الأَخْبَارُ النَبَوِيَّةُ الْفَاصِلَةُ
في
الأَحْدَاثِ الْعَالمَِيَّةِ المقْبِلَةِ
اعداد
الْدُكْتُورمُحَمَّدأَحْمَدعَبْدالغَنيّ
قال الله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور 55).
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الْأرْض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ مُلك أمَّتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإني سألتُ ربي لأمتي ألا يهلكها بسَنَةٍ بعامة، ولا يسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لى: يا محمد! إني إذا قضيتُ قضاء؛ فإنه لا يُرَدُّ، ولا أُهْلكُهُم بسَنَة بعامَّة، ولا أُسَلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضَتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بين أقطارها حتى يكون بعضهم يُهْلك بعضًا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضًا، وإنَّما أخاف عَلَى أمَّتي الأئمة المُضِلِّين، وإذا وُضِعَ السيف في أُمَّتي؛ لم يُرْفَع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمَّتي الأوثان، وإنه سيكون في أُمَّتي ثلاثون كذابون؛ كلهم يزعم أنه نبيٌّ، وأنا خاتم النبيِّين، لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أُمَّتي عَلَى الحق ( ظاهرين) ، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله) ( رواه ابو داود ) .
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1430_ 2009
الاهداء(1/1)
... إلى الَّذِينَ يعايشون يقظةً عِلْمِيَّة، تَتَهَلَّلُ لها سُبُحَاتُ الوجوه ويتقلبون في أعطاف العلم مُثقلين بحمله يَعُلُّوْن منه وينهلون.
... إلى الصَّرح العِلمي الَّذِيْ أولاني الرعايةَ والعنايةَ في التماس العلم في أحضان الجامعة الاسْلاميَّة بالمدينة المنورة بخير البرية...
... إلى النَّواة المباركة والكلِّّية الشامخةكلِّيةالامام الاوْزاعي التي تتعهد الاطلاع المدهش والغوص عَلَى مكنونات المسائل ما يفرح به المُسْلِمون نصراً...
إلى الَّذِينَ ينبذون ألقاب الَّذِينَ كفروا للذين أسلموا والَّذِينَ استغربوا للذين آمنوا وثبتوا والَّذِينَ غلبوا عَلَى أمرهم للذين استضعفوا.
إلى الطائفة الظاهرة عَلَى الحق القائمة بأمر اللَّه القاهرة لعدوها لا يضرها خلاف المنافقين وخذلان المستغربين حتى ينصر اللَّه هذا الدين.
إلى نهر البارد , نهر الدماء , وصوتِ القهْرِ , ورَجْعِ البؤْسِ , وجُرْحِ القلْبِ ودمعةِ العينِ , ومهوى الفؤاد , وملعب الصبا , ومَشيبِ الرّأسِ .
إلى والدي الَّذِيْ اختار لي الطّريق،ووالدتي التي تدعو دوماً بالسداد والتوفيق وأسرتي التي هي خير رفيق أهدي هذه الثمرة اليانعة من جهدي العلمي وكلٌّ منهم بها جدير وحقيق.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المقدمة :(1/2)
... الحمد لله الَّذِيْ شَرّعَ الاسلام، فسهَّل شرائعَهُ لمن وَرَدَه، وأ عَزَّ أركانَهُ عَلَى من غالبه، فجعلَهُ أمْناً لمن علقه، وسِلْماً لمن دخله وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، ونوراً لمن استضاء به. وصلِّ اللَّهمَّ عَلَى مُحَمَّد المبعوث بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الساطعة الَّذِيْ انتهت إِلَيْهِ أصول الرسالات، وتجمعت لرسالته تجربة النبوات، فحمل القرآن بين دفتيه الشهود التاريخي، بما قصّ من أخبار الأمم، والشهود الحضاري بما تجسد من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وتمثل في خير القرون، والشهود المستقبلي بما أُصَّل من قواعد، وَوُضِعَ من معالم، وكلَّف من نظر وتدبر في سُنَن اللَّه في الأنفس والآفاق التي هي السبيل للتمكين في الْأَرْض، والقيام بالشَّهادَة عَلَى النَّاس والقيادة لهم : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } (1) .
وبَعْد :
إِنَّ من عظمة هذا الدين الخاتم كماله، وإِنَّ من مظاهركماله تهيئته لنفوس أتباعه لما يستقبلونه من أحداث ووقائع، ليسيروا عَلَى نور بيِّن وبصيرة نافذة يعرفون من خلال خبر النبي الصادق ما كان وما سيكون مِمَّا هو نافع لهم في دنياهم وأخراهم، وعَلَى جادة المثال تلك النصوص الشرعية المتحدثة عن أمور المستقبل ، مِمَّا يعطي المُسْلِم تصوراً عما يستقبله مِنْهَا ليتجددَ الايمانَ بالله ورسوله وليسارعَ الى التوبة والإنابة الى اللَّه تعالى وليبادرَ بالإيمان والعمل الصَّالح و لئلا يركنَ الى الدُّنْيَا وليتزودَ بالتقوى مخافة الانقلاب و ليحذرَ ويتقيَ حتى ينجوَ في الْآخِرَة. كما أن الحديثَ عن أشراطِ السَّاعةِ مهم ، ولا سيما إذا ابتعد الناس عن تذكر الآخرة واشتغلوا بالدنيا وملذاتها ، فإن في أشراط السَّاعةِ المحسوسة التي تظهر ويراها الناس بأعينهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ما يعيد الناس إلى ربهم ويوقظهم من غفلتهم .
__________
(1) ص / 88 .(1/3)
يَقُولُ القُرْطبي - رحمه الله - : قال العلماء رحمهم الله تعالى : الحكمة في تقديم الأشراط ، ودلالة الناس عليها ، تنبيه الناس من رقدتهم وحثهم عَلَى الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة ، كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم ، فينبغي للناس أن يكونوا بَعْدَ ظهور أشراط الساعة ، قد نظروا لأنفسهم وانقطعوا عن الدنيا واستعدوا للساعة الموعود بها. (1)
إِنَّ أُمَّةَ الاسلامِ الْيَوْم تحتاجُ إلى أن تراجعَ هذه النصوصَ الشرعيةَ لتجدَ السبيلَ للخروج مِمَّا هي فيه من أزماتٍ وفتنٍ يرقق بعضها بعضا، فـ(قد أحاطت هذا الزمانَ وأهلَه فتنٌ كثيرةٌ لا تحصى، خصوصاً ذهاب دولة الاسلام، وحكومة الايمان، وغربة الدين، وفشو البدع والمضلين، وقلة العلم، وكثرة الجهل، وإيثار الخلق عَلَى الحق، والعاجلة عَلَى الآجلة، وترك الغزو ، والقنوع بما في أيدي النَّاس، والانهماك في أمر المعاش، والإعراض عن المعاد، وكثرة التحاسد ، والمفاسد التي أسرت أفراح القلوب، وشقت قلوبَ المؤمنين قبل الجيوب، فأصبحوا في حال يعدون المنايا أمانيا، ويرون لضعف الدين ووهن اليقين الْمَوْت طبيباً شافياً، إذا عثرت خيول الفتن والنقم، وولت جنود الدعة والنعم، وصارت الدُّنْيَا كلها آفات وبلايا، وكم في الزوايا من رزايا) (2) .
__________
(1) التذكرة للقرطبي ( 2 / 732 ).
(2) الاذاعة 218(1/4)
ومن الرزايا ما نراه من كتابات تخرج بين الفينة والأخرى قد اتخذت من نصوص الفتن والأشراط والملاحم مرتعاً خصباً لعبث العابثين وظنون المتخرصين، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لايعرفون، في كهانة مقنعة تلبس لبوس النص ، والنص ينادي عَلَيْها بالبراءة، قد رسموا صورة الحاضر والمستقبل بما جادت به عقولهم المريضة، ثُمَّ حاولوا أن يجعلوا من تلك النصوص أصباغاً يلونون بها تلك الصور فأساؤوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بل إنه هروب اليائس المحبط من واقعه إلى عالم من الأحلام والأماني يعيش فيه ويتعلل به مِمَّا هو فيه، يحسب أنه بذلك قد صنع شيئاً.فلا تولِ وجهَك شطرَ هذه المقالات والتي بمضمونها تخرج عن النصوص الصحيحة التي تضبط المفهوم الحقيقي للفتنة من حيث الزمان و المكان فهم تارة يؤولون النصوص و يحملوها ما لا تحتمل بحيث تأتي موافقة لهوىً في صدورهم و تارة تراهم يجتهدون في تأويل نص ضعيف أو أثر غير مرفوع فيجعلون منه أساساً لا خروج عنه حتى لو كانت هذه الآثار تتعارض و بشكل صريح مع نصوص صحيحة.
فهذا الكتابُ كلماتٌ في محاولةٍ لبيانِ الأَخْبَارِ النَبَوِيَّةِ الْفَاصِلَةِ في الأَحْدَاثِ الْعَالمَِيَّةِ المقْبِلَةِ, موقناً أن كلَّ خبرٍ عما يحدثُ مستقبلاً يحتاج لأمرين : صحةِ الخبرِ وصحةِ التأويلِ. جاعلاً زادي بَعْدَ الاتكال عَلَى الله صحيح السنة و حسنها , ولا أتطرق لضعيف السنة , راجيا من الله القبول و السداد و الله من وراء القصد .
وقبل أن أختمَ المقدمةَ، يقضي عليّ الواجبُ أن أتقدمَ بجزيلِ الشكرِ وجميلِ العرفانِ لكلِّ من أسدى إليّ أيَّ عونٍ خلالَ الكتابةِ بدلالةٍ عَلَى مصدرٍ أو بإعارةٍ لكتاب، أو بزيارةٍ لمكتبة أو بكلمة طيّبةٍ.(1/5)
... وأنا أسأل اللَّه تعالى بجوده الَّذِيْ هو غاية مطلب الطُّلاّب وكرمه الواسع الَّذِيْ لا يحول دونه سترٍ ولا حجاب أن يجعله في إصلاح الدين ورجحانا في ميزاني عند خِفَّة الموازين إنه خير مأمول وأكرم مسؤول...
أشراط السَّاعَة وأقسامها
تعريف الأشراط :
الأَشْرَاطُ في الّلغةِ هي علاماتُ الشيء المتقدمة عَلَيْهِ والدالة عَلَيْهِ ،واصطلاحا :هي العلاماتُ التي تسبقُ يوم الْقِيَامَة وتدل عَلَى قدومها (1) وأطلق بعض العُلَماءِ عَلَى هذه الأشراط اسم «الآيات أو العلامات » والآيات هي الأماراتُ الدالةُ عَلَى الشيء كالأماراتِ التي تُنْصبُ في الصحراء لتدلَّ عَلَى الطريق ،والعلامات التي توضع عَلَى الطرق المؤدية الى المدن لتدلَّ المسافرَ عَلَى قرب وصولِهِ الى الديار التي وضعت بقربها وهذه العلاماتُ مِنْهَا: صِغَار قَدْ مَضَى أَكْثَرهَا ومِنْهَا كِبَار سَتَأْتِي (2) والعلامات الصغار مِنْهَا ما وقعت وانقضت, ومِنْهَا ما وقعت، ولاتزال مستمرةً،وقد يتكرر وقوعُها, ومِنْهَا ما لم تقعْ بَعْدَ). (3)
1- أشراط صغرى : وهي العلامات التي تتقدم السَّاعَة بأزمان متطاولة ، كبعثة الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفاته ،وانشقاق القمر .ويمكننا تقسيم الأشراط حسب أنظمة وقضايا التشريع الاسلامي التالية :
__________
(1) يقول البيهقي في الأشراط : " أي ما يتقدمها من العلامات الدالة عَلَى قرب حينها "البعث والنشور : ص ( 69 ) . ويقول الحافظ ابن حجر المراد بالأشراط : " العلامات التي يعقبها قيام الساعة "فتح الباري ( 13 / 97 ) .
(2) الفتح 13/91
(3) عمر الاشقر , الْيَوْم الاخر القيامة الصغرى 136.(1/6)
نظام الحكم والعقوبات : نقض عهد اللَّه تعالى وعهد رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ,عدم الحكم بكتاب اللَّه تعالى, توقف الجزية والخراج ،تعطيل الحدود, إمارة السفهاء , إسناد الأمر إلى غير أهله,أن يتولى الشرار الأمر ,كثرة الشرطة وأعوان الظّلمة, قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها النَّاس , ارتفاع الأسافل .
النظام الاقتصادي: استفاضة المال وكثرته, والاستغناء عن الصدقة، وَفُشُوّ التِّجَارَةِ , أن تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ ، نقص المكيال والميزان, عدم تقسيم الميراث, أن تكون الأموال في أيدي البخلاء, منع الزكاة, انتشار الغنى, التنافس عَلَى الدُّنْيَا, التطاول في البنيان, وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَيُلْقَى الشُّحُّ , انتشار الربا , لايبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام.
النظام الاجتماعي : ولادة الأمَة ربتها، نِسَاء كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ , خدمة نساء المُسْلِمينَ نساء الكفار, انتشار الزنا, ارتكاب الفاحشة عَلَى الطريق العام, أسعد النَّاس بالدُّنْيَا لكع بن لكع ,كثرة الخبث, أن يَكُوْن الأمر للنساء, كثرة القذف, تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء ,كثرة الطلاق, أن يَكُونَ فِي الْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ.(1/7)
الجهاد والقتال : فتح القدس, فتح قُسْطَنْطِينِيَّة,كثرة الروم وقتالهم للمُسْلِمين ,أن يقاتل المُسْلِمونَ الترك, وأن يقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم ,أن يُقَاتِلَ المُسْلِمونَ الْيَهُود ، فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمونَ ،حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ, انتصار المُسْلِمينَ عَلَى الْيَهُود, أن يتقاتل النَّاس عَلَى المال والدُّنْيَا لا عَلَى الدين , عدم الفرح بالغنيمة, موت الفجأة, أن َيَكْثُرَ الْهَرْجُ , أن يُستخفَ بالقتل.
الفتن : ظهور مدعي النبوة , موقعة الجمل ,موقعة صفين مقتل عُثمان بن عفان, افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين شعبة, فتنة القول بخلق القرآن , نفي المدينة لشرارها ثُمَّ خرابها آخر الزمان, استحلال البيت الحرام وهدم الكعبة .
العلاقات الانسانية : تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ ، أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ الا لِلْمَعْرِفَةِ, وقطع الأرحام، وسوء المجاورة, خراب القلوب, نقض العهود,كثرة الخيانة, كتمان الشهادة,شهادة الزور, انعدام الأمناء, نزع الأمانة من القلوب, وقوع التناكر بين النَّاس فلا يكاد أحد أن يعرف أحد .
العلم :أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ ويقبض،أن يظهرَالْجَهْلُ، هلاك الوعول( الأ ئمة الكبار) موت العُلَماء,استشارة الجهلاء, ظهور القلم وكثرة الكتابة وانتشارها,ذهاب الصالحين , أن يأخذ اللَّه شريطته من أهل الخير والدين , التماس العلم عند الأصاغر .(1/8)
المعاصي والذنوب : شرب الخمر ،وظهور الفحش والتفاحش,, أن يؤتمن الخائن, أن يخون الأمين, أن يصدق الكاذب, أن يكذب الصادق, أن تشببَ المشيخةُ, أن يخضب النَّاس في آخر الزمان بالسواد الصبغة بالسواد ( الشعر واللحية ), ظهور المعازف والقَيْنات واستحلالها ، وشرب الْخَمْر واستحلالها , كثرة الكذب وقلة التثبت في نقل الأخبار. وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَكِتْمَانُ شَهَادَةِ الْحَقِّ وَأن يَظْهَرَ الزِّنَا والشرك في هذه الأمة.
المساجد : زخرفة المساجد والتباهي بها, تحليه المصاحف وزركشتها, إطالة المنابر وعلوها, علو أصوات الفسقة في المساجد,من لا فقه له يؤم النَّاس , اتخاذ القرآن مزامير, إمامة المغنى ,تدافع النَّاس للإمامة فلا يجدون من يصلى بهم, إماتة الصلاة.
الطبيعة : أن يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ, الخسف , المسخ , القذف , أن تعودَ أرض العرب مروجا خضراء , كثرة المطر وقلة النبات .
2- أشراط كبرى : وهي العلاماتُ العظامُ التي تظهرُ قربَ قيامِ السَّاعَةِ كظهور المسيحِ الدَّجَّالِ ، وَخُرُوج المهديِّ المنتظرِ . وَنُزُول عِيسَى بْن مَرْيَم وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَالرِّيح الَّتِي تَهُبّ بَعْدَ مَوْت عِيسَى فَتَقْبِض أَرْوَاح الْمُؤْمِنِينَ وَطُلُوع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة وَخُرُوج النار التي تحشرالنَّاس قبل الْقِيَامَة الى الشام.
الخَيْرُ الَّذِيْ في آخِرِ الأُمَّةِ
انّ بعضَ النَّاسِ يفهمُ من كونِ الشيء من أشراطِ السَّاعَةِ أنه محذورٌ وممنوعٌ أو أنه شرٌمطلقٌ لا خيرَفيه أو أنه نهايةُ الخير في هذه الأمة وبدايةُ اليأسِ والقنوطِ . والحقُّ الَّذِيْ نصَّ عَلَيْهِ العُلَماءُ أنما هذه علاماتٌ تكون بالخيرِ والشرِ ، وأنَّ الخيرَ في الأُمَّة الى يومِ القيامةِ .
أولاً : معنى كون الساعة لا تَقُومُ إلا عَلَى شِرار الناسِ :(1/9)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَقُومُ السَّاعَة إلا عَلَى شرار الناس" (1) وعن أنس أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال « لاَ تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى لاَ يُقَال فِى الْأرْض اللَّه اللَّه » (2) .وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَة وعَلَى ظهر الْأرْض من يقول: اللَّه اللَّه) (3) . قَال ابن كثير:« في معنى هذا الحَدِيث قولان: (4)
الأول : أن معناه أنّ أحداً لا يُنكر منكراً،ولا يزجر أحداً اذا رآه قد تعاطى منكراً،وعبّر عن ذلك بقوله:«حتى لا يقَال اللَّه،اللَّه »كما في حَدِيث عبد اللَّه بن عمر:« لاَ تَقُومُ السَّاعَة حتى يأخذ اللَّه شريطته من أهل الْأرْض،فيبقى فيها عجاجةٌ،لا يعرفون معروفاً،ولا ينكرون منكراً) (5) .
والثاني : « حتى لايذكر اللَّه في الْأرْض ولا يعرف اسمه فيها وذلك عند فساد الزمان ، ودمار نوع الانسان ،وكثرة الكفر والفسوق والعصيان ) .
ومثل ذلك نحمل النصوص الشرعية الواردة في هذا المعنى ومِنْهَا :
1- عن عبد اللَّه بن عمرو من حَدِيث طويل قَال فيه « ...ثُمَّ يرسل اللَّه ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى عَلَى وجه الْأرْض أحد في قلبه مثقَال ذرة من خير أو ايمان الا قبضته حتى لَوْ أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عَلَيْهِ حتى تقبض. (6)
2-عن أبي موسى وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ، ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج ، والهرج : القتل » (7) .
__________
(1) رواه أَحْمَد
(2) رواه مُسْلِم في صحيحه.
(3) مُسْلِم الإيمان (148) ، التِّرْمِذيّ الفتن (2207) ، أَحْمَد (3/107).
(4) ابن كثير: النهاية في الفتن والملاحم .ص( 136)
(6) رواه مُسْلِم
(7) رواه البخاري في صحيحه : كتاب الفتن ( 8 / 89 ) .(1/10)
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنا » (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يتقارب الزمان ، وينقص العمل ، ويلقى الشح ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج ، قالوا : يا رسول الله ، أيم هو ؟ ، قال : القتل القتل » (2) .
وفي رواية لمُسْلِم عن قبض العلم وظهور الجهل عن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَال قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقارب الزمان،ويقبض العلم،وتظهر الفتن ويلقى الشُح ويكثر الهرج . (3)
قَال ابن حجر معقباً عَلَى ذلك: والمراد من الحَدِيث استحكام ذلك حتى لا يبقى مِمَّا يقابله الا النادر ، وإلَيْهِ الاشارة بالتعبير بقبض العلم، فلا يبقى الا الجهل الصرف ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم ، لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك. وقال ابن حجر : قيل : إن المراد نقص علم كل عالم بأن يطرأ عليه النسيان مثلا ، وقيل : نقص العلم بموت أهله ، فكلما مات عالم ولم يخلفه غيره نقص العلم من تلك البلد. (4)
وقَاْلَ النوويّ : « إن المراد بقبض العلم في الأَحَادِيث المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه : أن يموت حملته ويتخذ النَّاس جُهّالاً يحكمون بجهالاتهم فيَضلُّون ويُضَّلون . (5)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 28 ) .
(2) رواه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 29 ) .
(3) رواه مسلم .
(4) فتح الباري ( 13 / 17 ) .
(5) الفتح : 13 / 18 ـ 19 .(1/11)
وقَاْلَ ابن العربيّ : " وأما ذهاب العلم ، قال المشيخة : فيكون بوجوده ، إما بمحوه من القلوب ، وقد كان في الذين قبلنا ، ثم عصم هذه الأمة ، فذهاب العلم منها بموت العلماء ، وقد قال جماعة من الناس : إن ذهاب العلم يكون أيضا بذهاب العمل به ، فيحفظون القرآن ولا يعملون به فيذهب العلم . . . و الَّذِيْ عندي أن الوجوه الثلاثة في هذه الأمة ، فقد يذنب الرجل حتى يذهب ذنبه علمه ، وقد يقرؤه ولا يعمل به ، وقد يقبض بعلمه فلا ينتفع أحد به ، أو يمنع من بثه فيذهب لوقته " (1) .
وقَاْلَ القُرْطبيّ أثناء شرحه لحديث : « إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل » : وأما قلة العلم وكثرة الجهل فذلك شائع في جميع البلاد ذائع ، أعني برفع العلم وقلته : ترك العمل به (2) .
وقد ورد ما يدل عَلَى أن المراد برفع العلم وكثرة الجهل : موت العلماء فلا يبقى إلا الجهال الذين يتخذهم الناس رؤساء فيضلوا ويضلوا غيرهم ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا » (3)
كَيْفَ التوفيق بين حديث الطائفة المنصورة وبين أحاديث عموم الشر :
وقديقول قائل: كَيْفَ التوفيق بين هذه الأَحَادِيث التي تدل عَلَى بقاء الطائفة المنصورة إلى قيام السَّاعَة وبين الأحاديث التي تدل عَلَى أن السَّاعَة لا تقوم الا عَلَى شرار الخلق، وحَتَّى لاَ يُقَال فِى الْأرْض اللَّه اللَّه ؟
__________
(1) عارضة الأحوذي ( 10 / 121 ) .
(2) التذكرة ص ( 748 - 749 ) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب العلم ( 1 / 34 ) ، ومسلم في صحيحه : كتاب العلم ( 4 / 2053 ) .(1/12)
الجواب: أن السَّاعَة إذا جاءت أشراطها الكبرى ودنا وقتها الأخير، أرسل اللَّه ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقَال ذرة من إيمان الا قبضته، ثُمَّ يبقى شرار الخلق عَلَيْهِم تقوم السَّاعَة ، ولعل هذا هو المراد من قوله :" حتى يأتي أمر اللَّه " فيكون أمر اللَّه هو الريح التي تقبض أرواح المؤمنين.كما في الأحاديث التالية :
1-الحَدِيث الَّذِيْ يرويه أبو هُرَيْرَة، قَال: قَال رَسُول اللَّه :" إن اللَّه يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقَال ذرةٍ من إيمان الا قبضته (1)
2-وعن عبد الرحمن بن شُماسَة المهري قَال: كنت عند مُسْلِمة بن مخلَّد وعنده عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فقَال عبد اللَّه: لا تقوم السَّاعَة الا عَلَى شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون اللَّه بشيء الا رده عَلَيْهِمْ. فبينما هم عَلَى ذلك أقبل عقبة بن عامر فقَال له مُسْلِمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد اللَّه. فقَال عقبة: هو أعلم، وأَمَّا أنا فسمعت رَسُول اللَّه يقول:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عَلَى أمر اللَّه قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم السَّاعَة وهم عَلَى ذلك "، فقَال عبد اللَّه: أجل ثُمَّ يبعث اللَّه ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقَال حبة من الايمان الا قبضته، ثُمَّ يبقى شرار النَّاس عَلَيْهِمْ تقوم السَّاعَة .
فيكون المراد من قوله عَلَيْهِ الصلاة والسلام :" إلى يوم الْقِيَامَة " أي " أنهم لا يزالون عَلَى الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب الْقِيَامَة وعند تظاهر أشراطها، فأطلق في هذا الحَدِيث بقاءهم إلى قيام السَّاعَة عَلَى أشراطها ودنوها المتناهي في القرب.(1/13)
وعليه , فانه لا يكون عموم الشر إلا قبيل قيام الساعة، ولعله بَعْدَ عصر المهدي والمسيح - عليهما السلام -، شأنه في ذلك شأن الجاهلية التي لا يمكن أن تشمل الأمة الإسلامية كلها إلا بَعْدَ قبض أرواح المؤمنين.
ومما يرجح ذلك أنك تلحظ أن الله تعالى قد أنزل القرآن والدين ليُعمل به ويُتَّبع، وجعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، وقضى بحكمته ورحمته ببقاء الطائفة المنصورة إلى أن يأتي أمره.. كل ذلك لهداية الناس وإقامتهم عَلَى المحجة. فإذا تعطلت مصالح هذه الأشياء نهائيًّا، زالت حكمة وجودها، ومن ثمَّ أذن الله تعالى بزوالها.
فالقرآن يرفع حين تتعطل قراءته وتدبره والعمل به والإسلام يدرس كما يَدْرُسُ وشي الثوب والكعبة يسلّط عليها ذو السَّويقتين من الحبشة، فينقضها حجرًا حجرًا، كما أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما (1) .
__________
(1) صح هذا عن عدد من الصحابة، منهم ابن عباس وأبو هريرة، فحديث ابن عباس: رواه البخاري 35- كتاب الحج، 49- باب هدم الكعبة (2/159).وحديث أبي هريرة: رواه البخاري 35- كتاب الحج، 49- باب هدم الكعبة (2/159). ومسلم في: 52- كتاب الفتن، 18- باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.. برقم (57- 59)، (4/2232).والنسائي في: 24- كتاب مناسك الحج، 125- بناء الكعبة (5/216)، وغيرهم.(1/14)
وهكَذا الطائفة المنصورة المكلفة بالأمر والنهي تظل موجودة قائمة في الأمة ما دام للأمر والنهي ثمرة وفائدة، فإذا انتفت فائدة الأمر والنهي، وزال الجهاد، وأقبل الناس عَلَى دنياهم، واتبعوا أهواءهم، وتحققت الخصال المذكورة في الحديثين السابقين عَلَى أتم صورة بعث الله هذه الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين، ليبقى شرار الناس، يتهارجون تهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة ، ويمكن الاستئناس لذلك برواية الفزارية (1) وفيها الإشارة إلى أن الحثالة المذكورة ينزو بعضهم عَلَى بعض، وأن الساعة تقوم عليهم، ولذلك قال ابن حجر في شرح حديث مرداس الأسلمي - رضي الله عنه وكان من أصحاب الشجرة، وفيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول، فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله باله: " (2) (3) وفيه أنه يجوز انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر، واستدل به عَلَى جواز خلو الْأرْض من عالم حتى لا يبقى إلا أهل الجهل صرفًا" (4)
ثانياً: الأمة الاسلامية مباركة كالمطر :
و مِمَّا يدل عَلَى وجود الخير في آخر الأمة الأَحَادِيث الدالة بمفهومها عَلَى وجود الخير :
1-عن أنس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إن مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره ). (5)
2-وقَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره ).
__________
(1) وهي امرأة عمر
(2) أي: لا يرفع لهم قدرًا، ولا يقيم لهم وزنًا، يقال: ما باليته، أي: لم أكترث به. انظر: النهاية (1/156).
(3) رواه البخاري في: 81- كتاب الرقاق، 9- باب ذهاب الصالحين: (7/147).
(4) فتح الباري: (11/252).
(5) رواه احمد(1/15)
3- وعند البزار عن عمران بن حصين قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره ). (1)
قَال ابن عبد البر في التمهيد :« وأَمَّا قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره» فروي من وجوه حسان .... وهذه الأَحَادِيث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها . (2)
4- حَدِيث عمر قَال كنت مع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً ، فقَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أتدرون أي أهل الايمان أفضل ايماناً ؟ قَالوا يا رَسُول اللَّه الملائكة ! قَال : هم كذلك ، ويحق ذلك لهم ، وما يمنعهم وقد أنزل اللَّه المنزلة التي أنزلهم بها ؟ بل غيرهم ، قَالوا : يا رَسُول اللَّه فالأنبياء الَّذِيْ أكرمهم اللَّه تعالى بالنبوة والرساله ، قَال هم كذلك ، ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم اللَّه المنزلة التي أنزلهم بها ؟ بل غيرهم ، قَال قلنا فمن هم يا رَسُول اللَّه ؟ قَال : أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال ، فيؤمنون بي ولم يروني ويجدون الورق المعلق ، فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الايمان إيماناً (3) .
5 -عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء، قال: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس" (4)
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحة
(2) ابن عبد البر في التمهيد
(3) رواه الحاكم وصححه من حَدِيث عمر
(4) الحديث رواه الطبراني في مجمعه الأوسط، كما في مجمع الزوائد، كتاب الفتن، باب بدأ الإسلام غريبًا، (7/278). ورواه البيهقي في الزهد الكبير، برقم (200)، ص (146).(1/16)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الإيمان بدأ غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، و الَّذِيْ نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها" . (1)
6 - عن تميم الداري قَال سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيْل والنَّهَار ولا يترك اللَّه بيت مدر ولا وبر الا أوصله اللَّه هذا الدين ، بعَزَّ عَزَّيز أو بذل ذليل، عَزَّ ا ًيعَزَّ اللَّه به الاسلام أو ذلا يذل اللَّه به الكفر. (2)
7 - قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((والله ليَتِمَّنَّ هذا الامر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف الا اللَّه أو الذئب عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون)). (3)
8- حَدِيث ابي عنبة الخولاني قَال سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول :« لا يزال اللَّه يغرس في هذا الدين غرسا ً يستعملهم في طاعته).
9- حَدِيث جبير بن نفير أن النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (... أَلا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (4) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد(1/184) وقد قال فيه الهيثمي في المجمع: "ورجال أحمد وأبي يعَلَى رجال الصحيح". وقال الشيخ أحمد شاكر: (3/95)، رقم الحديث (1604). "إسناده صحيح عَلَى إبهام ابن سعد بن أبي وقاص، فإن أبناءه كلهم ثقات معروفون".وصحح الشيخ الألباني إسناد أبي عمرو الداني، كما في حاشية المشكاة: (1/60).
(3) رواه البُخَارِي ح (3612).
(4) الإمام أَحْمَد (4/104)(1/17)
فالخير سيبقى قائماً كائناً في هذه الأمة وسيكون حتى تقام الخلافة عَلَى منهاج النبوة وحتى تقاتل الأمة الدجال والْيَهُود وتفتح قُسْطَنْطِينِيَّة للمرة الثانية وتفتح روما ويبلغ الاسلام ما بلغ اللَّيْل ثُمَّ يذهب الخير قبيل السَّاعَة حيث لاتقوم الا عَلَى شرار الخلق .
10-ومِمَّا يبشر بالخير وينهى الأمة عن اليأس: إخباره برفع الخلافة ثُمَّ عودتها: عن حذيفة قَال: قَال النبي :(تكون النبوة فيكم ما شاء اللَّه أن تكون، ثُمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثُمَّ تكون خلافة عَلَى منهاج النبوة فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثُمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثُمَّ تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثُمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثُمَّ تكون ملكا جبرياً فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثُمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثُمَّ تكون خلافة عَلَى منهاج النبوة ثُمَّ سكت) . (1)
وهكذا أخبر النبي بعودة الخلافة بَعْدَ رفعها.وقد رفعت الخلافة منذ أكثر من ثمانين عاما، ونحن نرجو اللَّه أن تعود قريبا بمنّه وكرمه، وهي عائدة إن شاء اللَّه، شاء النَّاس أم أبوا، رضوا أم سخطوا، ولكن عَلَى من أراد لنفسه النجاة أن يعمل جاهدا عَلَى إعادتها لينال بذلك الشرف والمجد، وإلا فهي عائدة بإذن اللَّه ولو كره المجرمون.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند, قال في المجمع رجاله ثقات.(1/18)
11- عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى لي الْأرْض -أو قال: إن ربي زَوَى لي الْأرْض- فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنَّ مُلك أمَّتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإني سألتُ ربي لأمتي ألا يهلكها بسَنَةٍ بعامة، ولا يسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لى: يا محمد! إني إذا قضيتُ قضاء؛ فإنه لا يُرَدُّ، ولا أُهْلكُهُم بسَنَة بعامَّة، ولا أُسَلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضَتَهم، ولو اجتمع عليهم مَن بين أقطارها -أو قال: بأقطارها- حتى يكون بعضهم يُهْلك بعضًا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضًا، وإنَّما أخاف عَلَى أمَّتي الأئمة المُضِلِّين، وإذا وُضِعَ السيف في أُمَّتي؛ لم يُرْفَع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمَّتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمَّتي الأوثان، وإنه سيكون في أُمَّتي ثلاثون كذابون؛ كلهم يزعم أنه نبيٌّ، وأنا خاتم النبيِّين، لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أُمَّتي عَلَى الحق -قال ابن عيسى (1) : ظاهرين. ثم اتفقا (2) ، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله" (3) .
__________
(1) هو محمد بن عيسى، شيخ أبي داود، وهو ابن نجيح البغدادي، أبو جعفر الطباع، سكن أذنة، ولد سنة (150هـ)، ومات سنة (224هـ)، وكان ثقة فقيهًا. انظر: "التهذيب" (9/392)
(2) أي: شيخا أبي داود، وهما: محمد بن عيسى، وسليمان بن حرب. وسليمان بن حرب: هو ابن بجيل الأزدي الواشجي، أبو أيوب البصري، ولد سنة (140هـ)، ومات سنة (224هـ)، وهو ثقة، ثبت، روى له الجماعة.انظر: "التهذيب" (4/178)، "التقريب" (1/322).
(3) أبو داود: 39- كتاب الفتن والملاحم، 1- باب ذكر الفتن ودلائلها، (رقم 4252)، ورواه البرقاني في "صحيحه" بتمامه، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء" (1/122).(1/19)
وكان ابن ماجه رحمه الله إذا فرغ من رواية هذا الحديث يقول: "ما أهوله!" (1) .
ففي الحديث إشارة جليَّة إلى أن الأمَّة لن تهلك بسنة عامَّة؛ لأنه لا تزال منها طائفة قائمةٌ بأمر الله.وإشارة أخرى إلى أن هذه الأمة، مهما وقع فيها من مظاهر غُربة الدين؛ من البلاء، والافتراق، والقتال، وفساد الحكم، وضياع معالم الدين عند الكثير من الفئات والطوائف، حتى يلحق بعضُها بالمشركين في الأفكار والمبادئ والمعتقدات والولاءات، وحتى يعبدَ بعضُها الأصنام الحسيَّة والمعنوية...
مهما حدث من هذا وغيره؛ فإن الَّذِيْ يستنزل غضب الله وعقابه العام الشديد بإهلاك الأمة هو أن لا يوجد فيها أولو بقيَّة ينهَوْن عن الفساد في الْأرْض بوضوح وظهور وقوة وثبات، وهذا -أعني: عدم وجود أولي بقية - قد يقع في بعض البلاد، في زمن معيَّن، أو مطلقًا، لكنه لا يقع في الأمة كلها إلا قُبَيل الساعة.
ولذلك يستحيل خلوُّ الْأرْض من هذه الطائفة، وإطباقُ الكُفر والجاهليَّة عليها؛ دولاً، وجماعات، وأفرادًا، وإن كانت الجاهلية قد توجد في مجتمع أو بلد معيَّن، أو فئة خاصة، أو جانب خاصٍّ؛ كجاهلية الحكم والتشريع -مثلاً-.
وبهذا يتبيَّن قوَّة ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال: "... فأما بَعْدَ مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ (2) قد تكون في مصرٍ دون مصرٍ -كما هي دار الكفار-، وقد تكون في شخص دون شخص -كالرجل قبل أن يسلم؛ فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام-.
فأما في زمان مطلق؛ فلا جاهليَّة بَعْدَ مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا تزال من أُمَّته طائفة ظاهرين عَلَى الحق إلى قيام الساعة"
__________
(1) "سنن ابن ماجه" (1/5).
(2) "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/227).(1/20)
وقال: "... فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفةٌ ممتنعةٌ من أمَّته، عَلَى الحق، أعزَّاء، لا يضرُّهم المخالف، ولا خذلان الخاذل، فأما بقاء الإسلام غريبًا ذليلاً في الْأرْض كلها قبل قيام الساعة؛ فلا يكون هذا" (1)
حكمة ايراد النصوص الشرعية المتحدثة عن أمور المستقبل
1-كونها عقيدة يجب الايمان بها :
__________
(1) "الفتاوى" (18/296).(1/21)
إن أحاديث الملاحم وأشراط السَّاعَة والفتن في الجملة من الغيب الَّذِيْ يجب الايمان به، و الَّذِيْ يثيب اللَّه عَلَى الايمان به العباد، وبغيره لا يَكُوْن المؤمن مؤمنا، فعن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أن لا إله الا اللَّه ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم الابحقها وحسابهم عَلَى اللَّه) (1) ، فلا يصح إيمان العبد الا بالإيمان بكل ما جاء به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحكام شرعية ومغيبات ماضية وحاضرة ومستقبلية والتسليم له بالجميع، وقد اعتنت كتب العقائد بالتنبيه إلى هذه المسألة عَلَى وجه العموم، وما يتعلق بأشراط السَّاعَة عَلَى وجه الخصوص، يقول الامام الطحاوي مثلا: (ونؤمن بأشراط السَّاعَة من خروج الدجال، ونزول عِيسَى بن مريم عَلَيْهِ السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الْأرْض من موضعها) (2) ، ويقول الامام ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (ويجب الايمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع عَلَى حقيقة معناه) إلى أن يقول: (ومن ذلك أشراط السَّاعَة مثل خروج الدجال، ونزول عِيسَى بن مريم عَلَيْهِ السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مِمَّا صح به النقل) (3)
__________
(1) . رواه البُخَارِي 2946 ، و مُسْلِم 21 واللفظ له ، وأبو داود 2640 ،و التِّرْمِذيّ 2606 ، والنَّسَائيّ3090 ، وابن ماجة 71 ، والإمام أَحْمَد في المسند 68
(2) شرح الطحاوية 499
(3) شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين 101،104 ، وانظر النهاية في الفتن والملاحم 1/11 ، إتحاف الجماعة 1/6(1/22)
2-التحذير مِمَّا يستقبل النَّاس والإرشاد إلى ما يفعلون:
المتأمل في كثير من الاخبار المتكلمة عن أشراط السَّاعَة يجدها قد وردت بذم بعض ما سيقع من أشراط، كما جاءت بالتحذير من الدخول في مختلف الفتن الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، فالمؤمن الكيس هو من اعتزل تلك الفتن وحاذر تلك الا شراط لئلا يَكُوْن من أهلها، قَال البرزنجي: (وأرسله - يعني النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالمسبحة والوسطى نذيرا، فأخبر عن جميع الفتن والأشراط الكائنة قبلها فاسأل به خبيرا، فبلغ وبالغ، وحذر أمته الفتن عموما والدجال خصوصا تحذيرا) (1)
و قَال: (فأكثر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان أشراطها وأماراتها وما بين يديها من الفتن القريبة والبعيدة ، ليكون أهل كل قرن عَلَى حذر مِنْهَا، متهيئين لها بالأعمال الصالحات، غير منهمكين في الشهوات واللذات) (2)
__________
(1) الاشاعة 23
(2) الاشاعة 25 ، وانظر السنن الواردة في الفتن 23 ، و الاذاعة 20 ، والموافقات 2/450(1/23)
وهذا المعنى ظاهر جلي في نصوص الاشراط والفتن، والتحذير والإرشاد يقع فيها باللفظ الصريح، وبالتنبيه والاشارة، فهذه الاخبار ليست أخبارا مجردة تحكي الوقائع ولا تهدي العباد، بل الهداية فيها منصوص عَلَيْهِا والعمل الواجب مبين، ومن نظر في أحاديث الدجال وتتبعها وجد من الاوامر والإرشادات والاحتياطات الشيء الكثير كالأمر بالاستعاذة منه، والنأي عنه، وقراءة فواتح سورة الكهف، ودخول ناره لا جنته، وكَيْفَ تؤدى الصلاة في وقته إلى غير ذلك مِمَّا يؤكد هذا المعنى، و مِمَّا يبين هذا المعنى كذلك كثير من أحاديث الفتن، كحديث عُثمان الشحام قَال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مُسْلِم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عَلَيْهِ فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثا، قَال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قَال: قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنها ستكون فتن ألا ثُمَّ تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إِلَيْهِا ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه) قَال: فقَال رجل: يا رَسُول اللَّه أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قَال: (يعمد إلى سيفه فيدق عَلَى حده بحجر ثُمَّ لينج إن استطاع النجاة اللَّهم هل بلغت اللَّهم هل بلغت اللَّهم هل بلغت)، قَال: فقَال رجل: يا رَسُول اللَّه أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قَال: (يبوء بإثمه وإثمك ويَكُوْن من أصحاب النار) (1) ، والأَحَادِيث في هذا الباب كثيرة وإنَّمَا المقصود التنبيه والإشارة ليس الا .
__________
(1) رواه مُسْلِم 2887 ، والإمام أَحْمَد في المسند 19977(1/24)
وقد فقه الصَّحَابَة هذا المعنى ولذا فقد كانوا حريصين عَلَى سؤال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يصنعون في مختلف الفتن والأحداث التي يخبرهم بها صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن ذلك مثلا ما صح عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (كَيْفَ بكم وبزمان أو يوشك أن يأتي زمان يغربل النَّاس فيه غربلة تبقى حثالة من النَّاس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا) وشبك بين أصابعه، فقَالوا: وكَيْفَ بنا يا رَسُول اللَّه؟ قَال: (تأخذون ما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون عَلَى أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم) (1)
و مِمَّا يدل عَلَى عنايتهم بما ينفعهم من أحكام تلك الايام حَدِيث النواس بن سمعان في الدجال وفيه: (قلنا يا رَسُول اللَّه وما لبثه في الْأرْض؟ قَال صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم-: (أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم) قلنا: يا رَسُول اللَّه فذلك الْيَوْم الَّذِيْ كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قَال: (لا اقدروا له قدره) (2) فلم يعارضوه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعقول باطل وإنَّمَا إيمان وتسليم، وسؤال عما ينفع.
3-الاستعداد لقيام السَّاعَة :
__________
(1) رواه أبو داود 4342 ، والإمام أَحْمَد في المسند 7023 ، وانظر صحيح سنن أبي داود 3648
(2) رواه مُسْلِم 2937 ، وأبو داود 4321 ، والإمام أَحْمَد في المسند 17177(1/25)
إن من فائدة هذه الأخبار إشعار العباد بقرب المعاد ليستعدوا له الاستعداد المناسب إذ هو المقصود أصالة بذكر هذه النصوص، فهي أمارات وعلامات وأشراط لقيام السَّاعَة يستدل من خلالها عَلَى قرب السَّاعَة ، قَال الطيبي: (الآيات أمارات للساعة إما عَلَى قربها وإما عَلَى حصولها) (1) ، واستشعار هذا القرب يوجب من العبد مزيد سعي وإعداد لهذا الْيَوْم العظيم، يدل عَلَيْهِ قول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل: متى السَّاعَة ؟ فقَال: (ماذا أعددت لها)؟ (2) وفي لفظ: (ويلك ما أعددت لها) (3) ، فتأمل حسن إرشاد النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسائل وصرفه إلى ما يعنيه ويفيده من شأن السَّاعَة وهي قضية الاعداد، يقول الحافظ ابن حجر: (والحكمة في تقدم الاشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم عَلَى التوبة والاستعداد) (4) ، فأشراط السَّاعَة مواعظ تزجر القلوب لتقبل عَلَى علام الغيوب جل وعلا، كلما وقع شرط مِنْهَا فهي خطوة يخطوها النَّاس جميعا نحوالْآخِرَة فالسعيد من سار في هذه الدُّنْيَا متذكرا للآخرة عاملا لها والشقي من أعرض عن أخراه قد عمي عنها ونسيها (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (5) .
4-تغذية فضول الانسان:
__________
(1) الفتح 11/360.
(2) رواه البُخَارِي 3688 ، و مُسْلِم 2639 ،و التِّرْمِذيّ 2385 ، والإمام أَحْمَد في المسند 11602
(3) رواه البُخَارِي 6167
(4) الفتح 11/357 ، وانظر التذكرة 2/472 ، والسنن الواردة في الفتن 23 ، والإشاعة 24 ، والإذاعة 15 ، ولوامع الا نوار البهية 2/65
(5) التوبة : 67(1/26)
إن في كيان الانسان حاجة فطرية وفضولا يدفعه للتعرف عَلَى المستقبل وما يتعلق به من أحداث، ولذا فقد وجد في النَّاس في القديم والحَدِيث من اتخذ من الكهانة والعرافة والتنجيم وغير ذلك من طرائق أهل الانحراف مطية يركبها ليشرف عَلَى شيء من المغيبات -زعم- وليسد هذه الحاجة في نفسه، ولا تزال هذه السوق المبنية عَلَى الدجل والكذب والتخريف سوقا رائجة يقبل عَلَيْهِ ا كثير من النَّاس بمختلف عقلياتهم ومستوياتهم، يقول شيخ الاسلام: (وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في الامور الدينية، لأن تشوف الَّذِينَ يغلبون الدُّنْيَا عَلَى الدين إلى ذلك أكثر، وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوف، لكن تشوفهم إلى الدين أقوى، وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق والباطل من النور ما لأهل الدين، فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير) (1)
فكان من رحمة اللَّه بعباده أن بين لهم كذب هذه الطرائق، وبرحمته بين لهم شيئا مِمَّا يستقبلون بطريق شرعي قطعي تطمئن إِلَيْهِ النفوس، وتسد حاجة عندهم، بل ويثابون عَلَى الايمان به.
__________
(1) الفتاوى 4/79(1/27)
يقول ابن خلدون: (اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدُّنْيَا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عَلَيْهِ ا ولذلك تجد الكثير من النَّاس يتشوقون إلى الوقوف عَلَى ذلك في المنام والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من النَّاس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص النَّاس عَلَيْهِ فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عَلَيْهِ م وتروح نسوان المدنية وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المندل وهو من المنكرات الفاشية في الامصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وإن البشر محجوبون عن الغيب خلا من أطلعه اللَّه عَلَيْهِ من عنده في نوم أو ولاية وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إِلَيْهِ الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إِلَيْهِ وكل أُمَّة من الا مم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وعدد الملوك فيها والتعرض لأسمائهم ويسمى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إِلَيْهِم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون العرب من الملك والدولة) (1)
__________
(1) المقدمة لابن خلدون 2/821..(1/28)
لكنه جل وعلا فتح لهم من هذا الباب ما يَكُوْن نافعا لهم في دينهم ودنياهم، ولا يدخل عَلَيْهِ م ضررا ولا يشغلهم عن دورهم الاساس ، جاء في مفتاح دار السعادة: (ولحكمة جليلة ضرب اللَّه دون هذا العلم بالأسداد، وطوى حقائقه عن أكثر العباد، وذلك أن العلم بما سيكون ويحدث ويستقبل علم حلو عند النفس، وله موقع عند العقل، فلا أحد الا وهو يتمنى أن يعلم الغيب، ويطلع عَلَيْهِ ويدرك ما سوف يَكُوْن في غد، ويجد سبيلا إِلَيْهِ ولو ذلل السبيل إلى هذا الفن لرأيت النَّاس يهرعون إِلَيْهِ، ولا يؤثرون شيئا آخر عَلَيْهِ ، لحلاوة هذا العلم عند الروح ولصوقه بالنفس وغرام كل أحد به، وفتنة كل إنسان فيه، فبنعمة من اللَّه لم يفتح هذا الباب، ولم يكشف دونه الغطاء، حتى يرتقي كل أحد روضه ويلزم حده، ويرغب فيما هو أجدى عَلَيْهِ وأنفع له إما عاجلا وإما آجلا فطوى اللَّه عن الخلق حقائق الغيب ونشر لهم نبذا منه وشيئا يسيرا يتعللون به، ليكون هذا العلم محروصا عَلَيْهِ ، كسائر العلوم ولا يَكُوْن مانعا من غيره ) (1)
و مِمَّا يؤكد هذا الامر ويزيده وضوحا النظر في أحوال النَّاس وتفاعلهم مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط السَّاعَة فإن مثل هذه النصوص الشرعية تستهويهم، والمتحدث بها ممن تلتفت الوجوه إِلَيْهِ وتلوى الاعناق لسماعه، فكيف إذا كان المتحدث ممن يرصد الاحداث وينزل الأَحَادِيث عَلَيْهِا ويرسم لهم (سيناريو) المستقبل لا شك أن الامر يَكُوْن أخطر وأخطر والفتنة به ستكون أشد وأشد، وعليه فلا يستغرب بَعْدَ ذلك أن يتابع النَّاس كل جديد في هذا المضمار حسنا كان هذا الجديد أو قبيحا، وما أكثر القبيح في هذا المضمار. (2)
5-تجديد الايمان باعتبارها من دلائل النبوة:
__________
(1) مفتاح دار السعادة 3/151
(2) وكنموذج لهذا الاهتمام نشر موقع البي بي سي الاخبارية نشرة بعنوان: (الشباب يقبل عَلَى كتابات نهاية العالم)(1/29)
إن هذه الاخبار تعد من دلائل نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقه، فإن المرء إذا رأى أمرا قد تحقق من تلك الاخبار ازداد إيمانه ويقينه بصدق النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نبوته، وأنه رَسُول اللَّه حقا، ونطق بلسان الحال أو المقَال صدق اللَّه ورسوله، إذ لا يصح لبشر أن يخبر عن تلك المغيبات عَلَى هذا النحو المفصل، والمستيقن، ثُمَّ هي تتحقق مرة من بعد مرة، الا ويَكُوْن ذلك بوحي صادق، نقل المناوي عن بعض أهل العلم قولهم: (هذا وما أشبهه من أحاديث الفتن من جملة معجزاته الاستقبالية التي أخبر أنها ستكون بعده وكانت وستكون وقد أفردها جمع بالتأليف) (1) ، ولو أنك تتبعت أقوال أهل العلم في كون مختلف إشاراته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحوادث المستقبلية ووقوعها كما أخبر من معجزاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن دلائل نبوته لأعياك ذلك ولأتعبك التتبع، ولذا ترى المصنفين في دلائل النبوة -كالبيهقي مثلا- يوردون جملة من هذه الاخبار في مصنفاتهم، وفي هذه الدلائل زيادة لإيمان المؤمنين، وإقامة للحجة عَلَى الكافرين، ومن لطائف الاخبار المؤكدة لهذا المعنى ما ثبت عن طارق بن شهاب قَال: كنا عند عبد اللَّه -ابن مسعود-جلوسا فجاء رجل فقَال: قد أقيمت الصلاة.
