابن عمر. قوله: "قال ابن عمر: تعال أبين لك" كأن ابن عمر فهم منه مراده لما كبر، وإلا لو فهم ذلك من أول سؤاله لقرن العذر بالجواب، وحاصله أنه عابه بثلاثة أشياء فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فبالعفو، وأما التخلف فبالأمر، وقد حصل له مقصود من شهد من ترتب الأمرين الدنيوي وهو السهم والأخروي وهو الأجر، وأما البيعة فكان مأذونا له في ذلك أيضا، ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير لعثمان من يده كما ثبت ذلك أيضا عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة، فأجابه بمثل ما أجاب به ابن عمر. قال في هذه: فشمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير لي من يميني.
قوله: "فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك" أي اقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان. وقال الطيبي. قال له ابن عمر تهكما به، أي توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعدما بينت لك (2)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ : " يَا أُمَّ فُلَانٍ،إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ " قَالَ : فَوَلَّتْ تَبْكِي فَقَالَ :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3698 )
(2) - فتح الباري لابن حجر - (7 / 59)(1/292)
" أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي عَجُوزٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ،فَقَالَ : " مَنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ ؟ " قَالَتْ : مِنْ أَخْوَالِي،أَوْ قَالَتْ : خَالَاتِي،فَقَالَ : " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ "،قَالَ فَكَبُرَ ذَلِكَ مِنَ الْعَجُوزِ،قَالَ : فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي لَقِيَتِ الْمَرْأَةُ،فَقَالَ : " إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْبِتُ بِهِنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ،أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ : " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ "،فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى،ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ،فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً،فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ،إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا " (3)
وفي هذا الحديث أخر الجواب لبيان الحكم،وهو أنها لن تدخل الجنة وهي عجوز،بل وهي شابة .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ. قَالَ : وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً دَعَاهُ فَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (114) سورة هود فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ :« بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً » (4) .
__________
(1) - الشَّمَائِلُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلتِّرْمِذِيِّ (238 ) صحيح لغيره
(2) - أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (40605 ) صحيح لغيره
انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 2546) رقم الفتوى 63072 النكات المتضمنة آيات قرآنية
(3) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5703 ) صحيح لغيره
(4) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (8 / 241)(17540) ومسلم- المكنز - (7180)(1/293)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : إِنِّي أَخَذْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ،فَأَصَبْتُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ أَنِّي لَمْ أَنْكِحْهَا،فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ،فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا،ثُمَّ دَعَاهُ،فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ : {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ،إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود]. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ،فَضَمَمْتُهَا إِلَيَّ وَقَبَّلْتُهَا وَبَاشَرْتُهَا،وَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا،فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ : {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ،إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ،ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود] قَالَ : فَدَعَاهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ،فَقَالُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَلَهُ خَاصَّةً ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً. (2)
وقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ،قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنْهُ،ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ،فَلَمَّا سَلَّمَ،قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَلْ تَوَضَّأْتَ حِينَ أَقْبَلْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : صَلَّيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : فَاذْهَبْ،فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ." (3)
وقال أَبُو أُمَامَةَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ. فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ. فَسَكَتَ عَنْهُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أَبُو أُمَامَةَ فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ - قَالَ أَبُو أُمَامَةَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ ». قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (5 / 16) (1728) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 20) (1730) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (5 / 15) (1727) صحيح(1/294)
اللَّهِ. قَالَ « ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا ». فَقَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ - أَوْ قَالَ - ذَنْبَكَ » (1) .
وقال ابن عبد البر: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: ويرد الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى التوبة. واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزيز عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما. واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حد على من وجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد. (2)
وقال ابن عثيمين : " هذه الأحاديث كلها أيضا فيها من الرجاء ما فيها فمن ذلك أن الصلوات الخمس تكفر السيئات التي قبلها كما في قصة الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة، والذي أصاب حدا وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيمه عليه، فإن الصلاة هي أفضل أعمال البدن وهي تذهب السيئات، قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ." (3)
قلت : ولكن تأخير الجواب لمصلحة لا حرج فيه ،وأما إذا كان السائل مضطرا ، وكان بالإمكان وقف الحديث وإحابته ، فتجب إجابته في هذه الحال ، فقد عاتب الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه ابن أم مكتوم رضي الله عنه يسأل عن بعض أمور دينه ،فكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابته وقطع حديثه مع زعماء قريش – طمعاً بإسلامهم- ،قال تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7183 )
حدّا: الحد : ما أمر به الله تعالى من العقاب لمن أذنب ذنبا ، ومعنى قوله : أصبت حدّا أي أصبت ذنبا يوجب علي حدّا.
(2) - فتح الباري لابن حجر - (8 / 357)
(3) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (3 / 60)(1/295)
الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) }[عبس : 1 - 10]
وعَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ مَكْفُوفٌ ، وَهِيَ تُقَطِّعُ لَهُ الأُتْرُجَّ ، وَتُطْعِمُهُ إِيَّاهُ بِالْعَسَلِ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَذَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَتْ : هَذَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الَّذِي عَاتَبَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِنْدَهُ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمَا ، فَنَزَلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ " (1)
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً يُخَاطِبُ أَحَدَ سَادَةِ قُرِيْشٍ ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلاَمِهِ ، فَبَيْنَمَا كَانَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَى ، وَكَانَ أَسْلَمَ ، قَدِيماً ، وَهَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ ، وَقَدْ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ لِيَسْأَلَهُ عَنْ شَيءٍ ، وَأَلَحَّ عَلَى النَّبِيِّ فِي السُّؤُالِ . وَوَدَّ النَّبِيُّ أَنْ لَوْ كَفَّ ابْنُ أُمْ مَكْتُومٍ ، سَاعَتَهُ تِلْكَ ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُتَابِعَةِ حَدِيثِهِ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ ، طَمَعاً فِي هِدَايَتِهِ . وَعَبَسَ فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الآخَرِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ مُعَاتِباً رَسُولَهُ الكَرِيمَ .
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ يَهَشُّ لابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ، وَيَلْقَاهُ بِالعِنَايَةِ والتَّكْرِيمِ وَيَقُولُ لَهُ : أَهْلاً بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي . (2)
وَمَعْنَى الآيَةِ : أَنَّ الرَّسُولَ قَطَّبَ وَجْهَهُ كَارِهاً وَأَعْرَضَ .
لأَنَّ الأعْمَى قَدْ جَاءَهُ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ ، وَقَطَعَ حَدِيثَ الرَّسُولِ ، مَعَ أَنَّهُ بِسَبَبِ عَمَاه يَسْتَحِقُّ مَزِيداً مِنَ الرِّفْقِ والرَّأْفَةِ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ أَنْ تَخُصَّهُ بِالجَفْوَةِ وَالإِعْرَاضِ؟
وَمَا يُدْرِيكَ حَالَ هَذَا الأَعْمَى؟ فَقَدْ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنْكَ ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ .
أَوْ يَتَّعِظُ فَتَنفعُهُ ذِكْرَاكَ وَعِظَتُكَ .
__________
(1) - المستدرك للحاكم( 6671) صحيح
(2) - انظر سيرة ابن هشام - (1 / 363)(1/296)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ وَقُوَّتِهِ عَنِ الإِيْمَانِ .فَأَنْتَ تَتَعَرَّضُ لَهُ ، وَتَهْتُمُّ بِتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ ، لَعَلَّهُ يَهْتَدِي .
وَمَا يَضُرُّكَ أَنْ يَبْقَى عَلَى ضَلاَلِهِ ، وَأَنْ لاَ يَتَطَّهَرَ مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ وَالجَهَالَةِ ، فَأَنْتَ رَسُولٌ مُبَلِّغٌ وَقَدْ أَدَّيْتَ رِسَالَتَكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ .
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى مُسْرِعاً فِي طَلَبِ العِلْمِ والهُدَى وَالتَّقْرُّبِ مِنْ رَبِّهِ .وَهُوَ يَخْشَى رَبَّهُ ، وَيَحْذَرُ الوُقُوعَ فِي الغوَايَةِ . فَأَنْتَ تَتَلَهَّى وَتَتَشَاغَلُ عَنْهُ ، وَتُعْرِضُ عَنْ إِجَابَتِهِ ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِ ." (1)
إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب، أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف، على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف - رضي الله عنه -، فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف لعنه الله.
وكانت لهذه القصة دروس وعبر، استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين، على الدعاة البلاغ، وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلو لم يكن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له - صلى الله عليه وسلم - ولو كان كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان. (2)
الخلاصة :
(1) يجوز تأجير الجواب إذا كان السائل غير مضطر للجواب حالاً .
(2)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5636)
(2) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (1 / 244) وانظر: المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان (2/89).(1/297)
يجوز تأخير الجواب حتى يعرف حتى مقصد السائل من سؤاله .
(3) يجوز تأجير الجواب لبيان الحكم المترتب عليه
(4) لا يجوز تأخير الجواب إذا ترتب عليه مفسدة أو كان السائل مضطرا وبالإمكان إيقاف الدرس .
ــــــــ
21-عدم السخرية من سؤال الجاهل :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ عُلْوِيٌّ جَرِيءٌ جَافٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنَا عَنِ الْهِجْرَةِ،أَهِيَ إِلَيْكَ حَيْثُ كُنْتَ ؟ أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْرُوفَةٍ ؟ أَمْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً ؟ أَمْ إِذَا مِتَّ انْقَطَعَتْ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ،ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مِتَّ فِي الْحَضَرِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنَا عَنْ ثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ،أَخَلْقٌ تُخْلَقُ،أَمْ نَسْجٌ تُنْسَجُ ؟،فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَضَحِكَ بَعْضُ الْقَوْمِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ أَمِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَلْ تَتَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الْجَنَّةِ،بَلْ تَتَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،وَمَا تَقُولُ فِي الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ ؟ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللهِ،ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَاغْزُهَا،وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَجَاهِدْهَا،فَإِنَّكَ إِنْ قُتِلْتَ فَارًّا بَعَثَكَ اللَّهُ فَارًّا،وَإِنْ قُتِلْتَ مُرَائِيًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا،وَإِنْ قُتِلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا. (1)
__________
(1) - مسند الطيالسي - (4 / 35) (2391) حسن(1/298)
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : ثِيَابُنَا فِي الْجَنَّةِ نَنْسُجُهَا بِأَيْدِينَا ؟ فَضَحِكَ أَصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لِمَ تَضْحَكُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عالماً ؟ ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صَدَقْتَ يَا أَعْرَابِيُّ وَلَكِنَّهَا ثَمَرَاتٌ " (1) .
وعَنِ الْفَرَزْدَقِ بْنِ حَنَانٍ الْقَاصِّ،قَالَ : أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي،لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ ؟ خَرَجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ حَيْدَةَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ،فَمَرَرْنَا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،فَقَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكُمَا،أَعْرَابِيٌّ جَافٍ جَرِيءٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَيْنَ الْهِجْرَةُ،إِلَيْكَ حَيْثُمَا كُنْتَ،أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ،أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً،أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْهِجْرَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : إِذَا أَقَمْتَ الصَّلاَةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ،وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضْرَمَةِ،قَالَ : يَعْنِي أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ،قَالَ : ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَرَأَيْتَ ثِيَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ،أَتُنْسَجُ نَسْجًا،أَمْ تَشَقَّقُ عَنْهُ ثَمَرُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : فَكَأَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ مَسْأَلَةِ الأَعْرَابِيِّ فَقَالَ : مَا تَعْجَبُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا ؟ قَالَ : فَسَكَتَ هُنَيَّةً،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : أَنَا،قَالَ : لاَ،بَلْ تُشَقَّقُ عَنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ. (2)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ،وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ،فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ،فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ،مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ،فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ." (3)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ " وَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا , وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ , أَوَ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ: " تَرِبَتْ يَدَاكِ بِمَا يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا ؟ " (4)
__________
(1) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (18 / 668) (4607 ) حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 679) (6890) حسن
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 113) (3991) صحيح
(4) - شرح مشكل الآثار - (7 / 88)(2661 ) صحيح(1/299)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ،فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ » . فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ - تَعْنِى وَجْهَهَا - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ « نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا » (1) .
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الْحَقِّ،هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ « نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ » . فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ أَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَبِمَ شَبَهُ الْوَلَدِ » . (2)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيَّةَ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كَلَّمَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، أَرَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَرَى فِي النَّوْمِ مَا يَرَى الرَّجُلُ أَتَغْتَسِلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَعَمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أُفٍّ لَكِ أَوَتَرَى الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ: تَرِبَتْ يَمِينُكِ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟، قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ تُهَرِيقُ الْمَاءَ؟ قَالَ: لا غُسْلَ إِذًا" (3)
قال الإمام النووي :[ وأما كون الحياء خيراً كله ولا يأتي إلا بخير فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمر بن الصلاح رحمه الله تعالى أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (130 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6091)
(3) - مسند أبي عوانة(655 ) صحيح(1/300)
وإنما حقيقة الحياء خُلقٌ يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا ] (1)
قلت : في هذه الأحاديث النهي عن السخرية والضحك على السائل،وكذلك على بعض الناس لدمامة أو قصر أو نحوه،فكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحاً وصريحا في النهي عن ذلك كله .
الخلاصة :
(1) على المتعلم أن يسأل عن كل ما يشكل عليه في أمور دينه ودنياه .
(2) لا تجوز السخرية بسؤال المتعلم من قبل المعلم .
(3) لا تجوز السحرية ولا الضحك من قبل المتعلم على سؤال زميله .
(4) الحياء الصحيح لا يمنع من السؤال في أمور الدين والدنيا
ــــــــ
22-إعادة السؤال على السائل لتنبيهه إلى السؤال الأهم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ الْقَوْمَ،جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ،فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ،وَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا،قَالَ : إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ،قَالَ : فَمَا إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَ اشْتَدَّ الأَمْرُ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ حَدِيثًا،جَاءَ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ،فَقَالَ
__________
(1) - شرح النووي على صحيح مسلم 1/204
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 307) ( 104) صحيح(1/301)
بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ فَكَرِهَ مَا قَالَ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا،يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ،قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،كَيْفَ ؟ أَوْ مَا إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إِذَا تَوَسَّدَ الأَمْرَ غَيْرُ أَهْلِهِ،فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. (1)
وقوله: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة » هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبى - صلى الله عليه وسلم - شرحه له فقال له: « كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله » فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله" (2)
ذلك أن إسناد أيّ أمر لغير أهله إنما هو إفساد في الوجود، لأن الأصل في إسناد أيّ أمر لأي إنسان أن يكون بهدف أن يقومَ بالأمر كما يجب، فإذا كان الاختيار سيئاً؛ فسيكون هذا الإنسان أُسْوة في السوء؛ وتنتقل منه عدوى عدم الإتقان إلى غيره؛ ويتفشَّى السوء في المجتمع، أما إذا تولى الأمر مَنْ هو أَهْلٌ له فالموقف يختلف تماماً، فوضع الإنسان في مكانه اللائق، تعتدل به موازين العدل، وفي اعتدال الميزان استقرار للزمان والمكان والإنسان. (3) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصَّلاَةِ،فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ سَاعَتِهِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ شَيْءٍ،وَلاَ صَلاَةٍ،وَلاَ صِيَامٍ،أَوْ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ عَمَلٍ،إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ،أَوْ قَالَ : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ : فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَذَا. (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 349)(8729) 8714- صحيح
(2) - شرح ابن بطال - (19 / 274)
(3) - تفسير الشعراوي - ( / 1771)
(4) - صحيح ابن حبان - (1 / 308) (105) صحيح(1/302)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصَّلاَةِ،فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلاَةٍ،وَلاَ صَوْمٍ،إِلاَّ إِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ،وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ،فَقَالَ أَنَسٌ : مَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَا. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : إِنْ كَانَ لَيُعْجِبُنَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَجِيءُ فَيَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ،فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى،فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ فَقَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ : أَنَا . فَقَالَ : وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ،وَلاَ صِيَامٍ،إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ . قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِِسْلاَمِ فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : مِنْ كَبِيرِ عَمَلٍ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ. (2)
وعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ؟ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَتَهُ،قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : إِنَّهَا قَائِمَةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ : مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ عَمَلٍ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ،قَالَ : وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ،فقَالَ : إِنْ يَعِشْ هَذَا،فَلاَ يُدْرِكُهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. (3)
والمقصود ساعة الحاضرين،وليس الساعة الكبرى
ونلاحظ في هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد السؤال على السائل،ليبين المقصود من السؤال،وليكون فيه فائدة للحاضرين الذين لم يسألوا .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 345) (7348) وسنن الترمذى- المكنز - (2560) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 516)(13068) 13099- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 324) (565) صحيح(1/303)
ومن ثم نلاحظ فرح الصحابة الشديد بجواب الرجل وبجواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،حيث إن حالهم يشبه حال السائل،وكلهم يطمع بالذي طمع فيه .
الخلاصة :
(1) لا بأس بإعادة السؤال على السائل إذا اقتضت المصلحة ذلك
(2) في إعادة السؤال على السائل استخراج مقصوده من السؤال ولاسيما إذا كان يحتمل أكثر من جواب .
(3) في إعادة السؤال على السائل تنبيه للحاضرين كي تكون أسئلتهم دقيقة وفي محلها .
ــــــــ
23-تأخير جواب السائل إذا كان مرتبطا بشيء عمليٍّ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي اللاهينَ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَلِمَةً حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوِهِ وَطَافَ، فَإِذَا بِصَبِيٍّ قَدْ وَقَعَ مِنْ مِحَفَّةٍ فَإِذَا هُوَ، فَنَادَى مُنَادِيهِ أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ اللاهينَ؟ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ أَطْفَالِهِمْ، وَقَالَ:اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ." (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ،فَسَأَلَهُ رَجُلٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي اللاهِينَ،قَالَ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ كَلِمَةً،فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوِهِ طَافَ،فَإِذَا هُوَ بِغُلامٍ قَدْ وَقَعَ وَهُوَ يَعْبَثُ بِالأَرْضِ،فَنَادَى مُنَادِيهِ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ اللاهِينَ ؟ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ الأَطْفَالِ،ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ،هَذَا مِنَ اللاهِينَ (2) .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 23) (11738 ) حسن
(2) - كشف الأستار - (3 / 32) (2173) حسن(1/304)
وَهُمُ الْبُلْهُ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الذُّنُوبَ،وَقِيلَ : هُمُ الْأَطْفَالُ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِفُوا ذَنْبًا (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَأَلْتُ اللَّهَ اللاهِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْبَشَرِ فَأَعْطَانِيهِمْ " (2)
قلت :
فالرجل سأل عن اللاهين،فلم يجبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى مرت خالة مشابهة فبين له ذلك فيما بعد،فكان هذا أبلغ في الجواب،وكذلك إذا سأل الطالب عن شيء موجود وبإمكاننا إحضاره له،فلا بأس من تأخير الجواب حتى نحضره له ،كمن يسأل عن العسل،ولم يره ،فإذا أحضرنا له العسل في درس آخر،وقلنا له : هذا هو العسل لكان الجواب أبلغ ،فهذه وسيلة إيضاح ،ولاسيما أن هناك أشياء لا تفهم دون رؤيتها،فإن أمكن إحضارها فبه ونعمت وإلا عن طريق الرسم مثلا .
الخلاصة :
(1) لا بأس بتأخير الجواب على سؤال المتعلم إذا كان مرتبطاً بأمر عملي حتى نحضره له .
(2) في إحضار الشيء المسؤول عنه زيادة إيضاح وتركيز للمعلومة .
(3) استخدام وسيلتي السمع والبصر أفضل من استخدام وسيلة واحدة .
(4) يمكن رسم الشيء المسؤول عنه عند العجز عن إحضاره،أو الاستعانة بالفيديو ونحو ذلك من وسائل الإيضاح،والنت اليوم من أقواها .
ــــــــ
24-السكوت عن جواب السائل ساعة أو نحوها حسب مقتضى الحال :
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (4 / 383)
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي(3570) والصحيحة (1881) وصحيح الجامع (3592) صحيح لغيره(1/305)
عَنِ الْفَرَزْدَقِ بْنِ حَنَانٍ الْقَاصِّ،قَالَ : أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي،لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ ؟ خَرَجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ حَيْدَةَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ،فَمَرَرْنَا بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،فَقَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكُمَا،أَعْرَابِيٌّ جَافٍ جَرِيءٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَيْنَ الْهِجْرَةُ،إِلَيْكَ حَيْثُمَا كُنْتَ،أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ،أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً،أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْهِجْرَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : إِذَا أَقَمْتَ الصَّلاَةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ،وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضْرَمَةِ،قَالَ : يَعْنِي أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ،قَالَ : ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَرَأَيْتَ ثِيَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ،أَتُنْسَجُ نَسْجًا،أَمْ تَشَقَّقُ عَنْهُ ثَمَرُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : فَكَأَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ مَسْأَلَةِ الأَعْرَابِيِّ فَقَالَ : مَا تَعْجَبُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا ؟ قَالَ : فَسَكَتَ هُنَيَّةً،ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : أَنَا،قَالَ : لاَ،بَلْ تُشَقَّقُ عَنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ. (1)
الجواب واضح ن فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجبه مباشرة وإنما أخر الجواب عمدا .
الخلاصة :
(1) يجوز للمعلم أن يؤخر الجواب برهة من الزمان حسب مقتضى الحال .
(2) قد يكون تأخير الجواب بسبب انشغاله بالدرس،أو لشد انتباه الطلاب،أو لتشويق السائل .
(3) قد لا يحفظ المعلم اسم السائل،فلا بأس من أن يقول : أين السائل عن كذا وكذا ؟
ــــــــ
25-السؤال واحد والجواب مختلف حسب طبيعة السائل :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 679) (6890) حسن(1/306)
عَنْ أبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي كُدَيْرٌ الضَّبِّيُّ، أَنَّ رَجُلا أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِعَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَوَهُمَا أَهَملَّتَاكَ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"تَقُولُ الْعَدْلَ وَتُعْطِي الْفَضْلَ"، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ الْعَدْلَ كُلَّ سَاعَةٍ، وَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَ فَضْلَ مَالِي، قَالَ:"تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتُفْشِي السَّلامَ"، قَالَ: هَذِهِ أَيْضًا شَدِيدَةٌ، فَقَالَ:"فَهَلْ لَكَ إِبِلٌ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَانْظُرْ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِكَ وَسِقَاءٍ ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَهْلَ بَيْتٍ لا يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلا غِبًّا فَاسِقِهِمْ، فَلَعَلَّكَ لا تُهْلِكُ بَعِيرَكَ وَلا تَخْرِقُ سِقَاءَكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ"، فَانْطَلَقَ الأَعْرَابِيُّ يُكَبِّرُ، فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ وَلا هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ).. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1)
وعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ أَخْبَرَنِى كُدَيْرٌ الضَّبِّىُّ أَنَّ رَجُلاً أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يَقَرِّبُنِى مِنْ طَاعَتِهِ وَيُبَاعِدُنِى مِنَ النَّارِ قَالَ :« أَوَهُمَا أَعْمَلَتَاكَ ». قَالَ : نَعَمْ قَالَ :« تَقُولُ الْعَدْلَ وَتُعْطِى الْفَضْلَ ». قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ الْعَدْلَ كُلَّ سَاعَةٍ،وَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِىَ فَضْلَ مَالِى قَالَ :« فَتُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتُفْشِى السَّلاَمَ ». قَالَ : هَذِهِ أَيْضًا شَدِيدَةٌ قَالَ :« فَهَلْ لَكَ إِبِلٌ ». قَالَ : نَعَمْ قَالَ :« فَانْظُرْ بَعِيرًا مِنْ إِبِلِكَ وَسِقَاءً ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى أَهْلِ أَبْيَاتٍ لاَ يَشْرَبُونَ الْمَاءَ إِلاَّ غِبًّا فَاسْقِهِمْ فَلَعَلَّكَ أَنْ لاَ يَهْلِكَ بَعِيرُكَ،وَلاَ يَنْخَرِقَ سِقَاؤُكَ حَتَّى تَجِبَ لَكَ الْجَنَّةُ ». قَالَ فَانْطَلَقَ الأَعْرَابِىُّ يُكَبِّرُ قَالَ فَمَا انْخَرَقَ سِقَاؤُهُ وَلاَ هَلَكَ بَعِيرُهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا." (2)
الغِبُّ مِن أوْرَاد الإبِل : أنْ تَرِدَ الماء يَوماً وتَدَعَه يوما ثم تَعُودَ، فَنقَله إلى الزِّيارة وإنْ جاء بعد أيام،والغب فعل الأمر والقيام به حينا بعد حين
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا قَدْ أَخَذَ جَرِيدَةً مِنْ نَخْلٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهَا رِدَاءً لَهُ يُظِلُّ بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الشَّمْسِ، وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ أَسْوَدُ، فَجِئْتُ حَتَّى قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ هَكَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 67) (15753 ) ومجمع الزوائد(4729 ) ومصنف عبد الرزاق (19692) وهو صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 186) (8061) وشعب الإيمان - (5 / 65) (3102 ) صحيح(1/307)
- صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ: " دَعُوهُ، ادْنُ " فَدَنَوْتُ، فَأَخَذْتُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ،فَقَالَ: " أَرْسِلْ " فَقُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَنَا مُرْسِلَكُ حَتَّى تُخْبِرَنِي بِكَلِمَتَيْنِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا، قَالَ: " وَمَا هُمَا ؟ " قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: " أَهُمَا أَعْمَلَتَاكَ ؟ " قُلْتُ: أَيْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَهُمَا أَعْمَلَتَانِي، وَمَا جِئْتُ إِلَّا لَهُمَا، قَالَ: " لَقَدْ أَقَصَرْتَ الْمَسْأَلَةَ، وَطَلَبْتَ عَظِيمًا فَافْقَهْ لِمَا أَقُولُ لَكَ، وَاعْقِلْ عَنِّي، تَقُولُ الْعَدْلَ، وَتُعْطِي الْفَضْلَ " (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ . قَالَ: « تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ،وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ،وَتَصُومُ رَمَضَانَ » . قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا . فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » (2) .
وعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ.قَالَ :« لَئِنْ قَصَّرْتَ فِى الْخُطْبَةِ لَقَدْ عَرَّضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ ». قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُمَا سَوَاءٌ؟ قَالَ :« لاَ عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِى ثَمَنِهَا وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ وَالْفَىْءُ عَلَى ذِى الرَّحِمِ الظَّالِمِ ». قَالَ : فَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ قَالَ :« فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ وَاسْقِ الظَّمْآنَ ». قَالَ : فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ. قَالَ :« مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ». قَالَ : فَمَنْ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ ؟ قَالَ :« فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ ». (3)
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَرَأَيْتُ خَلْوَةً فَاغْتَنَمْتُهَا، فَأَوْضَعْتُ بَعِيرِي نَحْوَهُ حَتَّى سَايَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ:"لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ"، ثُمَّ سَارَ وَسِرْتُ.
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (6 / 3140) (7230 ) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى(1397 ) ومسلم (116)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (10 / 272)(21847) صحيح(1/308)
قَالَ:"إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِأَبْوَابٍ مِنَ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطَايَا، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَرَأَ:"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ"[السجدة آية 16] "، قَالَ: ثُمَّ سَارَ وَسِرْتُ.
وَقَالَ:"أَلا أُنَبِّئُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟: الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، ثُمَّ سَارَ وَسِرْتُ.
قَالَ:"إِنْ شِئْتَ أُنَبِّئُكَ بِمَا هُوَ أَمْلَكُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلكَ كُلِّهِ"، قَالَ: فَكَانَتْ مِنْهُ سَكِينَةٌ، وَكَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَرَأَيْتُ رَاكِبًا فَحَسِبْتُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَيَشْغَلَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ أَمْلَكُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ:"ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ بن جَبَلٍ، وَمَا تَقُولُ إِلا لَكَ أَوْ عَلَيْكَ؟ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟". (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ بِالنَّاسِ قِبَلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ،فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ صَلَّى بِالنَّاسِ صَلاَةَ الصُّبْحِ،ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَكِبُوا،فَلَمَّا أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ نَعَسَ النَّاسُ عَلَى أَثَرِ الدُّلْجَةِ،وَلَزِمَ مُعَاذٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتْلُو أَثَرَهُ،وَالنَّاسُ تَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ عَلَى جَوَادِّ الطَّرِيقِ تَأْكُلُ وَتَسِيرُ،فَبَيْنَمَا مُعَاذٌ عَلَى أَثَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَنَاقَتُهُ تَأْكُلُ مَرَّةً وَتَسِيرُ أُخْرَى عَثَرَتْ نَاقَةُ مُعَاذٍ،فَكَبَحَهَا بِالزِّمَامِ،فَهَبَّتْ حَتَّى نَفَرَتْ مِنْهَا نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَشْفَ عَنْهُ قِنَاعَهُ،فَالْتَفَتَ فَإِذَا لَيْسَ مِنَ الْجَيْشِ رَجُلٌ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ مُعَاذٍ،فَنَادَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا مُعَاذُ . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ . قَالَ : ادْنُ دُونَكَ . فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى لَصِقَتْ رَاحِلَتَاهُمَا إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا كُنْتُ أَحْسِبُ النَّاسَ مِنَّا كَمَكَانِهِمْ مِنَ الْبُعْدِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : يَا نَبِيَّ اللهِ نَعَسَ النَّاسُ،فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ رِكَابُهُمْ تَرْتَعُ وَتَسِيرُ . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا كُنْتُ نَاعِسًا . فَلَمَّا رَأَى مُعَاذٌ بُشْرَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ وَخَلْوَتَهُ لَهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،ائْذَنْ لِي أَسْأَلْكَ عَنْ كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْنِي وَأَحْزَنَتْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْنِي عَمَّ شِئْتَ . قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ،حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 63)(16710 ) والمستدرك للحاكم (3548) صحيح لغيره(1/309)
الْجَنَّةَ لاَ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا . قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَخٍ بَخٍ بَخٍ لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ،لَقَدْ سَأَلْتَ بِعَظِيمٍ،ثَلاَثًا،وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ،وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ،وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ،فَلَمْ يُحَدِّثْهُ بِشَيْءٍ إِلاَّ قَالَهُ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،يَعْنِي أَعَادَهُ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ؛ حِرْصًا لِكَيْ مَا يُتْقِنَهُ عَنْهُ،فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا حَتَّى تَمُوتَ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ،فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ،أَعِدْ لِي فَأَعَادَهَا لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ يَا مُعَاذُ بِرَأْسِ هَذَا الأَمْرِ،وَقَوَامِ هَذَا الأَمْرِ وَ ذُرْوَةِ السَّنَامِ . فَقَالَ مُعَاذٌ : بَلَى بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ فَحَدِّثْنِي . فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ رَأْسَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،وَإِنَّ قَوَامَ هَذَا الأَمْرِ إِقَامُ الصَّلاَةِ،وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ،وَإِنَّ ذُرْوَةَ السَّنَامِ مِنْهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ،إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ،وَيَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَصَمُوا وَعَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا،وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ،وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شَحَبَ وَجْهٌ،وَلاَ اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ تُبْتَغَى فِيهِ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَلاَ ثَقُلَ مِيزَانُ عَبْدٍ كَدَابَّةٍ تَنْفُقُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ،أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ." (1)
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ:"بَخٍ بَخٍ، لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ أَوَلا أَدُلُّكَ عَلَى رَأْسِ الأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ فَأَمَّا رَأْسُ الأَمْرِ: فَالإِسْلامُ، فَمَنْ أَسْلَمَ سَلِمَ، وَأَمَّا عَمُودُهُ: فَالصَّلاةُ، وَأَمَّا ذِرْوَةُ سَنَامِهِ: فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَقِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"،
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 381)(22122) 22473-وكشف الأستار - (2 / 258)(1653) حسن(1/310)
وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ:"تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ"[السجدة آية 16]،أَوَلا أُخْبِرُكُ بِأَمْلَكِ مِنْ ذَلِكَ؟"، فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ أَوْ رَكْبٌ، فَحَسِبْتُ أَنْ يَشْغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"أَوَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْلِكِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟"، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ:"ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ". (1)
[ ش - ( عظيما ) أي أمر مستعظم الحصول عليه لصعوبته على النفوس إلا على من سهل الله عليه . ( تعبد الله ) خبر بمعنى الأمر . وهو مبتدأ محذوف على تقدير أن المصدرية . واستعمال الفعل موضع المصدر مجازا أي هو ذلك العمل ان تعبد الله ( جنة ) أي ستر من النار والمعاصي المؤدية إليها . ( وصلاة الرجل ) مبتدأ خذف خبره . أي هي مما لا يكتنخ كنهها . أي هي ما نزلت فيها الآية المذكورة . ( برأس الأمر ) أي هو للدين بمنزلة الرأس من الرجل . ( وعموده ) أي ما يعتمد عليه الدين وهو له بمنزلة العمود في البيت . ( وذروة سنامه ) السنام بالفتح ما ارتفع من ظهر الجمل . وذروته بالضم والكسر أعلاه . أي بما هو للدين بمنزلة ذروة السنام للجمل في العلو والارتفاع . وقد جاء بيان هذا بأن رأس الأمر الإسلام أي الإتيان بالشهادتين . وعموده الصلاة . وذروة سنامه الجهاد . ( بملاك ) أي بما به يملك الإنسان ذبلك كله . بحيث يسهل عليه جميع ماذكر . ( تكف ) أي تحبس وتحفظ . ( ثكلتك ) أي فقدتك . وهو دعاء عليه بالموت ظاهرا . والمقصود التعجب من الغفلة عن هذا الأمر . ( يكب ) من كبة إذا صرعه . ( حصائد ألسنتهم ) بمعنى محصوداتهم . على تشبيه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل . فكما أن المنجل يقطع من غير تمييز بين رطب ويابس وجيد ورديء كذلك لسان المكثار ف يالكلام بكل فن من الكرم من الكلام من غير تمييز بين ما يحسن ويقبح . ]
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ : حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اعْبُدِ اللَّهَ لاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا - يَعْنِي النَّاقَةَ -–
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 70)(16724 ) صحيح لغيره(1/311)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ الْقَوْمُ : مَالَهُ مَالَهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرَبٌ مَالَهُ،قَالَ رَسُولُ اللهِ : تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا،قَالَ : كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ . قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ لاَ عِدْلَ لَهُ . ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِي : عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ." (2)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ مَرْثَدٍ،أَوْ مَرْثَدِ بْنِ عِيَاضٍ،عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ،أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،قَالَ : هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ مِنْ أَحَدٍ حَيٌّ ؟ قَالَ لَهُ مَرَّاتٍ : قَالَ : لاَ،قَالَ : فَاسْقِ الْمَاءَ،قَالَ : كَيْفَ أَسْقِيهِ ؟ قَالَ : اكْفِهِمْ آلَتَهُ إِذَا حَضَرُوهُ،وَاحْمِلْهُ إِلَيْهِمْ إِذَا غَابُوا عَنْهُ." (3)
ففي هذه الأحاديث السؤال واحد والجواب مختلف،فقد راعى - صلى الله عليه وسلم - ظروف كل سائل،وأجابه على ضوء ذلك .
ومثله حديث متى الساعة وقد ن فالسؤال واحد والجواب مختلف .
ففي مشكل الآثار للطحاوي : " بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَحَبِّ النَّاسِ كَانَ إِلَيْهِ
قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ : " مَرَرْتُ، فَإِذَا عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَاعِدَانِ، فَقَالَا: يَا أُسَامَةُ اسْتَأْذِنْ لَنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ بِالْبَابِ يَسْتَأْذِنَانِ قَالَ: " أَتَدْرِي مَا جَاءَ بِهِمَا ؟ "، قُلْتُ: لَا، قَالَ: " لَكِنِّي أَدْرِي، ائْذَنْ لَهُمَا " فَدَخَلَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ " قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَسْأَلُ عَنِ النِّسَاءِ، قَالَ: " مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ " قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " ثُمَّ أَنْتَ "
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 37)(3246) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 391)(22149) 22501- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 662)(23124) 23512- حسن(1/312)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " أَتَى عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَا: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَالسَّلَامُ، فَدَخَلْتُ، فَاسْتَأْذَنَتْ لَهُمَا، فَقَالَ: " أَتَدْرِي فِيمَا جَاءَا ؟ "، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ، فَقَالَ: " وَلَكِنِّي أَدْرِي، ائْذَنْ لَهُمَا "، فَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَحَبِّ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: فَقَالَ: " فَاطِمَةُ "، فَقَالَا: لَسْنَا نَسْأَلُكَ عَنِ النِّسَاءِ، إِنَّمَا نَسْأَلُكَ عَنِ الرِّجَالِ، قَالَ: فَقَالَ: " أُسَامَةُ "، فَقَالَ الْعَبَّاسُ شِبْهُ الْمُغْضَبِ: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " ثُمَّ عَلِيٌّ "، فَقَالَ: جَعَلْتَ عَمَّكَ آخِرَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: " يَا عَبَّاسُ، إِنَّ عَلِيًّا سَبَقَكَ بِالْهِجْرَةِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْزُوقٍ أَنَّ سُؤَالَ عَلِيٍّ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ سُؤَالُهُ كَانَ إِيَّاهُ عَنْ أَحَبِّ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَيْهِ فَكَانَ جَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ جَوَابِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ إِيَّاهُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَفِيهِمَا: أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَحَبَّ الرِّجَالِ إِلَيْهِ فَقَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ رُوِّيتُمْ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ مِنْ مَحَبَّتِهِ مَا يُخَالِفُ هَذَا، فَذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: " بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ، إِنَّهُ كَانَ خَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ "
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ أُسَامَةَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتَهُ قَبْلَهُ أَنَّهُ أَحَبُّ الرِّجَالِ إِلَيْهِ، فَهَذَانِ حَدِيثَانِ مُتَضَادَّانِ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَاكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَضَادَّيْنِ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا كَانَ فِيهِ سُؤَالُ عَلِيٍّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَعَنْ أَحَبِّ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَيْهِ، وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُ جَوَابًا لَهُ أَنَّهُ فَاطِمَةُ وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُسَامَةَ: " أَنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ "، وَالنَّاسُ فِيهِمْ فَاطِمَةُ، فَلَمَّا كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فِي مَحَبَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوْقَ أُسَامَةَ مِنْ مَحَبَّتِهِ، كَانَ مَوْضِعُ أُسَامَةَ مِنْ مَحَبَّتِهِ دُونَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ، وَكَانَ أَحَبَّ الرِّجَالِ إِلَيْهِ، إِذْ لَيْسَتْ فَاطِمَةُ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَضَادَ فِي وَاحِدٍ مِنْ(1/313)
هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا قَالَ: فَقَدْ رُوِّيتُمْ مِنْ جَوَابِهِ كَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ:عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ: " عَائِشَةُ "، فَقُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " فَأَبُوهَا "، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ "، فَعَدَّ رِجَالًا " قَالَ: فَبِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمْرًا بِمَا أَجَابَهُ بِهِ فِيهِ،وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجَابَ بِهِ عَلِيًّا فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْتَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ، فَأُحِبُّهُ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ "، قُلْتُ: لَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ النِّسَاءِ، إِنَّمَا أَسْأَلُكَ عَنِ الرِّجَالِ، فَقَالَ: " أَبُو بَكْرٍ "، أَوْ قَالَ: " أَبُوهَا " رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّهُ قَدْ يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَمْرٌو عَلِمَ أَنَّ لِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، فَكَانَ سُؤَالُهُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ، يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ الَّذِينَ هُمْ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَادَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِالْجَوَابِ الَّذِي أَجَابَهُ بِهِ، مِمَّا ذُكِرَ فِي حَدِيثِهِ، وَكَانَ حَدِيثُ أُسَامَةَ فِيهِ ذِكْرُ سُؤَالِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِيَّاهُ، عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ، وَعَلِيٌّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَجَابَهُ بِمَا أَجَابَهُ بِهِ، مِمَّا ذَكَرَ جَوَابَهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ أُسَامَةَ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأُسَامَةُ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ يُدْعَى ابْنُهُ، فَيُقَالَ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " وَاللهِ إِنْ كُنَّا لَنُسَمِّي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ: زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب: 5] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ أُسَامَةُ حِينَئِذٍ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَ ابْنٍ، فَكَانَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى تَقَدَّمَ فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سِوَاهُ، مِمَّنْ ذَكَرَ فِي حَدِيثِهِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ نَسْخَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ بِمَا نَسْخَهُ بِهِ، مِمَّا قَدْ تَلَوْنَا، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب: 40]، وَأَعَادَ زَيْدًا، وَأُسَامَةَ، وَأَمْثَالَهُمَا إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ، فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } [الأحزاب: 5] وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ أَنَّ(1/314)
أُسَامَةَ لَمَّا خَرَجَ عَنِ الْبُنُوَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِمَّا اسْتَحَقَّ بِهِ تَقَدُّمَ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ أَنَّ مَحَبَّةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ عَادَتْ إِلَى مَنْ كَانَ ذَكَرَهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ بِمَحَبَّتِهِ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَالَ قَائِلٌ آخَرُ: قَدْ رُوِّيتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قَدْ رُوِّيتُمُوهُ عَنْهُ فِيهِ، مِمَّا قَدْ ذَكَرْتُمُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَذَكَرَ:عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: " سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَتْ: ثُمَّ عُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَتْ: ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟، فَسَكَتَتْ " قَالَ: فَالَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ مَا قَدْ رُوِّيتُمُوهُ قَبْلَهُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِمَّا قَدْ رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؛ لِأَنَّ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ عَلَى حَقَائِقِ مَا كَانَ عِنْدَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ مَسْئُولًا عَنْهُ، وَمُجِيبًا لِسَائِلِهِ، عَمَّا أَجَابَهُ بِهِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هُوَ جَوَابُهَا عَمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ، عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهَا، مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ: فَقَدْ رُوِّيتُمْ عَنْهَا جَوَابًا مِنْهَا عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْجَوَابِ، وَذَكَرَعَنْ جُمَيْعٍ وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: " دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَائِشَةَ وَأَنَا غُلَامٌ، فَذَكَرَ لَهَا عَلِيًّا، فَقَالَتْ: " مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، وَلَا امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ امْرَأَتِهِ "
وعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: " دَخَلْتُ مَعَ أُمِّي عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لَهَا أُمِّي: مَنْ كَانَ أَحَبَّ النِّسَاءِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَتْ: فَاطِمَةُ، قَالَتْ: فَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَتْ: " زَوْجُهَا " قَالَ: فَالَّذِي عَنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُخَالِفُ الَّذِي عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ عَنْهَا قَبْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ كَمَا ظَنَّ، وَلَكِنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ فِي حَدِيثِهَا الْأَوَّلِ عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ كَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَانَ الَّذِي عِنْدَهَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَذْهَبُ عَنْهُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَتَقَدَّمُ أَهْلَ بَيْتِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، كَمَا لَمْ يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ سِوَاهُمْ إِيَّاهُمْ فِي التَّبْلِيغِ عَنْهُ فِي الْمَوْسِمِ سُورَةَ بَرَاءَةَ، وَفِي قَوْلِهِ: " إِنَّهُ لَا يُبَلِّغُ(1/315)
عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي "، فَأَجَابَتْ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فِيهِ عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ كَانَ إِلَيْهِ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَسُئِلَتْ فِي حَدِيثَهَا الثَّانِي عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَجَابَتْ فِيهِ بِالْجَوَابِ الَّذِي أَجَابَتْ بِهِ فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ حَقَّقَ مَا حَمَلَنَا عَلَيْهِ مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَحَدِيثِ عَمْرٍو عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا حَقَّقَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي مَحَبَّتِهِ، قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: " اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ تَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَدَخَلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا، وَقَالَ: يَا بِنْتَ فُلَانَةَ، أَلَا أَسْمَعُكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وُقُوفُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا، وَخَرَجَ جَمِيعُ مَعَانِي كُلِّ مَا رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ خُرُوجًا لَا تَضَادَ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ فِيهَا، بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مَوْضِعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَحَبَّةٍ، وَمِنْ فَضْلٍ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ سِوَاهُمَا، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
الخلاصة :
(1) على المعلم أن يراعي الفروق الفردية بين المتعلمين .
(2) على المعلم أن يجيب على سؤال المتعلم من وحي ظروفه ،لاسيما إذا كان السؤال يحتمل إجابات متعددة .
(3) حرص الصحابة في سؤالهم عما ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة .
ــــــــ
26-استخدام القياس أثناء التعليم أو الإجابة على الأسئلة:
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (13 / 323)(5298-5309) وكلها صحاح وحسان(1/316)
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يُقايِسُ لأصحابه الأحكامَ ويُعلِّلُها لهم،إذا اشتبهتْ عليهم مَسالِكُها،وغَمُضَ عليهم حُكمُها،فيَتَّضِحُ لهم ما اشتَبَه أمْرُه،وخَفِيَ فَهْمُه،ويكونُ لهم من تلك المقايَسةِ معرفةٌ بمسالِكِ الشريعة ومقاصِدِها،وفِقهٌ بمراميها البعيدة :
وهذا كثير في أسلوب الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
عن ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ،يَا بَنِى عَدِىٍّ » . لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا،فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ،فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ،أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ » . قَالُوا نَعَمْ،مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ،أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ : وَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ،خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الصَّفَا،فَصَعِدَ عَلَيْهَا،ثُمَّ نَادَى : يَا صَبَاحَاهُ،فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ،وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،يَا بَنِي فِهْرٍ،يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ،يَا بَنِي،يَا بَنِي أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ،قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ،فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ،أَمَا دَعَوْتُمُونَا إِلاَّ لِهَذَا،ثُمَّ قَامَ،فَنَزَلَتْ : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد]،وَقَدْ تُبَّ،وَقَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَنَادَى « يَا صَبَاحَاهْ » . فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4770 ) وصحيح مسلم- المكنز - (529) -تب : خسر
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 487)(6550) صحيح(1/317)
مُمَسِّيكُمْ،أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِى » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا تَبًّا لَكَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ) إِلَى آخِرِهَا (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ أَفَأَحُجَّ عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ حُجِّى عَنْهَا،أَرَأَيْتِ (2) لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ » . قَالَتْ نَعَمْ . فَقَالَ « فَاقْضُوا الَّذِى لَهُ،فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ » (3)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ،أَنْ رَجُلاً سَأَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ امْرَأَةٍ أَرَادَتْ أَنْ تَعْتِقَ عَنْ أُمِّهَا قَالَ سُلَيْمَانُ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنْ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبِي دَخَلٍ فِي الإِسْلاَمِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ،فَإِنْ أَنَا شَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِي خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهُ،وَإِنْ لَمْ أَشُدَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا،أَفَأَحُجُّ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَ : نَعَمْ،قَالَ : فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ. (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ،أَفَأَحُجَّ عَنْهُ قَالَ : أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : حُجَّ عَنْ أَبِيكَ. (5)
وعَنْ أنَسٍ،قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ تَقْضِينَهُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ،قَالَ : فَإِنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ،فَاقْضِهِ. (6)
وعن عِمْرَانَ بْنِ يَحْيَى الْأَسَدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمِّيَ مَرْوَانَ بْنَ قَيْسٍ - وَقَدْ أَجْزَأَ ( وفي رواية أخذ) الرَّعِيَّةَ عَنْ أَهْلِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4972 )
(2) أي أخبِريني .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7315 )
(4) - صحيح ابن حبان - (9 / 302) (3990) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (9 / 305) (3992) صحيح
(6) - كشف الأستار - (2 / 36) (1145) حسن(1/318)
- صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّ أَبِي تُوُفِّيَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَكَّةَ وَأَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً،وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ نَمْشِيَ عَنْهُ، وَأَنْ نَنْحَرَ عَنْهُ بَدَنَةً مِنْ مَالِي ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " نَعَمْ اقْضِ عَنْهُ، وَانْحَرْ عَنْهُ , وَامْشِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ لِرَجُلٍ، فَقَضَيْتَ عَنْهُ مِنْ مَالِكَ، أَلَيْسَ يَرْجِعُ الرَّجُلُ رَاضِيًا، فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يَرْضَى " (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ فَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ. (2)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ (3) بِالأُجُورِ (4) يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ « أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ (5) إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ (6) صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ » (7) . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ (8) لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ». (9)
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2633) (6325 ) والمعجم الكبير للطبراني - (15 / 290)(17231) حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 476) (4167) صحيح
(3) يعني : ذهب أهلُ الغِنى بالثواب .
(4) أي بما لديهم من أموال فائضة عن الحاجة .
(5) أي تَتَصدَّقون به .
(6) التهليلة قولُ الإنسان : لا إله إلاّ الله .
(7) أي في معاشرة الرجل زوجته الحلال له صدقة . وسمّى جزاءَ هذه الأعمال من التسبيح والتكبير والتحميد ... صَدَقةً على سبيلِ المقابلة وتجنيسِ الكلام ، أي كما أن للصدقةِ التي يَجودُ بها الاغنياءُ أهلُ الدثور ، على إخوانهم الفقراء المُعْوَزين أجراً وثواباً ، فكذلك لهذه الأعمال والطاعات أجرٌ وثوابٌ لفاعليها .
(8) أي أخبروني .
(9) - صحيح مسلم- المكنز - (2376 ) -الدثور : جمع دثر وهو المال العظيم(1/319)
فقايَسَ لهم - صلى الله عليه وسلم - مُقايَسةً عقليةً بين الأمرين،حتى اتَّضح لهم الحكم،وفهِموا ما لم يكن يَدورُ في خَلَدِهم،وهو أنَّ مِثلَ هذا الاستمتاعِ المشروعِ يكون به للمرء أجرٌ وثواب،لما يترتب عليه من الآثار الحسنة .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ ، أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ ، سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْبَيْضَاءِ ، بِالسُّلْتِ ، فَقَالَ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْبَيْضَاءُ ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، سُئِلَ عَنْ يَبِسِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ (1) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ ، إِذَا يَبِسَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ." (2)
وهذا الحديث أصل في أبواب كثيرة من مسائل الربا وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة ولجفافه نهاية فانه لا يجوز رطبه بيابسه كالعنب والزبيب واللحم النيء بالقديد ونحوهما ، وكذلك لا يجوز على هذا المعنى منه الرطب بالرطب كالعنب بالعننب والرُطَب بالرطب لأن اعتبار المماثلة إنما يصح فيهما عند أوان الجفاف وهما إذا تناهى جفافهما كانا مختلفين لأن أحدهما قد يكون أرق رقة وأكثر مائية من الآخر ، فالجفاف ينال منه أكثر ويتفاوت مقاديرهما في الكيل عند المماثلة. (3)
وبدَهيٌّ كلَّ البَداهةِ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً أن الرطب ينقص إذا يبس،فهو يعيشُ في قلب جزيرة العرب بلاد التَّمر والرُّطب،وذلك أمرٌ لا يَخفى على أقلِّ الناس فيها،ولكنه - صلى الله عليه وسلم - سألهم : هل ينقص الرطب إذا يبس؟ ليُنبِّه أصحابه وسامعيه وتابعيه،إلى أنَّ علةَ النَّهي عن بيع الرطب بالتمر،هي نقصه عند يُبسه،فلا يجوز أن يباع هذا بهذا على سبيل التساوي بالكيل،فأشعرَهم بعلةِ الحكم إذْ كان خَفِيّاً عليهم،فكان ذلك قاعدةً في البيوع إلى آخر الزمن . (4)
__________
(1) الرُّطَبُ هو التمر قبل أن يَتمَّ استِواؤُه ويُبسُهُ .
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 378) (5003) صحيح
(3) - معالم السنن للخطابي 288 - (3 / 76)
(4) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 86)(1/320)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ مَا تَقُولُونَ مُبْقِيًا مِنْ دَرَنِهِ؟ ». قَالُوا : لاَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا. قَالَ :« فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا ». (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا إِبِلٌ مُصَرَّرَةٌ بِعِضَاهِ الشَّجَرِ فَانْطَلَقَ نَاسٌ لِيَحْتَلِبُوا فَدَعَاهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ أُنَاسًا عَمَدُوا إِلَى مَزَاوِدِكُمْ فِيهَا أَزْوِدَتُكُمْ فَأَخَذُوا مَا فِيهَا لَكَانُوا غَدَرُوكُمْ؟ ». قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ :« هَذِهِ لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ مَا فِى ضُرُوعِهَا مِثْلُ مَا فِى أَزْوِدَتِكُمْ ». قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَما يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ أَخِيهِ؟ قَالَ :« أَنْ يَأْكُلَ وَلاَ يَحْمِلَ وَيَشْرَبَ وَلاَ يَحْمِلَ ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ نَحْنُ بِإِبِلٍ مُصَرَّاةٍ تَلْجَأُ الشَّجَرَ، لَيْسَ مَعَهَا رَاعٍ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَوْ قُمْنَا فَحَلَبْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَحْلِبُهَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا لا نَسْتَأْمِرُهُ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا: قَدْ سَكَتَ وسُكُوتُهُ إِذْنٌ، فَقُمْنَا إِلَيْهَا فَدَعَانَا، فَقَالَ:"أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْكُمْ وَقَدْ نِمْتُمْ فَأَخَذُوا مَا فِي مَزَاوِدِكُمْ، أَضَرُّوا بِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ مَا فِي أَخْلافِ هَذِهِ الإِبِلِ كَمَثَلِ مَا فِي مَزَاوِدِكُمْ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِذَا افْتَقَرَ إِلَيْهِ؟ قَالَ:"يَأْكُلُ وَلا يَحْمِلُ، وَيَشْرَبُ وَلا يَحْمِلُ". (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا ». قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ». فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَىْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (1 / 361) (1762) وصحيح البخارى- المكنز - (528) وصحيح مسلم- المكنز - (1554)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (9 / 360)(20150) فيه جهالة
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 391)(948 ) فيه جهالة(1/321)
مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا ». (1)
وغير ذلك كثير،فقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس لتقريب البعيد،وغير المحسوس ليكون محسوساً حتى يفهم عليه أصحابه بشكل دقيق.
الخلاصة :
(1) القياس أحد المصادر الأساسية للشريعة
(2) القياس يقرب البعيد،وغير المحسوس فيجعله محسوساً .
(3) استخدام القياس أدعى لقبول السامعين وأرسخ في أذهانهم
ــــــــ
27-الحوار المشوق مع المتعلم :
كان من أبرز أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الحِوارُ والمُساءلةُ،لإثارةِ انتباهِ السّامِعين وتشويقِ نفوسِهم إلى الجوابِ،وحَضِّهم على إعمال الفِكْر للجوابِ،ليكون جوابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يستطيعوا الإجابة أقربَ إلى الفهمِ وأوقعَ في النَفس.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ ، يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا ، مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ (2) » . قَالُوا لاَ يُبْقِى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا . قَالَ « فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا » (3) .
وفي هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية إلى جانب طريقة الحِوار التمثيلُ للمعقول بالمحسوس ، ليَزْدادَ الشيءُ المتحدَّثُ عنه وضوحاً في نَفْسِ المتعلِّم . ووجهُ التمثيل أن المَرْء
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (607 )
بهم : جمع بهيم وهو الأسود وقيل الذى لايخالط لونه لون سواه -الدهم : جمع أدهم وهو الأسود
(2) - الدَّرَن : الوَسَخ .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (528 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1554)(1/322)
كما يَتدنَّس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ، ويُطَهِّرُه منها الماءُ الكثير النقيّ ، فكذلك الصلواتُ الخمس تُطهِّرُ العبدَ من أقذارِ الذنوب والخطايا .
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ،قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، قَالَ : تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ." (1)
لفظ (المسلمون) هنا ، ومثلُه (المؤمنون) في الجملة التالية : لا يُرادُ به الاحترازُ من غيرهم ، بل هو وصفٌ خَرَجَ مخرَج الاتفاق ، نظراً للمخاطَبين به ، إذ الإيذاءُ أو الخِيانَةُ كلٌّ منهما حرامٌ في الإسلام ، سَواء وقع ذلك على مسلم أم ذِمّي .
بل أَرى أنَّ الإيذاءَ أو الخِيانةَ في جَنْبِ الذِّمّي أشدُّ تحريماً ، فعَنْ ثَلاَثِينَ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا وَانْتَقَصَهُ وَكَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِصْبَعِهِ إِلَى صَدْرِهِ :« أَلاَ وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنَّةِ وَإِنْ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ». (2)
فقد أقام الرسولُ الكريمُ - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَه خَصْماً لمن يَظلِمُ الذِّمّي .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ (3) " قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ . قَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 686)(6925) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (9 / 205)(19201) صحيح لغيره
(3) - كذا الرواية (أتدرون ما المفلس) بلفظ (ما) ، والسؤال هنا عن حقيقة المُفلس ، فلذا جا التعبير بلفظة (ما) دون لفظة (مَنْ) . قال السَّنوسِيُّ في (شرحه على صحيح مسلم)) 8 :18 ، عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : (أتدرون ما المفلس) : قال القرطبي : كذا الرواية ، وأصلُها يعني لفظة (ما) لما لا يَعقِل ، وهي هنا لمن يَعقِل . قال الأُبيُّ : حكى بعضُهم أنَّ مذهب سيبويه جوازُ وقوعها على من يعقل ، وأخذَه ابن الحاج من قوله في (الكتاب) أي كتاب سيبويه لمّا فرغ من الكلام على (مَنْ) ، قال: ومثلُها (ما) ، مُبْهَمةً تقعُ على كل شي .
قلتُ أي السَّنوسِي : لقائلٍ أن يقول : السؤالُ هنا بما ، إنما هو عن الحقيقة ، والحقيقةُ من حيث هي حقيقة لا تَعقِل ، وهذا كما لو قلتَ : ما الإنسان؟ أو ما زيد؟ أو نحوَ ذلك ، ومنه : (قال فِرْعَونُ : وما رَبُّ العالَمين) . ولم يقل : ومَنْ ، ف (ما) إذاً واقعةٌ في محلِّها)) انتهى . وهو الصواب .
وقد جاء هذا الحديث في بعض الكتبِ الناقلةِ عن ((صحيح مسلم)) مثلِ ((رياض الصالحين)) ، بلفظ (أتدرون من المفلس؟) . وهو خلافُ الرواية كما علمت ، ولعلَّه من تصرُّفاتِ بعضِ الناقلين . والله أعلم .(1/323)
وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " (1)
فكان مِن سُؤالِه لهم أوَّلاً،ثم تَبْيينِه ما هو جوابُ سؤالِه ثانياً : تنبيهٌ منه - صلى الله عليه وسلم - للأذهان،أنَّ الإفلاسَ الحقيقيَّ هو الإفلاسُ يوم القيامة!
ومن أشهَرِ أمثلةِ الحِوار حديثُ جبريل في تعليم أركانِ الإيمان،الذي رواه عُمَرُ بنُ الخطاب وغيرُه من الصحابة،فقد عُرِضَتْ أهمُّ أركان الإيمان على الصحابةِ على شكل حِوارٍ بين الرسول وبين جبريل عليهما الصلاة والسلام،ليُعلِّمَهم مَعالِمَ دينهم . (2)
فعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَُرَ ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى ، قَالَ يَزِيدُ : لاَ نَرَى ، عَلَيْهِ أَثَرَ السَّفَرِ ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ (3) ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِِسْلامِ ، مَا الإِِسْلامُ ؟ فَقَالَ الإِِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ (4) ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً قَالَ : صَدَقْتَ . قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ . قَالَ : ثُمَّ قَالَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6744)
(2) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 77)
(3) - يعني أن الرجلَ الداخلَ وَضَع كَفَّيه على فَخِذَي نفسه ، وجَلَس على هيئةِ المُتعلِّم المتأدِّب ، قاله النووي .
(4) - وجهُ التعجُّب ان السُّؤالَ يَقتضي في الغالب الجهلَ بالمَسؤول عنه ، والتصديقُ يقتضي علمَ السائلِ به ، ومما يزيدُ في التعجُّب أن ما أجابه - صلى الله عليه وسلم - لا يُعرَف إلاّ من جهتِه ، وليس هذا الرجلُ ممن عُرِف بلقائِه - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن سماعِه منه وفي بعض روايات حديث جبريل : ((ما رأينا رجلاً مثلَ هذا ، كأنه يُعلِّم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقولُ له : صَدَقتَ صَدَقتَ)) .(1/324)
: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِِيمَانِ . قَالَ : الإِِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ : صَدَقْتَ . قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِِحْسَانِ ، مَا الإِِحْسَانُ ؟ قَالَ يَزِيدُ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا . قَالَ : أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبِنَاءِ قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ ، قَالَ : فَلَبِثَ مَلِيًّا (1) ، قَالَ يَزِيدُ : ثَلاثًا ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ."
قال النووي : " ((لو قَدَّرنا أن أحدَنا قام في عبادةٍ وهو يُعاينُ ربَّه سبحانه وتعالى لم يَترُك شيئاً مما يَقدِرُ عليه من الخُضوعِ والخُشوعِ ، وحُسنِ السَّمْتِ ، واجتماعِه بظاهِرِه وباطنِه على الاعتناء بتَتْميمِها على أحسنِ وُجوهِها إلاّ أتى به ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : اعبُد اللهَ في جميع أحوالك كعبادتِكَ في حال العِيان ، فإن التتميمَ المذكورَ في حال العِيان إنما كان لعلم العبدِ باطّلاع الله سبحانه وتعالى عليه ، فلا يُقدِمُ العبد على تقصيرٍ في هذه الحال للاطلاع عليه ، وهذا المعنى موجودٌ مع عدم رؤيةِ العبد ، فينبغي أن يَعمَل بمُقتضاه .
فمَقصودُ الكلام الحثُّ على الإخلاص في العبادةِ ومُراقَبةِ ربِّه تبارك وتعالى في إتمام الخُشوع والخُضوعِ وغير ذلك ، وقد نَدَبَ أهلُ الحقائق إلى مُجالَسةِ الصالحين ، ليكون ذلك مانعاً من تلبُّسِه بشيء من النقائصِ احتراماً لهم واستِحياءً منهم ، فكيف بمن لا يَزالُ الله تعالى مُطَّلِعاً عليه في سِرِّه وعلانيتِه؟!
فحاصلُ معنى الحديث أنك إنما تُراعي الآداب المذكورةَ إذا كنتَ تَراه ويَراك ، لكونِه يراكَ ، لا لكونك تراه ، فهو دائماً يَراك ، فأحسِنْ عبادتَه ، وغن لم تَرَه ، فتقديرُ الحديث : فإن لم تكن تَراه فاستَمِرَّ على إحسان العبادة ، فإنه يَراك)) .
__________
(1) - أي زمناً طويلاً أياماً .(1/325)
قال : ((وهذا القدرُ من الحديث أصلٌ عظيم من أصولِ الدين ، وقاعدةٌ مهمةٌ من قواعد المسلمين ، وهو عُمدةُ الصِّدّيقين ، وبُغيةُ السالكين ، وكنزُ العارفين ، ودأبُ الصالحين ، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتِيَها النبي - صلى الله عليه وسلم - )) . (1)
قوله (ما المَسؤولُ عنها بأعلَمَ من السائِل) لم يقُل : لستُ بأعلَمَ بها منك ، كما يقتضيه المقامُ ظاهراً ، ليُشْعِرَ بالتعميم ، تعريفاً للسامعين أن كلَّ مسؤولٍ وكلَّ سائلٍ عن وقت قيامِ السّاعةِ فهو كذلك .
وقال النووي رحمه الله تعالى (2) : ((يُستَنبَط منه أن العالمَ والمفتي وغيرَهما إذا سُئِل عما لا يعلَم ينبغي له أن يقول : لا أعلمُ ، وأن ذلك لا يَنقُصُه ، بل يُستَدَلُّ به على وَرَعِه وتقواه ووُفور علمِه)) .
(أن تَلِدَ الأمةُ رَبَّتَها) هذا مجاز ، والمرادُ أن يَكثُرَ العقوقُ في الأولاد ، فيُعامِلُ الولدُ أمَّه معاملةَ السيِّد أمتَه ، من الإهانةِ بالسبِّ والضربِ والاستخدامِ ، فأطلِق عليه (رَبُّها) مجازاً لذلك .
قوله (الحُفاة) جمعُ الحافي وهو من لا نَعْلَ له . و(العُراة) جمعُ العاري ، وهوصادقٌ على من يكونُ بعضُ بدنِه مكشوفاً مما ينبغي ان يكون مستوراً . و(العَلة) جمعُ عائل ، وهو الفقير كثيرُ العِيال . و(رِعاء) جمعُ راعٍ ، و(الشّاء) جمعُ شاة .
والمقصودُ الإخبارُ عن تبدُّلِ الحال بأن يَستَولي أهلُ البادية على الأمر ويَتَمَلَّكوا البلادَ بالقهرِ ، فتكثُرَ أموالُهم وتنصَرِف هِمَمُهُم إلى تشييدِ البُنيانِ والتفاخُر به ، ومنه الحديث الآخر : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تكون أسعدَ الناس بالدنيا لُكَعُ ابنُ لُكَعَ)) واللُّكَعُ هنا : اللَّئيمُ . ومنه أيضاً حديثُ : ((إذا وُسِّد الأمرُ أي أُسْنِدَ إلى غيرِ أهلِه فانتَظِرْ الساعةَ)) ، وكلاهما في ((الصحيح)) (3)
__________
(1) - ((شرح صحيح مسلم)) 1 :157 158 و((شرح صحيح البخاري)) ص 245 246 و((فتح الملهم بشرح صحيح مسلم)) 1 :482 483 .
(2) - في ((شرح صحيح مسلم)) 1 :158
(3) - انظر ((فتح الباري)) 1 :123 و((فتح المهم)) 1 :487 488 .(1/326)
من الفوائد التعليمية التي تُستفادُ من هذا الحديث أنه ينبغي لمن حَضَر مجلسَ العالم إذا عَلِم بأهلِ المجلِس حاجةً إلى مسألةٍ لا يسألون عنها أن يسألَ هو عنها ، ليَحصُل الجوابُ للجميع ، وفيه أنه ينبغي للعالِم أن يَرفُقَ بالسائلِ ويُدنِيَه منه ، ليَتَمكَّنَ من سؤالِه غيرَ هائبٍ ولا مُنقَبِضٍ ، وأنه ينبغي للسائلِ أن يَرفُقَ في سؤالِه (1)
ويُستنبَط من هذا الحديث أيضاً جوازُ سؤالِ العالِم ما لا يَجهَلُه السائلُ ليَعلَمَه السامع .
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - (... يُعلِّمُكم دينَكم) دلالةٌ على أن السؤالَ الحَسَن يُسَمّى علماً وتعليماً ، لأن جبريلَ لم يَصدُرْ منه سوى السؤال ، ومع ذلك فقد سَمّاه النبيُّ مُعلِّماً ، وقد اشتهَرَ قولُهم : حُسنُ السؤالِ نصفُ العلم . (2)
وقال القاضي عِياض رحمه الله : ((حديثُ جبريل قد اشتَمَل على شرح جميع وَظائِف العبادات الظاهرةِ والباطنةِ ، من عُقود الإيمان ، وأعمالِ الجَوارِح ، وإخلاصِ السَّرائِر ، والتحفُّظ من آفاتِ الأعمالِ ، حتى إن علومَ الشريعةِ كلُّها راجعةٌ إليه متشعبةٌ منه ، إذ لا يَشُذُّ شيءٌ من الواجباتِ والسننِ والرغائب والمحظوراتِ والمكروهات عن أقسامِه الثلاثة : الإيمان ، والإسلام ، والإحسان)) . (3)
وانظروا إلى هذا الحديث الطويل بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي ذر الغفار ي رضي الله عنه :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ،فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،جَالِسٌ وَحْدَهُ،قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً،وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ،فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا،قَالَ : فَقُمْتُ فَرَكَعْتُهُمَا،ثُمَّ عُدْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ،فَمَا الصَّلاَةُ ؟ قَالَ : خَيْرُ مَوْضُوعٍ،اسْتَكْثِرْ أَوِ اسْتَقِلَّ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ،وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَسْلَمُ ؟ قَالَ : مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ،قَالَ : قُلْتُ : يَا
__________
(1) - أفاده الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 1 :160 .
(2) - أفاده في ((فتح الباري)) 1 :119 و 125 .
(3) - نَقَله النووي في ((شرح مسلم)) 1 :158 .(1/327)
رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَمَا الصِّيَامُ ؟ قَالَ : فَرْضٌ مُجْزِئٌ،وَعِنْدَ اللهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ،وَأُهْرِيقَ دَمُهُ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جَهْدُ الْمُقِلِّ يُسَرُّ إِلَى فَقِيرٍ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَيُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : آيَةُ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ،قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ،مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاَةِ عَلَى الْحَلْقَةِ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،كَمِ الأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ : مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ثَلاَثُ مِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ ؟ قَالَ : آدَمُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ،خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ،وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،وَكَلَّمَهُ قِبَلاً ثُمَّ،قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ : آدَمُ،وَشِيثُ،وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ،وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ،وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ : هُودٌ،وَشُعَيْبٌ،وَصَالِحٌ،وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةُ كِتَابٍ،وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ،أُنْزِلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً،وَأُنْزِلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاَثُونَ صَحِيفَةً،وَأُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشَرُ صَحَائِفَ،وَأُنْزِلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشَرُ صَحَائِفَ،وَأُنْزِلَ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْقُرْآنُ،قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَا كَانَتْ صَحِيفَةُ إِبْرَاهِيمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّهَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ،إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ،وَلَكِنِّي بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ،فَإِنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ،وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ،وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ،وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللهِ،وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ،وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ ظَاعِنًا إِلاَّ لِثَلاَثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ،أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ،أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ،وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ،مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِهِ،حَافِظًا لِلِسَانِهِ،وَمَنْ حَسَبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ،قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى ؟ قَالَ : كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ،ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ،وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ،ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ،وَعَجِبْتُ لِمَنْ(1/328)
أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ،عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا،ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا،وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَوْصِنِي،قَالَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ،فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،زِدْنِي،قَالَ : عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ،وَذِكْرِ اللهِ،فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ،وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،زِدْنِي : قَالَ : إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ،فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ،وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،زِدْنِي،قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ،فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ،وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،زِدْنِي،قَالَ : عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ،فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،زِدْنِي،قَالَ : أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي،قَالَ : انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ،فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تُزْدَرَى نِعْمَةُ اللهِ عِنْدَكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي،قَالَ : قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي،قَالَ : لِيَرُدَّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ وَلاَ تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي،وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنْ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُ مِنْ نَفْسِكَ،أَوْ تَجِدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي،فقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ،وَلاَ وَرَعَ كَالْكَفِّ،وَلاَ حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ. اه (1)
قَالَ الشَّيْخُ ( أبو نعيم )رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَازِمًا وَجَلِيسًا،وَعَلَى مُسَاءَلَتِهِ وَالِاقْتِبَاسِ مِنْهُ حَرِيصًا،وَلِلْقِيَامِ عَلَى مَا اسْتَفَادَ مِنْهُ أَنِيسًا،سَأَلَهُ عَنِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ،وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ،وَسَأَلَهُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ تَعَالَى،وَسَأَلَهُ عَنْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان ( 361) والمستدرك للحاكم (4165) والمسند الجامع - (ج 16 / ص 356) (12380) وحِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ ( 548 -573) وهو حديث حسن لغيره
وَرَوَاهُ الْمُخْتَارُ بْنُ غَسَّانَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ . وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ . وَرَوَاهُ عُبَيْدُ بْنُ الْحَسْحَاسِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ . وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، بِطُولِهِ . وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، بِطُولِهِ . تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ ، فَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ ، وَزَادَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِي فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ؟ قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ اقْرَأْ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ(1/329)
أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،وَسَأَلَهُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ : أَتُرْفَعُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ تَبْقَى ؟ وَسَأَلَهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى عَنْ مَسِّ الْحَصَا فِي الصَّلَاةِ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ شَيْءٍ،حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ مَسِّ الْحَصَا،فَقَالَ : " مَسَّهُ مَرَّةً أَوْ دَعْ " قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا،وَتَشَمَّرَ لِلْعُقْبَى،وَعَانَقَ الْبَلْوَى،إِلَى أَنْ لَحِقَ بِالْمَوْلَى .
قلت : وهذا الحديث لا يحتاج إلى تعليق،فقد كان أبو ذر رضي الله عنه أكثر الصحابة سؤالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ،ويراعى في هذا حاجة طالب العلم،فإذا أراد المزيد زدنا وإلا فلا .
الخلاصة :
(1) لا بأس بالإكثار من الأسئلة إذا كانت نافعة.
(2) الحوار بين العالم والمتعلم من أهم الأشياء التي تركز المعلومات وتشحذ الهمة ، وتزيل الشرود والغفلة .
(3) وفيه أدب طالب العلم مع معلمه .
(4) كان أبو ذر الغفار ي رضي الله عنه أكثر الصحابة سؤالا للرسول - صلى الله عليه وسلم -
(5) سؤال العالم للمتعلم هو لتخفيزه وشد انتباهه لما سيلقى عليه .
ــــــــ
28-هل يخص بعض طلابه ببعض العلم دون غيرهم ؟ :
الجواب له ذلك،وهي ما يسمى اليوم بتشجيع الفروق الفردية،وتنمية المواهب عند الطلاب،وتوجيههم التوجيه الأفضل،فعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ فَقَالَ « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ قَالَ « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ،أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ(1/330)
أَهْلِ السَّعَادَةِ،وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ » . ثُمَّ قَرَأَ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ) الآيَةَ . (1)
وعَنْ عِمْرَانَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ « كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » (2) .
ولهذا على المعلم أن يلحظ هذه النقطة فعين الاعتبار ،فيحاول تنمية المواهب الفردية قدر الإمكان .
وأول هؤلاء الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه ،فعندما أسلم تفرغ لطلب العلم،فلازم النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات ما تركه في سفر ولا حضر،ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - شدة حرصه على طلب العلم خصه بالكثير ودعا له،فما نسي شيئاً،وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنِّى أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ . قَالَ « ابْسُطْ رِدَاءَكَ » فَبَسَطْتُهُ . قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ « ضُمُّهُ » فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ . (3)
قال أبو الزناد: فيه حفظ العلم والدءوب عليه، والمواظبة على طلبه، وهى فضيلة لأبى هريرة، فضله - صلى الله عليه وسلم - بها بأن قال له: تمت ابسط رداءك، ثم قال: ضمه -،فما نسى شيئًا بعد.
وجاء هذا الحديث فى كتاب البيوع، وقال فيه: تمت فما نسيتُ من مقالته تلك من شىء -،وهذا من بركة النبى - صلى الله عليه وسلم -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا رَدَّ إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الشَّفَاعَةِ ؟ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي،لِمَا رَأَيْتُ مِنَ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ،وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا يُهِمُّنِي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4949 ) -ينكت : يضرب
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7551 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6907)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (119 )(1/331)
مِنَ انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شَفَاعَتِي لَهُمْ،وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا،وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ يُصَدِّقُ لِسَانُهُ قَلْبَهُ وَقَلْبُهُ لِسَانَهُ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا رَدَّ إِلَيْكَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الشَّفَاعَةِ ؟ قَالَ : لَقَدْ ظَنَنْتُ لَتَكُونَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَنِي عَنْهَا مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ،شَفَاعَتِي لِمَنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا،يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ،وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،أَلاَّ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ،لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ،أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصَةً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ." (3)
قال المهلب: فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل، ودقيق المعانى، لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافة يستوى الناس فى السؤال عنها، لاعتراضها فى أفكارهم، وما غمض من المسائل، ولطف من المعانى، لا يسئل عنها إلا راسخ بَحَّاث، يبعَثُه على ذلك الحرص، فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدة يكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وفيه: أن للعالم أن يتفرس فى متعلميه، فيظن فى كل واحد مقدار تقدمه فى فهمه، وأن ينبهه على تفرسه فيه، ويعرفه ذلك، ليبعثه على الاجتهاد فى العلم والحرص عليه.
وفيه: أن للعالم أن يسكت إذا لم يسأل عن العلم حتى يسأل عنه، ولا يكون كاتمًا، لأن على الطالب أن يسأل، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وليس للعالم أن يسكت إذا رأى تغييرا فى الدين إذا علم أن ذلك لا يضره، ثم على العالم أن يبين إذا سئل، فإن لم يبين بعد أن يسأل فقد كتم، إلا أن يكون له عذر فيعذر.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 385)(6466) وصحيح البخارى- المكنز - (99)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 761)(10713) 10724- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 379)(8858) 8845- صحيح(1/332)
وفيه: أن الشفاعة إنما تكون فى أهل الإخلاص خاصة، وهم أهل التصديق بوحدانية الله، ورسله، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : تمت خالصًا من قلبه، أو نفسه - (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ . وَإِنِّى كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِبَعِ بَطْنِى،حَتَّى لاَ آكُلُ الْخَمِيرَ،وَلاَ أَلْبَسُ الْحَبِيرَ،وَلاَ يَخْدُمُنِى فُلاَنٌ وَلاَ فُلاَنَةُ،وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِى بِالْحَصْبَاءِ مِنَ الْجُوعِ،وَإِنْ كُنْتُ لأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ هِىَ مَعِى كَىْ يَنْقَلِبَ بِى فَيُطْعِمَنِى،وَكَانَ أَخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ،كَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِى بَيْتِهِ،حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ،فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا (2) .
وعن مُجَاهِدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ،وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ،وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ،فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ،فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى،فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ،ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى،فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ،ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ،مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ،فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ،فَأَذِنَ لِى،فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى » . قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ،لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ،وَلاَ عَلَى أَحَدٍ،إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ،وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا،وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ،وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا،فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا،فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ،وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ،وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ -
__________
(1) - شرح ابن بطال - (1 / 182)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3708 )(1/333)
- صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ،فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا،فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ،وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ،فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ،حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ،فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ،فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ،مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ « فَأَرِنِى » . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى،وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ . (1)
وعَنْ مُجَاهِدٍ،قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ : وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ،وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ،فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي،فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ،وَمَرَّ بِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي،فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ،حَتَّى مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا رَأَى مَا بِوَجْهِي،وَمَا فِي نَفْسِي،قَالَ : أَبَا هِرٍّ،فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ،وَسَعْدَيْكَ،قَالَ : الْحَقْ،فَلَحِقْتُهُ،فَدَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ،فَأَذِنَ،فَدَخَلْتُ،فَإِذَا هُوَ بِلَبَنٍ فِي قَدَحٍ،فَقَالَ لأَهْلِهِ : مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ؟ قَالَ : هَدِيَّةُ فُلاَنٍ،أَوْ قَالَ : فُلاَنٌ،فَقَالَ : أَبَا هِرٍّ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ،فَادْعُهُمْ،وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافٌ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ،لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ أَوْ مَالٍ،إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ،وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا،وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَشَرَكَهُمْ فِيهَا،وَأَصَابَ مِنْهَا،فَسَاءَنِي وَاللَّهِ ذَلِكَ. قُلْتُ : أَيْنَ يَقَعُ هَذَا اللَّبَنُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَنَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَانْطَلَقْتُ فَدَعَوْتُهُمْ،فَأَذِنَ لَهُمْ،فَدَخَلُوا وَأَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ. قَالَ : أَبَا هِرٍّ،قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ : خُذْ،فَنَاوِلْهُمْ. قَالَ فَجَعَلْتُ أُنَاوَلُ رَجُلاً رَجُلاً،فَيَشْرَبُ،فَإِذَا رَوِيَ أَخَذْتُهُ،فَنَاوَلْتُ الآخَرَ حَتَّى رَوِيَ الْقَوْمُ جَمِيعًا،ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6452 )(1/334)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعَ رَأْسَهُ،فَتَبَسَّمَ،وَقَالَ : أَبَا هِرٍّ،أَنَا وَأَنْتَ. قُلْتُ : صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ : خُذْ،فَاشْرَبْ،فَمَا زَالَ يَقُولُ : اشْرَبْ،حَتَّى قُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ،مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ : فَأَرِنِي الإِنَاءَ،فَأَعْطَيْتُهُ الإِنَاءَ،فَشَرِبَ الْبَقِيَّةَ،وَحَمِدَ رَبَّهُ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فِى أَحَدِهِمَا ثُمَّ قَالَ بَخٍ بَخٍ يَتَمَخَّطُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِى الْكَتَّانِ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مِنَ الْجُوعِ مَغْشِيًّا عَلَىَّ فَيَجِىءُ الْجَائِى فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى يُرَى أَنَّ بِىَ الْجُنُونَ وَمَا بِى جُنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ الْجُوعُ. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ ». فَقَالَ لَهُ مَرْوَان بْنُ الْحَكَمِ : أَمَا يُجْزِئُ أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ عَلَى يَمِينِهِ؟ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِى حَدِيثِهِ قَالَ : لاَ. قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ،فَقَالَ : أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ : هل تُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ ؟ قَالَ : لاَ وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ وَجَبُنَّا. قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : فَمَا ذَنْبِى إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ وَنَسُوا. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ،وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا،ثُمَّ يَتْلُو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) } سورة البقرة، إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ،وِإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْعَمَلُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 471) (6535) صحيح
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2541 )هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
الممشق : المصبوغ بالمشق وهو الطين الأحمر
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (3 / 45)(5084) صحيح
{ق} وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الإِبَاحَةَ.(1/335)
فِى أَمْوَالِهِمْ،وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ،وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ (1) .
وعَنِ الأَعْرَجِ،قَالَ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إِنَّكُمْ تَقُولُونَ : أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاللَّهُ الْمُوعِدُ،إِنَّكُمْ تَقُولُونَ : مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ لاَ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ ؟ وَمَا بَالُ الأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ ؟ وَإِنَّ أَصْحَابِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ صَفَقَاتُهُمْ فِي الأَسْوَاقِ،وَإِنَّ أَصْحَابِي مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ أَرْضُوهُمْ وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا،وَإِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا،وَكُنْتُ أُكْثِرُ مُجَالَسَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَحْضُرُ إِذَا غَابُوا،وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا،وَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَنَا يَوْمًا فَقَالَ : مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِي،ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ،فَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي أَبَدًا فَبَسَطْتُ ثَوْبِي،أَوْ قَالَ : نَمِرَتِي،ثُمَّ قَبَضْتُهُ إِلَيَّ،فَوَاللَّهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ،وَايْمُ اللهِ،لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ أَبَدًا،ثُمَّ تَلاَ : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) سورة البقرة. (2)
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّهُ قَالَ : لِأَبِي هُرَيْرَةَ : " " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِهِ " " (3)
وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخص بني تميم ببشرة فلم يستحقوها فخصها لأهل اليمن،فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ،قَالَ : إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ،فَقَالَ : اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ،قَالُوا : قَدْ بَشَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَأَعْطِنَا،فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ،فَقَالَ : اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ،إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ،قَالُوا : قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ،جِئْنَا لِنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ وَنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ،مَا كَانَ ؟ فَقَالَ : كَانَ اللَّهُ،وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ،وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ،ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ،وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ : ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا عِمْرَانُ بْنَ حُصَيْنٍ رَاحِلَتَكَ أَدْرِكْهَا،فَقَدْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (118 ) -الصفق : التبايع
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 125)(7705) 7691- صحيح
(3) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ (3931 ) حسن(1/336)
ذَهَبَتْ،فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا،فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا،وَايْمُ اللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ. (1)
وعَنْ عِمْرَانَ بن الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ ثُمَّ دَخَلْتُ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بني تَمِيمٍ، فَقَالَ:"اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بني تَمِيمٍ"، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ:"اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بنو تَمِيمٍ"، فَقَالُوا: لِنَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَنَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ، كَيْفَ كَانَ؟ فَقَالَ:"كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ"، ثُمَّ جَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُهَا تَنْقَطِعُ دُونَهَا السَّرَابُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا. (2)
وكذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فقد خصه - صلى الله عليه وسلم - بكثير من أحاديث الفتن،فعن شَقِيقَ،قَالَ : سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ،قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ،فَقَالَ : أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا،قَالَ : إِنَّكَ لَجَدِيرٌ،أَوْ لَجَرِيءٌ،فَكَيْفَ قَالَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ،وَمَالِهِ،وَوَلَدِهِ،وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ،وَالصَّدَقَةُ،وَالصَّلاَةُ،وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ،وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ،فَقَالَ عُمَرُ : لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ،إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ،فَقُلْتُ : وَمَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا،قَالَ : فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلْ يُكْسَرُ،قَالَ : ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا،قَالَ : قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ : هَلْ كَانَ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ ؟ قَالَ : نَعَمْ،كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ،إِنَّ حُذَيْفَةَ حَدَّثَنَا حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ،قَالَ : فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ،فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ : سَلْهُ،فَسَأَلَهُ فَقَالَ : عُمَرُ. (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (14 / 11)(6142) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 108)( 14906 ) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 304) (5966) وصحيح البخارى- المكنز - (525 و1435 ) وصحيح مسلم- المكنز - (386)(1/337)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ : كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حَدِيثَهُ،فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ،فَقَالَ : يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فِي الأُمَرَاءِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ،فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا،فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ثُمَّ سَكَتَ." (1)
الخلاصة :
(1) تشجيع الطلاب لإظهار مواهبهم سنة نبوية متبعة
(2) لا بد من مراعاة الفروق الفردية،وحرص كل طالب على ما يرغب به
(3) تخصيص بعض الطلاب بشيء من العلم دون غيرهم جائز ولا حرج فيه إذا كان هناك ثمة مصلحة راجحة لذلك.
(4) أبو هريرة رضي الله عنه كان أحرص الصحابة على طلب العلم،فنال الدرجة الأولى في الحفظ .
(5) كلما كان طالب العلم أحرص من غيره على طلبه كلما تيسرت له سبله،ونال السبق فيه .
ــــــــ
29- نهي المتعلم عن أشياء تضره في المستقبل :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 285)(18406) 18596- صحيح(1/338)
قد يطلب المتعلم أشياء من معلمه أو يرى معلمه فيه بعض الاهتمامات المعينة،فلا بد أن يوجهه التوجيه السليم من أجل مستقبله .
ومن هؤلاء الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ،فقد طلب مرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمره،فكان الجواب التالي :
عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِى قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِى ثُمَّ قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا » (1) .
