الأجوبة المختصرة
على
أسئلة الخيرة
لفضيلة الشيخ : صالح بن محمد الأسمري
حفظه الله تعالى
جمعها ورتبها
محمد بن أحمد هاشم العصلاني
الفهرس
رقم ... الموضوع ... الصفحة
1 ... المقدمة ... 4
2 ... وصف الله تبارك وتعالى بـ( السكوت ) ... 5
3 ... تسمية الملائكة المقربين بـ( الكروبيين ) ... 7
4 ... كفر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ودليل ذلك ... 9
5 ... حكم من لم يُكفر اليهود والنصارى أو صحح ما هم عليه من باطل ... 10
6 ... الحكم على مذهب المبتدعة الرافضة ... 12
7 ... الحكم على الروافض بأعيانهم ... 13
8 ... مسألتان مهمتان ؛ الأولى : بُغض أهل البدع والبراءة منهم ... 14
9 ... المسألة الثانية : هجر البدعة وأهلها ... 15
10 ... نجاسة الطِيْب المُسكر ( الكولانيا ) ... 17
11 ... مسألة قضاء صلاة العيد لمن فاتته ... 19
12 ... مسألة إيقاع صيام النفل قبل القضاء ... 21
13 ... لا يصح إيقاع صيام النفل قبل القضاء في حالتين ... 23
14 ... هل لصلاة التراويح عدد محدد ... 24
15 ... متابعة الإمام إذا زاد على ( إحدى عشر ركعة ) ... 28
16 ... مسألة فصل القيام في رمضان ... 30
17 ... إذا كان المأموم لا يرى مشروعية ( دعاء ختم القرآن ) فهل يتابع الإمام في ذلك ... 32
18 ... هل تُشرع صلاة التراويح جماعة في السفر ؟ ... 33
19 ... حكم التزاحم على الجنازة عند حملها ... 34
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما بعد :ـ
فهذه بعض أسئلة طلاب العلم التي أجاب عنها فضيلة شيخنا ( الشيخ صالح بن محمد الأسمري ـ حفظه الله تعالى ـ ) . ولمَّا كانت مختصرة دون إسهاب وإطالة فقد وسمت بـ ( الأجوبة المختصرة على أسئلة الخِيَرة ) .
وقد كانت هذه الفتاوى في أمور مختلفة ، وأزمنة مختلفة ، ونظراً لأهميتها واشتمالها على بيان جواب المسألة بدليله ، فقد قمت بجمعها وترتيبها ، وصناعة فهرس كاشف لمواضيعها .(1/1)
وحرصاً على أن تعم الفائدة بها ، فها هي الملزمة الأولى منها ، على أن تخرج باقي الملازم مستقبلاً كل ما تيسر جمع مادتها .
هذا والله أسأل أن ينفع بها ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصةً لوجهه الكريم ، صواباً على سنة نبيه الأمين .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه
محمد بن أحمد هاشم العصلاني
الطائف
20/ 5 / 1421 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
هل يُوْصف الله سبحانه وتعالى بالسُّكوت ؟
نعم يُوصف بذلك ، ودلّ عليه السنة والأثر والإجماع :
فأما السنة فمنها ما أخرجه الحاكم في (( المستدرك )) عن أبي الدرداء مرفوعاً: (( ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته )) الحديث . وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال البزار : (( إسناده صالح )) .
ودلالة الحديث على المراد جليةٌ واضحةٌ ، حيث أُضِيف السكوت إلى الرب إضافة صفة إلى موصوف .
وأما الأثر فمنها ما أخرجه الحاكم في (( المستدرك )) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : (( كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً ، فبعث الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل كتابه ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو …)) الخبر . وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي .
ودلالة الأثر على المقصود كدلالة الحديث السابق .