__________
(1) فيض القدير 3/193 / وانظر إتحاف الجماعة 1/6 ، والتذكرة /473(1/30)
فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا النَّاس ركوعا في مقدم المسجد فكبر وركع وركعنا، ثُمَّ مشينا وصنعنا مثل الَّذِيْ صنع، فمر رجل يسرع، فقَال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، فقَال: صدق اللَّه ورسوله، فلما صلينا ورجعنا دخل إلى أهله جلسنا فقَال بعضنا لبعض: أما سمعتم رده عَلَى الرجل صدق اللَّه وبلغت رسله، أيكم يسأله، فقَال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج فذكر عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إن بين يدي السَّاعَة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها عَلَى التجارة وقطع الارحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم) (1)
إخبار النبي عَلَيْهِ السلام بأحداث تحققت في حياته
1- التنبؤه بهزيمة الفرس وغلب الروم :
أخبرصلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم بهزيمة الفرس وغلب الروم ، في وقت كادت دولة الفرس أن تزيل الامبرطورية الرومانية من خارطة الدُّنْيَا، فقد وصلت جيوش كسرى أبرويز الثاني إلى وادي النيل، ودانت له أجزاء عظيمة من مملكة الرومان.
سنواتٌ معدودة تمكن فيها جيش الفرس من السيطرة عَلَى بلاد الشام وبعض مصر، واحتلت جيوشهم أنطاكيا شمالاً،مِمَّاآذن بنهاية وشيكة للإمبرطورية الرومانية.
وأمام هذا الطوفان الفارسي أراد هرقل ملك الروم أن يهرب من عاصمة ملكه القُسطَنطينيَّة، وكاد أن يفعل لَوْلا أن كبير أساقفة الروم أقنعه بالصمود وطلب الصلح الذليل من الفرس.
__________
(1) رواه الامام أَحْمَد في المسند 3860 ، وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة 647(1/31)
ووسط هذه الاحداث - وخلافاً لكل التوقعات - أعلن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أجواء مكة المتربصة به وبدعوته أن الروم سينتصرون عَلَى الفرس في بضع سنين، أي فيما لا يزيد عن تسع سنين، فقد نزل عَلَيْهِ قول اللَّه تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الامْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْ عَزَّ يزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّه لَا يُخْلِفُ اللَّه وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ). (1)
يقول المؤرخ إدوارجِبن في كتابه "تاريخ سقوط وانحدارالامبراطورية الرومانية": "في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءةٍ أبعدَ مِنْهَا وقوعاً، لأن السنين العشرالاولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاءالامبرطورية الرومانية".
لقد كان النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتنبأ بانتصار المهزوم الَّذِيْ يكاد يستسلم لخصمه، ويحدد موعداً دقيقاً لهذا النصر الَّذِيْ ما من شيء أبعد في تحققه منه.
وتناقلت قريش هذه النبوءة الغريبة التي خالفت أهواءهم التي مالت إلى جانب الفرس إخوانِهم في الوثنية، بينما أحب المُسْلِمون انتصار الروم لأنهم أهل كتاب، واستبشروا بالخبر.
قَال ابن عَبَّاس: (كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس عَلَى الروم، لأنهم وإياهم أهلُ أوثان، وكان المُسْلِمون يحبون أن يظهر الروم عَلَى فارس لأنهم أهلُ كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَال: أما إنهم سيَغلبون.
__________
(1) الروم: 2-6(1/32)
فذكره أبو بكر لهم، فقَالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا (أي بدوام انتصار الفرس) كان لنا كذا وكذا (أي من الرهن)، وإن ظهرتم (أي بانتصار الروم) كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهر الروم (أي في هذه السنينِ الخمس).
فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَال: الا جعلته إلى دون العشر (أي طلب منه زيادة الاجل إلى تسع سنين، لأن البضع في لغة العرب ما دون العشر)، والله قد وعد بظفر الروم في بضع سنين. قَال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر.
قَال: ثُمَّ ظهرت الروم بعد، قَال ابن عَبَّاس: فذلك قوله تعالى: : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الا رْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) . (1)
لقد كان الامر كما تنبأ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، ففي عام 623م وما بعدها استطاع هرقل أن يتخلص من لهوه ومجونه، وشن ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الرومان.
وفي عام 626م واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس لطلب الصلح مع الرومان بَعْدَ هزيمتهم في معركة نينوى، وأعادوا لهم الصليب المقدس - عندهم - وكان قد وقع بأيديهم.
فمن ذا الَّذِيْ أخبر مُحَمَّداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه النبوءة العظيمة؟ إنه وحي اللَّه، وهو دليل رسالته ونبوته عَلَيْهِ الصلاة والسلام.
__________
(1) رواه التِّرْمِذيّ ح (3193)، وصححه الالباني في صحيح التِّرْمِذيّ ح (2551).(1/33)
ولو تأملنا قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأرْض) فإن أعيننا لن تخطئ برهاناً آخر من براهين نبوته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقوله تعالى: (فِي أَدْنَى الْأرْض) يشير إلى حقيقة علمية كشف عنها العلم الحَدِيث، وهي أن البقعة التي انتصر فيها الفرس عَلَى الروم في منطقة الاغوار قريباً من البحر الميت هي أدنى الْأَرْض، أي أخفض مكان في الْأَرْض كما تؤكده الموسوعة البريطانية وغيرها (1) ، إنه بعض علم اللطيف الخبير.
إخباره عَلَيْهِ الصلاة والسلام بأحداث تحققت بَعْدَ وفاته
1- خطبة النبي في الاخبارَ عن المبدأ والمعاش والمعاد
وقف النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً خطيباً بين أصحابه، ولنسمع إلى حذيفة وهو يقص علينا الخبر.
يقول حذيفة: "خطب خطبة، ما ترك فيها شيئاً إلى قيام السَّاعَة الا ذكره، علِمه من علِمه، وجهِله من جهِله"، يقول حذيفة: (إنْ كنت لأرى الشيء قد نسيتُ، فأعرِف ما يعرِف الرجل إذا غاب عنه، فرآه فعرَفه). (2)
قَال ابن حجر: "دل ذلك عَلَى أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتُدئت إلى أن تفنى، إلى أن تُبعث , فشمل ذلك الاخبارَ عن المبدأ والمعاش والمعاد , في تيسير إيراد ذلك كلِّه في مجلس واحد من خوارق العادة أمرٌ عظيم , ويقْرَب ذلك - مع كون معجزاته لا مرية في كثرتها - أنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطي جوامع الكلم". (3)
__________
(1) يعتبر منخفض بحيرة طبريا ثاني أكبر المنخفضات في العالم، حيث تنخفض فيه اليابسة إلى 209 م تحت سطح البحر، بينما هي في منطقة البحر الميت تصل إلى 395 م تحت سطح البحر. انظر: أطلس العالم، مكتبة بيروت (ص 95) نقلاً عن كتاب "إنه الحق" الَّذِيْ أصدرته هيئة الاعجاز العلمي للقرآن والسنة برابطة العالم الا سلامي (ص 79).
(2) رواه البُخَارِي ح (6604)، و مُسْلِم ح (2891).
(3) فتح الباري (6/336).(1/34)
وهذا الَّذِيْ رواه حذيفة مجملاً؛ فصّله عمرو بن أخطب الانصاري رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، فقَال: (صلى بنا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثُمَّ صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، فنزل فصلى، ثُمَّ صعد المنبر، فخطَبَنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم الْقِيَامَة، فأعلمُنا أحفظُنا). (1)
قَال القاضي عياض: "من ذلك ما أطلع عَلَيْهِ من الغيوب وما يَكُوْن، والأَحَادِيث في هذا الباب بحر لا يُدرك قعره، ولا ينزَف غمْرُه، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة عَلَى القطع، الواصلِ إلينا خبرها عَلَى التواتر، لكثرة رواتها واتفاق معانيها عَلَى الاطلاع عَلَى الغيب". (2)
2- قدومُ أُويس القَرَني من اليمن :
و مِمَّا أخبر به صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المغيبات - التي أطلعه اللَّه عَلَيْهِا لتكون برهان نبوته - قدومُ أُويس القَرَني من اليمن، وقد ذكر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه بعضَ صفته وأحواله ، فقَال: (إن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقَال له: أُويس، لا يدع باليمن غيرَ أمٍ له، قد كان به بياض، فدعا اللَّه فأذهبه عنه؛ الا موضعَ الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم). (3)
وقد كان كما أخبر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقد أقبل أهل اليمن زمن عمر؛ فجعل يستقري الرفاق، فيقول: هل فيكم أحد من قَرَن؟ حتى أتى عَلَى قرن، فقَال: من أنتم؟ قَالوا: قَرَن.
قَال: فوقع زِمامُ عمر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أو زِمام أويس، فناوله أحدهما الاخر، فعرفه.فَقال عمر: ما اسمك؟ قَال: أنا أويس. فقَال: هل لك والدة؟ قَال: نعم.
__________
(1) رواه مُسْلِم ح (2892).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/335-336).
(3) رواه مُسْلِم ح (2542).(1/35)
قَال: فهل كان بك من البياض شيء؟ قَال: نعم، فدعوتُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فأذهبَه عني الا موضعَ الدِرهم من سُرَّتي لأذكر به ربي.
فقَال له عمر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : استغفر لي. قَال: أنتَ أحقُّ أن تستغفر لي، أنت صاحب رَسُول اللَّه فقَال عمر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : إني سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:(إن خير التابعين رجل يقَال له أويس، ولهُ والدة، وكان به بياض، فدعا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فأذهبَه عنه الا موضعَ الدِرهم في سُرَّتِه) فاستغفَر له أويس، ثُمَّ دخل في غِمار النَّاس، فلم يُدر أين وقع(أي ذهب). (1)
قَال النووي: "وفي قصة أويس هذه معجزات ظاهرة لرسول اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وسلم". (2)
إخباره عَلَيْهِ الصلاة والسلام بكيفية ومكان وفاة بعض معاصريه
1- بشارته بشهادة عمرَ وعُثمان وعلي وطلحة والزبير :
فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شهادة عمرَ وعُثمان وعلي وطلحة والزبير،رَضِيَ اللَّه عَنْهُ م أجمعين، وَإِنَّ موتهم سيكون شهادة، وأنهم لن يموتوا عَلَى فُرُشِهم أو سواه مِمَّا يموت به النَّاس.
وقد صعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حراء، هو وأبو بكرٍ وعمرُ وعُثمان وعليُ وطلحةُ والزبيرُ، فتحركت الصخرة، فقَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(اهدأ، فما عليك الا نبيٌ أو صديقٌ أو شهيد). (3) فشهد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه بالنبوة، ولأبي بكر بالصديقية، ولعُثمان وعليَ وطلحةَ بالشهادة.
__________
(1) رواه أَحْمَد ح (268)، والمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه مُسْلِم ح (2542).
(2) شرح النووي عَلَى صحيح مُسْلِم (16/94).
(3) رواه مُسْلِم ح (2417).(1/36)
قَال النووي: " وفي هذا الحَدِيث معجزاتٌ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْهَا إخبارُه أنّ هؤلاء شهداء, وماتوا كلٌّهم غيرَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر شهداء ; فإنّ عمرَ وعُثمان وعليّاً وطلحة والزّبير رَضِيَ اللَّه عَنْهُ م قُتلوا ظلماً شهداء ; فقتلُ الثلاثةِ (أي عمر وعُثمان وعلي) مشهور, وقُتلَ الزّبير بوادي السّباع بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال, وكذلك طلحة، اعتزل النَّاس تاركاَ للقتال, فأصابه سهم، فقتله, وقد ثبت أنّ من قُتل ظلماً فهو شهيدٌ". (1)
وقد بشّر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بالشهادة مرة أخرى حين رآه يلبس ثوباً أبيضَ فقَال له: ((أجديدٌ ثُوبُك أم غسيل؟)) قَال: لا، بل غسيلٌ. فقَال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(اِلبس جديداً، وعِش حميداً، ومُت شهيداً). (2)
وكان كما قَال عَلَيْهِ الصلاة والسلام، فقد قتله أبو لؤلؤة المجوسي وهو قائم يصلي الصبح إماماً بالمُسْلِمينَ في مسجد النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة ثلاث وعشرين للهجرة النبوية، ليكون مقتله رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مصداقاً لنبوءة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلامةً من علامات نبوته ورسالته.
وأَمَّا ثاني الشهداء، أمير المؤمنين المظلوم عُثمان بن عفان، فقد بشّره النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادته، وأنبأه أنها ستكون في فتنة طلب منه أن يصبر عَلَيْهِا، وذلك لما جلس أبو موسى الاشعري مع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بئر أريس في حائط من حيطان المدينة .
__________
(1) شرح النووي عَلَى صحيح مُسْلِم (15/190).
(2) رواه أَحْمَد ح (5363)، وابن ماجه ح (3558)، وصححه الالباني في صحيح ابن ماجه ح (2863).(1/37)
يقول أبو موسى: فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقَال: عُثمان بن عفان. فقلتُ: عَلَى رِسْلك، فجئتُ إلى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فقَال:(ائذن له ، وبشره بالجنة عَلَى بلوى تصيبه).
يقول أبو موسى: فجئتُه، فقلت له: ادخل، وبشّرك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة عَلَى بلوى تصيبُك. (1)
وفي رواية أن عُثمان (حمِد اللَّه، ثُمَّ قَال: اللَّه المستعان). (2) أي حمِد اللَّه عَلَى بشارة النبي له بالجنة، وطلب من اللَّه العون عَلَى بلائه حين تصيبه الشهادة.
وثالث المبشرين بالجنة في قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(اهدأ، فما عليك الا نبيٌ أو صديق أو شهيد). (3) هو علي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، أبو السِّبْطين ، وقد أنبأه رَسُول اللَّه في حَدِيث آخر بأن الا شقى (أي ابن ملجِم) سيقتله بضربة في صِدْغَيه.
وذات يوم مرِض علي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مرضاً شديداً ، فزاره أبو سنان الدؤلي، فقَال له: لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه.
فقَال له علي: لكني والله ما تخوفتُ عَلَى نفسي منه، لأني سمعتُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصادقَ المصدوقَ يقول:(إنك ستُضرب ضربةً ها هنا، وضربةً ها هنا - وأشار إلى صُدغَيه - فيسيل دمها حتى تختضب لحيتُك، ويَكُوْن صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود). (4)
ولأجل هذا الحَدِيث ما كان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يخاف عَلَى نفسه الهلكة في مرضه، فلسان حاله يردد ما قَاله عبد اللَّه بن رواحة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :
وفينا رَسُول اللَّه يتلو كتابَه إذا انشق معروف من الصبح ساطع
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3674).
(2) رواه البُخَارِي ح (3693).
(3) رواه مُسْلِم ح (2417).
(4) رواه الحاكم (3/122)، والطبراني في الكبير ح (173). قَال الهيثُمَّي: إسناده حسن. مجمع الزوائد (9/188).(1/38)
أرانا الهدى بَعْدَ العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قَال واقع
2 - اقترابُ أجل النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقاء فاطمة رَضِيَ اللَّه عَنْهُا بعده
وتقبل فاطمة بنت النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمشي ، فيقول لها أبوها: (مرحباً بابنتي)، تقول أم المؤمنين عائشة: ثُمَّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثُمَّ أسرَّ إِلَيْهِاً حديثاً، فبكت، ثُمَّ أسرَّ إِلَيْهِا حديثاً فضحكتْ.
فقلت لها: ما رأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتُها عما قَال؟ فقَالت: ما كنت لأُفشي سِرَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فلما قُبِض النبيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألتُها، فقَالت: أسرَّ إلي: (إن جبريل كان يعارضني القرآن كلَ سنة مرة ، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه الا حضر أجلي، وإنك أولُ أهلِ بيتي لحاقاً بي، فبكيتُ، فقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما ترضَينَ أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساءِ المؤمنين)، فضحكتُ لذلك. (1)
وفي رواية أخرى أنها قَالت: (فأخبرني أنه يُقبض في وجعه الَّذِيْ توفي فيه؛ فبكيت، ثُمَّ سارَّني، فأخبرني أني أولُ أهلِ بيته أتبعُه؛ فضحكت). (2)
وفي هذا الحَدِيث يخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث غيوب، أولُها: اقترابُ أجله، وقد مات عَلَيْهِ الصلاة والسلام في تلك السنة.
وثانيها: إخبارُه ببقاء فاطمة بعده، وأنها أولُ أهل بيته وفاة. وقد توفيت بعده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بستة أشهر فقط، فكانت أولَ أهل بيته وفاة.
وثالثها: أنها سيدةُ نساء أهل الجنة، رَضِيَ اللَّه عَنْهُا.
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3624)، و مُسْلِم ح (2450).
(2) رواه البُخَارِي ح (3626)، و مُسْلِم ح (2450).(1/39)
قَال النووي: "هذه معجزة ظاهرة له صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بل معجزتان, فأخبر ببقائهابعده, وبأنها أول أهله لحاقاً به, ووقع كذلك, وضحكت سروراً بسرعة لحاقها". (1)
3- إخبارُه أمَ المؤمنين ميمونةَ أنها لا تموت في مكة:
فقد مرضت ميمونة في مكة، واشتد عَلَيْهِ ا المرض، فقَالت لمن عندَها: أخرجوني من مكة، فإني لا أموتُ بها، إن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرني أني لا أموت بمكة.
فحملوها حتى أتوا بها سَرِف، إلى الشجرة التي بنى بها رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها في موضع الفَيئة . (2) فماتت هناك ودفنت، وقبرها معروف الْيَوْم في ضاحية النوارية بمكة، فكانت وفاتُها خارجاً عن مكة، كما أخبر الَّذِيْ لا ينطق عن الهوى.
4- وفاة سِبطُه الحسين بن علي:
ومن هؤلاء الَّذِينَ تحدث النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وفاتهم، سِبطُه الحسين بن علي ريحانة أهل الجنة، فقد قَال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإحدى أزواجه: (لقد دخل علي البيت ملَك لم يدخل عليَّ قبلًها فقَال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتُك من تربة الْأَرْض التي يقتل بها. قَال: فأخرج تربة حمراء). (3)
وهكذا كان فقد قُتل رَضِيَ اللَّه عَنْهُ في كربلاء العراق عام 60 هـ، فمن أدرى نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الحسين مقتول؟ ومن الَّذِيْ أراه تربة مقتله؟ إنه اللَّه العليم.
__________
(1) شرح النووي (16/5).
(2) رواه أبو يعَلَى ح (7110)، و البُخَارِي في التاريخ الكبير ح (379). قَال الهيثُمَّي: "رواه أبو يعَلَى ورجاله رجال الصحيح" مجمع الزوائد (9/401).
(3) رواه أَحْمَد في المسند ح (25985)، والحاكم (3/194)، ووافقه الذهبي عَلَى تصحيحه، و قَال الهيثُمَّي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (9/301)، وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة ح (882).(1/40)
5- تنبؤ النبي بشهادة أم ورقةَ بنتَ عبد اللَّه بن الحارث
والأعجب منه تنبؤ النبي صلى اله عَلَيْهِ وسلم بشهادة امرأة ، وهي أم ورقةَ بنتَ عبد اللَّه بن الحارث، فقد كان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزورها كل جمعة، وكان يسميها الشهيدة فيقول: (انطلقوا نزور الشهيدة).
وذلك أنها قَالت: يا نبي اللَّه، أتأذنُ فأخرجُ معك، أمرّضُ مرضاكم، وأداوي جرحاكم، لعل اللَّه يُهدي لي شهادة؟ قَال: (قَرِّي، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُهدي لك شهادة).
وقد أدركتها الشهادة زمن عمررَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وكانت أعتقت جارية لها وغلاماً عن دُبرُ مِنْهَا (أي يُعتقان بَعْدَ وفاتها) فطال عَلَيْهِ ما، فغمّاها (أي خنقاها) في القطيفة حتى ماتت. (1) فكانت وفاتُها شهادة كما أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فكيف جزم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفاتها غيلة دون سائر الميتات، وهو أمر يندر في النساء؟ إنه دليلٌ آخرُ من دلائل نبوته وآيات رسالته.
6- رحم اللَّه أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده
ويغدو النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك، ويتأخر عن الجيش أبو ذر لبطئ بعيره، فيتركه، ويحمل متاعه عَلَى ظهره، ليلحق بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تبوك.
وبينما المُسْلِمون يتفقدون من تخلَّف عنهم، لاح في الافق سوادُ رجلٍ يمشي، قَالوا: يا رَسُول اللَّه، هذا رجل يمشي عَلَى الطريق، فقَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(كن أبا ذر)، فلما تأمله الصَّحَابَة، قَالوا: يا رَسُول اللَّه، هو واللهِ أبو ذر.فَقال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رحم اللَّه أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده).
__________
(1) رواه أَحْمَد ح (26538)، وأبو داود ح (571)، وحسنه الالباني في صحيح أبي داود ح (552).(1/41)
لقد عرَف النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شخصَ أبي ذر قبل وصوله إِلَيْهِم بما أعلمه اللَّه، كما تنبأ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أبا ذر، كما هو الان يمشي وحده بعيداً عن أصحابه ، فإنه سيموت وحده بعيداً عنهم، ثُمَّ يبعث من ذلك المكان وحده.
وتمضي الايام لتُحقق نبوءةَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتدرك الوفاةُ أبا ذر في الربذة، فلما حضره الْمَوْت أوصى امرأته وغلامَه: إذا مِت فاغسلاني وكفّناني، ثُمَّ احملاني، فضعاني عَلَى قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم، فقولوا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلوا به كذلك ، فاطلع ركب من أهل الكوفة، وفيهم ابن مسعود، فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره (أي من إسراعهم إِلَيْهِ).
فاستهل ابن مسعود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يبكي، ويقول: صدق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يرحم اللَّه أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده)).
فنزل ابن مسعود فولِيَ دفْنه. رَضِيَ اللَّه عَنْهُما. (1)
وفي رواية أن أم ذر بكت لما حضرته الوفاة، فقَال لها: ما يبكيك؟ قَالت: وما لي لا أبكي، وأنت تموت بفلاة من الْأَرْض، ولا يدَ لي بدفنك، وليس عندي ثوب يسعُك، فأكفِنك فيه؟
قَال: فلا تبكي وأبشري، فإني سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنفر من أصحابه وأنا فيهم:(ليموتَن رجل منكم بفلاة من الْأرْض، يشهده عصابة من المؤمنين)، وليس من أولئك النفر أحد الا وقد مات في قرية أو جماعة، وإني أنا الَّذِيْ أموت بفلاة ، والله ما كذَبت ولا كُذِبت. (2)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (3/52)، وحسّن إسناده ابن كثير في البداية والنهاية (5/9).
(2) رواه أَحْمَد ح (20865)، وابن حبان ح (6670)، وحسّنه الالباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (3314).(1/42)
لقد بشرها رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بمقدَم من يعينها عَلَى دفنه، لأن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال متنبئاً عن ذلك الَّذِيْ يموت بفلاة بأنه (يشهده عصابة من المؤمنين).
وجزْمُ أبي ذر أنه ذلك الرجل ، لأن الباقين ممن شهدوا هذا القول قد ماتوا في قرية أو جماعة، ولم يبق الا أبو ذر ، وهو الَّذِيْ حقق ما أخبر عنه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فمن ذا الَّذِيْ أخبر مُحَمَّد اً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموت أبي ذر وحيداً؟ ومن الَّذِيْ أخبره بمقدم جماعة من المؤمنين يتولون تجهيزه ودفنه؟ إنه عالم الغيب والشهادة العليم الخبير.
7 - إخبارُه عن موت النجاشي في أرض الحبشة في يوم وفاته
ومن دلائل نبوته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارُه عن موت النجاشي في أرض الحبشة في يوم وفاته، وهذا خبر تحمله الركبان يومذاك في شهر ، يقول أبو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : (نعى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النجاشي في الْيَوْم الَّذِيْ مات فيه، خرج إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعاً). (1)
قَال المباركفوري: "وفيه عَلمٌ من أعلام النبوة لأنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمهم بموته في الْيَوْم الَّذِيْ مات فيه، مع بُعدِ ما بين أرض الحبشة والمدينة". (2)
8 - تنبؤ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهلاك عمه أبي لهب وزوجِه عَلَى الكفر
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (1254).
(2) تحفة الاحوذي (4/115).(1/43)
ومن أخبار الغيوب الدالة عَلَى نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ إخباره بسوء خاتمة بعض من يظن أنهم يموتون عَلَى الاسلام أو قد يدخلون فيه، فقد تنبأ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهلاك عمه أبي لهب وزوجِه عَلَى الكفر، حين أخبر - فيما نقله عن ربه - ببقائهما عَلَى الكفر وهلاكهما عَلَى ذلك، قَال تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (1)
، فكيف جزم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضلال عمه، وهو أقرب النَّاس إِلَيْهِ، ومَظِنة الميل إِلَيْهِ؟ هل كان ذلك الا بإعلام اللَّه له.
قَال ابن كثير: " قَال العُلَماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح عَلَى النبوة فإنه منذ نزل قوله تعالى: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الايمان، لم يُقيَضْ لهما أن يؤمنا، ولا واحدٌ منهما، لا باطناً ولا ظاهراً، لا مُسِراً ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الادلة الباهرة الباطنة عَلَى النبوة الظاهرة". (2)
إخباره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأخبار الفتن
1-الفتن في المدينة المنورة :
فقد أشرفَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً عَلَى أُطم من آطام المدينة فقَال لأصحابه:(هل ترون ما أرى؟) قَالوا: لا. قَال: (فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر). (3)
__________
(1) المسد: 1-5
(2) تفسير القرآن العظيم (4/366).
(3) رواه البُخَارِي ح (7060)، و مُسْلِم ح (2885).(1/44)
قَال النووي: "والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي: أنها كثيرة، وتعُمُّ النَّاس، لا تختص بها طائفة، وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم، كوقعة الجمل وصِفِّين والحرة، ومقتلِ عُثمان، ومقتلِ الحسين رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ما وغيرِ ذلك، وفيه معجزة ظاهرة له - صلى الله عليه وسلم - ". (1)
ويبين ابن حجر معنى اختصاص المدينة بالفتن، فيقول: "وإنَّمَا اختصت المدينة بذلك لأن قتل عُثمان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كان بها، ثُمَّ انتشرت الفتن في البلاد بَعْدَ ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عُثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنَّمَا تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه ". (2)
2-الفتن في العراق :
وكما أنبأ النبي بوقوع فتنة قتل عُثمان في المدينة المنورة، فإنه أشار إلى ما سيقع من الفتن في العراق أو بسبب أهلها ، فقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يشير إلى المشرق: (الفتنة من ها هنا). (3)
قَال ابن حجر في شرحه: "وأول الفتن كان منبعها من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المُسْلِمينَ ، وذلك مِمَّا يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة". (4)
3-فتنة مقتل عثمان بن عفان :
__________
(1) شرح النووي عَلَى صحيح مُسْلِم (18/7-8).
(2) فتح الباري (13/16).
(3) رواه البُخَارِي ح (5296)، و مُسْلِم ح (2905).
(4) فتح الباري (13/51).(1/45)
وَإِنَّ أول الفتن التي ابتلي بها الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُم خروج المنافقين عَلَى عُثمان بن عفان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، وطلبهم نزعه من الخلافة ثُمَّ قتله رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، وقد أخبر النبي عُثمان ببعض معالم هذه الفتنة فقَال له: (يا عُثمان، إنه لعل اللَّه يقمّصُك قميصاً، فإن أرادوك عَلَى خلعه، فلا تخلعه لهم). (1)
لقد أنبأه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يموت شهيداً، وها هو ينبئه عن خلافته، وأن ثمَّةَ من يريد خلعَه من هذه الخلافة، فطلب منه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم موافقتهم عَلَيْهِ ، وكل ذلك من أخبار الغيب الصادقة الدالة عَلَى نبوته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَال المباركفوري: "يعني إن قصدوا عَزَّ لك عن الخلافة، فلا تعَزل نفسك عنها لأجلهم؛ لكونك عَلَى الحقّ، وكونهم عَلَى الباطل , ولهذا الحَدِيث فإن عُثمان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لم يعَزل نفسَهُ حين حاصرُوهُ يوم الدّار ". (2)
4- فتنة معركتي الجمل وصفين:
ووصف النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدقة معالم هذه الفتن التي تتابعت بَعْدَ مقتله، وكأنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها ، وفي مقدمتها الفتنة الكبرى التي اقتتل فيها الصَّحَابَة في معركتي الجمل وصفين، وذلك بَعْدَ وفاته بثلاثين سنة، فيقول:(لا تقوم السَّاعَة حتى تقتتل فئتان، دعواهما واحدة). (3)
__________
(1) رواه التِّرْمِذيّ ح (3705)، وأَحْمَد في المسند ح (24639)، وصححه الالباني في صحيح التِّرْمِذيّ ح (29233).
(2) تحفة الاحوذي (10/137).
(3) رواه البُخَارِي ح (6936).(1/46)
قَال ابن كثير: "وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وأصحاب صفين، فإنهما جميعاً يدعون إلى الاسلام، وإنَّمَا يتنازعون في شيء من أمور المُلك ومراعاة المصالح العائد نفعها عَلَى الامة والرعايا، وكان ترك القتال أوْلى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصَّحَابَة". (1)
قَال ابن حجر: " قوله:(دعواهما واحدة ) أي دينهما واحد، لأن كلا منهما كان يتسمى بالإسلام, أو المراد أَنَّ كلا منهما كان يدعي أنه المحق". (2)
وكون دعوى الطائفتين واحدة لا يمنع أَنَّ الحق مع إحداهما دون الاخرى ، وقد أوضحه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشهد بأنه مع الطائفة التي تقاتل فرقة مارقة تخرج بين المُسْلِمينَ يومئذ،قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(تمرق مارقة عند فرقة من المُسْلِمينَ ، يقتلها أولى الطائفتين بالحق). (3) فكان ذلك شهادة بالغة بأن الحق مع عليٍّ وأصحابه، لقتالهم لمارقي الخوارج في وقعة النهروان.
قَال القرطبي: "وفي هذا الحَدِيث عَلَم من أعلام النبوة، حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع". (4)
5-فتنة ظهور الخوارج :
وكان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تنبأ بظهور الخوارج، وحدد صفاتهم وسماتهم، لما جاءه ذو الخويصرة متهماً النبيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالظلم في قسمة الغنائم قَال: (إن له أصحاباً، يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... آيَتُهُم رجلٌ أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثلُ البضعة تدردر، ويخرجون عَلَى خير فرقةٍ من النَّاس).
__________
(1) البداية والنهاية (6/214).
(2) فتح الباري (6/ 713).
(3) رواه مُسْلِم ح (1065).
(4) فتح الباري (12/ 314).(1/47)
قَال أبو سعيد الْخُدْرِيِّ : (أشهد أني سمعت هذا الحَدِيث من رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وأشهد أَنَّ علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتُمِس، فأتي به حين نظرت إِلَيْهِ عَلَى نعت النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ نعته). (1)
قَال النووي: "وفي هذا الحَدِيث معجزات ظاهرة لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فإنه أخبر بهذا، وجرى كله كفلق الصبح، ويتضمن بقاء الامة بعده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأَنَّ لهم شوكة وقوة، خلاف ما كان المبطلون يشيعونه، وإنهم يفترقون فرقتين، وأنه يخرج عَلَيْهِ طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد, ويبالغون في الصلاة والقراءة, ولا يقيمون بحقوق الاسلام، بل يمرقون منه, وأنهم يقاتلون أهل الحق, وأَنَّ أهل الحق يقتلونهم، وأَنَّ فيهم رجلاً صفة يده كذا وكذا، فهذه أنواع من المعجزات جرت كلها، ولله الحمد". (2)
6-فتنة مقتل عمار بن ياسر:
و ثمَّة ميزان آخر للفتنة، إنه عمار بن ياسر ، رآه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند بناء مسجده يحمل لبِنَتين لبنتين، فيما كان الصَّحَابَة يحملون لبِنة لبِنة، فجعل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفض التراب عنه، ويقول: (ويح عمار، تقتلُه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)، قَال أبو سعيد: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. (3)
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3610)، و مُسْلِم ح (1064).
(2) شرح صحيح مُسْلِم (7/166-167).
(3) رواه البُخَارِي ح (428)، و مُسْلِم ح (5192) واللفظ للبخاري.(1/48)
قَال النووي في شرحه للحديث: " وفيه معجزة ظاهرة لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أوجه: مِنْهَا أَنَّ عمارًا يموت قتيلاً, وأنه يقتله مُسْلِمون, وأنهم بُغاةٌ, وأَنَّ الصَّحَابَة يقاتِلون, وأنهم يكونون فِرقتين: باغية, وغيرها, وكل هذا قد وقع مثل فلق الصبح, صلى اللَّه وسلم عَلَى رَسُوله الَّذِيْ لا ينطق عن الهوى, إن هو الا وحي يوحى". (1)
و قَال ابن عبد البر: "وتواترت الآثار عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَال: (تقتل عمارَ الفئةُ الباغية)، وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو من أصح الأَحَادِيث". (2)
وقد قتِل عمارُ في جيش عليٍّ سنة سبع وثلاثين للهجرة النبوية، فكان دليلاً آخر عَلَى صحة موقف أبي الحسن علي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، وهو أيضاً دليل عَلَى صحة نبوة نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإلا فمن ذا الَّذِيْ أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يقع بَعْدَ وفاته من تمايز المُسْلِمينَ إلى فئتين، وأَنَّ الباغية منهما تقتل عماراً؟ لا ريب أنه وحي اللَّه الَّذِيْ يعلم السر وأخفى.
7-فتنة خروج صاحبة الجمل :
و مِمَّا أخبر به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخبار الفتن إخباره عن خروج إحدى أزواجه عَلَى جمل، وأنه يقتل حولها كثير من المُسْلِمينَ ، فعن ابن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُا قَال: قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أيتُكنَّ صاحبة الجمل الا دبب (أي كثير وبر الوجه)، يقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت). (3)
__________
(1) شرح النووي عَلَى صحيح مُسْلِم (8/40).
(2) الاستيعاب (2/481).
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف ح (37785)، قَال الهيثُمَّي في مجمع الزوائد: "رواه البزار ورجاله ثقات" (7/ 474).(1/49)
وقد تحققت نبوءته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سارت عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهُا جهة البصرة قبيل وقعة الجمل، فلما بلغت مياه بني عامر نبحت الكلاب، فقَالت: أي ماء هذا؟ قَالوا: ماء الحوأب، قَالت: ما أظنني الا أني راجعة.
فقَال لها الزبير: بل تقدمين، فيراك ال مُسْلِمون، فيصلح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بينهم، قَالت: إن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لي ذات يوم: (كَيْفَ بإحداكن تنبح عَلَيْهِ ا كلاب الحوأب). (1) فتحقق ما أخبرها به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وفاته بخمس وعشرين سنة، ليكون إنباؤه دليل صدقه وبرهان نبوته.
وإذا كانت الفتنة قد عصفت رياحها بالكثيرين، فإن ثمَّة من لا تضره الفتنة ولا يشترك فيها، إنه مُحَمَّد بن مُسْلِمة، يقول حذيفة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ما أحد من النَّاس تدركه الفتنة الا أنا أخافها عَلَيْهِ ؛ الا مُحَمَّد بن مُسْلِمة، فإني سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا تضرك الفتنة). (2)
ولما أطلَّت الفتنة برأسها حقق مُحَمَّد بن مُسْلِمة نبوءة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فاعتزلها، وكسر سيفه، واتخذ سيفاً من خشب. (3)
8-منقبة الحسن في التنازل عن الملك لمعاوية :
__________
(1) رواه أَحْمَد ح (23733)، والحاكم (3/129)، وصححه، ووافقه الذهبي، و قَال ابن كثير في البداية والنهاية: "هذا إسناد عَلَى شرط الصحيحين ولم يخرجوه" (6/212).
(2) رواه أبو داود ح (4663)، وصححه الالباني في مشكاة المصابيح ح (6233).
(3) انظر العبر، الذهبي (1/9).(1/50)
وكما أخبر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفتن التي تفرق المُسْلِمينَ؛ فإنه أنبأ عن التئام شمل المُسْلِمينَ عَلَى يد الحسن بن علي رَضِيَ اللَّه عَنْهُم،يقول أبو بكرة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:بينا النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب؛ جاء الحسن، فقَال عَلَيْهِ الصلاة والسلام: (ابني هذا سيد, ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المُسْلِمينَ ). (1)
وقد كان كما أخبر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقد تنازل الحسن لمعاوية عن الملك عام أربعينَ من الهجرة، فسُمِّيَ عامَ الجماعة لاجتماع المُسْلِمينَ فيه عَلَى خليفة واحد بَعْدَ طول فرقة واختلاف.
قَال ابن حجر: "وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي؛ فإنه ترك المُلك، لا لقلة، ولا لذلة، ولا لعلة, بل لرغبته فيما عند اللَّه، لما رآه من حقن دماء المُسْلِمينَ ، فراعى أمر الدين ومصلحة الامة ". (2)
وفي ذلك كله شهادات تترى عَلَى نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِيْ خصه اللَّه بهذه الاخبار من غيبه، فتحققت، لأنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أرانا الهدى بَعْدَ العمى فقلوبنا به موقنات أَنَّ ما قَال واقع
إخباره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتوح أمته للبلدان
1-فتح اليمن ثُمَّ الشام ثُمَّ العراق
__________
(1) رواه البُخَارِي ح ( 7109).
(2) فتح الباري (13/71).(1/51)
و مِمَّا بشّر به صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فتحقق بعده كما أخبر، بشارتُه بفتوح اليمن والشام والعراق واستيطان المُسْلِمينَ بهذه البلاد، حيث قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( تُفتَح اليمن فيأتي قوم يُبِسُّون (1) فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لَوْ كانوا يعلمون، وتُفتح الشام فيأتي قومٌ يُبِسُّون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لَوْكانوا يعلمون، وتُفتح العراق فيأتي قومٌ يُبِسُّون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لَوْكانوا يعلمون). (2)
قَال النووي: " قَال العُلَماء: في هذا الحَدِيث معجزاتٌ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أخبر بفتح هذه الا قَاليم، وأَنَّ النَّاس يتحملون بأهليهم إِلَيْهِا ويتركون المدينة، وأَنَّ هذه الا قَاليم تفتح عَلَى هذا الترتيب (اليمن ثُمَّ الشام ثُمَّ العراق)، ووجِد جميعُ ذلك كذلك بحمد اللَّه وفضله". (3)
ويؤكد الامام ابن حجر تحقق هذه النبوءات النبوية، فينقل عن ابن عبد البر وغيره قولهم: "افتتحت اليمن في أيام النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي أيام أبي بكر, وافتتحت الشام بعدها, والعراق بعدها، وفي هذا الحَدِيث عَلم من أعلام النبوة, فقد وقع عَلَى وفق ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلَى ترتيبه, ووقع تفرق النَّاس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء, ولو صبروا عَلَى الاقامة بالمدينة لكان خيرًا لهم". (4)
2-فتح فارس
وأَمَّا فتح فارس، فقد بشر به رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ف قَال: (لتفتحن عصابة من المُسْلِمينَ كنز آل كسرى الَّذِيْ في الابيض). (5)
__________
(1) أي يزينون إليهم السكنى في تلك البلاد ويدْعونهم ليرحلوا إليها.
(2) رواه مُسْلِم ح (1875).
(3) شرح النووي عَلَى صحيح مُسْلِم (9/159).
(4) فتح الباري (4/110).
(5) رواه مُسْلِم ح (2919).(1/52)
وتحقق الوعد زمنَ خلافة عمر بن الخطاب، ففتحه الصَّحَابَة فكان أول من رأى القصرالابيض ضرار بن الخطاب، فجعل الصَّحَابَة يكبرون ويقولون: هذا ما وعدنا اللَّه ورسوله . (1)
3-فتح مصر
وكذا أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتح مصر؛ ودعا إلى الاحسان إلى أهلها إكراماً لهاجر أم إسماعيل، فقد كانت من أرض مصر، كما أخبر بدخول أهلها في الا سلام واشتراكهم مع إخوانهم في التمكين له، قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنكم ستفتحون مصر.. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذِمة ورحِماً))، في رواية لابن حبان: (( فاستوصوا بهم خيرًا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن اللَّه).
والتفت النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي ذر فقَال:(فإذا رأيتَ رجلين يختصمان فيها في موضع لَبِنة فاخرج مِنْهَا).
وتحقق ذلك زمنَ خلفائه الراشدين، فكان أبو ذر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ممن فتح مصر وسكنها، يقول رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : فرأيت عبدَ الرحمنِ بنَ شرحبيلَ بنِ حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لَبِنة، فخرجت مِنْهَا. (2)
قَال النووي: "وفيه معجزة ظاهرة لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهَا إخباره بأن الامةَ تكون لهم قوة وشوكة بعده، بحيث يقهرون العجم والجبابرة، ومِنْهَا أنهم يفتحون مِصر، ومِنْهَا تنازع الرجلين في موضع اللَبِنة، ووقع كلُ ذلك ولله الحمد". (3)
__________
(1) انظر البداية والنهاية (7/64).
(2) رواه مُسْلِم ح (2543)، ورواية ابن حبان رواها في صحيحه ، الموارد ح (2315).
(3) شرح صحيح مُسْلِم (16/97).(1/53)
وأخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الفتوح التي تقع عَلَى أيدي أصحابه ومن بعدهم، تستمر إلى ثلاثة أجيال بعده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن تتوقف، ففي الصحيحين من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:(يأتي عَلَى النَّاس زمانٌ يغزو فِئام من النَّاس، في قَال لهم: فيكم من رأى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم.
ثُمَّ يغزو فئام من النَّاس فيقَال لهم: فيكم من رأى من صحب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم.
ثُمَّ يغزو فئام من النَّاس فيقَال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: نعم. فيفتح لهم). (1)
قَال النووي: "وفي هذا الحَدِيث معجزاتٌ لرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفضلُ الصَّحَابَة والتابعين وتابعيهم". (2)
4-فتح قُسْطَنْطِينِيَّة
ولا تتوقف نبوءات النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند فتوح العراق والشام ومصر زمن أصحابه ، بل يمتد إخبارُه ليحدث عن فتح بلاد بعيدة المنال، عصية القلاع، قُسْطَنْطِينِيَّةعاصمة دولة الروم، يقول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(لتُفتحن قُسْطَنْطِينِيَّة فلنِعمَ الاميرُ أميرُها، ولنعم الجيشُ ذلك الجيش)،قَال عبد اللَّه بن بشر الخثعمي راوي الحَدِيث: فدعاني مُسْلِمة بن عبد الملك، فسألني فحدثته، فغزا القُسطَنطينيَّة. (3)
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3649)، و مُسْلِم ح (2532) واللفظ له.
(2) شرح صحيح مُسْلِم (16/83).
(3) رواه أَحْمَد ح (18478)، وحسّن إسناده ابن عبد البر في الاستيعاب (1/250)، ورواه الحاكم في المستدرك (4/468)، و قَال: هذا حَدِيث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.(1/54)
لقد جزم مُسْلِمة بتحقق هذه النبوءة، فأراد أن يحوز شرفها، فغزا القُسطَنطينيَّة، لكن اللَّه اختبأها لفتى بني عثمان مُحَمَّد الفاتح رحمه اللَّه، فكان فتحُه لها دليلاً آخر عَلَى نبوة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إخباره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفك ضيق المسلمين
من العجيب المدهش الَّذِيْ يلوي الأعناق من أخبار الفتوح أَنَّ بعض هذه الاخبار كانت في وقت ضيق المُسْلِمينَ ، وعَلَى خلاف ما توحي به الاحداث، بل عَلَى عكسه ونقيضه ، لقد كان النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتنبأ - وهو في ضنك البلاء وأُوار المحنة - بما لا يمكن لأحد أن يحلُم به ولو في رؤياه.
1-بشارته لخباب بن الارَتّ اثناء العذاب :
ومنه أنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عَلَى أصحابه وهم يعذبون بالنار والحديد في بطحاء مكة، وفيهم خباب بن الأرَتّ، الَّذِيْ تقدم إِلَيْهِ شاكياً فقَال: الا تستنصر لنا؟ الا تدعو اللَّه لنا؟ فقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الْأَرْض، فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع عَلَى رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه".
ثُمَّ بشره النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببشارة عظيمة مذهلة فقَال:(والله ليَتِمَّنَّ هذا الامر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف الا اللَّه أو الذئب عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون). (1)
إنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتنبأ بتمام أمر دينه، وبأمن أصحابه في زمنٍ ما كانوا يجرؤون فيه عَلَى إعلان دينهم خوفاً من بطش قريش وعذابها.
2-بشارته للمسلمين الخائفين في المدينة
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3612).(1/55)
أ-وفي المدينة المنورة ألقى الخوف بظلاله عَلَى المُسْلِمينَ ، ولنسمع إلى أُبي بن كعب وهو يصف حالهم: لما قدم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه المدينة، وآواهم الانصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون الا في السلاح، ولا يصبحون الا فيه.
فقَالوا: ترون أنَّا نعيشُ حتى نبيتَ مطمئنين لا نخاف الا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؟ فنزل قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) (1) وكان كذلك، فقد أمَّنهم اللَّه من بعد خوفهم، وسوَّدهم الْأَرْض، واستخلفهم فيها من بعد ذلتهم، ومكَّن لهم دينهم في مشارق الْأَرْض ومغاربها.
قَال القرطبي: " وقد فَعلَ اللَّه ذلك بمحمدٍ وأمتِه، ملّكَهُم الْأَرْض، واستخلفهم فيها، وأذل لهم ملوكاً تحت سيف القهر بَعْدَ أن كانوا أهل عَزَّ وكبر، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم (وَعْدَ اللَّه لَا يُخْلِفُ اللَّه الْمِيعَادَ ) ". (2)
ب-وفي موقف آخر من المواقف الصعبة التي عانى مِنْهَا الصَّحَابَة أتى عدي بن حاتم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبينما هو عنده؛ أتاه رجل فشكا إِلَيْهِ الفاقة، ثُمَّ أتاه آخر فشكا إِلَيْهِ قطع السبيل.
فالتفت النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عَدي، و قَال: ((فلعلك إنَّمَا يمنعك عن الا سلام أنك ترى من حولي خصاصة، أنك ترى النَّاس علينا إلْباً)).
ثُمَّ ألقى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوءة مفاجئة أذهلت عَدياً، فقد قَال له: ((يا عدي، هل رأيت الحيرة؟)) فأجابه: لم أرها، وقد أُنبئت عنها.
__________
(1) النور: 55
(2) الاعلام بما في دين النصارى (1/338).والآية : الزمر: 20(1/56)
فقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (أي المرأة)ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً الا اللَّه).
يقول عدي، وهو يتشكك من وقوع هذا الخبر: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّار (لصوص)طيءٍ الَّذِينَ سعروا البلاد؟
وقبل أن يفيق عدي من ذهوله وحديثه مع نفسه أسمعه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوءة أعظمَ وأبعد، فقَال: (ولئن طالت بك حياة لتُفتحنَّ كنوزُ كسرى).
ولم يصدق عديٌ مسمعه، فسأل النبيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستوثقاً: كسرى بنِ هُرمز؟
فأجابه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان الواثق من ربه - رغم ضعف حاله وفاقة أصحابه -:(كسرى بنِ هرمز، ولئن طالت بك حياة لتريَنَّ الرجل يُخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبلُه).
ثلاث نبوءات لا يمكن لغير مؤمنٍ أن يُصدق بوقوعها في ذلك الزمان وفي مثلِ تلك الظروف، لكنها دلائل النبوة وأخبار الوحي الَّذِيْ لا يكذب.
يقول عدي: فرأيتُ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوفَ بالكعبة لا تخاف الا اللَّه، وكنتُ فيمن افتتح كنوز كسرى بنِ هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قَال النبي أبو القاسم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عن الرجل) يخرج ملء كفه. (1)
وصدق عدي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ، فقد تحققت الثالثة زمن الخليفةِ الراشدِ عمرَ بنِ عبد ال عَزَّ يز.
__________
(1) رواه البُخَارِي ح (3595)، فيما عدا قوله: ((فلعلك إنما يمنعك عن الا سلام أنك ترى من حولي خصاصة، أنك ترى النَّاس علينا إلباً))، فإنها من رواية الحاكم (4/564).(1/57)
ومثله قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا تقوم السَّاعَة حتى يسير الراكب بين العراق ومكة؛ لا يخاف الا ضلال الطريق). (1) إنها من أخبار الغيب الدالة بتحققها عَلَى نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
3-بشارته يوم الاحزاب في المدينة :
ولما أتت جموع الاحزاب إلى المدينة، يرومون استئصال المُسْلِمينَ ؛ أمر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفر الخندق حول المدينة، وبينما هم يحفرون عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، و قَال: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (2) فندر ثُلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برْقة.
ثُمَّ ضرب الثانية والثالثة .. فكان مثله.