قال النووي : " هَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَات،لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عَنْ الْقِيَام بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَة،وَأَمَّا الْخِزْي وَالنَّدَامَة فَهُوَ حَقّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا،أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِل فِيهَا فَيُخْزِيه اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَفْضَحهُ،وَيَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ،وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ،وَعَدَلَ فِيهَا،فَلَهُ فَضْل عَظِيم،تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَحَدِيثِ : " سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه " وَالْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا عَقِب هَذَا ( أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور ) وَغَيْر ذَلِكَ،وَإِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِد عَلَيْهِ،وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَر فِيهَا حَذَّرَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا،وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاء،وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِق مِنْ السَّلَف،وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِين اِمْتَنَعُوا ." (2)
وكذلك نهاه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتولى على مال يتيم ؛ لأنه كان يرى أن ما زاد عن حاجة المرء يجب أن ينفقه في سبيل الله،فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ " (3)
قال ابن عثيمين :" وهذا القول إذا كان مصارحة أمام الإنسان فلا شك أنه ثقيل على النفس وأنه قد يؤثر فيك أن يقال لك إنك امرؤ ضعيف لكن الأمانة تقتضي هذا أن يصرح للإنسان بوصفه الذي هو عليه إن قويا فقوى وإن ضعيفا فضعيف هذا هو النصح
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4823 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 296)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4824)(1/339)
إنك امرؤ ضعيف ولا حرج على الإنسان إذا قال لشخص مثلا إن فيك كذا وكذا من باب النصيحة لا من باب السب والتعيير فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنك امرؤ ضعيف الثانية: قال: وإني أحب لك ما أحبه لنفسي وهذا من حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانت الجملة الأولى فيها شيء من الجرح قال وإني أحب لك ما أحب لنفسي يعني لم أقل لك ذلك إلا أني أحب لك ما أحب لنفسي الثالثة: فلا تأمرن على اثنين يعني لا تكن أميرا على اثنين وما زاد فهو من باب أولي والمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أن يكون أميرا لأنه ضعيف والإمارة تحتاج إلى إنسان قوي أمين قوي بحيث تكون له سلطة وكلمة حادة وإذا قال فعل لا يكون ضعيفا أمام الناس لأن الناس إذا استضعفوا الشخص لم يبق له حرمة عندهم وتجرأ عليه لكع بن لكع وصار الإنسان ليس بشيء لكن إذا كان قويا حادا في ذات الله لا يتجاوز حدود الله عز وجل ولا يقصر عن السلطة التي جعلها الله له فهذا هو الأمير حقيقة الرابعة لا تولين مال يتيم واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ فنهاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى على مال اليتيم لأن مال اليتيم يحتاج إلى عناية ويحتاج إلى رعاية إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وأبو ذر ضعيف لا يستطيع أن يرعى هذا المال حق رعايته فلهذا قال ولا تولين مال يتيم يعني لا تكن وليا عليه دعه لغيرك ففي هذا دليل على أنه يشترط للإمارة أن يكون الإنسان قويا وأن يكون أمينا لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال إنها أمانة فإذا كان قويا أمينا فهذه هي الصفات التي يستحق بها أن يكون أميرا فإن كان قويا غير أمين أو أمينا غير قوي أو ضعيفا غير أمين فهذه الأحوال الثلاثة لا ينبغي أن يكون صاحبها أميرا ولكن يجب أن نعلم أن الأشياء تتقيد بقدر الحاجة فإذا لم نجد إلا أميرا ضعيفا أو أميرا غير أمين وكان لا يوجد في الساحة أحد تنطبق عليه الأوصاف كاملة فإنه يولى الأمثل فالأمثل ولا تترك الأمور بلا إمارة لأن الناس محتاجون إلى أمير ومحتاجون إلى قاض ،ومحتاجون إلى من يتولى أمورهم ،فإن أمكن وجود من تتم فيه الشروط فهذا هو الواجب، وإن لم يوجد فإنه يولى الأمثل فالأمثل ،لقول الله تعالى:{ فاتقوا الله ما استطعتم }" (1)
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (3 / 300)(1/340)
وكذلك أمره إذا بلغ البناء جبل سلع أن يخرج من المدينة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ،قَالَ : قَالَتْ أُمُّ ذَرٍّ : وَاللَّهِ مَا سَيَّرَ عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ،وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ : إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا،قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَلَمَّا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سِلَعًا وَجَاوَزَ خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الشَّامِ،وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ (1)
وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : " إِذَا رَأَيْتَ الْبِنَاءَ قَدْ بَلَغَ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنَ الْمَدِينَةِ،وَوَجَّهَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ،وَلَا أَرَى أُمَراءَكَ يَدَعُوكَ وَرَأْيَكَ " . قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَفَلَا أَضَعُ سَيْفِي عَلَى عَاتِقِي،وَأَضْرِبُ بِهِ مَنْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمْرِكَ،قَالَ : " لَا،وَلَكِنْ إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ "،قَالَ : " فَلَمَّا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا خَرَجَ حَتَّى أَتَى الشَّامَ فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُوهُ،يَذْكُرُ أَنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْهِ النَّاسَ،فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمْ،فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى عُثْمَانَ،فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : يَا أَبَا ذَرٍّ،أَقِمْ تَغْدُو عَلَيْكَ اللِّقَاحُ وَتَرُوحُ،قَالَ أَبُو ذَرٍّ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا،هِيَ لَكُمْ،ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ إِلَى الرَّبَذَةِ،فَأَذِنَ لَهُ،فَقَدِمَ الرَّبَذَةَ وَعَلَيْهَا عَبْدٌ حَبَشِيُّ أَمِيرٌ،فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ،فَقَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : تَقَدَّمْ،فَقَالَ : لَا،إِنِّي أُمِرْتُ إِنْ أُمِّرَ عَلَيَّ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ أَنْ أَسْمَعَ لَهُ وَأُطِيعَ،فَتَقَدَّمَ الْحَبَشِيُّ " (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : " إِذَا بَلَغَ النَّبَأُ سِلَعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا " , وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ " وَلَا أَرَى أُمَرَاءَكَ يَدَعُونَكَ "،قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُقَاتِلُ مَنْ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمْرِكَ ؟،قَالَ : " لَا "،قَالَ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟،قَالَ : " اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ "،قَالَ : فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ , فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ : إِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدْ أَفْسَدَ النَّاسَ بِالشَّامِ،فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ،فَقَدِمَ عَلَيْهِ،ثُمَّ بَعَثُوا أَهْلَهُ مِنْ بَعْدِهِ , فَوَجَدُوا عِنْدَهُ كَيْسًا أَوْ شَيْئًا , فَظُنُّوا أَنَّهَا دَرَاهِمَ , فَقَالُوا : مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا هِيَ فُلُوسٌ , فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ , قَالَ لَهُ عُثْمَانُ : كُنَّ عِنْدِي تَغْدُو عَلَيْكَ وَتَرُوحُ اللِّقَاحُ،قَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِي دُنْيَاكُمْ،ثُمَّ قَالَ : ائْذَنْ لِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى الرَّبَذَةِ،فَأَذِنَ لَهُ , فَخَرَجَ إِلَى الرَّبَذَةِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ ,
__________
(1) - المستدرك للحاكم (5468) صحيح
(2) - السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ (50) صحيح لغيره(1/341)
وَعَلَيْهَا عَبْدٌ لِعُثْمَانَ حَبَشِيُّ , فَتَأَخَّرَ،فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ فَأَنْتَ عَبْدٌ حَبَشِيُّ " (1)
وكذلك وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان رضي الله عنه بعدم خلع نفسه من الخلافة،فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ قَالَتْ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُخْتَلِيًا بِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ : « إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا أَوْ مُسَرْبِلُكَ سِرْبَالًا،فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ ؛ فَلَا تَخْلَعْهُ،وَلَا كَرَامَةَ » (2)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ : أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الأُخْرَى،فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلاَمٍ كَلَّمَهُ،أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ،وَقَالَ : يَا عُثْمَانُ،إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا،فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ،فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي،يَا عُثْمَانُ،إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا،فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ،فَلاَ تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي ثَلاَثًا،فَقُلْتُ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ ؟ قَالَتْ : نَسِيتُهُ،وَاللَّهِ فَمَا ذَكَرْتُهُ . قَالَ : فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ،فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِي أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ بِهِ،فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَابًا. " (3)
وعَنْ رَبِيعَةَ بن سَيْفٍ ،أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ شُفَيٍّ الأَصْبَحِيِّ،فَقَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بن عَمْرٍو،يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً : أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لا يَلْبَثُ بَعْدِي إِلا قَلِيلا،وَصَاحِبُ رَحًى دَارَّةٍ يَعِيشُ حَمِيدًا،وَيَمُوتُ شَهِيدًا،قِيلَ : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟،قَالَ : عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عُثْمَانَ،فَقَالَ : وَأَنْتَ سَيَسْأَلُكَ النَّاسُ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصًا كَسَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَئِنْ خَلَعْتَهُ،لا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ." (4)
__________
(1) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (5062 ) صحيح لغيره
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (2 / 155) (282) صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 135) (24566) 25073- صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (1 / 6) (12) صحيح(1/342)
قلت : أصل الحديث متواتر
قال الطحاوي : " فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، فَوَجَدْنَا بَيْعَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَدْ كَانَتْ بَيْعَةَ هُدًى، وَرُشْدٍ، وَاسْتِقَامَةً، وَاتِّفَاقٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِوَاهُمْ عَلَيْهَا، لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَجَرَى الْأَمْرُ لَهُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ مِنْ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَمْرِهِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ التَّبْدِيلَ، وَالتَّغْيِيرَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَاشَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ سَبَبًا لَتَحَزُّبِهِمْ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ فِيهِ، وَحَتَّى هَمَّ بَعْضُهُمْ بِإِزَالَتِهِ عَنْ ذَلِكَ لِدَعْوَاهُ عَلَيْهِ الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْأَحْدَاثِ الَّتِي ادَّعَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَهَا، مِمَّا لَا يَصْلُحُ مَعَهَا بَقَاؤُهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرِهِ، مِمَّا خَاطَبَهُ بِهِ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، مِمَّا أَطْلَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَا قَدْ رُوِّينَاهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَحْوَالَهُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ هِيَ الْأَحْوَالُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا مَا اسْتَحَقَّ مِنَ الْخِلَافَةِ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، وَفِي اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ لَهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحُلْ عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ ذَلِكَ، وَحَالَ عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ لَخَرَجَ بِذَلِكَ، مِمَّا كَانَ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ وِلَايَتُهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، لَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّمَسُّكِ بِالْخِلَافَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَلَأَمَرَهُ بِرَدِّهِ إِيَّاهَا إِلَى مِنْ سِوَاهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،قَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ بِهِ، وَمَا كَانَ يَطْلَبُ مِنْ أَجْلِهِ تَرْكُ الْخِلَافَةِ الَّتِي قَدْ كَانَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، مِمَّا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ إِيَّاهَا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، وَفِي أَمْرهِِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهُ بِلُزُومِهَا،وَبِالتَّمَسُّكِ بِهَا، مَا قَدْ دَلَّ أَنَّ أَحْوَالَهُ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ أَحْوَالُ اسْتِحْقَاقٍ لَهَا، لَا تَبْدِيلَ مَعَهُ فِيهَا، وَلَا تَغَيُّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، مِمَّا اسْتَحَقَّهَا بِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ ." (1)
وانظر إلى هذا الخبر التالي،عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ،حَدَّثَاهُ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ،قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي،ثُمَّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي،ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي،ثُمَّ سَأَلْتُ فَأَعْطَانِي،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا حَكِيمَ بْنَ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (13 / 337)(1/343)
حِزَامٍ،إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ،وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ،وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ،وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى،قَالَ حَكِيمُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا.
قَالَ عُرْوَةُ،وَسَعِيدٌ : فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا فَيُعْطِيهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى،ثُمَّ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعْطِيهِ فَيَأْبَى،فَيَقُولُ عُمَرُ : إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى يَأْخُذُهُ،قَالَ : فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ." (1)
الخلاصة :
(1) يجوز للعالم أن يوجه طلابه نحو الأكمل والأحسن
(2) إذا رأى العالم في بعض طلابه ميولا نحو شيء معين،فإن كان غير مناسب له وجهه التوجيه الأمثل .
(3) على المعلم أن يوصي طلابه بما يعود عليهم بالنفع في الدارين،وحسب قدراتهم وإمكاناتهم
(4) على طالب العلم التمسك بوصية معلمه إذا لم يكن فيها إثم أو قطيعة رحم،لأنه أعلم وأدرى بالحياة منه .
ــــــــ
30-الإيجاز في الموعظة :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 14) (3220) وصحيح البخارى- المكنز - (1472 )
أَرزأ : أنقص مال أحد -يرزأ : يأخذ منه وينقصه -الإشراف : التطلع للشىء وحديث النفس وتوقعه(1/344)
ومن أهمِّ وأبرزِ أساليبِه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم،الوعظُ والتذكير،اقتداءً بالقرآن الكريم،في قوله : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (55) سورة الذاريات،وقولِهِ : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} (21) سورة الغاشية،وكثيرٌ من تعليماتِه - صلى الله عليه وسلم - إنما أُخِذَتْ منه في مَواعِظِه وخُطبه العامة
الشيخ محمد أنور الكشميري ، في إيضاحِ جانب (التذكير) في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبيانِ الفرق بين وظيفةِ الواعِظِ المذكِّرِ ووظيفةِ المَعلِّم الفقيه ، وقد أردتُ ذكر تلك الكلمةِ هنا بطولِها لما فيها من الفوائد ، قال رحمه الله تعالى في ((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) : " ((اعلم أنَّ هناك وظيفتين :
الأولى : وظيفةُ الواعظِ والمذكِّر ، فإنه يُحرِّضُ على العمل ويُرغِّب إليه فيختارُ من التعبيرات ما يكون أدعى لها ، ولا يَلتفتُ إلى تحقيق المسألة واستيفاءِ شرائِطها وموانِعها ، بل يُرسلُ الكلامَ فيعِدُ ويوعِدُ ، ويُرغِّبُ ويُرهِّبُ مطلقاً ، ويأمُرُ ويَنهى ولا يَلتفتُ إلى مزيدِ التفاصيل .
والثانيةُ : وظيفةُ المعلِّم والفقيه وهو يُريدُ تلقينَ العلم وبيانَ المسألة ، أما العملُ بها فبمَعزل عن نظره ، فيُحقِّقُ البيانَ ، ويُدقِّقُ الكلامَ ، ويَستوفي الشروطَ ويختارُ من التعبيرات ما لا يكون مُوْهِماً بخلاف المقصود ، بل يكون أدلَّ عليه وأقربَ إليه ، فلا يُرسِلُ الكلامَ بل يذكُرُه بشرائطِه ، ويَعِدُ ويوعِدُ ويُرغِّبُ ويُرهِّبُ بشرائطِه .
فهاتان وظيفتان ، ومَنصِبُ الشارع منصِبُ المُذكِّر ، قال الله تعالى : (إنما أنتَ مُذَّكِّر لستَ عليهم بمسيطر) ، وليس له مَنصِبُ المعلِّم فقط فهو مُذَّكرٌ ومعلِّم معاً ، فوَجَب أن يُعبِّر بما هو أدعى للعمل وأبعدُ عمّا يوجِب الكَسَلَ .
وهذا هو التعليم الفطري ، فإن أكثرَ تعليماتِه - صلى الله عليه وسلم - مستفادٌ من عمله ، فما أَمَر به الناسَ عَمِل به أولاً ثم تَعلَّم منه الناسُ ، ولذا لم يَحتاجوا إلى التعليم والتعلُّم ، ولو كان طريقُه كما في زماننا لَما شاع الدينُ إلى الأبد ، ولكنَّه علَّم الناس بعمله .(1/345)
ثم إذا قال لهم أمراً اختار فيه الطريق الفِطري أيضاً ، وهو الأمرُ بالمطلوب والنهيُّ عن المكروهِ ، ولم يَبحَثْ عن مراتِبه ، قال الله تعالى : (وما آتاكم الرسولُ فخُذوه وما نَهاكم عنه فانتهوا) ، فهذا هو السبيلُ الأقوم .
أما البحثُ عن المراتب فهو طريقٌ مُستحدَث سَلَكه العلماءُ لفساد الزمان ، وأما الصحابةُ رضي الله عنهم فإنهم إذا أُمِروا بشيءٍ أخذوه بجميع مَراتِبه ، وإذا عنه تركوه بالكلية ، فلم تكن لهم حاجةٌ إلى البحث .
ولو كان الشارعُ تعرَّض إلى المراتبِ لفاته منصبُ المُذكِّر ولانعدم العملُ ، فإنه إذا جاء البحثُ والجدال لبطل العمل ، مثلاً لو قال تعالى : ((فاعتزلوا النساءَ عن مَوضِع الطَّمْث ، ولا تَقربوه فقط ، واستَمتِعوا بسائرِ الأعضاء)) ، لربما وقَعَ الناسُ في الحرام ، لان من يَرتَع حول الحِمى يوشِكُ أن يَقَع فيه ، وإنما أخَذَ الاعتزالَ في التعبير ليكون أسهلَ لهم في العمل ، ولا يَقَعوا في المعصية .
وكذلك إذا أحب أمراً أمَرَ به مطلقاً ، ليأتمر به الناسُ بجميع مراتبه ، ويَقَع في حيز مرضاةِ الله تعالى ، مثلاً قال : ((من تركَ الصلاةَ فقد كفَر)) ، ولم يقل : فَعَل فِعلَ الكفر ، أو مُستَحِلاًّ ، أو قارَبَ الكفرُ ، مع أنه كان أسهلَ في بادىء النظر ، لأنه لو قال كذلك لفات غرضُه من التشديد ولانعدم العملُ ، ولذا كان السلفُ يَكرهون تأويلَه .
فالحاصلُ أنه إذا أمَرَنا بشيءٍ فكأنه يُريدُ العَمَل به بأقصى ما يمكن ، بحيث لا تبقى مرتبةٌ من مراتِبه متروكةً ، وكذلك في جانب النهي ، ولذا كان يقولُ عند البيعة : ((فيما استطعتم)) فبذلُ الجهد والاستِطاعة لا يكون إلاّ إذا أُجمِلُ الكلامُ ، وإذا فُصِّل يحدث التهاوُن ، كما هو مشاهد في عمل العوام وعامةِ العلماء الذين مالهم وجاهة عند الله وقبولٌ في جنابِه ، فهم ليسوا من الذين لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله)) (1) .
وإذا أراد المعلم أن يعطه تلميذه فليوجز،ولا يكثر عليه إلا إذا طلب التلميذ ذلك، حتى يستطيع حفظها وتطبيقها .
__________
(1) - ((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) 1 :280(1/346)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ : أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَغْلَةً أَهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى،فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ،ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ،ثُمَّ سَارَ بِي مَلِيًّا،ثُمَّ الْتَفَتَ،فَقَالَ : يَا غُلامُ،قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،قَالَ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ،احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ،تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ،وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ،وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ،قَدْ مَضَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ،فَلَوْ جَهَدَ النَّاسُ أَنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ،وَلَوْ جَهَدَ النَّاسَ أَنْ يَضُرُّوكَ بِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ،فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِالصَّبِرِ مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ،فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاصْبِرْ،فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ خَيْرًا كَثِيرًا،وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الصَّبْرِ النَّصْرَ،وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الْكَرْبِ الْفَرَجِ،وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ الْيَسَرَ " (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ » (2) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ » (3) .
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ مُعَاذٌ: فَإِذَا رَكْبُ ابْنِ صَفْوَانَ نَحْوَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا سَائِلُوكَ عَنِّي، فَأَوْصِنِي وَاجْمَعْ، فَقَالَ: " اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا،وَخَالَطِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " (4)
__________
(1) - المستدرك للحاكم (6303) صحيح
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2706 ) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2115 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4) - شعب الإيمان - (10 / 381)(7662 ) صحيح لغيره(1/347)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَأَضِفْ إِلَيْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا " (1)
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِىِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِى فِى الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِى رواية غَيْرَكَ - قَالَ « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ » (2) .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ،أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،حَدِّثْنِي بِشَيْءٍ أَعْتَصِمُ بِهِ قَالَ : قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ،ثُمَّ اسْتَقِمْ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَا أَكْثَرَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ قَالَ : وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِسَانِ نَفْسِهِ قَالَ : هَذَا " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سُفْيَانَ،عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! مُرْ لِي فِي الْإِسْلامِ بِأَمْرٍ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ . قَالَ : « قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ،ثُمَّ اسْتَقِمْ » . قُلْتُ : فَمَاذَا أَتَّقِي ؟ قَالَ : « هَذَا » وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ" (4)
قلت : فهذه المواعظ كلها قصار ويستطيع طالب العلم حفظها وتطبيقها،وهذا هو الذي ينبغي أن يفعله العالم مع طلابه .
ولكن كما قلت سابقا إن طلب الطالب زيادة فلا بأس بذلك،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ،أَرَادَ سَفَرًا،فقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَوْصِنِي،قَالَ : اعْبُدِ اللَّهَ لاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا،قَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ زِدْنِي،قَالَ : إِذَا أَسَأْتَ،فَأَحْسِنْ،قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي،قَالَ : اسْتَقِمْ وَلْيَحْسُنْ خُلُقُكَ. (5)
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 382)(7663 ) صحيح لغيره
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (168 )
(3) - الآحاد والمثاني - (3 / 91)(1585) حسن
(4) - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 491) (1721 ) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 283) (524) صحيح(1/348)
وعَنْ أَبِي نَوْفَلِ بن أَبِي عَقْرَبٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ الصَّوْمِ؟ فَقَالَ: صُمْ مِنَ الشَّهْرِ يَوْمًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَقْوَى، قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : زِدْنِي زِدْنِي صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. (1)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ قَالَ :« يَا عَدِىُّ بْنَ حَاتِمٍ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ ». قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا قَالَ :« فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ ». قُلْتُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِى : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَرُوا الْبِلاَدَ :« وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى ». قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ قَالَ :« كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفَّيْهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَيَقُولُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً يُبَلِّغُكَ فَيَقُولُ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ ». قَالَ عَدِىٌّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ». قَالَ عَدِىٌّ : قَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ لاَ تَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ سَتَرَوْنَ مَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - :« يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَلاَ يَجِدْ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ » (2) .
وعَنْ أبي موسى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ :« فَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ ». قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ :« فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ » (3) .
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 178)(18246) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 225)(10425) وصحيح البخارى- المكنز - (1413)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (4 / 188)(8073) وصحيح البخارى- المكنز - (6022)(1/349)
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا، وَلَا نَجِدُ مَا نُصَدِّقُ بِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ أَدْرَكْتَ مَنْ سَبَقَكَ، وَلَا يَلْحَقُ بِكَ أَحَدٌ بَعْدَكَ ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: " تُكَبِّرُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَتَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، وَتُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَتَخْتِمُهَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (1)
وقَالَ أَبُو كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ يُجَالِسُ أَبَا ذَرٍّ - قَالَ: فَجَمَعَ حَدِيثًا فَلَقِيَ أَبَا ذَرٍّ وَهُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى وَحَوْلَهُ النَّاسُ، قَالَ: فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَنَسِيتُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، أَتَذَكَّرُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَهُ الْعَبْدُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَ بِهِ الْعَبْدُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يُؤْمِنُ بِاللهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلا، قَالَ: " يُرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لَا شَيْءَ له، قَالَ: " يَقُولُ مَعْرُوفًا بلسانه "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ عَييًا لَا يَبْلُغُ عنْهُ لِسَانُهُ، قَالَ: " فَلْيُعِنْ مَغْلُوبًا "، قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا قُوَّةَ له، قَالَ: " فَليَصْنَعُ لِأَخْرَقَ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ أَخْرِقَ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ لصَاحِبِكَ خَيْرًا فَلْيَدْعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا كُلُّهُ يَسِيرٌ، قَالَ: " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْهَا مِنْ خَصْلَةٍ يَعْمَلُ بِهَا الْعَبْدُ يُرِيدُ بِهَا وجه اللهِ إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ " (2)
الخلاصة :
(1) الأصل بالموعظة أن تكون موجزة ليفهمها طالب العلم ويحفظها،ويعمل بها
(2) يجوز إطالة الموعظة إذا كان المتعلم راغباً بذلك وأهلها لها.
(3)
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 131) (607 ) صحيح -الدثور : جمع دثر وهو المال العظيم
(2) - شعب الإيمان - (5 / 33) (3055 ) صحيح(1/350)
ينبغي أن تكون الموعظة واضحة ومفهومة .
(4) طول الموعظة وقصرها حسب مقتضى الحال.
ــــــــ
31-انتِهازُه - صلى الله عليه وسلم - المناسباتِ العارِضةَ في التعليم:
المعلم الناجح هو الذي ينتهز الفرص لكي يعلم طلابه،سواء أكانت في السفر أو الحضر،في الأفراح أو الأتراح،وكلما كانت مناسبة للظروف المحيطة بها كلما كان وقعها أكبر،وتأثيرها أقوى .
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَنْتهِزُ المناسَبَةَ المُشاكِلةَ لما يُريدُ تعليمَه،فيَربِطُ بين المناسبةِ القائمة،والعلمِ الذي يُريد بَثَّه وإذاعتَه،فيكون من ذلك للمخاطبين أبيَنُ لوضوح،وأفضلُ الفَهْم،وأقوى المعرفة بما يَسمعون ويُلقى إليهم .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ (1) وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ (2) فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ (3) مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَىْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ « أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ » (4) . قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ». (5)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْىٌ (6) ،فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ قَدْ تَحْلُبُ (7) ثَدْيَهَا تَسْقِى (8) ،إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ
__________
(1) - العالية : قُرى بظاهر المدينة .
(2) - جانبه أى أحاط به الناس من جانبه.
(3) - الأسك : ذاهب الأذن سواء من أصل الخلقة أو مقطوعها
(4) أي بلا شيء مّا .
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (7607 )
(6) - السَّبْيُ : الأسرى ، وكان هذا السبي سبي هَوازِن .
(7) أي سال حليبُ ثدييها .
(8) أي تمشي بسرعة باحثة عن رضيعها الذي ذهب منها .(1/351)
بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ (1) ،فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَرَوْنَ (2) هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ » . قُلْنَا لاَ وَهْىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ (3) . فَقَالَ « اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا » (4) .
قال الحافظ ابن حجر (5) : وهو يشرح فوائد هذا الحديث وما يستخرج منه من أحكام : ((فيه ضَرْبُ المَثَلِ بما يُدرَك بالحواسِّ لما لا يُدرَكُ بها،لتحصيل معرفةِ الشيء على وجهه ، وإن كان الذي ضُرِبَ به المَثلُ لا يُحاطُ بحقيقته،لأن رحمة الله لا تُدرَك بالعقل ، ومع ذلك فقد قَرَّبها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للسامعين بحال المرأةِ المذكورة .
وفي الحديث أيضاً : جواز نظرِ النساءِ المَسْبِيّات،لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْهَ عن النظر إلى المرأةِ المذكورة،بل في سِياق الحديث ما يقتضي إذْنَه في النظر إليها)) .
فانتَهَزَ - صلى الله عليه وسلم - المُناسبةَ القائمةَ بين يديه مع أصحابه،المشهودَ فيها حنانُ الأُمِّ الفاقِدة،على رَضيعها إذْ وَجَدَتْه،وضرَبَ بها المُشاكَلَةَ والمُشابهةَ برحمة الله تعالى،ليُعرِّفَ الناسَ رحمةَ رَبِّ الناسِ بعباده،ولم يَبتدِئهم أو يقْتَبِلهم بهذا المعنى اقتبالاً وابتداءً دون مناسبة،بل أورده لهم في هذه المناسبة،فكان ذلك دَرْساً وشَرْحاً لسَعَةِ رحمة الله تعالى ورأفتِه بمخلوقاته سبحانه { وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (207) سورة البقرة.
وعَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا قَيْسٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، قَالَ : خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، فَقَالَ : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبُّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ." (6)
__________
(1) يعني وهي على تلك الحال فوجئت بلقاءِ طفلها في السبي ، فأخذَتْه بحنانٍ شديد وشفقةٍ بالغة ، فضمَّتْه إلى قلبها وصدرِها فرِحةً مسرورةً بلُقياه ، فهو عندها أغلى الأطفال ، وأحبُّ الراضعين ، وقُرّةُ العين والقلب جميعاً .
(2) أي أتظنون؟
(3) أي لا تطرحه ما دامت تقدر على حفظه معها ووقايتِه .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5999 ) وصحيح مسلم- المكنز -(7154)
(5) - في ((فتح الباري)) 10 :361
(6) - صحيح ابن حبان - (16 / 476)( 7444) صحيح(1/352)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ « إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا ، لاَ تُضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ » (1) .
أي لا يَحصُلُ لكم ضَيمٌ حينئذٍ . ورُوي : (لا تَضامّون في رؤيَته) . أي تتضامّون من الضمّ ، والمراد نفيُ الازدحام ، كما يقع للذين يَشهدون الهلالَ في أوَّلِ الشهر ، أنهم يَتضامّون لتتركَّزَ أحداقُهم على موضعٍ معيَّن ، فيشتركوا في رؤيتِه دون سواهم .
قال الحافظ ابن حجر وهو يُفسِّرُ رواية (لا تَضامّون في رؤيتِه) : ((أي لا تَضامّون في رؤيته باجتماعٍ في جهة ، فإنكم تَرَوْنَه سبحانه في جهاتكم كلِّها ، وهو مُتعالٍ عن الجهة . والتشبيهُ برؤية القمر ، للرُّؤية دون تشبيه المَرْئي ، تعالى الله عن ذلك)) (2) .
ورُوي : (لا تُضارّون في رؤيته) أي لا يَلْحَقُكم في رؤيته سبحانه مَشقّةٌ أو ضَرر .،فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس،وصلاةٍ قبل غروبها،فافعلوا،ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (39) سورة ق
فانتهز - صلى الله عليه وسلم - مُشاهدةَ الصَّحابةِ للقمر ليلةَ البدر،فبيَّنَ لهم أن رؤية الله تعالى في الآخرة،ستكون للمؤمنين في الجنة بهذا الوضوح وتلك السُّهولةِ واليُسْر .
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ،وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكَلاَعِيُّ : أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ،وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ : {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة : ]،فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا : أَتَيْنَاكَ زَائِرَيْنَ وَمُقْتَبِسَيْنِ،فَقَالَ الْعِرْبَاضُ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً،ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ،وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ،فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ،كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ،فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ،وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا،فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا،فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7436 ) - تضامُّون : تزدحمون -تضامُون : لا يحصل لكم ذل
(2) - في ((فتح الباري)) 13 :357(1/353)
الْمَهْدِيِّينَ،فَتَمَسَّكُوا بِهَا،وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ،وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ." (1)
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ : أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فَسَلَّمْنَا ، وَقُلْنَا : أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ . فَقَالَ عِرْبَاضٌ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، تَمَسَّكُوا بِهَا ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ. (2)
قال الخطابي : " قوله وإن عبداً حبشياً يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً ، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الأئمة من قريش ، وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح منه الوجود كقوله - صلى الله عليه وسلم - : من بنى للّه مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ، وقدر مفحص قطاة لا يكون مسجدا لشخص آدمي وكقوله لو سرقت فاطمة لقطعتها وهي رضوان الله عليها وسلامه لا يتوهم عليها السرقة ، وقال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ونظائر هذا في الكلام كثير ، والنواجذ آخر الأضراس واحدها ناجذ ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة فعل من أمسك الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء إذ كان ما يمسكه
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 178) (5) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي عِنْدَ ذِكْرِهِ الاِخْتِلاَفَ الَّذِي يَكُونُ فِي أُمَّتِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى السُّنَنِ ، قَالَ بِهَا ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الآرَاءِ مِنَ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ فِي الْقِيَامَةِ ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ.
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 842)(17145) 17275- صحيح(1/354)
بمقاديم فمه أقرب تناولاً وأسهل انتزاعاً ، وقد يكون معناه أيضاً الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه.
وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه . وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة والله أعلم.
وفي قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً ، وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى." (1)
قول العرباض: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغة وجلت منها القلوب، وذرَفت منها العيون" ، الموعظة ما كان من الكلام فيه ترغيب وترهيب، يؤَثّر على النفوس ويبلغ القلوب، فتوجل من مخافة الله، وقد وصف العرباض رضي الله عنه هذه الموعظة بهذه الصفات الثلاث، التي هي البلاغة ووجل القلب وذرف العيون، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2) : "والبلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنَّها أقربُ إلى قبول القلوب واستجلابها، والبلاغة هي التوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدَّالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب".
وقد وصف الله المؤمنين بوجل قلوبهم وذرف عيونهم عند ذكر الله، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
قوله: "قلنا: يا رسول الله! كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا"أي: أنَّ هذه الوصية تشبه موعظة المودِّع، لذا فقد طلب الصحابة الكرام وهم الحريصون على كلِّ خير وصيَّة جامعة يعهد
__________
(1) - معالم السنن للخطابي 288 - (4 / 300)
(2) - (2/111)(1/355)
بها إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يتمسَّكون بها ويُعوِّلون عليها؛ لأنَّ الوصيَّة عند الوداع لها وقع في النفوس، ولعلَّ هذه الموعظة كان فيها ما يشعر بالتوديع، لذا طلبوا هذه الوصيَّة.
قوله: "أوصيكم بتقوى الله"، تقوى الله عزَّ وجلَّ أن يجعل المرء بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، وتصديق الأخبار، وهي وصيَّة الله للأولين والآخرين، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ، وهي سبب كلِّ خير وفلاح في الدنيا والآخرة، ويأتي الأمر بتقوى الله في كثير من الآيات، لا سيما الآيات المبدوءة ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وكذلك في وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه.
قوله: "والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد" وهي وصيَّة بالسمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية الله، ولو كان الأمير عبداً، وقد أجمع العلماء على أنَّ العبدَ ليس أهلاً للخلافة، ويُحمل ما جاء في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في معناه على المبالغة في لزوم السمع والطاعة للعبد إذا كان خليفة، وإن كان ذلك لا يقع، أو أنَّ ذلك يحمل على تولية الخليفة عبداً على قرية أو جماعة، أو أنَّه كان عند التولية حرًّا، وأُطلق عليه عبد باعتبار ما كان، أو على أنَّ العبدَ تغلَّب على الناس بشوكته واستقرَّت الأمور واستتبَّ الأمن؛ لِمَا في منازعته من حصول ما هو أنكر من ولايته.
قوله: "فإنَّه مَن يعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً" ، هذا من دلائل نبوَّته - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أخبر عن أمر مستقبَل وقع طبقاً لِمَا أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنَّ الذين طالت أعمارُهم من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أدركوا اختلافاً كثيراً ومخالفة لِمَا كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وذلك بظهور بعض فرق الضلال، كالقدرية والخوارج وغيرهم.
قوله: "فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنَّواجذ" ، لَمَّا أخبر - صلى الله عليه وسلم - بحصول التفرُّق وكثرته، أرشد إلى طريق السلامة والنجاة، وذلك بالتمسُّك بسنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين، وخلفاؤه الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافتَهم بأنَّها خلافةُ نبوَّة، كما جاء في حديث سفينة رضي الله عنه: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي اللهُ الملكَ أو ملكَه من يشاء"(1/356)
"والسنَّة هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنَّة الكاملة، ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم السنَّة إلاَّ على ما يشمل ذلك كلَّه، وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض، وكثير من العلماء المتأخرين يخصُّ اسمَ السنَّة بما يتعلَّق بالاعتقادات؛ لأنَّها أصلُ الدِّين، والمخالف فيها على خطر عظيم".
وقد حثَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التمسُّك بسنَّته وسنَّة خلفائه الراشدين بقوله: "فعليكم"، وهي اسم فعل أمر، ثم أرشد إلى شدَّة التمسُّك بها بقوله: "عضُّوا عليها بالنَّواجذ" ، والنواجذ هي الأضراس، وذلك مبالغة في شدَّة التمسُّك بها.
قوله: "وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة" محدثات الأمور ما أُحدِث وابتُدع في الدِّين مِمَّا لم يكن له أصل فيه، وهو يرجع إلى الاختلاف والتفرُّق المذموم الذي ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "فإنَّه مَن يَعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً"
وفيه استحباب الموعظة والتذكير في بعض الأحيان؛ لِمَا في ذلك من التأثير على القلوب.
وحرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير؛ لطلبهم الوصيَّة منه - صلى الله عليه وسلم - .
وأنَّ أهمَّ ما يوصى به تقوى الله عزَّ وجلَّ، وهي طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وأنَّ من أهمِّ ما يوصى به السمع والطاعة لولاة الأمور؛ لِمَا في ذلك من المنافع الدنيوية والأخروية للمسلمين.
والمبالغة في الحثِّ على لزوم السمع والطاعة، ولو كان الأمير عبداً.
وإخبار النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن وجود الاختلاف الكثير في أمَّته، ثم حصوله كما أخبر من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - .
وأنَّ طريق السلامة عند الاختلاف في الدِّين لزوم سنَّته - صلى الله عليه وسلم - وسنَّة الخلفاء الراشدين.
وبيان فضل الخلفاء الراشدين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وأنَّهم راشدون مهديُّون.
والتحذير من كلِّ ما أُحدث في الدِّين مِمَّا لم يكن له أصل فيه.(1/357)
والجمع بين الترغيب والترهيب؛ لقوله في الترغيب: "فعليكم"، وفي الترهيب: "وإيَّاكم".
وبيان أهميَّة الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمور، واتِّباع السنن وترك البدع؛ لكون النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوصى أصحابَه بها بعد قوله عن موعظته: "كأنَّها موعظة مودِّع فأوصنا". (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ « صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». ثُمَّ يَقُولُ « أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَىَّ ». (2)
قال النووي : " قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة ) هَذَا عَامّ مَخْصُوص ، وَالْمُرَاد غَالِب الْبِدَع . قَالَ أَهْل اللُّغَة : هِيَ كُلّ شَيْء عُمِلَ عَلَى غَيْر مِثَال سَابِق . قَالَ الْعُلَمَاء : الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام : وَاجِبَة ، وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة ، وَمَكْرُوهَة ، وَمُبَاحَة . فَمِنْ الْوَاجِبَة : نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْه ذَلِكَ . وَمِنْ الْمَنْدُوبَة : تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم ، وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ . وَمِنْ الْمُبَاح : التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ . وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ . وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا الْمَبْسُوطَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات ، فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْته عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص . وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة ، وَيُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي التَّرَاوِيح : نِعْمَتْ الْبِدْعَة ، وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا . قَوْله : ( كُلّ بِدْعَة ) مُؤَكَّدًا ( بِكُلِّ ) ، بَلْ يَدْخُلهُ التَّخْصِيص مَعَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { تُدَمِّر كُلّ شَيْء } .
__________
(1) - فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (1 / 99)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2042 )(1/358)
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه ) هُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { النَّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ } أَيْ أَحَقُّ ، قَالَ أَصْحَابنَا : فَكَأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اُضْطُرَّ إِلَى طَعَام غَيْره وَهُوَ مُضْطَرّ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْذُهُ مِنْ مَالِكه الْمُضْطَرّ ، وَوَجَبَ عَلَى مَالِكه بَذْله لَهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا : وَلَكِنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَمَا وَقَعَ ؟
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ ) هَذَا تَفْسِير لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه ) . قَالَ أَهْل اللُّغَة : الضَّيَاع - بِفَتْحِ الضَّاد - الْعِيَال ، قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : أَصْله مَصْدَر ضَاعَ يَضِيع ضَيَاعًا ، الْمُرَاد مَنْ تَرَكَ أَطْفَالًا وَعِيَالًا ذَوِي ضَيَاع ، فَأَوْقَع الْمَصْدَر مَوْضِع الِاسْم ، قَالَ أَصْحَابنَا : وَكَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن لَمْ يُخَلِّف بِهِ وَفَاء ؛ لِئَلَّا يَتَسَاهَل النَّاس فِي الِاسْتِدَانَة وَيُهْمِلُوا الْوَفَاء ، فَزَجَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَبَادِي الْفُتُوح قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ ) أَيْ قَضَاؤُهُ فَكَانَ يَقْضِيه ؟ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا : هَلْ كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَجِب عَلَيْهِ قَضَاء ذَلِكَ الدَّيْن أَمْ كَانَ يَقْضِيه تَكَرُّمًا ؟ وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا هَلْ هَذِهِ مِنْ الْخَصَائِص أَمْ لَا ؟ فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مِنْ خَصَائِص رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَا يَلْزَم الْإِمَام أَنْ يَقْضِي مِنْ بَيْت الْمَال دَيْن مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْن إِذَا لَمْ يُخَلِّف وَفَاء ، وَكَانَ فِي بَيْت الْمَال سَعَة ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَهَمَّ مِنْهُ .
قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : ( بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ ) قَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِل أَنَّهُ تَمْثِيل لِمُقَارَبَتِهَا ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنهمَا إِصْبَع أُخْرَى كَمَا أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَيْنه وَبَيْن السَّاعَة ، وَيَحْتَمِل أَنَّهُ لِتَقْرِيبِ مَا بَيْنهمَا مِنْ الْمُدَّة وَأَنَّ التَّفَاوُت بَيْنهمَا كَنِسْبَةِ التَّفَاوُت بَيْن الْإِصْبَعَيْنِ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا .
قَوْله : ( إِذَا خَطَبَ اِحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْته وَاشْتَدَّ غَضَبه كَأَنَّهُ مُنْذِر جَيْش ) يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّم أَمْر الْخُطْبَة ، وَيَرْفَع صَوْته ، وَيُجْزِل كَلَامه ، وَيَكُون مُطَابِقًا لِلْفَصْلِ الَّذِي يَتَكَلَّم فِيهِ مِنْ تَرْغِيب أَوْ تَرْهِيب . وَلَعَلَّ اِشْتِدَاد غَضَبه كَانَ عِنْد إِنْذَاره أَمْرًا عَظِيمًا وَتَحْدِيده خَطْبًا جَسِيمًا ." (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (3 / 247)(1/359)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ:" اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَت إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، وَكَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ حَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، وَكَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ: فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعْهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذَهَا فَيَجْعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ رِيحِ مِسْكٍ، وُجِدَتْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَلَا يَمُرُّونَ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُفْتَحُ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ: وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ فَهَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي، قال وَأَمَا الْعَبْدُ الْكَافِرُ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ ومَعَهُمُ الْمُسُوحُ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَأْتِيَهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَجْلِسُ(1/360)
عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ" . قَالَ:" فَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا، وَمَعَهَا الْعَصْبُ وَالْعُرُوقُ كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُونَهَا فَيَجْعَلُونَهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ" . قَالَ:" وَيَخْرُجُ مِنْهَا أَنْتَنُ مِنْ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - { لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } [الأعراف: 40] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَأَعِيدُوه إِلَى الْأَرْضِ فَإِنَّا مِنْهَا خَلَقْنَاهُمْ، وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى" . قَالَ:" فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } [الحج: 31] الْآيَةَ، ثُمَّ تُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أنْ كَذَبَ فَافْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ" . قَالَ:" وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ" . قَالَ:" فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِي بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ" (1)
وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : سَمِعَتِ الأَنْصَارُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِمَالٍ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرَيْنِ،وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَوَافَقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلاَةَ الصُّبْحِ،فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَعَرَّضُوا،فَلَمَّا رَآهُمْ تَبَسَّمَ وَقَالَ : لَعَلَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَدِمَ وَقَدِمَ بِمَالٍ ؟ قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ : قَالَ : أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 610)(390 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 321)(18534) 18733- صحيح(1/361)
خَيْرًا،فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ،وَلَكِنْ إِذَا صُبَّتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا،فَتَنَافَسْتُمُوهَا كَمَا تَنَافَسَهَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي غُرْفَةٍ لَهُ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَّامٍ , وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ وَقَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ , قَالَ: فَبَكَيْتُ فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَ اللهِ ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ , كِسْرَى وَقَيْصَرُ يَطَئُونَ عَلَى الْخَزِّ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى الْحَصِيرِ , وَقَدْ أَثَرَّ بِجَنْبِكِ قَالَ: " فَلَا تَبْكِ يَا عَبْدَ اللهِ , فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ , مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلَّا مَثَلُ رَاكِبٍ قَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ سَارِ وَتَرْكَهَا " (2)
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ أَنَّهُ قَالَ مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ،فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ،حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْتُ وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ - قَالَ - فَوَقَفْتُ لَهُ حَتَّى فَرَغَ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ تِلْكَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ . قَالَ فَقُلْتُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ،فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَكَ . قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ مَا ظَنَنْتَ أَنَّ عِنْدِى مِنْ عِلْمٍ فَاسْأَلْنِى،فَإِنْ كَانَ لِى عِلْمٌ خَبَّرْتُكَ بِهِ - قَالَ - ثُمَّ قَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا،حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ - قَالَ - فَبَيْنَا أَنَا فِى أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِى لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا - قَالَ - فَقُلْتُ لَهَا مَالَكِ وَلِمَا هَا هُنَا فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِى أَمْرٍ أُرِيدُهُ . فَقَالَتْ لِى عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ،وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَالَتْ حَفْصَةُ وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ . فَقُلْتُ . تَعْلَمِينَ أَنِّى أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا بُنَيَّةُ لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِى مِنْهَا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 422) (18916) 19123- صحيح
(2) - شعب الإيمان - (13 / 46) (9928 ) صحيح(1/362)
فَكَلَّمْتُهَا . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ دَخَلْتَ فِى كُلِّ شَىْءٍ،حَتَّى تَبْتَغِى أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَزْوَاجِهِ . فَأَخَذَتْنِى وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِى عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ،فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا،وَكَانَ لِى صَاحِبٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِى بِالْخَبَرِ،وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ،وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ،ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا،فَقَدِ امْتَلأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ،فَإِذَا صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ افْتَحِ افْتَحْ . فَقُلْتُ جَاءَ الْغَسَّانِىُّ فَقَالَ بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ . اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَزْوَاجَهُ . فَقُلْتُ رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ . فَأَخَذْتُ ثَوْبِىَ فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ،وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ فَقُلْتُ لَهُ قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . فَأَذِنَ لِى - قَالَ عُمَرُ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ،فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَىْءٌ،وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ،وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا،وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِى جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ « مَا يُبْكِيكَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ » (1)
وعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ،أَنَّهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا،كَانَ أَشْبَهَ كَلاَمًا وَحَدِيثًا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَاطِمَةَ،وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ،قَامَ إِلَيْهَا وَقَبَّلَهَا،وَرَحَّبَ بِهَا،وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ،وَكَانَتْ هِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَخَذَتْ بِيَدِهِ،فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ،فَأَسَرَّ إِلَيْهَا،فَبَكَتْ،ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا،فَضَحِكَتْ،فَقَالَتْ : كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ فَضْلاً عَلَى النَّاسِ،فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بَيْنَا هِيَ تَبْكِي إِذَا هِيَ تَضْحَكُ،فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،سَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّهُ مَيِّتٌ،فَبَكَيْتُ،ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيَّ فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ فَضَحِكَتْ. (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4913 ) -القرظ : شجر يدبغ به
(2) - صحيح ابن حبان - (15 / 403) (6953) وصحيح البخارى- المكنز - (3623)(1/363)
وعن أبي الْعَلاَءِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ،فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ،ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ،وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ،ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ،وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ،وَأَنَا لاَ أَدْرِى مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لاَ أُرَى الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِى قُلْتَ . قَالَ إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا .
قَالَ لِى خَلِيلِى - قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - - « يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا » . قَالَ فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرْسِلُنِى فِى حَاجَةٍ لَهُ،قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ » . وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ،إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا . لاَ وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا،وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ ." (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ،اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ : لَعَنَاقٌ يَأْتِي رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أُحُدٍ ذَهَبًا يَتْرُكُهُ وَرَاءَهُ،يَا أَبَا ذَرٍّ اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ : إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،إِلاَّ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا،اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ : إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،أَوْ إِنَّ الْخَيْلَ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ. (2)
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ،قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ « كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ،فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ،فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ،وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ،مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ،وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5 / 358)(1407 )
الرضف : الحجارة المحماة على النار واحدته رَضْفَة -النغض : العظم الرقيق الذى على طرف الكتف وقيل أعلى الكتف
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 229)(21570) 21903- صحيح(1/364)
دِينِهِ،وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ،لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ،وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » (1) .