وأما الإجماع فحكاه شيخ الإسلام ابن تيميَّة في : (( مجموع الفتاوي )) (6/179) بقوله : (( فثبت بالسنة والإجماع : أن الله يُوصف بالسّكوت )) .(1/2)
لقد ذكر شيخ الإسلام في : (( مجموع الفتاوي )) ( 6/179 ) أن السكوت يأتي بمعنى السكوت عن التَّكلُّم – وهذا معروف وشائع – وقد يأتي بمعنى السكوت عن الجهر وإظهار الكلام كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - – المتفق عليه – وفيه : (( يا رسول الله أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال أقول : اللهم باعد بيني بين خطاياي …)) الحديث .
غير أن المعطّلة والكلاّبية والأشعريّة ونحوهم ينكرون وصف الله بالسكوت ، ويحملون الوارد في الخبر على معان باطلة محرَّمة .
لكن قال شيخ الإسلام في : (( مجموع الفتاوي )) ( 6/180) : (( والنصوص تَبهرهم )) .
صفة السكوت من جنس الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله ، وهي تُثبت في حق الله عز وجل على وفق قوله - سبحانه وتعالى - : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
هذا ، والله تعالى أعلم .
{ { { { {
ما مدى صِحة تسمية الملائكة المقربين بالكَرُوْبيين ؟
أَثْبَتَ جمعٌ من السلف اسم : ( الكَرُوْبيين ) لنوعٍ من الملائكة ، ومنهم : الضحاك ومقاتل وأبو العالية ، ذكره عن مقاتل : ابنُ الجوزي رحمه الله في : (( زاد المسير )) (8/110 ) ، وعن البقيَّة وابن عباس رضي الله عنهما : ابنُ كثير رحمه الله في : (( تفسير القرآن العظيم )) ، وقال عند قوله تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } - الآية من سورة غافر - : (( يُخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ، ومن حوله من الكروبيين : بأنهم يسبحون بحمد ربهم )) .
ومن قبلُ قال البغوي رحمه الله في : (( معالم التنزيل )) عند الآية نفسها : (( حملة العرش والطائفون به : هم الكروبيون ، وهم سادة الملائكة )) .(1/3)
وورد في ( الكَروْبيِّين ) حديث عند ابن عساكر ، ولكنه ضعيف السند لضعف بعض رواته، وهو حديث جابر بن عبد الله مرفوعاً : (( إن لله ملائكة ، وهم الكَرُوبِيُّون ، من شَحْمة أذن أحدهم إلى تُرْقُوته مسيرة سبعمائة عام للطائر السَّرِيع في انحطاطه )) .
إلا أنه ورد في بعض حملة العرش بنحو حديث جابر ، قال السيوطي رحمه الله في : (( الدر المنثور )) (7/274) : (( وأخرج أبو داود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في : (( العظمة )) وابن مردويه والبيهقي في : (( الأسماء والصفات )) بسند صحيح ، عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أُذِن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة )) انتهى .
والخلاصة : أنه لم يثبت اسم : ( الكروبيين ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن ثبت عن جماعة من السلف والخلف من أهل السنة والأَثر .
قال الآلوسي رحمه الله تعالى في : (( روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني )) ( 13/70 ) : (( يقال لحَمَلَة العرش والحافِّيْن به : الكَرُوْبِّيون ، جمع كَرُوْبِي ، بفتح الكاف وضم الراء المهملة المُخَفَّفَة وتشديدها خطأ ، ثم واو بعدها باء موحَّدة ثم ياء مشددة ، من : ( كرب ) بمعنى : قرب . وقد توقَّف بعضهم في سماعه من العرب ، وأثبته أبو علي الفارسي ، واستشهد له بقوله :
كَرُوْبِيَّةٌ مِنْهُمْ رُكُوْعٌ وَسُجَّدُ
وفيه دلالة على المبالغة في القُرْب لصيغة فَعُوْل والياء التي تُزَاد للمبالغة .
وقيل : من (الكَرْب ) بمعنى : الشدَّة والحزن ، وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفاً .
وزعم بعضهم : أن الكروبيين حملة العرش ، وأنهم أول الملائكة وجوداً ، ومثله لا يُعْرف إلا بسماع .