فتقدم إِلَيْهِ سلمان فقَال: يا رَسُول اللَّه رأيتُك حين ضربتَ، ما تضرب ضربة الا كانت معها برقة! فقَال له رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((يا سلمان رأيتَ ذلك؟)) فقَال: إي و الَّذِيْ بعثك بالحق يا رَسُول اللَّه.
قَال: ((فإني حين ضربت الضربة الا ولى رُفعت لي مدائنُ كسرى وما حولها ومدائنٌ كثيرة حتى رأيتُها بعينيّ)).
فقَال له من حضره من أصحابه: يا رَسُول اللَّه، ادع اللَّه أن يفتحها علينا .. فدعا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
(( ثُمَّ ضربتُ الضربة الثانية، فرُفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعينيّ)). قَالوا: يا رَسُول اللَّه ادع اللَّه أن يفتحها علينا .. فدعا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
__________
(1) رواه أَحْمَد ح (8615)، قَال الهيثُمَّي: "رجاله رجال الصحيح" مجمع الزوائد (7/ 639).
(2) الانعام: 115(1/58)
(( ثُمَّ ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني)).
وقبل أن يطلب الصَّحَابَة منه الدعاء لهم بفتحها؛ بادرهم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقول: ((دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم)). (1)
أما الحبشة فإنهم يهدمون الكعبة في آخر الزمان ، فقد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((يخرب الكعبة ذوالسُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة)). (2)
وأَمَّا الترك فمنهم التتار الَّذِينَ استباحوا بغداد، وقتلوا فيها ما يربو عَلَى مليونين من المُسْلِمينَ عام 658هـ.
قَال ابن كثير: "وفي هذه السنة (643هـ) كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم اللَّه، فكسرهم المُسْلِمون كسرة عظيمة، وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم، ولم يتبعوهم خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((اتركوا الترك ما تركوكم))". (3)
وعلل بعض أهل العلم الامر بترك قتالهم بأنه "لأن بلاد الحبشة وغيرهم، بين المُسْلِمينَ وبينهم مهامِهُ وقِفار، فلم يكلِّف المُسْلِمينَ دخول ديارهم لكثرة التعب وعظمة المشقة، وأَمَّا الترك فبأسهم شديد، وبلادهم باردة، والعرب وهم جند الا سلام كانوا من البلاد الحارة، فلم يكلفهم دخول البلاد، فلهذين السِّرين خصصهم". (4)
ولما انقضت غزوةالاحزاب، ولت جموعهم الادبار، وقبل أن ينقشع غبارُ إدبارهم أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنبوءة ما كان له أن يطلع عَلَيْهِ لَوْلا إخبار اللَّه له، فقَال: ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إِلَيْهِم)). (5)
__________
(1) رواه النَّسَائيّ ح (3176)، وأبو داود ح (4302)، وحسنه الالباني في صحيح النَّسَائيّ ح (2976).
(2) رواه البُخَارِي ح (1591)، و مُسْلِم ح (2909).
(3) البداية والنهاية (13/168).
(4) عون المعبود (11/276).
(5) رواه البُخَارِي ح (4110).(1/59)
وهكذا كان، إذ كانت غزوة الاحزاب آخر غَزاة غزتها قريش في حربها مع النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد غزاهم ال مُسْلِمون بعدها، وفتحوا مكة بعون اللَّه وقدرته، فمن الَّذِيْ أعلم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الالوف التي دهمت المدينة لن تعود إِلَيْهِا بَعْدَ هذه الكَرَّة الخاسرة؟ إنه اللَّه رب العالمين.
قَال ابن حجر عن قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا)): "وفيه علمٌ من أعلام النبوة، فإنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر في السنة المقبلة، فصدّتهُ قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فكان ذلك سببَ فتح مكة، فوقع الا مر كما قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". (1)
إخباره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأخبار آخر الزمان وعلامات الساعة
ومن الأخبار المتعلقة باقتراب الساعة ما يحدثنا عنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: ((من أشراط الساعة أن يقِلَّ العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقِلَّ الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)). (2) وزاد في رواية في الصحيحين: ((ويُشربَ الخمر، ويَظهرَ الزنا)). (3) وفي رواية أخرى: ((وتكثُرَ الزلازل، ويتقاربَ الزمان، وتَظهرَ الفتن، ويكثُرَ الهرْج، وهو القتل)). (4) وفي رواية: ((يتقاربُ الزمان، ويَنقصُ العمل، ويُلقى الشح)). (5) فهذه ثمان علامات تكون بين يدي الساعة.
__________
(1) فتح الباري (7/468).
(2) رواه البخاري ح (79)، ومسلم ح (4825).
(3) رواه البخاري ح (80)، ومسلم ح (2671).
(4) رواه البخاري ح (1036).
(5) رواه البخاري ح (6037)، ومسلم ح (157).(1/60)
أولا: ظهور الجهل وقلة العلم الشرعي بين الناس: وذلك لقبض العلماء وظهور الرؤوس الجهال الذين يفتون بغير علم، فيَضلون ويُضلون، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يُقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَترُك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)). (1)
ثانيا : شيوع شرب الخمر بين المسلمين: وقد أنبأ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الذين سيشربونها؛ يسمونها بغير اسمها، وأنهم يستحلونها، ولا يرون أنها الخمر التي حرمها الله، قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها))، وزارد في رواية الدارمي: ((فيستحلونها)). (2)
وبيانُه فيما أخرجه البخاري عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)). (3)
قال القرطبي: " في هذا الحديث عَلم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع؛ فوقعت، خصوصاً في هذه الأزمان". (4)
ثالثا: انتشارُ الزنا وشيوعُه بين الناس: وهذه الشناعة استقبحتها الأمم طوال تاريخ الإنسانية، وأصبحت الآن تعرض في وسائل التقنية الحديثة، وعمدت بعض الدول إلى تقنينها، وأجازتها قوانينها وتشريعاتها، بل جعلها بعضهم ضرباً من ضروب التجارة والكسب.
__________
(1) رواه البخاري ح (100)، ومسلم ح (2673).
(2) رواه النسائي ح (5658)، وأبو داود ح (3688)، وأحمد ح (17607)، والدارمي ح (2100)، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (9584).
(3) ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم في باب: "ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه".
(4) نقله عنه ابن حجر في الفتح (1/179).(1/61)
رابعا : كثرة الهرج الذي هو القتل: وقد أبانه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ((والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتِل)). (1)
ونجد مصداق هذه النبوءة النبوية في كثرة الحروب والفتن التي يقتل فيها الأبرياء، فلا يدري القاتل من يقتُل، ولا لماذا يقتُل، ومثلُه المقتول. أجارنا الله من الفتن.
خامسا : كثرة النساء وقلة الرجال : قال النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وتكثرَ النساء ويقلَ الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد))، فإن الرجال هم وقود الحروب والفتن دون غيرهم.
قال ابن حجر: "قيل سببه أن الفتن تكثر، فيكثر القتل في الرجال؛ لأنهم أهل الحرب دون النساء ... والظاهر أنها علامة محضة لا لسبب آخر، بل يُقدِّر الله في آخر الزمان أن يقِلَ من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث ". (2)
سادسا : تقارب الزمان، فقد قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبضَ العلم، وتكثُرَ الزلازل، ويتقاربَ الزمان..)). (3) وقال: ((يتقاربُ الزمان، ويَنقصُ العمل، ويُلقى الشح)). (4)
قال التوربشتيُ: "يُحمل ذلك على قلة بركة الزمان، وذهابِ فائدته في كل مكان، أو على أن الناس لكثرة اهتمامهم بما دهمهم من النوازل والشدائد وشُغْلِ قلبهم بالفتن العظام؛ لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم". (5)
وقال الخطابي: "معناه قِصَر زمان الأعمار وقلة البركة فيها .. وقيل: قِصر مدة هذه الأيام والليالي؛ على ما روي أن الزمان يتقارب حتى يكون السنة كالشهر، والشهرُ كالجمعة، والجمعةُ كاليوم، واليومُ كالساعة، والساعةُ كاحتراق السَعَفَة". (6)
__________
(1) رواه مسلم ح (2908).
(2) فتح الباري (1/215).
(3) رواه البخاري ح (1036).
(4) رواه البخاري ح (6037)، ومسلم ح (157).
(5) تحفة الأحوذي (6/514).
(6) عون المعبود (11/223).(1/62)
وهكذا فقد حمل العلماء الحديث على ثلاثة معانٍ: قصرُ الأعمار أو ذَهابُ بركتها أو تقاربُ الزمان حقيقة.
سابعا : كثرةُ الزلازل ونقارب أوقاتها، وهو أمر يعجب المرء لكثرته في هذه الأيام، وهو في ازدياد مستمر، حتى لا يكاد يمضي الشهر إلا وتهتز الأرض هنا أو هناك.
ثامنا : كثرة الشح بين الناس لقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ويُلقى الشح)).
قال ابن حجر: " فالمراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم، حتى يبخل العالم بعلمه، فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير، وليس المراد وجود أصل الشح؛ لأنه لم يزل موجوداً". (1)
تاسعا :عود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، فالبشارة النبوية تضمنت خبرين: أولُهما: أن أرضَ العرب - أي جزيرة العرب - كانت مروجاً وأنهاراً، أي كانت خضراءَ كثيرةَ المياه، والثاني: أنها ستعود كذلك قبل قيام الساعة.
ومن المعلوم أن جزيرة العرب تنعدم الأنهار فيها اليوم، وتقل المساحات الخضراء في ربوعها، بينما يخبر الحديث أنها كانت وسترجع إلى غير هذه الحال.
وحين تحدث القرآن عن قوم نبي الله هود، قومِ عاد الذين عاشوا في جنوب جزيرة العرب وقريباً من صحراء الربع الخالي، قال ممتناً عليهم: { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون } (2) فذكر أن بلادهم المقفرةَ اليومَ كانت مروجاً وبساتين كثيرة المياه.
وليست بلادُ عاد الوحيدةَ من المدائن القديمة التي دفنتها ذرات رمال الصحراء، التي أغرقت بكثبانها الكثير من المدن التي كانت عامرة في غابر الأيام، كمدينة الفاو ومدينة أوبار المكتشفَتين حديثاً في جنوب جزيرة العرب، ومثل هذه المدن لا تُشاد في صحراءَ جرداء، بل في واحة خضراءَ كثيرةِ المياه.
__________
(1) فتح الباري (13/20).
(2) الشعراء: 132-134(1/63)
وهذا الخبر نجد مصداقه أيضاً عند علماء الجولوجيا والآثار، حيث يؤكدون أن جزيرة العرب كانت قبل عشرين ألف سنة رقعة خضراء كثيرة المياه والأنهار، وفيها الكثير من أنواع الحيوانات التي تتواجد عادة في المراعي والغابات، كما شهد بذلك ما بقي من آثارهم.
كما أكد صدقَ هذا الخبر النبوي الدكتور هال ماكلور في أطروحته للدكتوراه والتي كانت عن الربع الخالي، فذكر أن البحيراتِ كانت تغطي هذه المنطقة الصحراوية خلال العصور المطيرة التي انقضت قبل ثمانية عشرَ ألفَ سنة. (1)
ووافقه العالم الجيولوجي الألماني الشهير البروفسور الفريد كرونر في مؤتمر علمي أقيم في جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية.
وأضاف بأن عود جزيرة العرب إلى تلك الحال مسألة معروفة عند العلماء، وأنها حقيقة من الحقائق العلمية، التي يوشك أن تكون، وقال: هذه حقيقة لا مفر منها.
ولما أُخبِر بقول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)) تعجب، وقال: "إن هذا لا يمكن أن يكون إلا بوحي من أعلى" أي من عند الله.
10- فتنة المال : ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام)). (2)
وقال ابن التين: " أخبر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا تحذيراً من فتنة المال، وهو من بعض دلائل نبوته لإخباره بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذم من جهة التسوية بين الأمرين، وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموماً من حيث هو". (3)
__________
(1) مجلة الإعجاز العلمي، العدد السادس (ص 33).
(2) رواه البخاري ح (2059).
(3) فتح الباري (4/347).(1/64)
وابتلي المسلمون اليوم بانتشار الربا ودخول معاملاته في شتى صور الحياة الاقتصادية، حتى إنه يصيب بقتامه حتى أولئك الذين ينأون عنه، ليصدق فينا قول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يأتي على الناس زمان يأكلون الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره)). (1)
11- ان يسلم الرجل للمعرفة : فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إن من أشراط الساعة أن يسلّم الرجل على الرجل، لا يُسلم عليه إلا للمعرفة)). (2)
وفي رواية أخرى أنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفُشُوَّ التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم)). (3)
12-ظهور القلم: أي تعلم الناس الكتابة، وهو أمر لم يتحقق إلا في هذا القرن، حيث تراجعت نِسب الأمية بين شعوب العالم، وهي في طريقها إلى الزوال، وبخاصة مع تيسر سبل التعليم وتقدم وسائط الاتصالات.
13-أن يتباهى الناس في المساجد : قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)). (4) قال أنس: (يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً).ولما تيقن ابن عباس بتحقق هذا الخبر النبوي قال: (لتزخرفُنها كما زخرفت اليهود والنصارى). (5)
__________
(1) رواه النسائي ح (4379)، وأبو داود ح (2893) ، وابن ماجه ح (2278).
(2) رواه أحمد ح (3838)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
(3) رواه أحمد ح (3860)، والبخاري في الأدب المفرد ح (1049)، وصححه الحاكم (4/110)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (647).
(4) رواه النسائي ح (689)، و أبو داود ح (449)، وابن ماجه ح (739)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (432).
(5) الخبران ذكرهما البخاري معلقين في باب "بنيان المساجد".(1/65)
14- تطاول الناس في البنيان: قال هذا في وقت ما عرف الناس فيه شاهق البنيان، ففي صحيح مسلم أن جبريل سأل النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمارات الساعة، فقال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أن تلد الأَمَة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالةَ رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان)). (1)
قال النووي : "معناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان". (2)
15-استغناء الناس عن ركوب الدواب: التي استبدلوها بما أنتجته التقنية الحديثة من السيارات والطائرات وغيرها من وسائل الانتقال، وهو أمر حديث أشار إليه القرآن بقوله: { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون } (3) فإذا ما خلق الله هذه الوسائل الجديدة تحققت نبوءة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((ولتُتركن القِلاص فلا يُسعى عليها)). (4)
وذكر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر بعض صفات المركوبات التي سيستحدثها الناس وبعض ما سيرافقها من المنكرات فقال: ((سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السروج كأشباه الرجال، ينزلون على أبواب المسجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهم كأسنمة البخت العجاف )). (5)
__________
(1) رواه مسلم ح (8).
(2) شرح صحيح مسلم (1/159).
(3) النحل: 8
(4) رواه مسلم ح (255).
(5) رواه أحمد ح (7043).(1/66)
16- ضياع الأمانة بين الناس، وهو ما تنبأ به النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ يقول أبو هريرة فمضى رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثه قال: ((أين أراه السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله.فقال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فإذا ضيِّعت الأمانة فانتظر الساعة))، قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). (1)
قال ابن بطال في معناه: "أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها". (2)
فمن ضياع الأمانة في آخر الزمان أن تسند المسؤوليات لا إلى أربابها من أصحاب الكفاءات، بل إلى ما يملكه المرء من معارف وأموال يسترضي بها الآخرين.
وما تزال الأمانة تقل بين الناس حتى يأتي عليهم زمان تنقلب فيه الموازين، وترفع فيه الأمانة (( فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)). (3)
قتال المُسْلِمينَ للترك التتار (4)
__________
(1) رواه البخاري ح (6496).
(2) فتح الباري (11/342).
(3) رواه البخاري ح (7086).
(4) ـ ذكر العُلَماء في أصل الترك أقوالاً كثيرة مِنْهَا :
1 = أنهم من بني قنطوراء أُمَّة كانت لابراهيم عليه السلام ، ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك والصين
2 = أنهم من نسل يافث بن نوح الَّذِيْ من نسله يأجوج ومأجوج ، فهم بنو عمهم .
3 ... = أنهم من نسل تبع .
4= أنهم من ولد أفريدون بن سام بن نوح .
وبلادهم يقال لها تركستان ، وهي مابين مشارق خراسان إلى مغارب الصين وشمال الهند إلى أقصى المعمور) النهاية : 4 / 113 ، معجم البلدان : 2 / 23 ، الفتح : 6 / 122، أشراط الساعة : 93((1/67)
انَّ لفظ الترك لفظ كبير تقع تحت مسماه أعراق متعددة فلا يقتصر لفظ الترك عَلَى السكان القاطنين في حدود الدولة التركية الحالية بل يقع تحت مسمى الترك الْيَوْم أغلب جمهوريات روسيا و مناطق من إيران و تركيا .
وصف الترك في الأحاديث النبوية .
1-عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( لاتقوم السَّاعَة حتى يُقاتِلَ المُسْلِمونَ التركَ قوماً وجوهُهُم كالمَجَانِّ المُطْرَقَةِ يلبسونَ الشعرَ ويمشونَ في الشَّعْرِ )) (1) .
2-وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( لاتقوم السَّاعَة حتى تقاتلوا الترك صغارَ الأعين حُمرَ الوجوه ، ذُلْفَ الأُنوفِ ، كأنَّ وجوهَهُمُ المَجَّانُّ المُطْرَقَةُ . ولا تقوم السَّاعَة حتى تقاتلوا قوماً نعالهُم الشَّعَرُ )) (2) .
والمراد بالمَجَان: جمع مِجَن وهو الترس ، والميم زائدة لأنه من الجُنَّة وهي السترة (3) .وقد ضبط النووي رحمه الله ( المَجَّان ) بفتح الميم وتشديد النون جمع مِجن بكسر الميم (4) .
وأَمَّا المُطْرقَة : فبإسكان الطاء وتخفيف الراء ، هذا هو الفصيح المشهور . وهي التي ألبست العقب وأطرمت به طاقة فوق طاقة .ومعناه : تشبيه وجوه الترك في عرضها وتنور وجناتها بالترس ، قد أُلبست الأطرقة .
__________
(1) ـ رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط الساعة ( 18 / 37 بشرح النووي ) .
(2) ـ رواه البُخَارِي في الجهاد والسير باب قتال الترك : ( 6 / 122 رقم 2928 مع الفتح ) .
(3) ـ النهاية في غريب الحَدِيث : 4 / 301 .
(4) ـ شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 36 .(1/68)
وأَمَّا ذُلْفُ الأُنوف : فهو بالذال المعجمة والمهملة ، والصواب : المعجمة ، وهو بضم الذال وإسكان اللام جمع أُذْلُف ، ومعناه : فطس الأنوف ، قصارها مع انبطاح ، وقيل هو غِلَظٌ في أرنبة الأنف ، وقيل تطامن فيها ، وكله متقارب (1) .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الترك بأنهم ( يلبسون الشعر ويمشون في الشعر ) ومعناه : ينتعلون الشعر كما صرح به في الرواية الأخرى وهي : (( نعالهم الشعر )) (2) .
قال النووي رحمه الله: ( وقد وُجدوا في زماننا هكذا ، وفي الرواية الأخرى : (حُمر الوجوه ) أي : بيض الوجوه مشوبة بحمرة ، وفي هذه الرواية : (( صغار الأعين )) وهذه كلها معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد وُجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها صلى الله عليه وسلم : ( صغار الأعين ، حمر الوجوه ، ذُلْف الأُنف ، عراض الوجوه ، كأن وجوههم المَجَّان المُطْرَقَة ، ينتعلون الشعر ) فوجدوا بهذه الصفات كلها في زماننا ، وقاتلهم المُسْلِمونَ مرات ، وقتالهم الآن . ونسأل الله الكريم إحسان العاقبة للمسلمين .... ) (3) .
__________
(1) ـ النهاية في غريب الحَدِيث : 2/ 165 ، 3/ 122 ، وشرح النووي عَلَى مُسْلِم: 18/ 37.
(2) ـ شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 37 .
(3) ـ المصدر السابق .(1/69)
وقد قاتل المُسْلِمونَ أولئك الترك منذ عهد الصَّحَابَة رضي الله عنهم ، وكان ذلك في أول خلافة بني أمية في عهد معاوية رضي الله عنه. وقد كان مشهوراً في زمن الصَّحَابَة رضي الله عنهم حَدِيث : (( اتركوا الترك ماتركوكم )) (1) . ومن وجه آخر من حَدِيث معاوية بن حُدَيْج (2) قال : كنت عند معاوية بن أبي سفيان حين جاءه كتاب عامله يُخْبِرُه أنه وقع بالترك وهزمهم ، وكثْرة من قُتل منهم ، وكثْرة من غُنم ، فغضب معاوية من ذلك ، ثُمَّ أمر أن يكتب إليه قد فهمتُ ماذكرتَ مِمَّا قتلْتَ وغنمتَ فلا أعْلَمَنَّ ماعُدتَ لشيء من ذلك . ولا قاتلتهم حتى يأتيك أمري .
__________
(1) ـ رواه الطبراني في الكبير ( 882 و 883 ) من حَدِيث معاوية كما قال الحافظ في الفتح : 6 / 705 وسكت عليه مستشهداً به ، وحسَّنه الزرقاني في مختصر المقاصد الحسنة ص ( 49 ) ، والألباني في الصحيحة رقم 772 ، وقوّاه العجلوني في كشف الخفاء : ( 1 / 38 ) .
(2) ـ معاوية بن حُديج بن جفنة بن قنبر ، أبو نعيم الكندي ثم السكوني : الأمير الصحابي . قائد الكتائب ـ كما نعته الذهبي ـ والي مصر ، كان ممن شهد حرب ( صفين ) في جيش معاوية بن أبي سفيان ، ولي إمرة مصر ، وتوفي بها سنة اثنتين وخمسين ، وكان أعور ، عاقلاً حازماً واسع العلم ، مقداماً وهو ابن ( كبشة بنت معدي كرب ) الشاعرة . [ يُنظر : طبقات ابن سعد : 7 / 503 ، السير : 3 / 37 الإصابة : 3 / 411 ، تهذيب التهذيب : 10 / 203 ، الأعلام : 7 / 260 ] .(1/70)
قلتُ له : لِمَ ياأمير المؤمنين ؟ فقال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لتَظْهرَنَّ التركُ عَلَى العربِ حتى تُلحقها بمنابتِ الشِّيحِ والقيصوم )) فأكره قتالهم لذلك (1) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو يصف تاريخ الترك : ( وقاتل المُسْلِمونَ الترك في خلافة بني أمية ، وكان مابينهم وبين المُسْلِمينَ مسدوداً إلى أن فُتح ذلك شيئاً بَعْدَ شيء ، وكثر السبي منهم ، وتنافس الملوك فيهم لما فيهم من الشدة والبأس ، حتى كان أكثر عسكر الإسلام المعتصم منهم ، ثُمَّ غلب الأتراك عَلَى الملك فقتلوا ابنه المتوكل ، ثُمَّ أولاده واحداً بعد واحد ، إلى أن خالط المملكة الديلم ، ثُمَّ كان الملوك السامانية من الترك أيضاً ، فملكوا بلاد العجم ، ثُمَّ غلب عَلَى تلك الممالك آل سبكتكين ، ثُمَّ آل سلجوق ، وامتدت مملكتهم إلى العراق و الشَّام والروم ، ثُمَّ كان بقايا أتباعهم بالشام وهم آل زنكي وأتباع هؤلاء ، وهم بيت ايوب ، واستكثر هؤلاء أيضاً من الترك ، فغلبوهم عَلَى المملكة بالديار المصرية والشامية والحجازية .
__________
(1) ـ أَخرَجَه أبو يعَلَى في مسنده : ( 13 / 366 ـ 367 رقم 7376 ) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد : 1/ 312 و 5 / 304 وَقَالَ : ( رواه أبو يعَلَى وفيه جماعة لم أعرفهم ) وأورده الحافظ في المطالب العالية 4 / 337 برقم 4545 ، والفتح 6 / 705 وعزاه إلى أبي يعَلَى مستشهداً به وسكت عليه(1/71)
وخرج عَلَى آل سلجوق في المائة الخامسة ( الغز ) فخربوا البلاد ، وفتكوا في العباد ، ثُمَّ جاءت الطامة الكبرى بالططر (1) فكان خروج جنكيزخان بَعْدَ الستمائة فأُسعرت بهم الدنيا ناراً خصوصاً المشرق بأسره حتى لم يبق بلد منه ، حتى دخله شرهم ، ثُمَّ كان خراب بغداد وقَتْلُ الخليفة المستعصم آخر خلفائهم عَلَى أيديهم في سنة ست وخمسين وستمائة ، ثُمَّ لم تزل بقاياهم يخربون إلى أن كان آخرهم ( اللنك ) ومعناه : الأعرج ، واسمه ( تَمُر ) ـ بفتح المثناة وضم الميم وربما أشبعت ـ ، فطرق الديار الشامية وعاث فيها ، وحرّق دمشق حتى صارت خاوية عَلَى عروشها ، ودخل الروم والهند ومابين ذلك ، وطالت مدته إلى أن أخذه الله ، وتفرق بنوه البلاد ، وظهر بجميع ماأوردته مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (( إن بني قنطوراء أول من سلب أمتي ملكهم )) ...... وكأنه يريد بقوله : (( أمتي )) أُمَّة النسب لا أُمَّة الدعوة يعني العرب ، والله أعلم ) (2) . انتهى كلام ابن حجر .
وعَلَى هذا يَكُوْن التتار الَّذِينَ ظهروا في القرن السابع الهجري هم من الترك ، فإن الصفات التي جاءت في وصف الترك تنطبق عَلَى التتار ( المغول ) ، وقد كان ظهورهم في زمن الإمام النووي رحمه الله (3)
__________
(1) ـ الططر : أي التتار . ( أشراط الساعة 97 ) .
(2) ـ الفتح : 6 / 705 .
(3) ـ وُلد النووي عام 631 هـ ، وتوفي في 676 هـ كما في تذكرة الحفاظ 4/ 1472 ـ 1473 ، وهذه الفترة هي التي ظهر فيها التتار وقضوا عَلَى الخلافة العباسية . ( أشراط الساعة : 97) .(1/72)
وقد بوّب القرطبي رحمه الله باباً في سياقة الترك للمسلمين ، وسياقة المُسْلِمينَ لهم ، وذكر فيه حَدِيث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه ، صغار الأعين ، كأن وجوههم الحجف (1) ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب ، أما السابقة الأولى فينجو من هرب منهم ، وأَمَّا الثانية فيهلك بعض وينجو بعض وأَمَّا الثالثة فيصطلمون (2) كلهم من بقي منهم )) قالوا : يانبي الله ! من هم ؟ قال : (( هم الترك )) قال : (( أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المُسْلِمينَ )) .
قال : وكان بريدة لايفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية بَعْدَ ذلك للهرب مِمَّا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك ) (3) .
والحوادث تدل عَلَى وقوع ذلك عَلَى نحو ماورد في هذه الرواية (4) .
__________
(1) ـ الحجف : الترس . النهاية في غريب الحَدِيث : 1 / 345 ) .
(2) ـ يصطلمون : الاصطلام : افتعال من الصلم وهو القطع أي يحصدون . ( النهاية في غريب الحَدِيث : 3 / 49 ، عون المعبود : 11 / 413 ) .
(3) ـ أَخرَجَه أَحْمَد : 5 / 348 ـ 349 ، وَقَالَ أبو الخطاب عمر بن دحية : وهذا سند صحيح ( التذكرة للقرطبي : 2 / 272 ) ، وَقَالَ الهيثمي في مجمع الزوائد : 7 / 311 : رجاله رجال الصحيح .
(4) ـ عون المعبود : 11 / 414 .(1/73)
وأفاد القرطبي رحمه الله ( أن الحَدِيث يدل عَلَى خروجهم وقتالهم للمسلمين وقتلهم ، وقد وقع ذلك عَلَى نحو ماأخبر صلى الله عليه وسلم فخرج منهم في هذا الوقت أنهم لايحميهم إلاّ الله (1) ولا يردهم عن المُسْلِمينَ إلا الله حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم ) (2) .
ثُمَّ نقل رحمه الله عن أبي الخطاب عمر بن دحية رحمه الله ماخلاصته :
أنه في سنة سبع عشرة وستمائة خرج جيش من الترك يقال له ( الططر ) (3) عَلَى المُسْلِمينَ ثلاث مرات ، وكان خروجهم الأخير تدميرهم بغداد ، وقتلهم للخليفة والعُلَماء والأمراء ، والفضلاء والعباد ، وأنهم أوغلوا في البلاد حتى ملكوا الشَّام مدة يسيرة ، ودخل رعبهم الديار المصرية إلى أن تصدى لهم الملك المظفر الملقب ( بقُطْز ) في معركة ( عين جالوت ) فكان له النصر والظفر عَلَيْهِمْ كما كان النصر لطالوت ، وتفرقت جموعهم وكفى الله المُسْلِمينَ شرورهم ومروقهم (4) .
غزو التتار للعالم الاسلامي :
__________
(1) ـ هكذا في التذكرة ( 2 / 273 ) بلفظ : (( أنهم لايحميهم إلا الله )) وأما في عون المعبود ( 11 / 415 ) فقد نقل عن التذكرة نفسها لفظة أخرى وهي : (( أمم لايحصيهم )) وهي أقرب للسياق
(2) ـ التذكرة : ( 2 / 273 ) .
(3) ـ الططر : الَّذِيْ يظهر والله أعلم أن بعض العلماء يقول ( التتار ) بالمثناة ، وبعضهم بالطاء ( الططار ) ، وبعضهم بلا ألف فيقول ( الططر ) وكلها متقاربة .
(4) ـ التذكرة : ( 2 / 273 ) ، عون المعبود : ( 11 / 415 ) .(1/74)
بدأ التتار يغزون العالم الإسلامي من الشرق وأخذوا يتقدمون ويزحفون إليه شبراً فشبراً، حتى شارفوا بغداد ، وفي ذلك الوقت كان الخليفة هو المستعصم بالله ، وكان وزيره من أولئك الروافض وهو المشهور بابن العلقمي ، وكان أيضاً من كبار المقربين إليه أوالَّذِيْ ن يسمون علماء الدولة، الَّذِيْ يسمى الخواجة نصير الدين ، وهو نصير الكفر الطوسي ، كما يقول ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ، فاتفق ابن العلقمي وابن أبي الحديد وأمثالهم وذهبوا إلى هولاكو الوثني الزنديق، الَّذِيْ لا يؤمن بأي دين ويعبد النار لأنه مجوسي واتفقوا معه عَلَى أن يدخل بغداد بالقوة، وزينوا له ذلك وهو يتردد ثم يتردد، حتى تم الصلح بينه وبين الخليفة وكأن الأمر قد عاد إلى وضع طبيعي لا حرب معه ولا شيء.
وإذا بأولئك المجرمين يخططون لمؤامرة كان منها أنهم فتحوا الأنهار والسدود عَلَى جيوش الخليفة المستعصم ، فأغرقوهم بَعْدَ أن سرّحوا أكبر قدر منهم، وذهبوا في الليلة نفسها إلى هولاكو ، فقالوا له: إن ذلك الرجل قد ضعف، وإن ملكه قد ذهب، وإن جنوده قد غرقوا، وهذه من كراماتك فادخل إلى بغداد وأعمل فيها بالسيف، وكان أولئك -أعداء الله- يظنون أنه سيقظي عَلَى ملك أهل السنة ، ثم يولِّيهم هم فيصبحوا هم الحكام.
وتردد هولاكو وقال: بلغنا أن من أراق قطرة من دم أحد من آل محمد فإن ملكه يتمزق وينتثر، فقالوا: نحن نأتيك بالفتوى؛ تقتل الخليفة دون أن تراق قطرة واحدة من دمه، قالوا: نلفه في الخيش ونضربه بالهراوات حتى يموت، فوافقهم هولاكو ، ودخل إلى بغداد فجأة، وقبض عَلَى بني العباس.(1/75)
حتى ذكر المؤرخون -كما في البداية والنهاية وغيره- أنه أخذ من بيت الخلافة ألف عذراء، أخذها أولئك الأنجاس المشركون الوثنيون، واغتصبوهن!! وكثير منهن من آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من بني العباس، وقتلوا الخليفة عَلَى الصفة وعَلَى الفتوى التي أفتاهم بها أولئك الروافض.
ثم انتهكوا حرمة بغداد وحصلت مذبحة عظيمة جدا،ً حتى أن أقل الأرقام التي قيلت في الذين قتلوا أنهم ثمانمائة ألف!! لأن بعضهم قالوا : أنهم مليونان (ألفي ألف).
ودخل الناس كما يقول المؤرخون ومنهم ابن الأثير وابن كثير ، وحتى دخل الناس في الكنف في (المجاري تحت الْأرْض)، ليهربوا من سيف التتار فكان الوباء العظيم، حتى بَعْدَ أن انتهت المجزرة خرج أولئك فمنهم من مات، ومنهم من بقي عَلَى الحياة ثم خرج فكان من نتن الجيف الوباء الَّذِيْ قضى عَلَى البقية، فكانت مذبحة عَلَى مذبحة ومصيبة عَلَى مصيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد أيضاً، فإنّ أولئك القوم أذلوا ابن العلقمي وأهانوه ولم يقدروا أنه فعل هذا الفعل، بل اعتبروه خائناً، وبَعْدَ بضعة أشهر فطس وذهب إلى حيث يستحق من عند الله عز وجل وكذلك فُعِل بنصير الكفر الطوسي وأمثالهم.
وكان بَعْدَ ذلك المرحلة الأخرى التي أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبتلي فيها الأمة الإسلامية بهؤلاء التتار، ثم انهزم التتار، ثم ظهر الحق جلياً وساطعاً، حيث إنه في تلك الفترة كان قد ولد شَيْخ الإِسْلامِ المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- فأظهر الله تعالى به الدين، وكان أكبر الملوك -ومنهم الناصر قلاوون وأمثاله- ممن وقفوا معه في كثير من الأمور، وهو الَّذِيْ حرك العلماء وحرك الأمة، فحاربت التتار وهزمتهم وكذلك حاربت الصليبيين، ثم تحقق بَعْدَ ذلك بعث جديد للإسلام بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
دخول الترك في دين الاسلام :(1/76)
هذا وقد دخل جم غفير من الترك في دين الإسلام ، وحصل عَلَى أيديهم الخير الوفير للأمة الإسلامية ، وقامت عَلَى عواتقهم دولة إسلامية عظمى ، انطلقت مِنْهَا فتوحات إسلامية ، كفتح القُسطَنطينيَّة عاصمة الروم ، وكان هذا الفتح تهيئة وتمهيداً للفتح الأعظم في آخر الزمان قبل خروج الدجال ، ثُمَّ دخل الإسلام وانتشر إلى أوربا والشرق والغرب ، وما ذاك إلا تصديقاً لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أن ذكر قتال الترك (( وتجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر (1) حتى يقع فيه (2) ، والناس معادنُ ، خيارهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام .... )) (3) .
فتنة اقتتال المُسْلِمينَ مع العجم
__________
(1) ـ لهذا الأمر : أي تولي الإمارة والحكم . ( صحيح البُخَارِي 3 / 1315 بتحقيق د . مصطفى أديب البُغا ) .
(2) ـ يقع فيه : يُحمل عليه رغماً عنه برغبة من الأمة . ( المرجع السابق ) .
(3) ـ أَخرَجَه البُخَارِي في المناقب باب علامات النبوة ( 6 / 699 رقم 3588 مع الفتح ) .(1/77)
العجم : خلاف العرب ، مفرد عجمي ، كعربي جمعه عرب (1) .وقد ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر أوصاف بعضهم في غيرما حَدِيث ، مِنْهَا : حَدِيث أبي هُرَيْرَة : (( لاتقوم السَّاعَة حتى تقاتلوا خُْوزاً (2) وكَرْمان (3) من الأعاجم ، حمرَ الوجوه ، فُطْسَ الأنوف ، صغار الأعين ، كأن وجوههم المَجَّان المُطْرقة ، نعالهم الشعر )) (4) .وخُوز وكَرمان : من العجم كما نطق به الحَدِيث وهنا إشكال : وهو أن هؤلاء ليسوا من الترك ، وقد وردت صفاتهم في هذا الحَدِيث بنفس الصفات التي وردت في الترك
ورُدَّ : بأنه لاإشكال فيه ، ويمكن أن يجاب بأن هذا الحَدِيث الوارد في صفات العجم غير حَدِيث قتال الترك ، ولا مانع من اشتراك الصنفين في الصفات المذكورة مع اختلاف الجنس ، ويجتمع منهما الإنذار بخروج الطائفتين .
__________
(1) ـ لسان العرب : 12 / 385 ـ 386 .
(2) ـ خُوز : ـ بضم أوله وتسكين ثانيه وآخره زاي ـ ، بلاد خوزستان ، يقال لها الخُوز ، وهي من بلاد الأهواز من عراق العجم . وقيل : الخوز صنف من الأعاجم . ( ينظر : معجم البلدان 2 / 404 ، وفتح الباري 6 / 703 ).
(3) ـ كَرْمان : ـ بالفتح ثم السكون وآخره نون ، وربما كسرت الكاف والفتح أشهر ـ ، وهي بلاد واسعة مشهورة ذات قرى ومدن ، يحدها من الغرب بلاد فارس ، ومن الشمال خراسان ، وجنوبها بحر فارس . قال ياقوت : وأهلها أهل سُنّة وجماعة وخير وصلاح ، وذلك بَعْدَ فتح ال مُسْلِمين لها . (معجم البلدان 4 / 454 ، وينظر أيضاً فتح الباري 6 / 703 ) .
(4) ـ أَخرَجَه البُخَارِي في المناقب باب علامات النبوة .... ( 6 / 699 رقم 3590 مع الفتح )(1/78)
وَقَالَ الطيبي (1) : ( لعل المراد بهما صنفين من الترك ، فإن أحد أصول أحدهما من خُوز ، وأحد أصول الآخر من كَرمان ) (2) .
وقد ذهب الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى أن حَدِيث قتال العجم هذا غير حَدِيث قتال الترك ، وأنهما طائفتان أُنذر بخروجهما (3) .
و مِمَّا يعضد قول ابن حجر هذا حَدِيث : (( يوشك أن يملأ الله عز وجل أيديكم من العجم ثُمَّ يكونون أُسْداً لايفرون فيقتلون مقاتلكم ويأكلون فيئكم )) (4) .
وفي رواية لأبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يوشك أن يكثر فيكم من العجم أُسْد لايفرون ، فيقتلون مقاتلكم ويأكلون فيئكم )) (5) .
__________
(1) ـ الطيبي : هو شرف الدين الحسن بن مُحَمَّد بن عبد الله الطيبي من علماء الحَدِيث والتفسير والبيان ، وله عدة مصنفات ، مِنْهَا : ( شرح مشكاة المصابيح ) و ( شرح الكشاف ) وغيرها .قال عنه الحافظ ابن حجر: ( كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن ، مقبلاً عَلَى نشر العلم ، متواضعاً ، حسن المعتقد ) ا هـ . توفي سنة 743 هـ .( يُنظر : شذرات الذهب : 6 / 137 ـ 138 ، كشف الظنون : 1 / 720 ، الأعلام : 2 / 256 ) .
(2) ـ الفتح : 6 / 703 ، عمدة القاري : 13 / 195 .
(3) ـ الفتح : 6 / 703 .
(4) ـ رواه أَحْمَد : 5 / 11 ورجاله رجال الصحيح ( مجمع الزوائد : 7 / 310 ) ورواه الحاكم بنحوه وَقَالَ : صحيح الإسناد ولم يقرّه الذهبي .
(5) ـ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ( مجمع الزوائد : 7 / 311 ) .(1/79)
وعَلَى هذا : فقتال العجم من أشراط السَّاعَة الصغرى (1) . والأوصاف التي تقدم ذكرها في الترك والعجم من صغر الأعين .... الخ قد جاء بعضها في بني قنطوراء (2) الَّذِينَ تناسل منهم الترك .
ففي الحَدِيث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( .... فإذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء ، عراض الوجوه ، صغار الأعين .... ) (3) . والله أعلم
الفتح الأول للْقُسْطَنْطِينِيَّةُ
عن أَبي قَبِيلٍ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسُئِلَ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ ، قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ص نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:« مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا» ، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ» (4)
موقع مدينة الْقُسْطَنْطِينِيَّة:
__________
(1) ـ أشراط الساعة : 99 .
(2) ـ قال الخطابي : بنو قنطوراء هم الترك ، يقال : إن قنطوراء اسم جارية كانت لابراهيم ـ صلوات الله عليه ـ ، ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك . ( سنن أبي داود 4 / 488 ومعه معالم السنن للخطابي )
(3) ـ أَخرَجَه أبو داود في الملاحم باب في ذكر البصرة 4 / 488 رقم 4306 وسكت عنه ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 3 / 812 رقم 3618 .
(4) صحيح رواه الإمام أَحْمَد(1/80)
وقُسْطَنْطِينِيَّة مدينة من مدن تركيا ، تعرف الآن ب ِ ( اسطنبول ) وكانت تعرف قديماً باسم (بيزنطة )التي كانت العاصمة لدولة من أعظم الدول التي سادت قروناً طويلة ، وهي الا مبراطورية البيزنطية ، لها خليج من جهة البحر يطيف بها من وجهين مِمَّا يلي الشرق والشمال ، وجانباها الغربي والجنوبي في البر وقد سماها قسطنطين الاكبر « قَسطَنطينية» .
أهمية موقع مدينة الْقُسْطَنْطِينِيَّة:
وتكمن أهمية المدينة في كونها نقطة اتصال آسيا بأوروبا عن مضيق البوسفور الَّذِيْ يصل البحرالابيض المتوسط بالبحرالاسود وبواسطة بحر مرمرة وقد قَال عنها نابليون :«لَوْكانت الدُّنْيَا مملكة واحدة لكانت قُسْطَنْطِينِيَّةاصلح المدن لتكون عاصمة لها .
وبالإضافة إلى أهميتها الجغرافية لها الاهمية السياسية فمنذ انقسام الامبراطورية الرومانية إلى غربية وشرقية آخر القرن الرابع الميلادي أصبحت العاصمة الاوروبية الثانية بَعْدَ روما والمنافسة لها في الزعامة إذ أنه مع انقسام الامبراطورية انقسمت الكنيسة النصرانية إلى غربية وشرقية ،مركز أولاهما روما، والثانية قُسْطَنْطِينِيَّة. ولذلك كانت قُسْطَنْطِينِيَّة إحدى أهم المراكز التي تنطلق مِنْهَا الغزوات والحروب ضد المُسْلِمينَ خاصة إبّان الحروب الصليبية .
محاولات فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة :
منذ أن انطلق المُسْلِمونَ في فتوحاتهم كانت قُسْطَنْطِينِيَّة هدفاً من الاهداف التي وضعوها نصب أعينهم ، وقد كانت أولى المحاولات في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان عام 51 هجري حيث بعث ابنه يزيد في جيش فيه أبو أيوب الانصاري رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الا أن المحاولة باءت بالفشل ثُمَّ حاصرها مُسْلِمة بن عبد الملك ، ولم تفتح أيضاً ، ولكنه صالح أهلها عَلَى بناء مسجد بها .(1/81)
قال الشيخ الألباني :وقد تحقق الفتح الأول عَلَى يد مُحَمَّد الفاتح العثماني كما هو معروف ، وذلك بَعْدَ ثمانمائة سنة من إخبار النبي ص بالفتح ، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد ، ولتعلمن نبأه بَعْدَ حين.
وبهذا الفتح المبين تحقق وعد من وعود الاسلام ، ولكن كَيْفَ فتحت هذه المدينة ؟
كَيْفَ فُتحت مدينة الْقُسْطَنْطِينِيَّة :
لقد فتح المدينة السلطان العثماني مُحَمَّد الفاتح البالغ من العمر الثالثة والعشرون ، فكان فتحه من دلائل نبوة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصلاة والسلام .
فقد روى الامام أَحْمَد والحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَال : ( لتفتحن قُسْطَنْطِينِيَّة، فلنعم الامير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش » (1) وذكر الامام الحافظ نعيم بن حماد في الفتن رواية ابن وهب عن ابن لهيعة عن ابي قبيل قَال : ( الَّذِيْ يفتح قُسْطَنْطِينِيَّةاسمه اسم نبي) .
لقد بدأ مُحَمَّد الفاتح بحصار قُسْطَنْطِينِيَّة، فبنى قلعة عَلَى شاطئها لا تبعد أكثرمن سبعة كيلومترات من أبوابها،ونصب المجانيق والمدافع عن شاطئها ، من ابرزها المدفع العملاق الَّذِيْ يزن 700 طن ووزن قذيفته يصل إلى 12ألف طن ويجره مائة ثور ، يساعدهم مائة رجل شديد ، مسافة قذيفته تصل إلى الميل الواحد وتغوص في الْأرْض عند نزولها ستة أقدام.كما رصد المئات من السفن البحرية .
وكانت قُسْطَنْطِينِيَّة محاطة بثلاثة أسوار،الخارجيُّ ارتفاعه 25 قدماً والداخلي ارتفاعه 40 قدماً بينهما فراغ قدره بين 50 و60 قدماً يتقدمهما سور ثالث لا أهمية له .
__________
(1) صحيح رواه الإمام أَحْمَد(1/82)
وبدأ القتال بإطلاق المدفع العملاق باتجاه السور ، أُتبع بمحاولات اقتحام باءت بالفشل بسبب السلسلة الحديدة التي تسد مدخل الخليج المحاذي للمدينة مِمَّا جعل الفاتح يهتدي إلى نقل السفن إلى الخليج عن طريق البر عبر مسافة ثلاثة أميال فأوعَز بتعبيد الْأَرْض وفرشها بالألوح الخشبية ودهنها بالزيت والشحم ، وزلجت السفن عَلَيْهِا بتغطية من المدفعية ، فذهل أهل قُسْطَنْطِينِيَّة برؤية السفن الحربية الاسلامية في مينائهم فجرت معارك بحرية كان يتخللها حفر الجند للأنفاق تحت الاسوار ليصلوا الى داخل المدينة . اضافة الى بناء قلعة خشبية ضخمة جاوز ارتفاعها السور مكسوة بالجلود السميكة المبللة بالماء لمقاومة النيران ، اضافة إلى تصميم مدفع جديد يرمي إلى الاعلَى ثُمَّ تسقط قذيفته في المدينة ، أشبه بما يَكُوْن بمدفع ( الهاون).
وبَعْدَ واحد وخمسين يوماً من الحصار وفي ليلة العشرين من جمادي الاول لسنة 857 هجري بدأ الهجوم بَعْدَ أن أمر الفاتح جنوده بالصيام والإكثار من الصلاة والقيام والدعاء ودخل المُسْلِمون كالسيل العروم وصيحاتهم تدوي اللَّه أكبر ، لاإله الا اللَّه ، مُحَمَّد رَسُول اللَّه ،وقُتل الامبراطور ، وفر المدافعون من الروم ورفعت الرايات الاسلامية وسار الفاتح إلى الكنيسة الكبيرة « أيا صوفيا » فدخلها وأعطى الامان للرهبان ،ورجال الدين ، ولكل النَّصَارَى ، ورفع الاذان فوق الكنيسة التي تحولت إلى مسجد « أيا صوفيا » الشهير ودخل النَّاس في دين اللَّه تعالى أفواجا ، وأصبح اسم المدينة « اسلام بول » أي مدينة الاسلام حيث أصبحت عاصمة للدولة العثمانية التي أصبحت بدورها خلافة المُسْلِمينَ في الْأرْض و مِمَّا يميز هذا الفتح الاول للقُسطَنطينيَّة أنه فتح بقتال عَلَى خلاف ما سيكون من الفتح الثاني لها في مقتبل الزمان فانه سيكون بدون قتال .(1/83)
قَال الشيخ أَحْمَد شاكر : « وأَمَّا فتح الترك الَّذِيْ كان قبل عصرنا هذا ، فإنه كان تمهيداً للفتح الاعظم ، فهي قد خرجت بَعْدَ ذلك من أيدي المُسْلِمينَ ، منذ اعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية ، وعاهدت الكفار أعداء الاسلام ، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافر ، وسيعود الفتح الاسلامي لها إن شاء كما بشر به رَسُول اللَّه .
و مِمَّا قَاله الامام التِّرْمِذيّ :قَال ابن غيلان شيخ التِّرْمِذيّ : « وقُسْطَنْطِينِيَّة هي مدينة الروم تفتح عند خروج الدجال ، وقُسْطَنْطِينِيَّة قد فتحت في زمان بعض أصحاب النبي بمعنى أن قُسْطَنْطِينِيَّة قد فتحت في زمن النبي عَلَيْهِ السلام وأَمَّا ما يفتح في زمن الدجال فهي مدينة روما .
والصحيح أن قُسْطَنْطِينِيَّةلم تفتح في عصر الصَّحَابَة ، لا في خلافة معاوية ولا في عهد مُسْلِمة بن عبد الملك وهذا مِمَّا لم يدركه التِّرْمِذيّ فاعتقد أنه الفتح الاول لذلك اشار للفتح الثاني عند خروج الدجال ،و الَّذِيْ عنى به مدينة الروم .
قَال ابن كثير: هكذا قَال أنها فتحت زمن الصَّحَابَة وفي هذا نظر فإن معاوية بعث إِلَيْهِا ابنه يزيد في جيش فيهم ابو أيوب الانصاري ولكن لم يتفق أن فتحها ، وحاصرها مُسْلِمة بن عبد الملك بن مروان في زمان دولتهم ولم تفتح ايضاً ولكن صالحهم عَلَى بناء مسجد بها .
العراق مركز الفتنة والفساد
إن المستقرئ في السنة النبوية يُبصر ويجد فيها أن أكثر وأهم الأماكن التي حُدّدت بظهور الفتن وتغلغلها فيها هي بلاد المشرق ـ العراق ـ . وأكبر شاهد لذلك التاريخ الإسلامي ، فإن المتأمل والمتمعن فيه ، يلحظ جهاراً أن أكثر الفتن التي ألمّت بالمُسْلِمينَ كان منبعها وخروجها من المشرق هي العراق ،ولقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الفتنة في العراق ، ووردت في ذلك جملة من الأَحَادِيث :(1/84)
1-عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الفتنة تجيءُ من ههنا ) وأومأ بيده نحو المشرق . (1) و عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِيَدِهِ يَؤُمُّ الْعِرَاقَ : ( هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا ، هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ) (2) .