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : يَا عُمَرُ،اجْمَعْ لِي قَوْمَكَ،فَجَمَعَهُمْ،ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ،فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ،قَدْ جَمَعْتُهُمْ،فَيَدْخُلُونَ عَلَيْكَ أَمْ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : بَلْ أَخْرُجُ إِلَيْهِمْ،فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ،فَقَالُوا : لَقَدْ جَاءَ فِي قُرَيْشٍ وَحْيٌ،فَحَضَرَ النَّاظِرُ وَالْمُسْتَمِعُ مَا يُقَالُ لَهُمْ،فَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ،فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ غَيْرُكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ،فِينَا حُلَفَاؤُنَا،وَأَبْنَاءُ إِخْوَانِنَا،وَمَوَالِينَا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : حُلَفَاؤُنَا مِنَّا،وَمَوَالِينَا مِنَّا،ثُمَّ قَالَ : أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ أُولَئِكَ فَذَلِكَ،وَإِلا فَأَبْصِرُوا،ثُمَّ أَبْصِرُوا،لاَ يَأْتِيَنَّ النَّاسُ بِالأَعْمَالِ،وَتَأْتُونَ بِالأَثْقَالِ،فَيُعْرَضْ عَنْكُمْ،ثُمَّ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ،فَقَالَ : إِنَّ قُرَيْشًا أَهْلُ أَمَانَةٍ،مَنْ بَغَاهُمُ الْعَوَاثِرَ،كَبَّهُ اللَّهُ لِمِنْخَرِهِ،قَالَهَا ثَلاثًا" (2)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَنَائِمَ حُنَيْنٍ،فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ،وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ،وَذَكَرَ نَفَرًا مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ،تُعْطِي غَنَائِمَنَا قَوْمًا تَقْطُرُ سُيُوفُنَا مِنْ دِمَائِهِمْ،أَوْ تَقْطُرُ دِمَاؤُهُمْ فِي سُيُوفِنَا،فَبَلَغَهُ ذَلِكَ،فَجَمَعَ الأَنْصَارَ،فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ غَيْرُكُمْ ؟ فَقَالُوا : لاَ،غَيْرَ ابْنِ أُخْتِنَا،قَالَ : ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ،ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ،أَمَا تَرْغَبُونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا أَوْ بِالشَّاءِ وَالإِبِلِ،وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ إِلَى دِيَارِكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،لَوْ أَخَذَ النَّاسُ وَادِيًا وَأَخَذَ الأَنْصَارُ شِعْبًا،لَأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ،الأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي،وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ." (3)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَلِىُّ بْنُ الْحُسَيْنِ - رضى الله عنهما - أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ،فِى الْعَشْرِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3612 )
(2) - المستدرك للحاكم (6952) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (16 / 258)(7268) صحيح(1/365)
الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ،فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً،ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ،فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهَا يَقْلِبُهَا،حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ،فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ » . فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ،وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا » (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَزَلَ عَامَ تَبُوكَ بِالْحِجْرِ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ،فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ،فَنَصَبُوا الْقُدُورَ وَعَجَنُوا الدَّقِيقَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْفَؤُوا الْقُدُورَ،وَاعْلِفُوا الْعَجِينَ الإِبِلَ،ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهُ النَّاقَةُ،وَقَالَ : لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فَيُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. (2) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيًّا فَأَكْرَمَهُ ، فقَالَ لَهُ : ائْتِنَا ، فَأَتَاهُ ، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سَلْ حَاجَتَكَ ، قَالَ : نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا ، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ،قَالَ : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ، ضَلُّوا الطَّرِيقَ ، فقَالَ : مَا هَذَا ؟ فقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ : إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا ، قَالَ : فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ ؟ قَالَ : عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ ، فقَالَ : دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ ، قَالَتْ : حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي ، قَالَ : وَمَا حُكْمُكِ ؟ قَالَتْ : أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا ، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2035 )
تنقلب : ترجع إلى بيتها -يقلب : يردها إلى منزلها
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 83) (6203) صحيح(1/366)
مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ ، فَقَالَتْ : أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ ، فَأَنْضَبُوهُ ، فَقَالَتْ : احْتَفِرُوا ، فَاحْتَفَرُوا ، فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ ، وَإِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ." (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِدٌ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مَعَ أُنَاسٍ ، فَقَالُوا : إِنْ شِئْتَ أَنْ تَبْصُرَ رِجَالَنَا وَنَذْهَبُ فَنَكْفِيَكَ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَذْهَبَ ، فَذَهَبَ هُوَ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَوْعِدِي ، فَقَالَ : نَعَمْ ، سَلْ مَا شِئْتَ ، فَسَأَلَهُ غَنَمًا وَإِبِلا ، فَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَهُ ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا ضَرَّ هَذَا لَوْ قَالَ ، كَمَا قَالَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، قَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى قَبْرِ أَخِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ؟ قَالُوا : مَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بِذَلِكَ إِلا قِلابَةُ لِلْعَجُوزِ ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ أَخِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَتْ : لا أَدُلُّكَ إِلا أَنْ تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : وَمَا تَسْأَلُنِي ؟ قَالَتْ : أَسْأَلُكَ أَنْ أَكُونَ رَفِيقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : وَمَا ضَرَّنِي أَنْ يَجْعَلَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعِي حَيْثُمَا كُنْتُ ، مَا ضَرَّ هَذَا لَوْ قَالَ مِثْلَمَا قَالَتِ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (2)
وعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ - أَوْ قَالَ : صَفْرَاءُ - فَقَالَ : " ابْنَ عَمِّي ، خُذْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَاشْدُدْ بِهَا رَأْسِي " . فَشَدَّدْتُ بِهَا رَأْسَهُ . قَالَ : ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ مِنِّي خَفُوفٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ ، فَمَنْ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ ، أَوْ مِنْ شَعْرِهِ ،أَوْ مِنْ بَشَرِهِ ،أَوْ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا ، هَذَا عِرْضُ مُحَمَّدٍ وَشَعْرُهُ ، وَبَشَرُهُ ، وَمَالُهُ فَلْيَقُمْ فَلْيَقْتَصَّ ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَتَخَوَّفُ مِنْ مُحَمَّدٍ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ ، أَلَا وَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ طَبِيعَتِي وَلَيْسَا مِنْ خُلُقِي " . قَالَ : ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَيْتُهُ ، فَقَالَ : " ابْنَ عَمِّي ، لَا أَحْسَبُ مَقَامِي بِالْأَمْسِ أَجْزَى عَنِّي ، خُذْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَاشْدُدْ بِهَا رَأْسِي " . قَالَ : فَشَدَّدْتُ بِهَا رَأْسَهُ قَالَ : ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ بِالْأَمْسِ ، ثُمَّ قَالَ : " فَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيْنَا مَنِ اقْتَصَّ " . قَالَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 500) (723) صحيح
(2) - الآحاد والمثاني - (1 / 345)(433) صحيح(1/367)
: فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ يَوْمَ أَتَاكَ السَّائِلُ فَسَأَلَكَ ، فَقُلْتَ : " مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ يُقْرِضُنَا ؟ " فَأَقْرَضْتُكَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قَالَ : فَقَالَ : " يَا فَضْلُ ، أَعْطِهِ " قَالَ : فَأَعْطَيْتُهُ قَالَ : ثُمَّ قَالَ : " وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَسْأَلْنَا نَدْعُ لَهُ " . قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي رَجُلٌ جَبَانٌ كَثِيرُ النَّوْمِ قَالَ : فَدَعَا لَهُ ، قَالَ الْفَضْلُ : فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَشْجَعَنَا وَأَقَلَّنَا نَوْمًا قَالَ : ثُمَّ أَتَى بَيْتَ عَائِشَةَ فَقَالَ لِلنِّسَاءِ مِثْلَ مَا قَالَ لِلرِّجَالِ ، ثُمَّ قَالَ : " وَمَنْ غُلِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَسْأَلْنَا نَدَعُ لَهُ " . قَالَ : فَأَوْمَأَتِ امْرَأَةٌ إِلَى لِسَانِهَا قَالَ : فَدَعَا لَهَا قَالَ : فَلَرُبَّمَا قَالَتْ لِي : يَا عَائِشَةُ،أَحْسِنِي صَلَاتَكِ " (1)
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ ، قَالَ ذَهَبْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي إِلَى عَائِشَةَ فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا ، فَأَلْقَتْ لَنَا وَسَادَةً ، وَجَذَبَتْ إِلَيْهَا الْحِجَابَ ، فَقَالَ صَاحِبِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولِينَ فِي الْعِرَاكِ ؟ قَالَتْ : وَمَا الْعِرَاكُ ، وَضَرَبْتُ مَنْكِبَ صَاحِبِي ، فَقَالَتْ : مَهْ آذَيْتَ أَخَاكَ ؟ ثُمَّ قَالَتْ : مَا الْعِرَاكُ : الْمَحِيضُ ، قُولُوا : مَا قَالَ اللَّهُ : الْمَحِيضُ ، ثُمَّ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَشَّحُنِي ، وَيَنَالُ مِنْ رَأْسِي ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ ، وَأَنَا حَائِضٌ ، ثُمَّ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَرَّ بِبَابِي مِمَّا يُلْقِي الْكَلِمَةَ يَنْفَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، ثُمَّ مَرَّ أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثًا ، قُلْتُ : يَا جَارِيَةُ ضَعِي لِي وِسَادَةً عَلَى الْبَابِ ، وَعَصَبْتُ رَأْسِي فَمَرَّ بِي ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ مَا شَأْنُكِ ؟ فَقُلْتُ : أَشْتَكِي رَأْسِي فَقَالَ : أَنَا وَارَأْسَاهْ ، فَذَهَبَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى جِيءَ بِهِ مَحْمُولاً فِي كِسَاءٍ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ ، وَبَعَثَ إِلَى النِّسَاءِ ، فَقَالَ : إِنِّي قَدْ اشْتَكَيْتُ ، وَإِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدُورَ بَيْنَكُنَّ ، فَائِذَنْ لِي فَلأَكُنْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَكُنْتُ أُوَضِّئُهُ ، وَلَمْ أَكُنْ أُوَضِّئُ أَحَدًا قَبْلَهُ ، فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مَنْكِبَيَّ إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً ، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ ، فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ نَحْرِي ، فَاقْشَعَرَّ لَهَا جِلْدِي ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَسَجَّيْتُهُ ثَوْبًا ، فَجَاءَ عُمَرُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَاسْتَأْذَنَا ، فَأَذِنْتُ لَهُمَا ، وَجَذَبْتُ إِلَيَّ الْحِجَابَ ، فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاغَشْيَاهْ مَا أَشَدُّ غَشْيَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَامَا ، فَلَمَّا دَنَوَا مِنَ الْبَابِ قَالَ الْمُغِيرَةُ : يَا عُمَرُ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : كَذَبْتَ بَلْ أَنْتَ
__________
(1) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (6675 ) صحيح(1/368)
رَجُلٌ تَحُوسُكَ فِتْنَةٌ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَفَعْتُ الْحِجَابَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ ، وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَانَبِيَّاهْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَاصَفِيَّاهْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ ، وَقَالَ : وَاخَلِيلاَهْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَعُمَرُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ ، وَيَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ مَاتَ ، أَوْ قُتِلَ ، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ ، فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَوَإِنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّهَا فِي كِتَابِ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ذُو شَيْبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعُوهُ." (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَائِرًا لِسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ , وَمَنْزِلُهُ بِالْأَسْوَاقِ فَبَسَطَتِ امْرَأَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ صَورٍ مِنْ نَخْلِ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ أَبُو بَكْرٍ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " فَطَلَعَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ عَلِيًّا " . ثُمَّ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنْ تَحْتِ الصَّوْرِ يَنْظُرُ طُلُوعَ عَلِيٍّ فَطَلَعَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ " قَالَ جَابِرٌ : فَهَنَّأْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ قَالَ : وَذَبَحَتْ لَنَا امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ شَاةً فَصَنَعَتْ طَعَامًا , ثُمَّ قَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا مَعَهُ , وَلَمْ يَتَوَضَّأْ , وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنَّا أَحَدٌ . قَالَ جَابِرٌ : فَرَدَّتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الطَّعَامَ ؛ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَكَلْنَا مَعَهُ ثُمَّ حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنَّا أَحَدٌ " (2)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 427)(25841) 26365- حسن
(2) - مُسْنَدُ الشَّامِيِّينَ لِلطَّبَرَانِيِّ (635 ) حسن(1/369)
الخلاصة :
(1) على المعلم أن ينتهز جميع المناسبات ليعلم طلابه .
(2) التعليم المناسب لظروفه أدعى للقبول والفهم والتطبيق.
(3) الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان ينتهز جميع الفرص والمناسبات لتعليم أصحابه .
(4) ليس من الحكمة الحديث عن موضوع يعارض المناسبة العامة،كمن يحث على الزواج في مناسبة الموت،وكمن يتحدث عن الموت ليلة الزفاف .
ــــــــ
32-القراءة على العالم :
القراءة على العلم والشيخ تعتبر من أهم الطرق العلمية للحفظ والفهم،لأن الطالب لا يمكن أن يشرد ذهنه في هذه الحال،فهو يقرأ والكل يسمع،وقد اعتبرها المحدثون أعلى درجات الضبط،وحُقَّ لهم ذلك
والمعنى أن الطالب يقرأ في الكتاب الذي ألفه العالم،والباقي يسمعون، والشيخ يصحح له أو زملاؤه إن قدروا على ذلك، والشيخ يعلق ويعقب ويشرح ويملي عليهم،وهم يكتبون ذلك،وربما كتب ذلك على السبورة وهو الأفضل .
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ،وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ،حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ،فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. (1)
قال ابن عثيمين : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه جبريل في رمضان كل ليلة يدارسه القرآن من أجل أن يثبته في قلبه وأن يحصل الثواب بالمدارسة بينه وبين جبريل وجبريل عليه السلام ينزل لكن على كيفية لا نعلمها لأنه ملك من الملائكة والملائكة لا يرون إلا إذا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 927) (3539) صحيح(1/370)
شاء الله عز وجل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة أي أنه يسارع إلى الخير - صلى الله عليه وسلم - ويجود به حتى إنه أسرع من الريح المرسلة يعني التي أرسلها الله عز وجل فهي سريعة عاصفة ومع ذلك فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من هذه الريح في رمضان ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ لِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اقْرَأْ عَلَىَّ » .قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ « فَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى » . فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} (41) سورة النساء قَالَ « أَمْسِكْ » . فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (2) .
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِىِّ قَالَ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِى الْقُرْآنَ فِى السُّدَّةِ فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِى الطَّرِيقِ قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِى الأَرْضِ قَالَ « الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ». قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « الْمَسْجِدُ الأَقْصَى ». قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ « أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ » (3) .
وقد يكون بالعكس فالعالم يقرأ على المتعلم،فعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَىٍّ « إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ » . قَالَ أُبَىٌّ آللَّهُ سَمَّانِى لَكَ قَالَ « اللَّهُ سَمَّاكَ لِى » . فَجَعَلَ أُبَىٌّ يَبْكِى . قَالَ قَتَادَةُ فَأُنْبِئْتُ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (1) سورة البينة.. (4)
الخلاصة :
(1) القراءة على الشيخ من أقوى طرق الحفظ
(2)
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (4 / 370)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4582 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1903 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1190 )
السدة : الظلال المسقفة عند باب المسجد وحوله وأصله الباب والظلة تجعل فوقه
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (4960 )(1/371)
اعتنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح بهذه الطريقة اعتناء فائقاً .
(3) قد يقرأ الشيخ على تلميذه من أجل شد انتباهه،ومراجعة معلوماته .
ــــــــ
33 -ترك الجدال والتنازع الذي يؤدي إلى نسيان المعلم بعض أفكاره:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،أَنَّهُ قَالَ : خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ،فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،فَقَالَ : خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ،فَرُفِعَتْ،وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ،فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ. (1)
تلاحى : تنازع وتخاصم .
فجدال الصحابة رضي الله عنهم حول ليلة القدر أنسى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يريد إخبارهم به حولها .
وهكذا أي تنازع وخصام أثناء درس العلم يؤدي لضياعه،وعدم تركيز المعلم .
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَابِ الْبَيْتِ وَهُوَ يُرِيدُ الْحُجْرَةَ،فَسَمِعَ قَوْمًا يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ،وَهُمْ يَقُولُونَ : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ : فَفَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَابَ الْحُجْرَةِ،فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ،فَقَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَوْ بِهِذَا عَنِيتُمْ ؟ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِأَشْبَاهِ هَذَا،ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ،أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَمْرٍ فَاتَّبِعُوهُ،وَنَهَاكُمْ فَانْتَهُوا،قَالَ : فَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ حَتَّى جَاءَ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ فَأَخَذَهُ الْحَجَّاجُ فَقَتَلَهُ " (2)
الخلاصة :
(1) النهي عن الجدال والنزاع في درس العلم .
(2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 435) (3679) وصحيح البخارى- المكنز - (2023 )
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي مشكل - (3 / 177)( 3121) صحيح(1/372)
الجدال والنزاع يؤدي إلى نسيان الكثير مما يريد أن يعطيه المعلم .
(3) إذا أشكل شيء على المتعلمين فعليهم بسؤال معلمهم.
ــــــــ
34- النهي عن كثرة الأسئلة على المعلم :
عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْتُ لأَبِى ذَرٍّ سَأَلْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ : أَنَا كُنْتَ أَسْأَلَ عَنْهَا يَعْنِى أَشَدَّ النَّاسِ مَسْأَلَةً عَنْهَا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِى رَمَضَانَ يَعْنِى أَوْ فِى غَيْرِهِ؟ قَالَ :« لاَ بَلْ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ ». فَقُلْتُ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَتَكُونُ مَعَ الأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضَتِ الأَنْبِيَاءُ وَرُفِعُوا رُفِعَتْ مَعَهُمْ أَوْ هِىَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ :« لاَ بَلْ هِىَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ». قَالَ قُلْتُ : فَأَخْبِرْنِى فِى أَىِّ شَهْرِ رَمَضَانَ هِىَ؟ قَالَ :« الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَالْعَشْرِ الأُوَلِ ». ثُمَّ حَدَّثَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِى فِى أَىِّ عَشْرٍ هِىَ؟ قَالَ :« الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ،وَلاَ تَسْأَلْنِى عَنْ شَىْءٍ بَعْدَ هَذَا ». ثُمَّ حَدَّثَ وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّى عَلَيْكَ لَتُحَدِّثَنِّى فِى أَىِّ الْعَشْرِ هِىَ؟ فَغَضِبَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَضَبًا مَا غَضِبَ عَلَىَّ مِنْ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ،ثُمَّ قَالَ :« الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ الأَوَاخِرِ وَلاَ تَسْأَلْنِى عَنْ شَىْءٍ بَعْدُ » (1) .
وعَنِ أَبِي مَرْثَدٍ: جَلَسْتُ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى،فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى كَادَتْ رُكْبَتِي تَمَسُّ رُكْبَتَيْهِ،فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ،فَقَالَ : أَنَا كُنْتُ أَسْأَلَ النَّاسِ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَكُونُ فِي زَمَانِ الأَنْبِيَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ،فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ ؟ فَقَالَ : بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،فَأَخْبِرْنِي فِي أَيِّ الشَّهْرِ هِيَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَذِنَ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي إِحْدَى السُّبُعَيْنِ،وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْهَا بَعْدَ مَرَّتِكَ هَذِهِ،قَالَ : وَأَقْبَلَ عَلَى
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (4 / 307) (8788) صحيح(1/373)
أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ،فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَطْلَقَ بِهِ الْحَدِيثُ،فَقُلْتُ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ لَتُخْبِرَنِّي فِي أَيِّ السُّبُعَيْنِ هِيَ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ مِثْلَهُ ،وَقَالَ : لاَ أُمَّ لَكَ،هِيَ تَكُونُ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ. (1)
الخلاصة :
(1) كثرة الأسئلة على المعلم قد توقعه في الحرج والإرباك .
(2) لا يجوز الإكثار من الأسئلة على المعلم إذا كان غير مهيأ لها .
(3) ينبغي على العالم تعويد طلابه على كيفية الأسئلة وعلى وقتها،إلا إذا طلب منهم أن يسألوه .
ــــــــ
35-حَضُّه - صلى الله عليه وسلم - على محوِ العاميّة وتحذيرُه من الفتور في التعليم والتعلُّم :
ولا غرابة أن يَتخرَّجَ على يديه - صلى الله عليه وسلم - هذا العددُ الجمُّ الغفيرُ من الناس،في فترة وجيزةٍ من الزمن،فإنه قد سَلَك بهم - صلى الله عليه وسلم - مسلكَ التعليم الجَماعي المستَنْفَر،ودَفَعَهُم إلى محْوِ العاميّةِ دَفْعاً،وحَضَّهم على ذلك ونَدَبَهم إليه،وحذَّرهم من الفُتور فيه تحذيراً شديداً
ولذلك أقبل أولئك الناس يَتلقَّون العلم،ويتفقَّهون في الدين،ويُعلِّم بعضهم بعضاً،ويتعلَّم بعضهم من بعض،حتى أزالوا العاميّة عنهم في وقتٍ قصير عاجل .
فعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَأَثْنَى عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا،ثُمَّ قَالَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ (2) ، وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ،وَلَا يَعِظُونَهُمْ،وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ،وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ . وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 439) (3683) صحيح
(2) 3 أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ...) ، إلى عِظَم حقهم على إخوانهم العالمين ، وجيرانهم العارفين ، وذلك لحق أُخوّة الإسلام بينهم ، ولحقّ الجِوار معها أيضاً . وحقُّ الجوار في الإسلام كاد يكون بمنزلة حق الرحم الموجِب للميراث : ففي صحيح البخارى- المكنز - (6015 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ » . فقد نبَّه عليه الصلاة والسلام بهذا على أن الجار قارَبَ أن يكون وارثاً من مال جاره ، بسبب الجوار ، وهو قُربُ الدار .
وللجوار مراتب : منها المُلاصَقة ، ومنها المخالَطة ، بأن يَجمعهما مسجدٌ أو مدرسة أو محلة أو سوق أو نحوُ ذلك ، والميراث قسمان : حِسّي ومعنوي ، فالحسّي هو المال ، والمعنوي هو العلم ، فإن حقَّ الجار على جاره تعليمُه ما يجب وما ينفع ، وأنفَعُ ما ينفع هو العلم ، فهو من آكد حقوق الجار على الجار ، صلواتُ الله وسلامُه على معلِّم الناس الخيرَ ، وهادي البشر جميعاً .(1/374)
لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ،وَلَا يَتَفَقَّهُونَ،وَلَا يَتَّعِظُونَ . وَاللَّهُ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ،وَيُفَقِّهُونَهُمْ وَيَعِظُونَهُمْ،وَيَأْمُرُونَهُمْ،وَيَنْهَوْنَهُمْ،وَلْيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ،وَيَتَفَقَّهُونَ،وَيَتَفَطَّنُونَ،أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ "،ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ قَوْمٌ : مَنْ تَرَوْنَهُ عَنَى بِهَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الْأَشْعَرِيِّينَ،هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ،وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ،فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيِّينَ،فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ،ذَكَرْتَ قَوْمًا بِخَيْرٍ،وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ،فَمَا بَالُنَا ؟ فَقَالَ : " لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ،وَلَيُفَقِّهَنَّهُمْ،وَلَيُفَطِّنَنَّهُمْ،وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ،وَلَيَنْهَوْنَهُمْ،وَلَيَتَعَلَّمْنَ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ،وَيَتَفَطَّنُونَ،وَيَتَفَقَّهُونَ،أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا "،فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ،وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ : أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا،فَقَالُوا : أَمْهِلْنَا سَنَةً،فَأَمْهَلَهُمْ سَنَةً لِيُفَقِّهُونَهُمْ،وَيُعَلِّمُونَهُمْ،وَيُفَطِّنُونَهُمْ،ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الْآيَةَ { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) } سورة المائدة." رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1)
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (1118 ) ومجمع الزوائد -( بَابٌ فِي تَعْلِيمِ مَنْ لَا يَعْلَمُ )( 748 ) حسن
وهذا الذي جَزَم به الحافظ المنذري في ((الترغيب والترهيب)) فإنه أورده فيه بلفظ ((عن علقمة ...)) .واصطلاحُه في هذا التعبير كما أفصَحَ عنه في أول كتابه ص 3 بقوله : ((فإذا كان إسنادُ الحديث صحيحاً أو حسناً أو ما قاربهما : صدَّرتُه بلفظة (عن) . وإذا كان في الإسناد من قيل فيه : كذّاب ... أو ضعيفٌ فقط ، أو لم أر فيه توثيقاً بحيث لا يَتطرَّقُ إليه احتمال التحسين : صدَّرتُه بلفظة (رُوي) . ولا أذكر ما قيل في ذلك الراوي البتة . فيكون للإسناد الضعيف دلالتان : تصديره بلفظة (رُوي) ، و: إهمال الكلام عليه في آخره)) .
فالحديث حسنٌ أو يُقارِبُه عند الحافظ المنذري . والحمد لله رب العالمين(1/375)
وقال الشيخ العلامة الجليل مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى في كتابه العظيم ((المدخل الفقهي العام)) (1) ،تعليقاً على هذا الحديث الشريف ما يلي : ((إنّ هذا الموقف العظيم في اعتبار التقصير في التعليم والتعلُّم جريمةً اجتماعية،يستحق مرتكبُها العقوبة الدنيوية : موقفٌ لم يَرْوِ التاريخ له مثيلاً في تقديس العلم،قبلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده
ويدخل في ارتكاب المنكَر و استحقاقِ العقوبةِ التعزيريةِ عليه : إهمالُ الواجبات الدينية،ومن جملتِها : التعليمُ والتعلُّم . فإذا قصَّر العالم في واجب التعليم،أو قصَّر الجاهل في تعلُّم القدر الواجب شرعاً من العلم : استحقّا عقوبة التعزير على التقصير،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. (2) ولفظُ (اللمسلم) هنا : يَشمَلُ الرجلَ والمرأة،لأن الحكمَ مَنُوط بصفةٍ مشتركةٍ هي الإسلام)) . انتهى كلامُ العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله .
وأُضيفُ إليه فيما يتعلَّق بحديث ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) : أنه لما ناط النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرْضَ طلبِ العلم باتصافِ المرء بالإسلام رجلاً كان أو امرأة ،كان في ذلك تنبيهٌ منه - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ كل من انتَسَب إلى الإسلام لزِمَه طلبُ العلم وتحصيلُه،إذ لا جَهْلَ في شِرْعَةِ الإسلام الذي أوَّلُ كلمةٍ من كتابه نزلت تقول : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق : 1 - 5]) .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ،منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه .. إنها ليست الأرض وليس الهوى .. إنما هي السماء والوحي الإلهي.
__________
(1) - 2 : 641 من الطبعة السابعة ، في الفقرة 335 .
(2) - الفوائد لتمام ( 51-56) من طرق متعددة وهو صحيح لغيره(1/376)
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة .. في كنف اللّه ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى اللّه مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين اللّه.
ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب .. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من اللّه وحي يحدثهم بما في نفوسهم،ويفصل في مشكلاتهم،ويقول لهم : خذوا هذا ودعوا ذاك! ولقد كانت فترة عجيبة حقا. فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية،التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى. فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها. وأحسوها. وشهدوا بدأها ونهايتها.
وذاقوا حلاوة هذا الاتصال. وأحسوا يد اللّه تنقل خطاهم في الطريق. ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا ..
وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض. مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر،ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء. بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي. بين الجاهلية والإسلام. بين البشرية والربانية،وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام! وكانوا يعرفون مذاقها. ويدركون حلاوتها. ويشعرون بقيمتها،ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى،وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا.
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالاَ لَهَا مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَتْ مَا أَبْكِى أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنْ أَبْكِى أَنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا.... (أخرجه مسلم) ... (1)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6472 )(1/377)
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة،وإلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض،واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط،وكما لم يتحول من بعد أيضا. وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق. وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان،ولا تطمسها الأحداث. وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة،ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا،مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية. ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض! وتبينت خطوطه ومعالمه. «ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة» .. لا غموض ولا إبهام. إنما هو الضلال عن علم،والانحراف عن عمد،والالتواء عن قصد! إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد.
والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به،وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان ... (1)
قلت : ومما يدل على وجوب نشر العلم بين المسلمين،الأحاديث التالية،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً،وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ،وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ." (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن موافقا للمطبوع - (6 / 3937)
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 149)(6256) وصحيح البخارى- المكنز - (3461 )
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ : بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً أَمْرٌ قَصَدَ بِهِ الصَّحَابَةَ ، وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْخَطَّابِ مَنْ كَانَ بِوَصْفِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تَبْلِيغِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُ (، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ الْبَعْضُ بِتَبْلِيغِهِ سَقَطَ عَنِ الآخَرِينَ فَرْضُهُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فَرْضِيَّتَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ عَنْ بَثِّهِ ، خَانَ الْمُسْلِمِينَ ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ.(1/378)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ( : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ،فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ. " (1)
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ،قَالَ « أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَقَالَ « أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِى شَهْرِكُمْ هَذَا،فِى بَلَدِكُمْ هَذَا،إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ . أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « اللَّهُمَّ اشْهَدْ،فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ،فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ،فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » . (2)
الخلاصة :
(1) الإسلام أول دين يدعو لطلب العلم
(2) طلب العلم فريضة على كل مسلم
(3) الجهل والأمية ليست من صفات المسلمين
(4) واجب على من تعلم علماً أن يعلمه لمن يجهله ويستحقه .
ــــــــ
36-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسيرة الحسنة والخلق العظيم:
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 268) (66) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1741 )(1/379)
كان من أهم وأعظم وأبرز أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم العملُ والتخلُّق بالسيرةِ الحَسَنة والخلقِ العظيم،فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَر بشيء عَمِل به أولاً ثم تأسّى به الناس وعمِلوا كما رأَوْه،وكان خلُقُه القرآن،فكان على الخُلُق العظيم،وجَعَله الله تعالى أسوة حسنةً لعبادِه،فقال عَزَّ من قائل : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب.
فهو - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ لأمتِه في أخلاقِه وأفعالِه وأحوالِه .
ولا ريب أن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل أقوى وأوقعُ في النفس،وأعونُ على الفهم والحفظِ،وأدْعى إلى الاقتداء والتأسّي،من التعليمِ بالقولِ والبَيان،وأن التعليمَ بالفعلِ والعَمَل هو الأسلوبُ الفطري للتعليم،فكان ذلك أبرزَ وأعظمَ أساليبه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم .
قال العلامة الحَجْوي: ((ومن شواهد أن البيانَ بالفعل أقوى من البيان بالقول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تَمَّ الصُلحُ بينه وبين كفارِ قُريش في الحُدَيْبيّة ، أَمَر أصحابه أن يَتحلّوا من إحرامهم ، ويَنْحُروا هَدْيَهم ، فقال لهم : ((قوموا فانحَروا ، ثم احلِقوا)) ، فَتَوانَوا في ذلك إذ لم يَستَحْسِنوا الصلحَ ورأو القتال أفضل . فدخَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على زوجِه أمِّ سَلَمة رضي الله عنها واخبرَها بتَخلُّفِ الناس عن أمرِهِ ، فأشارَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَحلق رأسَه ، ويَنْحَر هَدْيَه ، فإنهم لا محالةَ يقتدون به ، ففَعَلَ ، فلما رأوا ذلك قاموا فَنَحروا ، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتُلُ بعضاً غَماً .
وهذا من كمالِ عقلِ السيدةِ أم سلمة رضي الله عنها ، إذ فهِمتْ أنهم استَصعَبوا التحلُّلَ من النسك قبل استيفاء المناسك ، وأن البيان بالفعل أقوى من القول ، فكان الأمر كما فَهِمتْ رضي الله عنها)) . انتهى بزيادة يسيرةٍ (1) .
جاء في ((الإصابة في تمييز الصحابة)) للحافظ ابن حجر (2) في ترجمة الصحابي الجليل (الجُلَنْدى مَلِك عُمان) : ((ذَكرَ وَثيمَةُ في كتاب (الرِّدّة) عن ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - ((الفِكْر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي)) 1 :154
(2) - الإصابة في معرفة الصحابة - (1 / 179)(1/380)
بَعَث إليه عَمْرو بنَ العاص يَدعوه إلى الإسلام،فقال : ((لقد دَلَّني على هذا النبي الأمي : أنه لا يأمُرُ بخيرٍ إلاّ كان أولَ آخِذٍ به،ولا يَنْهى عن شرٍّ إلاّ كان أولَ تاركٍ له،وأنه يَغلِبُ فلا يَبْطَر،ويُغْلَبُ فلا يُهْجِرُ أي لا يقولُ القبيحَ من الكلام (1) ، وأنه يَفي بالعهد،ويُنجِزُ الوعدَ،وأشهَدُ أنه نبي)) . انتهى .
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الاعتصام): "وَلَمَّا اسْتَنَارَ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ بِنُورِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا ، صَارَ هُوَ الْهَادِيَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرْشِدَ الْأَعْظَمَ ، حَيْثُ خَصَّهُ اللَّهُ دُونَ الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ ذَلِكَ النُّورِ عَلَيْهِ ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مِثْلُهُ فِي الْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ اصْطِفَاءً أَوَّلِيًّا ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَشَرًا عَاقِلًا - مَثَلًا - لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ - مَثَلًا - دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ قُرَشِيٍّ ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَلَا لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي اسْتَنَارَ بِهِ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ فَصَارَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ، حَتَّى نَزَلَ فِيهِ : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وَإِنَّمَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ حَكَّمَ الْوَحْيَ عَلَى نَفْسِهِ . حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ . فَكَانَ الْوَحْيُ حَاكِمًا وَافِقًا قَائِلًا، وَكَانَ هُوَ - صلى الله عليه وسلم - مُذْعِنًا مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ . إِذْ قَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ مُؤْتَمَرٌ . وَبِالنَّهْيِ وَهُوَ مُنْتَهٍ . وَبِالْوَعْظِ وَهُوَ مُتَّعِظٌ وَبِالتَّخْوِيفِ وَهُوَ أَوَّلُ الْخَائِفِينَ . وَبِالتَّرْجِيَةِ وَهُوَ سَائِقٌ دَابَّةَ الرَّاجِينَ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَعْلُهُ الشَّرِيعَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَدَلَالَةً لَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَلِذَلِكَ صَارَ عَبْدَ اللَّهِ حَقًّا . وَهُوَ أَشْرَفُ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْعِبَادُ . فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (1) سورة
__________
(1) - ويمكن أن تقرأ : (ويُغلَبُ فلا يُهجَرُ) ، لتآخي السجعتين وزناً أي لا يُهْجَرُ من أصحابه ليقينهم بصدقِ نُبُوَّتِهِ وأنه بَشَرٌ سَوِيّ .(1/381)
الفرقان، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (23) سورة البقرة، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي وَقَعَ مَدْحُهُ فِيهَا بِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّونَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ ، وَشَرَفُهُمْ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا ، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَقَطْ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَثْبَتَ الشَّرَفَ لَا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات، فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعِهَا ، فَالشَّرَفُ إِذًا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَحْكِيمِ الشَّرِيعَةِ . تَفْضِيلُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ" (1)
وإذْ كان هذا الأسلوب أبرز أساليبِه - صلى الله عليه وسلم - وأكثرَها استعمالاً في تعليماتِه،فأكتفي هنا بذكر نماذجَ من تعليماتِه - صلى الله عليه وسلم - التي تَدخُل في هذا الأسلوب،إذ لا سبيلَ إلى استقصائها (2) :
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ فِي مَسْجِدِهِ ، وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ ، فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، تُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا رِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ ؟ فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي : أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ أَحْمَقُ مِثْلُكَ فَيَرَانِي كَيْفَ أَصْنَعُ ، فَيَصْنَعُ بِمِثْلِهِ ، أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِنَا هَذَا ، وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ (3) ، فَرَأَى نُخَامَةً (4) فِي
__________
(1) - الاعتصام للشاطبي - (2 / 854) ط دار ابن عفان
(2) - قد ذكرنا بعضها من قبل
(3) ابنُ طاب : رجل من أهل المدينة ، ينسب إليه نوعٌ من تمرها . ومن عادتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كلَّ لون إلى نسبة . والعُرجون هو العود الأصفر العريض الخالي من الرُّطَب إذا يَبِسَ واعوج . وسُمي (عُرْجوناُ) لانعراجه وانعطافه . أي كان بيده - صلى الله عليه وسلم - عود من شجر ذلك التمر .
(4) - النخامة هي : البزْقة تخرجُ من أقصى الحَلْق ، وهي البلغم .(1/382)
قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ قَالَ : فَخَشَعْنَا (1) ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ فَقُلْنَا : لاَ أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ (2) ، قَالَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ (3) ، فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى (4) ، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا (5) - وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ - أَرُونِي عَبِيرًا (6) ، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ (7) ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتَيْهِ ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ ، وَلَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ (8) قَالَ جَابِرٌ : فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ." (9)
في هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية :
__________
(1) - يعني : أطرقنا برؤوسنا وأبصارنا إلى الأرض .
(2) - يعني : لا أحَدٌ منا يحب ذلك يا رسول الله .
(3) - هذا من التعبير المجازي ، كما يقال : (بيت الله) و(كعبة الله) . والمراد : أن القبلة التي أمَرَ الله المصليَ بالتوجه إليها للصلاة : قِبَلَ وجهه ، فليَصُنها عن النخامة . وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى ، على سبيل التكريم والتعظيم ، مثل قوله : (ناقَةَ الله وسُقْياها) .
(4) - إنما يسوغ هذا الفعل في أثناء الصلاة ، وفي داخل المسجد ، إذا اضطرَّ إليه المصلي ، وكانت أرض المسجد تراباً أو رملاً أو حصى أو نحو ذلك ، كما كانت المساجد في العهد النبوي . أما إذا كان المسجد مبلَّطاً أو مجصَّصاً أو مفروشاً بشيء ، كما هي حالُ المساجد اليوم ، فيتعيَّن على المصلي البُصاق في ثوبه إذا احتاج إليه ، إذْ تجب صيانة المسجد عن كل مستقذَرٍ أو مكروهٍ أو مُذهِبٍ للنظافة . ورحم الله الإمام البخاري ورَضِيَ عنه ، ما أجلَّ ورعَه وأشدَّ رعايتَه للمسجد ، حكى الحافظ ابن حجر في ((هَدْي الساري مقدمة فتح الباري)) 2 :196 ، في خلال ترجمة الإمام البخاري ، قال رحمه الله تعالى : ((قال محمد بن منصور : كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفَعَ إنسانٌ قَذاةً من لحيته وطَرَحها إلى الأرض . فرأيتُ البخاري ينظر إليها وإلى الناس ، فلما غفل الناس، رأيتُه مدَّ يدَه فرفع القذاة من الأرض فأدخلها كُمَّه ، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض)) .انتهى .
فقد صان الإمام البخاري أرضَ المسجد عما تُصانُ عنه لِحيتُه ، إنها بصيرةُ العلم والعمل ، (فبهُداهُمْ اقْتَدِهْ) .
(5) أي فليفعل بثوبه هكذا ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(6) أي هاتوا لي عبيراً . والعَبير مثلُه الخَلوقُ الآتي ذكره بعد قليل أنواعٌ من الطيب تُجمع وتُخلط بالزعفران .
(7) أي يسعى ويعدو عدواً شديداً .
(8) أي على رأس العود الذي كان بيده - صلى الله عليه وسلم - .
(9) - صحيح ابن حبان - (6 / 42)(2265) وصحيح مسلم- المكنز - (7705 )(1/383)
إعادةُ الكلمة ثلاثاً ، لتَبْلُغَ من نفوس المخاطبين كلَّ مبلغ .
وفيه : البيان بالفعل ، ليكون أوقع في نفس السامع ، وليكون أوضح دلالةً على ما يُرادُ تعليمُه .
وفيه : عِظَمُ تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ باشَرَ حكَّ النخامة بنفسه .
وفيه : تقبيحُ المنكر باللسان .
وفيه إزالة المنكر باليد لمن قَدَر عليه .
وفيه من الفقه والأحكام الشرعية الاجتماعية :
طلَبُ إزالة ما يُستقذَرُ أو يُتنزَّه عنه ، من المسجد .
وفيه : تعظيمُ المساجد وصيانتُها من كل ما يكدِّرُها من الأوساخ ونحوها .
وفيه : أن البزاق والمخاط والنخامة على تقزُّر النفوس منها طاهرة ، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تَفَل في ثوبه وأراهم كيف يفعل من بادَرَه وغلَبَه البصاق .
وفيه : أن البصاق في الصلاة لا يبطل الصلاة ، وكذا التنخُّم ، إن لم يتبين منه حَرْفانِ أو كان مغلوباً عليه .
وفيه : احترامُ جهة القِبلة وتعظيمها .
وفيه : أنه إذا بزَقَ يبزق عن يساره ، ولا يبزق أمامه للقبلة تشريفاً للقبلة ، ولا عن يمينه تشريفاً لليمين ولو كان خارج الصلاة، وإنما يبزق عن يساره ما لم يكن مانع ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ما بصقتُ عن يميني منذ أسلمت .
وفيه : أن التحسين أو التقبيح إنما هو بالشرع ، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار ، وإن اليد مفضلة على القدم ، وإن يوم الجمعة مفضل على سواه . وأخطأ أبو الطيب المتنبي إذ جعَلَ ذلك التفضيلَ من باب الجَدّ والحظّ ، لا من باب الشرع والنقل فقال :
هو الجَدُّ حتى تَفضُلُ العينُ أختَها وحتى يكونَ اليومُ لليومِ سيِّدا(1/384)
وفيه : الحثُّ على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً ، لكون النبي صلى اللهعليه وسلم هو سيد الأنبياء والمتقين باشر الحكَّ بنفسه صلوات الله وسلامه عليه .
وفيه : مشروعيةُ تطييب المساجد .
وفيه : تفقُّدُ الإمام الأعظم حالَ المساجد وتعهدُها . وهي حَرِيّةٌ بالتعهد والعنايةِ كلَّ العناية من إمام المسلمين ، لأنها مجامع المسلمين ، ومواطن عبادتهم ، ومدارس تعليمهم وثقافتهم ، ومنتداهم ومجلس شوراهم ، ومركز قيادتهم ، ومنطلق جيوشهم ، وموئل لقائهم ، ومتعلَّقُ قلوبهم وأفئدتهم ، وملتقى الوفود لديهم ... فما أحراها بالتفقد والاهتمام
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ ، فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ، فَقَالَ : صَلِّ مَعَنْا هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ ، صَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَمَرَ بِلاَلاً فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ ، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا (2) ، وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ ، وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، وَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ ، فَأَسْفَرَ بِهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ ؟ قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : وَقْتُ صَلاَتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ." (3)
قال الإمام النووي في: ((في هذا الحديث البيانُ بالفعلِ ، فإنه أبلَغُ في الإيضاحِ ، والفعلُ تَعُمُّ فائدتُه السائلَ وغيرَه ، وفيه تأخرُ البيان إلى وقت الحاجة ،وهو مذهبُ جُمهورِ الأصوليين)) (4) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ؟ (5) فَدَعَا بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ، ثُمَّ
__________
(1) أي لتَعرِف الوقتَ عَمَليّاً ، ويحصُلَ لك البيانُ بالفعل .
(2) أي فأطالَ الإبرادَ وأخّر الصلاة .
(3) - صحيح ابن حبان - (4 / 359)(1492) وصحيح مسلم- المكنز - (1422)
(4) -شرح صحيح مسلم5 :114
(5) - أي كيف الوضوء؟ .(1/385)
غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، فَأَدْخَلَ إَصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِى أُذُنَيْهِ ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ :« هَكَذَا الْوُضُوءُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ » (1) .
( فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ) : أَيْ عَلَى نَفْسه بِتَرْكِ مُتَابَعَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِمُخَالَفَتِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسه فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَة مِنْ غَيْر حُصُول ثَوَاب لَهُ أَوْ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَاء بِلَا فَائِدَة .
وَأَمَّا فِي النَّقْص فَأَسَاءَ الْأَدَب بِتَرْكِ السُّنَّة وَظَلَمَ نَفْسه بِنَقْصِ ثَوَابهَا بِتَزْدَادِ الْمَرَّات فِي الْوُضُوء .
وَاسْتُشْكِلَ بِالْإِسَاءَةِ وَالظُّلْم عَلَى مَنْ نَقَصَ عَنْ هَذَا الْعَدَد ، فَإِنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَمَرَّة مَرَّة .
وَأَجْمَعَ أَئِمَّةُ الْحَدِيث وَالْفِقْه عَلَى جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَى وَاحِدَة .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَمْر نِسْبِيّ وَالْإِسَاءَة تَتَعَلَّق بِالنَّقْصِ أَيْ أَسَاءَ مَنْ نَقَصَ عَنْ الثَّلَاث بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَعَلَهَا لَا حَقِيقَة الْإِسَاءَة وَالظُّلْم بِالزِّيَادَةِ عَنْ الثَّلَاث لِفِعْلِهِ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا .
قَالَ السُّيُوطِيُّ قَالَ اِبْن الْمَوَّاق : إِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظ شَكًّا مِنْ الرَّاوِي فَهُوَ مِنْ الْأَوْهَام الْبَيِّنَة الَّتِي لَا خَفَاء لَهَا ، إِذْ الْوُضُوء مَرَّة وَمَرَّتَيْنِ لَا خِلَاف فِي جَوَازه ، وَالْآثَار بِذَلِكَ صَحِيحَة ، وَالْوَهْم فِيهِ مِنْ أَبِي عَوَانَة ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الثِّقَات ، فَإِنَّ الْوَهْم لَا يَسْلَم مِنْهُ بَشَر إِلَّا مَنْ عُصِمَ ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أَحْمَد وَالنَّسَائِيِّ وَابْن مَاجَهْ وَكَذَا اِبْن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحه ، وَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَوْ نَقَصَ فَقَوِيَ بِذَلِكَ أَنَّهَا شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي أَوْ وَهْم .