وعن البيهقي : أنهم ملائكة العذاب ، وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدَّة والحزن )) انتهى .(1/4)
والمعروف أن ( الكروبيين ) هم : المُقَرَّبُوْن من الملائكة ، قال الخطابي رحمه الله تعالى في : (( غريب الحديث )) (1/440) : (( الملائكة الكَرُوبيّون ، وهم : المُقَرّبون . وقال بعضهم : إنما سُمُّوا : ( كَرُوبيين ) لأنهم يُدْخِلون الكَرْب على الكفار ، وليس هذا بشيء )) .
وقال ابن الأثير ـ رحمه الله ـ في : (( النهاية في غريب الحديث والأثر )) ( 4/161 ) : (( في حديث أبي العالية :(( الكروبيون سادة الملائكة )) هم المقربون ، ويقال لكل حيوانٍ وَثِيْقِ المفاصل : إنه لمُكْرَب الخَلْق ، إذا كان شديد القُوَى . والأول أشبه )) .
{ { { { {
هل أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار ؟ وما حكم من لم يُكَفِّرهم أو يصحح ما هم عليه ؟ وهل يُعذر إذا كان جاهلاً ؟
هذه ثلاث قواعد تتعلق بمسألة تكفير اليهود والنصارى :
الأولى : أن اليهود والنصارى كُفار ، وقد دَلَّ على كفرهم الكتاب والسنة والإجماع .
فأما الكتاب : فأخبر الله فيه عن كفرهم ، فقال تعالى عن النصارى : { لَقَد كَفَرَ الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما مِنْ إله إلا إلهٌ واحد وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمَسَّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم } [ المائدة / ( 73 ) ]
وقال تعالى عن اليهود : { ولمَّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لِما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } . [ البقرة / ( 89 ) ] .(1/5)
يقول الإمام ابن كثير ـ يرحمه الله تعالى ـ في : [ التفسير ( 1 / 127 ) طبعة مكتبة النهضة ] : ( يقول تعالى { ولما جاءهم } يعني : اليهود . { كتاب من عند الله } وهو القرآن الذي أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - . { مصدق لما معهم } يعني : من التوراة . وقوله : { وكانوا يستفتحون من قبل على الذين كفروا } أي : وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون : إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم به قتل عاد وإرم ، … وقال مجاهد : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } قال : هم اليهود ).
وأما السنة : ففيها أحاديث كثيرة ، منها ما أخرجه الإمام مسلم في : [ صحيحه ( 1 / 93 ـ كتاب الإيمان ] من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )) .
وأما الإجماع : فحكاه غير واحد ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ حيث قال في :[ مجموع الفتاوي ( 27 / 264 ) ]: ( من لم يحرِّم التدين بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بدين اليهود والنصارى ، بل من لم يكفرهم ويبغضهم : فليس بمسلم باتفاق المسلمين ) .
الثانية : أن كفر اليهود والنصارى معلوم من الدين بالضرورة ؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله في : [ مجموع الفتاوي ( 2 / 368 )] ، والجهل بذلك لا يعذر صاحبه فيه ، بل هو كافر مرتد .(1/6)
الثالثة : أن من لم يُكفر اليهود والنصارى ، أو شك في كفرهم ، أو سوّغ اتباع دينهم، أو صحح ما هم عليه من اعتقادات باطلة : فهو كافر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله في : [ نقض التأسيس ( 1 / 447 )] : ( أن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان من مسلم ، وإن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه : كفرٌ ورِدَّة إذا كان من مسلم ) وقال في: [ مجموع الفتاوي ( 27 / 463 - 464 )] : ( وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة والاتحادية ونحوهم ـ يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى ، ومعلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين فمن لم يُقر ظاهراً وباطناً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم ، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يكون مسلماً إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً ، فليس بمسلم ) . هذا والله تعالى أعلم .
{ { { { {
انظر : (( مجموع الفتاوي )) لابن تيمية يرحمه الله ( 1 / 106 ) .