وقد ذكر الخطابي أن بادية العراق ونواحيها هي مشرق أهل المدينة (3) . وذكر نحوه الحافظ ابن حجر رحمه الله (4) . بل قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأن العراق هي منبع الفتن كما في رواية ابن عمر الثانية. ( ومن نظر خريطة العرب بنظر الإمعان يظهر له أن الْأَرْض الواقعة في شرق المدينة إنَّمَا هي أرض العراق فقط ، موضع الكوفة والبصرة وبغداد ، والراسخون في العلم يعلمون هذا من إلقاء النظرة في الخريطة ) (5) ولاشك من أن العراق مبدأ الفتنة والفساد ، ومركز الكفر والإلحاد ، ومصدر الابتداع والزيغ والعناد ، كما نوّه ابن حجر وأفاد (6)
__________
(1) رواه مُسْلِم في الفتن ( 18 / 32 بشرح النووي ) ، 4/ 2229 بتحقيق مُحَمَّد عبد الباقي .
(2) أَخرَجَه أَحْمَد ( 9 / 105 بتحقيق أَحْمَد شاكر ) ، وإسناده صحيح كما قال محققه ، وقد أَخرَجَه مُسْلِم في الفتن ( 18 / 31 بشرح النووي ) دون قول ابن عمر ( يشير بيده يَؤُمُّ العراق ) .
(3) أعلام الحَدِيث في شرح صحيح البُخَارِي : 4 / 2330 ، ونقله عنه الحافظ في الفتح : 13 / 51 .
(4) الفتح : 13 / 16 .
(5) أكمل البيان : 72. بتصرف .
(6) الفتح : 13 / 51 .(1/85)
2 -وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا . قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا . قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : ( هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ وَ بِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ) (1)
ففي هذا الحَدِيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للشام واليمن بالبركة ،و أبى الدعاء بالبركة لأهل نجد و قد اتفقت كلمة شراح الحَدِيث وأئمة اللغة ومهرة جغرافية العرب أن النجد ليس اسماً لبلد خاص ولا لبلدة بعينها ، بل يقال لكل قطعة من الْأَرْض مرتفعة عما حواليها نجد .فقال ابن منظور في لسان العرب (والنجد في لغة العرب بفتح أوله ، وسكون ثانيه قِفَاف الْأَرْض وصِلابها وما غَلُظَ مِنْهَا وأشرفَ وارتفع واستوى) (2)
وَقَالَ الخطابي : (ومن كان بالمدينة كان نجدُه بادية العراق ونواحيها ، وهي مشرق أهلها .) (3) وذكر نحوه الكرماني : (ومن كان بالمدينة الطيبة صلى الله عَلَى ساكنها ، كان نجده بادية العراق ونواحيها ، وهي مشرق أهلها ) (4) وبنحو ماتقدم ذكر شرَّاح الحَدِيث كابن حجر والقسطلاني والعيني والمباركفوري وغيرهم .
__________
(1) أَخرَجَه البُخَارِي في الفتن ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( الفتنة من قبل المشرق ) ( 13/ 49 الفتح ) ، والتِّرْمِذيّ في المناقب ، باب في فضل الشام واليمن : 5 / 733 رقم 3953 ، و أَحْمَد : 2 / 118 .
(2) لسان العرب : 3/ 413 ، معجم البلدان : 5/ 261 .
(3) أعلام الحَدِيث : 4 / 2330 .
(4) صحيح البُخَارِي بشرح الكرماني : 24 / 168 .(1/86)
3-عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُ : ( أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ) (1) وفي لفظ لمسلم عَنْ سَالِمِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنْ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ... ) (2)
4- و عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِ عَائِشَةَ فَقَالَ : ( رَأْسُ الْكُفْرِ مِنْ هَا هُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) يَعْنِي الْمَشْرِقَ (3) وقد ذكر الخطابي ـ رحمه الله ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بقرني الشيطان فيما لايحمد من الأمور (4)
والحاصل : أن المشرق اختص بمزيد من تسلط الشيطان عليه ، وأنه رأس الكفر ومنبع الفساد ، وبؤر الإلحاد والعناد ، فجهته ممقوتة غير محمودة ، فلذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم به المثل بقرني الشيطان ،كما يفهم من كلام الخطابي المتقدم .
وقد تسلط الشيطان وأعوانه عَلَى تلك الديار أيَّما تسلط ، ومن تسلطه عليه نتج الفساد العريض ، والفتن العاصفة المهلكة ، عبر الأزمان الغابرة والمعاصرة
__________
(1) رواه مُسْلِم
(2) رواه مُسْلِم
(3) رواه مُسْلِم
(4) الفتح : 6 / 406 .(1/87)
5- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( الإِيمَانُ يَمَانٍ و َالْكُفْرُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ .. يَأْتِي الْمَسِيحُ إِذَا جَاءَ دُبُرَ أُحُدٍ صَرَفَتْ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ وَ هُنَالِكَ يَهْلَكُ ) (1)
والفتن التي وقعت في بلاد العراق كثيرة مِنْهَا :
1-قتل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كقتل الخليفة الراشد ذي النورين وأبي السبطين عثمان بن عفان رضي الله عنه عَلَى يد طائفة من دعاة الشر الَّذِينَ تألّبوا عليه من العراق ، فدخلوا المدينة وقتلوه وهو في داره رضي الله عنه (2)
2- اقتتال فئتين من المُسْلِمينَ :
__________
(1) رواه التِّرْمِذيّ
(2) فصّل في ذلك الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية 7 / 170 ـ 191 ، فليُنظر هناك .(1/88)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ ) (1) . وبسبب قتل عثمان رضي الله عنه نشأ القتال في موقعة الجمل وصفين ، وهما في المشرق من العراق و المراد بالفئتين من كان مع علي بن ابي طالب و معاوية بن أبي سفيان لما تحاربا بصفين (2) و هاتان الفئتان ممن يدعون إلى الإسلام و إنَّمَا يتنازعون في شيء من أمور الملك و مراعاة المصالح العائد نفعها عَلَى الأمة و الرعايا وكان ترك القتال أولى من فعله كما هو مذهب جمهور الصَّحَابَة (3) وللنووي كلام نفيس في الباب حيث قَالَ : ( واعلم أن الدماء التي جرت بين الصَّحَابَة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد. ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم ، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ، ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله . وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه لاجتهاد ، والمجتهد إذا أخطأ لاإثم عليه ، وكان علي ـ رضي الله عنه ـ هو المحق المصيب في تلك الحروب . هذا مذهب أهل السنة ، وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصَّحَابَة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب ، ثم تأخروا عن مساعدته منهم . ) (4)
3-ظهور الفرق في العراق :
__________
(1) أَخرَجَه البُخَارِي في الفتن باب ( بدون ) 13 / 88 رقم 7121 مع الفتح ، و مُسْلِم في الفتن وأشراط الساعة ( 18 / 13 بشرح النووي ) واللفظ له .
(2) فتح الباري
(3) البداية والنهاية
(4) شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 11 .(1/89)
عَنْ يُسَيْرِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْخَوَارِجِ شَيْئًا قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَ أَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ ( يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ ) (1) فظهور الفتن الاعتقادية التي عصفت بالأمة الإسلامية ومزقت كيانها ووحدتها ، قد تولدت وتفجرت من الكوفة والبصرة وماحولهما ، ومن أشر ماظهر من الفرق الضالة هناك : فرقة الحرورية المارقة من الخوارج ، وكذلك الروافض ، والباطنية ، والقدرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، وغيرها من الفرق الزائفة المشهورة التي مرقت عن سبيل المؤمنين (2) وفي عام 278 هـ انبعثت مِنْهَا حركة القرامطة .
4- قتل أهل العراق للحسين :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَ سَأَلَهُ عَنْ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ فَقَالَ : أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ الذُّبَابِ وَ قَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ! وَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا ) (3) فقتل الحسين بن علي كان في العراق بَعْدَ أن تخلوا عنه وخذلوه (4)
5-شهادة الزور و السحر و الداء الْعُضَالُ في العراق :
__________
(1) متفق عليه
(2) الْيَوْم الآخر : 1 / 176 ، الفتن في الآثار والسنن : 98 ، أشراط الساعة : 74 ، العواصم من الفتن : 18 .
(3) رواه البُخَارِي
(4) العواصم من الفتن : 18 .(1/90)
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَقَدْ جِئْتُكَ لأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلا ذَنَبٌ فَقَالَ عُمَرُ مَا هُوَ قَالَ شَهَادَاتُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا .. (1) . و عَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الأَحْبَارِ لا تَخْرُجْ إِلَيْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ السِّحْرِ وَبِهَا فَسَقَةُ الْجِنِّ وَبِهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ (2)
6- ظهور غزو التتار للمسلمين :
وذلك في القرن السابع الهجري كان من المشرق ـ العراق ـ بقيادة هولاكو الَّذِيْ دمّر وأباد مدينة بغداد ، وقتل وشرّد الكثيرين من أهل الإسلام وعلمائه ، وقضى عَلَى الخلافة الإسلامية آنذاك ، ومكّن لأهل الكفر والزندقة والإلحاد من الاستيلاء عَلَى البلاد ، مِمَّا هو مدون في كتب التاريخ وسبق ذكره في قتال المسلمين للتتار. (3)
7-الحروب المعاصرة :
وإلى الْيَوْم لايزال الشرق ملجأً وعشاً تبيض وتتفرخ منه الفتن العاصفة والشرور والبدع الجاثمة ، والحروب الطاحنة القاصمة ، التي تقضي عَلَى الأخضر واليابس ومن ذلك :
أ - ماوقع في عصرنا هذا من القتل والحرب التي دبت بين العراق وإيران ، بقيادة طاغيتين من دهاقنة وفراعنة هذا العصر ، وقد لبثت هذه الحرب بما يربو عَلَى ثمان سنوات عجاف . مِمَّا كبّدت كلاً منهما خسائر في الأموال والأنفس والثمرات . وقد تَهدد العالم الإسلامي بالفناء والدمار من جرّاء تلك الحرب التي تعد من أكبر الحروب وأعظمها خسارة في تاريخنا الحَدِيث .
__________
(1) رواه مالك
(2) رواه مالك
(3) أشراط الساعة : 76 ، الفتن في الآثار والسنن : 98 .(1/91)
ب ـ ومن أواخر الفتن التي لازالت تهب إلينا رياحها من الشرق ، تلك الفتنة التي قصمت ظهر البعير بغزو العراق للكويت ، مِمَّا نتج عنه فتن عظيمة ، ومحن جسيمة لايعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.
8- حسر الفرات عن جبل من ذهب :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ) (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو ) (2)
ويعتبر قتال المُسْلِمينَ عَلَى ذهب الفرات من أشد المصائب التي ستخوضها الأمة في طريقها نحو النقاء لتخرج فيما بَعْدَ أُمَّة قادرة عَلَى إقامة خلافة عَلَى منهاج النبوة و حقيقة هذه الفتنة لا لبس فيها أبدا لما ثبت من الأَحَادِيث السابقة .
و القتال الحاصل بين الناس عَلَى الذهب سيكون في وقت قريب حيث سيجتمع له عابدي الدنيا من الدول المحيطة فيقتل بسببه مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فلو تفانى حوله مليون مُسْلِم لنجا منهم عشرة آلاف لا غير .
9- خروج الدجال :
__________
(1) رواه البُخَارِي
(2) رواه مُسْلِم(1/92)
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ .. فَقَالَ : ( .. إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالاً يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا .. ) (1)
وقفات موجزة مع تاريخ أهل العراق :
1-كانت بلاد العراق بكاملها التي فتحها خالد نقضت العهود والذمم والمواثيق التي كانوا أعطوها لخالد سوى أهل بانقيا وبرسما و أهل أليس والْآخِرَة ثُمَّ عاد الجميع .. و ادعوا أن الفرس أجبروهم عَلَى نقض العهود وأخذوا منهم الخراج و غير ذلك فصدّقوهم في ذلك تألفاً لقلوبهم (2)
2-ذكر ابن جرير أن علياً لما نكل أهل العراق عن الذهاب إلى الشَّام خطبهم فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عَلَيْهِمْ آيات في الجهاد من سور متفرقة وحثهم عَلَى المسير إلى عدوهم فأبوا من ذلك وخالفوه ولم يوافقوه واستمروا في بلادهم وتفرقوا عنه هاهنا وهاهنا (3)
3-و قَالَ علي بن أبي طالب اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتها و يلبس فروتها و يحكم فيها بحكم الجاهلية قَالَ يقول الحسن و ما خلق الحجاج يومئذ (4)
__________
(1) رواه مُسْلِم
(2) البداية والنهاية 7/47
(3) البداية والنهاية 7/309
(4) البداية والنهاية 9/131 و 132(1/93)
4-ولما مات معاوية و رام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهى وأراد ابن عباس أن يتعلّق بثياب الحسين لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره فلم يقبل منه فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته وكان يقول يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شر تسلم فانك إن لا تفعل تندم (1)
5- وكان سبب قتل الحسين أنه كتب إليه أهل العراق يطلبون منه أن يقدم إليهم ليبايعوه بالخلافة وكثر تواتر الكتب عليه من العامة ومن ابن عمه مُسْلِم بن عقيل .. فاحتمل بأهله ومن أطاعه وكانوا قريبا من ثلاثمائة وقد نهاه عن ذلك جماعة من الصَّحَابَة منهم أبو سعيد وجابر وابن عباس و ابن عمر فلم يطعهم وما أحسن ما نهاه ابن عمر عن ذلك واستدل له عَلَى أنه لا يقع ما يريده فلم يقبل (2)
ثُمَّ دخلت سنة إحدى وسبعين ففيها كان مقتل مصعب بن الزبير .. وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق و خذلوه و جعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه فاستقتل وطمن نفسه عَلَى ذلك وَقَالَ لي بالحسين بن عَلَى أسوة حين امتنع من إلقائه يده ومن الذلة لعبيد الله بن زياد ... ثُمَّ قَالَ مصعب رحم الله أبا بحر يعنى الأحنف أن كان ليحذرني غدر أهل العراق وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن (3)
لما تفرّق عن مصعب جموعه قَالَ له ابنه عيسى لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم فانك قد ضعفت جدا فلم يرد عليه جوابا ثُمَّ ذكر ما جرى للحسين بن عَلَى وكَيْفَ قتل كريما ولم يلق بيده ولم يجد من أهل العراق وفاء وكذلك أبوه وأخوه ونحن ما وجدنا لهم وفاء (4)
__________
(1) البداية والنهاية 8/304
(2) البداية والنهاية 6/231
(3) البداية والنهاية 8/314 و 315
(4) البداية والنهاية 8/316(1/94)
قَالَ ابن جرير وذكر أبو زيد عن أبى غسان مُحَمَّد بن يحيى حدثني مصعب بن عثمان قَالَ لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قام في الناس خطيبا فقال الحمد لله الَّذِيْ له الخلق والأمر يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو عَلَى كل شيء قدير ... ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن (1)
خير الأجناد فى آخر الزمان بالشام وأن الله تكفل بهم
1-ورود ذكر الشَّام في القرآن في مواضع مِنْهَا : قول الله تعالى : ( وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) (2) . و قوله تعالى في ذكر قصة موسى عليه السلام مع قومه : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) (3) قَالَ قتادة : هي الشَّام (4) .
2- الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في الشَّام :قَالَ الله تعالى :(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (5)
3- ثاني المساجد في الشَّام : عنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى . قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ . ثُمَّ قَالَ : حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ وَالأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ (6) َ .
__________
(1) البداية والنهاية 8/322 و323
(2) الأنبياء:71
(3) المائدة:21
(4) القرطبي
(5) الإسراء:1.
(6) رواه البُخَارِي ومُسْلِم(1/95)
4-شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى في الشَّام : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :( .. وَ لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ مَسْجِدِ الأَقْصَى وَ مَسْجِدِي هَذَا ) (1) .
5- الحث عَلَى سكنى الشَّام : عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ : جُنْدٌ بِالشَّامِ ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ )) ، فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ : خِيرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَاكَ ، قَالَ : (( عَلَيْكَ بِالشَّامِ ، فَإِنَّهُ خِيرَةُ اللهِ مِنْ أَرْضِهِ ، يَجْتَبِي إِلَيْهِ خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ )) (2) .
__________
(1) البُخَارِي ومُسْلِم
(2) الإمام أَحْمَد (4/110) و أَخرَجَه كذلك أبو داود (2483) ، والطبرانى (( الشاميين ))(1172) ، وابن عساكر (1/76،75) ، والضياء (( المختارة ))(9/271/232،231) من طرق عن بقية قال حدثنى بحير بن سعد السحولى به .(1/96)
6-دعاء النبى صلَّى الله عليه وسلَّم للشام بالبركة :عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا )) ، قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ، قَالَ : (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا )) ، قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ، فَأَظنُه قَالَ فى الثالثة : (( هُنَالِكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ )) (1) .
7- ابتلاء أهل الشَّام بالطاعون ليكون لهم شهادة ورحمة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ ، فَأَمْسَكْتُ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ ، وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلَى الشَّامِ ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتِي ، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ ، وَرِجْسٌ عَلَى الْكَافِرِينَ )) (2) .
8-اختصاص الشَّام بما يبسط عليها من أجنحة ملائكة الرحمن: أن زيد بن ثابت قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ ، إِذْ قَالَ : (( طُوبَى لِلشَّامِ )) ، قِيلَ : وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ ، قَالَ : (( إِنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا )) (3) .
__________
(1) الإمام أَحْمَد (5/81) قال أبو مُحَمَّد : هذا حَدِيث ثلاثى صحيح ، و أَخرَجَه كذلك ابن سعد (( الطبقات الكبرى ))(7/61) ، والحارث بن أبى أسامة (255. زوائد الهيثمى ) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى ))(1/342) ، وبحشل (( تاريخ واسط ))(ص43)
(2) رواه البُخَارِي فى (( كتاب الفتن ))(4/227)
(3) الإمام أَحْمَد (5/184) قال أبو مُحَمَّد : هذا حَدِيث صحيح ، و أَخرَجَه الطبرانى (( الكبير ))(5/185/4934) عن عمرو بن خالد ، وابن عساكر (1/127، 128)(1/97)
9- الشَّام دار الإيمان والإسلام: عَنْ عَمْرَو بْنَِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( بَيْنَما أَنَا فِي مَنَامِي أَتَتْنِي الْمَلائِكَةُ فَحَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَعَمَدَتْ بِهِ إِلَى الشَّامِ ، أَلا فَالإِيمَانُ حَيْثُ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ) (1) .
10- عقر دار المؤمنين فى آخر الزمان الشَّام : عن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي سَئِمْتُ الْخَيْلَ ، وَأَلْقَيْتُ السِّلاحَ ، وَوَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، قُلْتُ : لا قِتَالَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ ، لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ ، يُزِيغُ اللهُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ ، وَيَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، أَلا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) (2) .
__________
(1) رواه أَحْمَد في (( المسند ))(5/198) و(( فضائل الصَّحَابَة ))(1717) و أَخرَجَه الطبرانى (( مسند الشاميين ))(2/207/1198) و أَخرَجَه ابن عساكر (1/108،107)
(2) الإمام أَحْمَد (4/104)(1/98)
11- الشَّام أرض المحشر : عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : تُحْشَرُونَ هَا هُنَا وَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَحْوِ الشَّامِ ـ مُشَاةً وَرُكْبَانًا ، وَعَلَى وُجُوهِكُمْ ، تُعْرَضُونَ عَلَى الله تَعَالَى وَعَلَى أَفْوَاهِكُمُ الْفِدَامُ ، وَأَوَّلُ مَا يُعْرِبُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ (1) وعن ميمونة مولاة النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؟ ، فَقَالَ : (( أَرْضُ الْمَنْشَرِ وَالْمَحْشَرِ ، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ ، فَإِنَّ صَلاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ )) ، قَالَتْ : أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ ؟ ، قَالَ : (( فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا ، يُسْرَجُ فِيهِ ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ )) . (2)
__________
(1) رواه أَحْمَد (5/3) قال أبو مُحَمَّد : هذا حَدِيث ثابت صحيح مستفيض و أَخرَجَه الطبرانى (( الكبير ))(19/426/1038،1037،1036) وابن عساكر (1/178:176)
(2) أَحْمَد (6/463) و أَخرَجَه إسحاق بن راهويه (( المسند ))(1/106) ، وابن ماجه (1407) ، وأبو يعَلَى (12/523/7088) ، والطبرانى (( الكبير ))(25/32/55) و(( الشاميين ))(471) ، والمقدسى (( فضائل بيت المقدس ))(17) قال أبو مُحَمَّد : وهذا إسناد رجاله ثقات كلهم .(1/99)
12-الطائفة المنصورة بالشام : عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ ، لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَة ) (1) .. وَ أَخْبَرَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : هَا هُنَا ، وَ نَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ ) (2) . وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كَذَلِكَ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَيْنَ هُمْ ؟ قَالَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَ أَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ) (3)
__________
(1) الترمذى (2192) قَالَ أَبو عِيسَى : (( هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )) .و أَخرَجَه كذلك الطيالسى (1076) ، و أَحْمَد (3/436 و5/35،34) ، والبزار (3303) ، والرويانى (946) ، وابن أبى عاصم (( الآحاد والمثانى ))(2/333) ، وابن حبان (7303،7302)
(2) رواه التِّرْمِذيّ وأَحْمَد
(3) رواه أَحْمَد(1/100)
13- حصار الشَّام مِنْ قِبَلِ الرُّومِ: عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : ( يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ وَ لا دِرْهَمٌ . قُلْنَا : مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ يَمْنَعُونَ ذَاكَ . ثُمَّ قَالَ : يُوشِكُ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لا يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ وَ لا مُدْيٌ . قُلْنَا : مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الرُّومِ . ثُمَّ سَكَتَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لا يَعُدُّهُ عَدَدًا ) (1) .
14- غُوطَةُ دِمَشْقُ الشَّام حصن المُسْلِمينَ يوم الملحمة الكبرى والمقتلة العظمى: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ سمعت رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة ، فيها مَدِينَة يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ ، فهي خيْرُ مَسَاكِنِ الناسِ يومئذٍ )) (2) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : : (( فُسْطَاطُ المُسْلِمينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ الْغُوطَةُ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ )) . (3) .
( بيان ) قوله (( فسطاط المُسْلِمينَ )) ـ بضم الفاء وسكون السين المهملة وطائين مهملتين بينهما ألف ـ أي حصن المُسْلِمينَ الَّذِيْ يتحصنون به ، وأصله الخيمة . (( يوم الملحمة )) أي المقتلة العظمى في الفتن الكائنة قرب قيام السَّاعَة . (( بالغوطة )) ـ بضم الغين المعجمة ـ موضع بالشام كثير الماء والشجر كائن إلى جانب مدينة دمشق بالشام .
__________
(1) رواه مُسْلِم
(2) الطبرانى (( الشاميين ))(1313)
(3) الإمام أَحْمَد (5/197)(1/101)
وَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ الشَّامُ ، فَإِذَا خُيِّرْتُمْ الْمَنَازِلَ فِيهَا فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ فَإِنَّهَا مَعْقِلُ المُسْلِمينَ مِنْ الْمَلاحِمِ ، وَ فُسْطَاطُهَا مِنْهَا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ ) (1) .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : عَوْفٌ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ . فَقَالَ : ادْخُلْ . قُلْتُ : كُلِّي أَوْ بَعْضِي ؟ قَالَ : بَلْ كُلُّكَ . قَالَ : يَا عَوْفُ اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَة : ... وَ السَّادِسَةُ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ (2) فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ عَلَى ثَمَانِينَ غَايَةً . قُلْتُ : وَ مَا الْغَايَةُ ؟ قَالَ : الرَّايَةُ ، تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ، فُسْطَاطُ المُسْلِمينَ يَوْمَئِذٍ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ ) (3)
__________
(1) رواه أَحْمَد
(2) بنو الأصفر : هم الروم ، وسبب تسميتهم بذلك قولان كما حكاهما القرطبي ، الأول : أن جيشا من الحبشة غلبوا عَلَى ناحيتهم في بعض الدار ، فوطئوا نساءهم فولدن أولادا صفرا ، قاله ابن الأنباري . والثاني : أنهم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم قاله ابن إسحاق . وقال القرطبي : وهذا أشبه من القول الأول . التذكرة للقرطبي ( 2 / 689 ) . انظر : النهاية في غريب الحديث ( 3 / 37 ) .
(3) رواه أَحْمَد (6/25) قال أبو مُحَمَّد : هذا حَدِيث صحيح ، رجاله كلهم شاميون ثقات(1/102)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَ بَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ . فَيَقُولُ المُسْلِمونَ : لا و َاللَّهِ لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ إِخْوَانِنَا . فَيُقَاتِلُونَهُمْ ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَ يُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَ يَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا ، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ ، فَيَخْرُجُونَ وَ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهُمْ ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ ، وَ لَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ ) (1)
__________
(1) رواه مُسْلِم(1/103)
وعَنْ ذِي مِخْبَرٍ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَ هُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَ تَغْنَمُونَ وَ تَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ، حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ : غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمينَ فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَ تَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ ، وَ يَثُورُ المُسْلِمونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ فَيَقْتَتِلُونَ فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ ) (1) .
الملحمة الكبرى والمقتلة العظمى
زمان الملحمة بين المُسْلِمينَ والروم:
1-عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عمران بيت المقدس خرابُ يَثْرب، وخراب يثرب خُروج الملحمة ، وخُروج الملحمة فتح قسطنطينية ، وفتح القسطنطينينة خروج الدجال ... )) (2) .
__________
(1) رواه أبو داود و ابن ماجه وأَحْمَد
(2) أَخرَجَه أبو داود في الملاحم باب في امارات الملاحم : 4/ 482 رقم 4294 ، وجوّد إسناده وحسنه ابن كثير في النهاية في الفتن : 1/ 94 ، و حسنه الألباني في المشكاة : 3 / 1494 رقم 5424 .(1/104)
سلسلة متتابعة الأحداث وهي عمران بيت المقدس ثُمَّ خراب يثرب ثُمَّ قتال الروم في الملحمة ثُمَّ فتح القُسطَنطينيَّة ثُمَّ خروج الدجال أي : ( لما كان بيت المقدس باستيلاء الكفار عليه وكثرة عمارتهم فيها أمارة مستعقبة بخراب يثرب ، وهو أمارة مستعقبة بخروج الملحمة ، وهو أمارة مستعقبة بفتح قُسطَنطينيَّة ، وهو أمارة مستعقبة بخروج الدجال ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد عين مابعده وعبر به عنه .(فكل واحد من هذه الأمور أمارة لوقوع مابعده وإن وقع هناك مُهْلَة ) (1) .
فهذا القتال الَّذِيْ يَكُوْن بين المُسْلِمينَ والروم إنَّمَا يقع في الشَّام في آخر الزمان بَعْدَ خراب يثرب و قبل فتح قُسطَنطينيَّة وظهور الدجال، كما ذكر في حَدِيث معاذ بن جبل ويَكُوْن انتصار المُسْلِمينَ عَلَى الروم تهيئة لفتح القُسطَنطينيَّة (2) .
دمشق موقع الملحمة بين المُسْلِمينَ والروم:
1-عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ :( لاتقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (3) فيخرجُ إليهم جيشٌ من المدينة ، من خيار أهل الْأَرْض يومئذٍ...)
__________
(1) عون المعبود : 11 / 401 ، بذل المجهود : 17 / 209 .
(2) القسطنطينية : هي مدينة الروم ، وتُعرف الْيَوْم بـ ( اصطنبول ) أو ( استانبول ) ، وهي من مدن تركيا ، وكانت تُعرف قديماً باسم ( بيزنطة ) ثم لما ملك قسطنطين الأكبر ـ ملك الروم ـ بَنَى عليها سوراً وسماه قسطنطينية ، وجعلها عاصمة ملكه ، ولها خليج من جهة البحر يطيف بها من وجهين مِمَّا يلي الشرق والشمال ، وجانباها الغربي والجنوبي في البحر . (ينظر : معجم البلدان : 4 / 347 ـ 348 بتصرف وزيادة ) .
(3) الأعماق ودابق : موضعان بالشام ، بقرب حلب . ( شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 21 ، معجم البلدان 1 / 222 ، 2 / 416 ) .(1/105)
2-وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:( إن فُسْطَاطَ (1) المُسْلِمينَ يوم الملحمة بالغُوطَة (2) إلى جانب مدينة يقال لها دِمَشق (3) من خير مدائن الشَّام ) (4) .
ومعناه : إن فسطاط المُسْلِمينَ أي : حصنهم الَّذِيْ يتحصنون به من الفتن ـ بَعْدَ الله سبحانه وتعالى ـ يوم الملحمة أي : المقتلة العظمى في الفتن بالغوطة التي هي موضع بالشام كثير الماء والشجر وهي غوطة دمشق ، ولهذا قَالَ : (( إلى جانب مدينة يقال لها دمشق )) وهي قصبة الشَّام ، وسميت بذلك : لأن دماشاق بن نمْرُود بن كنعان هو الَّذِيْ بناها ، فسُمِّيت باسمه ، وكان آمن بابراهيم عليه السلام ، وسار معه ، وكان أبوه نمرود دفعه اليها لِما رأى له من الآيات .
__________
(1) الفسطاط : بضم الفاء وكسرها : المدينة التي فيها مجتمع الناس ، وكل مدينة فسطاط . (النهاية في غريب الحَدِيث : 3/ 445 ) .
(2) الغُوطة : ـ بضم الغين ثم واو ساكنة وطاء مهملة ـ موضع بالشام تحيط به جبال عالية وبها أنهار وأشجار متصلة ، وفيها تقع مدينة دمشق . ( معجم البلدان : 4/ 219 ) .
(3) دمشق : هي قصبة الشام وجنة الْأرْض
(4) رواه أبو داود في الملاحم باب في المعقل من الملاحم : 4/ 484 رقم 4298 ، و أَحْمَد : 5/197 ، والربعي في فضائل الشام : 38 رقم 15 بتخريج الألباني ، والحاكم : 4/ 486 وَقَالَ : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي وأقرّه المنذري في الترغيب : 4/ 63 ، وَقَالَ الألباني في تخريج فضائل الشام 38 الحَدِيث 15 ( وهو كما قالوا ) وكان قد صححه في أول هذا الموضع وقبل تخريجه له فقال : ( حَدِيث صحيح ) ثم خرجه .(1/106)
ودمشق هي من خير مدائن الشَّام كما في عجز هذا الحَدِيث ، بل هي خيرها ، ولا يقدح فيه ( من ) لأن بعض الأفضل قد يَكُوْن أفضل بدليل خبر عائشة رضي الله عنها : (كان أي النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ) (1) ، مع كونه أحسنهم (2) .
وعَلَى كلٍ:فإن حَدِيث أبي الدرداء هذا وحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِيْ قبله ، يدلان عَلَى ماذُكر آنفا من أن هذه الملحمة الكبرى التي تقع بين المُسْلِمينَ والروم إنَّمَا يَكُوْن موقعها في الشَّام ، وتدل أيضا عَلَى أن المُسْلِمينَ ينتصرون فيها عَلَى الروم .
من هم الروم ؟ الروم من سلالة العيص بن اسحاق بن إِبْرَاهِيم الخليل عليهما السلام (3) كما قَالَ ابن كثير رحمه الله .وقد ذهب كثير من العُلَماء المعاصرين منهم الشيخ مُحَمَّد حسان الى أنهم الأمريكيون والأوربيون.
عدد الروم :
والروم عددهم كثير جداً ، كما ورد ذلك في غيرما حَدِيث ، مِنْهَا :
__________
(1) أَخرَجَه مُسْلِم في الفضائل ، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً 4/ 1805 رقم 2310 .
(2) فيض القدير : 2/ 463 ، عون المعبود : 11/ 406 .
(3) لسان العرب : 12/ 258 ، ومعجم البلدان : 3/ 97 ، ومختار الصحاح : 264 النهاية في الفتن : 1/ 92 .(1/107)
1-حَدِيث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اعْدُدْ سِتاً بين يَدَي السَّاعَة )) فذكر مِنْهَا : ( .. ثُمَّ هُدْنَةٌ (1) تكون بينكم وبين بني الأصفر (2) فَيَغْدِرُونَ فيأتونكم تحت ثمانين اية (3) ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً )) (4) .
2-حَدِيث المستورد القرشي (5) قَالَ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( تقوم السَّاعَة والروم أكثر الناس ) (6) .
هذا وجملة العدد المشار إليه في حَدِيث عوف بن مالك الأشجعي بقوله عليه السلام:(..فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) : تسعمائة ألف وستون ألفاً (7) (960000 ) . ولعل أصله : ألف ألف ، فَأُلْغِيَتْ كسورُه (8)
__________
(1) أن الهدنة هي الصلح عَلَى ترك القتال بَعْدَ التحرك فيه .
(2) بنو الأصفر : هم الروم
(3) الغاية : هي الراية وسميت بذلك لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف وقيل : لأنها تشبه السحابة لمسيرها في الجو ، ولأنها تظل الأجناد لكثرة راياتهم ، واتصال ألويتهم وعلاماتهم كالسحاب الَّذِيْ يظل الإنسان
(4) رواه البُخَارِي وغيره
(5) المستورد القرشي : هو المستورد بن شداد بن عمرو القرشي الفهري ، صحابي ، من أهل مكة ، سكن الكوفة ثم مصر وشهد فتحها ، له سبعة أحاديث ، مِنْهَا حديثان في مُسْلِم ، توفي بالاسكندرية سنة خمس وأربعين من الهجرة .(ينظر : الإصابة : 3 / 387 ، الاستيعاب : 3 / 460 مع الإصابة ، خلاصة تذهيب الكمال : 3 / 21 ) .
(6) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط الساعة : ( 18 / 22 بشرح النووي ) .
(7) التذكرة : ( 2 / 267 ) ، الفتح : 6 / 321 ، عمدة القاري 12 / 245 .
(8) الفتح : 6 / 321 .(1/108)
وقد ذكر العيني رحمه الله أن الستَّ المذكورة آنفاً في حَدِيث عوف بن مالك قد ظهر مِنْهَا خمس علامات ، وأَمَّا السادسة ـ آخرها ـ ، وهي قتال المُسْلِمينَ مع الروم فلم تظهر بَعْدَ ، فقال مانصه : ( هذه الست المذكورة ظهر مِنْهَا الخمس ... ) وذكرها ثُمَّ قَالَ عن السادسة التي هي قتال الروم مع المُسْلِمينَ : ( والسادسة لم تجيء بعد ) (1) .
وكذلك أشار الحافظ بقوله : ( والسادسة لم تجيء بعد ) (2) ، ويعني بالسادسة قتال الروم وما يتعلق به ، والله أعلم .
وَقَالَ المهلب رحمه الله : ( وفيه ـ أي في حَدِيث عوف بن مالك المتقدم ـ أن الغدر من أشراط السَّاعَة ، وفيه شيء من علامات النبوة قد ظهر أكثرها ) (3)
وأشار أيضاً ابن المنير رحمه الله إلى أن قصة الروم لم تجتمع بعد فقال : ( أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن ، ولا بلغنا أنهم غزوا في البرِّ في هذا العدد ، فهي من الأمور التي لم تقع بعد . وفيه ـ أي في حَدِيث عوف بن مالك المتقدم ـ بشارة ونذارة ، وذلك أنه دل عَلَى أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش ، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المُسْلِمينَ سيكون أضعاف ماهو عليه ) (4)
__________
(1) عمدة القاري 12 / 245.
(2) الفتح : 6 / 321 .
(3) الفتح : 6/ 231 .
(4) المصدر السابق .(1/109)
ففي الحَدِيث عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لاتقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (1) فيخرجُ إليهم جيشٌ من المدينة ، من خيار أهل الْأرْض يومئذٍ فإذا تصافُّوا قالت الروم : خَلُّوا بينَنا وبين الَّذِينَ سُبُّوا منَّا نُقاتِلُهم . فيقول المُسْلِمونَ : لا . وَاللهِ ! لانُخَلِّي بينكم وبين إخواننا.فيُقاتِلونَهُم.فيَنْهزم ثُلُثٌ لايتوبُ الله عَلَيْهِمْ أبداً (2) ويُقْتَلُ ثُلُثُهُم . أفضَلُ الشهداء عند الله ، ويَفْتَتِحُ الثلث.لايُفْتَنون أبداً، فيفتَتِحون قُسطَنطينيَّةَ . فبينما هم يَقتسمون الغنائمَ ، قد علَّقوا سيوفهم بالزيتون، إذْ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلَفَكُم في أهليكم .فيخْرُجُون. وذلك باطل. فإذا جاؤا الشَّأْم خرج . فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسَوُّون الصفُوف، إذ أُقيمت الصلاة. فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم..)) الحَدِيث (3) .
وهذا كُله يَكُوْن في آخر الزمان ، ويَكُوْن انتصار المُسْلِمينَ عَلَى الروم في هذه الملحمة الكبرى تهيئة لفتح مدينة القُسطَنطينيَّة عَلَى أيديهم ، ثُمَّ يخرج الدجال بَعْدَ فتح المُسْلِمينَ لها .
حَدِيث موقعة الملحمة :
__________
(1) الأعماق ودابق : موضعان بالشام ، بقرب حلب . ( شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 21 ، معجم البلدان 1 / 222 ، 2 / 416 ) .
(2) لايتوب الله عَلَيْهِمْ أبداً : أي : لايلهمهم التوبة . ( شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 21 ) .
(3) أَخرَجَه مُسْلِم في الفتن وأشراط الساعة باب في فتح القسطنطينية (4/2221 رقم 2897 ) .(1/110)
1-عَنْ ذِي مِخْبَرٍ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَ هُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَ تَغْنَمُونَ وَ تَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ، حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ (1) فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ : غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمينَ فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَ تَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ ، وَ يَثُورُ المُسْلِمونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ فَيَقْتَتِلُونَ فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ ) (2) .
شرح الحَدِيث :
وقوله : آمناً ، أي : ذا أمن ، فيغزون ويُقاتلون هم والروم عدواً من خلفهم . أي : أن المُسْلِمينَ والروم يغزون معاً عدواً آخرين بالمشاركة والاجتماع . بسبب الصلح الَّذِيْ بينهم ،أو أن المُسْلِمينَ يغزون عدوهم لوحدهم ، والروم يغزون عدوهم بالإنفراد . والاحتمال الأول قيل هو الظاهر .
__________
(1) المَرْجْ : ـ بفتح الميم وسكون الراء المهملة ـ : الْأرْض الواسعة ذات نبات كثير ، تمرج وترعى الدواب فيه ( النهاية : 4/ 315 ، عون المعبود : 11/ 398 ) .
والتُلُولُ : بضم التاء واللام ـ : جمع تل وهو كل مااجتمع عَلَى الْأرْض من تراب أو رمل ، وهو الموضع المرتفع .( عون المعبود : 11/ 399 ) .
(2) رواه أبو داود و ابن ماجه و أَحْمَد(1/111)
ثُمَّ أخبرصلى الله عليه وسلم أنهم يُنصرون بَعْدَ غزوهم هذا ويغنمون الأموال ويسلمون من القتل والجرح في القتال ، ثُمَّ يرجعون بَعْدَ الغزو عن عدوهم حتى ينزلوا هم والروم بِمَرْجٍ ذي تُلولٍ أي : بموضع مرتفع فيه نبات ترعى فيه الدواب ، وبَعْدَ أن ينزلوا بهذا المكان يقوم رجل من أهل النصرانية فيرفع الصليب الَّذِيْ هو عبارة عن خشبة مربعة يدَّعون أن عيسى عليه السلام صلب عَلَى خشبة كانت عَلَى تلك الصورة ، فيقول هذا الرجل الَّذِيْ من الروم : غَلَب الصَّليبُ ، أي : دين النَّصَارَى ، قاصداً بذلك إبطال الصلح أو مجرد الافتخار وإيقاع المُسْلِمينَ في الغيظ،فحينئذٍ يغضب المُسْلِمونَ فيقوم رجل منهم فيدُقُّه،أي: فيكسر الصليب، فعند ذلك تَغْدِرُ الروم،أي: تنقض العهد فتجمع رجالها وجيوشها ، ويجتمعون للملحمة ، أي للحرب (1) .
بيد أن هناك رواية أخرى فيها زيادة وإكمال لقصة هذه الملحمة وهي بلفظ:( ويثور المُسْلِمونَ إلى أسلحتهم فيقتتلون،فيُكرم الله تلك العِصابة بالشهادة) (2) .أي:بَعْدَ أن تغدِر الروم وتجمع رجالها للحرب،حينئذ يثور ويهوج المُسْلِمونَ فيقومون مسرعين إلى أسلحتهم فيقتتلون معهم ، فيكرم الله تلك العصابة ، أي : جماعة المُسْلِمينَ بالشهادة (3) .
وصف قتال الملحمة :
__________
(1) عون المعبود : ( 11 / 398 ـ 399 ) .
(2) رواه أبو داود في الملاحم باب مايذكر من ملاحم الروم : 4 / 481 ـ 482 رقم 4293 ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود : 3 / 809 رقم 3608 .
(3) عون المعبود : 11 / 399 .(1/112)
هذا وقد جاء وصفهم للقتال الَّذِيْ يدور ويقع بين المُسْلِمينَ والروم ، ففي الحَدِيث عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ (1) قَالَ:«هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى (2) إِلَّا:« يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، جَاءَتْ السَّاعَة».قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ :«إِنَّ السَّاعَة لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. (3) . قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ :« نَعَمْ ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ (4) .فَيَشْتَرِطُ (5) المُسْلِمونَ شُرْطَةً (6)
__________
(1) يُسَيْر بن جابر : وقيل ابن عمرو الكوفي ، وقيل أصله : أُسير ، فسُهِّلت الهمزة ، ورجح البُخَارِي بأنه أُسير بن عمرو ، واختلفوا في نسبته ، قيل : كندي ، وقيل غير ذلك ، كان من أصحاب ابن مسعود ، وقد روى عنه وعن عمر وعلي رضي الله عنهم ، ويقال : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ووثقه العجلي وابن سعد . ( يُنظر : التهذيب : 11 / 378 ، 379 ، والتقريب : 607 كلاهما لابن حجر ) .
(2) ( ليس له هجيرى ) أي : أَيْ شَأْنه وَدَأْبه ذَلِكَ.. والهجيرى بمعنى : الهجير : الدأب والعادة .
(3) ( لأهل الإسلام ) : أي لقتالهم .
(4) ( ردة شديدة ) : أي : عطفة قوية .
(5) ( فيشترط ) ضبطوه بوجهين : أحدهما فيشترط ، والثاني فيتشرط .
(6) ( شرطة ) الشُّرْطَة بِضَمِّ الشِّين طَائِفَة مِنْ الْجَيْش تُقَدَّم لِلْقِتَالِ. وفي النهاية : ( 2 / 460 ) لابن الأثير : الشُّرطة أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة ..(1/113)
لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ (1) هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ.ثُمَّ يَشْتَرِطُ المُسْلِمونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ المُسْلِمونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ (2) إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيَجْعَلُ اللهُ الدَّيْرَةَ عَلَيْهِمْ (3) . فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً إِمَّا قَالَ لَا يُرَى مِثْلُهَا ـ وَإِمَّا قَالَ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا ـ حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ (4) فَمَا يُخَلِّفُهُمْ (5)
__________
(1) ( فيفيء ) : أَيْ يَرْجِع..
(2) ( نهد ) هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَالْهَاء أَيْ نَهَضَ وَتَقَدَّمَ. ومنه سُميّ النَّهد نهداً لتقدمه الصدر .
(3) ( فيجعل الله الدبرة عَلَيْهِمْ ) بِفَتْحِ الدَّال وَالْيَاء أَيْ الْهَزِيمَة ، وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة مُسْلِم (الدَّائِرَة) بِالْأَلِفِ وَبَعْدهَا هَمْزَة ، وَهُوَ بِمَعْنَى الدَّيْرَة.وَقَالَ الأزهري : الدائرة هم الدولة تدور عَلَى الأعداء . وقيل : وهي الحادثة . ( ينظر : شرح النووي عَلَى مُسْلِم 18/24 - 25 ، والتذكرة 2/ 268) .
(4) ( بجنباتهم ) أَيْ نَوَاحِيهمْ. وحكى القاضي عن بعض رواتهم : بجثمانهم ، أي شخوصهم
(5) ( فما يخلفهم ) أَيْ يُجَاوِزهُمْ.. وحكى القاضي عن بعض رواتهم : فما يلحقهم ، أي يلحق آخرهم ..(1/114)
حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا ، فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ (1) كَانُوا مِائَةً فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ فَيَرْفُضُونَ (2) مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً(
قَالَ رَسُولُ اللهِ:«إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ـ أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ»)) (3) .
وصف القرطبي رحمه الله للملحمة الكبرى :
__________
(1) ( فَيَتَعادَّ بنو الأب ) أي يعد بعضهم بعضاً ( النهاية في غريب الحَدِيث 3 / 189 ) .
(2) ( فيرفضون ) أي : يرمون ويتركون ، كما قال القرطبي في التذكرة ( 2 / 269 ) ، وفي لسان العرب : ( 7 / 156 ) . الرفض : تركُكَ الشيء .
(3) أَخرَجَه مُسْلِم في الفتن وأشراط الساعة باب إقبال الروم في كثرة القتل( 4 / 2223 رقم 2899 ) .(1/115)
قال القرطبي في وصف الملحمة التي تقع بين المُسْلِمينَ والروم: ( وقد روي مرفوعاً في حَدِيث فيه طول عن حذيفة : أن الله تعالى يرسل ملك الروم وهو الخامس من الهرقل يقال له : شمارة ، وهو صاحب الملاحم ، فيرغب إلى المهدي في الصلح ، وذلك لظهور المُسْلِمينَ عَلَى المشركين فيصالحه إلى سبعة أعوام فيضع عَلَيْهِمْ الجزية عن يد وهم صاغرون فلا تبقى لرومي حرمة ، ويكسرون لهم الصليب ، ثُمَّ يرجع المُسْلِمونَ إلى دمشق ، فبينما الناس كذلك إذا برجل من الروم قد التفت فرأى أبناء الروم وبناتهم في القيود والأغلال فتعير نفسه فيرفع الصليب ويرفع صوته ، فيقول : لا ، من كان يعبد الصليب فلينصره ، فيقوم رجل من المُسْلِمينَ فيكسر الصليب ، ويقول : الله ، أغلب وأنصر ، فحينئذٍ يغدرون وهم أولى بالغدر ، فيجمعون عند ذلك ملوك الروم في بلادهم خفية، فيأتون إلى بلاد المُسْلِمينَ حيث لايشعر بهم المُسْلِمونَ ، والمُسْلِمونَ قد أخذوا منهم الأمن وهم عَلَى غفلة أنهم مقيمون عَلَى الصلح ، فيأتون أنطاكية في اثني عشر ألف راية ، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً ، فلا يبقى بالجزيرة ولا بالشام ولا بأنطاكية نصراني إلا ويرفع الصليب ، فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشَّام والحجاز واليمن والكوفة والبصرة والعراق ، يعرفهم بخروج الروم وجمعهم ويقول لهم : أعينوني عَلَى جهاد عدو الله وعدوكم ، فيبعث إليه أهل المشرق أنه قد جاءنا عدو من خراسان عَلَى ساحل الفرات ، وحل بنا ماشغلنا عنك ، فيأتي إليه بعض أهل الكوفة والبصرة ، ويخرج إليهم المهدي ، ويخرج معهم المُسْلِمونَ إلى لقائهم فيلتقي بهم المهدي ومن معه من المُسْلِمينَ ، فيأتون إلى دمشق فيدخلون فيها فتأتي الروم إلى دمشق فيكونون عليها أربعين يوماً ، فيفسدون البلاد ، ويقتلون العباد ، ويهدمون الديار ، ويقطعون الأشجار ، ثُمَّ إن الله تعالى ينزل صبره ونصره عَلَى المؤمنين فيخرجون إليهم فتشتد الحرب بينهم(1/116)
ويستشهد من المُسْلِمينَ خلق كثير ، فيالها من وقعة ومقتلة ماأعظمها وما أعظم هولها ويرتد من العرب يومئذ أربع قبائل : سُليم ، ونهد وغسان وطيء ، فيلحقون بالروم ويتنصرون مِمَّا يعاينون من الهول العظيم والأمر الجسيم ، ثُمَّ إن الله تعالى ينزل النصر والصبر والظفر عَلَى المُسْلِمينَ فيقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى يخوض الخيل في دمائهم وتشتعل الحرب بينهم ، حتى إن الحديد يقطع بعضه بعضاً ، وأن الرجل من المُسْلِمينَ ليطعن العلج بالسفود فينفذه وعليه الدرع من الحديد ، فيقتل المُسْلِمونَ من المشركين خلقاً كثيراً حتى تخوض الخيل في الدماء ، وينصر الله تعالى المُسْلِمينَ ، ويغضب عَلَى الكافرين ، وذلك رحمة من الله تعالى لهم ، فعصابة من المُسْلِمينَ يومئذ خير خلق الله ، والمخلصين من عبد الله ليس فيهم مارد ولا مارق ولا شارد ولا مرتاب ولا منافق ، ثُمَّ إن المُسْلِمينَ يدخلون إلى بلاد الروم ويكبرون عَلَى المدائن والحصون فتقع اسوارها بقدرة الله ، فيدخلون المدائن والحصون ويغنمون الأموال ويسبون النساء والأطفال ، ويَكُوْن أيام المهدي أربعين سنة : عشر سنين في المغرب ، واثنتا عشرة سنة بالكوفة ، واثنتا عشرة بالمدينة ، وستة بمكة ، وتكون منيته فجأة بينما الناس كذلك إذ تكلم الناس بخروج الدجال اللعين ) (1) .وقد ذكر وصف هذه الملحمة العيني (2) رحمه الله تعالى بنحو ماذكره القرطبي .
قصة الملحمة عند الشيخ مُحَمَّد حسان :
__________
(1) التذكرة : ( 2 / 267 ـ 268 ) . وقد رواه أبو الخطاب بن دحية من حَدِيث حذيفة مرفوعا كما ذكر العيني في عمدة القاري 12/ 246 - 247 ، وأصله في مُسْلِم كما في الرواية التي قبل هذه .