قَالَ السُّيُوطِيُّ : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ نَقَصَ بَعْض الْأَعْضَاء فَلَمْ يَغْسِلهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، وَزَادَ أَعْضَاء أُخَر لَمْ يُشْرَع غَسْلهَا ، وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُر فِي مَسْح رَأْسه وَأُذُنَيْهِ تَثْلِيثًا .اِنْتَهَى . (2)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (1 / 79)(378) وسنن أبي داود - المكنز - (135) صحيح
(2) - عون المعبود - (1 / 150)(1/386)
وعَنْ حُمْرَانَ بْن أَبَانَ ، قَالَ : أَتَيْتُ عُثْمَانَ بِطَهُورٍ ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمقَاعِدِ ، فَتَوَضَّأَ ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ ، غُفِرَ لَهُ مَاتَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.قَالَ : وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَغْتَرُّوا." (1)
قال الحافظ ابنُ حجر : ((في الحديث التعليمُ بالفعلِ لكونه أبلَغَ وأضبطَ للمتعلِّم ، وقولُه - صلى الله عليه وسلم - (ولا تغتَرّوا) معناه : لا تَحمِلوا الغفرانَ على عمومِه في الذنوب ، فتَستَرسِلوا في الذنوب اتكالاً على غفرانِها بالصلاة ، فإن الصلاةَ التي تُكفِّر الذنوبَ هي المقبولة ، ولا اطِّلاعَ لأحدٍ عليه . ثم المُكفَّرُ بالصلاة هي الصغائرُ فقط ، دون الكبائرِ وحقوقِ العباد)) (2) . انتهى ملخصاً بزيادة يسيرة
وقد صلّى مرّةً بالناس إماماً،وهو على المِنْبَر،لِيَرَوْا صَلاتَه لُّهم،ولِيَتَعلَّموها من أفعالِه ومُشاهَدَتِه - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ تَمَارَوْا فِى الْمِنْبَرِ مِنْ أَىِّ عُودٍ هُوَ فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَعْرِفُ مِنْ أَىِّ عُودٍ هُوَ وَمَنْ عَمِلَهُ وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ - قَالَ - فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ فَحَدِّثْنَا. قَالَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى امْرَأَةٍ قَالَ أَبُو حَازِمٍ إِنَّهُ لَيُسَمِّيهَا يَوْمَئِذٍ « انْظُرِى غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِى أَعْوَادًا أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا ». فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلاَثَ دَرَجَاتٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ فَهْىَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَيْهِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى (3) حَتَّى سَجَدَ فِى أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « يَا أُيُّهَا النَّاسُ إِنِّى صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِى (4) وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِى » (5) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6433)
(2) - ((فتح الباري)) 1 :228 و 11 :214
(3) القهقرى : المَشْيُ إلى خَلْف ، والحامِلُ على رُجوعِه القهقرى هو المحافظةُ على استقبال القِبلة .
(4) - أي لِتتعلَّموا صلاتي
(5) -صحيح البخارى- المكنز - (377 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1244 ) واللفظ له
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَنِى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، قَالَ فَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَعْلَى مِنَ النَّاسِ ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ أَعْلَى مِنَ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . قَالَ فَقُلْتُ إِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ هَذَا كَثِيرًا فَلَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ قَالَ لاَ ."(1/387)
قال الإمام النووي (1) : ((فبيَّن لهم - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صُعودَه المِنبر ، وصلاتَه عليه ، إنما كان للتعليم ، لِيرى جميعُهم أفعالَه - صلى الله عليه وسلم - ، بخلاف ما إذا كان على الأرض ، فإنه لا يَراه إلاّ بعضُهم ممن قَرُب منه)) .
وقال الحافظ ابن حجر (2) : ((وعُرِفَ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (أيها الناس إنما صَنعتُ هذا ، لِتأتَمّوا بي ، ولِتَعلَّموا صلاتي) ، أنَّ الحكمة في صلاته في أعلى المِنبر لِيراه من قد يَخفى عليه رُؤيتُه إذا صلى على الأرض .ويُستفادُ منه أن من فعلَ شيئاً يُخالِفُ العادة : ينبغي أن يُبيِّن حِكمتَه لأصحابه . وفيه جوازُ تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفِعل ، وجوازُ العَمَلِ اليسير في الصلاة ، وكذا الكثيرُ إن تَفرَّق . وفيه استحبابُ اتخاذِ المنبر لكونه أبلَغ في مشاهدةِ الخطيب والسماع منه)) . انتهى .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِغُلاَمٍ يَسْلُخُ شَاةً ، فَقَالَ لَهُ : تَنَحَّ حَتَّى أُرِيَكَ ، فَإِنِّي لاَ أَرَاكَ تُحْسِنُ تَسْلُخُ ، قَالَ : فَأَدْخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ ، فَدَحَسَ بِهَا حَتَّى تَوَارَتْ إِلَى الإِبْطِ (3) ، ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : هَكَذَا يَا غُلاَمُ فَاسْلُخْ ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَصَلَّى ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَلَمْ يَمَسَّ مَاءً." (4)
__________
(1) - في ((شرح صحيح مسلم)) 5 :75
(2) - في ((فتح الباري)) 2 :331
(3) -قوله : (فدَحَسَ بها أي بيده حتى توارت إلى الإبط) . الدَّحْسُ أن يُدخِلَ الرجلُ يدَهُ بين جِلْدِ الشاةِ وصِفاقِها ليَسلخَها . وجاء لفظُ (دَحَسَ) في شعرٍ عالٍ رفيع ، ومعنىً نبيل بديع ، أَحببت ذكره هنا استطراداً لبداعته وحصافتِه ، وصدقِهِ وبلاغته قاله الصحابيُّ الجليلُ العلاءُ بن الحَضرَمي من حضرموت فاتحُ البحرين وأميرُها ولاّه عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبقي عليها حتى توفي في خلافة عمر سنة 14 أو 21 رضي الله عنهما قال :
وحَيِّ ذَوي الأضغانِ تَسْبِ قُلوبَهم تحيَّةَ ذي الحُسنى فقد يُرقَعُ النَّقَلْ
فإنْ دَحَسوا بالشرِّ فاعْفُ تكرُّماً وإن كتموا عنك الحديثَ فلا تَسَلْ
فإنَّ الذي يُؤذيكَ منه سَماعُهُ وإنَّ الذي قالوا وراءَك لم يُقَلْ
قوله : (فقد يُرقَعُ النَّقَل) ، النَّقَلُ بفتح النون والقاف جميعاً : الخُفُّ الخَلَقُ ، والنَّعْلُ الخَلَق ، قال في ((القاموس)) في (نقل) : ((المَنْقَل كمَقْعَد : الخُفُّ الخَلَقُ ، وكذا النَّعلُ كالنَّقْل ، ويكسَرُ فيهما ، ويُحرَّك ، جمعُه أَنْقالٌ ونِقال ، والنَّقيلةُ رُقعةُ النَّعُلِ والخُفّ)) . انتهى .
فانظر إلى هذا الشعر البليغ والتوجيه الرفيع والمعنى البديع ، فهو يوصي مُخاطَبَه بان لا يُجافيَ ولا يقاطعَ الضاغنين عليه ، بل يُسلِّمُ عليهم ويُحيّيهم إذا لَقِيَهم ، فإنَّ العداوة والجفوة قد تزول ، وتعودُ المُواصلةُ والمداخلة ، وضَرَب لذلك مثلاً بالخُفِّ والنَّعْلِ الخَلَق ، فإنه يُترَكُ لتمزُّقِه ، ولكنه قد يُرقَعُ فيعودُ نافعاً جيداً كما كان قبلَ تمزُّقِه ، ثم استرسل في النصح المتمم للتعامل مع ذوي الأضغان ، فأحسن وأجاد . الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 61)
(4) -صحيح ابن حبان - (3 / 438)(1163) صحيح
ــــــــ(1/388)
37-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - الشرائعَ بالتدريج:
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُراعي التدريجَ في التعليم،فكان يقدِّمُ الأهمَّ فالأهمَّ،ويُعلِّمُ شيئاً فشيئاً نَجْماً نجماً،ليكون أقربَ تَناولاً،وأثبتَ على الفُؤاد حفظاً وفهماً .
عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ (1) ، فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ , فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ « إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (3) ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ » (4) .
__________
(1) - حزاورة جمعُ حَزْوَرٍ وحَزَوَّر ، وهو الذي قارَبَ البلوغ .
(2) -سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (1 / 42)(61) صحيح - قَوْله ( فَازْدَدْنَا بِهِ ) أَيْ بِسَبَبِ الْقُرْآن
(3) -الكرائم : جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(4) -صحيح البخارى- المكنز - (4347 )(1/389)
ومن فوائد هذا الحديث الكثيرة : البدءُ بالاهمِّ فالأهمِّ في الدعوةِ والتعليم ، إذ المطالبةُ بجميع الشرائع مرةً واحدةً توجبُ التَنفيرَ ، وكذا إلقاءُ جميع العُلوم على المتعلِّم دفعةً واحدةً يؤدّي إلى تضييع الكلِّ .
قال الإمام البخاري (1) (بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعمَل) : ((يُقال : الرَّبّانيُّ : الذي يُرَبّي الناسَ بِصِغارِ العلم قبل كبارِه)) .
قال الحافظ ابنُ حجر (2) :((المرادُ بصغار العلم ما وَضَح من مسائِلِه ، وبِكبارِه ما دقَّ منها ، وقيل : يُعلِّمُهم جزئياتِه ، قبل كلّياتِه ، أو فُروعَهُ قبل أصولِه ، أو مقدِّماتِه قبل مَقاصِدِه)) .
وعَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ ، يَا يُونُسُ ، " لَا تُكَابِرِ الْعِلْمَ ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ أَوْدِيَةٌ , فَأَيُّهَا أَخَذْتَ فِيهِ قَطَعَ بِكَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُ وَلَكِنْ خُذْهُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي ، وَلَا تَأْخُذِ الْعِلْمَ جُمْلَةً ؛ فَإِنَّ مَنْ رَامَ أَخْذَهُ جُمْلَةً ذَهَبَ عَنْهُ جُمْلَةً وَلَكِنِ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ مَعَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ " (3)
وقال يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ : قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ ، يَا يُونُسَ " لَا تُكَابِرْ هَذَا الْعِلْمَ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ أَوْدِيَةٌ فَأَيُّهَا أَخَذْتَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُ قَطَعَ بِكَ وَلَكِنْ خُذْهُ مَعَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ " (4)
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ قَبْلَ الْقِتَالِ ، وَتَوْصِيَةُ الْإِمَامِ عَامِلَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا ، وَفِيهِ بَعْثُ السُّعَاةِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ ، وَقَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ " قَالَهُ عِيَاضٌ وَفِيهِ بَحْثٌ ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُدْفَعُ إِلَى الْكَافِرِ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فُقَرَائِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِخُصُوصِ الْبَلَدِ أَوْ الْعُمُومِ ، وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ
__________
(1) - في ((صحيحه)) 1 :160 في كتاب العلم
(2) - في ((فتح الباري)) 1 :162
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ >> بَابُ كَيْفِيَّةِ الرُّتْبَةِ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ >>(476 ) صحيح
(4) - نفسه (477 ) صحيح(1/390)
نِصَابًا لَا يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ ، وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ فَهُوَ غَنِيٌّ ،وَالْغِنَى مَانِعٌ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ .. (1)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ آيَاتٍ ، فَلاَ يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ، قَالُوا : فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ." (2)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : " حَدَّثَنَا الَّذِينَ ، كَانُوا يُقْرِؤُنَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسْتَقْرَئُونَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ ، لَمْ يُخْلِفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ ، فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا " (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : " كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يُعْرَفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ " (4)
الخلاصة :
(1) التدرج في التعليم سنة ربانية ، كما في تحريم الخمر والحجاب ، وغيرهما
(2) التدرج في التعليم أمر منطقي لا بمكن الحيدة عنه
(3) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستخدم هذا الأسلوب بكثرة ويأمر أصحابه به .
(4) ترك التدرج في التعليم ، يعني عدم فهم المتعلمين للمعلم ، والملل والسآمة.
ــــــــ
38-رِعايتُه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم الاعتدالَ والبُعدَ عن الإملال:
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (5 / 123)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 758)(23482) 23878- صحيح
(3) - تفسير الطبري(74 ) صحيح
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (73 ) صحيح(1/391)
كان - صلى الله عليه وسلم - يتعهَّد أوقاتَ أصحابه وأحوالَهم في تذكيرهم وتعليمهم،لئلاّ يَمَلّوا،وكان يُراعي في ذلك القَصْدَ والاعتدال .
قَالَ الأَعْمَشُ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ : شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ : كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَأَتَانَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِىُّ فَقَالَ : مَا لَكُمْ؟ قُلْنَا : نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ. فَقَالَ : أَيْنَ تَرَوْنَهُ ؟ قُلْنَا : فِى الدَّارِ. قَالَ : أَفَلاَ أَذْهَبُ فَأُخْرِجَهُ إِلَيْكُمْ؟ قَالَ فَذَهَبَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَمَعَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إِنِّى لأُخْبَرُ بِمَجْلِسِكُمْ ، فَمَا يَمْنَعُنِى أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلاَّ كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا (1) بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. (2)
وعَنْ شَقِيقٍ ، قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللهِ يَخْرُجُ إِلَيْنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لأُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ ، وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلاَّ كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. (3)
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ؟ قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " (4)
قال الحافظ ابنُ حجر (5) : ((يُستفاد من هذا الحديث استحبابُ ترك المُداومةِ في الجِدِّ في العمل الصالح خشيةَ المَلال ، وإن كانت المُواظَبةُ مَطلوبةً ، لكنها على قسمين : إمّا كلَّ
__________
(1) أي كان يَتَعَهَّدُنا ، فيُراعي أوقاتَنا ويَتَطَلَّبُ أحوالَنا التي نَنْشَطُ فيها للموعظةِ ، ولا يفعل ذلك كلَّ يومٍ لئلا نَمَلَّ . السَّآمةُ : المَلالةُ ، والمعنى : كان يتَعهَّدُنا أي يُعلِّمُنا أياماً ويدَعُنا بعضَ الأيام كراهية أن نَمَلَّ شفقةً علينا ، ليكون أخذُنا عنه بنَشاطٍ وحِرصٍ وشوق ، لا عن ضَجَر ومَلال فيَفوت مقصودهُ .
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (114) وصحيح مسلم- المكنز - (7305 )
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 14)(3587) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (70 )
(5) - في ((فتح الباري)) 1 :163(1/392)
يومٍ مع عدم التكلُّفِ ، وإمّا يوماً بعد يومٍ فيكون يومُ الترك لأجل الراحة ، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، والضابط الحاجةُ مع مُراعاةِ وجودِ النَّشاط)) .
وعن أبي هُرَيْرَةَ ، قال : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبَنَا ، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ ، وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا ، وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ ، فَقَالَ : لَوْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ بِأَكُفِّكُمْ ، وَلَوْ أَنَّكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يَغْفِرَ لَهُمْ ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَمِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ أَوِ الْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمْ ، فَلاَ يَبْؤُسُ ، وَيَخْلُدْ لاَ يَمُوتُ لاَ تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلاَ يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ : الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ." (1)
وعَنْ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيِّ الأُسَيْدِيِّ الْكَاتِبِ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي وَوَلَدِي فَضَحِكْتُ وَلَعِبْتُ ، وَذَكَرْتُ الَّذِي كُنَّا فِيهِ ، فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ ، فَقُلْتُ : نَافَقْتُ نَافَقْتُ . فَقَالَ : إِنَّا لَنَفْعَلُهُ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : يَا حَنْظَلَةُ ، لَوْ كُنْتُمْ تَكُونُونَ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ ، أَوْ فِي طُرُقِكُمْ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَ هَذَا ، هَكَذَا قَالَ هُوَ ، يَعْنِي سُفْيَانَ ، يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً. (2)
قَوْله ( نَافَقْت ) أَيْ تَغَيَّرَ حَالِي بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي الْغَفْلَة عَنْهُمَا لِمَنْ آمَنَ بِهِمَا فَالْغَفْلَة عَنْهُمَا تُشْبِه أَنْ تَكُون مِنْ الْإِنْكَار الْبَاطِنِيّ لِوُجُودِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُود الْإِيمَان بِهِمَا فِي قَلْبه بِلَا شَكّ وَعَدَّهُ نِفَاقًا وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الشَّكّ فِي الْإِيمَان لَيْسَ بِمُكَفِّرٍ وَإِنَّمَا الشَّكّ فِي الْمُؤْمِن بِهِ هُوَ الْمُكَفِّر
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 396)(7387) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 49)(17609) 17753-وصحيح مسلم- المكنز - (7142 )(1/393)
قَوْله ( لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَكُونُونَ ) نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّ الْحُضُور لَا يَدُوم عَادَة وَعَدَمه لَا يَضُرّ فِي وُجُود الْإِيمَان فِي الْقَلْب وَالْغَفْلَة إِنَّمَا تُنَافِي الْحُضُور فَلَا يَلْزَم مِنْهَا عَدَم الْإِيمَان
( سَاعَة ) يَكُون الْحُضُور لِيَنْتَظِم بِهِ أَمْر الدِّين وَسَاعَة تَكُون الْغَفْلَة لِيَنْتَظِم بِهَا أَمْر الدِّين وَالْمَعَاش وَفِي كُلّ مِنْهُمَا رَحْمَة عَلَى الْعِبَاد . (1)
عن حنظلة الكاتب أحد كتاب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقلت نافق حنظلة يعني نفسه ومعنى نافق يعني صار من المنافقين ،قال ذلك ظنا منه رضي الله عنه أن ما فعله نفاق ،فقال أبو بكر وكذلك كنا إذا كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار حتى كأنا رأى عين، يعني كأنا نرى الجنة والنار رأى عين من قوة اليقين حيث يخبرهم بذلك - صلى الله عليه وسلم - ،وما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمشاهد، بل قد يكون أعظم لأنه خبر من أصدق الخلق صلوات الله وسلامه عليه وأعلم الخلق بالله ،فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ،يعني لهونا معهم ونسينا ما كنا عليه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر عن نفسه إنه يصيبه كذلك ،ثم ذهبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما وصلا إليه قال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله ،قال وما ذاك ؟ فأخبره بأنهم إذا كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثهم عن الجنة والنار أخذهم من اليقين كأنهم يرونها رأى العين ولكن إذا خرجوا عافسوا الأهل والأولاد والضيعات وتلهوا بهم نسوا كثيرا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لو تكونون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ،أي من شدة اليقين تصافحكم إكراما لكم وتثبيتا لكم، لأنه كلما زاد يقين العبد فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويقويه كما قال تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (17) سورة محمد، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة ،يعني ساعة للرب عز وجل وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ،ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم ،وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها أن الله عز وجل له حق فيعطى حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها ،وللأهل حق فيعطون حقوقهم ،وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم ،حتى يقوم الإنسان
__________
(1) - حاشية السندي على ابن ماجه - (8 / 91)(1/394)
بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة ،ويتعبد لله عز وجل براحة ؛لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها ملَّ وتعب وأضاع حقوقا كثيرة ،وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف يكون كذلك أيضا في العلوم ،فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللا في مراجعة كتاب ما فلينتقل إلى كتاب آخر ،وإذا رأى من نفسه مللا من دراسة فنٍّ معينٍ فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر ،وهكذا يريح نفسه ويحصِّلُ علما كثيرا ،أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف إلا ما شاء الله، فإن بعض الناس يُكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب ،ثم يأخذ على ذلك ويكون هذا أمرا دائما له ،ويكون ديدنا له حتى إنه إذا فقد هذا الشيء ضاق صدره والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (1)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا » . (2)
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ « بَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا » (3) .
قال الإمام النووي (4) : ((في هذا الحديث الأمرُ بالتبشيرِ بفضلِ الله وعظيم ثوابِه ، وجَزيل عَطائِه وسعةِ رحمتِه ، والنهيُ عن التنفير بذكر التخويفِ وأنواع الوعيد مَحْضةً من غير ضَمِّها إلى التبشير .
وفي هذا الحديث أيضاً بيانُ تأليفِ من قَرُب إسلامُهُ وتركِ التشديدِ عليهم ، وكذلك من قارَبَ البُلوغَ من الصبيان ومن بَلَغَ ومن تابَ عن المعاصي ، كلُّهم يُتلَطَّفُ بهم ، ويُدَرَّجون في أنواع الطاعةِ قليلاً قليلاً .
__________
(1) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (2 / 45)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (69 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4622 )
(4) - في ((شرح صحيح مسلم)) 12 :41(1/395)
وقد كانت أمورُ الإسلام في التكليف على التدريج ، فمتى يُسِّرَ على الداخلِ في الطاعةِ أو المُريدِ للدخولِ فيها سَهُلَتْ عليه ، وكانت عاقبتُه غالباً التزايد ، ومتى عُسِّرتْ عليه أوْشَكَ أن لا يدخُل فيها ، وإن دخل أوْشَكَ أن لا يدوم أو لا يَستَحليها)) .
وقال الحافظ ابن حجر: " وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعلم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده. والله تعالى أعلم." (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَدِّثَ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَا تَمَلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ ، وَلَا تَأْتِ الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ فَتَقْطَعَ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُوَنَهُ ، إِيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ : إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَ اللَّهُ حِكْمَتَهُ ، وَقَالَ : انْتَعِشْ نَعَشَكَ اللَّهُ فَهُوَ فِي عَيْنِهِ حَقِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرٌ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ وَعَدَا طَوْرُهُ وَهَصَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَقَالَ : اخْسَأْ أَخْسَاكَ اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ حَقِيرٌ حَتَّى لَهُوَ أَحْقَرُ فِي النَّاسِ مِنَ الْخِنْزِيرِ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُبَغِّضُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِبَادِهِ ، قَالَ : فَقَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ ذَلِكَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ ؟ ، قَالَ : يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ قَاصًّا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ ، وَيَقُومُ أَحَدُكُمْ إِمَامًا فَيُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ " (3)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (1 / 163)
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ >> بَابُ التَّخَوُّلِ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ مَخَافَةَ الْمَلَالِ >>(488 ) وصحيح البخارى- المكنز - (6337 )
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (489) حسن(1/396)
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ ، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَقَالَتْ : مَنْ هَذَا ؟ ، فَقَالُوا : عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، فَقَالَتْ : عُمَيْرُ بْنُ قَتَادَةَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَتْ : أَحَدَثَ أَنَّكَ تَجْلِسُ وَيُجْلَسُ إِلَيْكَ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَتْ : فَإِيَّاكَ وَإِمْلَالَ النَّاسِ وَتَقْنِيطَهُمْ " (1)
وعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : حَدِّثَ الْقَوْمَ إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ ، فَلَا تُحَدِّثْهُمْ ، فَقَالَ لَهُ : وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ ، قَالَ : إِذَا أَحْدَقُوا إِلَيْكَ أَبْصَارَهُمْ فَقَدْ أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ ، فَإِذَا اتَّكَأَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَدِ انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ ، فَلَا تُحَدِّثْهُمْ " (2)
وعَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ ، قَالَ : كَانَ مُطَرِّفُ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ يَقْطَعُهُ ، وَنَحْنُ نَشْتَهِيهُ ، فَنَقُولُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُولُ : " هُوَ أَسْرَعُ لِرُجْعَتِكُمْ إِلَيَّ " (3)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يُجَالِسُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيُحَدِّثُهُمْ فَإِذَا أَكْثَرُوا وَثَقُلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ، قَالَ : " إِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ وَإِنَّ لِلْقَلْبِ حَمْضَةً أَلَا فَهَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكُمْ أَوْ أَحَادِيثِكُمْ " (4)
وعن يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ ، قال : كَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْحَدِيثِ ، يَقُولُ : أَحْمِضُونَا "
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ : وَذَلِكَ أَنَّ الْإِبِلَ ، تَرْعَى الْخَلَّةَ وَهُوَ مَا خَلَا مِنَ النَّبْتِ فَتَسْأَمُهُ ، فَتَرْعَى الْحَمْضَ وَهُوَ الشُّورَقُ فَإِذَا أَكَلَتْ مِنْهُ اشْتَهَتِ الْخَلَّةَ فَتُرَدُّ إِلَى الْخَلَّةِ ، فَكَذَا قَالَ : أَحْمِضُونَا أَيْ : اخْلُطُوا بِالْحَدِيثِ غَيْرَ الْحَدِيثِ حَتَّى تَتَفَتَّحَ النَّفْسُ (5)
وعن مَعْمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ ، يَقُولُ : نَقْلُ الصَّخْرِ أَيْسَرُ مِنْ تَكْرِيرِ الْحَدِيثِ " (6)
__________
(1) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (490) صحيح
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (491) صحيح
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (492)حسن
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (493) صحيح
(5) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (494) صحيح
(6) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (495) صحيح(1/397)
وقَالَت عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، قَالَتْ : وَكَانَ أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا دَامَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَلَّ ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَامَ عَلَيْهَا قَالَ : يَقُولُ أَبُو سَلَمَةَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج : ]. (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي إِلَيْهِ ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ ، قَالَ : فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا ، قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَتْ عِنْدِى امْرَأَةٌ مِنْ بَنِى أَسَدٍ فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَنْ هَذِهِ » . قُلْتُ فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ . فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا فَقَالَ « مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » . (3)
وعَنْ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - حَدَّثَتْهُ قَالَتْ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ ، وَكَانَ يَقُولُ « خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا دُووِمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَلَّتْ » وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا . (4)
قال الطحاوي : " فَقَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ إضَافَةُ الْمَلَلِ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي حَالٍ مَا وَذَلِكَ مُنْتَفٍ عَنَ اللهِ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ ؟، فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَلَ مُنْتَفٍ عَنِ اللهِ كَمَا ذَكَرَ وَلَيْسَ مَا تَوَهَّمَهُ، مِمَّا حُمِلَ عَلَيْهِ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا تَوَهَّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 67) (353) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 310) (2571) وصحيح البخارى- المكنز - (5861 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1863)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1151)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1970 )(1/398)
- صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَمَلُّ اللهُ إذَا مَلِلْتُمْ " إذْ كَانَ الْمَلَلُ مَوْهُومًا مِنْكُمْ وَغَيْرَ مَوْهُومٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْجَارِي عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ عِنْدَ وَصْفِهِمْ مَنْ يَصِفُونَهُ بِالْقُوَّةِ عَلَى الْكَلَامِ وَالْبَلَاغَةِ مِنْهُ وَالْبَرَاعَةِ بِهِ لَا يَنْقَطِعُ فُلَانٌ عَنْ خُصُومَةِ خَصْمِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ خَصْمُهُ لَيْسَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ خَصْمِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ ذَلِكَ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّذِي وَصَفُوهُ فَضِيلَةً إذْ كَانَ يَنْقَطِعُ بِعَقِبِ انْقِطَاعِ خَصْمِهِ كَمَا انْقَطَعَ خَصْمُهُ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ انْقِطَاعِ خَصْمِهِ كَمَا انْقَطَعَ خَصْمُهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَكُونَ مِنَ الْقُوَّةِ وَالِاضْطِلَاعِ بِخُصُومَتِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِ خَصْمِهِ عَنْهَا كَمِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْهَا قَبْلَ انْقِطَاعِ خَصْمِهِ عَنْهَا فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا " وَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " أَيْ إنَّكُمْ قَدْ تَمَلُّونَ فَتَنْقَطِعُونَ، وَاللهُ بَعْدَ مَلَلِكُمْ وَانْقِطَاعِكُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ انْتِفَاءِ الْمَلَلِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْهُ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ" (1)
وقَالَ الكلاباذي رَحِمَهُ اللَّهُ : " الْمَلَالُ تَكَرُّرُهُ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ ، وَأَذًى يَلْحَقُهُ مِنْهُ ، وَتَعَبٍ يُصِيبُهُ ، فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ ، وَيَتَحَمَّلُ التَّعَبَ فِيهِ ، حَتَّى يَضْجَرَ وَيَسْأَمَ ، فَيَتْرُكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ اسْتِثْقَالًا لَهُ ، وَيَرْفُضَهُ تَضَجُّرًا مِنْهُ وَسَأَمَةً ، وَهُوَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لِلطَّبْعِ بَعْدَ إِيثَارِهِ لِلشَّيْءِ وَرَغْبَتِهِ فِيهِ ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْإِنْسَانِ الْمَطْبُوعِ عَلَى طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةَ وَأَوْصَافٍ ، وَيَتَعَالَى عَنْهَا عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَالْمَلَالُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ ، وَلَا يَجُوزُ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَنَا مِنْ أَوْصَافٍ يَلْحَقُهُ الْمَلَالُ مِنَ الْمُحَدَثِينَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ صِفَةُ الْإِنْسَانِ الْمَطْبُوعِ الَّذِي يَضْعُفُ مِنْ تَحَمُّلِ مَا يَعْرِضُ لَهُ ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ ، وَيَؤُودُهُ شَيْءٌ ، وَيُؤْذِيهِ . فَمَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا " ، لَيْسَ عَلَى الْغَايَةِ ، وَالتَّوْقِيتِ ، وَيُوصَفُ هُوَ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي وَقْتٍ ، أَوْ عِنْدَ تَغَيُّرٍ ، بَلْ هُوَ عَلَى النَّفْيِ عَنْهُ ، وَالتَّبْرِئَةِ لَهُ مِنْهُ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " حَتَّى تَمَلُّوا " ، وَتَمَلُّوا بَلْ تَمَلُّوا ، أَيْ : لَا يَمَلُّونُ ، وَلَا يَمَلُّ ، بَلَّ تَمَلُّونَ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : الْمَلَالُ لَكُمْ صِفَةٌ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَاحِقَةٌ بِكُمْ إِذَا تَكَلَّفْتُمُ الْأَعْمَالَ ، وَأَكْرَهْتُمْ عَلَيْهَا نُفُوسَكُمْ ، وَتَحَمَّلْتُمْ مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ التَّعَبِ فِيهِ ، وَصَبَرْتُمْ عَلَيْهِ ، فَيُوشِكُ إِنْ يَضْعُفْ عَنْهَا قُوَاكُمْ تَسْتَثْقِلُوهَا ، وَتَضْجَرُوا مِنْهَا ، فَتَرْفُضُوا اسْتِثْقَالًا لَهَا ، وَاسْتِعْرَاضًا مِنْهَا ، وَزُهْدًا فِيهَا
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (2 / 118)(1/399)
، وَرَغْبَةً عَنْهَا ، وَبُغْضًا لَهَا ، فَلَا تَعُودُوا إِلَيْهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ لَا يُصِيبُهُ هَذِهِ الْآفَاتُ ، وَلَا يَعْتَرِضُ لَهُ هَذِهِ الْعَوَارِضُ ، فَلَا يَصْرِفُكُمْ عَمَّا تُكَلَّفُونَ ، وَلَا يَنْهَاكُمْ عَمَّا تَعْمَلُونَ ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَكُمْ ، وَبَيْنَهَا كَرَاهَةً لَهَا ، وَاسْتِثْقَالًا مِنْهُ إِيَّاهَا ، وَبُغْضًا لَهَا ، بَلْ يُصِيبُكُمْ ذَلِكَ ، فَتُتْرَكُونَ ، فَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ رَبِّكُمْ ، وَتَسْتَثْقِلُونَ خِدْمَةَ مَوْلَاكُمْ ، وَتُبْغِضُونَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ " (1)
وقال القرطبي : " قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم من الأعمال ما تطيقون )) : هذا حضٌ على التخفيف في [أعمال] النوافل ، ويتضمن الزجر عن التشديد ، والغلوّ فيها . وسبب ذلك : أن التخفيف يكون معه الدوام والنشاط ، فيكثر الثواب لتكرار العمل ، وفراغ القلب ، بخلاف الشاقّ منها ، فإنه يكون معه التشويش والانقطاع غالبًا .
وقوله : (( فإن الله لا يمل ّ حتى تملوا )) : ظاهره محالٌ على الله تعالى . فإن الملال فتورٌ عن تعب ، وألَمٌ عن مشقة ، وكل ذلك محال على الله تعالى ، وإنما أطلق هنا على الله تعالى على جهة المقابلة اللفظية مجازًا ؛ كما قال الله تعالى : { ومكروا ومكر الله } ، و:{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} ، وجهة[مجازه] : أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه [عَمَّن ملَّ من العمل] وَقَطَعَهُ ؛ عبّر عن ذلك بالملل ؛ من باب تسمية الشيء باسم سببه." (2)
وقال الحافظ ابن حجر : " وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها، والأمر بالإقبال عليها بنشاط.وفيه إزالة المنكر باليد واللسان.وجواز تنفل النساء في المسجد.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في جواب ذلك "مه" إشارة إلى كراهة ذلك خشية الفتور والملال على فاعله لئلا ينقطع عن عبادة التزمها فيكون رجوعا عما بذل لربه من نفسه." (3)
وقال الحافظ ابن حجر : " وفيه أن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خشي عليه أن يمل فيفضي إلى تركه، والمداومة على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (167 )
(2) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (7 / 47)
(3) - فتح الباري لابن حجر - (3 / 37)(1/400)
انقطعت، فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع غالبا، وقد تقدم الكلام على مداومته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة التطوع في بابها." (1)
الخلاصة :
(1) ينبغي على المعلم أن لا يكثر من الدروس على طلابه خشية مللهم .
(2) إذا ملَّ طالب العلم من الدرس والتحصيل ضعف استيعابه وفهمه
(3) ينبغي تخول المتعلمين بالموعظة ، ولا بد من مراعاة ظروفهم وحاجاتيهم ، واستعداداتهم .
ــــــــــــ
39-رعايتُه - صلى الله عليه وسلم - الفروقَ الفردية في المتعلمين:
كان - صلى الله عليه وسلم - شديدَ المراعاة للفروقِ الفردية بين المتعلِّمين من المُخاطَبين والسائلين،فكان يُخاطِبُ كلَّ واحدٍ بقدرِ فَهْمِه وبما يُلائِمُ منزلتَه،وكان يُحافِظ على قُلوبِ المبتدئين،فكان لا يُعلِّمُهم ما يُعلِّم المنتهين . وكان يجيب كلَّ سائلٍ عن سؤالِهِ بما يَهُمُّه ويُناسِبُ حالَه .
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . قَالَ « يَا مُعَاذُ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . ثَلاَثًا .
قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا » . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا (2) .
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (4 / 215)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (128)(1/401)
أي لا تُبَشِّرهم بذلك فإنهم يَمتَنِعون من العمل اعتماداً على ما يَتَبادَرُ من ظاهرِه من أن مجردَ الشهادةِ بالوحدانية والرسالةِ تكفي للنجاة من النار ، ولا يَنتَبِهون إلى ان المرادَ الإتيانُ بالشهادتين مع أداءِ حقوقهما من إطاعةِ الله وإطاعةِ رسولِه في الشرائعِ والأحكام ِوفي الحديث بيانُ وجوبِ أن يُخَصَّ بالعلم الدَّقيق قومٌ فيهم الضبطُ وصحةُ الفهم ، وأن لا يُبذَل لمن لا يَستأهلُه من الطلبة ومن يُخافُ عليه الترخُّصُ والاتكال لتقصيرِ فهمِه ، قاله البدرُ العيني في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) (1)
وقال الحافظ ابنُ رجب في ((شرح البخاري)) : ((قال العلماء : يُؤخذ من مَنْع معاذ من تبشير الناس لئلا يَتَّكِلوا ، أن أحاديثَ الرُّخَص لا تُشاعُ في عُمومِ الناس ، لئلا يَقْصُر فهمُهم عن المُرادِ بها، وقد سَمِعَها مُعاذ فلم يَزْدَدْ إلاّ اجتهاداً في العمل وخشيةً لله عزَّ وجلَّ ، فأما من لم يَبلُغ منزلتَه فلا يُؤمَنُ أن يُقَصِّر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر)) (2) .
وعلى هذا المنوال من تركِ التحديث لكلِّ واحدٍ بكلِّ شيء ، جَرى عملُ الصحابة ، فمن بعدهم من أهل العلم ، وَقَالَ عَلِىٌّ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (3)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ، عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " (4)
والمرادُ بقوله (بما يعرفون) أي يَفهَمون ، وقولُه (ما يُنكِرون) أي يَشْتَبِه عليهم فهمُه ، وأما قولُه (... أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه) ، فذلك لأن الشخصَ إذا سَمِع ما لا يَفهمُه وما لا يَتَصوَّرُ إمكانَه يَعتقدُ استحالتَه جَهْلاً ، فلا يُصدِّقُ وجودَه ، فإذا ذُكِرَ له مثلُ هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يلزَم منه تكذيبُه ، وفي تكذيبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - تكذيبٌ لله عز وجَل .
__________
(1) - 2 :208
(2) - كذا في ((فتح الملهم شرح صحيح مسلم)) للعلاّمة شَبِّير أحمد العثماني 1 :588 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (127 )
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (497 ) صحيح(1/402)
قال الحافظ ابن حجر (1) : ((فيه دليل على أن المُتَشابِه لا ينبَغي أن يُذكَر عند العامة . ومثلُه قولُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه : ما أنت بمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تَبلُغُه عقولُهم إلاّ كان لبعضِهم فتنةً (2) ، وممن كَرِه التحديث ببعضٍ دون بعضٍ أحمدُ في الأحاديث التي ظاهرُها الخروجُ على السلطان ، ومالكٌ في أحاديث الصفات ، أي التي يوهِمُ ظاهرُها التشبيهَ ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومِنْ قبلِهم أبو هُريرة ، وحذيفةُ ...وضابطُ ذلك أن يكون ظاهرُ الحديث يُقَوّي البدعةَ ، وظاهرُه في الأصل غيرُ مرادٍ ، فالإمساكُ عنه عند من يُخشى عليه الأخذُ بظاهِره مطلوبٌ ، والله أعلم)) .
وهذا أصلٌ عظيم في باب التعليم ، أن يُراعي المُعلِّمُ مقدارَ عقلِ الطالب وفهمِه ، فيُعطيه ما يَتحمَّله عقلُه ، ويُمسِك عنه ما وراء ذلك .
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى (3) : ((من وظائف المُعلِّم أن يَقتَصِر بالمتعلِّم على قدر فهمِه ، فلا يُلقي إليه ما لا يَبلُغُه عقلُه فيُنفِّرُهُ أو يُخَبِّطُ عليه عقله ، اقتداءً في ذلك بسيِّد البَشر - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يُراعي ذلك في تعليمِه وتحديثِه ووعظه ، فليَبُثَّ إليه الحقيقة إذا عَلِم أنه يَستَقِلُّ بفهمِها .
ولا ينبغي أن يُفشيَ العالمُ كلَّ ما يَعلَم إلى كلِّ أحد ، هذا إذا كان يَفهمُه المتعلِّمُ ولم يكن أهلاً للانتفاع به ، فكيف فيما لا يَفهَمُه؟ ولذلك قيل قائله أبو طالب المكي في ((قوت القلوب)) : ((كِلْ لكل عبدٍ بمِعيارِ عقلِه ، وزِنْ له بميزان فهمِه ، حتى تَسلَم منه ويَنتفِعَ بك ، وإلاّ وَقَع الإنكار لتفاوُتِ المِعيارِ .
وقد قال الله تعالى : (ولا تؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكم) ، تنبيهاً على أنَّ حفظَ العلم ممن يُفسِدُه ويَضُرُّه أولى ، وليس الظلمُ في إعطاء غيرِ المُستَحقِّ بأقلَّ من الظلمِ في منع المُستَحِق .
__________
(1) - في ((فتح الباري)) 1 :225
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (14)
(3) - في ((إحياء علوم الدين)) 1 :57 58(1/403)
قال : والمتعلِّم القاصرُ ينبغي أن يُلقيَ إليه الجَليَّ اللائقَ به ، ولا يَذكرَ له أنَّ وراءَ هذا تدقيقاً وهو يَدَّخِرُه عنه ، فإن ذلك يُفتِّر رغبته في الجَليّ ، ويُشوِّشُ عليه قلبَه ، ويوهِمُ إليه البُخلَ به عنه ، إذ يَظُن كلُّ أحدٍ أنه أهلٌ لكلِّ علمٍ دقيقٍ .
بل لا ينبغي ان يُخاضَ مع العوام في حقائق العلومِ الدقيقةِ ، بل يُقتَصَر معهم على تعليم العباداتِ وتعليم الأمانة في الصناعاتِ التي هم بصددِها ، ويَمْلأُ قُلوبَهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار ، كما نَطَق به القرآن ، ولا يُحرِّك عليهم شبهةً فإنه ربما تعلَّقتْ الشبهةُ بقلبه ويَعسُرُ عليه حَلُّها فيَشقى ويَهلِك)) . انتهى مختصراً .
قولُه (تأثُّماً) أي تَجنُّباً للإثم ، والمراد الإثم الحاصل من كِتْمانِ العلم .
قال الإمام أبو عَمْرو بنُ الصلاح في : ((وإخبارُ مُعاذٍ بذلك عند موتِه مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنَعه من أن يُخبِر به الناسَ ، وجُهُهُ عندي : أنه مَنَعَه من التبشيرِ العام خوفاً من أن يَسْمَعَ ذلك مَن لا خِبرةَ له ولا علمَ فيغتَرَّ ويَتَّكِلَ .
ومع ذلك أخبر - صلى الله عليه وسلم - به على الخصوص مَن أَمِنَ عليه الاغترارَ والاتكالَ من أهلِ المعرفةِ بالحقائق ، فإنه أخبَرَ به مُعاذاً ، فسَلَك مُعاذ هذا المَسلَكَ ، وأخبر به من الخاصةِ مَنْ رآه أهلاً لذلك تأثُّماً من أن يَكتُمَ علماً أهلَه ، والله أعلم)) (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجَاءَ شَابٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ : لاَ ، فَجَاءَ شَيْخٌ فَقَالَ : أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَنَظَرَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ، إِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ. (2)
(إن الشيخَ يَملِكُ نفسَه)) أي فلا يُخشى عليه إفسادُ الصوم بالوقوع في الجماع ، بخلاف الشابِّ فقد يَجرُّه التقبيلُ إلى الجماعِ أو الإنزالِ فيُفسِدُ عليه صومَه . فاختَلَفَ الجوابُ لاختلاف حالِ السائلَينِ .
__________
(1) - ((شرح صحيح مسلم)) ص 185
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 645)(6739) والصحيحة ( 1606) وصحيح الجامع ( 1646) حسن(1/404)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ ، فقَالَ : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ." (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أُجَاهِدُ ؟ فقَالَ : لَكَ أَبَوَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ." (2)
أي إن كان لك أبوان فأبلِغْ جُهْدَك في برِّهما والإحسانِ إليهما ، فإن ذلك يَقومُ لكَ مقامَ قتالِ العدو والجهاد .
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ أَنَّ نَاعِمًا مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ « فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَىٌّ ». قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ « فَتَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا ». (3)
هذا مع ما عُرِف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحضِّ على الجهادِ والهجرةِ والترغيبِ فيهما،ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لاحظَ حالَ هذا السائِل بخصوصِهِ،فرأى بِرَّ الوالدينِ أهمَّ وأفضلَ في حقه من الجهاد
واختلافُ أجوبةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف أحوالِ السائلين وظُروفِهم وقُدْراتِهم : بابٌ واسعٌ له أمثلةٌ كثيرة في كتب السنة المُطهَّرة .
ومن ذلك وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلِفةُ لأناسٍ طَلَبوا منه الوصيةَ،فأوصى كلَّ واحدٍ بغير ما أوصى به الأخَرَ،ووجهُ ذلك يرجِع إلى اختلاف أحوالِ الذين سألوه الوصيةَ .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : : اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. (4)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 21)(318) وصحيح البخارى- المكنز - ( 3004 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6668 )
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 164) (420) وصحيح البخارى- المكنز - (5972)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6671 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 165)(21354) 21681- صحيح لغيره(1/405)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عَلِّمْنِى شَيْئًا وَلاَ تُكْثِرْ عَلَىَّ لَعَلِّى أَعِيهِ (1) . قَالَ « لاَ تَغْضَبْ ». فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَغْضَبْ ». (2)
قولُه (لا تغضَبْ) قال الخطابي : ((معناه : لا تتعرَّض لأسباب الغَضَب ، وللأمور التي تَجْلِبُ الغضب ، إذ نفسُ الغضب مَطبوعٌ في الإنسان لا يُمكِنُ إخراجُه من جِبِلَّتِه ، أو معناه : لا تفعَلْ ما يأمرُك الغَضبُ ويَحمِلُك عليه من الأقوالِ والأفعال)) (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ . قَالَ « تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ » . قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا . فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » . (4)
ومراد الأعرابي أنَّه لا يزيدُ على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحجِّ البيت شيئاً من التطوُّع ، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعٍ الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديثُ لم يذكر فيها اجتناب المحرَّمات ؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة . (5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيَّانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ طَالَ عُمْرُهُ ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، وَقَالَ الآخَرُ : إِنَّ شَرَائِعَ
__________
(1) - أي أحفَظُه وأعقِلُه .
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2152 )هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
(3) - كذا في ((عمدة القاري)) للبدر العيني 22 :164 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1397 ) وصحيح مسلم- المكنز - (116 )
هذه الجملة المبشِّرة : (من سرَّه أن ينظر .. فلينظُر إلى هذا) يقولُها بعضُ الناس في بعض الصالحين ، ولكن ينبغي التحفُّظُ من قولها ، لأن فيها الجزم والقطع لمن قيلَتْ فيه بانه من أهل الجنة ، وهذا لا يعلمه إلاّ اللهُ ورسولُه بوحي الله له ، فاقتضى التنبيه . الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 69)
(5) - جامع العلوم والحكم محقق - (24 / 6)(1/406)
الإِِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا ، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ ؟ قَالَ : لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل." (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ : جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمْرُهُ ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَقَالَ الآخَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ ، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَثَبَّتُ بِهِ ، فَقَالَ : لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ." (2)
" فالمعنى أن هذا الرجل كثرت عليه النوافل ،أما الفرائض فلا يغني عنها قول لا إله إلا الله ولا غيره، الفرائض لابد منها أما النوافل إذا شق على الإنسان بعضها فالذكر قد يسدُّ ما يحصل به الخلل" ..