بالنسبة لمن يكون على مذهب أهل السنة والجماعة وأهل بيته على مذهب الرافضة :
أ ) كيف تكون المصاحبة للوالدين بالمعروف ؟ وهل يكفي السؤال عن حال والده في بعض الأحيان ، ومصافحته إذا لقيه ؟
ب ) وبالنسبة لبقية الأقارب هل عليه شيء إن كان لا يزورهم أو يزور بعضهم في المناسبات فقط من باب الصلة ؟ .
الرافضة الإثنا عشرية الحكم فيهم هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في : (( مجموع الفتاوي )) (28/500) بقوله : (( والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها ، التي يُعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - : كفر . وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين : هي كفر أيضاً … لكن تكفير الواحد المُعيَّن منهم ، والحكم بتخليده في النار : موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه )) .
فيَتَحَصَّل أن الحكم عليهم متركِّب من شيئين :(1/7)
أولهما :كفر ما هم عليه من اعتقادات وأقوال وأفعال فاسدة ، قال الشوكاني رحمه الله في : (( نَثْر الجوهر )) ( ص: 15-16/ مخطوط) : (( إن أصل دعوة الروافض كِيَاد الدِّيْن ، ومخالفة شريعة المسلمين . والعَجَب كلّ العجب من علماء الإسلام ، وسلاطين الدين : كيف تركوهم على هذا المنكر البالغ في القُبْح إلى غايته ونهايته ؛ فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رَدّ هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها : طعنوا في أعراض الحاملين لها ، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم ، واستزلُّوا أهل العقول الضعيفة بهذه الذريعة الملعونة ، والوسيلة الشيطانية ، فهم يُظهرون السَّبّ واللَّعْن لخير الخليقة ، ويُضْمرون العناد للشريعة ، ورفع أحكامها عن العباد . وليس في الكبائر أشنع من هذه الوسيلة إلا ما توسَّلوا بها إليه ، فإنه أقبح منها ، لأنه عناد لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولشريعته .
فكان حاصل ما هم فيه من ذلك : أربع كبائر ، كل واحدة منها كُفْرٌ بَوَاح:
- الأولى : العناد لله عز وجل .
- والثانية : العناد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
- والثالثة : العناد لشريعته المطهرة ، ومحاولة إبطالها .
- والرابعة : تكفير الصحابة رضي الله عنهم ، المَوْصوفين في كتاب الله سبحانه بأنهم أشداء على الكفار ، وأن الله تعالى يَغيظ بهم الكفار ، وأنه قد رضي عنهم )) انتهى كلامه رحمه الله .
والثاني : عدم تكفير أَعيانهم ، وإخراجهم من ملَّة الإسلام . وهذا هو طَرْد قاعدة أهل السنة والجماعة في التفسيق والتكفير المعيَّن ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في : (( مجموع الفتاوي )) (10/372) : (( إن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك : لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعيّن ، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، لا فَرْق في ذلك بين الأصول والفروع ))(1/8)
ولا ريب أن هذا الحكم العَيْنِيّ إنما هو في حقِّ من ثبت له إيمان بيقين . قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في : (( مجموع الفتاوي )) ( 12/ 500-501) : (( من ثبت إيمانه بيقين لم يُزَل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجّة وإزالة الشُّبْهة )) .
وقال رحمه الله في : (( الاستقامة )) (1/163-165) : (( فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد ، من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح: لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل ( يعني : الرجل القائل : (( إذا أنا مِتّ فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذرُّوني في اليَمّ )) ) ، فيغفر الله خطأه ، أو يعذّبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه . وأما تكفير شخص عُلِم إيمانه بمُجَرَّد الغلط في ذلك : فعظيم )) . أ.هـ
فيتبين بما سبق : أن أعيان ( الروافض ) ليسوا كفاراً ( الكفر المُخرِج من الملة ) ، وعليه فإنه يُتعامل مع آحادهم وأعيانهم – سواء أكان قريب النسب أم بعيده ، من ذَوِي الرحم أم غيرهم – نفس التعامل مع أهل البدع ، ومن ذلك إعطائهم الحق العام الواجب بين كل مسلم ومسلم ، كردّ السلام ؛ لذا جاء في : ((سؤالات أبي داود لأحمد )) ( ص: 276 ) قوله : (( قلت لأحمد : لنا أقارب بخراسان يرون ( الإرجاء )، فَنَكْتُب إلى خراسان نُقْرِئهم السلام . قال : سبحان الله ! لِمَ لا تُقْرِئهم )) .