(2) عمدة القاري : ( 12 / 246 ـ 247 ) . وأحال إخراج الحَدِيث لأبي الخطاب بن دحية حيث قال قبل إيراده له : ( وروى ابن دحية من حَدِيث حذيفة مرفوعاً .... ) ثم ذكره .(1/117)
يقول الشيخ مُحَمَّد حسان : قف معي وتدبر هذه المعركة الفاصلة الحاسمة فهي أخطر المعارك علي وجه الْأرْض . فقد روى مسلم في صحيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أن النبي قَالَ : " لا تقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالاعماق أو بدايق) وهما موضعان بالقرب من حلب بدولة سوريا سينزل الأمريكيون والأوربيون وفي السنوات القليلة المقبلة هذه الأراضي وهذه المنطقة كما أخبر الصادق الَّذِيْ لا ينطق عن الهوى . لقد عدت إلى بعض المعاجم القديمة لأقف علي تأويل أهل المعاجم القديمة للأعماق ودابق فوجدت أنهم يقولون الأعماق ودابق موطن بين حلب في سوريا وانطاكية في تركيا ، سبحان الله العظيم أنظروا إلى القواعد العسكرية الآن في تركيا وفي كل أنحاء العالم الإسلامي بل والعالم الأوروبي لا سيما بَعْدَ أحداث أفغانستان فلقد وضعت أمريكا قواعدها العسكرية كذلك في قلب أوروبا . لقد قَالَ عليه الصلاة والسلام : ( لا تقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدايق) أي في حلب في منطقة سوريا ولعلكم تعلمون يقينا أن أمريكا قد وضعت سوريا ضمن الدول الراعية للأرهاب بل وكان وزير الخارجية في اجتماع وزراء الخارجية هو الوزير الوحيدالَّذِيْ صرح بمقاطعة كاملة مع الكيان الصهيوني لكنهم رفضوا فسوريا موضوعة عَلَى قائمة الإرهاب الأمريكية .. لا تقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدايق .. تدبر معى قَالَ : فيخرج إليهم جيش من المدينة هم من خيار أهل الْأرْض يومئذ فإذا تصافوا أي لقتال الروم .. للمسلمين : خلوا بيننا وبين الَّذِينَ سبوا منا نقاتلهم .. ما هذا سبوا منا نقاتلهم من هؤلاء ؟ هؤلاء من الروم أصلا يوحدون الله جل وعلا ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّد رسول الله فيسلمون ويتركون الروم من الأمريكيين والأوروبيين ويقاتلوا الروم مع المُسْلِمينَ .(1/118)
فإذا تصافوا أي وقف الجيش الرومي والمُسْلِمونَ للقتال قالت الروم للمسلمين : خلوا بيننا وبين الَّذِينَ سبوا منا نقاتلهم .. أى أتركوا لنا هؤلاء الَّذِينَ أسلموا وتركوا ديارنا وعقيدتنا وديننا نقاتلهم أي نبدأ بقتالهم ، فيقول المُسْلِمونَ : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا .. قَالَ النبي: فيقتتلون قَالَ : فيقتل ثلث الجيش لا يتوب الله عَلَيْهِمْ أبدا أي يقتل ثلث الجيش المسلم لا يتوب الله عَلَيْهِمْ أبدا لماذا لأنهم خونه فروا من أرض المعركة وخانوا الله ورسوله والمؤمنين فيهزمون فيفرون قَالَ النبي : لا يتوب الله عَلَيْهِمْ أبدا فيهزم ثلث لا يتوب الله عَلَيْهِمْ أبدا .. أما الثلث الثاني قَالَ : ويقتل ثلث هم افضل الشهداء عند الله ، أما الثلث المتبقي في الجيش المسلم قَالَ : ويبقي ثلث فيفتح الله له .. أي فينصر الله هذا الثلث علي الروم قَالَ الصادق : لا يفتنون أبدا بل في رواية مسلم من حَدِيث عبد الله بن مسعود في غير راوية أبي هُرَيْرَة قَالَ : هاجمت ريح حمراء في الكوفة فجاء رجل ليس له هجيري إلا : يا عبد الله بن مسعود يا عبد الله بن مسعود جاءت السَّاعَة فقعد بن مسعود وكان متكئا فقال لا ... انظروا إلي العلم ، قَالَ : لا تقوم السَّاعَة حتى لا يقسم ميراث ولا يفُرح بغنيمة ثُمَّ أشار بيده نحو الشَّام ثُمَّ قَالَ : عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام تدبر قَالَ : وعند ذلكم القتال تكون رده شديدة هذا هو الثلث الأول الَّذِيْ ارتد وانهزم وخان .. عند ذلك القتال تكون ردة شديدة قَالَ : فيشترط المُسْلِمونَ شرطة للموت لا ترجع إلا غاية ..(1/119)
أي يقوم المُسْلِمونَ مجموعة من كتائب وتشترط هذه الكتائب ألا ترجع إلا وهى غالبة قَالَ : فيقتلون فيقتلون أي فيقتل المُسْلِمونَ مع الروم حتى يحجز بينهم اللَّيْل فتفئ كل فئة غير غالبة وتضني الشرطة ، ثُمَّ يشترط المُسْلِمونَ أي في الْيَوْم التالي شرطة الْمَوْت لا تراجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم اللَّيْل فتفئ كل فئة غير غالبة وتفني الشرطة ، ثُمَّ يشترط المُسْلِمونَ في الْيَوْم الثالث شرطة الْمَوْت لا ترجع إلا غاية فيقتتلون حتى يحجز بينهم اللَّيْل فتفئ كل منهم غير غالبة وتفنى الشرطة قَالَ : فإذا كان الْيَوْم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام نهد إليهم أي نهض إليهم بقية أهل الإسلام .. تدبر فيجعل الله الدائرة عَلَيْهِمْ أى علي الروم فيقتتلون مقتله فيجعل الله الدائرة عَلَيْهِمْ أي علي الروم فيقتتلون مقتلة عظيمة لم ير مثلها حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم إلا وقت خر ميتا .. قَالَ : فيتعاد أبناء الأب الواحد قد بلغوا المائة فلا يجدون إلا الرجل الواحد فبأى غنيمة يفرح وأي ميراث يقاسم ..(1/120)
قَالَ : فبينما هم كذلك إذ وقع بهم بأس هو اكبر من ذلك فإذا بهم يأتيهم الصريخ أي من يصرخ فيهم ليخبرهم أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم أتي في أولادهم قَالَ : فيرفضون ما في أيديهم أي : من الأموال والغنائم ويبعثون عشرة فوارس طليعة ليطلعوا عليه قَالَ المصطفي : والله إني لأعلم أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس علي ظهر الْأرْض يومئذ وهكذا ينصر الله عبده المهدي والموحدين معه علي كتائب الروم رغم أنف العلمانيين والماديين الَّذِينَ لا ينظرون ولا يؤمنون إلا بكل ما هو مادى ومحسوس هذه الفئة المباركة هؤلاء الأصفياء الأتقياء هم الَّذِينَ يفتح الله لهم مدينة القُسطَنطينيَّة بغير قتال بل وبغير سلاح كما فى صحيح مسلم من حَدِيث أبى هُرَيْرَة أنه قَالَ لأصحابه : تعرفون مدينة جانب مِنْهَا فى البحر وجانب مِنْهَا فى البر .. قالوا : نعم يا رسول الله وهذا المدنية القُسطَنطينيَّة .
دخول الروم في الاسلام آخر الزمان :
هذا وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن الروم يسلمون في آخر الزمان مستنبطاً ذلك من حَدِيث المستورد القرشي رضي الله عنه قَالَ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( تقوم السَّاعَة والروم أكثر الناس )) قَالَ فبلغ ذلك عمرَو بن العاصِ فقال : ماهذه الأَحَادِيث التي تُذكر عنك إنك تقولها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال له المستوردُ : قلتُ الَّذِيْ سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ : فقال عمرٌو : لئن قلت ذلك ، إنهم لأحلمُ الناس عند فتنةٍ ، وأجبَرُ الناس عند مُصيبةٍ ، وخير الناس لمساكينهمْ وضعفائهم (1)
__________
(1) أَخرَجَه مُسْلِم في الفتن باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس 4 / 2222 رقم 2898 .(1/121)
وفي رواية : لَئِن قلت ذلك ، إن فيهم لخصالاً أربعاً : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إصابة بَعْدَ مصيبة ، وأوشكُهم كرَّةً بَعْدَ فرَّةً . وخيرُهم لمسكينٍ ويتيم ٍ وضعيفٍ وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ وأمْنَعُهُم من ظُلم الملوك (1) .
وقد ترجم ابن كثير رحمه الله وعَنْون لهذا الحَدِيث بقوله : ( بعض خصال الروم الحسنة ) ثُمَّ قَالَ عقب الحَدِيث مانصه : ( وهذا يدل عَلَى أن الروم يسلمون في آخر الزمان ، ولعل فتح القُسطَنطينيَّة يَكُوْن عَلَى يدي طائفة منهم كما نطق به الحَدِيث المتقدم أنه : (( يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق )) (2) والروم من سلالة العيص بن اسحاق بن إِبْرَاهِيم الخليل ، فمنهم أولاد عم بني إسرائيل ، وهو يعقوب بن اسحق ، فالروم يكونون في آخر الزمان خيراً من بني إسرائيل ، فإن الدجال يتبعه سبعون الفاً من يهود أصبهان ، فهم أنصار الدجال ، وهؤلاء ـ أعني الروم ـ قد مُدِحوا في هذا الحَدِيث فلعلهم يُسلمون عَلَى يدي المسيح بن مريم ، والله أعلم ) (3) انتهى كلام ابن كثير رحمه الله .
و مِمَّا يدل عَلَى ماذكره ابن كثير رحمه الله من أن الروم يسلمون في آخر الزمان حَدِيث أبي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه في قتال الروم ، وفيه أن الروم يقولون للمسلمين : ( ...خلُّوا بيننا وبين الَّذِينَ سُبُوا منا نُقاتلهم . فيقول المُسْلِمونَ : لا . والله ! لانُخلِّي بينكم وبين إخواننا .... )) فالروم يطلبون من المُسْلِمينَ أن يتركوهم يقاتلون الروم الَّذِينَ سبوا منهم ، لأنهم أسلموا . فيرفض المُسْلِمونَ ذلك بقولهم : (لا . والله ! لانخلي بينكم وبين إخواننا ...) ، فيبينون للروم أن من أسلم منهم فهو من إخواننا لانسلمه لأحد .
__________
(1) المصدر السابق .
(2) رواه مُسْلِم في الفتن باب لاتقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يَكُوْن مكان الميت : 4 / 2238 رقم 2920 .
(3) النهاية في الفتن والملاحم : 1 / 92 ـ 93 .(1/122)
وكون غالب جيش المُسْلِمينَ ممن سُبِيَ من الكفار ليس بمستغرب كما أفاد النووي ـ رحمه الله ـ حيث قَالَ مانصه : ( وهذا موجود في زماننا ، بل معظم عساكر الإسلام في بلاد الشَّام ومصر سُبُوا ، ثُمَّ هم الْيَوْم ـ بحمد الله ـ يَسْبُون الكفار، وقد سَبَوْهم في زماننا مراراً كثيرة ، يسبون في المرة الواحدة من الكفار أُلوفاً ، ولله الحمد عَلَى إظهار الإسلام وإعزازه ) (1) .
و مِمَّا يُؤيد كون هذا الجيش الَّذِيْ يفتح القُسطَنطينيَّة من بني إسحاق ، أن جيش الروم يبلغ عددهم قريباً من ألف ألف ، وبالتحديد تسعمائة ألف وستون ألفاً ( 960000 ) ، ويَكُوْن من أسلم من الروم مع جيش المُسْلِمينَ الَّذِيْ يفتح القُسطَنطينيَّة كما تقدم قريباً من قول ابن كثير رحمه الله
ففتح القُسطَنطينيَّة إذن الفتح الأعظم والأخير الَّذِيْ قبل خروج الدجال ، يَكُوْن عَلَى يدي جيش المُسْلِمينَ الَّذِيْ من بينه الروم الَّذِينَ اسلموا . و الَّذِيْ تدل عليه الأَحَادِيث السالفة أن هذا الفتح العظيم يَكُوْن بَعْدَ قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المُسْلِمينَ عَلَيْهِمْ ، وقبل خروج الدجال .
صراع الإسلام مع النصرانية الى قيام السَّاعَة:
__________
(1) شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 21 .(1/123)
هذه الملحمة تؤكد أن صراع المُسْلِمينَ مع النَّصَارَى صراع قديم بدأ هذا الصراع مع غزوة مؤته، وكان هذا أول التقاء للمسلمين مع النصرانية، في جماد الأولى سنة ثمان من الهجرة، وانتهت المعركة الَّذِيْ كان عدد المُسْلِمينَ فيه ثلاثة آلاف وعدد النَّصَارَى مائة ألف، انتهت بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة، لكن قذف الله الرعب في قلوب النَّصَارَى، وبدأ الخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام، فكان من جملة ما بعث رسالة إلى قيصر ملك الروم – وهم النَّصَارَى في ذلك الوقت ((بسم الله الرحمن الرحيم من مُحَمَّد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم، سلام عَلَى من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)).
إن هذا الكتاب الَّذِيْ بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى يمثل الإعلان الدائم والمستمر عَلَى أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى، لأن الشرط الَّذِيْ في هذا الكتاب هو قبول الإسلام، والخروج من النصرانية، بل والتخلي عن الزعامة، ونحن نشاهد أن زعامة العالم الْيَوْم في أيديهم، أما نحن المُسْلِمونَ فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب، والسعي لتنفيذه وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.(1/124)
فينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون هو ديمومة الصراع مع النَّصَارَى، وإنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بطريق غير مباشر حيث قَالَ : فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، والأصرح منه قول الله تبارك وتعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (1) .
إذن صراع الإسلام مع النصرانية، سيستمر إلى قيام السَّاعَة، وهو فتنة ابتلى الله بها المُسْلِمونَ، وهذا قدرهم وما عَلَيْهِمْ إلا الصبر و حتمية المواجهة، وسيكون هذا الصراع بين مد وجزر، تنتهي بالمعركة الفاصلة، وبالملحمة الكبرى التي يحشد لها النَّصَارَى قرابة مليون شخص تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بَعْدَ أن يفتح روما العاصمة الروحية للنصرانية، وعند هذا الفتح تنتهي معركة الروم، ويتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال الَّذِيْ ينتهي الأمر بقتله، وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الْأَرْض غير الْأَرْض، ويعود الخلق جميعهم إلى موجدهم لنبدأ بَعْدَ ذلك الحياة الأخروية.
مستقبل الصراع بين المُسْلِمينَ والنَّصَارَى:
ومن خلال الأحاديث الواردة في الملحمة يتضح بعض الحقائق، التي تبين مستقبل الصراع مع النَّصَارَى:
__________
(1) المائدة: 14(1/125)
الأول: أن هذه الهيمنة من قبل النَّصَارَى الْيَوْم عَلَى العالم ستزول، وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم. قَالَ الله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1) . إذن فهذه العقلية التي يعيشها الغرب الْيَوْم، ويرون أنهم قادرون عَلَى فعل كل شيء، وهذا التباهي بالقوة العقلية والمادية والعسكرية والتقنية، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانياً: يشير الحَدِيث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى، وفك ارتباط الحكومات العربية المعاصرة مع العدو الصليبي الْيَهُودِيّ، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة مِمَّا يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم، يلتجئ إليها النَّصَارَى، ويطلبون الصلح للحصول عَلَى مساعدة لمحاربة عدوها الَّذِيْ سينزل بها الدمار.
ثالثاً: إن هذا الصلح الَّذِيْ سيتم مع النَّصَارَى في آخر الزمان يتم بناءً عَلَى رغبة من النَّصَارَى، فهم الَّذِينَ يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمُسْلِمينَ ، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية، يخشاها النَّصَارَى، ولمعرفتهم بقوة المُسْلِمينَ يحشدون لهم ما يقارب من مليون شخص – ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألف –.
__________
(1) يونس : 24(1/126)
رابعاً: يفهم من هذا الحَدِيث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية، سوف يحل محله الفكر الديني الصليبي، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها، بَعْدَ أن قضت ردحاً من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول، وهذا يؤخذ من الحَدِيث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية، فيغضب المُسْلِمونَ لذلك، فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه مِمَّا يثير غضب النَّصَارَى، فيقومون بقتل الجيش الَّذِيْ كان معهم، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية.
خامساً: إن هذا الحَدِيث وأمثاله من علم الغيب الَّذِيْ أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن أُمَّةٌ تؤمن بالغيب (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (1) .
فانطلاقاً من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن عَلَى موعد مع الروم وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النَّصَارَى، وسيطأ المُسْلِمونَ بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية – روما –، وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويَكُوْن الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع الروم، وسيكسر الصليب فوق رؤوس أصحابها، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين.
الفتح الثاني للقُسطَنطينيَّة
__________
(1) البقرة : 1-2(1/127)
1-روى مُسْلِم في صحيحة عن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : « سمعتم بمدينة جانبٌ مِنْهَا في البر وجانبٌ مِنْهَا في البحر ؟ » قَالوا : نعم يا رَسُول اللَّه . قَالَ : « لا تقوم السَّاعَة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق ، فإذا جاؤوها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح ، ولم يرموا بسهم ، قَالوا : لا إله الا اللَّه والله أكبر فيسقط احد جانبيها . قَالَ ثور (1) ( أحد رواة الحَدِيث ) : لا أعلمه الا قَالَ : - الَّذِيْ في البحر ثُمَّ يقولوا الثانية : لا إله الا اللَّه والله وأكبر ، فيسقط جانبها الآخر ثُمَّ يقولوا لا إله الا اللَّه والله أكبر ، فيفرج لهم ، فيدخلوها ، فيغنموا فبينما هم يقتسمون الغنائم ، إذ جاءهم الصريخ فقَال إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون.) (2)
ما هي المدينة ؟ ذهب العُلَماء إلى أن هذه المدينة هي القُسطَنطينيَّة، وان لم يسمها الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل ما رواه مُسْلِم من حَدِيث ابي هُرَيْرَة المتقدم في وصف قتال المُسْلِمينَ للروم. وكما نقله النووي عن القاضي عياض ـ رحمهما الله ـ (3) .
__________
(1) هو ثور بن زيد الديلي مولاهم المدني الثقة ، توفي سنة 135 هـ ـ رحمه الله ـ ( شرح النووي عَلَى مُسْلِم 18 / 43 ، وتهذيب التهذيب 2 / 31 ـ 32 ) .
(2) رواه مُسْلِم في الفتن .... باب لاتقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يَكُوْن مكان الميت .... ( 4 / 2238 رقم 2920 ) .
(3) شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 18 / 43 ـ 45 .(1/128)
من يفتح قُسْطَنْطِينِيَّة في المرة الثانية ؟ورد في الحَدِيث السابق قول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق » والروم من بني اسحاق لإنهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إِبْرَاهِيم الخليل عَلَيْهِ ما السلام فكيف يَكُوْن فتح قُسْطَنْطِينِيَّة عَلَى أيديهم ؟ قَالَ القاضي عياص : « كذا هو في جميع أصول « صحيح مُسْلِم » : من بني اسحاق و قَالَ ابن كثير إنّ هذا الحَدِيث : « يدل عَلَى أن الروم يسلمون في آخر الزمان ، ولعل فتح قُسْطَنْطِينِيَّة يَكُوْن عَلَى أيدي طائفة منهم كما نطق به الحَدِيث المتقدم ، أنه يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق » قَالَ يوسف الوابل : « ويدل عَلَى أن الروم يسلمون في آخر الزمان حَدِيث أبي هُرَيْرَة الوارد في قتال الروم وفيه أن الروم يقولون للمُسْلِمين « خلَّو بيننا وبين الَّذِينَ سبوا منا نقاتلهم ، فيقول المُسْلِمونَ : لا والله لا نخلّي بينكم وبين اخواننا »فالروم يطلبون من المُسْلِمينَ أن يتركوهم يقاتلون من سُبي منهم ، لأنهم أسلموا فيرفض المُسْلِمونَ ذلك ، ويبنون للروم أن من أسلم منهم فهو من إخواننا لا نسلمه لأحد ، وكون غالب جيش المُسْلِمينَ ممن سبي من الكفار ليس بمستغرب ويؤيد كون هذا الجيش الَّذِيْ يفتح قُسْطَنْطِينِيَّة من بني إسحاق أن جيش الروم يبلغ عددهم قريباً من ألف ألف ، فيقتل بعضهم ، ويسلم بعضهم ويَكُوْن من أسلم مع جيش المُسْلِمينَ الَّذِيْ يفتح القُسطَنطينيَّة.(1/129)
و قَالَ أَحْمَد شاكر رحمة اللَّه : « فتح قُسْطَنْطِينِيَّة المبشر به في الحَدِيث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وهو الفتح الصحيح لها ... وأَمَّا فتح الترك الَّذِيْ كان قبل عصرنا هذا ، فإنه كان تمهيداً للفتح الاعظم ثُمَّ هي قد خرجت بَعْدَ ذلك من أيدي المُسْلِمينَ منذ أن أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية ، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام ، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة ،... وسيعود الفتح الاسلامي لها إن شاء اللَّه كما بشر به الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الفتح ـ للقُسطَنطينيَّة ـ يفتحه الله للمسلمين بدون قتال ، وسلاحهم فيه التكبير والتهليل (1) .
ففتح القُسطَنطينيَّة بدون قتال بسلاح لم يقع إلى الآن (2) .
فعن أنس رضي الله عنه قَالَ : (( فتحُ القُسطَنطينيَّة مع قيام السَّاعَة )) (3) أي : مع قرب قيامها كما قَالَ المباركفوري (4) .
وَقَالَ الحافظ ابن كثير: ( فإن معاوية بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري ، ولكن لم يتفق أن فتحها ، وحاصرها مسلمة بن عبد الملك بن مروان في زمان دولتهم ولم تفتح أيضاً ، ولكن صالحهم عَلَى بناء مسجد بها ) (5)
فتح روما عاصمة إيطاليا
__________
(1) حاشية عمدة التفسير عن ابن كثير : 2 / 256 .
(2) أشراط الساعة : 166 بتصرف .
(3) أَخرَجَه التِّرْمِذيّ في الفتن باب ماجاء في علامات خروج الدجال : 4 / 510 رقم 2239 ، وَقَالَ الألباني في صحيح التِّرْمِذيّ : 2 / 248 ( صحيح الإسناد موقوف ) .
(4) تحفة الإحوذي : 6 / 498 .
(5) النهاية في الفتن والملاحم : 1 / 97 .(1/130)
عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ بينما نحن جلوس حول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكتب اذ سئل رَسُول اللَّه: أي المدينتين تفتح أولاً أقَسطَنطينية أو رومية ؟ فقَال رَسُول اللَّه مدينة هرقل تفتح أولاً يعني قُسْطَنْطِينِيَّة.
فقد بشر الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتح روما مقر الفاتيكان وعاصمة ايطاليا إحدى الدول الصناعية السبع الكبرى واحدى الدول الغنية التي تتمتع بالرفاهية في ظاهرها الا أن الوجه الحقيقي لها يختلف كثيرا عن ذلك فالفساد السياسي والاجتماعي والخلقي وعصابات المافيا بأنواعها وأشكالها تنحز في كل أركان الدولة وزواياها بما يجعل الصورة من الداخل تتجه في حقيقتها الى الفناء والدمار
وروى الحافظ نُعيم في الفتن بإسناد حسن عن أبي يزيد بن شريح عن كعب قَال:في فتح رومية يخرج جيش من المغرب بريح شرقية لا ينكسر لهم مقذاف ، ولا ينقطع حبل ، ولا ينحرف لهم قلع ، ولا ينتقض لهم قرنه ، حتى يرسلوا برومية فيفتحوها قَالَ كعب : عمورية قبل نقية ، ونقية قبل قُسْطَنْطِينِيَّة، وقُسْطَنْطِينِيَّة قبل رومية . قلت : وهذا يؤخذ من أصول الاحاديث الصحيحية في ترتيب الحدثان والوقائع آخر الزمان.
المعركة الفاصلة مع الْيَهُود
عن أبي هُرَيْرَة أنْ رَسُولِ اللهِ ص قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ :يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ (1)
وفي رواية للبخاري أيضًا: تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ » (2)
__________
(1) رواه البُخَارِي .
(2) رواه البُخَارِي ومُسْلِم.(1/131)
وفي رواية لمسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمونَ الْيَهُودَ ، فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» (1)
الجمادات تنطق حقيقة بنداء المُسْلِمينَ ودلالتهم عَلَى الْيَهُود:
قَالَ الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وفي الحَدِيث ظهور الآيات قرب قيام السَّاعَة؛ من كلام الجماد من شجر وحجر، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة، ويحتمل المجاز؛ بأن يَكُوْن المراد أنهم لا يفيدهم الاختباء، والأول أولى".
قلت: بل هو المتعين، ولا ينبغي أن يقال فيه باحتمال المجاز، لا سيما وقد صرح في حَدِيث أبي أمامة بأن الجمادات والدواب تنطق بالدلالة عَلَى الْيَهُود، وهذا ينفي احتمال المجاز، وصرح أيضا في حَدِيث سمرة بأن الجمادات تنادي المُسْلِمينَ وتدلهم عَلَى الْيَهُود، وهذا أيضا ينفي احتمال المجاز، وأيضا فحمل كلام الجمادات وندائها عَلَى المجاز ينفي وجود المعجزة في قتال الْيَهُود في آخر الزمان، ويقتضي التسوية بينهم وبين غيرهم من أصناف الكفار الَّذِينَ قاتلهم المُسْلِمونَ وظهروا عَلَيْهِمْ، إذ لا بد أن يختبئ المختبئ منهم بالأشجار والأحجار، ومع هذا لم يرد في أحد منهم مثل ما ورد في الْيَهُود، فعلم اختصاص قتال الْيَهُود بهذه الآية، وأن الجمادات تنطق حقيقة بنداء المُسْلِمينَ ودلالتهم عَلَى الْيَهُود.
__________
(1) رواه مُسْلِم. قال النووي : (الْغَرْقَد نَوْع مِنْ شَجَر الشَّوْك مَعْرُوف بِبِلَادِ بَيْت الْمَقْدِس ، وَهُنَاكَ يَكُوْن قَتْل الدَّجَّال وَالْيَهُود) وَقَالَ أبو حنيفة الدينوري : "إذا عظمت العوسجة؛ صارت غرقدة".(1/132)
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « و الَّذِيْ نفسي بيده؛ لا تقوم السَّاعَة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده » (1) .
هكذا قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا داعي أن نضرب ونرجم بالغيب بَعْدَ كلام الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، فوالله الَّذِيْ لا إله غيره ما كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، فهكذا قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِيْ أخبر الله تعالى عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (2) .وجاء في رواية أخرى: "عَلَى نهر الأردن، أنتم شرقيُّه، وهم غربيُّه (3) فحين دُوِّنت الكتب من قبل وأُلِّفت، لم يكن لليهود وجود يذكر في فلسطين، ولم يكونوا قريبين من نهر الأردن، لكنهم وجدوا بَعْدَ ذلك خاصة في هذا الزمن. وفي هذا إشارة لولادة أمة الحق المؤمنة بالوعد الحق والمجاهدة في سبيل الحق حتى تقاتل اليهود ومن ورائهم الدجال كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن وأنتم شرقيّ النهر وهم غربيه " (4)
و مِمَّا يجدر التنبه اليه في هذه المعركة :
__________
(1) رواه: الإمام أَحْمَد ، والتِّرْمِذيّ؛ من حَدِيث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وَقَالَ التِّرْمِذيّ : "هذا حَدِيث حسن صحيح غريب".
(2) .النجم:3،4
(3) وهذه راوية إسنادها فيه ضعف يسير، لكن حسنه جماعة من أهل العلم، والواقع يصدقه، ويشهد عَلَى ثبوته.
(4) رواه ابن سعد في الطبقات القسم الثاني 7/ 139 طبعة الشعب عن نهيك بن صريم السكوني بسند متصل كله ثقات ما عدا شيخه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو حافظ مسند تكلم فيه الإمام أحمد لكن وثقه ابن معين وغيره. انظر التفصيل في التهذيب وأصله تهذيب الكمال . فالحديث حسن إن شاء الله .(1/133)
أولاً: هذه المعركة حق، وكل مسلم يصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه أن يؤمن بها، وأن يعلم أنها قادمة لا محالة، عَلَى رغم كل العقبات والظلمات والحواجز؛ فهذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: هذا لا يعني أبدًا القعود وترك الأمر؛ بحجة أن المعركة قادمة، والنصر قادم، لا.. فالنصر ليس هبة للقاعدين والكسالى؛ بل النصر هبة من الله عز وجل للمجاهدين والمضحِّين والصابرين والمرابطين، قَالَ عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (1)
ثالثًا: هذه المعركة لا تعني ألا نهتم بما يجري الآن،ولا نكترث له، ونقول دعهم يفعلون ما يشاؤون؛ لأن الاهتمام بالواقع هو جِبِلّة وطبيعة عند الإنسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان موعودًا بالنصر، حتى إنه في مكة -كما في صحيح البخاري- كان يقول لأصحابه: ((والله ليَتِمَّنَّ هذا الامر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف الا اللَّه أو الذئب عَلَى غنمه، ولكنكم تستعجلون)). (2)
ومع ذلك في معركة بدر، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوة العدو وبأسه وكثرته، وقلة أصحابه، رفع يديه إلى السماء، ودعا الله عز وجل ، وخشع وابتهل، وَقَالَ : "اللهم، إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الْأَرْض" ، فهذه طبيعة الإنسان، أن يهتم بواقعه ويتابعه؛ إذ الاهتمام به جِبِلّة.
__________
(1) آل عمران:200.
(2) رواه البُخَارِي ح (3612).(1/134)
رابعًا: لننظر ماذا يقول القرآن عن خصومنا من الْيَهُود: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) (1) ، ويقول سبحانه: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (2) .
وقد عاش الْيَهُود زمانًا طويلاً تحت ظل البطش والإرهاب في أكثر من بلد، وهم الآن يتحركون بالعقلية ذاتها.. عقلية الْيَهُودِيّ المضطهد، فهي عقلية تبالغ في التخوف من كل شيء، مِمَّا قد يبدو للناس أنه مكر ودهاء.
والواقع أن عقلية الشعور بالاضطهاد تجعل الْيَهُود دائمًا خائفين، حتى وهم متمكنون الآن، فشعور التوتر والقلق وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي يطاردهم.
إن الْيَهُود طائفة محصورة محدودة، غير قابلة للنماء والزيادة؛ لأنهم لا يقبلون انضمام أحد إليهم، وهذه بحد ذاتها معضلة كبرى، خاصة والْيَهُود يواجهون الشعوب الإسلامية وهي تتزايد بشكل غريب جدًّا، وكثافة عددية هائلة لا يقاس بها أي شعب آخر.
فكم يجني أولئك الَّذِينَ يمنحون إسرائيل السلام والاستقرار، وكم يقدمون من خير!
خامسا : نحن نؤمن بأن الانتصار عَلَى الْيَهُود قضاء قدري كوني وشرعي ، حيث ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث . والانتصار النهائي والمعركة الفاصلة ستكون آخر الزمان حين يَكُوْن المُسْلِمونَ تحت راية المسيح عليه السلام وأميرهم المهدي ويَكُوْن الْيَهُود تحت راية المسيح الدجال . ومقتضى الإيمان بهذا النصر أن نعمل بجد ويقين لا أن نتكل ونتخاذل فترك القتال والاستعداد له بحجة أن تلك المعركة الفاصلة لم يحن وقتها خطأ لأمور :
__________
(1) آل عمران:112
(2) الحشر:14(1/135)
1- أن النصوص المبشرة بانتصار المُسْلِمينَ جاء بعضها مطلقاً لا تقييد فيه بكون المعركة بين جيش الإسلام بقيادة المسيح عليه السلام والمهدي وجيش الْيَهُود بقيادة الدجال ، فحمل بعض هذه النصوص عَلَى بعض ليس متعيناً وليس من شرط حدوث الخارق (تكليم الحجر والشجر ) أن يَكُوْن في آخر الزمان فليس عَلَى الله بعزيز أن يَكُوْن في جولة قبل ذلك بل في هذه الجولة .
2-أننا لا نعلم متى تقع المعركة الفاصلة ولا ما مقدماتها ولم نُتعبَّد بانتظارها وإنَّمَا تعبدنا الله بالجهاد والإعداد لليهود وغيرهم .
3-أن عموم الأدلة يدل عَلَى أن المعركة مع الكفر مستمرة دائمة وليس هناك من دليل شرعي أو تاريخي يمنع وقوع معارك أخرى بيننا وبين الْيَهُود قبل المعركة الفاصلة فإن الحرب سجال حتى يأتي الفتح الأعظم ، وهكذا كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش حتى جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
وقد ثبت في الحَدِيث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إلى يوم الْقِيَامَة ، قَالَ : فينزل عيسى ابن مريم ـ عليه السلام - فيقول أميرهم: تعال صَلِّ لنا ، فيقول: لا . إن بعضكم عَلَى بعض أمراء ، تكرمة الله هذه الأمة) . وفي رواية :«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ » (1) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يَكُوْن من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته ، فتتحول هذه الأمنية وقودًا تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله عَلَى منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.
__________
(1) رواه مُسْلِم.(1/136)
فنحن نؤمن بوعد الله الحق وهم يؤمنون بوعد مفترى مكذوب عَلَى الله تعالى والوعدان لا يجتمعان أبدًا . والفرق أننا بحمد الله نستند في وعدنا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائق الواقع
نحن في كل ركعة من صلاتنا نقرأ الفاتحة ونقرأ فيها كلام الله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) فالمغضوب عَلَيْهِمْ هم الْيَهُود ، والضالون هم النَّصَارَى، إذن فنحن في كل ركعة نقرأ ما لازمه ومفهومه أن الوعد الَّذِيْ يزعمه هؤلاء منسوخ وباطل ومفترى ، وإنه إذا كان إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم أعطى وعدًا فإن هذا الوعد هو وعد الله تعالى لهذه الأمة الموحدة . . ويدخل في ذلك كل الآيات والأحاديث المبشرة بظهور الإسلام وتمكينه أما الْيَهُود فوعد الله تعالى فيهم واضح جلى قَالَ تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قَالَ ابن كثير رحمه الله : تأذن : تفعل ، من الأذان ، أي أعلم ، قاله مجاهد ، وَقَالَ غيره : أمر، وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة ولهذا أتبعت باللام في قوله ( لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ) أي عَلَى الْيَهُود (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) ... ثُمَّ فسر ذلك تاريخيا فقال : (( ويقال إن موسى عليه السلام ضرب عَلَيْهِمْ الخراج ..(1/137)
ثُمَّ كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ، ثُمَّ صاروا إلى قهر النَّصَارَى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج ، ثُمَّ جاء الإسلام و مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية )) إلى أن قَالَ : ( قلت : ثُمَّ آخر أمرهم أن يخرجوا أنصارًا للدجال فيقتلهم المُسْلِمونَ مع عيسى ابن مريم عليه السلام وذلك آخر الزمان ).
المهدي عَلَيْهِ السلام
من هو المهدي ؟
هو مُحَمَّد بن عبدالله أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين, من أهل بيت النبوة من ولد السيد الحسن بن علي بن أبي طالب من ولد فاطمة الزهراء بنت سيدنا رَسُول اللَّه (1) .ليس بنبي ولا يدعي النبوة تواترت فيه الأحاديث وأخبرت عنه بأنه خليفة راشد ، ولا يختلف أهل السنة أنه بشر من البشر ليس بنبي ولا معصوم
صفته الخَلقية:
أجلى الجبهة ( أي الَّذِيْ انحسر الشعر عن جبهته ). أقنى الا نف ( أي الَّذِيْ به طول ورقة في أرنبته , مع حدب وسطه ) ,يشبه الرسول في الخُلق ولا يشبهه في الخَلق .
مهمته الدينية :
__________
(1) وأما الامامية فيقولون: هو مُحَمَّد بن الحسن العسكري المنتظر ، من ولد الحسين بن علي ، لا من ولد الحسن ، الحاضر في الامصار الغائب عن الابصار. قال ابن كثير رحمه الله: ويَكُوْن ظهوره من بلاد المشرق – يعني مهدي أهل السنة - لامن سرداب سامرا، كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان فإن هذا نوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان، شديد من الشيطان، إذ لا دليل عَلَى ذلك ولا برهان، لامن كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح ولا استحسان.(1/138)
يبعث عَلَى اختلاف من النَّاس ، وزلازل يملأ الْأرْض قسطا وعدلا بَعْدَ ما ملئت الْأرْض جوراً وظلماً ، مهمته الإصلاح والحكم بالعدل ، والقسط ، والقضاء عَلَى الظلم والجور ، وهدم القوانين الوضعية ، والتشريعات الجاهلية ، بمعاول الحق والحكمة ، ويكافح أهل الخرافات والدجالين الكذابين الذين ابتلوا بالهوس والجنون ، والذين استحكمت فيهم الأمراض النفسانية ، واستحوذ عليهم الشيطان فصدهم عن سواء السبيل , يرضى عنه ساكن السماء وساكن الْأرْض ، يقسم المال صحاحاً بالسوية ويملا اللَّه قلوب أُمَّة مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم غناء ، ويسعهم عدله ويملك سبع سنين وينصر اللَّه به الدين وينصر اللَّه عَلَى يديه المُسْلِمينَ ، وينزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في عهده البركة فلا تحبس السماء شيئاً من قطرها ، ولا تمنع الْأرْض شيئاً من ثُمَّرها. قَالَ في حقه الحافظ ابن كثير : في زمن المهدي تكون الثمار كثيرة والزروع غزيرة، والمال وافر ، والسلطان قاهر ، والدين قائم ، والعدو راغم ، والخير في أيامه دائم .
مما ورد في الصحيحين من الأحاديث مما له تعلق بشأن المهدي :
1-عن أبي هُرَيْرَة أن النبى قَالَ: " كَيْفَ أنتم إذا نزل فيكم عِيسَى ابن مريم وإمامكم منكم" (1)
2-عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي قَالَ : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون عَلَى الحق ظاهرين إلى يوم الْقِيَامَة " ثُمَّ قَالَ : " وينزل عِيسَى ابن مريم فيقول أميرهم – أي لعيسى - : تعال صل لنا فيقول عِيسَى : لا إن بعضكم عَلَى بعض أمراء تكرمة اللَّه لهذه الامة" (2)
__________
(1) رواه البُخَارِي في أحاديث الانبياء (3449) و مُسْلِم في الايمان (155/244).
(2) رواه مُسْلِم في الايمان (156/247) .(1/139)
فهذا مما ورد في الصحيحين ، وإن لم يكن فيها التصريح بلفظ المهدي ، وانما يدل عَلَى صفات رجل صالح يؤم المسلمين في ذلك الوقت . وقد جاءت الاحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لمثل هذه الاحاديث التي في الصحيحين ، ودالة عَلَى أن ذلك الرجل الصالح اسمه محمد ، ويقال له المهدي . والسنة يفسر بعضها بعضاً .
مما ورد في غير الصحيحين حول المهدي عَلَيْهِ السلام:
1-عن أم سلمة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ا أن النبي قَالَ: (المهدي من عترتي من بيت فاطمة ) (1)
2-عن علي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن النبي قَالَ : ( المهدي منا أهل البيت يصلحه اللَّه في ليلة). (2) أي : يعده اللَّه ويهيئه للخلافة الراشدة لقيامة الأمة المُسْلِمة في زمن الفتن والملاحم.
3-عن عبد اللَّه بن مسعود أن النبي قَالَ : " لا تذهب الدُّنْيَا – أو لا تنقضي الدُّنْيَا – حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" (3)
4-عن أبي سعيد الْخُدْرِيِّ أن النبي قَالَ: " لتملأن الْأرْض جوراً وظلماً ، فإذا ملئت جوراً وظلماً يبعث اللَّه رجلا مني اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملأ الْأرْض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السماء شيئا من قطرها ولا الْأرْض شيئا من نباتها فيمكث سبعا أو ثمانية ، فإن أكثر فتسع ، فيمكث فيكم سبعا أو ثمانية فإن أكثر فتسع" (4)
__________
(1) رواه أبو داود في المهدي (4284) وابن ماجة في الفتن (4086) .
(2) رواه أَحْمَد في مسنده وابن ماجة في سننه بسند صحيح من حَدِيث علي رضي الله عنه
(3) رواه أبو داود في المهدي (4282).
(4) رواه الطبراني في الكبير (19/32،33) رقم (68) وابن حبان (6832 إحسان) وفي (1880 موارد) والحاكم (4/557) وصححه ووافقه الذهبي ، و قَال الهيثُمَّي في المجمع (7/314) : رواه البزار من طريق داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه وكلاهما ضعيف .(1/140)
5-عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي قَالَ : " ينزل عِيسَى ابن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا ، فيقول عِيسَى للمهدي : لا إن بعضكم أمير بعض تكرمة اللَّه لأمة مُحَمَّد " (1) " .
وتدبر فإن المهدي يَكُوْن في زمنه عِيسَى ابن مريم ، وإذا نزل عِيسَى ابن مريم يَكُوْن في زمانه الدجال ، فالذي يقتل الدجال عِيسَى ومعه المهدي ، ففي زمن عِيسَى يَكُوْن المهدي وفي زمن المهدي يَكُوْن عِيسَى ، وفي زمن عِيسَى يَكُوْن الدجال ، وفي زمن عِيسَى يخرج يأجوج ومأجوج ، فالعلامات خرزات منظومة في سلك فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً ، كما في حَدِيث أبي هُرَيْرَة أن النبي قَالَ : " العلامات – وفي لفظ الامارات – خرزات منظومات في سلك فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً" (2)
6- عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : أبشركم بالمهدي . يبعث عَلَى اختلاف من الناس ، وزلازل ، فيملا الْأرْض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الْأرْض ، يقسم المال صحاحاً . قال له رجل : ما صحاحاً ؟ قال : بالسوية ، ويملا اللّه قلوب أمة محمد(صلى الله عليه وآله) غناء ، ويسعهم عدله» (3)
__________
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسند صحيح
(2) رواه أَحْمَد (2/219) و قَال محققه : إسناده صحيح . والحاكم (4/546) وصححه ووافقه الذهبي
(3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : «رواه أحمد بأسانيد أبي يعَلَى باختصار كثير» .(1/141)
7-عن أم المؤمنين عائشة قَالت : عبث رَسُول اللَّه يوما في منامه – عبث : أي تحرك حركة عَلَى غير عادته – فقَالت عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهُا رأيتك صنعت شيئا بم تكن تفعله ؟ فقَال النبي: " العجب أن أناسا من أمتي يؤمون البيت الحرام – أي يتوجهون ويقصدون البيت الحرام – لرجل من قريش عائذا بالبيت – أي محتمي بالبيت الحرام – فيخرج إِلَيْهِم جيش حتى إذا كانوا – أي الجيش – بالبيداء – أي الصحراء – خسف به – أي بهذا البيت " قَالت عائشة : فقلت : يا رَسُول اللَّه إن الطريق يجمع النَّاس – يعني في هؤلاء من خرج لقتال المهدي ومنهم من خرج لقضاء مصالحه ، فلماذا يخسف اللَّه به الطريق إن الطريق قد يجمع النَّاس. فقَال النبي : " نعم فيهم المستبصر ، والمجبور ، وابن السبيل يهلكون مهلك واحد ، ويصدرون مصادر شتى يبعثهم اللَّه عَلَى نياتهم" (1) .
وفي لفظ مُسْلِم من حَدِيث أم المؤمنين حفصة أن النبي قَالَ : " سيعوذ بهذا البيت قوم من أمتي ليست لهم عدة ولا عدد ولا منعه مستضعفون ليست لهم عدة ولا عدد ولا منعة يبعث إِلَيْهِم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الْأرْض خسف بهم" (2) وفي لفظ في صحيح مُسْلِم : " ولا يبقى منهم الا الشريد الَّذِيْ يخبر عنهم" (3) .
هذه العلامة إن ظهر المهدي في بيت اللَّه الحرام ويبايعه مجموعة من المُسْلِمينَ لا عدد لهم ولا عدة ولا سلاح إنهم مستضعفون يخرج للمهدي جيش لقتاله والقضاء عَلَيْهِ فينصر اللَّه المهدي نصرا قدريا غيبيا يخسف اللَّه بهذا الجيش الْأرْض ، ولا ينجو من هذا الجيش الا الشريد الا الرجل أو الرجلان .
__________
(1) رواه البُخَارِي في البيوع (2118) و مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2884/8) واللفظ له .
(2) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2883/7).
(3) ... رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2883/6).(1/142)
... إذا ظهرت هذه العلامة عرف المُسْلِمونَ جميعاً عَلَى ظهر الْأرْض أن الرجل العائذ بالبيت هو المهدي عَلَيْهِ السلام ، وينتشر الخبر بسرعة مذهلة في الْأرْض كلها فلا يبقى مُسْلِم قادر يستطيع أن يرحل من بلده أيا كان إلى البيت الحرام الا وسافر حتى يرزقه اللَّه الشهادة أو يرزق اللَّه الامة النصر .
8-عن نافع بن عتبة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن النبي قَالَ : تغزون جزيرة العرب فيفتحها اللَّه ثُمَّ تغزون فارس فيفتحها اللَّه ثُمَّ تغزون الروم فيفتحها اللَّه " ثُمَّ تغزون الدجال فيفتحه اللَّه" (1) وذلك في عهد عِيسَى والمهدي عَلَيْهِ ما السلام.
و قَالَ : " ينزل عِيسَى ابن مريم بين مهرودتين – أي بين ثوبين ممصرين يميل لَوْن الثوبين إلى الصفرة –واضعاً كفيه عَلَى أجنحة ملكين تقطر لحيته كأنه يتوضأ ومازال الماء يقطر من لحيته ينزل عند المنارة البيضاء شرق دمشق" (2)
__________
(1) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2900/38).
(2) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2937).(1/143)
ثُمَّ يتجه بَعْدَ ذلك عِيسَى إلى بيت المقدس فيرى المُسْلِمينَ يصلون وإمامهم المهدي كما بينت الاحاديث الماضية ، فيريد المهدي أن يتأخر ليقدم عِيسَى ابن مريم ليصلى بالمُسْلِمينَ، لأنه نبي فيرفض عِيسَى عَلَيْهِ السلام ويدفع المهدي بين كتفيه ، ويأمره أن يصلى بالمُسْلِمينَ ويَكُوْن إمامكم منكم تكرمة اللَّه لأمة مُحَمَّد ، ويصلى عِيسَى خلف المهدي عَلَى شريعة النبي ‘ فعيسى ينزل ليقتل الخنزير ، وليحطم الصليب ، وليفرض الجزية ، وليدعوا النَّاس جميعا في الْأرْض كلها إلى توحيد اللَّه الواحد الاحد بلا منازع ولا شريك ،ينزل عِيسَى وينتقل مع المهدي لقتال الدجال ، فإذا رأى الدجال عِيسَى ابن مريم يذوب كما يذوب الملح في الماء فيقتل عِيسَى الدجال وهو في طريق عودته يخبره اللَّه جل وعلا أنه قد أخرج يأجوج ومأجوج فيقول له : إني أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم _ أي لا قدرة لأحد عَلَى قتالهم _ فحذر عبادي إلى الطور .
... فيلجأ نبي اللَّه عِيسَى والمؤمنون معه إلى الطور في سيناء ، ويخرج يأجوج ومأجوج فلا يجدون أحداً من أهل الْأرْض يعترض سبيلهم فيفتنون فتنة عمياء فيقولون قولتهم الخبيثة : قهرنا أهل الْأرْض فلنقهر أو فلنعلو أهل السماء ، فيصوبون رماحهم إلى السماء فتزداد فتنتهم حينما يرد اللَّه إِلَيْهِم الرماح وقد خضبت بالدماء فيقولون : قهرنا أهل الْأرْض وعلونا أهل السماء ، فيضرع عِيسَى إلى اللَّه جل وعلا أن يخلص الْأرْض من شرورهم فيرسل اللَّه عَلَيْهِ م النغف . ما النغف ؟ النغف دودة صغيرة حقيرة تخرج في أنف البعير – الجمل – هؤلاء الَّذِينَ يقولون : قهروا أهل الْأرْض وعلوا أهل السماء يرسل اللَّه عَلَيْهِ م النغف فيهلكون ويقتلون كوت نفس واحدة فتمتلئ الْأرْض بزهمهم ونتنهم .(1/144)
... فيضرع عِيسَى إلى اللَّه يطهر الْأرْض ، فيرسل اللَّه عَلَى الْأرْض طيرا كأعناق البخت – والبخت هي الجمال الخرسانية الضخمة في أرض الجزيرة – يرسل اللَّه طيرا كأعناق البخت فتحمل هذه الجثث العفنة إلى حيث شاء اللَّه وقدر ، ثُمَّ يرسل اللَّه مطرا عَلَى الْأرْض فيصهر الْأرْض فتصبح الْأرْض بَعْدَ ذلك كالزلقة أو كالمرآة ، وينزل اللَّه البركة وتعيش البشرية في هذه الفترة فترة لم تنعم بها من قبل حتى تمنى نبينا العيش في هذه الايام فقَال : " طوبى لعيش بَعْدَ المسيح "
... وفي صحيح مُسْلِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن النبي قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه : " لا تقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق" (1)
... والأعماق أو دابق مكان بين سوريا وبين أنطاكية في منطقة بلاد الشَّام . وها نحن نرى ولأول مرة في التاريخ الحَدِيث والقديم نرى جحافل الروم تنزل بهذه الاعداد الغفيرة التي لا مثيل لها في التاريخ كله تنزل إلى الاعماق إلى قلب بلاد الشَّام وستتوالى الاحداث تباعاً ، لأن الَّذِيْ يهيئ الكون كله هو اللَّه جل جلاله ليقع فيه ما أخبر عنه الصادق الَّذِيْ لا ينطق عن الهوى ، إذ أنه لا يتكلم الا بوحي من اللَّه ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ الا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (2)
__________
(1) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2897) .