فذكر الله عز وجل من أفضل الأعمال وأوفاها وأحبها إلى الله عز وجل بل هو من أسباب الثبات عند اللقاء كما قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (45) سورة الأنفال. مثل هذه الأحاديث كلها تدل على فضيلة الذكر وأنه ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر الله" (3)
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِىِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِى فِى الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِى رواية: غَيْرَكَ - قَالَ « قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ ». (4)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ ، أَنَّ جَدَّهُ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ قَالَ : هَذَا ، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. (5)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 73)(17680) 17832- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 77)(17698) 17850- صحيح
(3) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (5 / 41)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (168 )
(5) - صحيح ابن حبان - (13 / 5) (5698) صحيح(1/407)
وعَنْ مَاعِزِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيِّ ، أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيَّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا أَكْثَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِسَانِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا " (1)
قال القاضي عياض رحمه الله : ((" قوله : قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ، أي : علِّمْني قولاً جامعًا لمعاني الإسلام ، واضحًا في نفسه ، بحيثُ لا يحتاجُ إلى تفسيرِ غيرك ، أعمَلُ عليه ، وأكتفي به ؛ وهذا نحوٌ ممَّا قال له الآخر : عَلِّمْنِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ ، وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى ، فَقَالَ : لاَ تَغْضَبْ.
وهذا الجوابُ ، وجوابُهُ بقوله : قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ : دليلٌ على أنَّ النبيَّ ِ - صلى الله عليه وسلم - أُوتِيَ جوامعَ الكَلِمِ ، واختُصِرَ له القول اختصارًا ؛ كما قاله النبيُّ ِ - صلى الله عليه وسلم - مُخْبِرًا بذلك عن نفسه ؛ فإنّه ِ - صلى الله عليه وسلم - جمَعَ لهذا السائلِ في هاتَيْن الكلمتَيْن معانيَ الإسلام والإيمانِ كلَّها ؛ فإنَّه أمره أن يجدِّدَ إيمانَهُ متذكِّرًا بقلبه ، وذاكرًا بلسانه.
ويقتضي هذا استحضارَ تفصيلِ معاني الإيمانِ الشرعيِّ بقلبه - التي تقدَّم ذكرُهَا في حديثِ جبريل عليه السلام - وأَمْرِهِ بالاِستقامةِ على أعمال الطاعاتْ ، والانتهاءِ عن جميع المخالفاتْ ؛ إذْ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج ، فإنَّها ضِدُّه.
وكأنَّ هذا القولَ منتزَعٌ من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (13) سورة الأحقاف
أي : آمَنُوا باللهِ ووحَّدوه ، ثم استقاموا على ذلك وعلى طاعتِهِ إلى أن تُوُفُّوا عليها ؛ كما قال عمرُ بنُ الخَطَّاب رضى الله عنه : استَقَامُوا واللهِ على طاعتِهِ ، ولم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثعالب ، وملخَّصُهُ : اعتَدَلُوا على طاعة الله تعالى ، عَقْدًا وقولاً وفعلاً ، وداموا على ذلك إلى الوفاة.")) (2)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 9) (5702) صحيح
(2) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 137)(1/408)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ." (1)
من فوائد (الصمت وحفظ اللسان) : دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام.والسّلامة من العطب في المال،والنّفس، والعرض.ودليل حسن الخلق، وطهارة النّفس.ويثمر محبّة اللّه، ثمّ محبّة النّاس.ويهيّأ المجتمع الصّالح، والنّش ء الصّالح.والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار. (2)
وأحاديث أخر في هذا الباب،جاءَتْ فيها وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - الجامعةُ المختلفةُ مُراعاةً لاختلاف أحوالِ السائلين وحاجاتِهم .
ومن هذا القبيل أيضاً أجوبةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلفةُ حول أفضلِ الأعمال أو أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى،فقد أجاب كلَّ سائلٍ بما رآه في حقِّه أو في حينِ سؤالِه أفضلَ وأهمَّ نظراً إلى حاجاتِه وظروفِه .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ « تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ » (3)
" قوله : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ، أي : أيُّ خصالهم أفضلُ ؛ بدليل جوابه بقوله ِ - صلى الله عليه وسلم - : تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ، وكأنَّه ِ - صلى الله عليه وسلم - فَهِمَ عن هذا السائلِ أنَّه يسألُ عن أفضلِ خصالِ المسلمين المتعدِّيَةِ النفعَ إلى الغير ، فأجابَهُ بأعمِّ ذلك وأنفعِهِ في حقِّه ؛ فإنَّه ِ - صلى الله عليه وسلم - كان يجيبُ كُلَّ سائلٍ على حَسَبِ ما يُفْهَمُ عنه ، وبما هو الأهمُّ في حقِّه والأنفعُ له.
وقوله ِ - صلى الله عليه وسلم - : وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ ، قال أبو حاتم : تقول : قَرَأَ عليه السلامَ وأقْرَأَهُ الكتابَ ، ولا تقول : أَقْرَأَهُ السلامَ إلاَّ في لغة سُوء ، إلاَّ أن يكونَ مكتوبًا فتقول : أَقْرِئْهُ السلامَ ، أي : اجعلْهُ يقرؤه.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 414)(22235) 22590- وفتح الباري لابن حجر - (11 / 309) وسنن الترمذى- المكنز - (2586) حسن لغيره
(2) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (7 / 2644)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (12 ) وصحيح مسلم- المكنز - (169)(1/409)
وجمَعَ له بين الإطعامِ والإفشاء ؛ لاجتماعهما في استلزام المحبَّةِ الدينيَّة ، والأُلْفةِ الإسلاميَّة ؛ كما قال ِ - صلى الله عليه وسلم - : أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ.
وفيه : دليلٌ على أنَّ السلام لا يُقْصَرُ على من يُعْرَفُ ، بل على المسلمين كافَّة ؛ لأنّه كما قال ِ - صلى الله عليه وسلم - : السَّلاَمُ شِعَارٌ لِمِلَّتِنَا ، وَأَمَانٌ لِذِمَّتِنَا ." (1)
وعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ ، أَوْ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ وَيُهْرَاقَ دَمُكَ قَالَ : فَأَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ." (2)
قال القرطبي : " قوله : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ فقَالَ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، هذا السؤالُ غيرُ السؤالِ الأوَّل وإن اتَّحَدَ لفظهما ؛ بدليلِ افتراق الجواب ، وكأنَّه ِ - صلى الله عليه وسلم - فَهِمَ عن هذا السائلِ أنّه سأل عن أحقِّ المسلمين باسم الخيريَّة وبالأفضليَّة ، وفَهِمَ عن الأوَّل أنَّه سَأَلَ عن أحقِّ خصالِ الإسلامِ بالأفضليَّة ، فأجاب كُلاًّ منهما بما يليقُ بسؤاله ، والله تعالى أعلم ، وهذا أولى مِنْ أن نقول : الخبران واحد ، وإنَّما بعضُ الرواة تسامَحَ ؛ لأنَّ هذا التقديرَ يرفَعُ الثقةَ بأخبارِ الأئمَّةِ الحفَّاظِ العدول ، مع وجودِ مندوحةٍ عن ذلك.
وقوله : الْمُسْلِمُ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، أي : مَنْ كانتْ هذه حالَهُ ، كان أحقَّ بهذا الاسمِ ، وأمكنَهُمْ فيه.
ويبيِّن ذلك : أنَّه لا ينتهي الإنسانُ إلى هذا ، حتَّى يتمكَّنَ خوفُ عقابِ الله سبحانه وتعالى مِنْ قلبه ، ورجاءُ ثوابه ، فيُكْسِبُهُ ذلك وَرَعًا يحمله على ضَبْطِ لسانه ويده ، فلا يتكلَّمُ إلاَّ بما يعنيه ، ولا يفعلُ إلاَّ ما يَسْلَمُ فيه ؛ ومَنْ كان كذلك ، فهو المسلمُ الكامل ، والمتَّقي الفاضل.
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 138)
(2) - مسند الطيالسي - (1886) وصحيح مسلم- المكنز - (171) مختصرا(1/410)
ويقرُبُ من هذا المعنى بل يزيدُ عليه : قولُهُ ِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ إذْ معناه : أَنَّهُ لاَ يتمُّ إيمانُ أحدٍ الإيمانَ التامَّ الكامل ، حتَّى يَضُمَّ إلى إسلامه سلامةَ النَّاسِ منه ، وإرادةَ الخيرِ لهم ، والنُّصْحَ لجميعهم فيما يحاوله معهم.
ويستفادُ من الحديث الأوَّل : أنَّ الأصلَ في الحقوقِ النفسيَّة والماليَّة المنعُ ؛ فلا يحلُّ شيءٌ منها إلاَّ بوجهٍ شرعيٍّ ، واللهُ تعالى أعلَمُ بغيبه وأحكم." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ سُئِلَ : أَيَّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ سَنَامُ الْعَمَلِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ." (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فقَالَ : رَجُلٌ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ." (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا." (4)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (5) .
وعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَ سَمِعَ الْقَوْمَ وَهُمْ يَقُولُونَ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ ، ثُمَّ سَمِعَ نِدَاءً فِي الْوَادِي يَقُولُ : أَشْهَدُ
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 139)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 458) (4598) وصحيح البخارى- المكنز - (1519) وصحيح مسلم- المكنز - (258)
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 369) (606) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (4 / 339) (1475) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (7534 )(1/411)
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا أَشْهَدُ ، وَأَشْهَدُ لاَ يَشْهَدُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ." (1)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ « الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ ». قَالَ قُلْتُ أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ « أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا ». قَالَ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ « تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ قَالَ « تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ ». (2)
قلت : كان السؤال واحدا والجواب مختلف .
وهذه أمثلة أخرى ، قَالَ أبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ : حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قَالَ : الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا ، قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ : خَصَّنِي بِهِنَّ ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قَالَ : الصَّلَوَاتُ لِمَوَاقِيتِهَا ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْجِهَادُ ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي." (4)
أي لم أزد في السؤالِ عن بقيةِ الأعمال وترتيبِها في الفضل رِفقاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه بيانُ رِفقِ المتعلِّم بالمعلِّم ، ومُراعاةُ مَصالِحِه ، والشفقةُ عليه (5) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قَالَ : أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ." (6)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 455)( 4595) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (260 )
الأخرق : الجاهل بما يجب أن يعمله ولم يكن فى يديه صنعة يكتسب بها
(3) - صحيح ابن حبان - (4 / 341)(1477)وصحيح مسلم- المكنز - (264)
(4) - صحيح ابن حبان - (4 / 340)(1476) صحيح
(5) - قاله الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 2 : 79 .
(6) - صحيح ابن حبان - (3 / 100) (818) صحيح(1/412)
وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَّمٍ: جَلَسْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ : أَيُّكُمْ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَسْأَلَهُ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قَالَ : فَهِبْنَا أَنْ يَسْأَلَهُ مِنَّا أَحَدٌ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفْرِدُنا رَجُلاً رَجُلاً ، يَتَخَطَّى غَيْرَنَا ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ أَوْمَأَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ لأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَ إِلَيْنَا ؟ فَفَزِعْنَا أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِينَا ، قَالَ : فَقَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ، قَالَ : فَقَرَأَ مِنْ فَاتِحَتِهَا إِلَى خَاتِمَتِهَا ، ثُمَّ قَرَأَ يَحْيَى مِنْ فَاتِحَتِها إِلَى خَاتِمَتِهَا ، ثُمَّ قَرَأَ الأَوْزَاعِيُّ مِنْ فَاتِحَتِهَا إِلَى خَاتِمَتِهَا ، وَقَرَأَهَا الْوَلِيدُ مِنْ فَاتِحَتِهَا إِلَى خَاتِمَتِهَا." (1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ « أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ » . وَقَالَ « اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ » (2) .
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ خَثْعَمَ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، قَالَ : قُلْتُ : أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ مَهْ ؟ (3) قَالَ : ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ : ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ : ثُمَّ الأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَعْرُوفِ" (4)
وفي هذا الحديث والذي قبله بيانُ صَبْرِ المُفتي والمُعلِّم على من يُفتيه أو يُعلِّمُه ، واحتمالُ كثرةِ مَسائِلِهِ وتقريراتِهِ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 454) (4594) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6465 )
(3) - أي ثم ماذا؟
(4) - مسند أبي يعلى الموصلي(6839) صحيح(1/413)
وهناك أحاديثُ أخر من هذا القبيل مما اختَلَفت فيه الأجوبةُ في بيان أفضلِ الأعمال أو أحبِّها،وإنما يَرجِع الاختلافُ فيها إلى رعايةِ الفروقِ الفردية بين أفرادِ السائلين وجماعاتِهم أو أوقات سُؤالِهم،فأعلَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كُلاًّ بما يَحتاجُ إليه،أو بما لم يُكْمِله بعدُ من دعائمِ الإسلام ولا بَلَغَهُ عِلمُه،أو بما له فيه رغبةٌ،أو بما هو لائق به .
أو أعلَمَ السائلَ بما كان الأفضَلَ من غيرِه في وقتِ سُؤالِه،فقد كان الجهادُ في ابتداء الإسلامِ أفضَلَ الاعمال لأنه الوسيلةُ إلى القيامِ بها والتمكُّنِ من أدائها،وقد تَضافَرَتْ الأدلةُ على أن الصلاةَ أفضَلُ من الصدقة،ومع ذلك ففي وقت مُؤاساةِ المُضطرِّ تكون الصدقةُ أفضَل.
وبعضُ هذا الاختلاف في الجواب قد يكون مَرَدُّهُ إلى اختلافِ ألفاظ السّائلين ، وإلى رعايةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لوُجوهِ الأفضليةِ وشؤون المَزِيَّة ، فإنها لا تنحَصِر في وصفٍ واحدٍ وحيثيةٍ واحدةٍ ، بل إن أصنافَ الفضل متنوعةٌ ، ومراتبَ الفضلِ ومَدارجَ الخير مختلفةٌ ، فيكونُ اختلافُ الجواب في بعض الروايات متفرِّعاً على رعايةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الفُروقَ الفرديةَ بين وُجوهِ الأفضليةِ وأسبابِ الخيرِ ، ولشَرحِ كلِّ ذلك موضعٌ غيرُ هذا . (1)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المعلِّم المُرشِد والهادي البَصير،يُبَصِّرُ كلاًّ بما يحتاج إليه وبما يليق به،صلى الله تعالى عليه وعلى آله وبارَك وسلَّم .
الخلاصة :
(1) وجوب مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين حتى يستطيعوا الحفظ والفهم والتطبيق .
(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي الفروق الفردية بشكل منقطع النظير .
(3)
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 73)
وانظر كلامَ أهل العلم على هذه الأحاديث الشريفة في ((شرح صحيح مسلم)) للإمام النووي 2 :77 78 ، و((فتح الباري)) للحافظ ابن حجر 2 :9 ، و((فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم)) للعلامة شبّير أحمد العثماني 1 :623 627 من الطبعة المحققة ، و((فيض الباري شرح صحيح البخاري)) للعلامة الكشميري 1 :80 81 .(1/414)
على المعلم الناجح الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومراعاة أحوال السائلين وظروفهم.
(4) الفراسة جزء من حياة الإنسان ، فينبغي على المعلم مراعاة ذلك في طلابه.
ــــــــ
40-ابتداؤه (أصحابَه بالإفادة دون سؤال منهم:
كان ( في كثير من الأحيان يَبتَدىءُ أصحابَه بالإفادةِ من غير سؤالٍ منهم،لاسيما في الأمور المهمةِ التي لا يَنتَبِهُ لها كلُّ واحدٍ حتى يَسألَ عنها،فكان ( يُعلِّم أصحابه جوابَ الشُّبْهة قبلَ حُدوثها،خشية أن تقع في النفوس فتستَقِرَّ بها،وتَفعلَ فعلَها السيِّىء :
عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ( - « يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى يَقُولَ لَهُ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ » (1) .
أي وليقطع ذِهْنَهُ عن الاسترسال معه في ذلك ، بل يلجأ إلى الله تعالى في دفعه ، ويعلَمُ أن الشيطان يريد إفسادَ دينه وعقله بهذه الوسوسة ، فينبغي أن يجتهد في دفعها وقطعها بالاشتغال بغيرها .
قال الخطابي : وجهُ هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك ، فاستعاذ الشخصُ بالله منه ، وكفَّ عن مطاولته في ذلك اندفع . والشيطان ليس لوسوسته انتهاء ، كلما أُلزِمَ حُجّةً زاغ إلى غيرها ، إلى أن يُفضِيَ بالمرء إلى الحَيْرة نعوذ بالله من ذلك .
على أن قولَه : (مَنْ خَلَق ربَّك) كلامٌ مُتَهافِت ، يَنقُضُ آخِرُه أوَّلَه ، لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً ، ثم لو كان السؤالُ متَّجِهاً لاستلزَم التسلسل ، وهو مُحال . وقد أثبَتَ العقلُ أن المُحدَثات مفتقِرة إلى مُحْدِث ، فلو كان هو مفتقِراً إلى مُحدِث ، لكان من المُحدَثات .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (362 )(1/415)
قال ابن بطّال : فإن قال المُوَسْوِسُ : فما المانعُ أن يَخلق الخالقُ نفْسَه؟ قيل له : هذا يَنْقُضُ بعضُه بعضاً ، لأنك أثبتَّ خالِقاً ، وأوجبتَ وجودَه ، ثم قلتَ : يَخلُقُ نفسَه ، فأوجبتَ عدمَه ، والجمعُ بين كونه موجوداً معدوماً فاسدٌ لتناقضه ، لأن الفاعل يتقدم وجودُهُ على وجودِ فِعلِه ، فيَستَحيل كونُ نفسِهِ فِعلاً له . انتهى .
قال ابن الّين : لو جاز لمُختَرِع الشيء أن يكون له مُختَرِع لَتَسَلْسَلَ ، فلا بد من الانتهاء إلى موجِد قديم ، والقديم من لا يَتَقدَّمه شيء ، ولا يصح عدمه ، وهو فاعل لا مفعول ، وهو الله تبارك وتعالى . انتهى (1)
قال الشيخ محمد عبده في كتابه ((رسالة التوحيد)) ، مبيناً عجزَ العقل البشري عن إداك كُنهِ الحقائق الكونية ، فضلاً عن إدراكِ كُنْهِ ذاتِ الله تعالى : ((إذا قَدَرْنا عَقْلَ البشَرَ قَدْرَه ، وجدنا غايةَ ما ينتهي إلى كماله ، إنما هو الوصولُ إلى معرفة عَوارِض بعض الكائنات ، التي تقع تحت الإدراك الإنساني ، حِسّاً كان أو وِجْداناً أو تعقُّلاً ، ثم التوصُّلُ بذلك إلى معرفةِ مَناشِئها ، وتحصيل كُليّاتٍ لأنواعها ، والإحاطة ببعض القواعد لِعُروض ما يَعرِضُ لها .
وأما الوصولُ إلى كُنْهِ حقيةٍ مّا ، فمما لا تَبلُغُه قُوّةُ العقل ، لأن اكتناه المركَّبات إنما هو باكتناه ما تركَّبَتْ منه ، وذلك ينتهي إلى البسيط الصِّرْف ، وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة ، وغايةُ مل يُمكنُ عِرفانُه منه : عَوارضُهُ وآثارُه .
هذا أظهرُ الأشياء واجلاها (الضَّوْءُ) ، قرَّر الناظرون فيه : له أحكاماً كثيرة ، فصَّلوها في عِلمٍ خاصّ به ، ولكن لم يستطع ناظرٌ أن يَفهم ما هو؟ ولا أن يَكتَنِهَ معنى (الإضاءة) نفسِه ، وإنما ما يَعرفه كلُّ بصير له عينان ، وعلى هذا القياس غيرُ (الضَّوْء) من الكائنات .
ثم إنَّ الله تعالى لم يجعل للإنسان حاجةً يدعو إلى اكتناه شيء من الكائنات ، وإنما حاجتُه إلى معرفة العَوارض والخَواصّ .
__________
(1) - من ((فتح الباري)) 13 :273 274 .(1/416)
ولَذّةُ عقْلِه إن كان سليماً ، إنما هي تحقيقُ نسبةِ تلك الخواص إلى ما اختَصَّتْ به ، وإدراكُ القواعد التي قامَتْ عليها تلك النِّسَبُ ، فالاشتغالُ بالاكتناهِ إضاعةٌ للوقت ، وصَرْفٌ للقوة إلى غير ما سيقت له .
وأما الفكر في ذات الخالق سبحانه ، فهو طلَبٌ للاكتناه من جهة ، وهو ممتنع على العقل البشري ، لما علمتَ من انقطاع النسبة بين الوجودَيْن ، ولاستحالة التركُّب في ذاته . و: تطاولٌ إلى ما لا تَبْلغُهُ القوة البشرية من جهةٍ اخرى ، فهو عَبَثٌ ومَهْلَكة ، عَبَثٌ لأنه سَعْيٌ إلى ما لا يُدْرَك ، ومَهْلَكة لأنه يؤدّي إلى الخَبْط في الاعتقاد ، لأنه تحديدٌ لما لا يجوز تحديدُه ، وحَصْرٌ لما لا يصحُّ حصْرُه ...)) انتهى . وقد قال تعالى : (ليس كمِثْلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصير) .
وإذا كان العقل البشري عاجزاً عن إدراك كُنْهِ المخلوق ، فهو من بابِ أولى : يكون عاجزاً عن إدراك كُنْهِ الخالق سبحانه وتعالى ." (1)
وقال العلاّمة عبد الله النبراوي في شرحه على ((الأربعين النووية)) عند شرح الحديث الثلاثين الذي رواه الدارقطني وغيره بإسناد حسن عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيان فلا تبحثوا عنها)) .
قال رحمه الله تعالى : ((ومن البَحْث عما لا يَعني : البحثُ عن أمور الغيب التي أُمِرنا بالإيمان بها ، ولم تُبيَّن كيفيتها ، لأنه قد يوجب البحثُ عنها الحَيْرة والشك ، ويرتقي الأمر إلى التكذيب والإنكار ، ومن ثم قال ابن إسحاق : لا يجوز التفكُّرُ في الخالق ولا في المخلوق بما لم يُسمَع فيه من الشرع ، كأن يقال في قوله تعالى : (وإنْ من شيء إلاّ يُسبِّحُ
__________
(1) - ((رسالة التوحيد)) ص 58 و59 و60 و61(1/417)
بحمده) : كيف يسبح الجماد؟ لأنه سبحانه وتعالى أخبَرَ به ، فيجعله كيف شاء كما شاء . اه (1) .
وفي ((الصحيحين)) ما يؤيد حرمة التفكر في الخالق ، كخبر البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ، وَلْيَنْتَهِ » (2) .
وأخرج مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ (3) حَتَّى يُقَالَ هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ». (4) .
أي فليُعرِض عن هذا الخاطِرِ الباطِلِ ، ليُؤيِّدَ ويُؤكِّدَ الإيمانَ المُستَقِرَّ في قلبِه بالقولِ بلسانِه : آمنتُ بالله . وفي ذلك رَدٌّ لوسوسةِ الشيطان ، ودَحْرٌ لكيدِه الخبيث .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ قَالَ « فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا (اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ثُمَّ لْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثًا وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ ». (5)
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ سَأَلَكَ مُسْتَهْزِئاً : صِفْ لَنَا رَبَّكَ : إِنَّ رَبِّي هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ ، المُنَزَّهُ عَنِ التَّعَدُّدِ ، وَعَنِ الزَّوْجَةِ وَالصَّاحِبَةِ وَالوَالِدِ وَالوَلَدِ .
وَهُوَ الذِي يَقْصدُهُ العِبَادُ فِي الحَاجَاتِ ، وَيَتَوَّجَّهُونَ إِلَيهِ بِالدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ .
__________
(1) - (الأربعين النووية)) ص 136
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3276 )
(3) أي يَسألُ بعضُهم بعضاً .
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (360 )
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (4724 ) حسن(1/418)
تَنَزَّهَ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي العَرَبِ الذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ المَلاَئِكَةَ بَنَاتُ اللهِ .وَرَدَّ عَلَى مَزَاعِمِ النَّصَارَى الذِينَ جَعَلُوا المَسِيحَ ابْنَ اللهِ ، وَعَلَى اليَهُودِ الذِينَ قَالُوا : إِنَّ عُزَيْراً هُوَ ابْنُ اللهِ .
وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُولَدْ لأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مَجَانَسَتَهُ لِسِوَاهُ ، كَمَا يَقْتَضِي سَبْقَ العَدَمِ قَبْلَ الوُجُودِ ، تَنَزَّهَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ .ولَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلاَ مَثِيلٌ . وَفِي هَذَا نَفْيٌ لِمَا يَعْتَقِدَهُ بَعْضُ المُبْطِلِينَ مِنْ أَنَّ للهِ نِدّاً فِي أَفْعَالِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ مُشْرِكِي العَرَبِ الذِينَ جَعَلُوا المَلاَئِكَةَ شُرَكَاءَ للهِ . (1)
( ليَتْفُلْ عن يساره ثلاثاً)أي لِيَبصُق ثلاث مرّاتٍ من جهة يَسارِه . والتَّفْلُ والبَصْقُ في هذا عبارةٌ عن كراهةِ الشيءِ والنفورِ عنه ، كمن يَجدُ جيفةً! وتكرارُ ذلك ثلاث مرّاتٍ : مُراغَمةٌ للشيطانِ وتَبعيدٌ له ، ليَنفِرَ من المؤمِن ، ويعلمَ أنه لا يُطيعه ، وأنه يَكرَهُ الكلامَ المذكور .(ولْيَسْتَعِذْ من الشيطان) والاستعاذةُ هي طَلَبُ المُعوَنةِ من الله على دفعِ الشيطان . قال العلاّمة الطيبي : وإنما أمرَهُ بالاستعاذة والاشتغال بأمرٍ آخر ، ولم يأمُرُهُ بالتأمُّلِ والاحتجاج ، لأن العلمَ باستغناء الله جلَّ وعلا عن الموجِد أمرٌ ضروري لا يَقبَلُ المُناظَرة ، ولأن الاسترسالَ في الفكر في ذلك لا يزيد المرءَ إلاّ حَيْرةً ، ومَنْ هذا حالُه فلا علاجَ له إلاّ الملجأُ إلى الله تعالى والاعتصامُ به .
الخلاصة :
(1) يجوز للمعلم أن يجيب عن استفسارات طلابه .
(2) يمكن أن يجيبهم عما يحيك في نفوسهم من أسئلة تتكرر كثيرا للرد على الشبهات ونحوها .
(3) ليس من الضروري أن يسأل الطلاب ليجيبهم المعلم ، بل عليه بالمبادرة في ، فربما كانوا يستحون من السؤال أو يتورعون .
ــــــــ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 6099)(1/419)
41-إجابتُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ عما سأل عنه:
كان - صلى الله عليه وسلم - يجيب السائلَ عن سؤالِهِ،وقد علَّم كثيراً من الشرائع والأحكام ومَعالِمِ الدين بالإجابة على أسئلة أصحابه،وقد حَضَّ أصحابَه على السؤال عما يَهمُّهم من الحوادثِ والنوائب أو مما يحتاجون إلى معرفته من الفرائض والشرائع، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا فِى سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِى رَأْسِهِ ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ : هَلْ تَجِدُونَ لِى رُخْصَةً فِى التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ :« قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ، إِنَّمَا شِفَاءُ الْعَىِّ السُّؤَالُ ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ». (1)
العِيِّ بكسر العين ، وهو هنا : الجَهلُ . يعني لا شفاءَ لداء الجَهْلِ إلاّ السؤالُ والتعلُّم ، قال تعالى : (فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إن كنتم لا تعلمون) . وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذمِّ السؤال فإنما هو محمول على السؤالِ عما لا حاجة إليه ، وعلى السؤالِ عن أمورٍ مُغيَّبةٍ ورَدَ الشرعُ بالإيمانِ بها مع تركِ كيفيتِها ، وعلى الإكثار من الأسئلة غيرِ المُهمّةِ مع الإعراض عن تعلُّم ما يُحتاج إليه من الشرائع والعمل بمقتضاه ، وعلى السؤال للمراءِ والجدالِ والعِناد دون التعلُّم والتفقُّه (2)
هذا ، وقد استحسنتُ هنا أن أوردَ كلامَ الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في ذكرِ أنواعِ السؤالِ وأحكامِه ، فإنه قد أجاد البحثَ فيه كعادته .
قال رحمه الله تعالى في ((كتاب المُوافَقات)) ما نصُّه : إن السؤالَ إما أن يَقَع من عالمٍ أو غير عالم . وأعني بالعالم المجتهدَ ، وغير العالم المقلِّد ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المَسؤول عالماً أو غير عالمٍ ، فهذه أربعةُ أقسام :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (1 / 228)(1117) صحيح
(2) - انظر رسالة ((منهَجُ السلف في السؤال عن العلم وفي تعلُّم ما يَقَع وما لم يَقَع)) لأبي غدة(1/420)
الأول : سؤالُ العالمِ ، وذلك في المشروع ، يَقَع على وجوه سنة ؛ كتحقيقِ ما حَصَل ، أو رفع إشكال عَنَّ له ، وتذكُّرِ ما خشِي عليه النسيانَ ، أو تنبيهِ المسؤولِ على خطأ يورِدُه مورد الاستفادة ، أو نيابةً منه عن الحاضرين من المُتعلّمين ، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم .
الثاني : سؤالُ المتعلِّم لمثلِه ، وذلك أيضاً يكون على وجوه أربعة ؛ كَمُذاكَرَتِهِ له بما سَمِع ، أو طلبِهِ منه ما لم يَسمع مما سَمِعه المسؤولُ ، أو تمرُّنِهِ معه في المسائل قبلَ لقاءِ العالم ، أو التهدّي بعقلِه إلى فهم ما ألقاه العالمُ .
الثالث : سؤالُ العالِم للمتعلِّم ، وهو على وجوه أربعة كذلك ، كتنبيهِهِ على موضِعِ إشكالٍ يُطلَبُ رفعُه ، أو اختبارِ عقلِه أين بلغ؟ والاستعانةِ بفهمه إن كان لفهمه فضلٌ ، أو تنبيهِهِ على ما عَلِم ليستدل به على ما لم يعلم .
وهذه الكلمةُ القصيرةُ وهي قوله : أو تنبيهه ... تَضَمَّنَت أهمَّ أركانِ فنِّ التربية العملية المسمى بالبيداجوجيا . وهو بناءُ المعلم تعليمَ تلميذِهِ شيئاً جديداً على ما تعلَّمه قبلُ ، فقد كان نتيجةً لمقدِّمات ، ثم يصير بعدَ علمِهِ به مقدمةً لمسألةٍ جديدة ، وهكذا
الرابع : وهو الأصلُ الأولُ ، سؤالُ المتعلِّم للعالم . وهو يَرجِعُ إلى طلب علمِ ما لم يعلم
فأما الأول والثاني والثالث فالجوابُ عنه مُستَحَقُّ إن عَلِم ، ما لم يَمْنَعْ من ذلك عارضٌ مُعتَبَرٌ شرعاً ، وإلاّ فالاعترافُ بالعجز .
وأما الرابعُ فليس الجوابُ بمُسْتَحَقٍّ بإطلاقٍ ، بل فيه تفضيل ، فيلزم الجوابُ إذا كان عالماً بما سُئِل عنه مُتعيِّناً عليه في نازلةٍ واقعةٍ ، أو في أمرٍ فيه نصٌّ شرعي بالنسبةِ إلى المتعلِّم ، لا مطلقاً ، ويكون السائلُ ممن يَحتمِلُ عَقلُه الجوابَ ، ولا يؤدي السؤالُ إلى تعمُّق ولا تكلُّفٍ ، وهو مما يُبنى عليه عملٌ شرعي ، وأشباهُ ذلك .
وقد لا يلزم الجوابُ في مواضع ، كما إذا لم يَتَعيَّن عليه .(1/421)
وقد لا يجوز ، كما إذا لم يَحتَمِلْ عقلُه الجوابَ ، أو كان فيه تَعمُّقٌ ، أو أكثَرَ من السؤالاتِ التي هي من جنس الأغاليط ...)) (1)
وكان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوردون عليه ما يُشكِلُ عليهم من الأسئلة والشُّبهات للفهم والبيان وزيادة الإيمان،فكان يُجيبُ كُلاًّ عن سؤالِهِ بما يُثْلِجُ صُدورَهم
وكُتُبُ الحديث مَشْحونةٌ بأجوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسئلة أصحابه في أمور الدين،وتَجِدُ طائفةً منها في هذا الكتاب من مواضع مُتفرِّقةً،وإليك أحاديث أخر في هذا الباب :
عَنْ نَوْاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، فَإِنَّ أَحَدَنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يسَلْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا جَالَ فِي نَفْسِكَ وَخَشِيتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2)
معناه كما قال النووي (3) : ((أنه أقامَ بالمدينةِ كالزائر من غير نُقْلةٍ إليها من وطنِه ، لاستيطانها ، وما منعه من الهجرة وهي الانتقال من الوطن واستيطانِ المدينة إلاّ الرغبةُ في سؤالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمور الدين ، فإنه كان سُمِحَ بذلك للطّارئين دون المهاجرين ، وكان المهاجرون يَفرحون بسؤال الغُرَباء الطارئين من الأعراب وغيرِهم ، لأنهم يُحتَملون في السؤال ويُعذَرون ، ويَستفيدُ المهاجرون الجوابَ ، كما قال أنس في الحديث الذي رواه مسلم أيضاً ((وكان يُعجِبُنا أن يجيء الرجلُ العاقِلُ من أهل الباديةِ فيَسألُه)) . انتهى .
والمُهاجرون لم يُمنَعوا من السؤال عما يُحتاج إليه من أمور الدين ، وإنما كانوا يَهابون ان يَسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ إذا اشتدَّت الحاجةُ ، وفي حديث جبريل من طريق أبي هريرة رضي الله عنه : ((قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : سلوني ، فهابوه أن يسألوه ، فجاء رجلٌ فجلس عند رُكبتيه فقال : يا رسول الله ، ما الإسلام ...)) الحديث ، رواه مسلم (4)
__________
(1) - ((كتاب المُوافَقات)) 4 :311 313 - انتهى كلامُ الشاطبي رحمه الله تعالى بزيادة ما بين العارضتين .
(2) - شعب الإيمان - (9 / 408)(6887 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6681)
(3) - في ((شرح صحيح مسلم)) 165 :11
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (108)(1/422)
وفي كُتُب الحديث من أسئلة المُهاجرين والأنصار المُستَوطنين بالمدينة ، وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها : نظائرُ كثيرةٌ ، وقد سَبَق بعضُها .
وقال الحافظُ ابنُ حجر (1) في شرح هذا الحديث : ((في هذا الحديث بيانُ أن السُّؤالَ عن مثل هذا لم يَدخُل فيما نُهي الصحابةُ عنه ، في قوله تعالى : (لا تَسألوا عن أشياء) ، وفي حديث أنس : ((كنا نُهينا أن نَسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء)) . وقد وقع نحوُ ذلك لغير عائشة ، ففي حديث حفصة أنها لما سَمِعَتْ : ((لا يَدخُل النارَ أحدٌ ممن شَهِدَ بدراً والحُديبية)) قالتْ : أليس الله يقول : (وإن منكم إلاّ وارِدُها) فأُجيبت بقوله (ثم نُنجّي الذين اتقوا) الآية .
وسأَل الصحابة لما نَزَلَتْ (الذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانهم بظلمٍ) : أيُّنا لم يَظلِمْ نفسه؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشِّركُ ...
فيُحمَلُ ما وَرَدَ من ذمِّ من سأل عن المُشكلات على من سأل تعنُّتاً ، كما قال تعالى (فأما الذين في قُلوبِهم زَيغٌ فيتَّبعون ما تَشابَهَ منه ابتغاءَ الفِتنةِ) ، وفي حديث عائشة : ((فإذا رأيتم الذين يَسألون عن ذلك فهم الذين سَمّى الله فاحذروهم)) ، ومِن ثَمَّ أنكَرَ عمر رضي الله تعالى عنه على صَبيغٍ بن عِسْل التميمي لمّا رآه أكثَرَ من السؤال عن مثل ذلك ، وعاقَبَه)) اه .
قوله : (البِرُّ حسنُ الخُلُق) قال العلماء : البر يكون بمعنى الصِّلة وبمعنى اللُّطفِ والمَبَرَّةِ وحُسنِ الصحبةِ والعِشْرةِ ، وبمعنى الطاعة ، وهذه الأمورُ هي مَجامِعُ حُسنِ الخلق .
وقولُه : (حاك في صدرِك) أي تحرَّك فيه وتردَّدَ ، ولم يَنشَرِح له الصدرُ ، وحَصَل في القلب منه الشكُّ وخوفُ كونِه ذنباً ، (2) قوله : (كَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه الناسُ) أي وُجوهُ الناس وأماثِلُهم الذين يُستَحْيا منهم ، والمرادُ بالكَراهةِ هنا الكراهةُ الدينيةُ الخارِمةُ للمُروءةِ والدّين ، فخرج العاديةُ ، كمن يَكرَهُ أن يُرى آكلاً لنحو حياءٍ ، وخرج أيضاً
__________
(1) - في ((فتح الباري)) 1 :197
(2) - كما في((شرح صحيح مسلم)) للنووي 16 : 111(1/423)
غيرُ الخارِمةِ كمن يَكرَهُ أن يَركب بين مُشاةٍ لنحوِ تواضُعٍ .وإنما كان التأثيرُ في النفس علامةً للإثم لأنه لا يَصدُر إلاّ لشعورِها بسوءِ عاقبتِه ، والحديثُ من جوامع الكَلِم ، لأن البِرَّ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ ، والإثمُ جامعٌ للشرِّ . (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فُلاَنًا الأَسْلَمِىَّ وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَمَانَ عَشْرَةَ بَدَنَةً فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ أُزْحِفَ عَلَىَّ مِنْهَا شَىْءٌ (2) قَالَ « تَنْحَرُهَا ثُمَّ تَصْبُغُ نَعْلَهَا فِى دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْهَا عَلَى صَفْحَتِهَا وَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ ». أَوْ قَالَ « مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ ». (3)
وعَنْ أَبِى التَّيَّاحِ الضُّبَعِىِّ حَدَّثَنِى مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِىُّ قَالَ : انْطَلَقْتُ أَنَا وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ مُعْتَمِرَيْنِ قَالَ فَانْطَلَقَ سِنَانٌ مَعَهُ بِبَدَنَةٍ يَسُوقُهَا فَأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ فَعُنِىَ بِشَأْنِهَا إِنْ هِىَ أُبْدِعَتْ كَيْفَ يَأْتِى لَهَا فَقَالَ : لَئِنْ قَدِمْتُ الْبَلَدَ لأَسْتَحْفِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ قَالَ فَأَصْبَحْتُ فَلَمَّا نَزَلْنَا الْبَطْحَاءَ قَالَ : انْطَلِقْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ قَالَ فَذَكَرَ لَهُ شَأْنَ بَدَنَتِهِ فَقَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّ عَشَرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرَهُ فِيهَا قَالَ مَضَى ثُمَّ رَجَعَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَىَّ مِنْهَا قَالَ :« انْحَرْهَا ثُمَّ اصْبَغْ نَعْلَيْهَا فِى دَمِهَا ثُمَّ اجْعَلْهَا عَلَى صَفْحَتِهَا فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ (4)
قال النووي : " فِيهِ دَلِيل لِجَوَازِ ذِكْر الْإِنْسَان بَعْض مُمَادَحَته لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اِبْن عَبَّاس ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلسَّامِعِ فِي الِاعْتِنَاء بِخَبَرِهِ ، وَحَثًّا لَهُ عَلَى الِاسْتِمَاع لَهُ ، وَأَنَّهُ عِلْم مُحَقَّق .
__________
(1) - أفاد كلَّ ذلك المناويُّ في ((فيض القدير)) 3 :218
(2) أي أعيا وعَجَزَ عن المشي .
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (1765 ) صحيح
(4) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 242) (10547) وصحيح مسلم- المكنز - (3280 )
أبدع : كل وتعب -أستحفين : أسألن عن ذلك سؤالا بليغا -أزحف : أعيا البعير ووقف من التعب(1/424)
قَوْله : ( يَا رَسُول اللَّه كَيْف أَصْنَع بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا ؟ قَالَ : اِنْحَرْهَا ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمهَا ثُمَّ اِجْعَلْهُ عَلَى صَفْحَتهَا وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَد مِنْ أَهْل رُفْقَتك )
فِيهِ فَوَائِد مِنْهَا : أَنَّهُ إِذَا عَطِبَ الْهَدْي وَجَبَ ذَبْحه وَتَخْلِيَته لِلْمَسَاكِينِ ، وَيَحْرُم الْأَكْل مِنْهَا عَلَيْهِ وَعَلَى رُفْقَته الَّذِينَ مَعَهُ فِي الرَّكْب ، سَوَاء كَانَ الرَّفِيق مُخَالِطًا لَهُ أَوْ فِي جُمْلَة النَّاس مِنْ غَيْر مُخَالَطَة وَالسَّبَب فِي نَهْيهمْ قَطْع الذَّرِيعَة لِئَلَّا يَتَوَصَّل بَعْض النَّاس إِلَى نَحْره أَوْ تَعْيِيبه قَبْل أَوَانه .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَكْل مِنْ الْهَدْي إِذَا عَطِبَ فَنَحَرَهُ ، فَقَالَ الشَّافِعِيّ : إِنْ كَانَ هَدْي تَطَوُّع كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَل فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْع وَذَبْحٍ وَأَكْل وَإِطْعَام وَغَيْر ذَلِكَ ، وَلَهُ تَرْكه ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي كُلّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكه ، وَإِنْ كَانَ هَدْيًا مَنْذُورًا لَزِمَهُ ذَبْحه ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى هَلَكَ لَزِمَهُ ضَمَانه كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظ الْوَدِيعَة حَتَّى تَلْفِت ، فَإِذَا ذَبَحَهُ غَمَسَ نَعْله الَّتِي قَلَّدَهُ إِيَّاهَا فِي دَمه ، وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَة سَنَامه وَتَرَكَهُ مَوْضِعه ؛ لِيَعْلَم مَنْ مَرَّ بِهِ أَنَّهُ هَدْي فَيَأْكُلهُ ، وَلَا يَجُوز لِلْمُهْدِي وَلَا لِسَائِقِ هَذَا الْهَدْي وَقَائِده الْأَكْل مِنْهُ ، وَلَا يَجُوز لِلْأَغْنِيَاءِ الْأَكْل مِنْهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْهَدْي مُسْتَحَقّ لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَجُوز لِغَيْرِهِمْ ، وَيَجُوز لِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْر أَهْل هَذِهِ الرُّفْقَة ، وَلَا يَجُوز لِفُقَرَاء الرُّفْقَة ، وَفِي الْمُرَاد بِالرُّفْقَةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدهمَا : أَنَّهُمْ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ الْمُهْدِي فِي الْأَكْل وَغَيْره دُون بَاقِي الْقَافِلَة ، وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحّ ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِر الْحَدِيث ، وَظَاهِر نَصَّ الشَّافِعِيّ وَكَلَام جُمْهُور أَصْحَابنَا ، أَنَّ الْمُرَاد بِالرُّفْقَةِ جَمِيع الْقَافِلَة ؛ لِأَنَّ السَّبَب الَّذِي مُنِعَتْ بِهِ الرُّفْقَة هُوَ خَوْف تَعْطِيبهمْ إِيَّاهُ ، وَهَذَا مَوْجُود فِي جَمِيع الْقَافِلَة ، فَإِنْ قِيلَ : إِذَا لَمْ تُجَوِّزُوا لِأَهْلِ الْقَافِلَة أَكْله وَتُرِكَ فِي الْبَرِّيَّة كَانَ طُعْمَة لِلسِّبَاعِ وَهَذَا إِضَاعَة مَال ، قُلْنَا : لَيْسَ فِيهِ إِضَاعَة بَلْ الْعَادَة الْغَالِبَة أَنَّ سَكَّانِ الْبَوَادِي وَغَيْرهمْ يَتْبَعُونَ مَنَازِل الْحَجّ لِالْتِقَاطِ سَاقِطَة وَنَحْوه ، وَقَدْ تَأْتِي قَافِلَة فِي إِثْر قَافِلَة . وَاَللَّه أَعْلَم ." (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (4 / 474) و المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (10 / 139)(1/425)
وعَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذِى الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا . قَالَ وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ ، وَكَانَ فِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا » . فَقَالَ جَدِّى إِنَّا نَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - الْعَدُوَّ غَدًا ، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ . قَالَ « مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلُوهُ ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ (1) ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ (2) ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ » (3) .
هذا الذبحُ كان يفعله أهل الجاهلية ، فكانوا أحياناً يذبحون الطيورَ ، كالعصفور ، والحيوانات الصغيرة ، كالأرنب ونحوه ، بالسِّنِّ والظُّفُر ، فلما جاء الإسلامُ حَظَر هذا الذبحَ وحَرَّمه ، كما تراه في هذا الحديث .