لكن هاهنا مسألتان مهمتان :
الأولى : أن من أصول أهل السنة : بُغض أهل البدع والبراءة منهم .
قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله في : (( عقيدة السلف )) ( ص : ... ) واصفاً أهل السنة والحديث : (( ويُبْغِضون أهل البدع ، الذين أَحْدَثوا في الدين ما ليس منه ، ولا يُحِبُّونهم )) .(1/9)
وبهذا عمل سلف الأمة ، من ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد رحمه الله في : (( السنة )) ( 2/420) : أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لمن سأله عن المنكرين للقدر : (( إذا لَقِيْتَ أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء ، وهم منه براء )) ثلاث مرات ! .
وأخرج نصر المقدسي رحمه الله في : (( مختصر الحجة )) ( ص: 460 ) : أن شعبة رحمه الله قال: (( كان سفيان الثوري يُبْغِض أهل الأهواء ، ويَنْهى عن مجالستهم أشدّ النهي )) .
والقاعدة في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في : ((مجموع الفتاوي )) (28/209-210 ) بقوله : (( وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر ، وفجور ، وطاعة ومعصية ، سنة وبدعة – استَحَقّ من الموالاة بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ، فيجتمع له من هذا وهذا ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويُعطى من بيت المال ما يكفي حاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة )) .
وقد ذم السلف الرَّفْض وأهله ، وجعلوا بدعتهم من أعظم البدع خطراً ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في :(( مجموع الفتاوي )) ( 28/500): (( ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة – شر منهم ، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ، ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان : منهم . وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقاً أو جاهلاً بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) .
والثانية : هجر البدعة وأهلها ، تأديباً لأصحابها ، وابتعاداً عن شرِّها .(1/10)
قال البغوي رحمه الله في : (( شرح السنة )) ( 1/224 – فما بعد ) : (( فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع مُعتقداً ، أو يتهاون بشيء من السنن : أن يهجره ويَتَبَرَّأ منه ، ويتركه حيّاً وميتاً )) . ثم قال رحمه الله : (( وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم )) .
وهَجْر المُبتدع إنما يُشرع لإحدى عِلَّتين ، ذكرهما ابن عبد البر رحمه الله في: (( التمهيد )) ( 6/119) بقوله : (( ولا هجرة إلا لمن ترجو تأديبه بها ، أو تخاف من شره في بدعة أو غيرها )) .
فمراعاة عِلَّة الهجر عند إيقاعه هو الأصل في ذلك ؛ لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في : (( مجموع الفتاوي )) ( 28/ 206 ) : (( الهجر يَخْتَلِف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم ، وقِلّتهم وكثرتهم . فإن المقصود به زَجْر المهجور وتأديبه ، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته : كان مشروعاً ، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك ، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته : لم يُشرع الهجر ، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر )) .
والروافض داخلون في ذلك ، بل قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله كما في : (( الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النجدية )) ( 7/208 فما بعد ) : (( مؤاكلة الرافضي والانبساط معه وتقديمه في المجالس ، والسلام عليه : لا يجوز ؛ لأنه موالاة وموادَّة ، والله تعالى قد قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين بقوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } … وأما مجرَّد السلام على الرافضة ومصاحبتهم ومعاشرتهم ، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم : فخطر عظيم ، وذنب وخيم ، يُخاف على مرتكبه من موت قلبه وارتكاسه )) .(1/11)
ويُسْتَثْنى من ذلك : صحبتهم لمصلحة راجحة أو حاجة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في : (( مجموع الفتاوي )) ( 28/216 ) : (( فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة )) . لكن إن انقضت المصلحة والحاجة ، فصحبتهم ممنوعة .