(2) النجم/1-5(1/145)
... قَالَ من لا ينطق عن الهوى : " لا تقوم السَّاعَة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إِلَيْهِم جيش من أهل المدينة من خير أهل الْأرْض يومئذ – أو هم خير أهل الْأرْض يومئذ – فإذا تصافوا للقتال قَالَ الروم للمُسْلِمين : خلوا بيننا وبين الَّذِينَ سبوا منا نقاتلهم، فيقول المُسْلِمون : لا والله لا نخلى بينكم وبين إخواننا " قَالَ الصادق : " فيقتتلون فينهزم ثلث من المُسْلِمينَ لا يتوب اللَّه عَلَيْهِ م أبدا ، لأنهم ارتدوا – كما في رواية مُسْلِم– فينهزم ثلث لا يتوب اللَّه عَلَيْهِم أبدا ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند اللَّه ويفتح الثلث الاخير" (1) .
__________
(1) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2879)(1/146)
9-عن أسيد بن جابر قَالَ : هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيري الا يا عبد اللَّه بن مسعود يا عبد اللَّه بن مسعود جاءت السَّاعَة جاءت السَّاعَة فكان ابن مسعود متكئاً فقعد جلس – انظروا إلى كلام أهل العلم – و قَالَ ابن مسعود : لا تقوم السَّاعَة حتى لا يقسم ميراث أو يفرح بغنية . ثُمَّ قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وأشار بيده نحو الشَّام و قَالَ : عدوا يجمعون لأهل الاسلام ويجمع لهم أهل الاسلام . قلت : الروم تعني ؟ قَالَ : نعم وتكون عن ذاكم ملك ثاني ردة شديدة وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة فيشترط المُسْلِمون شرطة للموت لا ترجع الا غالباً فيقتتلون حتى يحجز بينهم اللَّيْل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة . قَالَ : حتى إذا كان الْيَوْم الرابع نهذ إِلَيْهِ بقية أهل الاسلام – أي نهضوا وتقدموا – فيقتتلون مقتلة لم ير مثلها ويجعل اللَّه الدائرة عَلَى الروم فيقتتلون مقتلة لم ير مثلها ويجعل اللَّه الدائرة عَلَى الروم حتى إن الطائر ليمر بجنابتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا فيتعادوا بنى الا بي كانوا مائة فلا يجدونه قد بقى منهم الا الرجل الواحد قَالَ : فبأي غنيمة يفرح وأي ميراث يتقاسم ؟ قَالَ : فبينا هم كذلك إذ وقع بهم بأس هو أكبر من ذلك إذ جاءهم الصريخ : إن الدجال قد خلفكم في ذراريكم فيرفضون ما في أيديهم من المال ويبعثون عشرة فوارس طليعة – أي ليتبينوا الخبر – قَالَ رَسُول اللَّه : " والله إني لأعرف أسماءهم وأسماء لآبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس عَلَى ظهر الا رض يومئذ" (1)
__________
(1) رواه مُسْلِم في الفتن وأشراط السَّاعَة (2899/370).(1/147)
... هكذا أيها المُسْلِمون ينصر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ المهدي عَلَيْهِ السلام في كل ملاحمه بتقدير منه سبحانه وتعالى – ويؤيد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ به الدين ويظهر اللَّه الدين عَلَى الدين كله كما وعد اللَّه رَسُوله الصادق الَّذِيْ لا ينطق عن الهوى . قَالَ جل وعلا :( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّه بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (1)
... هذه بعض الاحاديث الصحيحة كما بينت في شأن المهدي عَلَيْهِ السلام ومع كل ذلك خرجت علينا طائفة من أهل الكلام ومن المفكرين ومن المنتسبين إلى العلم وأنكروا المهدى عَلَيْهِ السلام وأوردوا بعض الشبهات (2) .
__________
(1) الصف/8
(2) قَالوا:لم يثبت في شأن المهدي حَدِيث صحيح ورد عَلَيْهِمْ الشوكاني رحمه الله فقَال : لقد وقفنا عَلَى الأَحَادِيث في شأن المهدي التي بلغت خمسين حديثا مِنْهَا الصحيح والحسن والضعيف المجبر ، فكيف يدعي واحد ممن ينتسبون إلى العلم بأنه لم يثبت في شأن المهدي حَدِيث صحيح .
و قَالوا : حتى لَوْ صحت الأَحَادِيث في شأن المهدي فإنها لآحاد ، وأحاديث الاحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة ، ومن ثُمَّ فان أحاديث المهدي ليست متواترة ، وهذا قول مردود لم يقل به واحد من السلف ، لأن لَوْ ثبت للمُسْلِم حَدِيث واحد صحيح عن النبي وجب عليه أن يؤمن بهذا الحَدِيث ، وما سمعنا أن واحدا من الصَّحَابَة حدثه صحابي عن رسول الله بخبر ف قَال له : خبرك خبر آحاد لا آخذ به سواء كان الخبر في أمر العقيدة أم في أمر الاحكام لا نعلم ذلك عَلَى الاطلاق ، وقدعلمناأن المُسْلِمين وهم يصلون أخبرهم صحابي واحد أن النبي حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فاستداروا جميعا من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام ولم يقل واحد منهم : لا ننتظر حتى نتثبت ، خبرك خبر آحاد ليس خبر متواتر ، و الَّذِيْ أخبرهم بحرمة الخمر صحابي واحد وما قَال الصَّحَابَة نتأكد أو نتثبت خبرك خبر آحاد وهكذا .
و قَالوا:أن أحاديث المهدي لم تأت صحيحة في الصحيحين ومن المعلوم أن الأَحَادِيث الصحيحة كلها لم تدون في الصحيحين فقط ، فالالاف مِنْهَا في المسانيد وفي السنن وفي المعاجم وفي دواوين أهل السنة.
و قَالوا : بأن الأَحَادِيث دخلها كثير من الاسرائيليات وهذا حق ، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ قيض للسنة فرسان علم الحَدِيث فبينوا الصحيح من الضعيف والباطل والموضوع وحفظ الله السنة وطهرها من انحراف الغالين وتأويل المبطلين والفاسقين .
و قَالوا: نحتج بحديث يقول : " لا مهدي إِلَّا عيسى " والحَدِيث رواه ابن ماجة بسند ضعيف ، بل قَال الذهبي رحمه الله : حَدِيث منكر ..(1/148)
من أقوال العلماء في المهدي عَلَيْهِ السلام:
1-قال التابعي المشهور محمد بن سيرين رحمه الله ( المهدي من هذه الأمة ، وهو الَّذِيْ يؤم عيسى بن مريم )
2- ... وقال الإمام البربهاري في شرح السنة ( والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام ينزل فيقتل الدجال ...... ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم)
3- وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان ( والمسلمون ينتظرون نزول عيسى بن مريم من السماء ، لكسر الصليب ، وقتل الخنزير ، وقتل أعدائه من اليهود ، وعُبَّادِه من النصارى ، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة ، يملأ الْأرْض عدلاً ، كما ملئت جوراً )
4- وقال البيهقي رحمه الله ( والأحاديث في التنصيص عَلَى خروج المهدي أصح البتة إسناداً )
5- وقال صديق حسن خان ( وأحاديث المهدي بعضها صحيح ، وبعضها حسن وبعضها ضعيف ، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام عَلَى ممر الأعصار )
6- الشيخ محمد السفاريني في كتابه لوامع الانوار البهية . قال : «وقد كثرت بخروجه (يعني المهدي) الروايات ، حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة ، حتى عد من معتقداتهم "» ويقول أيضا : " وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة وعن التابعين من بعدهم ما يفيد بمجموعه العلم القطعي ، فالإيمان بخروج المهدي واجب ، كما هو مقرر عند أهل العلم ، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة ") ( (1) ).
__________
(1) / لوامع الأنوار البهية : ( 2 / 84 ) .(1/149)
7- القاضي محمد بن علي الشوكاني صاحب التفسير المشهور ، ومؤلف نيل الاوطار. قال في كتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح : «فالاحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر ، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة ، بل يصدق وصف المتواتر عَلَى ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الاصول ، وأما الاثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي ، فهي كثيرة جداً ، لها حكم الرفع ; إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك» . وقال في مسألة نزول المسيح(عليه السلام) : «فتقرر أن الاحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة ، والاحاديث الواردة في الدجال متواترة ، والاحاديث الواردة في نزول عيسى(عليه السلام) متواترة» ( (1) ).
8- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " الأحاديث التي يحتج بها عَلَى خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم "( (2) )
9- يقول الحافظ ابن كثير : " فصل في ذكر المهدي الَّذِيْ يكون في آخر الزمان ، وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، وليس بالمنتظر الَّذِيْ تزعم الروافض وترتجي ظهوره من سرداب في سامرا ، فإن ذاك ما لا حقيقة له ولا عين ولا أثر . . . وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه في آخر الدهر ، وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى ابن مريم كما دلت عَلَى ذلك الأحاديث "( (3) )
__________
(1) / التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح . ورقة : ( 4 ، 5 ) .
(2) / منهاج السنة النبوية : ( 4 / 95 ) .
(3) / النهاية في الفتن والملاحم : ( 1 / 49 ) .(1/150)
10- ويقول سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - ما ملخصه : " أمر المهدي معلوم ، والأحاديث فيه مستفيضة ، بل متواترة متعاضدة ، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها ، وتواترها تواتر معنوي ، لكثرة طرقها ، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها ، فهي بحق تدل عَلَى أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق ، وهو محمد بن عبد الله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان ، يخرج فيقيم العدل والحق ، ويمنع الظلم والجور ، وينشر الله به لواء الخير عَلَى الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس .
المسيح الدَّجَّال
لمَ سُمِّي بالمسيح الدَّجَّال ؟
لفظ المسيح من الاضداد ، يُطلق عَلَى الصِّدِّيق والضِّليل ، وسُمِّي المسيح مسيحاً لأنه ممسوحُ العين،قَالَ:(المسيح الدجال ممسوح العين) ( (1) )، وسُمي دجّالاً لأنه يُلبِّس عَلَى النَّاس بما معه من الشبهات ، فالدَّجل تغطية الشيء ، والدجَّال المموِّه الكذاب .
صفة المسيح الدَّجَّال :
__________
(1) / رواه مُسْلِم رقم (2933) ، فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (4316،4317،4318) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن(1/151)
رجل من بني آدم,شعره قَطَطٌ ( (1) )، جُفال ( (2) ) ، وأنه شاب أحمر جسيم ( (3) )، قصير ( (4) ) ، أجلى الجبهة ( (5) )، عريض النَّحر ( (6) )، فيه دَفَأ ( (7) )، أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافئة ( (8) )، وأعور اليسرى ( (9) ) ولكن العور في اليمنى أظهر ، مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي كافر ( (10) ) وفي رواية مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مُسْلِم ( (11) ) ويقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب ( (12) )وهو عقيم لا يولد له. وبين النبي ذلك لئلا يغتر النَّاس به ، وليعلموا إذا خرج عَلَيْهِ م أنه الدجال الَّذِيْ حذر منه ، ومبالغة في الحرص منه عَلَى عدم التباس أمره قَالَ :(( فاعلموا أنه أعور وأن اللَّه ليس بأعور)) ( (13) ).
هل ابن صياد هو المسيح الدجال ؟
__________
(1) / شديد الجُعودة ، والحَدِيث في الصحيحين .
(2) / صحيح مُسْلِم . والجُفال : الغزير الكثير .
(3) / البُخَارِي و مُسْلِم .
(4) / سنن أبي داود .
(5) / الجلا : انحسار الشعر عن مقدمة الرأس .
(6) / أعَلَى الصدر .
(7) / مسند أَحْمَد . والدفأ : الانحناء .
(8) / بارزة ، والحَدِيث في الصحيحين .
(9) / صحيح مُسْلِم .
(10) / رواه مُسْلِم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه .
(11) / رواه مُسْلِم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 - 3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
(12) / رواه مُسْلِم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه ، وأبو داود رقم (3416 :3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
(13) / رواه البخارى رقم (7127) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، و مُسْلِم رقم (169) فى الايمان ، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال ، وأبو داود واللفظ له رقم (4757) فى السنة ، باب فى الدجال ، والترمذى رقم (2236،2242) فى الفتن ، باب ما جاء فى علامة الدجال .(1/152)
وقد اختلف علماؤنا رحمهم اللَّه في ابن صياد الَّذِيْ قابله النبي هل هو المسيح الدجال ؟ ولعلَّ في التوقف في أمره اقتداءً بالنبي ، فإنه قَالَ لعمر بن الخطاب لما أراد قتله – وكان عمر يرى أنه الدجال - :(إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) ( (1) ). ونحن نقول : سواء أكان ابن صياد هو المسيح الدجال أم لم يكن فلاشكّ في خروجه آخر الزمان كما أخبر بذلك رَسُولنا .
من أين يخرج الدجال ؟
يخرج الدجال من جهة المشرق ، قَالَ النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَال لَهَا خُرَاسَانُ)) ( (2) )، و قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُود عَلَيْهِ مْ التِّيجَانُ) ( (3) ).وإنه يخرج من خلّة بين الشَّام والعراق.
من علامات خروجه:
عن أبي أمامة الباهلي قَالَ خطبنا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قَالَ ... ( وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد ، يصيب النَّاس فيها جوع شديد ، يأمر اللَّه السماء في السنة الاولى أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الْأرْض فتحبس ثلث نباتها ، ثُمَّ يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الْأرْض فتحبس ثلثي نباتها ، ثُمَّ يأمر اللَّه السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ، ويأمرالْأرْض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء ، فلا تبقى ذات ظلف الا هلكت الا ما شاء اللَّه . قيل : فما يعيش النَّاس في ذلك الزمان ؟ قَالَ : التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ، ويجرى ذلك عَلَيْهِ م مجرى الطعام ) ( (4) )
__________
(1) / البُخَارِي و مُسْلِم .
(2) / أَحْمَد والتِّرْمِذيّ وابن ماجه .
(3) / أَحْمَد .
(4) / ابن ماجه(1/153)
وعن أبي هُرَيْرَة أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( سمعتم بمدينة جانب مِنْهَا في البر وجانب مِنْهَا في البحر ؟ قَالوا : نعم يا رَسُول اللَّه . قَالَ : لا تقوم السَّاعَة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحق ، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قَالوا : لا إله الا اللَّه والله أكبر فيسقط أحد جانبيها ، ثُمَّ يقولوا الثانية : لا إله الا اللَّه والله أكبر فيسقط جانبها الاخر ، ثُمَّ يقولوا الثالثة : لا إله الااللَّه والله أكبر ، فيفرج لهم فيدخلوها ، فيغنموا ، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ فقَال : إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون ) ( (1) ) .
وعن الصعب بن جثامة سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول :( لا يخرج الدجال حتى يذهل النَّاس عن ذكره ، وحتى تترك الا ئمة ذكره عَلَى المنابر) ( (2) ) .
و عن عبد اللَّه بن عمر قَالَ : كنا قعوداً عند رَسُول اللَّه فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الاحلاس فقَالَ قائل : يا رَسُول اللَّه وما فتنة الا حلاس ؟ قَال هي هرب وحرب ، ثُمَّ فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني وإنَّمَا أوليائي المتقون ، ثُمَّ يصطلح النَّاس عَلَى رجل كورك عَلَى ضلع ، ثُمَّ فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الامة الا لطمته لطمة ، فإذا قيل انقضت تمادت ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، حتى يصير النَّاس إلى فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده ) ( (3) ).
__________
(1) / مُسْلِم
(2) / أَحْمَد
(3) / أبو داود(1/154)
يخرج الدجال و يعيث في الارض فساداً ، و يجري اللَّه عَلَى يديه الخوارق ، عن حذيفة سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : (يخرج الدجال وإن معه ماءً وناراً، فما يراه النَّاس ماءً فهي نار تحرق وما يراه النَّاس نارا فهو ماء بارد عذب) ( (1) )
فمن أتباعه ؟
أتباعه الْيَهُود .قَالَ رسول الله :( يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ) ( (2) ) ، وكثير من أتباعه من النساء ، يقول نبينا في ذلك :( يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاةَ ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ ) ( (3) ).
المناطق التي يدخلها :
و يدخل الدجال كل البلاد الا أربعة : عن رجل من الانصار قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أنذرتكم المسيح ... لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول والمسجد الاقصى والطور .. ) ( (4) ).
عن أبي هُرَيْرَة أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يأتي المسيح من قبل المشرق همته المدينة ، حتى ينزل دُبر أحد ، ثُمَّ تصرف الملائكة وجهه قبل الشَّام ، وهنالك يهلك ) ( (5) ).
فتنة الدجال
لم تكن فتنة عَلَى وجه الْأرْض منذ ذرأ اللَّه ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال.
وإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث نبياً الا حذّر أمته الدجال. إنه يبدأ فيقول: أنا نبي، ولا نبي بعدي. ثُمَّ يثني فيقول: أنا ربكم. ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه يبرئ الاكمه والأبرص.
فتنة الدجال:
__________
(1) / رواه مُسْلِم رقم (2934 ، 2935 ) فى الفتن ، باب ذكر الدجال .
(2) / مُسْلِم .
(3) / أَحْمَد .
(4) / أَحْمَد
(5) / مُسْلِم(1/155)
إنَّ فتنة الدجال لا عاصم مِنْهَا الا اللَّه ، لما معه من الشبهات والأمور العظام .
1-للدجال جنة ونار :
يقول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى جُفَالُ الشَّعَرِ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ) ( (1) )، و قَالَ:( مَعَه – أي الدجال- نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ ، أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ ، وَالْآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ ) ( (2) ).
2-يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ :
ومن فتنته أن يأمر الْأرْض فتخرج كنوزها ، ويمر عَلَى القوم يؤمنون به فيأمر السماء فتمطر و الْأَرْض فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمدّه خواصر، وأدرّه ضروعاً.
،
__________
(1) / مُسْلِم .
(2) / رواه البخارى رقم (7130) فى الفتن ، باب ذكر الدجال ، و مُسْلِم رقم (2934،2935) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4315) فى الملاحم ، باب خروج الدجال .(1/156)
ويمر عَلَى من يردون قوله ويكذبون حديثه فيصيبهم القحط ؛ ابتلاء واختباراً من اللَّه تعالى . يقول النبي :((... فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِ مْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ . ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ)) ( (1) ).
3- يحيي شابا بَعْدَ قتله :
ومن فتنته ما جاء في خبر الصادق المصدق المصدوق :(( ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ )) ( (2) ). ولهذه الفتن العظام ما من نبيٍّ الا وأنذر أمته الدَّجال.
4- بعث والدين بَعْدَ الممات :
وإن من فتنته؛ أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك؛ أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني! اتّبعه؛ فإنه ربك.
أمام هذه الفتنة يفر النَّاس من الدجال : عن أم شريك أنها سمعت النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : ( ليفرنّ النَّاس من الدجال في الجبال . قَالت أم شريك : يا رَسُول اللَّه فأين العرب يومئذ ؟ قَالَ : هم قليل ) ( (3) ).
__________
(1) / مُسْلِم .
(2) / مُسْلِم .
(3) / مُسْلِم(1/157)
كثير ممن تخرج في المدرسة العقلانية أنكر هذه الاحاديث بحجة أن العقل لا يقبلها !! وتالله إن عقلاً لا يقبل ذلك فهو عقل عليل قاصر ، وإن التصديق بهذه الاخبار الثابتة دليل عَلَى صحة تصور أصحابها ، ورجاحة عقولهم ، واتساع أفقهم ، وخصوبة مداركهم ؛ ذلك لأنهم أدركوا : أنَّ اللَّه عَلَى كل شيء قدير ، وأنَّ رَسُول اللَّه لا ينطق عن الهوى . وفي الخبر :(الا وَإِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالدَّجَّالِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِقَوْمٍ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَمَا امْتَحَشُوا) ( (1) ). فعَلَى المُسْلِم أن يختار أقوم الطريقين ، وأحسن السبيلين . أعني سبيل التصديق والإيمان عوضاً عن التكذيب والنكران .
كم يلبث المسيح الدجال في الْأَرْض ؟
__________
(1) / أَحْمَد .(1/158)
سؤال سأله الصَّحَابَة للنبي فكانت الاجابة ((أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، يَوْمٌ كَسَنَةٍ ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ)) فقَالوا : يَا رَسُول اللَّه فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ ؟ قَالَ :((لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)) ( (1) ). وهذا الحَدِيث يدل عَلَى كمال تصديق الصَّحَابَة لنبينا ، ولولا هذا السؤال منهم والإجابة عَلَيْهِ لأنكره كثير من المفكرين والمنظرين ، كأني بهم وقتذاك يقولون : هذا دليل عَلَى الشدة والكرب ! وأن أول يوم من ظهوره يشق أمره تمر الساعات بطيئةً حتى يَكُوْن الْيَوْم كسنة !! ولكن اللَّه سلَّم بطرح هذا السؤال والإجابة عَلَيْهِ . فهو يوم تطلع الشمس فيه ولا تغرب الا بَعْدَ أربعين وستمائة و ثُمَّانية الاف ساعة . ولذا سأل الصَّحَابَة : أتكفي صلاة يوم واحد ؟ فبين أنه لابد في كل أربع وعشرين ساعة خمس صلوات . وهكذا التقدير في اليومين اللذين كشهر وأسبوع .
فكيف يتقي المُسْلِم هذه الفتنة ؟
تُتقى بأمور :
الأول : بتصحيح المعتقد في اللَّه . فمن علم أسماء اللَّه وصفاته علم أنه ليس بأعور والدجال أعور ، بل هو منزه عن كل عيب و نقص ، له الاسماء الحسنى ، و الصفات العلا ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ( (2) )وعلم أن اللَّه تعالى لا يأكل ولا يشرب والدجال يأكل ويشرب ، و الدجال يراه النَّاس في الدُّنْيَا ، أما اللَّه رب العالمين فلا يُرى الا يوم الْقِيَامَة .
__________
(1) / رواه مُسْلِم رقم (2937) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه ، وأبو داود رقم (4321، 4322) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2241) فى الفتن ، باب ما جاء فى فتنة الدجال .
(2) / الشورى:11(1/159)
الثاني : بالاستقامة عَلَى دين اللَّه وسلوك سبيل الصالحين ، فإن النبي قَالَ :(إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِم) ( (1) ). أي : والله يتولى المُسْلِم ، والمُسْلِم الَّذِيْ يحظى بحفظ اللَّه هو الصالح ، قَالَ تعالى : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ( (2) ) . وقد ثبت في سنن ابن ماجه أنَّ شاباً صالحاً لا يقدر الدجال عَلَى زعزعة إيمانه بشبهاته ،قَالَ:((وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا وَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ ثُمَّ يَقُولَ : انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا، فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الا نَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي . فَيَبْعَثُهُ اللَّه وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّه ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّه ، أَنْتَ الدَّجَّالُ ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ)) إن الايمان إذا تمكن من القلب لهو أرسخ فيها من رسوخ الجبال في الْأرْض .فالواجب الثبات عَلَى الدين ، و التمسّك بالحق : ففي حَدِيث النواس بن سمعان عن النبي صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلم قَالَ: ( إنه خارج خلة بين الشَّام والعراق ، فعاث يميناً وعاث شمالاً ، يا عباد اللَّه فاثبتوا ) ( (3) ) .
__________
(1) / مُسْلِم .
(2) / الاعراف (196) .
(3) / مُسْلِم(1/160)
الثالث : أن يُتعوَّذ بالله بَعْدَ التشهد في الصلاة من فتنته ، قَالَ :( إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ، يَقُولُ : اللَّهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) ( (1) ).
الرابع : حفظ عشر آيات من أول الكهف . فمن ابتلي بناره؛ فليستغث بالله، وليقرأ فواتح (الكهف). فتكون عَلَيْهِ برداً وسلاماً ؛ كما كانت النار عَلَى إِبْرَاهِيم. لقول النبي:((مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ)) وفي راوية (مِنْ أَوَّلِ) وفي راوية ((من آخر)) ( (2) ) ، و قَالَ :(من أدركه فليقرأ عَلَيْهِ فواتح سورة الكهف)) ( (3) )، وحري بالمُسْلِم أن يحفظ هذه السورة كلها ويرددها كل جمعة ؛ لقول النبي :((إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) ( (4) ).
__________
(1) / البُخَارِي و مُسْلِم .
(2) / رواه مُسْلِم رقم (809) فى صلاة المسافرين ، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى ، وأبو داود رقم (4323) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2888) فى ثواب القرآن .
(3) / مُسْلِم .
(4) / الحاكم .(1/161)
الخامس : الفرار منه ؛ لقول النبي :(مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ) ( (1) )و أفضل ذلك أن يسكن الانسان في مكة أو المدينة ، وإنه لا يبقى شيء من الْأرْض الا وطئه وظهر عَلَيْهِ ؛ الا مكة والمدينة. لا يأتيهما من نقب من نقابهما الا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة. حتى ينزل عند الضريب الاحمر عند منقطع السبخة. فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة الا خرج إِلَيْهِ. فتنفي الخبث مِنْهَا كما ينفي الكير خبث الحديد. ويدعى ذلك الْيَوْم يوم الخلاص.
عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( ليس من بلد الا سيطؤه الدجال الا مكة والمدينة ، ليس له من نقابها نقب الا عَلَيْهِ الملائكة صافين يحرسونها ، ثُمَّ ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج اللَّه كل كافر ومنافق ) ( (2) ) .
هلاك الدجال:
__________
(1) / أَحْمَد وأبو داود .
(2) / متفق عَلَيْهِ(1/162)
وأَمَّا هلاك الدجال فعَلَى يد عِيسَى ابن مريم عَلَيْهِ السلام عند باب لد ، فإذا قُتل خنس أتباعه من الْيَهُود ، فاختبئوا وراء الحجر والشجر فيُنطق اللَّه الحجر والشجر . قَالَ :(( فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ- أي إلى عِيسَى - ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا ، وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ ، فَيَقْتُلُهُ ، فَيَهْزِمُ اللَّه الْيَهُود فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّه يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ الا أَنْطَقَ اللَّه ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ ، الا الْغَرْقَدَةَ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ ، الا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّه الْ مُسْلِم هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ)) ( (1) ).عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ .. فَقَالَ : ( ... فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، فَعَاثَ يَمِينًا وَ عَاثَ شِمَالاً ، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا ... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ ، فَلا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إلاّ مَاتَ وَ نَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ ... )
__________
(1) / مُسْلِم و أَحْمَد وابن ماجه .(1/163)
( (1) ). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ هِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ وَ هُنَالِكَ يَهْلِكُ ) ( (2) ) .
عن أبي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الإِيمَانُ يَمَانٍ ، وَالْكُفْرُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَإِنَّ السَّكِينَةَ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ، وَإِنَّ الرِّيَاءَ وَالْفَخْرَ فِي أَهْلِ الْفَدَّادِينَ : أَهْلِ الْوَبَرِ وَأَهْلِ الْخَيْلِ ، وَيَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، وَهِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ ، حَتَّى إِذَا جَاءَ دُبُرَ أُحُدٍ تَلَقَّتْهُ الْمَلائِكَةُ ، فَضَرَبَتْ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ ، هُنَالِكَ يَهْلَكُ .. هُنَالِكَ يَهْلَكُ ) ( (3) ).
__________
(1) / رواه مسلم
(2) / رواه مسلم
(3) / الإمام أَحْمَد (2/457)وأَخرَجَه مسلم (9/153. نووى ) ، وأبو يعَلَى (6459) ، وأبو نعيم (( المسند المستخرج )) (4/47/3194) ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء به مقتصراً عَلَى ذكر المسيح .و أَخرَجَه الترمذى (2243) ، وابن حبان (5774) كلاهما عن الداروردى عن العلاء به تاماً .(1/164)
عن أبي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَة حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ ، فَيَقُولُ المُسْلِمونَ : لا وَاللَّهِ لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا ، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ ؛ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ : إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ ؛ إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّهُمْ ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ ) ( (1) ).
__________
(1) / الإمام مسلم (( كتاب الفتن ))(18/22:20. نووى ) و أَخرَجَه الحاكم (4/529) ، والدانى (( السنن الواردة فى الفتن ))(598) كلاهما من طريق معَلَى ابن منصور عن سليمان بن بلال به .(1/165)
عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال : ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِنَا ، فَسَأَلْنَاهُ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، قَالَ : غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، إِنَّهُ شَابٌّ جَعْدٌ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِيَةٌ . وَقَصَّ الحَدِيث إلى أنْ قَالَ : (( فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ ، إِذْ بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ، فَيَتْبَعُهُ فَيُدْرِكُهُ فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ الشَّرْقِيِّ )) ( (1) ) ، ثُمَّ ذكر بقية الحَدِيث .
نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام
فإنَّ من أشراط السَّاعَة الكبرى نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام ، ولا إيمان لمن لم يؤمن بذلك ؛ لتواتر النقل عن رَسُول اللَّه به .
__________
(1) / الإمام أَحْمَد (4/181) قال أبو مُحَمَّد : هذا حَدِيث صحيح ، بل أصح حَدِيث للشاميين فى الدجال .(1/166)
في الليلة التي عُرِج فيها بالنبي رأى عِيسَى عَلَيْهِ السلام فنعته لأمته ، فجاء في نعته أنه رجل رَبْعةٌ ( (1) ) ، عريض الصدر ( (2) ) ، آدم ( (3) )، أحمر ( (4) ) . ولا منافاة بين الروايتين ، فعيسى عَلَيْهِ السلام أسمر وفي سمرته حمرة . وهو جَعد ( (5) )، وشعره لِمَّةٌ ( (6) ) .
وقد دلَّت ثلاث آيات عَلَى نزوله قبل قيام السَّاعَة .
الآية الاولى : قوله تعالى :( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُول اللَّه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ الا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزَّ يزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِ مْ شَهِيدًا ( ( (7) ) .
__________
(1) / البُخَارِي و مُسْلِم . والرَّبْعَةُ : معتدل الطول ليس بالطويل ولا بالقصير .
(2) / صحيح البُخَارِي .
(3) / البُخَارِي و مُسْلِم . والآدم الاسمر .
(4) / البُخَارِي .
(5) / يُطلق الجعد ويراد به المدح والذم ، فإن أريد به مدح فهو من اخشوشن شعره ، أو المجتمع بعضه إلى بعض وهذا هو المراد من الحَدِيث ، ومنه قول طرفه : أنا الرجل الجعد الَّذِيْ تعرفونه . وإن أريد به ذم فهو اللئيم أو البخيل .
(6) / اللِمَّة من استرسل شعره إلى شحمة أذنيه ، فإن بلغ منكبيه فهو جُمَّةٌ .
(7) / النساء (157-159) .(1/167)
يقول العلامة ابن كثير رحمه اللَّه :" والضمير في قوله )قبل موته( عائد عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السلام، أي : وإن من أهل الكتاب الا ليؤمنن بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الْأرْض قبل يوم الْقِيَامَة ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزيةَ ولا يقبل الا الاسلام " ( (1) ). فيضع الجزية لأنهم يدخلون في الا سلام .
والضمير في قوله تعالى :( الا ليؤمنن به قبل موته) راجع لعيسى عَلَيْهِ السلام كما قَال ابن كثير ، ويؤيد هذا ما يلي :
1. هذا هو الظاهر وبه تنسجم الايات ( (2) ).
2. عَلَى هذا القول يَكُوْن مُفَسَّرُ الضمير ملفوظاً به ، وإذا اخترنا غير ذلك احتاج الكلام إلى تقدير ، وحمل الكلام عَلَى ما لا يحتاج إلى تقدير هو الا صل((2)).
3. الأحاديث التي تبين نزوله آخر الزمان.
4. هذا قول الاكثرين . قَال الحافظ في الفتح ( (3) ) :" وبهذا جزم ابن عَبَّاس فيما رواه بن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد صحيح ، ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قَال : قبل موت عِيسَى ، والله إنه الا ن لحي ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون . ونقله عن أكثر أهل العلم ، ورجحه ابن جرير وغيره".
الدليل الثاني من القرآن :
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم (1/367) .
(2) / راجع لزاماً أضواء البيان (7/129-138) .
(3) / الحافظ في الفتح (6/492) .(1/168)
قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَ قَالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ الا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ الا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الا رْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ( (1) ) . لعِلْم : أي نزوله علامة من علامات السَّاعَة ، قَال ابن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ما :" { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } قَال : هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ( (2) ). و قَال القرطبي رحمه اللَّه :" وقرأ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَة و قتادة و مالك بن دينار و الضحاك : وإنه لعَلَمٌ للساعة ، بفتح العين واللام . أي : أمارة " ( (3) ).
وأَمَّا الدليل القرآني الثالث :
فقوله تعالى عن عِيسَى - صلى الله عليه وسلم - : { وَيُكَلِّمُ النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ } ( (4) ). وقد ذُكر لنا كلامُه في مهده: { ? قَال إِنِّي عَبْدُ اللَّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } ( (5) ).
__________
(1) / الزخرف (57-61) .
(2) / أَحْمَد .
(3) / تفسير القرطبي (16/91) .
(4) / آل عمران (46) .
(5) / مريم (30-33) .(1/169)
وأَمَّا كلامه حال كهولته فعندما ينزل آخر الزمان . فقد أورد الطبري عن ابن زيد رحمه اللَّه :" قد كلمهم عِيسَى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل" ( (1) )، ونقل البغوي عن الحسين بن الفضل في تأويل قوله تعالى: { وكهلاً } قَال :" بَعْدَ نزوله من السماء" ( (2) )، و قَال البيضاوي : " وكهلاً : بَعْدَ نزوله " ( (3) ) ، ونقل ذلك ابن الجوزي عن ابن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ما ( (4) ) .
وأَمَّاالأدلة من السنة النَّبوية فأكثر من أن تحصر في هذا المقام ، ولكني أذكر مِنْهَا ما يلي :
1-عن أبي هُرَيْرَة قَال : قَال رَسُول اللَّه:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) . قَال أَبُو هُرَيْرَة : وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِ مْ شَهِيدًا } ( (5) ) . فبين النبي في هذا الحَدِيث أنه ينزل آخر الزمان ، فيسود العدل ، ويدعو إلى الاسلام. وقد فسر أبو هُرَيْرَة الاية بنزول عِيسَى آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب به ؛ لأنه لا يقبل الا الاسلام .
2- عن أبي هُرَيْرَة قَال : قَال رَسُول اللَّه :((كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ)) ( (6) ).
__________
(1) / جامع البيان (3/270) .
(2) / تفسير البغوي ، ص (38) .
(3) / أنوار التنزيل ، ص (40) .
(4) / انظر زاد المسير (1/390) .
(5) / البُخَارِي ومُسْلِم .
(6) / البُخَارِي ومُسْلِم .(1/170)
3-قَال رَسُول اللَّه:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا)) ( (1) ).
4-حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَال : اطَّلَعَ النَّبِيُّ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ ، فَقَال :((مَا تَذَاكَرُونَ)) ؟ قَالوا : نَذْكُرُالسَّاعَة . قَال :((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ : الدُّخَانَ ، وَالدَّجَّالَ ، وَالدَّابَّةَ ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ : خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاس إِلَى مَحْشَرِهِمْ)) ( (2) ).
5-قوله :(( عِصَابَتَانِ مِنْ أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّه مِنْ النَّارِ : عِصَابَةٌ تَغْزُو الْهِنْدَ ، وَعِصَابَةٌ تَكُونُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ مَا السَّلَام)) ( (3) ).
6-قوله :((لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ - يَعْنِي عِيسَى - وَإِنَّهُ نَازِلٌ)) ( (4) ).
فكيف لإنسانٍ يؤمن بالله أن ينكر هذه الأحاديث .. الا لا إيمان لمن أنكر هذه الأحاديث ، وسأورد من كلام علمائنا رحمهم اللَّه ما يدل لذلك .
إنَّ أحاديث نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام بلغت حدَّ التواتر ( (5) )، وهذه أقوال بعض علمائنا رحمهم اللَّه التي تدل لذلك :
__________
(1) / البُخَارِي ومُسْلِم .
(2) / مُسْلِم .
(3) / أَحْمَد والنَّسَائيّ .
(4) / أبو داود .
(5) / الحَدِيث المتواتر ما رواه جمع غفير عن جمع غفير من مبدأ إِلَّا سناد إلى منتهاه بحيث تُحيل العادة تواطأهم عَلَى الكذب .(1/171)
قَال الامام الطبري رحمه اللَّه – بَعْدَ ذكر الخلاف في مسألة وفاة عِيسَى - :" وأولى هذه الا قوال بالصحة عندنا قول من قَال : معنى ذلك : إني قابضك من الا رض ورافعك إلي لتواتر الا خبار عن رَسُول اللَّه أنه قَال : ((ينزل عِيسَى ابن مريم فيقتل الدجال)) " ( (1) ) .
وقَال الحافظ ابن كثير رحمه اللَّه :" وقد تواترت الا حاديث عن رَسُول اللَّه أنه أخبر بنزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام قبل يوم الْقِيَامَة إماماً عادلاً ، وحكماً مقسطاً " ( (2) ) .
وقَال العلامة صديق حسن خان بَعْدَما أورد أحاديث نزوله عَلَيْهِ السلام :" جميع ما سقناه بالغ حدَّ التواتر كما لا يخفى عَلَى من له فضل اطِّلاع " ( (3) ) .
وللشيخ العلامة مُحَمَّد أنور شاه الكشميري كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) .
وقَال الغُماري :" تواتر هذا – أي : أحاديث نزول عِيسَى - تواتراً لا شكَّ فيه ، بحيث لا يصح أن ينكره الا الجهلة الا غبياء ؛ كالقاديانية ومن نحا نحوَهم " ( (4) ).
وقَال في عون المعبود :" تواترت الا خبار عن النبي في نزول عِيسَى بن مريم من السماء بجسده العنصري إلى الا رض عند قرب السَّاعَة ، وهذا هو مذهب أهل السنة " ( (5) ) .
وقَال العلامةأَحْمَد مُحَمَّد شاكر رحمه اللَّه :" نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام في آخر الزمان مِمَّا لم يختلف فيه ال مُسْلِمون ، لَوْ رود الا خبار الصحاح عن النبي بذلك ، وهذا معلوم من الدين بالضرورة ، لا يُؤمِنُ من أنكره " ( (6) ). ماذا تقول يا إمام ؟ لم يختلف فيه المُسْلِمونَ ! إذاً فمن أنكر ذلك فليبحث عن موضعٍ لقدميه ؛ فإنه ليس ب مُسْلِم .
__________
(1) / جامع البيان (3/287) .
(2) / تفسير القرآن العظيم (4/167) .
(3) / الاذاعة لما كان وما يَكُوْن بين يدي السَّاعَة ، ص (160) .
(4) / عقيدة أهل الاسلام في نزول عيسى عليه السلام ، ص (5) .
(5) / عون المعبود (11/307) .
(6) / حاشية تفسير الطبري (6/460) .(1/172)
وقَال الشيخ الالباني رحمه اللَّه :" اعلم أن أحاديث الدجال ونزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام متواترة يجب الا يمان بها"( (1) ) .
بيَّن نبينا الصفة التي ينزل عَلَيْهِا عِيسَى عَلَيْهِ السلام بقوله :((يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ ( (2) ) كَاللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ ( (3) ) لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ الا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ)) ( (4) ).
فما هي الوظائف التي يقوم بها عَلَيْهِ السلام إذا نزل ؟
1-يدعو عَلَيْهِ السلام إلى دين الاسلام . وهذا معنى قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } .
2- وقوله:(ويضع الجزية) أي : لا يقبل من أهل الكتاب الا الاسلام .
3-يكسر الصليب إبطالاً لعقائد النَّصَارَى .
4-يقتل الخنزير .
5-يحكم بالعدل .
وقد مضت الادلة عَلَى ذلك ، ومن الادلة قوله:(( لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا ، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهِا ، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ)) ( (5) ) .
__________
(1) / حاشية شرح الطحاوية .
(2) / الجُمَانُ : حبَّات الفضة . تشبيهاً لقطرات الماء التي تنحدر منه .
(3) / لا يمكن .
(4) / صحيح مُسْلِم .
(5) / صحيح مُسْلِم .(1/173)
6-يقتل المسيح الدجال عند لد ، فإنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السلام يطلبه ، ويلحقه بباب لد ، فإذا رآه الدجال ذاب ، فيطعنه عَلَيْهِ السلام برمحه .يدعو اللَّه أن يخلِّص النَّاس من شر يأجوج ومأجوج .الحج أو العمرة أو يجمع بينهما ؛ لقول النبي:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا)) ( (1) ).
فما هي الحكمة من نزوله عَلَيْهِ السلام ؟
ذكر أهل العلم ثلاث حكم لذلك :
الأولى : إبطال عقيدة التثليث والصلب بكسر الصليب ودعوته للإسلام .
الثانية : إبطال دعوى الْيَهُود أنهم قتلوه ، وإبطال دينهم بدعوته للإسلام ، فينزل ويقتل زعيمهم الدجَّال .
الثالثة : لأن اللَّه تعالى قضى أنَّ كلَّ مخلوقٍ لابد أن يُدفن في الا رض ، قَال تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } ( (2) ).
فما حال النَّاس إذا نزل فيهم عِيسَى عَلَيْهِ السلام ؟
__________
(1) / صحيح مُسْلِم .
(2) / طه (55) .(1/174)
الجواب يأتيك من نبيك إذ يقول :(ثُمَّ يُقَال – بَعْدَ هلاك يأجوج ومأجوج- لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي ثمرتك ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ . فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا ، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنْ الا بِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنْ النَّاس ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنْ النَّاس ، وَاللِّقْحَةَ مِنْ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنْ النَّاس)) ( (1) ) . و قَال - صلى الله عليه وسلم - :(( وَيُهْلِكُ اللَّه فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ، وَتَقَعُ الا مَنَةُ عَلَى الا رْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الا سُودُ مَعَ الا بِلِ ، وَالنِّمَارُ مَعَ الْبَقَرِ ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا تَضُرُّهُمْ )) ( (2) ).
كم يمكث عِيسَى بَعْدَ نزوله ؟
ثبت في صحيح الامام مُسْلِم أنَّ نبينا بين أن مكثه سبع سنين ، وفي مسند الامام أَحْمَد:((فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمونَ)) ، ولا يمكن أن يقع تعارض في حَدِيث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقول : لما رُفع عِيسَى عَلَيْهِ السلام كان له من العمر ثلاث وثلاثون سنة ، ثُمَّ ينزل فيمكث سبع سنين ، فتكون جملة السنوات التي مكثها أربعين سنة .
لقد أنكرت شرذمة من الجهلة نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام ، واستدلوا بأمور :
الشبهة الاولى : استدلالهم بقول اللَّه تعالى : { إِذْ قَال اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ( (3) ).والجواب من وجوه :
هذه الاية فيها ثلاثة أقوال .
__________
(1) / صحيح مُسْلِم .
(2) / مسند الامام أَحْمَد .
(3) / آل عمران (55) .(1/175)
الأول : متوفيك أي منيمك ؛ لأن النوم وفاة ، قَال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ( (1) ) ، فالنوم وفاة . و قَال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } ( (2) )، أي : بالنوم .
الثاني : { متوفيك } أي قابضك ، قَال الامام الطبري :" و قَال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الا رض فرافعك إليَّ ، قَالوا : ومعنى الوفاة القبض . كما يقَال : توفيتُ من فلانٍ ما لي عَلَيْهِ بمعنى : قبضته واستوفيته . قَالوا : فمعنى قوله : { إني متوفيك ورافعك } أي : قابضك من الا رض حياً إلى جواري، وآخذك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك " ( (3) ) .
الثالث : متوفيك مميتك ، فمعنى الاية عَلَى ذلك : رافعك ، ومتوفيك بَعْدَ نزولك ؛ لأن الواو لا تفيد الرتبة . قَال ابن هشام في شرح قطر الندى وبلِّ الصدى :" أجمع النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين أن الواو تفيد الجمع ولا تفيد الترتيب " . فتكون الوفاة بَعْدَ نزوله . قَال الا مام الطبري :" و قَال آخرون : معنى ذلك : إذ قَال اللَّه يا عِيسَى إني رافعك إلي ومطهرك من الَّذِينَ كفروا ومتوفيك بَعْدَ إنزالي إياك إلى الدُّنْيَا " ( (4) ) . و قَال القرطبي رحمه اللَّه :" و قَال جماعة من أهل المعاني منهم الضحاك والفراء في قوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إلي } عَلَى التقديم والتأخير ؛ لأن الواو لا توجب الرتبة . والمعنى : إني رافعك إلي ، ومطهرك من الَّذِينَ كفروا ، ومتوفيك بَعْدَ أن تنزل من السماء . كقوله : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى } ، والتقدير : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً " ( (5) ).
__________
(1) / الزمر (42) .
(2) / الانعام (60) .
(3) / الجامع لأحكام القرآن (3/287) .
(4) / الجامع لأحكام القرآن(3/287)
(5) / الجامع لأحكام القرآن (4/100) .(1/176)
ولو ( (1) ) سلَّمنا جدلاً – ولا نسلم بذلك أبداً - أن عِيسَى مات ، وثبتت النصوص بأنه سينزل ، فما الَّذِيْ يمنع من إحياء اللَّه له لينزل إلى الْأرْض . وقد ذكر اللَّه عدداً من مخلوقاته أماتهم ثُمَّ أحياهم في الدُّنْيَا الحياة التي نعيشها ، كقتيل بني إسرائيل ، وطير إِبْرَاهِيم ، والَّذِينَ خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الْمَوْت ، و الَّذِيْ مر عَلَى قرية وهي خاوية ومعه حماره قَال : أنى يحيي هذه اللَّه بَعْدَ موتها .
والأظهر أنَّ المراد هو القول الثاني .
الشبهة الثانية :الاستدلال بقوله تعالى : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم } ( (2) ). قَال الامام الطبري :" فلما قبضتني إليك" ( (3) ) .
الشبهة الثالثة : استدلالهم بحديث النبي:((لا نَبِيَّ بَعْدِي)) ( (4) ).
والجواب من وجوه :
الأول : أن عِيسَى سينزل حكماً وداعياً إلى دين الاسلام ، وليس ناسخاً لدين الا سلام .
__________
(1) / (لو) هنا افتراضية محضة ، كالتي في قوله تعالى : { لَوْ كان فيهما آلهة إِلَّا الله لفسدتا } .
(2) / المائدة (117) .
(3) / الجامع لأحكام القرآن (5/139) .
(4) / البُخَارِي و مُسْلِم .(1/177)
الثاني:قَال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُول مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَال أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالواْ أَقْرَرْنَا قَال فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } ( (1) ). قَال ابن كثير رحمه اللَّه :" يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عَلَيْهِ السلام إلى عِيسَى عَلَيْهِ السلام لمهما آتى اللَّه أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثُمَّ جاءه رَسُول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته " ( (2) ). فلا مانع إذاً من أن يأتي رَسُول بَعْدَ رَسُولنا مصدقاً به وإلا لكان الكلام معيباً .
الثالث : جمع اللَّه الانبياء للنبي وصلى بهم عند بيت المقدس فهل ننكر ذلك أيضاً ؟!!
الشبهة الرابعة : قَالوا : أحاديث نزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام ضعيفة مردودة !!
والجواب :
وليس يَصِحُّ في الا ذهان شيء إذا احتاج النَّهَار إلى دليل
يقول الثعالبي رحمه اللَّه :" وأجمعت الامةُ عَلَى ما تضمنه الحَدِيث المتواتر من أن عِيسَى عَلَيْهِ السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجَّال ، ويفيض العدل ، ويُظهر هذه الملة ملةَ مُحَمَّد ، ويحج البيت ويعتمر " ( (3) ) . ولم ينكرها الا شرذمةٌ لا يُعتدُّ بخلافهم ولا يُفرح بوفاقهم ، وهم بعض المعتزلة والجهمية ( (4) ).
خروج يأجوج ومأجوج
__________
(1) / آل عمران (81) .
(2) / تفسير القرآن العظيم (1/502) .
(3) / تفسير الثعالبي (1/272) .
(4) / راجع شرح النووي عَلَى مُسْلِم (18/278) .(1/178)
لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!! والكثير من هذه الأخبار والروايات أُخِذَت من الإسرائيليات.من غير المصادر اليقينية كالقرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا يجوز لأحدٍ بحال أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
من هم يأجوج ومأجوج ؟
يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام يتميزان عن بقية البشر بالاجتياح المروع والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب والإفساد في الْأَرْض بصورة لم يسبق لها مثيل.
وَقَالَ المحققون من أهل اللغة نقلا عن ابن منظور في لسان العرب وغيره قالوا :
يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة .فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الْأَرْض .
بعث النار:(1/179)
ففي الصحيحين من حَدِيث أبى سعيد الْخُدْرِيِّ قال النبي (( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا آدَمُ . فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ . فَيَقُولُ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ . فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )) . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ؟ قَالَ :((أَبْشِرُوا ؛ فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا)) (1) . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :(( إن يأجوج ومأجوج يموت منهم الرجل وأقل ما يدع من ذريته ألفا أو يزيدون)) (2)
وجلَّى نبينا - صلى الله عليه وسلم - صفاتهم بقوله :(( إِنَّكُمْ تَقُولُونَ لَا عَدُوَّ، وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ تُقَاتِلُونَ عَدُوًّا حَتَّى يَأْتِيَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، شُهْبُ الشِّعَافِ (3) ، مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ (4) )) (5)
ذو القرنين ويأجوج ومأجوج:
__________
(1) / البُخَارِي ومُسْلِم .
(2) / سنن النَّسَائيّ الكبرى والمعجم الأوسط ، وضعفه الألباني .
(3) / الشهبة : سواد وبياض ، والشعاف هنا : الشعور .
(4) / المجان التِّراس ، المطرقة : طرق الشيء الشيء أي : تراكم عليه . و الَّذِيْ فهمته من الحَدِيث : كثرة تجاعيد وجوههم حتى إن لحمها بعضه عَلَى بعض .
(5) / مسند أَحْمَد .(1/180)
لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن ألا وهي سورة الكهف قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) (1)
__________
(1) / الكهف:83-98].(1/181)
ذو القرنين عبد صالح اختلف أهل التفسير في نبوته لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك.