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (4) ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ (5) وَبِأَرْضِ صَيْدٍ ، أَصِيدُ بِقَوْسِي ، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي المُعَلَّمِ ، فَمَا يَصْلُحُ لِي ؟ قَالَ : " أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا (6) ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا (7) ، وَمَا صِدْتَ
__________
(1) - أي إلاّ السِّنَّ والظُفُرَ .
(2) - أي عن سبب نهي الذبح بهما .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2488 )
الأوابد : جمع آبدة وهى الدابة التى توحشت -القصَب : كل عظم أجوف ذى مخ -المدى : جمع مدية وهى السكين -أنهر : أجرى
(4) - كان أبو ثعلبة هو وقومُه بنو خُشَين من العرب الذين يسكنون الشام .
(5) - سبب سؤاله عن الأكل في آنية أهل الكتاب : أنهم يطبخون فيها الخنزير ، ويشربون فيها الخمر
(6) - لنجاستها بطبخهم فيها الخنزير ، وشربهم فيها الخمر . وكلٌّ من الخنزير والخمر نَجِس ، فتنجس الأواني بحلوله فيها .
(7) - أي لا تجدوا سِواها ، فاغسلوها ثم كلوا أو اشربوا فيها .(1/426)
بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ (1) ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ ، (2) وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ (3) فَكُلْ " (4)
وعَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِى قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ وَيَشْرَبُونَ فِى آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ (5) وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ». (6)
قال الشيخ : والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمور فإنه لا يجوز استعمالها إلاّ بعد الغسل والتنظيف ، فأما مياههم وثيابهم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثبابهم إلاّ أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات أو كان من عادتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن استعمال ثيابهم غير جائز إلاّ أن لا يعلم أنه لم يصبها شيء من النجاسات والله أعلم. (7)
قال الحافظ ابن حجر : ((وفي هذا الحديث من الفوائد : جَمْعُ المسائل وإيرادُها دفعةً واحدة ، وتفصيلُ الجواب عنها واحدةً واحدةً بلفظ إمّا وإمّا)) (8) .
الخلاصة :
(1) على المعلم أن يكون يجهز نفسه للإجابة على أسئلة طلابه.
(2)
__________
(1) - أي إذا ذكرتَ اسم الله عند رميك القوس ، فكُل الصيدَ لحِلِّهِ بالتسمية عند رميك له .
(2) - أي إذا سمَّيت الله على الصيد عند إشلائك الكلب المعلَّم وإرسالك إياه على الصيد ، فكُلْه ، لحِلِّه بالتسمية عليه عند إرسال الكلب المعلَّم .
(3) - أي صيدُ الكلب الذي ليس بمعلَّم ، لا يحل أكلُه إلاّ إذا أدركته قبل أن يموت ، فذكَّيتَه أي ذَبحتَه ، فحينئذٍ يحل لك أكلُه .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5478 ) وصحيح مسلم- المكنز -(5092)
(5) أي اغسِلوها غسلاً جيداً .
(6) - سنن أبي داود - المكنز - (3841 ) صحيح
(7) - معالم السنن للخطابي 288 - (4 / 257)
(8) - ((فتح الباري)) 9 :523(1/427)
عليه أن يجيبهم عن أسئلتهم دون حرج .
(3) لا يجوز له أن يفتي بغير علم .
(4) أن يكون مطلعاً على أحوال طلابه ليسهل عليه إجابتهم عما سألوا.
ــــــــ
42-جوابُه - صلى الله عليه وسلم - السائلَ بأكثرَ مما سأل عنه:
تارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يُجيب السائلَ بأكثرَ مما سأل،إذا رأى أنَّ به حاجةً إلى معرفةِ الزائدِ عن سُؤاله،وهذا من كمالِ رأفتِه - صلى الله عليه وسلم - ،ومن عظيم رعايتِه بالمتعلِّمين والمتفقِّهين :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ » (1) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا مِنْ هَوْدَجٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ ». (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِىَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ « مَنِ الْقَوْمُ ». قَالُوا الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا مَنْ أَنْتَ قَالَ « رَسُولُ اللَّهِ ». فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ ». (3)
وعن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ كُرَيْبًا يُخْبِرُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَرَ مِنْ مَكَّةَ ، فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ اسْتَقْبَلَهُ رَكْبٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : مَنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا : الْمُسْلِمُونَ ، فَمَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ : رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَفَزِعَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ ، فَرَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا مِنْ مِحَفَّةٍ وَأَخَذَتْ بِعَضَلَتِهِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَلْ لِهَذَا حَجٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِ أَجْرٌ.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (3318 )
(2) - سنن النسائي- المكنز - (2658 ) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3317 )(1/428)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ فَحَجَّ بِأَهْلِهِ أَجْمَعِينَ. (1)
فأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثَرَ مما سألتْ عنه،فقد سألت عن حَجّ الصبي،فقال : له حَجٌّ،وزادها : ولكِ أجر . إذْ هي المتوليةُ لأمرِه،فأفادها بثبوتِ الأجر لها،وذلك باعِثٌ قويٌّ على حُسنِ فعلِها والاقتداءِ بها ممن يأتي بعدها من الأمهات والآباء،في تحمُّلِ المشقّات الشديدةِ باصحاب الاولاد الصغار للحج إلى بيت الله المعظم،ليُغرَس في قلوبهم ومَشاهد أنظارهم هذا المشهدُ العظيم،وينطبعَ في نفوسهم هذا الركنُ الخامسُ الجسيم،ولِما في مَشهَد الصغار حول البيت من تحريكٍ للقُلوب والأرواحِ والدُّموع .
وقد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ حَجِّ الصَّبِيِّ ، وَعُمْرَتِهِ ، وَأَنَّ مَا يُؤَدِّيهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ مِنْ حَجٍّ أَوْ مِنْ عُمْرَةٍ يَكُونُ تَطَوُّعًا ، فَإِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ فَرْضِ الإِْسْلاَمِ . وَإِذَا كَانَ أَدَاءُ الصَّبِيِّ لِلنُّسُكِ صَحِيحًا كَانَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا قَطْعًا (2)
فعَنْ أَبِى السَّفَرِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّى مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَسْمِعُونِى مَا تَقُولُونَ وَلاَ تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ وَلاَ تَقُولُوا الْحَطِيمُ فَإِنَّ الرَّجُلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَحْلِفُ فَيُلْقِى سَوْطَهُ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَوْسَهُ ، وَأَيُّمَا صَبِىٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَقَدْ قَضَتْ حَجَّتُهُ عَنْهُ مَا دَامَ صَغِيرًا فَإِذَا بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَقَدْ قَضَتْ عَنْهُ حَجَّتُهُ مَا دَامَ عَبْدًا فَإِذَا عُتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَمِدْتُ اللهَ تَعَالَى، وَكَبَّرْتُ، وَسُرِرْتُ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا أَهْلَهَا فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 357) (144) وأخبار مكة للفاكهي - (1 / 385)(814 ) صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (2 / 178) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 899) رقم الفتوى 11724 يؤجر الصبي على الحج والعمرة وكذلك وليه وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 6005) رقم الفتوى 36299 تصح العمرة والحج من الصبي بالإجماع
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 156) (9998) وصحيح البخارى- المكنز - (3848)(1/429)
بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَوْ أَبَعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ " (1) .
فبعدما فعل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ما فعل زاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل أخرى لم يسأل عنها أصلاً .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ . قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ » (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَلاَ نُخْبِرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ يُفَجَّرُ ، أَوْ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعْلاَهَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ
__________
(1) - شعب الإيمان - (6 / 119) (3953 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2790 )
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 281)(8419) 8400- صحيح(1/430)
وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ. (1)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَحَجَّ الْبَيْتَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، وَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الزَّكَاةَ أَمْ لاَ ؟ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ إِنْ هَاجَرَ فِي سَبِيلِهِ ، أَوْ مَكَثَ بِأَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ بِهَا ، فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَفَأُخْبِرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : ذَرِ النَّاسَ يَا مُعَاذُ ، فِي الْجَنَّةِ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِئَةُ سَنَةٍ ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَأَوْسَطُهَا وَمِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ." (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ حَارِثَةَ خَرَجَ نَظَّارًا ، فَأَتَاهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَرَفْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنِّي ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ ، وَإِلاَّ رَأَيْتَ مَا أَصْنَعُ . قَالَ : يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّ حَارِثَةَ لَفِي أَفْضَلِهَا ، أَوْ قَالَ : فِي أَعَلَى الْفِرْدَوْسِ" (3)
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ حَارِثَةَ ابْنَ الرُّبَيِّعِ جَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَّارًا ، وَكَانَ غُلاَمًا ، فَجَاءَ سَهْمٌ غَرْبٌ ، فَوَقَعَ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِهِ ، فَقَتَلَهُ ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ الرُّبَيِّعُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَ حَارِثَةَ مِنِّي ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسَأَصْبِرُ ، وَإِلاَّ فَسَيَرَى اللَّهُ مَا أَصْنَعُ ، قَالَ : فَقَالَ : يَا أُمَّ حَارِثَةَ ، إِنَّهَا لَيْسَتْ بِجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى." (4)
وعَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيَّ ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِيثِهِمْ ، فَقَالُوا : كُنَّا فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : أَلاَ أَزِيدُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالُوا :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 294)(8474) 8455- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 370)(22087) 22438- صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 321)(12252) 12277- صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 693)(13871) 13907- صحيح(1/431)
بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : مَنْ أَحَبَّ الأَنْصَارَ ، أَحَبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ أَبْغَضَ الأَنْصَارَ ، أَبْغَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ." (1)
وعَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ - قَالَ - يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ - قَالَ - فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ». (2)
وعن الْحَارِثَ الأَشْعَرِيِّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ يَعْمَلُ بِهِنَّ ، وَيَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلِ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، وَإِنَّ عِيسَى قَالَ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ تَعْمَلُ بِهِنَّ وَتَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ ، وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ. قَالَ : فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَتْ وَجَلَسُوا عَلَى الشَّرُفَاتِ فَوَعَظَهُمْ ، وَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَعْمَلُ بِهِنَّ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ : أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرَقٍ ، وَقَالَ لَهُ : هَذِهِ دَارِي ، وَهَذَا عَمَلِي فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ هَكَذَا ، وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ ، فَاعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَلْتَفِتِ اسْتَقْبَلَهُ جَلَّ وَعَلاَ بِوَجْهِهِ ، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ ، وَعِنْدَهُ عِصَابَةٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَجِدُوا رِيحَهَا ، فَإِنَّ الصِّيَامَ عِنْدَ اللهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُو فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَضْرِبُوا عُنُقَهُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْدِيَ نَفْسِي فَجَعَلَ يُعْطِيهِمُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ لِيَفُكَّ نَفْسَهُ مِنْهُمْ. وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللهِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ ، فَأَتَى عَلَى حُصَيْنٍ ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي
__________
(1) -مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 765)(16871) 16996- صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (467 )(1/432)
اللَّهُ بِهَا : بِالْجَمَاعَةِ ، وَالسَّمْعِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبَقَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يُرَاجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ. قَالَ رَجُلٌ : وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ : وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهِ." (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ ، يَقُولُ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الأَشْعَرِيُّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي خَمْسِ كَلِمَاتٍ يَعْمَلُ بِهِنَّ ، وَيَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَكَانَ يُبْطِئُ بِهِنَّ ، فَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : إِنَّكَ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ تَعْمَلُ بِهِنَّ وَتَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمُ بِهِنَّ وَإِمَّا أَنْ أَقُومَ أَنَا فَ آمُرَهُمْ بِهِنَّ ، قَالَ يَحْيَى : إِنَّكَ إِنْ تَسْبِقْنِي بِهِنَّ أَخَافُ أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي ، فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ ، حَتَّى جَلَسَ النَّاسُ عَلَى الشُّرُفَاتِ ، فَوَعَظَ النَّاسُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَعْمَلُ بِهِنَّ وَآمُرُكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ ، أَوَّلُهُنَّ أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، فَإِنَّ مِثْلَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا دَارِي وَعَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ عَمَلَكَ ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ كَذَلِكَ ؟ يُؤَدِّي عَمَلُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ ، وَاللَّهُ هُوَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَلاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا نَصَبْتُمْ وجُوهَكُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْصُبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ حِينَ يُصَلِّي ، فَلاَ يَصْرِفُ وَجْهُهُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ ، فَإِنَّ مَثْلَ الصَّائِمِ مَثْلُ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةُ مِسْكٍ ، فَهُوَ فِي عِصَابَةٍ لَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِسْكٌ غَيْرِهِ ، كُلُّهُمْ يَشْتَهِي أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ ، فَإِنَّ مَثْلَهَا كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ، فَشَدُّوا
__________
(1) -صحيح ابن حبان - (14 / 125) (6233) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : الأَمْرُ بِالْجَمَاعَةِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخَاصُّ ، لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ إِجْمَاعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَنْ لَزِمَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَشَذَّ عَنْ مَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِشَاقٍّ لِلْجَمَاعَةِ ، وَلاَ مُفَارِقٍ لَهَا ، وَمَنْ شَذَّ عَنْهُمْ وَتَبِعَ مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَ شَاقًّا لِلْجَمَاعَةِ ، وَالْجَمَاعَةُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ هُمْ أَقْوَامٌ اجْتَمَعَ فِيهِمُ الدِّينُ وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ ، وَلَزِمُوا تَرْكَ الْهَوَى فِيمَا هُمْ فِيهِ. وَإِنْ قَلَّتْ أَعْدَادُهُمْ ، لاَ أَوْبَاشُ النَّاسِ وَرِعَاعُهُمْ ، وَإِنْ كَثُرُوا.(1/433)
يَدَهُ إِلَى عُنُقَهُ ، فَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ ، فَقَالَ : لاَ تَقْتُلُونِي ، فَإِنِّي أَفْدِي نَفْسِي مِنْكُمْ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ ، فَأَرْسَلُوهُ فَجَعَلَ يَجْمَعُ حَتَّى فَدَى نَفْسَهُ مِنْهُ ، ف كَذَلِكَ الصَّدَقَةُ يَفْتَدِي بِهَا الْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، وَأَمَرَكُمْ بِكَثْرَةِ ذَكْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَكْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ غَلَبَهُ الْعَدُوُّ فَانْطَلَقُوا فِي طَلَبِهِ سِرَاعًا وَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى حِصْنًا حَصِينًا ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لاَ يُحْرِزُ الْعِبَادُ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِنَّ : الْجَمَاعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلاَمِ مِنْ رَأْسِهِ عُنُقَهُ ، وَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ : وَإِنَّ صَامَ وَصَلَّى ، فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا. " (1)
وفي هذه الأحاديث جميعاً نلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زاد أصحابه أشياءً عديدة على أسئلتهم .
الخلاصة :
(1) يجوز للمعلم أن يزيد على سؤال المتعلم بحسب الحاجة .
(2) الزيادة على سؤال المتعلم ولاسيما إن كانت ذات صلة به أدعى للقبول والحفظ .
(3) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاول إفادة أصحابه بكافة الوسائل والطرق .
ــــــــ
43-لَفْتُه (السائلَ إلى غير ما سَأَل عنه:
كان ( يَلفِتُ السائلَ عن سؤالِه لحكمةٍ بالغةٍ ومن ذلك :
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (4 / 112)(2870) صحيح(1/434)
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ - ( - مَتَّى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » . قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . قَالَ « أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ » (1) .
فلَفَتَه - صلى الله عليه وسلم - عن سؤالِه عن وَقْتِ قيام الساعة،الذي اختَصَّ الله تعالى بعلمِه،إلى شيءٍ آخَرَ هو أحوجُ إليه،وأفضَلُ نفعاً عليه،وهو إعدادُ العملِ الصالح للسّاعةِ،فقال : ما أعددتَّ لها؟ فقال : حُبَّ اللهِ ورسولِه،فقال : أنت مع من أحببتَ .
فزاده - صلى الله عليه وسلم - أياً أن الإنسان يُحشَرُ مع من يُصاحِبُ ويُحبُّ . وفي هذا تبصيرٌ للإنسان وتحذيرٌ من أن يتَّخذ في الدنيا قريناً له غيرَ صالحٍ،فيكونَ معه في الآخرةِ حيث يكون!
وهذا الأسلوبُ في لَفْتِ السائل يُسمّى : أسلوبَ الحكيمِ (2) ،وهو تَلَقّي السائلِ بغير ما يَطلُب،مما يَهُمُّه أو مما هو أهمُّ مما سأَل عنه أو أنفَعُ له .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَعَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ « لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ وَلاَ الْعِمَامَةَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ وَلاَ الْبُرْنُسَ وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ » (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ ، وَلاَ الْعَمَائِمَ ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ ، وَلاَ الْبَرَانِسَ ، وَلاَ الْخِفَافَ ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ." (4)
فأنت ترى أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عما يَلْبَسُ المُحْرِم،فأجاب ببيانِ ما لا يَلبَسه المُحرِم،وتَضمَّن ذلك الجوابَ عما يَلْبَسُه،فإنَّ ما لا يَلبَسُه المُحْرم محصور،وما يَلبَسُه غير
__________
(1) -صحيح البخارى- المكنز - (6171 )
(2) - انظر كتابي (( الخلاصة في علوم البلاغة ))
(3) -صحيح البخارى- المكنز - (134 )
(4) - صحيح ابن حبان - (9 / 94) (3784) صحيح(1/435)
محصور،فعدَل عما لا ينحصرُ تعدادُه إلى ما ينحصر،طلباً للإيجاز،ولو عدَّدَ له ما يلبَسُ لطال به البيان،وربما يَصعُبُ على السائل ضبطُه واستيعابُه .
ثم بيَّن له - صلى الله عليه وسلم - زيادةً عما سأل : حُكمَ لُبسِ الخُفِّ عند عدَمِ وجودِ النَّعْل،فزاده بيانَ حالةِ الاضطرار هذه،وهي مما يتصل بالسؤال،فقال : ((فإنْ لم يجد النَّعْلَين،فلْيَلْبَسْ الخُفَّين،ولْيَقْطَعْهُما حتى يكونا تحت الكعبين)) .
ومن هذا القبيل أيضاً : ما ورد عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ (1) ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ ، مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهْوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » (2) .
وعَنْ أَبِي مُوسَى، أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ أَحَدُنَا يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ غَضَبًا فَهَلْ لَهُ مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا (3) ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (4)
(والرجلُ يُقاتِلُ لِيُرى مَكانُه) أي ليُريَ الناسَ أنه شجاع قوي . فمرجع هذا الفعل إلى الرياء ، ومرجع الفعل الذي قبله إلى السُّمْعة والشهرة ، وكلاهما مذموم . وفي رواية ((ويُقاتِلُ غَضَباً)) أي لأجل حظّ نفسِه . ((ويقاتل حَمِيّةً)) أي لمن يقاتل لأجله ، من أهلٍ أو عشيرة أو صاحبٍ أو جار .
ولما كان كل من هذه المقاصد في القتال تناوله المدح والذم بحسب الباعث الأول ، لم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنَعَمْ أو لا . قال الحافظ ابن حجر (5) : ((فإذا كان أصلُ الباعثِ
__________
(1) - أي ليُذكَر بين الناس بالشجاعة والبطولة .
(2) -صحيح البخارى- المكنز - (3126 )
(3) - و(كلمةُ الله) هي دعوةُ الله إلى الإسلام ، ودينُه وشريعتُه .
(4) - مسند أبي عوانة (5986 ) صحيح
(5) - ((فتح الباري)) 6 :22(1/436)
الصِّرْفِ على القتال هو إعلاءَ كلمة الله ، فلا يَضرُّه ما عرَضَ له بعد ذلك ، والمحذور أن يَقصِدَ غير الإعلاء قصداً أولياً .
ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً ، لا يَقدحُ في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعثَ الأصلي : ما رواه أبو داود (1) عَنِ ابْنِ زُغْبٍ الأَنْصَارِيِّ الْإِيَادِيِّ ، قَالَ : نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوَالَةَ الأَزْدِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنَا عَلَى أَقْدَامِنَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ لِنَغْنَمَ ، فَقَدِمْنَا وَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بِنَا مِنَ الْجَهْدِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ لاَ تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ ، وَلاَ تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ ، وَلاَ تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ تَوَكَّلَ بِأَرْزَاقِهِمْ - ثُمَّ قَالَ - لَتُفْتَحَنَّ لَكُمُ الشَّامُ ثُمَّ لَيُقَسَّمَنَّ كُنُوزُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَلَيَكُونَنَّ لِأَحَدِكُمْ مِنَ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُعْطَى مِائَةَ دِينَارٍ فَيَسْخَطَهَا ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ : يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلاَفَةَ نَزَلَتْ بِأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ أَتَتِ الزَّلاَزِلُ وَالْبَلاَيَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ ، وَالسَّاعَةُ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ إِلَى رَأْسِكَ ")) انتهى .
وفي هذا الحديث من الامور التعليمية : جوازُ سؤال المتعلم عن علة الحكم ، لقوله : (فمن في سبيل الله؟) وتقديمُ تحصيل العلم على الدخول في العمل ، إذ المطلوب من المسلم أن يعلم ثم يعمل ، ليكون عمله على بصيرة وهدى من الشرع الحنيف .
ففي هذا الحديث عُدولُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عن الجواب عن عينِ ما سألَ السائلُ عنه إلى غيره،إذْ كان لا يصلح أن يُجاب عما سأل عنه بنعم أو : لا،فقد عدَلَ عن جوابه عن ماهِيّةِ القتالِ التي يَسأل عنها،إلى بيان حالِ المُقاتِل،وأفاده أن العِبرةَ بخُلوص النية والقصد
وفي إجابةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذَكَر ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) غايةُ البلاغة والإيجاز .
__________
(1) - مسند الشاميين 360 - (3 / 174)( 2019) وسنن أبي داود - المكنز - (2537 ) صحيح(1/437)
وقد عُدَّ هذا الحديثُ من جوامع كَلِمِه - صلى الله عليه وسلم - ،لأنه لو أجاب بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله،احتَمَل أنَّ ما عدا ذلك كلُّه في سبيل الله،وليس كذلك،وقد يكون الغضبُ والحميةُ لله تعالى فيكون ذلك في سبيل الله،فعَدَل - صلى الله عليه وسلم - إلى لفظ جامع لمعنى السؤال والزيادةِ عليه،فأفاد دَفْعَ الالتباس وزيادةَ الإفهام (1) .
الخلاصة :
(1) لفت السائل إلى غير ما سال عنه هو من أسلوب الحكيم في البلاغة .
(2) لقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب كثيراً
(3) على المعلم أن يعتني بهذا الجانب ، فهو مهم جدا في التعليم .
ــــــــ
44-استِعادتُه - صلى الله عليه وسلم - السؤالَ من السائِل لإيفاء بيان الحكم:
وتارةً كان - صلى الله عليه وسلم - يَستعيدُ السائلَ سؤالَه وقد أحاط بسؤالِهِ علماً ليَزدَه علماً أو ليَستدرِك على ما أجابَه به،أو ليوضحه له،ومن ذلك :
فعَنْ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ « أَنَّ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَاىَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ » (2) . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَاىَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِى ذَلِكَ ». (3)
__________
(1) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم - (1 / 114)
(2) - المُحتَسِب : هو المخلِصُ لله تعالى الذي يُقاتِل ابتِغاءَ وجهِه ، لا لعصبيةٍ ، ولا لغنيمةٍ ، ولا لصيتٍ أو سُمْعةٍ .
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4988 )(1/438)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى سَيِّئَاتِى قَالَ « نَعَمْ ». ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا ». فَقَالَ الرَّجُلُ هَا أَنَا ذَا. قَالَ « مَا قُلْتَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى سَيِّئَاتِى قَالَ « نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ سَارَّنِى بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا » (1) .
أي الدَّينُ الذي لا يَنوي أداءَهُ ووَفاءَهُ . وذكرُ الدَّين هنا نموذجٌ لباقي حقوقِ الآدميين ، إذ ليس المَدينُ أحقَّ بالوعيدِ والمطالبةِ من الجاني ، أو الغاصب ، أو الخائن ، أو السارِق ...، فنبَّه - صلى الله عليه وسلم - بذكر الدَّينِ على جميع حُقوقِ العِباد ، وأنها لا يُكَفِّرها الجهادُ والشهادةُ في سبيل الله وما دونهما من أعمالِ البِرِّ ، وإنما يُكفِّر الجهادُ والشهادةُ حقوقَ الله تعالى .
((سارَّني به جبريلُ آنفاً)) .أي الآن ، يعني أن جبريل أوصى له بذلك بعد إخباره السائل بجوابه الأول ، فلذا استعاد السائلَ وأخبرَه بالجواب ثانياً .
وعَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِى سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ. فَقَالَ إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِى قَلْبِى أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ - قَالَ - فَقَبَضْتُ يَدِى. قَالَ « مَا لَكَ يَا عَمْرُو ». قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ « تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ». قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ « أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ». وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ أَجَلَّ فِى عَيْنِى مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَىَّ مِنْهُ إِجْلاَلاً
__________
(1) - سنن النسائي- المكنز - (3168 ) صحيح(1/439)
لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّى لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَىَّ مِنْهُ وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا حَالِى فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلاَ تَصْحَبْنِى نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِى فَشُنُّوا عَلَىَّ التُّرَابَ شَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِى قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّى." (1)
" فِيهِ عِظَمُ مَوْقِع الْإِسْلَام وَالْهِجْرَة وَالْحَجّ ، وَأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهَا يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله مِنْ الْمَعَاصِي ، وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب تَنْبِيه الْمُحْتَضَر عَلَى إِحْسَان ظَنّه بِاَللَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى ، وَذِكْر آيَات الرَّجَاء وَأَحَادِيث الْعَفْو عِنْده ، وَتَبْشِيره بِمَا أَعَدَّهُ اللَّه تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ وَذِكْر حُسْن أَعْمَاله عِنْده لِيَحْسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَمُوت عَلَيْهِ . وَهَذَا الْأَدَب مُسْتَحَبّ بِالِاتِّفَاقِ . وَمَوْضِع الدَّلَالَة لَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيث قَوْل اِبْن عَمْرو لِأَبِيهِ : أَمَا بَشَّرَك رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا ؟ وَفِيهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْقِير رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَإِجْلَاله .
وَقَوْله : ( ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْر مَا يُنْحَر جَزُور وَيُقْسَم لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِس بِكُمْ وَأَنْظُر مَاذَا أُرَاجِع بِهِ رُسُل رَبِّي ) فِيهِ فَوَائِد مِنْهَا إِثْبَات فِتْنَة الْقَبْر وَسُؤَال الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ ، وَمِنْهَا اِسْتِحْبَاب الْمُكْث عِنْد الْقَبْر بَعْد الدَّفْن لَحْظَة نَحْو مَا ذَكَر لِمَا ذَكَر . وَفِيهِ أَنَّ الْمَيِّت يَسْمَع حِينَئِذٍ مَنْ حَوْلَ الْقَبْر ، وَقَدْ يُسْتَدَلّ بِهِ لِجَوَازِ قِسْمَة اللَّحْم الْمُشْتَرَك وَنَحْوه مِنْ الْأَشْيَاء الرَّطْبَة كَالْعِنَبِ . وَفِي هَذَا خِلَاف لِأَصْحَابِنَا مَعْرُوف . قَالُوا : إِنْ قُلْنَا بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْقِسْمَة تَمْيِيز حَقٍّ لَيْسَتْ بِبَيْعٍ جَازَ ، وَإِنْ قُلْنَا : بَيْعٌ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَجُوز لِلْجَهْلِ بِتَمَاثُلِهِ فِي حَال الْكَمَال فَيُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا ، وَالثَّانِي يَجُوز لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحَال ، فَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوز فَطَرِيقهَا أَنْ يُجْعَل اللَّحْم وَشِبْهه قِسْمَيْنِ ثُمَّ يَبِيع أَحَدهمَا صَاحِبه نَصِيبه مِنْ أَحَد الْقِسْمَيْنِ بِدِرْهَمٍ مِثْلًا ، ثُمَّ يَبِيع الْآخَر نَصِيبه مِنْ الْقِسْم الْآخَر لِصَاحِبِهِ بِذَلِكَ الدِّرْهَم الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَيَحْصُل لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْمٌ بِكَمَالِهِ . وَلَهَا طُرُق غَيْر هَذَا لَا حَاجَة إِلَى الْإِطَالَة بِهَا هُنَا . وَاَللَّه أَعْلَم ." (2)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (336 )
السياقة : حال حضور الموت -الأطباق : أحوال واحد
(2) - شرح النووي على مسلم - (1 / 237)(1/440)
وعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِى بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ قَالَ « فَأَفْعَلُ مَاذَا » . قُلْتُ تَنْكِحُ . قَالَ « أَتُحِبِّينَ » . قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِى فِيكَ أُخْتِى . قَالَ « إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِى » . قُلْتُ بَلَغَنِى أَنَّكَ تَخْطُبُ . قَالَ « ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى مَا حَلَّتْ لِى ، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ » (1)
وعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ: هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بنتِ أَبِي سُفْيَانَ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :فَأَفْعَلُ مَاذَا؟، قُلْتُ: فَتَنْكِحُهَا، قَالَ:أُخْتَكِ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ:إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُنْبِئْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ بنتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ:بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا بنتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا ثُوَيْبَةُ فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بناتِكُنَّ وَأَخَوَاتِكُنَّ.
وفي رواية عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْتُ: هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بنتِ أَبِي سُفْيَانَ؟، قَالَ:أَفْعَلُ مَاذَا؟، قُلْتُ: تَنْكِحُهَا، قَالَ:أُخْتَكِ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ، أَوْ قَالَتْ: وَأَحَقُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، قَالَ:فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بنتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ:بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بناتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ." (2)
اختلف العلماء فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به تحريم نكاح الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، واتفق الفقهاء أنه إذا لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، ثم اختلفوا فى النظر، فقال
__________
(1) -صحيح البخارى- المكنز - (5106) وصحيح مسلم- المكنز - (3659 )
المخلية : لست بمتفرغة ولا خالية من ضرة
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (17 / 59) (18933 و18934) صحيح(1/441)
مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شىء من محاسنها بلذة، حرمت عليه أمها وابنتها.
وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة. وقال ابن أبى ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعى، وقد روى التحريم بالنظر عن مسروق، والتحريم باللمس عن النخعى، والقاسم، ومجاهد، وأجمع الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة فى حجره.
وشذ أهل الظاهر عن جماعة الفقهاء، وقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجره، واحتجوا بقوله تعالى: {وربائبكم اللاتى فى حجوركم} [النساء: 23] الآية، قالوا: تحريم الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون فى حجره، والآخر: أن تكون أمها قد دخل بها، فإذا عدم أحد الشرطين، لم يوجد التحريم، قالوا: لأن الزوج إنما جعل محرمًا لها من أجل ما يلحق من المشقة فى استتارها عنه، وهذا المعنى لا يوجد إلا إذا كانت فى حجره.
واحتجوا بقوله عليه السلام: « لو لم تكن ربيبتى فى حجرى » ، فشرط الحجر، ورووا عن على بن أبى طالب إجازة ذلك. وقال ابن المنذر والطحاوى: فأما الحديث عن على، فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم، عن عبيد، عن مالك بن أوس، عن على، وإبراهيم هذا لا يعرف.
وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، واحتجوا فى دفعه بقوله عليه السلام: « فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن » ، فدل ذلك على انتفائه. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: « لا تعرضن على بناتكن » فعمهن، ولم يقل: اللاتى فى حجرى، ولكنه سوى بينهن فى التحريم.
قال المهلب: وإضافته عليه السلام إياهن إلى الحجور، إنما هو على الأغلب مما تكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك، وقوله تعالى لنبيه: {يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن} [الأحزاب: 50]، وإنما أحلهن له بعقد نكاحهن عليه لا بإتيانه إياهن أجورهن؛ لأنه معقول فيهن أنه لو طلقهن بعد عقدة نكاحهن ولم يؤتهن أجورهن أن الطلاق واقع عليهن، كما قال: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما(1/442)
لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236]، فأثبت الله نكاحهن، وإن كن لم يؤتهن أجورهن، فعلمنا بذلك أن أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - إنما حللن له بعقد النكاح وإتيان الأجور وعقلنا بذلك أن قوله تعالى: {اللاتى آتيت أجورهن} [الأحزاب: 50]، إنما هو على وصف الأغلب مما تكون عليه الزوجات.
وكذلك قوله تعالى: {وربائبكم اللاتى فى حجوركم} [النساء: 23]، إنما هو على التحريم بالسبب الذى كن به ربائب، ووصفهن بالإضافة إلى الحجور؛ لأنه الأغلب مما تكون عليه الربائب مع أزواج أمهاتهن. قال: والقياس يوجب هذا؛ لأنه لا يكون التحريم بشيئين إلا ولكل واحد منهما إذا انفرد حكم، فلذلك جعلنا التحريم فى الربائب بالسبب الذى صرن به ربائب لا بما سواه.
قال ابن القصار: وحجة الجماعة أنه لا تأثير للحجر فى التحريم ولا فى الإباحة، بدليل أن الأخت والعمة والخالة لما حرمن عليه لم يفترق الحكم بين أن يكونوا فى حجره أم لا، ولو كان الحجر شرطًا فى التحريم لوجب إذا ارتفع أن يرتفع التحريم، فلما رأينا التحريم قائمًا، وقد زال الحجر بموت أمها أو طلاقها، علمنا أن لا اعتبار بالحجر، ألا ترى أن بنت أم سلمة لم تكن فى حجره، عليه السلام، ولا ربيت فيه قبل نكاحه بأم سلمة.
ويشهد لهذا أنه لو وطئ الأم بملك اليمين لحرمت عليه البنت، سواء كانت فى حجره أم لا، وكل امرأة حرمت عليك فابنتها حرام عليك إلا أربعًا بنت العمة، وبنت الخالة، وبنت حليلة الابن، وبنت حليلة الأب. (1)
وعن ابْنَ عَبَّاسٍ قالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا صَلَّى صَلاَةً جَلَسَ لِلنَّاسِ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ كَلَّمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ حَاجَةٌ قَامَ فَدَخَلَ ، قَالَ : فَصَلَّى صَلَوَاتٍ لاَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ فِيهِنَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَحَضَرْتُ الْبَابَ فَقُلْتُ : يَا يَرْفَأُ أَبِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَكَاةٌ؟ فَقَالَ : مَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَكْوَى. فَجَلَسْتُ ، فَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَجَلَسَ ، فَخَرَجَ يَرْفَأُ فَقَالَ : قُمْ يَا ابْنَ عَفَّانَ ، قُمْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. فَدَخَلاَ عَلَى عُمَرَ فَإِذَا بَيْنَ يَدَيْهِ صُبَرٌ مِنْ مَالٍ عَلَى
__________
(1) - شرح ابن بطال - (13 / 207)(1/443)
كُلِّ صُبْرَةٍ مِنْهَا كَتِفٌ ، فَقَالَ عُمَرُ : إِنِّى نَظَرْتُ فِى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَوَجَدْتُكُمَا مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِهَا عَشِيرَةً ، فَخُذَا هَذَا الْمَالَ فَاقْسِمَاهُ ، فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَرُدَّا. فَأَمَّا عُثْمَانُ فَحَثَا ، وَأَمَّا أَنَا فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَىَّ وَقُلْتُ : وَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا رَدَدْتَ عَلَيْنَا. فَقَالَ عُمَرُ : شِنْشِنَةٌ مِنْ أَخْشَنَ - يَعْنِى حَجَرًا مِنْ جَبَلٍ - أَمَا كَانَ هَذَا عِنْدَ اللَّهِ إِذْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ الْقِدَّ. فَقُلْتُ : بَلَى وَاللَّهِ ، لَقَدْ كَانَ هَذَا عِنْدَ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَىٌّ ، وَلَوْ عَلَيْهِ فُتِحَ لَصَنَعَ فِيهِ غَيْرَ الَّذِى تَصْنَعُ قَالَ فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ إِذًا صَنَعَ مَاذَا ؟ قُلْتُ : إِذًا لأَكَلَ وَأَطْعَمَنَا. قَالَ : فَنَشَجَ عُمَرُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَضْلاَعُهُ ثُمَّ قَالَ وَدِدْتُ أَنِّى خَرَجْتُ مِنْهَا كَفَافًا فَلاَ لِى وَلاَ عَلَىَّ. (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زَوْجِي خَيْرٌ أَو زَوْجُ فَاطِمَةَ ؟ قَالَتْ : فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ : زَوْجُكِ مِمَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَوَلَّتْ ، فَقَالَ لَهَا : هَلُمِّي مَاذَا قُلْتُ ؟ قَالَتْ : قُلْتَ : زَوْجِي مِمَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَأَزِيدُكِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، فَرَأَيْتُ مَنْزِلَهُ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي يَعْلُوهُ فِي مَنْزِلِهِ " (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ ، بَالَ قَائِمًا فَانْتَضَحَ مِنْ بَوْلِهِ عَلَى سَاقَيْهِ وَقَدَمَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إِنَّهُ أَصَابَ مِنْ بَوْلِكَ قَدَمَيْكَ وَسَاقَيْكَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ قَوْمٍ فَاسْتَوْهَبَهُمْ طَهُورًا فَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ سَاقَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ : مَاذَا قُلْتَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا الْآنَ فَقَدْ فَعَلْتَ ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " هَذَا دَوَاءُ هَذَا ، وَدَوَاءُ الذُّنُوبِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ " (3)
__________
(1) - مسند الحميدي - المكنز - (33) صحيح
الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن -القد : جلد ولد الشاة ساعة يولد -كنف : وعاء -نشج : النشيج صوت معه توجع وبكاء -النشنشة : معناه أنه شبهه بأبيه العباس فى شهامته ورأيه وجرأته على القول
(2) - المستدرك للحاكم (6862) ومسند الشاميين (148 ) حسن
(3) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (7715 ) صحيح(1/444)
وعَنْ عُثْمَانَ بن أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: قَدِمْتُ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ حِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَبِسْنَا حُلَلَنَا بِبَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالُوا: مَنْ يُمْسِكُ لَنَا رَوَاحِلَنَا، وَكُلُّ الْقَوْمِ أَحَبَّ الدُّخُولَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَرِهَ التَّخَلُّفَ عَنْهُ، قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكَتُ لَكُمْ عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللَّهِ لَتُمْسِكُنَّ لِي إِذَا خَرَجْتُمْ، قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجُوا فَقَالُوا: انْطَلَقْ بنا، قُلْتُ: أَيْنَ؟ فَقَالُوا: إِلَى أَهْلِكَ، فَقُلْتُ: ضَرَبْتُ مِنْ أَهْلِي حَتَّى إِذَا حَلَلْتُ بِبَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْجِعُ وَلا أَدْخَلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَعْطَيْتُمُونِي مِنَ الْعَهْدِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ؟ قَالُوا: فَأَعْجِلْ فَإِنَّا قَدْ كَفَيْنَاكَ الْمَسْأَلَةَ، لَمْ نَدَعْ شَيْئًا إِلا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُفَقِّهَنِي فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَنِي، قَالَ:"مَاذَا قُلْتَ؟"فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَقَالَ:"لَقَدْ سَأَلْتَنِي شَيْئًا مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، اذْهَبْ فأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ تَقْدُمُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِكَ، وَأُمَّ النَّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ"، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَكَيْتُ بَعْدَكَ، فَقَالَ:"ضَعْ يَدَكَ الْيُمْنَى عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَشْتَكِي، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ سَبْعَ مَرَّاتٍ"، فَفَعَلْتُ، فَشَفَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ." (1)
وعَنْ عَلْقَمَةَ، أَوِ الأَسْوَدِ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: لَوْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِكَ مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْتَ كَيْفَ أَصْنَعُ، فَقَالَ: فَإِنَّ الَّذِي بِيَدِي مِنْ أَمْرِكِ بِيَدِكِ، قَالَتْ: فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلاثًا، قَالَ:"أُرَاهَا وَاحِدَةً وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالرَّجْعَةِ"، وَسَأَلْقَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، فَلَقِيَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ:"فَعَلَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ وَفَعَلَ اللَّهُ بِالرِّجَالِ يَعْمِدُونَ إِلَى مَا جَعَلَهُ اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ بِأَيْدِي النِّسَاءِ، بِفِيهَا التُّرَابُ، مَاذَا قُلْتَ؟"قَالَ: قُلْتُ:"أُرَاهَا وَاحِدَةً وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"، قَالَ:"وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ وَلَوْ رَأَيْتَ غَيْرَ ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنَّكَ لَمْ تُصِبْ" (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَجُلاً خَرَجَ وَالْخَمْرُ حَلاَلٌ فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَأَقْبَلَ بِهَا عَلَى بَعِيرٍ ، حَتَّى وَجَدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا ، فَقَالَ : مَا هَذَا مَعَكَ ؟ قَالَ : رَاوِيَةٌ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 433) (8275 ) حسن
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 278) (9533 ) صحيح(1/445)
مِنْ خَمْرٍ أَهْدَيْتُهَا لَكَ ، قَالَ : هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ حَرَّمَهَا ، قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا ، فَالْتَفَتَ الرَّجُلُ إِلَى قَائِدِ الْبَعِيرِ ، فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَقَامَ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : مَاذَا قُلْتَ لَهُ ، قَالَ : أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا ، قَالَ : إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا ، قَالَ : فَأَمَرَ بِعَزَالِي الْمَزَادَةِ فَفُتِحَتْ ، فَخَرَجْتُ فِي التُّرَابِ ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْبَطْحَاءِ ، مَا فِيهَا شَيْءٌ. " (1)
فهذه الأحاديث كلها فيها استفسار من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراجعة للسائل لزيادة الإيضاح وبيان الحكم الشرعي الصحيح .
الخلاصة :
(1) مراجعة السائل حول سؤاله سنة متبعة وقاعدة من قواعد العلم والتربية
(2) السنة النبوية حافلة بمثل هذا الأسلوب ، وكذلك عند الصحابة
(3) في هذا الأسلوب إزالة للبس أو الغموض أو لزيادة الاستيضاح .
(4) وفيها تعويد المسؤول على أن يسمع سؤال طالب العلم ويستوضح منه قبل أن يجيبه على سؤاله .
ــــــــ
45-تفويضُه - صلى الله عليه وسلم - الصحابي بالجواب عما سُئل عنه ليُدرِّبه:
كان - صلى الله عليه وسلم - يُفوِّض أحَدِ أصحابِه الجوابَ عن السؤالِ الذي رُفع إليه ليُدرِّبه على الإجابة في أمور العلم،ومن ذلك : موضوع تعبير الرؤيا لأبي بكر رضي الله عنه كما مرَّ سابقاً.
ومن باب التدريب والتمرين أيضاً أمرُه - صلى الله عليه وسلم - لبعضِ أصحابِه بأن يَقضي بين يديه،فيما رُفع إليه من الخصومات .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ جَاءَ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 319) (4944) صحيح(1/446)
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ « اقْضِ بَيْنَهُمَا ». قَالَ وَأَنْتَ هَا هُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ عَلَى مَا أَقْضِى قَالَ « إِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرَةُ أُجُورٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ ». (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : جَاءَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَصْمَانِ يَخْتَصِمَانِ ، فَقَالَ لِعَمْرٍو : اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عَمْرُو ، فَقَالَ : أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : وَإِنْ كَانَ قَالَ : فَإِذَا قَضَيْتُ بَيْنَهُمَا فَمَا لِي ؟ قَالَ : إِنْ أَنْتَ قَضَيْتَ بَيْنَهُمَا فَأَصَبْتَ الْقَضَاءَ ، فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ أَنْتَ اجْتَهَدْتَ وَأَخْطَأْتَ ، فَلَكَ حَسَنَةٌ." (2)
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرْحِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا ، فَسَخِطَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا قَضَى الْقَاضِي فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَإِنَّ لَهُ عَشْرَةَ أُجُورٍ ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ " (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ , قَالَ : جَاءَ خَصْمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ لِي : " قُمْ يَا عُقْبَةُ اقْضِ بَيْنَهُمَا " , قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي , قَالَ : " وَإِنْ كَانَ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشَرَةُ أُجُورٍ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ ". (4)
وعنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ خَصْمَانِ يَخْتَصِمَانِ ، فَقَالَ : " اقْضِ بَيْنَهُمَا " ، فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ . فَقَالَ : " اقْضِ بَيْنَهُمَا "
__________
(1) - سنن الدارقطنى- المكنز - (4510 ) حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 115)(17824) 17978- والْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (7104 ) حسن
وفي متن هذا الحديث غرابة في ذكر (عشرة أجور) ، فإن الحديث هو حديثُ عمرو بن العاص ، والحديثُ الصحيح عنه : (إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهذا هو المحفوظ . ولكن كرم واسع ، فلا يمنع من حسنها
(3) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (11042 ) حسن
(4) - سنن الدارقطنى- المكنز - (4512 ) ومُسْنَدُ الرُّويَانِيِّ (270 ) حسن(1/447)
، فَقُلْتُ : عَلَى مَاذَا ؟ فَقَالَ : " اجْتَهِدْ ، فَإِنْ أَصَبْتَ ، فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَإِذَا أَخْطَأْتَ ، فَلَكَ حَسَنَةٌ " (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ خَصْمَانِ ، فَقَالَ : " اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عُقْبَةُ " . قُلْتُ : أَقْضِي وَأَنْتَ شَاهِدٌ فَقَالَ : " اقْضِي بَيْنَهُمَا " . قُلْتُ : عَلَى مَا ذَاكَ ؟ قَالَ : " إِنِ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ حَسَنَتَانِ ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ " (2)
وعَنْ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ : أَنَّ دَارًا كَانَتْ بَيْنَ أَخَوَيْنَ فَحَظَرَا فِى وَسَطِهَا حِظَارًا ثُمَّ هَلَكَا وَتَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقِبًا فَادَّعَى عَقِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْحِظَارَ لَهُ مِنْ دُونِ صَاحِبِهِ فَاخْتَصَمَ عَقِبَاهُمَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقْضِى بَيْنَهُمَا فَقُضِىَ بِالْحِظَارِ لِمَنْ وَجَدَ مَعَاقِدَ الْقُمُطِ تَلِيهِ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« أَصَبْتَ » (3) .