وبما سبق تتقرَّر طريقة تعامل سُنّي مع والديه وأقاربه الروافض . والله أعلم .
{ { { { {
هل الطِّيْب المُسْكر كـ ( كولانيا ) ونحوها : نجس ؟
هذه المسألة مَبْنِيَّة على مسألة مشهورة ألا وهي : نجاسة عَيْن الخمر وكلِّ مُسْكِر . وقد قَرَّر ذلك العلامة الشنقيطي – رحمه الله – في : (( أضواء البيان )) (2/129) .
والراجح : أن الخمر وما إليه ليس نَجِسَ العَيْن ، ودَلَّ على ذلك دليلان :
الأول : أن الأصل طهارة الأشياء حتى يقوم الدليل على خِلاف ذلك ، ولا دليل يصح على نجاسة عين الخمر .
والثاني : لَمَّا حُرِّمتْ الخمر أُرِيْقَت في طُرُق المدينة من أَوَانيها ، ولم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه باجتناب تلك الطُرق والأواني ، وتأخير بيان الحكم عن وقت الحاجة لا يجوز كما قَرَّره الفقهاء والأصوليون ، فدَلَّ ذلك على عدم نجاسة عين الخمر ، فعن أنس رضي الله عنه : (( أن الخمر لما حُرِّمت خرج الناس وأراقوها في الأسواق )) . أخرجه البخاري (1/196) .
وعن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه : (( أن رجلاً جاء براوية خمر فأهداها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ( أما علمت أنها حُرَّمتْ ؟ ) فَسَارَّهُ رَجُل أنْ بِعْها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله إذا حَرَّم شيئاً حَرَّم ثمنه ) ، ففَكَّ الرجل الراوية ، ثم أراقها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - )) أخرجه البخاري ( برقم : 6331) .(1/12)
وبطهارة عين الخمر قال جمعٌ من المتقدمين والمتأخرين ، فمن المتقدمين : ربيعة الرَّأي واللَّيْث بن سعد وإسماعيل المُزَني . قاله القرطبي في : (( التفسير )) (6/288) . ومن المتأخرين : النووي في (( المجموع )) (2/517) والصنعاني في : (( السبل )) (1/61) والشوكاني في : (( وبل الغمام )) (1/181) وصديق القِنُّوجي في : (( الروضة الندية )) (1/86) وغيرهم .
وعليه فالـ( كولانيا ) ونحوها ليستْ نجسة العَيْن ، بل هي طاهرة . والله أعلم .
{ { { { {
هناك قول بأن من فاتته صلاة العيد لا يقضيها ، وكذلك النساء لا يصلين صلاة العيد في البيوت ، لأنها صلاة ذات اجتماع معين ، ولا تشرع إلا على هذا الوجه ، فهل هذا هو القول الراجح في المسألة ؟ علماً بأن صلاة الكسوف والاستسقاء تصلى في المساجد والبيوت ، وهي صلوات ذات اجتماع لسبب معين ؟
الأظهر في مسألة : قضاء صلاة العيد ، أنها تُصلَّى على صفتها أداءً – أي : ركعتين – قياساً على سائر الصلوات ، قال البخاري رحمه الله في : (( صحيحه )) (1/134 ) : (( باب : إذا فاته العيد يُصلِّي ركعتين )) ثم ذكر عن عطاء رحمه الله أنه قال : (( إذا فاته العيد صَلَّى ركعتين )) ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في : ((فتح الباري )) بياناً لفقه ترجمة البخاري السابقة : (( في هذه الترجمة حكمان : مشروعيّة استدراك صلاة العيد إذا فاتت مع الجماعة ، سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار . وكونها تُقضى ركعتين )) .