والقصة تبدأ بسؤال المشركين للنبي المصطفى ويأتي الجواب من الله جل وعلا: "قل" يا مُحَمَّد ، وكلمة "قل" يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة قل التلقينيه أي القصة ليست من عند رسول الله بل هي وحي من عند الله جل وعلا: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا : كلمة " منه " التبعيضية: أي سأتلوا عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا فلنقف عند ما ورد في القرآن وما ثبت في حَدِيث النبي عليه الصلاة والسلام: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض : تدبر ... فمن الَّذِيْ مَكَّنَ لذي القرنين؟
فالتمكين إن نقبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصل في القلوب قاعدة إيمانية .
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ). أخذ بهذه الأسباب والوسائل للتمكين والنصر والفتح والظهور .
وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . أعطاه من الأسباب ما يستطيع أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقا وغربا .
يبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب .(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) .
ومن المعلوم أنه ليس للشمس مشرقاً واحداً ولا مغرباً واحداً بل لها عدة مشارق ومغارب .(1/182)
(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) .فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم، فقال كما ذكر في كتاب ربنا: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا). وأَمَّا من ظلم نفسه بالشرك وعدم اتباعي فسوف أعذبه وله عند الله العذاب العظيم، أما من اتبعني وآمن بما جئت به ووحد الله واستقام عَلَى منهج الله فله الحسنى وهى الجنة، أما من ناحيتي فسنقول له يسرا .
ثُمَّ انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ). لا يحمى هؤلاء الناس والقوم شيء عَلَى الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.
( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) : أي علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.
وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا:(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) والسدين: الجبلين العظيمين .(وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) .
لا يعرفون لغة ذي القرنين أو لا يستطيعون أن ينفتحوا عَلَى غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون عَلَى أنفسهم، تعرضوا إلى أشد الهجمات وأعنف الضربات عَلَى يدي يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل توسلوا إليه وانطلقوا وقوفا بين يديه وَقَالوا: ( يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ).(1/183)
هؤلاء القوم يقولون لذي القرنين هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد عَلَى أن تبنى لنا سدا منيعا يحمينا من يأجوج ومأجوج .فرد عَلَيْهِمْ بزهد وورع وَقَالَ : قَالَ (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ).لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغنانى به عن مالكم ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم ولكن!
(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا). أي قال بلغة العصر: التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد ولإقامة هذا المشروع، سنتكفل نحن بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال، في حاجة إلى عمالة يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل.
وبدأ ذو القرنين المهندس البارع وأمر بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع . (ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) : أي اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد حتى ساوت قمة الجبلين قال: انفخوا النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، اشتعلت النيران تحت هذا الحديد بين السدين في مكان ضيق، يريد أن يسد عَلَى يأجوج ومأجوج الطريق الَّذِيْ ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة عَلَى أمرها .فأشعل النيران حتى انصهر الحديد وذاب بين السدين أي بين الجبلين، فأمر ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر .فلما انصهر النحاس أمرهم بصب النحاس عَلَى الحديد فتخلل النحاس الحديد فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً ليزداد صلابة وقوة فلا تستطع يدى يأجوج ومأجوج أن تتسلقه أو أن تنقبه .(1/184)
وبذلك يَكُوْن ذو القرنين قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس فلما ساوى بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس ليبين لنا سمات القيادة الفذة الناجحة التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط .التي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.
لم يقل: إنَّمَا أوتيته عَلَى علم عندي!! وإنَّمَا نسب الفضل لصاحب الفضل جل وعلا فقال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
درس عظيم .. هذا رحمة من ربي ثُمَّ بين للحضور معتقده الصافي في الإيمان بالبعث والإيمان بيوم الْقِيَامَة فقال لهم إن الَّذِيْ أمر ببناء هذا السد هو الله، وأن الَّذِيْ أمر بحجز يأجوج ومأجوج هو الله، وأن الَّذِيْ سيأذن لهم بالخروج هو الله، وحتما سيأتي يوم عَلَى هذا السد المنيع ليجعله الله عز وجل دكاء أي ليسويه بالأرض وذلك لا يَكُوْن إلا بين يدي السَّاعَة كما سيسوى جبال الْأَرْض كلها بالأرض .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا .
هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم الْقِيَامَة وعلامته الكبرى حين يأذن الحق تبارك وتعالى ليأجوج ومأجوج في الخروج حينئذ يستطيعون أن ينفذوا هذا السد ويخرجوا .
خروجهم بين يدي السَّاعَة:(1/185)
وفي السنة بيان أنَّ سدهم فُتح زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحة كالحلقة ، فعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ :((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ)) وحلق بالإبهام والسبابة (1) . ولكنهم لن يخرجوا إلا في آخر الزمان بَعْدَ نزول عيسى عليه السلام ؛ فعَنْ أَبِي رَافِعٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّدِّ قَالَ :((يَحْفِرُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَخْرِقُونَهُ قَالَ الَّذِيْ عَلَيْهِمْ : ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مُدَّتَهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ قَالَ الَّذِيْ عَلَيْهِمْ : ارْجِعُوا فَسَتَخْرِقُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَاسْتَثْنَى، فَيَرْجِعُونَ فَيَجِدُونَهُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَخْرِقُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ)) (2) .
بعض صور فسادهم
__________
(1) / البُخَارِي ومُسْلِم .
(2) / التِّرْمِذيّ وابن ماجه، وصححه الألباني .(1/186)
وقد بُين لنا بعض صور فسادهم ، ففي مسلم :(( يَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ – قوم يأجوج ومأجوج- عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ)) ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :(( يَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ فَيَقُولُونَ : قَهَرْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ؛ قَسْوَةً وَعُلُوًّا)) (1) .
هلاك يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
__________
(1) / التِّرْمِذيّ وابن ماجه، وصححه الألباني .(1/187)
وأَمَّاهلاكهم فقد ثبت أنه لا يد لأحد في قتالهم، فيدعو عَلَيْهِمْ نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، قال - صلى الله عليه وسلم - :(( أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ... فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ (1) فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ)) (2) .
لا يد لأحد في قتالهم ، ويَكُوْن موتهم بالنَّغف ! { ?لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (3) .
ظهور الدخان
من علامات الساعة وأشراطها العظمى ظهور دخان قبل قيام الساعة والأدلة عَلَى ذلك من الكتاب والسنة :
__________
(1) / الدود الَّذِيْ يَكُوْن في أُنوف الإبل والغنم .
(2) / مُسْلِم .
(3) / الطلاق (12) .(1/188)
قال تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } (1) ، وقد جنح عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - إلى أنَّها آية قد وقعت زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال :" مَضَى خَمْسٌ : الدُّخَانُ وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ " (2) ، وَقَالَ في الآية :" إِنَّمَا كَانَ هَذَا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } " (3) .
وذهب كثير من العلماء سلفا وخلفا إلى أن الدخان هو من الآيات المنتظرة التي لم تأت بَعْدَ ، وسيقع قرب يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب علي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم وغيرهم ، وكثير من التابعين .وقد رجح الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هذا .
__________
(1) / الدخان (10) .
(2) / البُخَارِي ومُسْلِم .
(3) / البُخَارِي ومُسْلِم .(1/189)
وذهب ابن عباس - رضي الله عنه - إلى أنَّها لم تقع ، ففي تفسير الطبري (1) عن عبد الله بن أبي مليكة قال " : غدوت عَلَى ابن عباس ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ؟ قلت : لم ؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يَكُوْن الدخان (2) قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت" . وَقَالَ ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما هو دخان قبل قيام السَّاعَة يدخل أسماع الكفار والمنافقين ويعتري المؤمن كهيئة الزكام. أخرج مسلم من حَدِيث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال: ((وما تذاكرون؟ قالوا:السَّاعَة يا رسول الله، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات. فذكر مِنْهَا الدخان)) (3) .
وقد ذهب بعض العلماء (4) إلى الجمع بين هذه الآثار بأن قالوا هما دخانان ظهر أحدهما وبقي الآخر الَّذِيْ سيقع في آخر الزمان ، فأما الآية الأولى التي ظهرت فهي ما كانت قريش تراه كهيئة الدخان ، وهذا الدخان غير الدخان الحقيقي الَّذِيْ يكون عند ظهور الآيات التي هي من أشراط الساعة .
قال القرطبي رحمه الله: قال مجاهد : كان ابن مسعود يقول : " هما دخانان قد مضى أحدهما ، و الَّذِيْ بقي يملأ ما بين السماء والْأرْض ولا يجد المؤمن إلا كالزكمة ، وأما الكافر فتثقب مسامعه " (5)
__________
(1) / (25/113) .
(2) / الَّذِيْ وقفت عليه في مستدرك الحاكم (4/506) : الدجال بدلاً عن الدخان ، فالله أعلم .
(3) / رواه مسلم
(4) / انظر : التذكرة القرطبي ( 655 ) ، وشرح صحيح مسلم ( 18 / 27 ) .
(5) / التذكرة ( 655 ) .(1/190)
وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله : " وبعد فإنه غير منكر أن يكون أحل بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم ، ويكون محلا فيما يستأنف بَعْدَ بآخرين دخانا عَلَى ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك ؛ لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن ، فإنه قد كان ما روى عنه عبد الله بن مسعود ، فكلا الخبرين اللذين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح " (1)
وقال النووي رحمه الله تعالى : ويحتمل أنهما دخانان للجمع بين هذه الآثار " (2)
الخسوف الثلاثة
من العلامات الكبرى التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحدوثها في آخر الزمان الخسوفات الثلاثة :
1-عن حذيفة بن أسيد قال : اطَّلَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ :((مَا تَذَاكَرُونَ )) ؟ قَالُوا : نَذْكُرُالسَّاعَة . قَالَ :((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيات وذكر منها : َثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ)) (3) . والخسفُ : انشقاق الأرض, قال تعالى حكاية عن قارون: (فَخَسفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ) (4) .
2-حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : « سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب " ، قلت : يا رسول الله أيخسف بالأرض وفيها الصالحون ؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أكثر أهلها الخبث » (5)
__________
(1) / تفسير الطبري ( 25 / 114 - 115 ) .
(2) / شرح صحيح مسلم للنووي ( 18 / 28 ) .
(3) / صحيح مُسْلِم .
(4) / القصص:81
(5) / أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ( 4 / 74 ) وقال الهيثمي في المجمع ( 8 / 11 ) : رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه حكيم بن نافع ، وثقه ابن معين وضعفه غيره ، وبقية رجاله ثقات .(1/191)
الخسف الأول بالمشرق: فيقع خسف بالمشرق على شرار الخلق بعد أن قبض الله أرواح المؤمنين. الخسف الثانى بالمغرب والخسف الثالث بجزيرة العرب.
فهذه الخسوفات الثلاثة من الأشراط الكبرى التي لا تظهر إلا في آخر الزمان ، وهي غير الخسوفات التي وقعت في الماضي وفي أماكن متعددة ؛ لأن هذه من أشراط الساعة الصغرى ، أما هذه الخسوفات الثلاثة فهي خسوفات عظيمة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وقد وجد الخسف في مواضع ، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرا زائدا عَلَى ما وجد ، كأن يكون أعظم منه مكانا أو قدرا " (1)
طلوع الشمس من مغربها
__________
(1) / فتح الباري ( 13 / 84 ) .(1/192)
وهي من الآيات التي حدثنا عنها القرآن الكريم ، يقول سبحانه وتعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } (1) . وقد فسَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك بطلوع الشمس من المغرب فعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا :((أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ))؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ :((إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا : ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ. فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ، الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا : ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ. فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا :ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ. فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا. أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ ؟ ذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } )) (2) .
__________
(1) / الأنعام (158) .
(2) / رواه البخارى رقم (4802) ، فى تفسير سورة يس ، وفى بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر ، ومسلم رقم (159) ، فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان ، والترمذى رقم (3225) ،فى التفسير ، باب ومن سورة يس .(1/193)
وفي رواية ابن مردويه بسند حسن بالشواهد من حديث عبد الله بن أبى أوفى أن الصادق المصدوق قال: ((يأتى على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالٍ من لياليكم، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام فيفزعون إلى المساجد فإذا هم يرون الشمس قد طلعت من مغربها)) (1)
وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنه قال: ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض)) (2)
أيها الحبيب أذكر نفسى وأذكرك بالمبادرة بالتوبة والأوبة إلى الله عز وجل قبل أن يغلق الله باب التوبة علينا.
فإن المصطفى يقول والحديث رواه أحمد بسند صحيح قال: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل)) (3)
قال المصطفى: كما فى صحيح مسلم من حديث أبى موسى الأشعرى: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) (4)
__________
(1) / رواه ابن مردويه بسند حسن .
(2) / رواه مسلم رقم (158) ، فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان ، والترمذى رقم (3074) ، فى التفسير ، باب ومن سورة الأنعام .
(3) / رواه أبو داود ، فى البيعة ، باب ذكر الاختلاف ، وصححه الألبانى ، فى الإرواء (1208) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (7469) .
(4) / رواه مسلم رقم (2760) ، فى التوبة ، باب غيرة الله تعالى ، وهو فى صحيح الجامع رقم (1871) .(1/194)
قال القرطبي رحمه الله: "قال العُلَماء: وإنَّمَا لاينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو الْقِيَامَة في حال من حضرة الْمَوْت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الْمَوْت". إن طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة يَكُوْن متتالياً وربما كما قال بعض العُلَماء يَكُوْن في يوم واحد، وهو الْيَوْم الَّذِيْ تطلع الشمس فيه من المغرب تخرج الدابة فيه عَلَى الناس. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا)) (1) . ولا يبقى بَعْدَ ذلك إلاّ النار التي تخرج من قعر عدن لتحشر الناس إلى محشرهم وبَعْدَها تقوم السَّاعَة.
خروج دابة الْأَرْض
خروج دابة الْأَرْض التي نطق بها القرآن الكريم، يقول تعالى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ } (2) . عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن معنى تكلمهم : تجرحهم ، بمعنى تكتب عَلَى جبين الكافر كافرا ، وعَلَى جبين المؤمن مؤمنا . وروي عنه أيضا بمعنى تخاطبهم .
__________
(1) / رواه مسلم
(2) / النمل (82) .(1/195)
قال الحافظ ابن كثير : " هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق . يخرج الله لهم دابة من الْأرْض فتكلم الناس عَلَى ذلك " (1)
وقال الألوسي: " أي تكلمهم بأنهم لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ)). (3) .
وهذه الدابة لا يليق بالمسلم أن يبحث عن أمور لم ترد في الكتاب ولا في السنة ، كصفتها ، وفصيلتها ، ونحو ذلك ... فنؤمن بأنها دابة من خلق الله تكلم الناس ونسكت عما سُكت عنه .
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : " والآية صريحة بالقول العربي أنها ( دابة ) ، ومعنى الدابة في لغة العرب معروف واضح ، لا يحتاج إلى تأويل ، وقد بين الحديث بعض فعلها ، ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج هذه الدابة الآية ، وأنها تخرج آخر الزمان ، ووردت آثار أخر في صفتها لم تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه والمبين آيات كتابه ، فلا علينا أن ندعها (4) .
__________
(1) / انظر : تفسير ابن كثير ( 3 / 351 ) .
(2) / انظر : روح المعاني ( 6 / 314 ) .
(3) / رواه مسلم.
(4) / انظر : مسند الإمام أحمد بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر ( 15 / 82 ) .(1/196)
يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : " وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة ، كما تكاثرت بذلك الأحاديث ولم يذكر الله ورسوله كيفية هذه الدابة ، وإنَّمَا ذكر أثرها والمقصود منها ، وأنها من آيات الله تكلم الناس كلاما خارقا للعادة حين يقع القول عَلَى الناس ، وحين يمترون بآيات الله فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين وحجة عَلَى المعاندين " (1)
عمل الدابة :
ويتلخص عمل الدابة في الأمور التالية :
1- أنها دابة تكلم الناس . وتقول : إنَّ الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، هذا عَلَى قراءة من فتح همزة (إنَّ) ، وأَمَّا عَلَى قراءة من كسر همزة (إنَّ) فيكون كلامها غير مبين في الآية لأن الجملة استئنافيةً . ولكن القراءات يفسر بعضها بعضاً . ولذا قرأ أبي - رضي الله عنه - (تنبئهم) .
2 - أنها تسم المؤمن بعلامة وتجلو وجهه حتى ينير .
3 - أنها تسم الكافر بعلامة قيل : هي خطم الأنف .قال ابن الأثير : يعني تصيبه فتجعل له أثرا مثل أثر الخطام . قال رسول الله:((تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام ، فَتَخْطِمُ الْكَافِرَ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا)) (2) . وقرأ ابن عباس (تَكْلَمُهم) .
مكان خروج الدابة:
اختلف العلماء في مكان خروج الدابة إلى عدة أقوال منها:
1-أنها تخرج من جبل الصفا أو من المسجد الحرام بمكة المكرمة . ومما يدل عَلَى خروجها من أعظم المساجد ، ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن أسيد - أراه رفعه - قال : « تخرج الدابة من أعظم المساجد ، فبينا هم إذ دبت الْأرْض فبينا هم كذلك إذ تصدعت » (3)
__________
(1) / تفسير ابن سعدي ( 5 / 603 ) .
(2) / المسند للإمام أَحْمَد .
(3) / أخرجه الطبراني في الأوسط ( 2 / 176 ) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 8 / 8 ) : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات .(1/197)
2- القول الثاني : أن لها خرجات ، الأولى من أقصى البادية ، ثم تختفي ، ثم تخرج من بعض أودية تهامة ، ويصدق عليها أنه من وراء مكة ، وفي المرة الأخيرة تخرج من مكة . وهذا القول الأخير هو الَّذِيْ يجمع بين الأقوال في خروجها .
خروج نار من اليمن
آخر الآيات الكبرى والعلامات العظمى لأشراط الساعة وأول الآيات المؤذنة بقيام القيامة خروج نار من اليمن تحشر الناس إلى محشرهم .
الأدلة عَلَى خروجها:
1-حَدِيث حذيفة بن أسيد قال : اطَّلَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ . فَقَالَ :((مَا تَذَاكَرُونَ )) ؟ قَالُوا : نَذْكُرُالسَّاعَة . قَالَ :((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ ... وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ )) (1) .
2-حديث حذيفة بن أسيد في ذكر أشراط الساعة وآخره قوله صلى الله عليه وسلم : « وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم » ، وفي رواية : « نار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس » (2)
3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس » (3)
__________
(1) / صحيح مُسْلِم .
(2) / أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الفتن وأشراط الساعة ( 4 / 2225 ، 2226 ) .
(3) / أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 7 / 133 ) برقم ( 5146 ) بتحقيق أحمد شاكر ، وقال عنه : إسناده صحيح . والترمذي : كتاب الفتن ( 4 / 431 ) ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وقد صححه الألباني . انظر : صحيح الجامع ( 3 / 203 ) .(1/198)
4- حديث أنس رضي الله عنه : « أن عبد الله بن سلام لما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل ومنها : ما أول أشراط الساعة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب » (1)
الجمع بين الأحاديث الواردة في مكانها :
الجمع بين ما جاء أن هذه النار هي آخر أشراط الساعة الكبرى وما جاء أنها أول أشراطها بأن يقال : إن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات الواردة معها في حديث حذيفة ، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بَعْدَها من أمور الدنيا أصلا ، بل يقع بانتهاء هذه الآيات النفخ في الصور بخلاف ما ذكر معها من الآيات الواردة في حديث حذيفة ، فإنه يبقى بَعْدَ كل آية منها أشياء من أمور الدنيا (2)
أما ما جاء في بعض الروايات بأن خروجها يكون من اليمن ، وفي بعضها الآخر أنها تحشر الناس من المشرق إلى المغرب فيجاب عن ذلك بأجوبة :
1 - أنه يمكن الجمع بين هذه الروايات بأن كون النار تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب ، وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن فإذا خرجت انتشرت في الْأرْض كلها ، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم : « تحشر الناس من المشرق إلى المغرب » إرادة تعميم الحشر لا خصوص المشرق والمغرب .
2 - أن النار عندما تنتشر يكون حشرها لأهل المشرق أولا ، ويؤيد ذلك أن ابتداء الفتن دائما من المشرق ، وأما جعل الغاية المغرب فلأن الشام بالنسبة إلى أهل المشرق مغرب .
__________
(1) / أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب أحاديث الأنبياء ( 6 / 417 - 418 ) .
(2) / انظر : فتح الباري ( 13 / 86 ) .(1/199)
3 - يحتمل أن تكون النار المذكورة في حديث أنس كناية عن الفتن المنتشرة التي أثارت الشر العظيم والتهبت كما تلتهب النار ، وكان ابتداؤها من قبل المشرق حتى خرب معظمه وانحشر الناس من جهة المشرق إلى الشام ومصر وهما من جهة الغرب ، كما شوهد ذلك مرارا في عهد التتر والمغول وغيرهم ، وأما النار التي في حديثي حذيفة بن أسيد وابن عمر فهي نار حقيقية ، والله أعلم (1)
ويحشر الناس عَلَى ثلاثة طرق ، يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - :((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ (2) طَرَائِقَ : رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ (وفي طريق : راكبين) (3) ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا)) (4) . وفي رواية (5) :((يَكُوْن لها ما سقط منهم)) .وفي المسند – لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يحشر ماشياً – سئل، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : هَذَانِ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَا بَالُ الَّذِينَ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ ؟ فقَالَ :((يُلْقِي اللَّه الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ حَتَّى لَا يَبْقَى ظَهْرٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ الْمُعْجِبَةُ فَيُعْطِيهَا بِالشَّارِفِ (6) ذَاتِ الْقَتَبِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا))
مكان الحشر:
__________
(1) / انظر : فتح الباري ( 13 / 86 ) .
(2) / يجوز ثلاث وثلاثة لجواز التأنيث والتذكير في (طريق) .
(3) / مسند الإمام أَحْمَد .
(4) / أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الرقاق ( 7 / 194 ) ، مسلم في صحيحه : كتاب الجنة وصفة نعيمها ( 4 / 2194 ) .
(5) / للطبراني في الكبير والأوسط .
(6) / الناقة المسنة .(1/200)
وهذا الحشر سيكون بالشام ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشَّام :((ها هنا تُحشرون)) (1) . عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : تُحْشَرُونَ هَا هُنَا وَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَحْوِ الشَّامِ (2) حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنكم محشورون رجالا وركبانا ، وتجرون عَلَى وجوهكم ها هنا ، وأومأ بيده إلى الشام » (3)
وهذا الحشر يَكُوْن في الدنيا ؛ فإنَّ الناس يُحشرون في الْآخِرَة حفاةً عراةً غرلاً بهماً ، أما في هذا الحشر فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يَكُوْن ممن يُحشر صاحب الحديقة المعجبة ، وأن بعض الناس يُحشرون راكبين ، وهذا لا يَكُوْن في حشر الْآخِرَة، وهذا مِمَّا لا ينبغي أن يُنازع فيه .قال ابن حجر رحمه الله :" ومن أين يَكُوْن للذين يبعثون بَعْدَ الْمَوْت عراة حفاة حدائق حتى يدفعوها في الشوارف " (4) .
__________
(1) / مسند الإمام أَحْمَد .
(2) / مسند الإمام أَحْمَد .
(3) / أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 5 / 3 ) ، والترمذي في كتاب صفة القيامة ( 4 / 532 ) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(4) / فتح الباري (11/382) .(1/201)
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستخرج نار من حضرموت قبل الْقِيَامَة تحشر الناس، فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام)) (1) . ويَكُوْن حشر الناس عَلَى ثلاثة أفواج: فوج راغبون طاعمون كاسون راكبون وفوج يمشون تارة ويركبون أخرى يعتقبون عَلَى البعير الواحد كما ثبت في الصحيحين: اثنان عَلَى بعير وثلاثة عَلَى بعير وعشرة عَلَى بعير. وذلك من قلة الظهر يومئذٍ. والفوج الثالث تحشرهم النار فتحيط بهم من ورائهم وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر تقيل معهم النار حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا ومن تخلف أكلته النار. و الْأَرْض التي تحشر النار الناس إليها هي أرض الشَّام .و عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الشَّام أرض المحشر والمنشر)) (2) . وعند الامام أَحْمَد عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ)) (3) .
__________
(1) / رواه التِّرْمِذيّ بسند صحيح
(2) / أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 6 / 463 ) ، وابن ماجه : كتاب إقامة الصلاة ( 1 / 450 ) ، وأخرجه الربعي في فضائل الشام ( 4 ) ، وصححه الألباني في تخريجه له .
(3) / رواه الإمام أَحْمَد(1/202)
والسبب في كون أرض الشَّام هي أرض المحشر هو أنه عندما تقع الفتن في آخر الزمان تكون أرض الشَّام هي محل الأمن والأمان. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ)) (1) .وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة فقال : « اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا » (2) وقد تقدم أن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يَكُوْن بالشام وبه يَكُوْن اجتماع المؤمنين لقتال الدجال. وهناك يقتله المسيح عليه السلام بباب لد ، هذا بالإضافة إلى أن أرض الشام مهبط الأنبياء ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم . (3)
زمان الحشر:
__________
(1) / رواه الإمام أَحْمَد بسند صحيح
(2) / أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الفتن : ( 8 / 95 ) .
(3) / للحافظ الربعي كتاب قيم بهذا الشأن سماه ( فصائل الشام ) جمع فيه الأحاديث الواردة في فضل الشام ، وقد شرحه العلامة القاسمي ، وطبع بتحقيق وتخريج العلامة الشيخ الألباني بالمكتب الإسلامي فليراجع .(1/203)
إن هذا الحشر للناس ليس هو حشر الْآخِرَة، وإنَّمَا هذا حشر يَكُوْن في الدنيا كما ذهب جماهير العلماء (1) ، وأَمَّا الحشر الآخر الَّذِيْ يَكُوْن يوم الْقِيَامَة فبعد بعث الناس من القبور. قال ابن كثير رحمه الله: فهذه السياقات تدل عَلَى أن هذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الْأَرْض إلى محل الحشر وهي أرض الشَّام. وهذا كله مِمَّا يدل عَلَى أن هذا في آخر الزمان حيث الأكل والشرب والركوب عَلَى الظهر المُشترى وغيره وحيث تُهلك المتخلفين منهم النار ولو كان هذا بَعْدَ نفخة البعث لم يبق موت ولا ظهر يُشترى ولا أكل ولا شرب ولا لبس في العرصات. قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : " فأما شرار الخلق فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجمع الناس كلهم بالشام قبل قيام الساعة " (2)
استحلال البيت الحرام وهدم الكعبة
عن عبد اللَّه بن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال يوم فتح مكة :( إن هذا البلد حَرَّمه اللَّه يوم خلق السموات و الْأَرْض ، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم الْقِيَامَة ) (3) .فلا يحل لساكن الحرم وقاصده أن يهتك حرمته بإذاء النَّاس فيه ، فإن اللَّه يقول : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا). (4)
قَال ابن كثير:(يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء)
وقَال عبد العَزَّيز بن باز : « يعني وجب أن يأمَّن ، وليس المعنى أن لايقع فيه أذى لأحد ، ولا قتل ، بل ذلك قد يقع ،و إنَّمَا المقصود أنَّ الواجب تأمين من دخله وعدم التعرض له بسوء . )
__________
(1) / شرح مسلم للنووي ( 17 / 194 - 195 ) وفتح الباري ( 11 / 387 ) .
(2) / لطائف المعارف لابن رجب ( 90 ) .
(3) /
(4) / آل عمران : 97(1/204)
وهذا مصداق قول اللَّه تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا » (1) . الا أن هذا الحرمَ حرمٌ آمن ما لم يستحله أهله ، فإن استحله أهله فقد الا من وهذا عند قرب يوم الْقِيَامَة وخراب الدُّنْيَا كما يقول النووي لذلك حدث القتال في مكة مراتٍ عديدة ، وأعظم ذلك ما وقع من القرامطة في القرن الرابع الهجري ، حيث قتلوا المُسْلِمينَ في المطاف ، وقلعوا الحجر الاسود ، وحملوه الى بلادهم ، ثُمَّ أعادوه بَعْدَ مدة طويلة ، وهذا مِمَّا لا يتعارض مع الا ية لأنه وقع بأيدي المُسْلِمينَ والمنتسبين إلى الا سلام وهو مطابق لما رواه الامام أَحْمَد أن رَسُول اللَّه قَال : « ولن يستحل البيت الا أهله ، فإن استحلوه ، فلا يُسأل عن هلكة العرب ).
وعليه ، فلا يستحل البيت الحرام الا اهله ، وأهلُه هم المُسْلِمون ، فإذا استحلوه ، فإنه يصيبهم الهلاك ثُمَّ يخرج رجلٌ من أهل الحبشة ، يقَال له : ذوالسُّوَيْقَتَيْنِ ، فيُخْرب الكعبة ،وينقضها حجراً حجراً، ويسلبها حليتها ، ويجردها من كسوتها.
1-عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَمْعَانَ قَال : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَة يُخْبِرُ أَبَا قَتَادَةَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ( يُبَايَعُ لِرَجُلٍ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، وَلَنْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ الا أَهْلُهُ ، فَإِذَا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ هَلَكَةِ الْعَرَبِ ، ثُمَّ تَأْتِي الْحَبَشَةُ فَيُخَرِّبُونَهُ خَرَابًا لَا يَعْمُرُ بَعْدَهُ أَبَدًا ، وَهُمْ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ كَنْزَهُ (2) .
__________
(1) / العنكبوت : 67
(2) / رواه الامام أَحْمَد(1/205)
2-عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : « يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ ، وَيَسْلُبُهَا حِلْيَتَهَا وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا ، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ ، أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهِ ا بِمِسْحَاتِهِ وَمِعْوَلِهِ . (1)
أصليع : قَال ابن الاثير : تصغير أصلع ، وهو الَّذِيْ انحسر الشعر عن رأسه
أُفيدع : قَال ابن الاثير : تصغير أفدع ، والفدع بالتحريك زيغ بين القدم وبين عظم الساق ، وكذلك يَكُوْن في اليد ، وهو أن تزول المفاصل عن أماكنها .
3-عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَال : قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ (2)
ذُوالسُّوَيْقَتَيْنِ : تَثْنِيَة سُوَيْقَة وَهِيَ تَصْغِير سَاقَ أَيْ لَهُ سَاقَانِ دَقِيقَانِ . قَال ابن الاثير : السويقة : تصغير الساق ، وهي مؤنثة ، فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها ، وإنَّمَا صغر الساق لأن الغالب عَلَى سوق الحبشة الدقة والحموشة . فالمقصود صاحب الساقين الدقيقتين ، الَّذِيْ انحسر شعره عن رأسه وبه زيغ بين القدم وبين عظم الساق وكذلك مفاصله
4-عَنْ ابْنَ عَبَّاس أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ ِ وَسَلَّمَ قَال : :« كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا . (3) يَعْنِي الْكَعْبَةَ . ».وفي رواية : ( فيهدمها ) . أفحج : قَال ابن الا ثير في النهاية : الفحج تباعد ما بين الفخذين .
__________
(1) / رواه الامام أَحْمَد وهذا إسناد جيد قوي.
(2) / رواه الشيخان والامام أَحْمَد
(3) / رواه البخاري وأَحْمَد(1/206)
والمقصود أنه رجل أسود في مشيته فحج أي : تداني صدور قدميه وتباعد عقباه أو تباعد ما بين الفخدين .
5-عن عبد اللَّه بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ ِ وَسَلَّمَ قَال: ( اتركوا الحبشة ما تركوكم ، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة الا ذو السُّوَيْقَتَيْنِ من الحبشة) (1) .
إيرادٌ : هل هناك تعارض بين قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا » (2) . وبين الأحاديث الآنفة الذكر ؟ قَال الحافظ ابن حجر في الفتح : قِيلَ : هَذَا الحَدِيث يُخَالِف قَوْله تَعَالَى : " « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا » (3) . وَلِأَنَّ اللَّه حَبَسَ عَنْ مَكَّة الْفِيل وَلَمْ يُمَكِّن أَصْحَابه مِنْ تَخْرِيب الْكَعْبَة وَلَمْ تَكُنْ إِذْ ذَاكَ قِبْلَة , فَكَيْفَ يُسَلِّط عَلَيْهِ ا الْحَبَشَة بَعْدَ أَنْ صَارَتْ قِبْلَة لِلْمُسْلِمينَ ؟
__________
(1) / رواه أبو داود
(2) / العنكبوت : 67
(3) / العنكبوت : 67(1/207)
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ يَقَع فِي آخِر الزَّمَان قُرْب قِيَام السَّاعَة حَيْثُ لَا يَبْقَى فِي الْأرْض أَحَد يَقُول اللَّه اللَّه ,كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم " لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الا رْض اللَّه اللَّه " وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة سَعِيد بْن سَمْعَان " لَا يَعْمُر بَعْده أَبَدًا " وَقَدْ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْقِتَال وَغَزْو أَهْل الشَّامّ لَهُ فِي زَمَن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة ثُمَّ مِنْ بَعْده فِي وَقَائِع كَثِيرَة مِنْ أَعْظَمهَا وَقْعَة الْقَرَامِطَة بَعْدَ الثَّلَاثمائَةِ فَقَتَلُوا مِنْ المُسْلِمينَ فِي الْمَطَاف مَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَة وَقَلَعُوا الْحَجَر الاسْوَد فَحَوَّلُوهُ إِلَى بِلَادهمْ ثُمَّ أَعَادُوهُ بَعْدَ مُدَّة طَوِيلَة , ثُمَّ غُزِيَ مِرَارًا بَعْدَ ذَلِكَ , كُلّ ذَلِكَ لَا يُعَارِض قَوْله تَعَالَى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا » (1) . لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ بِأَيْدِي المُسْلِمينَ فَهُوَ مُطَابِق لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَنْ يَسْتَحِلّ هَذَا الْبَيْت الا أَهْله ",فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مِنْ عَلَامَات نُبُوَّته , وَلَيْسَ فِي الايَة مَا يَدُلّ عَلَى اِسْتِمْرَار الامْن الْمَذْكُور فِيهَا . (
اختلافُ العُلَماء في تحديدِ زمن تخريب الكعبة:
لقد نقل المباركفوري محقق كتاب السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها لأبي عمر الداني الخلاف بين العُلَماء فقَال : ووقع اختلاف بين العُلَماء في تحديد الزمن الَّذِيْ يقع فيه تخريب الكعبة عَلَى عدة أقوال :
__________
(1) / العنكبوت : 67(1/208)
مِنْهَا : أنه يقع في زمن عِيسَى عَلَيْهِ السلام ، وهو مروي عن كعب الا حبار ، واختاره الحليمي ، وذكره ابن كثير عن كعب ، ثُمَّ عقب عَلَيْهِ بقوله : " قلت : وتقدم في الحَدِيث الصحيح : أن عِيسَى عَلَيْهِ السلام يحج بَعْدَ نزوله إلى الْأرْض . وقيل : إنه يقع في زمنه ، وبَعْدَ هلاك يأجوج ومأجوج ، للحديث المذكور ، ولما ثبت : " لحجن هذا البيت وليعتمرن بَعْدَ خروج يأجوج ومأجوج " . قَال في الاجابة عنه:إن المراد بذلك ليحجن مكان البيت .
وقيل أيضا : إنه يقع قبل خروج الدجال ونزول عِيسَى عَلَيْهِ السلام ذكره القرطبي عن أبي حامد الغزالي وقيل : إنه يقع بَعْدَ خروج الدابة وقيل : إنه يقع بَعْدَ الايات كلها قرب قيام السَّاعَة حين ينقطع الحج ، ولا يبقى في الا رض من يقول : اللَّه ، اللَّه ، ذكر هذا و الَّذِيْ قبله البرزنجي والسفاريني ، وذكرا في تأييد الا خير أن زمن عِيسَى عَلَيْهِ السلام كله زمن سلم و بركة وأمان وخير ، وأن البيت قبلة الا سلام ، والحج إِلَيْهِ أحد أركان الدين ، فالحكمة تقتضي بقاءه ببقاء الدين ، فإذا جاءت الريح الباردة الطيبة ، وقبضت المؤمنين فبعد ذلك يهدم البين . ونقل السفاريني عن الشيخ مرعي الكرمي كلاما طويلا في ذلك ، خلاصته أن هدم الكعبة بَعْدَ الايات كلها ، ثُمَّ قَال : وإن كان هذا لا يخلو من تأمل . وذهب القرطبي وابن كثير إلى أن ذلك يقع بَعْدَ موت عِيسَى عَلَيْهِ السلام . ويبدو لي أن الانسب هو عدم التعرض لتحديد الوقت الَّذِيْ يقع فيه هدم الكعبة لكون أحاديث الباب مطلقة ، الا أنه من كبرى العلامات التي تعقبهاالسَّاعَة ، لأنه جاء في حَدِيث أبي هُرَيْرَة : فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا .
خراب ( يثرب ) المدينة المنورة(1/209)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عمران بيت المقدس خرابُ يَثْرب ، وخراب يثرب خُروج الملحمة ، وخُروج الملحمة فتح قسطنطينية ، وفتح القسطنطينينة خروج الدجال ...) (1) .
ومعنى ( عُمران بيت المقدس ) أي : عمارته بكثرة الرجال والعقار والمال .وعمرانه سبب خراب يثرب وهو وقت خرابها . لأن عمرانه يَكُوْن باستيلاء الكفار . وقيل المراد بعمران بيت المقدس : عمرانه بَعْدَ خرابه ، فإنه يخرب في آخر الزمان ثُمَّ يعمره الكفار .
والأصح : أن المراد بالعمران : الكمال في العمارة ، أي عمران بيت المقدس كاملاً مجاوزاً عن الحد ـ وقت خراب يثرب ـ ، فإن بيت المقدس لايخرب (2) .
__________
(1) أَخرَجَه أبو داود في الملاحم باب في امارات الملاحم : 4/ 482 رقم 4294 ، وجوّد إسناده وحسنه ابن كثير في النهاية في الفتن : 1/ 94 ، وكذلك حسنه الألباني في المشكاة : 3 / 1494 رقم 5424 .
(2) عون المعبود : 11 / 400 ـ 401 .(1/210)
وأَمَّا قوله صلى الله عليه وسلم : (خراب يثرب) فيثرب اسم المدينة المشرفة (1) ، مدينة سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم (2) ، فقد كانت تسمى بذلك في الجاهلية ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميتها بهذا الاسم (3) ، كما في حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أُمرت (4) بقرية تأكل (5) القُرى ، يقولون يثرب، وهي المدينة.) الحَدِيث (6) فيُفهم من هذا الحَدِيث النهي عن تسمية المدينة ( يثرب ) .
قال النووي رحمه الله عند شرحه لهذا الحَدِيث : ( يعني أن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب ، وإنَّمَا اسمها المدينة وطابة وطيبة ، ففي هذا كراهة تسميتها يثرب ) (7) .
__________
(1) المصدر السابق .
(2) لسان العرب : 1/ 235 .
(3) الأَحَادِيث الواردة في فضائل المدينة 34 .
(4) أي : أُمرت بالهجرة اليها ، قاله الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه : 105 .
(5) أي : انها مركز جيوش الاسلام في أول الأمر فمنها فتحت القرى وغنمت أموالها وسباياها وهناك وجه آخر وهو أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها . [ ينظر : شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 9 / 154 ، غريب الحَدِيث : 1/ 434 للخطابي ، شرح السنة : 7 / 320 للبغوي] .
(6) أَخرَجَه مُسْلِم في الحج باب المدينة تنفي شرارها : 2/ 1006 رقم 1382 .
(7) شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 9 / 154 .(1/211)
وسبب كراهيته صلى الله عليه وسلم لهذا الاسم لأنه مأخوذ من الثَّرْب ، وهو فساد في كلام العرب (1) ، أو من التثريب ، وهو التوبيخ والملامة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الاسم القبيح إلى الحسن (2) .
وذكر النووي: أن تسميتها في القرآن ( يثرب ) إنَّمَا هو حكاية عن قول المنافقين الَّذِينَ في قلوبهم مرض (3) .
وأَمَّا مايتعلق بخراب المدينة ، فقد ثبت في الأَحَادِيث الصحيحة مايدل عَلَى حدوث ذلك في آخر الزمان ، قرب قيام السَّاعَة ، وأن الناس يخرجون مِنْهَا بالكلية ، ففي الحَدِيث عن أبي هُرَيْرَة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( تتركون المدينة عَلَى خير ماكانت لايغشاها إلا العوافي ـ يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشاً ، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا عَلَى وجوههما )) (4) .
__________
(1) لسان العرب : 1 / 235 ، غريب الحَدِيث : 1 / 119 لابن الجوزي ، الأَحَادِيث الواردة في فضائل المدينة : 34 .
(2) الأَحَادِيث الواردة في فضائل المدينة : 34 ـ 35 ، ولمزيد من التفصيل في هذا الموضوع يرجع إلى هذا الكتاب فإنه نافع في بابه .
(3) شرح النووي عَلَى مُسْلِم : 9 / 155 .
(4) أَخرَجَه البُخَارِي في فضائل المدينة باب من رغب عن المدينة ( 4 / 107 رقم 1874 مع الفتح ) . و مُسْلِم ( 9 / 160 بشرح النووي ) .(1/212)
وفي رواية : (( لتُتْرَكَنَّ المدينة عَلَى أحسن ماكانت حتى يدخل الكلبُ أو الذئب فَيُغَذّي (1) عَلَى بعض سواري المسجد أو عَلَى المنبر )) فقالوا : يارسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان ؟ قال : (( للعوافي . الطير والسباع )) (2) .
قال ابن كثير: ( والمقصود أن المدينة تكون عامرة أيام الدجال ، ثُمَّ تكون عامرة في زمان عيسى بن مريم رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى تكون وفاته بها ودفنه فيها ، ثُمَّ يخرج الناس مِنْهَا بَعْدَ ذلك ) (3) .
وعن عوف بن مالك قال : دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد ثُمَّ نظر إلينا فقال :(أما والله ليدعنها أهلها مُذَلَّلَةً أربعين عاماً للعوافي . أتدرون ماالعوافي ؟ الطير والسباع) (4) .
قال الحافظ بن حجر عقب ذكره لهذا الحَدِيث مانصه : ( وهذا لم يقع قطعاً ) (5)
والحاصل : أنه يُستدل من هذه النصوص ومن كلام العُلَماء عليها أن المدينة النبوية تخرب فيخرج الناس مِنْهَا بالكلية في آخر الزمان قرب قيام السَّاعَة بَعْدَ خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم كما تقدم من كلام ابن كثير
__________
(1) يُغَذّي : أي يبول عليها ، يقال غذي ببوله إذا ألقاه دفعة دفعة . ( النهاية في غريب الحَدِيث 3 / 347 ) .
(2) أَخرَجَه مالك في الموطأ : 2 / 888 ، وقد استشهد بهذا الحَدِيث الحافظ بن حجر في الفتح 4 / 108 وَقَالَ عقبه : ( رواه جماعة من الثقات خارج الموطأ ) ، وأصله في الصحيحين كما في الحَدِيث الَّذِيْ قبله .
(3) النهاية في الفتن : 1 / 207 .
(4) رواه عمر بن شبة بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح : 4 / 108 ، وأصله في صحيح مُسْلِم ( 9 / 159 ـ 160 بشرح النووي ) بنحو هذا اللفظ .
(5) الفتح : 4 / 108 .(1/213)
هذا مايتعلق بالسلسلة الثانية المذكورة في حَدِيث معاذ السابق وهي ( خراب يثرب ) بَعْدَ أن ذكر أن عمران بيت المقدس سبب لخرابها ، ثُمَّ ذكر صلى الله عليه وسلم في حَدِيث معاذ السابق السلسلة الثالثة في الحَدِيث وهي خروج الملحمة فقال : (( ... وخراب يثرب خروج الملحمة .... )) أي : أن خرابها سبب لظهور الملحمة والحرب العظيمة بين أهل الشَّام والروم ، وقيل : بين تاتار و الشَّام . والأظهر هو الأول (1) .
وعن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة » (2) .
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: "أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم السَّاعَة، فما منه شيء؛ إلا قد سألته؛ إلا أني لم أسأله: ما يخرج أهل المدينة من المدينة ؟ » (3) .
وعن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أنه قال: "لا يأتي عليكم إلا قليل، حتى يقضي الثعلب وسنته بين ساريتين من سواري المسجد (يعني: مسجد المدينة، يقول: من الخراب) ". (4)
قال ابن الأثير : "أي: يقضي نومته؛ يريد خلو المسجد من الناس بحيث ينام فيه الوحش".
نبوءات اليهود والنصارى في الأيام الأخيرة (5)
هل أصبحنا نعيش عصر (الأيام الأخيرة) أيام ما قبل النهاية؟! وهل صحيح أن حرباً عالمية ثالثة لا بد أن تنشب مع بدايات القرن الجديد ؟
__________
(1) عون المعبود : 11 / 401 .
(2) رواه: التِّرْمِذيّ، وابن حبان في "صحيحه"، وَقَالَ التِّرْمِذيّ : "هذا حَدِيث حسن غريب".
(3) رواه الإمام أَحْمَد . وأبو داود الطيالسي، و مُسْلِم .
(4) رواه ابن أبي شيبة .
(5) الأيام الأخيرة في المصطلح العبري (أحريت أياميم) وتعني مرحلة أخيرة من الزمان تقع داخل الزمان وتمهد لنهايته الذي يأتي بعده (يوم هدِّين) يعني يوم الدين.(1/214)
نحن معاشر المسلمين نقول: العلم عند الله ،لأنه (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (1) ، فالتحديد والقطع جرأة على الغيب ، نربأ بأنفسنا عنه ونبرأ إِلى الله منه ، خاصة إِذا تعلق بعلم الساعة التي( إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَا هُوَ) (2) ، أما أماراتها فأمر يدور بين الظن الراجح والظن المرجوح.
لكن العتاة الغلاة من طوائف اليهود والنصارى يعتقدون بجزم ويعملون بحزم لهذه الأيام (الأخيرة) التي يربطونها بقدوم الألفية الثالثة، حيث يتوقعون أن تبدأ فيها نهاية أيام (العامة) ، لتأتي بعدها أيام (الخاصة) أتباع المسيح القادم للخلاص.
ونحن معاشر المسلمين لا يهمنا من جزمهم أو حزمهم في معتقدهم هذا إِلا ما يمكن أن يترتب عليه من سياسات وخطوات يمكن أن يقدموا عليها بزعم التهيئة لتلك الأيام الأخيرة استدعاءً لعلاماتها واستجلاءً لأماراتها .
ففي مسيرة منتظمة في طريق الاستدراج منذ بداية القرن الميلادي الحالي ، نراهم يزعمون أنهم نجحوا في (إنجاز) علامات مهمة من أشراط الأيام الأخيرة، يأتي في طليعتها ما يعدونه أولى وأبرز العلامات وهي:
__________
(1) النمل: 65
(2) الأعراف: 187(1/215)
1-إِعادة اليهود إلى أرض بيت المقدس (1) .
2- استيلاء اليهود على القدس .
3-اعلان دولة اسرائيل وعاصمتها القدس .
4-هدم المسجد الأقصى .
5-بناء الهيكل مكان المسجد الاقصى (2) .
__________
(1) هم يطلقون عليها (يورشلايم) أو (أورشليم)، أي: مدينة السلام، التي سيقودون العالم منها تحت قيادة (ملك السلام)! هكذا نسبوا للتوراة. ففي التوراة كمّ كثيف من الحديث عنها؟ حيت ذُكرت فيها نحواً من ستمائة وثمانين مرة، ويطلق اليهود على القدس أيضاً (صهيون) نسبة إِلى الجبل الموجود فيها والمسمى بهذا الاسم الذي انتسبت إليه الحركة الصهيونية، ويطلقون على القدس أيضاً -كما في التوراة- (مدينة الإِله) و (مدينة العدل) و (مدينة الحق) و (مدينة الشعب المختار) وأيضاً يطلقون عليها (أريئيل) يعني: أسد الله. وكل هذه المعاني تشير إِلى مغزىً واحد، وهو ارتباط تلك المدينة بالعقيدة والشريعة اليهودية؛ حيث فرضت تلك الشريعة على اليهود أن يحجوا إِليها ثلاث مرات في العام، وأن يتوجهوا إِليها دون أرضٍ غيرها في العالم.
(2) لقد ردد أساطين اليهود عبارة بن غوريون ( لا قيمة لاسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) وأثبت زعماء اليهود أن هذه العبارة هي محور التحرك السياسي والعسكري طوال سني الصراع في السلم والحرب .وان منزلة الهيكل عند اليهود جعلتهم يتخذونه رمزا يتوسط العلم الاسرائيلي في نجمة داود السداسية فهي النجمة المطبوعة على هامات الجند وأكتافهم وأسلحتهم وهي الشعار الذي يجمع بمثلثيه المتماثلين الى تطابق السلطة الدنيوية والدينية وهي النجمة التي تشير الى الترس الذي كان يقاتل به داود وهي العلامة التي تذكر ببزوغ نجم ابن داود المسيح المنتظر .فهو رمز ديني وشعار لدولتهم التي سميت باسم ديني هو اسرائيل اسم يعقوب النبي عليه السلام .(1/216)
6-ظهور البقرة الحمراء العاشرة وذبحها قبالة الهيكل بغية التطهير من النجاسة (1) .
7- حدوث معركة الهرمجدون الفاصلة بين قوى الخير والشر..
8- ظهور المسيح المخلص ابن داود واتخاذه القدس عاصمة لحكمه التوراتي .
وقد ظهر لنا في واقعهم الحاضر مدى سعيهم لهدم الأقصى وتسارعهم لبناء الهيكل (2) ، وإعلانهم لظهور البقرة الحمراء ، وتصميمهم على إِسكان القدس بالمتشددين الدينيين ومن ثم محاولة اضفاء الصفة الدينية على دولة اسرائيل وتسميتها بالدولة اليهودية .