الحِظار : ما يُحظَر به من السَّعَف والقَصَب ، وهو حائط الحظيرة .
والقُمُط جمعُ قِماط ، وهو في الأصل : خِرقةٌ عريضة يُشدُّ بها الصغير ، ثم أطلق على الحبل
قال الفَيّومي في ((المصباح المنير)) وهو يَشرَح هذه الجملة : ((القُمُط : الشُّرُط جمعُ شريط ، وهو ما يُعمَلُ من لِيْف وخوصٍ . وقيل : القُمُط : الخُشُب التي تكون على ظاهر الخُصِّ أو باطنه ، يُشدُّ إليها حَرادي أي الحُزُم التي يحزم بها القَصَب أو رؤوسُه)) .
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : أَتَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ فَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، زَوْجِي خَيْرُ النَّاسِ يَصُومُ النَّهَارَ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكَرْهُ أَنْ أَشْكُوهُ ، وَهُوَ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . فَقَالَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ شَكْوَى أَشَدَّ وَلَا عَدْوَى أَجْمَلَ . فَقَالَ عُمَرُ : " مَا تَقُولُ ؟ " قَالَ : تَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا نَصِيبٌ . قَالَ : " فَإِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاقْضِ بَيْنَهُمَا " قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1643 ) حسن
(2) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(8114 ) حسن
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (6 / 67)(11703) وسنن الدارقطنى- المكنز - (4600 و4601) ضعيف(1/448)
وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَلَهَا مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ يُفْطِرُ ، وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةٌ يَبِيتُ عِنْدَهَا" (1)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَتْ : زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ ، وَيَصُومُ النَّهَارَ . قَالَ : " أَفَتَأْمُرِينِي أَنْ أَمْنَعَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ ؟ " فَانْطَلَقَتْ ، ثُمَّ عَاوَدَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ لَهُ : مِثْلَ ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهَا مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُورٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : إِنَّ لَهَا حَقًّا . قَالَ : " وَمَا حَقُّهَا ؟ " قَالَ : أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعًا فَاجْعَلْ لَهَا وَاحِدَةً مِنَ الْأَرْبَعِ لَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا قَالَ : فَدَعَا عُمَرُ زَوْجَهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً ، وَيُفْطِرَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابُ رَجُلٍ فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ أَجِبْ عَنِّى فَكَتَبَ جَوَابَهُ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ :« أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ ». فَلَمَّا وَلِىَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُشَاوِرُهُ. (3)
وعَنْ عَامِرٍ قَالَ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَلِىٍّ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَقَالَتْ : قَدْ حِضْتُ فِى شَهْرٍ ثَلاَثَ حِيَضٍ. فَقَالَ عَلِىٌّ لِشُرَيْحٍ : اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَا هُنَا؟ قَالَ : اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَا هُنَا؟ قَالَ : اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ : إِنْ جَاءَتْ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاَثَ حِيَضٍ تَطْهُرُ عِنْدَ كُلِّ قَرْءٍ وَتُصَلِّى جَازَ لَهَا ، وَإِلاَّ فَلاَ. فَقَالَ عَلِىٌّ : قَالُونُ. وَقَالُونُ بِلِسَانِ الرُّومِ أَحْسَنْتَ." (4)
وعَنْ زَاذَانَ ، قَالَ : اسْتَوْدَعَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً وَدِيعَةً وَقَالاَ لَهَا : لاَ تَدْفَعِيهَا إِلَى وَاحِدٍ مِنَّا حَتَّى نَجْتَمِعَ عِنْدَكَ ، ثُمَّ انْطَلَقَا فَغَابَا ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا إلَيْهَا فَقَالَ : أَعْطِينِي وَدِيعَتِي فَإِنَّ صَاحِبِي قَدْ مَاتَ ، فَأَبَتْ حَتَّى كَثُرَ اخْتِلاَفُهُ إلَيْهَا ، ثُمَّ أَعْطَتْهُ ، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ بَعْدُ فَقَالَ :
__________
(1) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (12180 و12181) صحيح لغيره
(2) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (12182 ) صحيح لغيره
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (10 / 126)(20904) حسن
(4) - سنن الدارمى- المكنز - (887) صحيح -القرء : الحيض(1/449)
هَاتِي وَدِيعَتِي ، فَقَالَتْ : قَدْ جَاءَ صَاحِبُك فَذَكَرَ أَنَّك قَدْ مِتَّ ، فَأَخَذَ وَدِيعَتَكُمَا مِنِّي ، فَارْتَفَعَا إلَى عُمَرَ ، فَلَمَّا قَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، قَالَ لَهَا عُمَرُ : مَا أَرَاك إلاَّ قَدْ ضَمِنْت ، قالَتِ الْمَرْأَةُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اجْعَلْ عَلِيًّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، قَالَ لِعَلِيٍّ : اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا عَلِيُّ ، قَالَ عَلِيٌّ : هَذِهِ الْوَدِيعَةُ عِنْدِي، وَقَدْ أَمَرْتُماهَا أَلاَّ تَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَتَّى تَجْتَمِعَا عِنْدَهَا ، فَأْتِنِي بِصَاحِبِكَ ، فَلَمْ يُضَمِّنْهَا ، قَالَ : فَرَأَوْا أَنَّهُمَا إنَّمَا أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِمَالِ الْمَرْأَةِ." (1)
عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ( قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ( وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ( صَدْرَهُ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ "
وفي رواية عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِىَّ - ( - قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ « كَيْفَ تَقْضِى إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - ( - . قَالَ « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو . قَالَ فَضَرَبَ صَدْرِى. فَقَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَهُ. (2)
وحسنه العلامة ابن باز رحمه الله (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عقب روايته له واحتجاجه به :"وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ " (4)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (11 / 688) (23734) حسن
(2) - أخرجه أبو داود ( 3592 ) والترمذي (1327) وأحمد في المسند 5/230 و236 و242 (12502) والدارمي ( 168 ) والبيهقي (20836 ) وابن كثير في تفسيره 1/4 وجود إسناده و ابن أبي شيبة في المصنف (22988و29100) والطيالسي(559) والطبراني في الكبير 20/170 (362) والعلل المتناهية (1264) والفقيه والمتفقه (407 و506 و507 و508 و509) فالحديثُ حسنٌ
(3) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 6 / ص 217) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 6 / ص 373) ومجموع فتاوى ابن باز - (ج 6 / ص 195)
(4) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 364)(1/450)
ففي هذه الأمثلة العديدة نلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدرب أصحابه على القضاء والفتيا وغير ذلك ، والتزم أصحابه بهذا أيضاً .
الخلاصة :
(1) على المعلم أن يدرب طلابه على الإجابة عن أسئلة المستفتين .
(2) وعليه أن يصوب أخطاءهم ، وأن يثني عليهم إن أصابوا .
(3) لا بد من مراعاة الفروق الفردية في هذا الجانب ، فمن كان أهلاً للفتيا والقضاء درِّب على هذا الأمر .
ــــــــ
46-تعليمُه - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه:
هذا أحدُ أقسام السُّنّة،ويُعبِّرُ عنه الأصوليّون والمحدِّثون بالتقرير،فما حَدَث أمامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مُسْلمٍ قولاً أو فعلاً،وأقرَّه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت عليه أو إظهارِ الرِّضا به فهو بيانٌ منه - صلى الله عليه وسلم - لإباحة ذلك القولِ أو الفعل،وكثيرٌ من الأمور العلمية أُخِذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الطريق.
فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ،وَأَبِى الدَّرْدَاءِ (1) ،فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ،فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً (2) . فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا (3) . فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ،فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 4 :182 ((ذكَرَ أصحابُ المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعَتْ مَرَّتين ، الأولى قبلَ الهجرة بين المهاجرين خاصَّةً ، على المُواساة والمُناصرة ، فكان من ذلك أُخوَّةُ زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب .
ثم آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بن الهاجرين والأنصار ، بعدَ أن هاجَرَ ، وذلك بعدَ قدومِهِ المدينة ، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : لما قَدِمنا المدينة آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سَعْد بن الرَّبيع)) .
(2) أي لابسةً الثياب الخَلَق البالية ، وتاركةً لِلُبس الثياب المعتادة المستحسنة .
(3) تعني أنه عزوف عن النساء ، منصرِفٌ إلى العبادة كلَّ الانصراف .(1/451)
فَقَالَ كُلْ . قَالَ فَإِنِّى صَائِمٌ . قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ . قَالَ فَأَكَلَ . فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ . قَالَ نَمْ . فَنَامَ،ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ . فَقَالَ نَمْ . فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ . فَصَلَّيَا،فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا،وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ،فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « صَدَقَ سَلْمَانُ » (1) .
وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً قَالَتْ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا. قَالَ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ نَمْ. فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ نَمْ. فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ فَقَامَا فَصَلَّيَا فَقَالَ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَا ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ « صَدَقَ سَلْمَانُ » (2) .
وعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ , قَالَ : فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَإِذَا أُمُّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً , قَالَ : مَا شَأْنُكِ ؟ , قَالَتْ : إِنَّ أَخَاكَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي نِسَاءِ الدُّنْيَا , فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَرَحَّبَ بِهِ سَلْمَانُ وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا , فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : أَطْعِمْ , فَقَالَ : إِنِّي صَائِمٌ , فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُفْطِرَنَّهُ , قَالَ : مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ مَعَهُ ثُمَّ بَاتَ عِنْدَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَرَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنْ يَقُومَ فَمَنَعَهُ سَلْمَانُ وَقَالَ لَهُ : إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا , وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا , وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا , صُمْ وَأَفْطِرْ , وَصَلِّ وَنَمْ , وَائْتِ أَهْلَكَ وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ , فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ , قَالَ : قُمِ الْآنَ إِنْ شِئْتَ فَقَامَا فَتَوَضَّيَا ثُمَّ رَكَعَا ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلَاةِ , فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيُخْبِرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالَّذِي أَمَرَهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1968 ) -المتبذلة : التاركة للزينة والهيئة الحسنة
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2596 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.(1/452)
سَلْمَانُ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا " مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ " (1)
وعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، قَالَ : نَزَلَ سَلْمَانُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ مَنَعَهُ سَلْمَانُ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ مَنَعَهُ ، فَقَالَ : أَتَمْنَعُنِي أَنْ أَصُومَ لِرَبِّي وَأُصَلِّيَ لِرَبِّي ؟ فَقَالَ : إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَصُمْ ، وَأَفْطِرْ ، وَصَلِّ ، وَنَمْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " لَقَدْ أُشْبِعَ سَلْمَانُ عِلْمًا " (2)
(صدق سلمان ) أي في جميع ما ذكره . وفي إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لسلمان مَنْقَبةٌ عظيمةٌ ظاهرة له رضي الله عنه .
" وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية، والسؤال عما يترتب عليه المصلحة وإن كان في الظاهر لا يتعلق بالسائل، وفيه النصح للمسلم وتنبيه من أغفل، وفيه فضل قيام آخر الليل، وفيه مشروعية تزين المرأة لزوجها، وثبوت حق المرأة على الزوج في حسن العشرة، وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء لقوله: "ولأهلك عليك حقا" ثم قال: "وائت أهلك" وقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور، وإنما الوعيد الوارد على من نهى مصليا عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلما وعدوانا. وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، وسيأتي مزيد بيان لذلك في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص. وفيه جواز الفطر من صوم التطوع كما ترجم له المصنف، وهو قول الجمهور ولم يجعلوا عليه قضاء إلا أنه يستحب له ذلك " (3)
__________
(1) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2258 ) صحيح
(2) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (4555 ) حسن لغيره
(3) - فتح الباري لابن حجر - (4 / 211)(1/453)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ ذَاتِ السَّلاَسِلِ (1) ،قَالَ : فَاحْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ،فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ،فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصُّبْحِ،قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،فَقَالَ : يَا عَمْرُو،صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ،فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ،وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ،ثُمَّ صَلَّيْتُ . فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا." (2)
في تبسُّمه - صلى الله عليه وسلم - دليلُ على جواز التيمم عند شدةِ البرد ، لأن تبسُّمه يُعدُّ إقراراً منه - صلى الله عليه وسلم - ،وهو لا يُقرُّ على باطلٍ، والتبسُّم والاستبشارُ منه - صلى الله عليه وسلم - أقوى دلالةً على الجواز من السكوت .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَرِيَّةٍ،فَمَرَرْنَا عَلَى أَهْلِ أَبْيَاتٍ،فَاسْتَضَفْنَاهُمْ،فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا،فَنَزَلُوا بِالْعَرَاءِ،فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ،فَأَتَوْنَا فَقَالُوا : هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ،أَنَا أَرْقِي،قَالُوا : ارْقِ صَاحِبَنَا،قُلْتُ : لاَ،قَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَأَبَيْتُمْ أَنْ تُضَيِّفُونَا،قَالُوا : فَإِنَّا نَجْعَلُ لَكُمْ جُعْلاً،قَالَ : فَجَعَلُوا لِي ثَلاَثِينَ شَاةً،قَالَ : فَأَتَيْتُهُ،فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ،وَأَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ حَتَّى بَرَأَ،فَأَخَذْنَا الشَّاءَ،فَقُلْنَا : نَأْخُذُهَا وَنَحْنُ لاَ نُحْسِنُ نَرْقِي ؟ فَمَا نَحْنُ بِالَّذِي نَأْكُلُهَا حَتَّى نَسْأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَتَيْنَاهُ،فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ،قَالَ : فَجَعَلَ يَقُولُ : وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ،مَا دَرَيْتُ أَنَّهَا رُقْيَةٌ،شَيْءٌ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِي،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُلُوا،وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ." (3)
وقال القرطبي : " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذوا منهم ، واضربوا لي معكم بسهم )) ؛ بيان
__________
(1) - اسمُ ماء بأرض جُذام ، وهي وراء وادي القُرى ، بينها وبين المدينة عشرةُ أيام ، وكانت تلك الغزوة في جُمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة .
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 111)(17812) 17965- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 477) (6112) وصحيح البخارى- المكنز - (2276 )(1/454)
للحكم بالقول ، وتمكين له بالعمل ؛ إذ لم تكن له حاجة لذلك السَّهم إلا ليبالغ في بيان أن ذلك من الحلال المحض ؛ الذي لا شبهة فيه ، فكان ذلك أعظم دليل لمن يقول بجواز الأجرة على الرُّقى والطب . وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وجماعة من السَّلف والخلف .
وأمَّا الأجرة على تعليم القرآن : فأجازها الجمهور من السلف والخلف متمسكين بهذا الحديث ، وما زاد فيه البخاري من حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله )). وهذا يلحق بالنُّصوص . وقد جزم أبو حنيفة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وكذلك أصحابه ، تمسُّكًا بأمرين :
أحدهما : أن تعلم القران وتعليمه واجبٌ من الواجبات ؛ التي تحتاج إلى نيَّة التقرُّب والإخلاص ، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة ، والصيام .
وثانيهما : ما رواه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت قال : علَّمت ناسًا من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن ، وأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا ، فقلت : ليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ، فلآتينَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنَّه ، فأتيته فسألته ، فقال : (( إن كنت تحب أن تطوَّق قوسًا من نار فاقبلها )).
وللجمهور أن يقولوا : لا نسلِّم صحة ذلك القياس ؛ لأنَّه فاسد الوضع ؛ لأنَّه في مقابلة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله )) ، وهو عمومٌ قوي ، وظاهرٌ جلي .
والجواب عن القياس : إنه لا يصح للفرق الذي بين الفرع والأصل ، سلَّمنا لكن بينهما فرق وهو : أن الصوم والصلاة عبادات خاصَّة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم ، فتجوز الأجرة على محاولة النقل ، كتعليم كتابة القرآن .
وأمَّا الجواب عن الحديث بعد تسليم صحته : فالقول بموجبه ؛ لأنَّ تعليم عبادة لم تكن بإجارةٍ ، ولا جُعل ، وإنما علَّم لله تعالى تطوعًا ، لا لغيره . ومن كان كذلك حرم عليه(1/455)
أخذ العوض على ما فعله لله تعالى ؛ لأنَّه ربما يفسد عمله ، ويأكل مالاً بالباطل ." (1)
وقال الحافظ ابن حجر : " قَوْله : ( ثُمَّ قَالَ قَدْ أَصَبْتُمْ ) يَحْتَمِل أَنْ يَكُون صَوَّبَ فِعْلهمْ فِي الرُّقْيَة،وَيَحْتَمِل أَنَّ ذَلِكَ فِي تَوَقُّفهمْ عَنْ التَّصَرُّف فِي الْجُعْل حَتَّى اِسْتَأْذَنُوهُ،وَيَحْتَمِل أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ .قَوْله :( وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا ) أَيْ اِجْعَلُوا لِي مِنْهُ نَصِيبًا،وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَة فِي تَأْنِيسهمْ كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي قِصَّة الْحِمَار الْوَحْشِيّ وَغَيْر ذَلِكَ ." (2)
الخلاصة :
(1) السنَّة النبوية عدة أقسام ومنها السنَّة الإقرارية .
(2) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر في تصرفات أصحابه فيثني على من أصاب في اجتهاده سواء بالقول أو بالفعل ، أو بالإشارة .
(3) على المعلم أيضاً يقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقرُّ ما أصاب به الطلاب ويثني عليهم خيرا ، ويصحح لهم الخطأ .
ــــــــ
47-تعليمه - صلى الله عليه وسلم - بالمُمازَحةِ والمُداعَبة:
الدُّعابةُ اللطيفة تُروِّح عن الإنسان ، وتُلطِّفُ من ثِقَلِ المتاعِب التي تَنْتابُه أو تُصاحِبُه ، فإن الحياةَ لا تخلو من المرارة والمَكارِه ، فالدُّعابةُ تُخَفِّفُ من وَطأةِ ذلك على النفسِ . والمرءُ يَتعلَّمُ بالابتسامِ والبِشْر أكثرَ مما يَتعلَّمُ بالعُبوس والقُطوب .
وما أعذَبَ الدُّعابةَ المُعلِّمةَ ، والإحْماضَةَ الهاديةَ المُبَصِّرةَ ، فإن الجِدَّ الدائمَ يورِثُ رَهَق الذهنِ ، وكلَلَ الفِكرِ ، فالمزاحُ اللطيفُ الهادي بين الحين والحين ، يُعيدُ إلى الإنسانِ نشاطَه وانتباهَه ، فما أعْلَمَ هذا المُعلِّمَ الحكيمَ ، الوقورَ الرؤوفَ الرحيمَ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (18 / 69)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (7 / 119)(1/456)
قال العلاّمة ابنُ قُتَيبة رحمه الله تعالى : إنما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمزَحُ ، لأنَّ الناسَ مأمورون بالتأسّي به والاقتداءِ بهَدْيه ، فلو ترك الطَّلاقةَ والبَشاشَةَ ، ولزم العُبوسَ والقُطوبَ ، لأخَذَ الناسُ أنفُسهم بلك على ما في مخالفةِ الغَريزة من المشقةِ والعَناءِ ، فمَزَح ليَمزحوا . وكان لا يقولُ إلاّ حقاً)) . (1)
وقال الإمام النووي (2) : ((المِزاحُ المنهيُّ عنه هو الذي فيه إفراطٌ ، ويُداوَمُ عليه ، فإنه يورث الضحكَ ،وقسوةَ القلب ، ويَشغلُ عن ذكر الله تعالى ، والفكرِ في في مُهمّاتِ الدين ، ويَؤولُ في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورِثُ الأحقاد ، ويُسقِط المَهابَةَ والوقار .فأما ما سَلِم من هذه الأمور فهو المباحُ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسم يَفعَلُه في نادرٍ من الأحوال ، لمصلحةٍ وتَطييبِ نفسِ المُخاطَبِ ومُؤانَستِه ، وهذا لا مَنْعَ منه قطعاً ، بل هو سنة مستحبَّةٌ إذا كان بهذه الصفة ، فاعتمِدْ هذا ، فإنه مما يَعظُم الاحتياجُ إليه وبالله التوفيق)) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُداعِبُ أصحابَه في بعضِ الأحيانِ ويُمازِحُهم،ولكنه ما كان يقولُ إلاّ حقاً ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا ، قَالَ : إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا." (3)
وكان يُعلِّم كثيراً من أمورِ العلم خلال المُداعَبةِ والمُمازحةِ .
عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ عَلَيْنَا ، وَكَانَ لِي أَخٌ صَغِيرٌ ، وَكَانَ لَهُ نَغْرٌ يَلْعَبُ بِهِ ، فَمَاتَ ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا ، فَقَالَ : مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ حَزِينًا ؟ فَقَالُوا : مَاتَ نُغَرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ (4) ؟ أَبَا عُمَيْرٍ ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟. (5)
__________
(1) - انتهى من ((الفتوحات الربانية على الأذكار النووية)) للشيخ ابن عَلاّن 6 :297 .
(2) - في كتاب ((الأذكار)) ص29
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 348)(8723) 8708- صحيح
(4) (النُّغَير) تصغير النُّغَر ، وهو طائر يُشبِهُ العُصفورَ أحمرُ المِنقار .
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 734)(14071) 14117- صحيح ، وأخرجه البخاري وغيره انظر ألفاظه في المسند الجامع - (2 / 360) 983(1/457)
وعَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ ، كَانَ لَهُ ابْنٌ يُكَنَّى أَبَا عُمَيْرٍ ، قَالَ : فَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟ قَالَ : فَمَرِضَ وَأَبُو طَلْحَةَ غَائِبٌ فِي بَعْضِ حِيطَانِهِ ، فَهَلَكَ الصَّبِيُّ ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ ، فَغَسَّلَتْهُ ، وَكَفَّنَتْهُ وَحَنَّطَتْهُ وَسَجَّتْ عَلَيْهِ ثَوْبًا ، وَقَالَتْ : لاَ يَكُونُ أَحَدٌ يُخْبِرُ أَبَا طَلْحَةَ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أُخْبِرُهُ ، فَجَاءَ أَبُو طَلْحَةَ كَالًّا ، وَهُوَ صَائِمٌ ، فَتَطَيَّبَتْ لَهُ وَتَصَنَّعَتْ لَهُ وَجَاءَتْ بِعَشَائِهِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ أَبُو عُمَيْرٍ ، فَقَالَتْ : تَعَشَّى وَقَدْ فَرَغَ ، قَالَ : فَتَعَشَّى وَأَصَابَ مِنْهَا مَا يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ ،ثُمَّ قَالَتْ : يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ أَهْلَ بَيْتٍ أَعَارُوا أَهْلَ بَيْتٍ عَارِيَّةً ، فَطَلَبَهَا أَصْحَابُهَا أَيَرُدُّونَهَا أَوْ يَحْبِسُونَهَا ، فَقَالَ : بَلْ يَرُدُّونَهَا عَلَيْهِمْ ، قَالَتْ : احْتَسِبْ أَبَا عُمَيْرٍ ، قَالَ : فَغَضِبَ وَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ أُمِّ سُلَيْمٍ ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا ، قَالَ : فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَتَّى إِذَا وَضَعَتْ وَكَانَ يَوْمُ السَّابِعِ ، قَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ : يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا الصَّبِيِّ وَهَذَا الْمِكْتَلِ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ عَجْوَةٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُحَنِّكُهُ وَيُسَمِّيهِ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رِجْلَيْهِ وَأَضْجَعَهُ فِي حِجْرِهِ ، وَأَخَذَ تَمْرَةً فَلاَكَهَا ، ثُمَّ مَجَّهَا فِي فِيِّ الصَّبِيِّ ، فَجَعَلَ يَتَلَمَّظُهَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَبَتِ الأَنْصَارُ إِلاَّ حُبَّ التَّمْرِ." (1)
وفي حديث أنسٍ هذا من الفوائد والأمور التعليمية :
تخصيصُ الإمام بعضَ الرعية بالزيارة .
مخالطة بعض الرعية دون بعض .
جوازُ حَمْلِ العالم علمَه إلى من يستفيدُه .
جوازُ الممازحة وأن ممازحة الصبي الذي لم يُميِّز جائزة .
جوازُ تكنية من لم يولَد له ولد .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 158)(7188) صحيح(1/458)
جوازُ لعب الصغيرِ بالطَّير دون تعذيب له ، وجواز تمكين الولي إياه من ذلك .
جواز إنفاقِ المال فيما يَتَلَهّى به الصغير من المباحات .
جوازُ إمساكِ الطير في القفص ونحوِه .
معاشرةُ الناس على قَدْر عقولِهم ومَدارِكهم .
جوازُ نداءِ الشخصِ باسمِه المصغَّر عند عدم الإيذاء به لقوله (يا أبا عُمَير) .
جواز السؤالِ عما السائلُ به عالم من غير أن يكون استهزاءً ، لقوله (ما فعل النُّغَير)؟ بعد علمه بأنه مات .
وبعضُ العلماء شرَح هذا الحديث في جزءٍ مستقل ، استخراج منه أكثرَ من ستين فائدةً كما في ((فتح الباري)) (1) ، ، وبعضُهم أوصلَها إلى أكثر من ثلاث مئة فائدةٍ ، كما أشار إلى ذلك الشيخُ عبد الحي الكتاني رحمه الله (2) .
وقال العلاّمةُ المؤرِّخُ الأديبُ المَقَّري في ((نفح الطيب)) في (الباب الخامس) (3) عند ذكر كلام لسان الدين ابن الخطيب في وصف مدينة (مكناسة) : ((أَملى ابن الصَّبّاغ بمجلسِ درسِه بمِكْناسة في حديث (يا أبا عمير ، ما فعل النغير) أربعَ مئةِ فائدة)) (4) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « إِنِّى حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ » (5) . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ » (6) .
وفيه من الأمور التعليمية : تنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - المتعلِّمَ وغيرَه على أنه إذا سمع قولاً ينبغي له أن يتأمَّلَه ، وأن لا يُبادِرَ بردِّه . وهذا خُلقٌ هامٌّ جداً يتعيَّن سلوكُه على المتعلِّم ليُفلِح . وفيه
__________
(1) - 10 :481
(2) - في ((التراتيب الإدارية)) 2 :150
(3) - في ((نفح الطيب)) 6 :215
(4) - وانظر شرح النووي على مسلم - (7 / 275) ومعالم السنن للخطابي 288 - (4 / 129)
(5) - أي سأله أن يُعطِيَه بعيراً من إبل الصدقة ، ليَحمِل عليه مَتاعه .
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (2122 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.(1/459)
أيضاً : أن الرسول المعلِّم - صلى الله عليه وسلم - يمزَحُ ولا يقول إلاّ حقاً ، إذ الإبلُ كلُّها وَلَدُ النّوق . وفيه لَفْتُ الذهن إلى إدراكِ المعاني الدقيقة .
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : أَتَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ ، فَقَالَ : " يَا أُمَّ فُلَانٍ ، إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ " قَالَ : فَوَلَّتْ تَبْكِي فَقَالَ : " أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي عَجُوزٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، فَقَالَ : " مَنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ ؟ " قَالَتْ : مِنْ أَخْوَالِي ، أَوْ قَالَتْ : خَالَاتِي ، فَقَالَ : " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ " ، قَالَ فَكَبُرَ ذَلِكَ مِنَ الْعَجُوزِ ، قَالَ : فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي لَقِيَتِ الْمَرْأَةُ ، فَقَالَ : " إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْبِتُ بِهِنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَتْهُ عَجُوزٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ : " إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ " ، فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ كَلِمَتِكَ مَشَقَّةً وَشِدَّةً ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَدْخَلَهُنَّ الْجَنَّةَ حَوَّلَهُنَّ أَبْكَارًا " (3)
إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا : الإنشاء : إبداء الخلق، والأبكار جمع بكر، وهي التي لم تفتض «العُرُب» جمع عَروب وهي المرأة الحسناء المتحببة إلى زوجها، والأتراب : الأقران.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا وَكَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ ، فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ " وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ أَرْسِلْنِي . فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ
__________
(1) - الشَّمَائِلُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلتِّرْمِذِيِّ (238 ) حسن لغيره
(2) - أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ (40605 ) حسن لغيره
(3) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5703 ) حسن لغيره(1/460)
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ عَرَفَهُ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ " أَوْ قَالَ : " أَنتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ " (1)
الخلاصة :
(1) الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يمزح مع أصحابه لكنه ما كان يقول إلا حقًّا .
(2) قد يكون التعليم عن طريق المزاح .
(3) على طالب العلم عدم المسارعة بالإنكار قبل أن يسأل معلمه عن ذلك.
ــــــــ
48-تأكيدُه - صلى الله عليه وسلم - التعليم بالقَسَم:
كان - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحيان،يَبدأُ حديثَه بالقَسَم بالله تعالى،تنبيهاً منه إلى أهميّة ما يقولُه وتقويةً للحكم وتأكيداً له، قال الإمام ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقِّعين)) و((زاد المعاد)): ((أقْسَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما أَخبَر به من الحق ، في أكثرَ من ثمانين موضعاً ، وهي موجودة في الصحاح والمسانيد ، وأمَرَه الله تعالى بالحَلِفِ على تصديق ما أخبَر به في ثلاثة مواضع من القرآن ، في سورة يونس : 53 (قُلْ إيْ وربّي إنه لَحَقٌّ) ، وفي سورة سبأ : 3 (قُلْ بَلى وربّي لتَاْتِيَنَّكم) ، وفي سورة التغابُن : 7 (قُلْ ورَبّي لَتُبْعَثُنَّ) (2) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ. (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى
__________
(1) - الشَّمَائِلُ الْمُحَمَّدِيَّةُ لِلتِّرْمِذِيِّ (237 ) صحيح
(2) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (3 / 302) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (4 / 178)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 472)(236) وصحيح مسلم- المكنز -(203 )(1/461)
تَحَابُّوا (1) ، أَفَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا تَحَابُّوا عَلَيْهِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ ، تَحَابُّوا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلُّنَا رَحِيمٌ ، قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ ، وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ" (2)
وعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قِبَلِكُمُ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكَ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " (3)
قال الإمام النووي (4) : ((في هذا الحديث : الحثُّ العظيمُ على إفشاءِ السلام وبَذْلِه للمسلمين كلّهم ، من عَرَفْتَ ومن لم تَعْرِف . والسَّلامُ أوَّلُ أسبابِ التألُّف ، ومِفتاحُ استجلابِ المودّة . وفي إفشائه تمكُّنُ أُلْفَةِ المُسلمين بعضِهم لبعض ، وإظهارُ شِعارِهم المميَّزِ لهم من غيرهم من أهل المِلَل ، مع ما فيه من رياضةِ النفس أي ترويضِها على التواضع ، ولزومِ التواضع ، وإعظامِ حُرُمات المسلمين .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : والأُلفَةُ إحدى فرائض الدّين وأركان الشريعة ، ونظامُ شَمْلِ الإسلام . وفي الحديث : إفشاءُ شِعار هذه الأُمّة ، وهو السَّلام)) . انتهى
وفي هذا الحديث الشريف وما يليه مما جاء فيه قسمه - صلى الله عليه وسلم - : جواز الحلف من المعلِّم وغيره
__________
(1) - قوله : (ولا تؤمنوا حتى تَحابوا...) ، قال العلماء : وإنما حُذِفَت النونُ هنا من هذا الفعل : (ولا تؤمنوا) ، مُشاكَلَةً لحذفها من الفعل السابق : (حتى تؤمنوا) ، فكأنه أورده بحذف النون في الثاني على الحكاية ، لِحذفها في الأول . =
= وانظر إذا شئت كلام العلماء مطوَّلاً على حذف النون في هذا الحديث في ((شرح صحيح مسلم)) للنووي 2 :26 ، و((المِرقاة شرح المشكاة)) لعلي القاري 4 : 555 . ويُروى بحذف النون في قوله : (لا تدخلوا الجنة ...) كما أشار إليه في ((المرقاة شرح المشكاة)) .
(2) - المستدرك للحاكم(7310) حسن
(3) - شعب الإيمان - (11 / 182)(8373 ) حسن لغيره
(4) - في ((شرح صحيح مسلم)) 2 :10 و36(1/462)
من غير استحلاف ، لتفخيم ما يخبر به ، وتعظيمه ، والمبالغة في صحته وصفته وأثره . وقد كثرت الأحاديث التي جاء فيها القَسَمُ من الصادق المَصْدوقِ - صلى الله عليه وسلم - ، حتى زادَتْ على ثمانين حديثاً كما تقدَّم نقلُه عن الإمام ابن القيم .
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ لأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ». (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ ." (2)
قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه : مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِن الْإِيمَان التَّامّ ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْإِيمَان يَحْصُل لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَة . وَالْمُرَاد يُحِبّ لِأَخِيهِ مِنْ الطَّاعَات وَالْأَشْيَاء الْمُبَاحَات وَيَدُلّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث " حَتَّى يُحِبّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْر مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ " قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح : وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنَ الصَّعْب الْمُمْتَنِع ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَكْمُل إِيمَان أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَام مِثْل مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ ، وَالْقِيَام بِذَلِكَ يَحْصُل بِأَنْ يُحِبّ لَهُ حُصُول مِثْل ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمهُ فِيهَا ، بِحَيْثُ لَا تَنْقُص النِّعْمَة عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا مِنَ النِّعْمَة عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ سَهْل عَلَى الْقَلْب السَّلِيم ، إِنَّمَا يَعْسُرُ عَلَى الْقَلْب الدَّغِل . عَافَانَا اللَّه وَإِخْوَانَنَا أَجْمَعِينَ . وَاَللَّه أَعْلَم ." (3)
قال العلماء : المرادُ بالأخ في قوله : ((حتى يحب لأخيه) عُمومُ الإخْوة حتى يَشمَلَ الكافرَ والمسلمَ ، فيُحِبُّ للكافرِ ما يحب لنفسه من دخولِهِ في الإسلام ، كما يحب لأخيه المسلم دَوامَه على الإسلام . ولهذا كان الدُّعاءُ بالهداية للكافر مُستَحَبّاً . ونفيُ الإيمان في هذا الحديث مَحمولٌ على نفي الإيمان الكاملِ عمن لم يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه . (4)
وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: " وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (180 )
(2) - مسند أبي عوانة (75 ) صحيح
(3) - شرح النووي على مسلم - (1 / 126)
(4) - الرسول المعلم - صلى الله عليه وسلم - وأساليبه في التعليم لأبي غدة - (1 / 134)(1/463)
يُؤْمِنُ ثَلَاثًا "، قَالُوا: وَمَنَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ، قَالَ: " شَرُّهِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : الْجَارُ ، جَارٌ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : شَرُّهُ." (2)
قالَ ابن بَطّال : فِي هَذا الحَدِيث تَأكِيد حَقِّ الجار لِقَسَمِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ذَلِكَ ، وتَكرِيره اليَمِين ثَلاث مَرّات ، وفِيهِ نَفي الإِيمان عَمَّن يُؤذِي جاره بِالقَولِ أَو الفِعل ومُراده الإِيمان الكامِل ، ولا شَكَّ أَنَّ العاصِي غَير كامِل الإِيمان.
وقالَ النَّووِيّ عَن نَفي الإِيمان فِي مِثل هَذا جَوابانِ :أَحَدهما : أَنَّهُ فِي حَقّ المُستَحِلّ ، والثّانِي : أَنَّ مَعناهُ لَيسَ مُؤمِنًا كامِلاً. انتهى.
ويَحتَمِل أَن يَكُون المُراد أَنَّهُ لا يُجازَى مُجازاة المُؤمِن بِدُخُولِ الجَنَّة مِن أَوَّل وهلَة مَثَلاً ، أَو أَنَّ هَذا خَرَجَ مَخرَج الزَّجر والتَّغلِيظ ، وظاهِره غَير مُراد ، والله أَعلَم.
وقالَ ابن أَبِي جَمرَة : إِذا أُكِّدَ حَقُّ الجار مَعَ الحائِل بَينَ الشَّخص وبَينَه وأُمِرَ بِحِفظِهِ وإِيصال الخَير إِلَيهِ وكَفّ أَسباب الضَّرَر عَنهُ فَيَنبَغِي لَهُ أَن يُراعِي حَقّ الحافِظِينَ اللَّذَينِ لَيسَ بَينَه وبَينَهما جِدار ولا حائِل فَلا يُؤذِيهِما بِإِيقاعِ المُخالَفات فِي مُرُور السّاعات ، فَقَد جاءَ أَنَّهُما يُسَرّانِ بِوُقُوعِ الحَسَنات ويَحزَنانِ بِوُقُوعِ السَّيِّئات ، فَيَنبَغِي مُراعاة جانِبهما وحِفظ خَواطِرهما بِالتَّكثِيرِ مِن عَمَل الطّاعات والمُواظَبَة عَلَى اجتِناب المَعصِيَة ، فَهُما أَولَى بِرِعايَةِ الحَقّ مِن كَثِير مِنَ الجِيران ا ه مُلَخَّصًا . (3)
وقال ابن عثيمين : " فالذي لا يأمن جاره من ذلك ليس بمؤمن، وإذا كان يفعل ذلك ويوقعه فعلا فهو أشد ،وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار سواء كان ذلك
__________
(1) - شعب الإيمان - (12 / 86) (9087 ) وصحيح البخارى- المكنز - (6016 ) - ( بَوائِقَه) شُرورَه وأذاياه .
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 159)(7878) 7865- صحيح
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (10 / 444)(1/464)
بالقول أو بالفعل، أما بالقول فأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه كالذين يفتحون الراديو أو التليفزيون أو غيرهما مما يسمع فيزعج الجيران ،فإن هذا لا يحلُّ له حتى لو فتحه على كتاب الله وهو مما يزعج الجيران بصوته، فإنه معتد عليهم ولا يحلُّ له أن يفعل ذلك، وأما بالفعل فيكون بإلقاء الكناسة حول بابه والتضييق عليه عند مداخل بابه أو بالدق أو ما أشبه ذلك مما يضره ،ومن هذا أيضا إذا كان له نخلة أو شجرة حول جدار جاره فكان يسقيها حتى يؤذي جاره بهذا السقي ، فإن ذلك من بوائق الجار فلا يحل له ،فإن فعل فإنه ليس بمؤمن ،والمعنى أنه ليس متصفا بصفات المؤمنين (1) في هذه المسألة التي خالف بها الحق. وبناء على هذا فتجب مراعاة حقوق الجيران فيجب الإحسان إليهم بقدر الإمكان ويحرم الاعتداء عليهم بأي عدوان " (2)
وما كان القَسَمُ منه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث، وهو الصّادِقُ المَصْدوق إلاّ للتنبيهِ على أهمية أثَرِ السَّلام الذي هو شِعارُ الإسلام في توثيق الصِّلة والتَّحابِّ بين الناس،والتنبيهِ على لزومِ محبّة الخيرِ للجارِ والأخ،والتنبيه على شَناعةِ أذى الجار وتنغيصِه،حتى نَفى الإيمانَ عمن خالَفَ هَدْيَه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث .
وهذه طائفة من الأحاديث دون تعليق :
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حَصِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ وَهِيَ حَامِلٌ قَالَ : فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِيَّهَا أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ ، فَلَمَّا وَضَعَتْ أَمَرَ بِثِيَابِها ، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ، ثُمَّ رَجَمَهَا ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَتُصَلِّي عَلَيْهَا وَقَدْ زَنَتْ ؟ فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (3)
وعَنْ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْتَأْذِنُونَهُ
__________
(1) - يعني الكاملي الإيمان
(2) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (2 / 457)
(3) - الآحاد والمثاني - (4 / 142) (2299) صحيح(1/465)
فَيَأْذَنُ لَهُمْ ، رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا بَالُ شِقِّ الشَّجَرَةِ الَّتِي تَلِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبْغَضُ إِلَيْكُمْ مِنَ الآخِرِ ؟ قَالَ : فَلَمْ يُرَ فِي الْقَوْمِ إِلا بَاكِيًا قَالَ : فَقُلْتُ : إِنَّ الَّذِي يَسْتَأْذِنُكَ بَعْدَ هَذَا لَسَفِيهٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَشْهَدُ عِنْدَ اللهِ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا حَلَفَ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، مَا مِنْ عَبْدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلََّّ يُسَدِّدُ إِلا سُلِكَ بِهِ فِي الْجَنَّةِ ، أَرْجُو أَنْ لا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَتَبَوَءُوا أَنْتُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ذَرَارِيِّكُمْ مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ ، لَقَدْ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ " (1)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ : أَنَّ رَجُلاً قَامَ فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) السُّورَةَ كُلَّهَا يُرَدِّدُهَا لاَ يَزِيدُ عَلَيْهَا قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَجُلاً قَامَ لَيْلَةً يَقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) يُرَدِّدُهَا لاَ يَزِيدُ عَلَيْهَا . قَالَ : كَاَنَ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ». (2)
وعَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِىِّ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ عَلَى الصَّدَقَةِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ مِنْ أَعْمَالِنَا فَيَجِىءُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى. أَفَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ شَىْءٌ أَمْ لاَ ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَأْتِى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا بِشَىءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ». ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ فَقَالَ :« اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ». (3)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : دُعِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ ذَاتَ
__________
(1) - الآحاد والمثاني - (4 / 387)(2561) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (3 / 21)(4954) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (4 / 158)(7914) وصحيح مسلم- المكنز - (2762 )(1/466)
غَدَاةٍ يَقُولُ :« وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعَ حَبٍّ وَلاَ صَاعَ تَمْرٍ ». وَإِنَّ لَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ نِسْوَةٍ وَلَقَدْ رَهَنَ يَوْمَئِذٍ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِىٍّ بِالْمَدِينَةِ أَخَذَ مِنْهُ صَاعًا مَا وَجَدَ مَا يَكْفِيهِ أَوْ قَالَ مَا يَفْتَكُّهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ قَالَ : لَمَّا دَخَلَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَجَارَ بِهَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصُّبْحِ فَلَمَّا كَبَّرَ فِى الصَّلاَةِ صَرَخَتْ زَيْنَبُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَلاَتِةِ قَالَ :« أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ؟ ». قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ :« أَمَا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَىْءٍ مِمَّا كَانَ حَتَّى سَمِعْتُ مِنْهُ مَا سَمِعْتُمْ إِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ ». ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى زَيْنَبَ فَقَالَ :« أَىْ بُنَيَّةُ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ وَلاَ يَقْرَبَنَّكِ فَإِنَّكِ لاَ تَحِلِّينَ لَهُ وَلاَ يَحِلُّ لَكِ » (2) .
وعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ سَرِيَّةً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ فَأَفْضَى بِهِمُ الْقَتْلُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« مَا حَمَلَكُمْ عَلَى قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ ». قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانُوا أَوْلاَدَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ :« وَهَلْ خِيَارُكُمْ إِلاَّ أَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ نَسَمَةٍ تُولَدُ إِلاَّ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا ». (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَسْأَلَهُ لَهُمْ شَيْئًا ، فَوَافَقَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا رُزِقَ عَبْدٌ شَيْئًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ، وَلَئِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ. (4)
وعَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ اللَّهُ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (6 / 36) (11526) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (9 / 95)(18642) صحيح مرسل
(3) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (9 / 130)(18796) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (8 / 192) (3399) صحيح(1/467)
تَعَالَى : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ فَرِحَ بِصَوْمِهِ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا ، وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ ، وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً فَيَخْرُجُونَ ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ ، ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ ، قَالَ : ذَلِكَ ثَلاَثًا." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا رَدَّ إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الشَّفَاعَةِ ؟ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي ، لِمَا رَأَيْتُ مِنَ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا يُهِمُّنِي مِنَ انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شَفَاعَتِي لَهُمْ ، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ يُصَدِّقُ لِسَانُهُ قَلْبَهُ وَقَلْبُهُ لِسَانَهُ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ ، وَالْبُخْلُ ، وَيُخَوَّنَ الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ ، وَيَهْلِكَ الْوُعُولُ ، وَتَظْهَرَ التَّحُوتُ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الْوُعُولُ وَالتَّحُوتُ ؟ قَالَ : الْوُعُولُ : وجُوهُ النَّاسِ وَأَشْرَافُهُمْ ، وَالتَّحُوتُ : الَّذِينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ لاَ يُعْلَمُ بِهِمْ. (4)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ ، فَتَلَقَّتْهُ الأَنْصَارُ بِوُجُوهِهِمْ وَفِتْيَانِهِمْ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، إِنِّي لَأُحِبُّكُمْ ، إِنَّ الأَنْصَارَ قَدْ قَضَوَا الَّذِي عَلَيْهِمْ ، وَبَقِيَ الَّذِي عَلَيْكُمْ ، فَأَحْسِنُوا إِلَى مُحْسِنِهِمْ ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 210)(3423) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 39)(4737) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 385)(6466) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (15 / 258)(6844) صحيح(1/468)