قال ابن بطَّال رحمه الله في : (( شرح صحيح البخاري )) ( 2/573 ) : (( اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد مع الإمام ، فقالت طائفة : يصلي ركعتين مثل صلاة الإمام ، روي ذلك عن: عطاء والنخعي والحسن وابن سيرين ، وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور … ، وأَوْلى الأقوال بالصواب : أن يُصَلِّيها كما سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي أشار إليه البخاري )) .(1/13)
وقال بدر الدين العيني رحمه الله في :((عمدة القاري شرح صحيح البخاري )) ( 6/308) : (( وبه قال – فيما ذكره ابن أبي شيبة – مجاهد وابن الحنفية وإبراهيم وابن سيرين وحماد وأبو إسحاق السبيعي )) . وهو أشهر الروايات عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ، قاله في : (( مجمع البحرين )) ، حكاه عنه المرداوي في : (( الإنصاف )) ( 2/433 ) .
ودليل ذلك شيئان :
ـ أولهما : الخبر . حيث أخرج البيهقي في : (( السنن الكبير )) ( 3/503) عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قال : (( كان أنس بن مالك إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله ، فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد )) .
وعند ابن أبي شيبة في : (( المصنف )) ( 2/183) عن ابن عُلَيَّة عن يونس قال : حدثني بعض آل أنس – قال الحافظ في : (( الفتح )) (2/551) : (( المراد بالبعض المذكور عبد الله ابن أبي بكر بن أنس - : (( أن أنساً كان ربما جمع أهله وحشمه يوم العيد ، فصلى بهم عبد الله بن أبي عُتْبة ركعتين )) )).
ويَعْضُده عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا )) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
ـ والثاني : قياساً على الصلوات الأخرى ؛ إذ إنها تُقضى لعموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق ، والقاعدة : أن القضاء يَحْكي الأداء ، أي : تُصَلَّى الصلاة قضاءً على صفتها أداءً .
{ { { { {
هل يجوز إيقاع صيام النفل قبل القضاء ؟ وما هو القول الراجح في المسألة ؟ وهل يجوز للمرأة أن تصوم يوم عرفة قبل القضاء ؟(1/14)
مسألة : إيقاع النفل قبل القضاء ، فيها قولان هما روايتان عن الإمام أحمد ، أولهما : المنع ، والثاني : الجواز . قال في : (( بُغية الراغب في شرح دليل الطالب )) (ص: 97) : (( وهو – أي : القول بالجواز – قول أقوى من حيث القياس والدلائل . والأول – أي : القول بالمنع – أقوى من حيث حفظ الأداء والمسارعة إلى القضاء لإبراء الذمة )) انتهى .
والأظهر في المسألة : جواز إيقاع النفل قبل صوم القضاء . وهو مذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد ، قاله الموفق رحمه الله في : (( المغني )) (3/145) .
ويدل على صحة ذلك دليلان :
أولهما : الخبر . حيث أخرج البخاري ومسلم في : (( صحيحيهما )) أن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان )) . ومعلوم حرص عائشة على نفل الصيام كغيرها من العالمات العابدات . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في : (( فتح الباري )) (4/225) : (( قوله : (( فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان )) استُدلَّ به على أن عائشة كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك ، وهو مَبْنيّ على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دَيْن من رمضان ، ومن أين لقائله ذلك ؟ )) .
وبنحوه قال بدر الدين العيني رحمه الله في: (( عمدة القاري )) ( 11/56) وزاد قوله : (( ولكن من أين ذلك لمن يقول به، والحديث ساكت عن هذا )) .
وحديث عائشة رضي الله عنها له حكم الرفع ، قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى في : (( المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم )) ( 3/205) : ((وحديث عائشة هذا وإن لم تُصرِّح فيه برفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يُعلم أنه لا يخفى مثله عنه ، ولا أن أزواجه يَنْفردن بآرائهنَّ في مثل هذا الأمر المهم الضروري ، فالظاهر أن ذلك عن إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتسويفه لهنَّ ذلك )) .(1/15)
والثاني : النظر . حيث إن وقت القضاء لرمضان موسَّع ، لقوله تعالى : { فعدة من أيام أُخَر } ، قال ابن بَطَّال رحمه الله في : (( شرح البخاري )) (4/95): (( وأجمع أهل العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان في شعبان بعده : أنه مُؤَدٍّ لفرضه غير مُفرِّط )) .