__________
(1) نقلت صحيفة الرأي العام الكويتية عن إحدى الصحف الإسرائيلية في (5/3/1998) أن حواراً أجري مع واحد من أبرز الحاخامات الإسرائيليين ويدعى (البويم) حول العديد من الأسئلة الحائرة الدائرة حول البقرة فكان من ضمن الأسئلة: هل تكفى بقرة واحدة لخمسة ملايين يهودي ملوثين بالنجاسة؟ فأجاب: (أجل، ولسنواتٍ كثيرة أيضاً، لقد دون في التوراة أن البقرة الحمراء الأولى أعدت على عهد موسى أما الأبقار التالية فقد أعدها عزرا، فخلال فترة الهيكل الثاني أعدوا ثماني بقرات، إذن فالعدد كله تسع بقرات، ونحن الآن في زمان البقرة العاشرة)
(2) أذاعت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً في أوائل أغسطس/أيلول من عام 1997م جاء فيه: (إن المتطرفين اليهود في القدس أعدوا كل شيء وفق طقوسهم لبناء الهيكل وجاءوا بأحجار تم قطعها من صحراء النقب وغيرها ليتم صقلها في القدس لاستخدامها في بناء الهيكل وسيحتاج المشروع وفق التقرير إلى ستة ملايين حجر، ونبه التقرير إلى أنه لم يعد سرا أن الهيكل تم تصميمه الهندسي في الولايات المتحدة الأمريكية على يد مستشارين هندسيين من يهود أمريكا وذكر التقرير أيضاً أن هذا التصميم وُضع تحت تصرف الحكومة الإسرائيلية الآن وتم إعداد فريق متكامل من عمال البناء سيظلون رهن الإشارة للعمل عندما يحين الوقت). (الشرق القطرية 19/8/1997)(1/217)
ولكن تبقى هناك علامة أخرى تبرزها مصادرهم العقدية ويؤمنون بحتمية حدوثها عندما تبدأ الأيام الأخيرة في التوالي، وتتمثل في (إِقامة) قيامة صغرى تهيئ للقيامة الكبرى! وتأويل هذا يجيء باشتعال أو إِشعال حرب مدمرة تهلك فيها غالبية سكان الأرض، ففي (الأيام الأخيرة) لا بد أن تقوم حرب بسبب (إسرائيل) وعلى أيدي أحباب (إِسرائيل) وعلى أرض (إسرائيل)! ومن أجل (إِسرائيل)!
نبوءات اليهود عن معركة الأيام الأخيرة
تتحدث مصادر اليهود عن معركة الأيام الأخيرة ومنها :
1-التوراة : تقول التوراة التي في أيديهم: (في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إٍسرائيل من الأمم، سوف تتسبب في أمرٍ ما، هذا ما سوف يحدث . إِني سوف أضع صنارة في أفواه القوى المؤتلفة) وجاء فيها أيضاً: (بعد أيام كثيرة تُفتقد في السنين الأخيرة، تأتي إِلى الأرض المستردة من السيف، المجموعة من جبال إِسرائيل التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب وسكنوا آمنين كلهم، وتصعد وتأتي كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرون معك).(1/218)
وهذه الجيوش الكبيرة المعادية لِ (إِسرائيل) وحلفائها يطلق عليهم في التوراة "جوج وماجوج"، وهم سيأتون إِلى الأرض المقدسة في يوم من الأيام الأخيرة من جهة الشرق كما تتحدث التوراة: (ويكون في ذلك اليوم يوم مجيء جوج على أرض إِسرائيل، يقول السيد الرب: إِن غضبي يصعد، وغيرتي في نار سخطي، تكلمت أنه في ذلك اليوم يكون رعش عظيم في أرض إسرائيل، فيرعش أمامي سمك البحر وطيور السماء ووحوش الحقل، والدابات التي تدب على الأرض، وكل الناس الذين على وجه الأرض، وتندكُّ الجبال، وتسقط المعاقل، وتسقط كل الأسوار إِلى الأرض، واستدعي السيف عليه في كل جبالي، يقول السيد الرب: فيكون سيف كل واحد على أخيه، وأعاقبه بالوباء وبالدم، وأُمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة بَرَد عظيم وناراً وكبريتاً) (1) .
2- التلموذ : أما التلمود الذي فسر به الحاخامات القدامى نصوص التوراة فقد جاء فيه ما يدل على أن (الأيام الأخيرة) ستشهد أحداثاً يكون اليهود محورها؟ فقد جاء فيه: "قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقون سبع سنين يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر"
وجاء فيه : (( يجب على كل يهودي أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم ، وقبل أن يحكم اليهود نهائيًا باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق ، ويهلك ثلثا العالم ، وسيأتي المسيح الحقيقي ، ويحقق النصر القريب ، وحينئذ تصبح الأمة اليهودية غاية في الثراء، لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعًا، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح )) (2) .
__________
(1) سفر حزقيال ، الإصحاح الثامن والثلاثون.
(2) الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي، إسماعيل الكيلاني ص 89 الطبعة الأولى 1407 د.(1/219)
وحتى البروتوكولات التي خُطت في العصور المتأخرة تردد ذاك الصدى: "إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل، إِن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون كفؤاً لأيد عريقة كأيدينا . . إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم ير العالم لها مثيلاً من قبل، والوقت متأخر بالنسبة إلى عباقرتهم" (1) .
نبوءات النصارى عن معركة الأيام الأخيرة:
أما النصارى، فإن الإِنجيل الذي بأيديهم يزيد في التفصيل عن هذه المعركة، بل ينفرد عن المصادر اليهودية بتحديد مكانها الذي ستقع فيه، إنه سهل (مَجِدُّو) بفلسطين حيث ستنشب أكبر معركة في التاريخ في وقت العودة الثانية للمسيح.
ففي سفر الرؤيا، جاء على لسان عيسى -عليه السلام- وهو يصف وقت مجيئه المفاجئ: "ها أنا آتي كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عُريته، يجمعهم إِلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية (هَرْمَجِدُّون)" (2) .
وهكذا نرى أن الاعتقاد بوقوع تلك المعركة، هو اعتقاد مشترك بين اليهود والنصارى، فاليهود يؤمنون بها وبأن خلاصهم سيأتي بعدها، أما النصارى فيؤمنون بالمعركة ذاتها ولكن على أن خلاصهم هم سيأتي بعدها، ولكن هذا (الخلاص) الموهوم عند الأمتين الضالتين، لن يتم -للأسف كما يعتقدون- إلا بالتخلص من جُل سكان الأرض عن طريق تلك الحرب المدمرة: الهرمجدون.
الحرب المدمرة: الهرمجدون
معنى هرمجدون :
وأصل كلمة (هرمجدون) عبرية، ومعناها الحرفي: جبل مجيدو، فكلمة (هار) تعني في العبرية جبل، فإذا أضيفت إلى اسم الوادي صار (هارمجيدو) التي دمجت في النصوص القديمة إِلى (هرمجدون).
موقع هرمجدون :
__________
(1) بروتوكولات حكماء صهيون - ترجمة خليفة التونسي - البروتوكول الخامس ، ص 123 .
(2) الإصحاح 16/15(1/220)
وأرض مجدو تبعد (55) ميلاً عن تل أبيب، وهي في موقع يبعد (20) ميلاً شرق حيفا، على بعد (15) ميلاً من شاطئ المتوسط، وترتبط في الاعتقاد القديم بأنها الأرض التي كان الفاتحون القدامى يعتقدون أن أي قائد يسيطر عليها يمكنه أن يصمد أمام أعدائه مهما كانت أعدادهم .
فريقا المعركة :
وفي ضوء هذه الصورة يتنافس باعتقادهم فريقان :
الاول: فريق قوى الخير المتمثل بدولة اسرائيل وأشياعها من دول العالم النصراني الغربي. أما (إِسرائيل) فهي نفسها إِسرائيل التي نعرفها اليوم، والتي لم يجد مؤسسوها اسماً آخر يصلح لها إِلا ذلك الاسم الذي تذكر به في التوراة في الأيام الأخيرة، والتي ستكون بسببه في بؤرة الأحداث العالمية.
والثاني : فريق قوى الشر الذي سيشهد معركة ( الهرمجدون)المتمثل بالمسلمين والروش ( الروس) وماشك (موسكو) وفارس (ايران) وكور (اوروبا الشرقية) وتوغارما (القوقاز ) ولوبيا ( ليبيا ) وغومر ( القرن الافريقي مع جنوب اليمن ) وآشور وبابل ( العراق ) .(1/221)
ولكن لماذا روسيا بالذات؟ في الحقيقة إِن روسيا –مع دول أخرى- يزعم هؤلاء الإِنجيليون أن أسماءها قد وردت بالنص في طليعة المشاركين في حرب الهرمجدون، ففي التوراة التي بأيديهم وفي سفر حزقيال على وجه التحديد في الفصل 38،39 يرد اسم (روش) وهي كما يقولون: روسيا! و(ماشك) التي يقولون: إِنها موسكو، و (توبال) التي يعتبرون أنها مدينة (تيبولسك) الكبيرة في روسيا، ويذكر السفر أيضا بلاد (فارس) وهي بالطبع إِيران التي يجزمون بأنها ستكون مشاركاً رئيساً في حرب هرمجدون، ويترجمون بلاد (كومر) بأنها منطقة بلدان أوروبا الشرقية كما كانت تعرف في أزمنة التوراة و(توغارما) التي تعني بلاد القوقاز، ولا ينسون ضم ليبيا التي يعتقدون أنها (بوت) المذكورة في التوراة، ومنطقة القرن الإفريقي مع إثيوبيا وقد يحشرون معها السودان وجنوب اليمن (غومر)، أما العراق فهي (آشور الآثمة) و(بابل الزانية) التي يتحدث كتّاب التوراة عنها بلهجة حنق وغيظ تظن معها أنهم كانوا متحدثين باسم اللجنة الدولية للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل!
الهرمجدون عقيدة مشتركة :
ان من العقائد المشتركة بين اليهود والنصارى الاعتقاد بمجيء يوم يحدث فيه صراع بين قوى الخير والشر تدمر فيه الارض بالنار , ومن العجب العجاب أن رجال الدين النصارى من الطائفة البروتستانية يذكون هذا الاعتقاد في المسيحيين الانجيليين وفي اليهود مما حدا بمائة مليون منهم في الولايات المتحدة الامريكية الاعتقاد بنشوب حرب نووية فاصلة لا مفر منها في آخر الزمان .(1/222)
ويعتقد اليهود والنصارى أن جيوشاً من مِائتي مليون جندي (1) سيأتون إِلى مجدو للبدء في خوض حرب نهائية، ونصوصهم تدل على أن هذه المعركة سوف تتورط فيها الأمم، أي ستكون حرباً عالمية ولكن أوارها سيشتعل أولاً في منطقة الشرق الأوسط وفي فلسطين بالذات. والنصارى يعتقدون أيضاً أن تلك الحرب سوف تستغرق مدة سبع سنين، وهي مدة كافية تعطي لليهود فرصة كي يروا بأنفسهم كيف ينتقم الله من أعداء المسيح مما يدل على صدقه فيؤمنوا به. ويعتقدون أيضاً -بمقتضى الإِنجيل أنه ستمر سبعة أشهر حتى يتمكن (بيت إِسرائيل) من دفن جثت الضحايا وينظفوا الأرض منها.
وتبقى طائفة النصارى الإِنجيليين أو (المسيحيين الصهيونيين) المتزايدة النفوذ في أمريكا اليوم، تبقى هي صاحبة الاهتمام الأول بمعتقد (الهرمجدون) والمجيء الثاني الوشيك للمسيح , فمن هم الانجيليون ؟
الإنجيليون والمعركة المنتظرة
من هم الانجيليون ؟
__________
(1) الحرب العالمية الثانية شارك فيها نحو (85) مليون جندي، وفَنِيَ في تلك الحرب نحو (50) مليون من البشر.(1/223)
بعد قرون طوال من تبديل المحرفين المخرفين للتوراة والإنجيل، جاء جيل من المخربين ليدّعوا أنهم جيل النهاية الذي سيشهد (نهاية التاريخ) وهؤلاء تمثلهم في الأساس جماعات الإنجيليين في أمريكا وكندا وإنجلترا الذين يقدر عددهم في الولايات المتحدة وحدها بنحو (100) مليون نسمة. إن الشيطان لم يعثر على صنف من أتباعه أنسب من غلاة طائفة البروتستانت الإنجيلية النصرانية (1) أدعياء التمسك الحرفي بالتوراة والإِنجيل.
فالإِنجيليون حرفيون، ولهذا فهم يؤمنون حرفياً بحديث التوراة والإِنجيل عن معركة النهاية بكل ما فيها من تفصيلات مكانية وزمانية وما يتعلق بها من وقائع وأسماء أشخاص وزعماء وبلدان وبحار وأنهار وأشجار، فليس هناك -في اعتقادهم- معنى ظاهر وآخر باطن في نصوص الكتابين، ولهذا؛ فإن حديث التوراة والإِنجيل عن محاربة أنصار المسيح لأعدائهم بالسيف والرمح والخيل لا يدل على شيء آخر غير فناء الحضارة المادية المعاصرة وعودة الناس إِلى الحياة البدائية أو قريب منها!!
__________
(1) شهد القرنان الماضيان من الحروب الطائفية في أوربا ما لا نظير له في التاريخ واكتشفت أمريكا في وقت كانت الحرب على البروتستانت من قبل الكاثوليك كبيرة وعنيفة مما اضطر البروتستانت إلى الهجرة إلى العالم الجديد . فأخذوا يتدفقون نحوها وإلى الآن لا يزالون هم أكثر سكان أمريكا وقد خرجوا من أوربا بروح التدين التوراتي فلما دخلوا أمريكا تفاءلوا بأن هذا خروج كخروج بني إسرائيل ودخولهم إلى الأرض المقدسة ، وأخذوا يسمون المدن والمناطق في أمريكا بأسماء من التوراة ، واعتقدوا أن هذه الأرض البكر بشرى بشرهم اللّه بها في الدنيا ، وتأسس المجتمع الأمريكي على أساس بروتستانتي توراتي.(1/224)
فهؤلاء يرون أنهم سيعدُّون مسرح الدنيا لتمثيل الفصل الأخير من عمرها؛ فالهرمجدون أو (الهولوكست النووي) أو الحرب العالمية الثالثة هي المعركة المنتظرة التي يؤمن الإنجيليون النصارى بحتمية بل بضرورة وقوعها! ولهذا يروِّجون لها على أوسع وأعلى المستويات في الغرب.
الانجيليون والهرمجدون :
يقول (هال ليندسي) في كتاب له بعنوان: (العالم الجديد القادم): "فكِّروا فيما لا يقل عن 200 مليون جندي من الشرق، مع ملايين أخرى من قوات الغرب يقودها أعداء المسيح . . . إن عيسى المسيح سوف يضرب أولاً أولئك الذين دنّسوا مدينة القدس، ثم يضرب الجيوش المحتشدة في (هرمجدون) فلا غرابة أن يرتفع الدم إِلى مستوى ألْجِمَة الخيل مسافة 200 ميل من القدس، وهذا الوادي سوف يُملأ بالأدوات الحربية والحيوانات وجثث الرجال والدماء"!! وأضاف: "إِن الأمر يبدو وكأنه لا يصدق! إِن العقل البشري لا يستطيع أن يستوعب مثل هذه اللاإِنسانية من الإنسان ضد الإنسان (1) ، ومع ذلك فإن الله يُمكِّن طبيعة الإِنسان من تحقيق ذاتها في ذلك اليوم"!
إذن؛ فالحرب الثالثة عندهم ليست مجرد أمل ينتظر، وإنما هي قدر لا بد من الرضى به، بل والسعي إِليه في نظر هؤلاء المهاويس، أما ما يسمى بِ (المساعي الدولية للتعايش السلمي) فإنها في نظر الإنجيليين ضرب من تحدي الإِرادة الإِلهية.
__________
(1) هم يدربون العقل البشري من الآن على استيعاب معنى هذه اللاإنسانية، كما حدث في البوسنة وفي كوسوفا.(1/225)
ألقى (جيمي سواجارت) القس الأمريكي الإنجيلي الشهير موعظة في 22/9/1985م تحدث فيها، -وكأنه يقوم بمشهد تمثيلي- فقال: "كنت أتمنى أن أستطيع القول بأننا سنحصل على السلام، ولكني أؤمن بأن هرمجدون مقبلة، إِن هرمجدون مقبلة، وسيخاض غمارها في وادي مجيدو، إِنها قادمة، إنهم يستطيعون إن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، ولكن ذلك لن يحقق شيئاً. هناك أيام سوداء قادمهّ ... إنني لا أخطط لدخول جهنم القادمة، ولكن الإِله سوف يهبط من عليائه ... يا إِلهي!! إنني سعيد من اْجل ذلك ... إِنه قادم ثانية، إن هرمجدون تنعش روحي"!.
ولكن ما هو سبب هذا (الانتعاش) الروحي المستمد من روائح الدم وأدخنة الخراب؟!
إنه فصل معاصر من فصول الحقد التاريخي اليهودي على البشر الذي انتقلت عدواه إِلى النصارى الذين كانوا يوماً مَّا من المغرمين بالحديث عن السلام تحت شعار: (الله محبة)! فعقدة (الجويم) أو الكفار أو العامة أو (الجنتيل) الذين خلقهم الله لخدمة اليهود، ولكن خلقهم على هيئة البشر لئلا يستوحش منهم اليهود. هذه العقدة يشارك البروتستانت اليهود فيها، ولهذا؛ فإن الحديث عن فناء (العامة) من غير اليهود وأشباههم من البروتستانت هو من الأحاديث المنعشة لأرواحهم والمسعدة لأسماعهم.
قال القس الإِنجيلي البارز (جيري فالويل) في محاضرة ألقاها في 12/9/1984م عن أحداث هرمجدون: "ما أعظم أن نكون مسيحيين؟ إِن أمامنا مستقبلاً رائعاً، نشكر الله أن هذه المعركة سوف تكون نهاية أيام العامة (الجنتيل)؛ لأنها بعد ذلك سوف تعد المسرح لقدوم الرب المسيح بقوة وعظمة"! وأحباب (الهرمجدون) لا يقفون عند حد الأماني (الوردية) بقرب مجيء أيامه الحمراء أو السوداء، ولكنهم يصنعون سيناريوهات (واقعية) يمكن أن تجر الدنيا لمجيئه.(1/226)
أجرت صحيفة لوس أنجيلوس تايمز حديثاً مع القس المذكور (فالويل) في 4/3/1981م، وسأله الصحفي عن تصوره لكيفية حصول الحرب النووية العالمية فقال: "أعتقد أن روسيا ستحدث بها أزمات ، وعلى رأسها أزمة في النفط وسينفذ احتياطيها منه، وعندها سوف تتحرك إِلى الشرق الأوسط وأيضاً نحو إسرائيل، وعندما يحدث ذلك ستنفتح أبواب جهنم"!
وقد أصدر ذلك القس بعد ذلك بعامين كتاباً بعنوان: (الحرب النووية والمجيء الثاني)، عقد فيه فصلاً عن الحرب التي ستشنها روسيا، وتكهن فيه بأنها ستخوض حرباً في الشرق الأوسط ينتج عنها إِبادة خمسة أسداس جنودها كما تنبأ بذلك سفر حزقيال، وقال (فالويل): "بذلك سوف يبدأ الاحتفال الأول بقرب عودة الرب، ثم يأتي الاحتفال الآخر بعد انتهاء معركة الهرمجدون"!
على درب الدمار:
لم يعُد احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة مدمرة من الاحتمالات المستحيلة في ظل السياسات المجنونة للتسلح في العالم، حيث بلغت تلك السياسات نقطة اللاعودة بحيازة الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة الذرية في الأربعينات واستعمالها الفعلي لها في الحرب العالمية الثانية التي حصدت نحو خمسين مليوناً من البشر!(1/227)
ومن يومها والولايات المتحدة -فض الله وحدتها- تقود العالم إِلى سباق نووي شيطاني لا يعلم إِلا الله ما هي محطته الأخيرة. واستناداً إِلى كتاب: (ساحات المعارك النووية) لمؤلفيه (وليام آركن) و(ريتشارد فيلد)؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية تملكت حتى بداية الثمانينات الميلادية (670) أداة للأسلحة النووية في (40) ولاية، بحيث يبلغ مجموع الرؤوس النووية الجاهزة (14500) رأس، ولها محطات نووية خارج حدودها، ففي ألمانيا يوجد (3396) سلاحا أمريكياً، وفي بريطانيا يوجد (1268)، وفي إيطاليا يوجد (549)، وفي تركيا (489)، وفي اليونان (164)، وفي جنوب كوريا (151)، وفي هولندا (81)، وفي بلجيكا (25)، وتبلغ القوة التدميرية الإجمالية لهذا السلاح النووي –كما ذكر ذلك وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (كلارك كليفورد)- مليون ضعف من قوة القنبلة التي أسقطها الأمريكيون على مدينة هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية، ورغم هذا، تساءل (كليفورد) عما يجب أن تفعله أمريكا في المستقبل فقال: "مع ذلك، ماذا علينا أن نفعل؟"! ثم أجاب على نفسه قائلاً: "علينا أن نمضي قدماً في صناعة المزيد"!!
وهل من مزيد؟(1/228)
نعم؛ فهم لما بدؤوا السباق في مضمار الدمار الذي اخترعه (نوبل) رمز السلام النووي، اضطرت القوى الكبرى الأخرى أن تدخل السباق لتتمكن من ردع تلك القوة المجنونة التي صبت جام جنونها على هيروشيما ونجازاكي، ثم تتابعت الدول في حيازة ذلك السلاح (الهرمجدوني) حتى أصبحت الدول النامية تتسابق الآن هي الأخرى إلى حيازته، كما حدث في الهند وباكستان، وأصبحنا الآن نعيش عصراً تقتطع فيه الدول من أقوات الشعوب، لتطعِم ترساناتها بكل جديد مهلك من السلاح، فإذا لم تظفر بظروف تختطف فيها فرصتها النووية فإنها تبذل المساعي لامتلاك أسلحة كيماوية أو بيولوجية، أو تكتفي بالتجهيز لامتلاك صواريخ بالستية ريثما تتوفر لها الفرص لتزويدها بالرؤوس النووية التدميرية. وقد ذكرت مجلة (جنيس ديفنس ويكلي) المتخصصة في الشؤون الدفاعية التي تصدر في لندن في عددها الصادر في شهر أيار 1999م: أن أي دولة في العالم مهما كانت خبراتها وقدراتها الحالية، ستتمكن خلال خمسة عشر عاماً بعد العام 2000م من استخدام ونشر الصواريخ البالستية العابرة للقارات، واستشهدت المجلة على تنامي أَخطار التسلح بما حققته دول مثل إِيران التي اختبرت عام 1998م صاروخ (شهاب 3)، وكوريا الشمالية التي جربت صاروخ (تايبو دونج 1) وباكستان التي اختبرت صاروخ (غوري) رداً على اختبار الهند لصاروخها (إجني)!(1/229)
وهل توقف الأمر بعد الدول الكبرى عند حد الدول الفقيرة والنامية؟! لا؛ فالحديث الآن يتداول في الغرب بكثرة عن الفرص المتاحة أمام بعض الجماعات المسلحة في الغرب وفي الشرق لكي تحوز أسلحة كيماوية أو بيولوجيهّ أو حتى نووية تكتيكية (1) والفضل في النهاية -أقصد الإِثم- يعود إلى فجور المفجِّرين الأُوَل للقمقم الذي أخرجوا منه المارد النووي على مشارف النصف الأخير من القرن العشرين.
وأين اليهود ؟!
هم من جانبهم أعدّوا عدتهم بحصيلة نووية (متواضعة) تتراوح بين 200 إلى 300 قنبلة نووية، وهم لن يحتاجوا لأكثر من ذلك إذا قسّموا هذه الحصيلة على العواصم المحيطة (المحبة للسلام) بواقع عشر قنابل لكل عاصمة! علماً بأن الغرب وعلى رأسه الأمريكان لم يسمحوا لواحدة من تلك العواصم العربية بالاقتراب من حيازة قنبلة واحدة نووية لردع الجارة الجائرة إسرائيل)!
__________
(1) تحدثت (مادلين أولبرايت) أمام الكونجرس في 4/2/1999م عن ذلك الخطر فقالت: "إن إدارة الرئيس كلينتون تعتزم بذل كل ما بوسعها لدحر ما وصفته ب ِ (الخطر الثلاثي) المتمثل في دول وتنظيمات إرهابية وشبكات متطرفين تمتاز بحرية في الحركة" وقالت: "إن نوعا جديداً من المواجهة يلوح؛ بينما القرن الجديد يبدأ" وأضافت: "من المحتمل أن يتجنب خصومنا ميادين القتال التقليدية، وقد يلجئون بدلاً من ذلك إلى أسلحة الدمار الشامل" وأعلنت أولبرايت في كلمتها عن برنامج جديد تبنته الولايات المتحدة يمتد لخمس سنين لمواجهة (الإرهاب) وخصصت له الإدارة الأمريكية (50) مليار دولار وقالت: "إن الخطة الخمسية تمثل مجرد بداية" (الحياة ، 6/2/1999م).(1/230)
إِن هذه الدولة اليهودية (الصغيرة) بل الحقيرة تمسك بتلابيب الغرب النصراني مبتزة إِياه باقتنائها المتفلِّت لأسلحة الدمار الشامل، وهي تفرض بذلك هواجس دائمة بأنها تملك جرّه إلى حرب مباشرة، كما حدث في حرب 1973م عندما هددت (إِسرائيل) في بدايتها باستعمال السلاح النووي مما دفع الرئيس الأمريكي الأسبق إلى أن يعلن استنفاراً نووياً من الدرجة الثالثة من الاستعداد في كل أنحاء العالم، وتكرر هذا الابتزاز في حرب الخليج عندما أطلق صدام حسين صواريخه على تل أبيب؛ ولكن اليهود مع هذا يعلمون أنهم سيكونون أول ضحايا حرب نووية في المنطقة، ولهذا؛ فإنهم يعتمدون ما يسمى بِ (الخيار شمشون) (1) ومعناه: أنهم سيضحون بالجميع إذا ترجح عندهم أنهم يواجهون خطر الاستئصال.
الانجيليون والزخم الاعلامي في امريكا:
كلما اقترب قدوم الألفية الثالثة ازدادت وتيرة الصياح عن الحرب العالمية الثالثة؛ فقد صدرت في السنوات الأخيرة العديد من المؤلفات التي تتحدث عن هذه الحرب، ولاقى بعضها إقبالاً منقطع النظير، منها :
1-كتاب (دراما نهاية الزمن) لمؤلفه (أوترال لوبرتس) وبيعت منه ملايين النسخ.
2-كتاب: (الكرة الأرضية، ذلك الراحل العظيم) من تأليف (هال لندسي) وقد بيعت منه نحو 18 مليون نسخة .
__________
(1) يراجع في ذلك كتاب: (الخيار شمشون -أسرار وخفايا الترسانة النووية الإسرائيلية) تأليف سيمور هيرش، دار الكتاب العربي، وشمشون هو أحد (أبطال) الأساطير اليهودية الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.(1/231)
3-كتاب (أسرار نهاية العالم)، وقد ألّفه عدد من العلماء وهم: الدكتور الفرنسي (لرجان بير) المتخصص في سيمولوجيا الانثربولوجي والدكتور الإنجليزي (ديفيد) المتخصص في مجال المعلومات، والدكتور اليوناني (ديمتري) المتخصص في علم اللغويات، والدكتورة (ميريام) الإسرائيلية المتخصصة في دراسة اللاهوت، وقد استنبطوا من سفر يوحنا في الإنجيل مادة كتابهم، وجاء في مقدمة الكتاب: "إن حضارتنا هذه ستكون ضحية مرة أخرى لجنون حرب عالمية ثالثة لن تستغرق كثيراً، لأن الأسلحة الموجودة الآن نووية، وستحرك هذه الحرب (يأجوج ومأجوج) الذي تمثلهم الصين في هذا العصر بما تملك من ترسانات نووية موجهة نحو الغرب"، ويتوقع أن يفوق هذا الكتاب ما سبقه من كتب في شدة الإقبال وذيوع الصيت.
وإلى جانب ذلك تُقدِّم السينما في الغرب كل مدة أفلاماً مرعبة تصور ما يمكن أن يحدث للعالم إذا نشبت الحرب العالمية الثالثة، منها:
1-فيلم(الشتاء النووي) الذي عُرض في بداية التسعينات وأثار رعباً واسع النطاق.
2- فيلم (الشبح ...ظاهرة نهاية القرن العشرين) وقد بلغت ميزانية الفيلم (115) مليون دولار.
ولا ندري هل هذا الزخم الإعلامي الضخم هو المسؤول عن اللوثات الدينية (الأخروية) في أمريكا، أم أن تلك اللوثات هي التي تصنع ذلك الزخم؟
البعد الديني في السياسة الأمريكية
الانجيليون والانتخابات الامريكية :(1/232)
إن التيار الإنجيلي البروتستانتي الذي يطلق على نفسه: (التحالف المسيحي الصهيوني) أصبح يقود حركة مدّ ديني متنامٍ في الولايات المتحدة، وبات لا يكتفي بالتدخل في السياسة، بل يطمع في توجيهها، ويطمح إِلى الإمساك بزمامها. وللتذكير؛ فإن هذا التيار هو الذي انتخب الكونجرس الأمريكي عام 1994م وسيطر على أغلبيته لصالح الحزب الجمهوري، ولما تباطأ هذا الحزب في التنفيذ الشامل لكل برامجهم الموجهة أعلنت كتلتهم المسماة بِ (الائتلاف المسيحي) احتجاجها، وحذّرت الحزب بأنه لن يحظى ثانية بتأييدهم في انتخابات الكونجرس القادمة، وأمام هذا التهديد أذعن الحزب الجمهوري لمطالب (الائتلاف المسيحي) الذي سحب تهديده. وقد ظهر اثر وقوفه مع الحزب مرة أخرى في انتخابات تشرين ثاني من عام 1998م التي فاز بها الجمهوريون بأغلبية ساحقة كان سببها التأييد القوي من الائتلاف المسيحي الصهيوني، ويكرر هذا الائتلاف لعبته، فيتوعد الحزب الجمهوري بالتخلي عنه في انتخابات عام 2000م إِذا لم يضع برامجهم الدينية موضع التنفيذ (1) ، بل هدد أحد زعماء الائتلاف بنسف الحزب الجمهوري انتخابياً إذا تخلى عن برنامج الأصوليين (الإصلاحي)!
__________
(1) قارن بين هذا (التسامح) مع الأحزاب القائمة على أساس ديني (مسيحي) في بلادهم، وبين ذلك الرفض الهستيري منهم للتمكين لأي حزب يقوم على أساس ديني إسلامي في بلادنا نحن !(1/233)
والائتلاف المسيحي لن يدع فرصة انتخابات تفوته ولهذا؛ فإن مؤسس الائتلاف المسيحي (بات روبتسون) بدأ في إِعداد حملة ضخمة لضمان سيطرة الأصولية الأمريكية على انتخابات القرن الحادي والعشرين التي ستأتي بالحكومة الأولى في الألف الثالثة، وقد سبق لروبتسون أن قاد حملة الحزب الجمهوري عام 1988م، وهو من الأصدقاء الشخصيين لكل من ريجان وبوش، بل إن تكتل الأصوليين الذي يتزعمه هو الذي جاء بالرئيس ريجان ليضعه على رأس أكبر دولة في العالم، وكان الائتلاف مسانداً قوياً لجورج بوش من بعده، وعندما حصلت الانتخابات التي جاءت بكلينتون مرشح الحزب الديمقراطي، كان منافسه فيها (بوب دول) مرشح الحزب الجمهوري، ولكن (دول) لم يفلح في كسب تأييد الأصوليين الإِنجيليين فتخلوا عنه فسقط (1) ، وجاء كلينتون الذي أثبت أنه أصولي أكثر من الأصوليين في تأييده للإسرائيليين رغم انتمائه للديمقراطيين.
ويستعد الإنجيليون دوما لخوض حملة رئاسية عنيفة وفاصلة من أجل تسليم زمام السلطة في أمريكا إِلى رئيس أصولي إِنجيلي أو تابع للأصوليين الإنجيليين في الانتخابات، وقد بدأ زعيم (الائتلاف المسيحي) روبتسون هذه الحملة باستعدادات وصفها المراقبون بأنها (أسطورية)!
__________
(1) بالمناسبة، فإن السيناتور (بوب دول) هو الذي وضع مشروع القانون الذي يطالب الحكومة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بهدف كسب تأييد الأصوليين الإنجيليين في معركته ضد كلينتون، وأقر الكونجرس ذلك المشروع في 24/10/1995م، ثم عاد فأكد القرار في حزيران 1997م .(1/234)
فقد نشرت صحيفة لوس انجيلوس تايمز في 12/3/1999م، أن القس الأمريكي (بات روبتسون) تعهد بإطلاق حملة ميزانيتها (21) مليون دولار لتوجيه الناخبين الأصوليين ودفعهم إلى مراكز الاقتراع في انتخابات عام 2000 للرئاسة ومجلس الكونجرس، وتقضي خطته الانتخابية بتجنيد (مليون و 500 ألف) حركي لضمان صب أصوات (15) مليون ناخب في خانة المرشحين الأصوليين اليمينيين، وفي سياق إِعلانه عن الحملة ذكر القس الأمريكي أن الحركيين التابعين لتحالفه سيُكلَّفون بتوزيع (75) مليون دليل انتخابي خلال الحملة المقبلة، وسيتحركون سياسياً في (100 ألف) كنيسة. أما عن المسائل ذات الاهتمام التي سيركز عليها في حملته فقد قال القس: إِن الائتلاف المسيحي مهتم أساساً بالمسائل الدينية التي تواجه أمريكا، وخارجياً فإن أشد ما يزعجه هو حصول الصين (1) على أسرار تكنولوجية نووية أمريكية.
وهذا (الملك) النصراني غير المتوج يؤمن إِيمانا مطلقا بإسرائيل، وبأنها المحور الذي تدور حوله أحداث (الأيام الأخيرة) يقول: "إِن إِعادة ميلاد إسرائيل، هو الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية العالم قد بدأ، كما أنه مع مولدها؛ فإن بقية التنبؤات ستتحقق بسرعة" (2) .
__________
(1) الصين على وجه التحديد هي أول من يمثل معسكر (جوج وماجوج) في اعتقاد الإنجيليين !
(2) النبوءة والسياسة ، ص 49 .(1/235)
وتقول نيويورك تايمز لا يوجد في عقل بات روبرتسن وجماعته سوى الأيام الأخيرة من الزمن ، والمجيء الثاني للمسيح ونشوب معركة هرمجدون . أي أن روبرتسن الزعيم الثاني في الأصولية الإنجيلية والحبيب المقرب للرئيس الامريكي بوش الاب يتوقع نزول المسيح - عليه السلام - بنهاية هذا الألف الثاني للميلاد ، ويعلل ذلك بان إعادة مولد ((إسرائيل )) هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ ، كما أنه مع مولد (( إسرائيل )) فإن النبوءات أخذت تتحقق بسرعة، أي أن كل ما أخبر به الكتاب المقدس سيأتي اعتبارًا من وجود دولة (( إسرائيل )) .
الهرمجدون والسياسة الامريكية
يتفق الجميع على أنه بنزول المسيح وبعد القضاء على أعدائه – ستكون للإنسانية حكومة واحدة فقط وهذه هي القضية الجوهرية الأولى ، أما الثانية فهي أن السلام سيشمل العالم كله ؛ إذ في ظل هيمنة هذه الحكومة الوحيدة لن يكون هناك قتال بين دولة وأخرى أو شعب وآخر، بل لن يحتاج العالم إلى الجيوش والأسلحة !!
هذا ما تبشر به نبوءات الأديان فلم لا يكون هذا مدخلاً للانتهازيين من دهاقنة السياسة النصارى ؟
ولنأت إلى كتابات من نوع كتاب (( غريس هالسيل )) - النبوءة والسياسة - وكتاب ((البعد الديني في السياسة الأمريكية)) إن الكتابات الأخيرة ليست تحليلات أو استنتاجات قد يلفها الوهم أو المبالغة، وإنما هي مشاهدات ومقابلات وإحصائيات منشورة في الصحافة والمصادر الرسمية لا أثر فيها لعنصر الخيال قط ، ومع ذلك فهي تثبت إيمان رؤساء أمريكا بمعركة هرمجدون ، ولكن هذا لا يعني بالنسبة لنا أنهم أصبحوا توراتيين محضًا كزعماء الحزب التوراتي في تل أبيب أو إنجيليين صرفا كطلاب كلية زويمر !!(1/236)
إن السياسة المعاصرة يرفدها أكثر من عنصر ويحكمها أكثر من منطق ، ومن هنا فإن الانتهازية الدينية هي أحد هذه العناصر، وإذا كانت السياسة ( غير الشرعية) كلها نفاق فهل من سبيل لتمييز المؤمن فيها من المنافق ؟ ومن الذي في وسعه أن يفرق بين كارتر المبشر الجوال ، وريجان المحافظ الأصولي، وبوش رجل المخابرات والاغتيالات ، ألم يكن الجميع سائرين في طريق واحد لتحقيق خطة واحدة من معسكر داود حتى مدريد ؟ وهل اللوبي الصهيوني الذي يحركهم جميعا ينطلق من تدينه الخالص أم من أطماعه وأحلامه الدنيوية الراسخة في أعماق نفوس اليهود منذ عبادة العجل الذهبي !! وهل تضر هذه الأحلام بعقيدتهم في نزول المسيح أم أنه إن صحت أو كذبت فلا فرق .
إن الذي يهم بوش هو عودته للرئاسة ثانية لا عودة المسيح ثانية !! وإن تدين رؤساء أمريكا لا يقاس بقديسيهم القدامى ولكن بقساوستهم المعاصرين أمثال جيمي سواجارت وغيره من أصحاب الفضائح الأخلاقية وحملة فيروس (( الإيدز )) !
وأخيرا أقول إن من يجزم بأن اليهود لن ينجحوا في إقامة مملكة الشيطان على أرض الإسلام كما أسلفنا هو أبعد الناس عن النظرة التآمرية المزعومة . .(1/237)
وقد سيطر هذا الاعتقاد على قطاع عريض من النصارى ممن ارتقوا المناصب العليا في العالم كالرؤساء الامريكيين . وينقل كتاب (البعد الديني ) عن الرئيس كارتر أنه قال : ( لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين ، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة ؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه . لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم تراث التوراة ) (1) وهؤلاء السبعة يعتقدون أن الصراع بين العرب واليهود هو صراع بين داود وجالوت الذي يسمونه جوليان ، وجالوت العصر هم العرب وداود هو دولة إسرائيل .
وقد صرح الرئيس ريجان أكثر من إحدى عشرة مرة أن نهاية العالم باتت وشيكة، وأنه يؤمن بمعركة هرمجدون وقال في حديث مع المدير التنفيذي للوبي الإسرائيلى (إيباك ) :
"حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعًا ولا أدرِي إذا كنت قد لاحظت مؤخرَا أيًا من هذه النبوءات ، لكن صدقني أنها قطعًا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه " . (2)
وقال ريجان : ( إنني دائمًا أتطلع إلى الصهيونية كطموح جوهري لليهود . . وبإقامة دولة إسرائيل تمكن اليهود من إعادة حكم أنفسهم بأنفسهم في وطنهم التاريخي ليحققوا بذلك حلمًا عمره ألفا عام !
__________
(1) البعد الديني في السياسة الأمريكية د . يوسف الحسن : ص 76 .
(2) البعد الديني في السياسة الأمريكية د . يوسف الحسن : ص 172-179(1/238)
ونشرت مجلة (سان رييجو مجازين) في آب من عام 1985م مقالاً لِ (جيمس ملز) الذي كان رئيساً لمجلس شيوخ ولاية كاليفورنيا قال فيه: إن ريجان قال له أثناء مأدبة عشاء حضرها: "إن كل النبوءات التي يتعين تحقيقها قبل معركة مجدو قد حدثت، ويقول سفر حزقيال: إن الله سيأخذ إسرائيل من وسط الكفار بعد أن يكونوا مشتتين، ثم يلم شملهم مرة أخرى في أرض الميعاد، وقد حدث هذا بعد قرابة ألفي سنة، ولأول مرة في التاريخ فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدو والمجيء الثاني للمسيح" (1) .
أي الوعدين على حق ؟
وعند هذا الوعد تلتقي كل الأديان الثلاثة المعروفة في العالم . . المسلمون عندهم في هذا الوعد دعوى ثابتة من كتاب الله وسنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم. واليهود والنصارى عندهم فهمهم لهذا الوعد الذي افتروه على الله سبحانه وتعالى .
ومن ثم فإن الصراع في أصوله ليس بين قوتين ، أو بين عنصرين ، وإنما هو صراع بين وعدين ، بين الوعد الحق والوعد المفترى . . وبالتالي فهو صراع بين عقيدتين ، عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي اللّه إبراهيم وجددها سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وسيجددها آخر الزمان سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام ، وبين دعوة الشرك والخرافة والدجل التي أسسها الرهبان والأحبار فيما كتبوه من عند أنفسهم وقالوا هذا من عند الله ، وما هو من عند الله ، ابتداءًا بحاخامات اليهود ومرورًا ببولس (شاؤول ) ، ثم البابوات الضالين المضلين وانتهاء بهرتزل ومن كان معه ، ثم ينتهي الأمر إلى النهاية المؤكدة في آخر الزمان بظهور مسيحهم الدجال . . وعندما يلتقي المسيحان المسيح ابن مريم عليه السلام والمسيح الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء لولا أن المسيح يقتله
عندها تنتهي هذه المعركة الطويلة بين هذين الوعدين . أي بين الأمتين اللتين تؤمنان بهما، أمة الإسلام من جهة واليهود والنصارى من جهة أخرى
__________
(1) الفصل 38 من سفر حزقيال(1/239)
وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ((ملك السلام )) والذي يهيئون لخروجه ولكنهم لا يسمونه الدجال . والآخر هو المسيح ابن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى . ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل ، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه ، وستكون قاعدة ملكه هي القدس (أورشليم ) كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقمًا ألفيًا (نسبة إلى الألف ) ومستندهم في ذلك بعض التأويلات لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي ومنامات الرهبان وتكهنات الكهان أمثال (أنوسترا دامس ) الذي حولت السينما الأمريكية توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجَا كبيرًا في العقد الماضي. ثم برز الحديث عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق .
والآن مع بداية الألف الثالثة من ميلاد المسيح عليه السلام واعتقاد قرب نزوله كما يؤمن الأصوليون الإنجيليون يلتقي الحلمان القديمان اللذان يتكون منهما الوعد المفترى : حلم النصارى بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض ليقتل اليهود والمسلمين وكل من لا يدين بدينهم في معركة هرمجدون وحلم اليهود بخروج الملك من نسل داود الذي يقتل النصارى والمسلمين ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل وهو المسيح الدجال ، ومن ها هنا اتفق اليهود والنصارى على فكرة أن قيام دولة إسرائيل وتجمع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح ، كما يفسره كل منهما !(1/240)
وبنظرة منطقية عابرة يظهر جليَا أن هذا الإلتقاء الظاهري يحمل تناقضَا كبيرا - يجعل من المفترض عقليًا أن يكون قيام دولة إسرائيل وبداية الألف الثالثة - مسوغًا لحرب لا هوادة فيها بين الطائفتين (اليهود والنصارى) تبعًا للتناقض الكبير والحرب المتوقعة بين المسيحين !! (الدجال وابن مريم ) وأن يكون النصارى في هذه المرحلة أكثر تقربًا إلى المسلمين وتعاونًا معهم تبعًا لاتفاق الطائفتين في الإيمان بمسيح الهدى عليه السلام وعداوتهما لمسيح اليهود ولكن ها هنا مربط الفرس وبيت القصيد .
ها هنا يظهر المكر اليهودي الخبيث ، ويتجلى معه الحقد النصراني الدفين على المسلمين . أما المكر اليهودي فيتجلى في تلك الحيلة الغريبة التي ابتدعها حاخامات صهيون وأقرهم عليها بلا تردد قادة الإنجيليين الألفيين (ولا غرابة فبعضهم يهودي مندس ) وهي تأجيل الخوض في التفصيل والاهتمام بالمبدأ الذي هو نزول المسيح ، وذلك بالتعاون سويًا والتخطيط اشتراكًا لتهيئة نزوله ، فإذا نزل فسنرى هل يؤمن به اليهود أو يكون هو الذي يؤمن به - الآن - اليهود ؟
فلتظل هذه المسالة معلقة تمامًا لأن الخوض فيها ليس من مصلحة الطائفتين معًا !! وليعملا سواء للقضاء على العدو المشترك " المسلمين ا !!
واتفق زعماء الملتين على نسج قناع يستر وجه المؤامرة عن أعين المغفلين من النصارى والمستغفلين من المسلمين !
وأما الحقد الصليبي فيتجلى في انسياق العالم الغربي النصراني وراء اليهود حتى في هذه القضية الكبرى التي يقتضي الدين والعقل والمصلحة أن يتفهموا موقف المسلمين منها على الأقل !!
ونخص بالذكر الكاثوليك أتباع البابا الذين لا يؤمنون بحرفية التوراة - ولكنه الحسد والبغي الذي يكنه أهل الكتاب للمسلمين كما أخبر الله في كتابه المبين(1/241)
الحمد لله الَّذِيْ بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام عَلَى خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتهيت - بعون الله تعالى وتوفيقه - من إتمام هذا البحث وإكماله ، وقد بحثت فيه جهدي وطاقتي ، واستفدت منه فوائد كثيرة ، وخرجت بنتائج طيبة ، وذلك من خلال قراءتي لكثير من كتب العقيدة والتفسير والحديث والتراجم وغيرها من مختلف العلوم المتعلقة بهذا البحث .
هذا ويمكن أن أجمل أهم النتائج والفوائد التي توصلت إليها في الأمور التالية :
1 - أن بحث أشراط الساعة ودراستها وتعلمها وتعليمها من أهم الأمور في الوقت الحاضر ؛ لإقبال الناس عَلَى الدنيا والجري وراءها ، مما جعل الكثير منهم ينسى الحياة الآخرة ، والاستعداد لها ، فالبحث في أشراط الساعة ودراستها وعرضها عَلَى الناس يقوي الإيمان في القلوب ويحثهم عَلَى الإكثار من الأعمال الصالحة ، والاستعداد للقدوم عَلَى الدار الآخرة .
2 - أهمية الإيمان بالغيب ومكانته في الإسلام ، فهو صفة المؤمنين المتقين ، وكل من يدعي علما بشيء من الغيب من تلقاء نفسه يكون ضالا مكذبا لخبر الله تعالى ، ونصوص الكتاب والسنة التي تبين أن علم الغيب من خصائص الله تبارك وتعالى .
3 - يجب عَلَى كل مسلم طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه واقتفاء أثره والسير عَلَى هديه ، وعدم مخالفه أمره ونهيه ، فعبادة الله سبحانه وتعالى لم تترك للأهواء والأفكار ، بل هي مقيدة باتباعه صلى الله عليه وسلم ، فيما شرعه لأمته .
4 - أن أشراط الساعة الصغرى ظهر كثير منها ولم يبق منها إلا القليل .
5- أنه يجب الإيمان بكل الأحاديث والأخبار التي ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة سواء كانت متواترة أم آحادا .(1/242)
6 - أن المراد بأشراط الساعة هي العلامات التي تسبقها ، ولا دليل في ذلك عَلَى كون شيء منها محرما أو ممنوعا ، إنَّمَا وقوعه دليل عَلَى قرب الساعة ودنو قيامها ، ومنها بعثته صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة الصغرى ، وهي كذلك نور وخير للبشرية .
7 - أن أشراط الساعة وعلاماتها التي ظهرت ووقعت هي من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم حيث إنها وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم .
8 - أن أشراط الساعة الكبرى إذا خرجت تتابعت كتتابع الخرز في النظام .
9 - أن عيسى ابن مريم عليه السلام عندما ينزل يقتل الدجال ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويقضي بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
10 - أن طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي ، وأنه بطلوعها يقفل باب التوبة .
11 - أن آخر أشراط الساعة الكبرى هو خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر ، و الَّذِيْ يكون بَعْدَه قيام الساعة .
وأخيرا... ها أنذا ألقي عصا التسيار، فأصل إلى نهاية هذا البحث وإني في ختام هذا البحث أضعُ القلم لأتجه بالحمد الخالص للذي بنعمته تتم الصالحات عَلَى ما أمد به من عون، كنت لا أفتأ أحسّ به في الفِكْر قوة، وفي الروح صفاء وشفافية، وفي البصيرة نفاذاً، وفي العزم ومعاناة البحث صبراً وَجَلَداً.
وإنه لقمن بكل واقف عَلَى هذا البحث أن يسدد ما به من خلل وأن يستر ما فيه من زلل، فلقد علمت أنه ليس من العصمة أمانِ خصوصاً إذا صدر الكاتب عن وفاض ليس فيه من العلم إلا القليل وكتب بقلم كليل. فاللّهم لا تعذب يداً كتبت تريد نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين عن دينك، ولا لساناً أراد الذب والدفاع عن شريعتك، ولا قلباً يعتصر من أقوال المستغربين، ولا روحاً أرادت أن ترفرف في ظلال عدلك، ولا تحرمني بفضلك خير ما عندك بشر ما عندي. والحمد لله رب العالمين.
الكتاب ... ملحوظة(1/243)
الاختلاف الفقهي وأثره عَلَى وحدة الأمة الاسلامية ... الْمَاجِسْتِيرِ
مفهوم العدالةالاجتماعية عند بعض المفكرين المسلمين ... الدُّكْتُورَاة
مفهوم العدالة في النظام الاجتماعي في الاسلام ... الدُّكْتُورَاة
مفهوم العدالة في النظام الاقتصادي في الاسلام ... الدُّكْتُورَاة
مفهوم العدالة في نظام الحكم في الاسلام . ... الدُّكْتُورَاة
مفهوم العدالة في نظام العقوبات في الاسلام . ... الدُّكْتُورَاة
السحر والشعوذة في ضوء الكتاب والسنة . ... دار العلوم
الطريق الى القدس . (دار العلوم) ... 200/صفحة
خطبة الوداع فوائد وفرائد . ... 150/صفحة
التبيان في روض البيان ... 150/صفحة
ليلة القدر نفحات ولفحات . ... 100/صفحة
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ . ... 160/صفحة
لمسات البيان من روض القرآن ... 1000/صفحة
الأخبار النبوية الصادقة في الأحداث العالمية المقبلة ... 160/صفحة
الموضوع ... الصفحة
الاهداء
المقدمة(1/244)