والمقرّر عند الفقهاء : أن الواجب الموسَّع يجوز الاشتغال بالتطوع من جنسه قبل الاشتغال به؛ لذا قال ابن رجب رحمه الله في : (( القواعد )) (ص:13) : (( القاعدة الحادية عشرة : من عليه فرض ، هل له أن يتنفَّل قبل أدائه بجنسه أم لا ؟ هذا نوعان : أحدهما : العبادات المَحْضَة ، فإن كانت موسَّعَة جاز التنفّل قبل أدائها كالصلاة بالاتفاق ، وقبل قضائها أيضاً كقضاء رمضان على الأصح )) .
لكن لا شَكَّ أن الأَوْلى المسارعة إلى القضاء وتقديمه ، لما أخرجه البخاري في : ((صحيحه)) عن أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : قال الله تعالى : (( وما تَقَرَّبَ إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضتُ عليه )) ، وهو معنى قول سعيد بن المسيب في صوم العشر : (لا يصلح حتى يبدأ رمضان) أخرجه البخاري معلَّقاً ، قال بدر الدين العيني رحمه الله في : (( عمدة القاري )) (11/ 54) : (( معنى هذا الكلام : أن سعيداً لما سُئل عن صوم العشر ، والحال أن على الذي سأله قضاء رمضان، فقال : لا يصلح حتى يبدأ أولاً بقضاء رمضان ، وهذه العبارة لا تدل على المنع مطلقاً ، وإنما تدل على الأولوية ، والدليل عليه : ما رواه ابن أبي شيبة عن عبدة عن سفيان عن قتادة عن سعيد أنه كان لا يرى باساً أن يُقضى رمضان في العشر )) .
وقال الحافظ رحمه الله في : (( الفتح )) (4/223) : (( ظاهر قوله جواز التطوع بالصوم لمن عليه دَيْن من رمضان ، إلا أن الأَوْلى له أن يصوم الدَّيْن أولاً لقوله : (( لا يصلح )) فإنه ظاهر في الإرشاد إلى البداءة بالأهم والآكد )) .
لا يَصِحّ إيقاع النَّفْل قبل القضاء في حالتين :(1/16)
الأولى : من أراد أن يُتْبِع رمضان بستٍ من شوال ، لظاهر حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من صام رمضان ثم أَتْبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر )) أخرجه مسلم . فلا يَصِح أن تُصَام السِّت قبل قضاء رمضان لِمَنْ عليه قضاء .
والثانية : إذا ضاق وقت القضاء ، وذلك إذا لم يَبْقَ من شعبان الثاني إلا ما يكفي للقضاء، وفي حديث عائشة رضي الله عنها السابق دلالة على ذلك ، حيث قالت فيه : (( كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان )) .
قال بدر الدين العيني رحمه الله في : (( عمدة القاري ))( 11/56) : (( ومما يستفاد من هذا الحديث : أن القضاء موسَّع ويصير في شعبان مضيقاً ، ويؤخذ من حرصها على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان )) . هذا والله أعلم .
{ { { { {
هل لصلاة التراويح عدد مُحَدَّد ؟
المذهب : أن التراويح عشرون ركعة من غير الوتر ، قال في : (( دليل الطالب )) : (( والتراويح عشرون ركعة برمضان ، ووقتها ما بين العشاء والوتر)) . وقال في : (( الإنصاف )) : (( هكذا قال أكثر الأصحاب . وقال في : (( الرعاية )): (عشرون ، وقيل : أو أزيد ) .
قال في : (( الفروع )) و(( الفائق )) : ( ولا بأس بالزيادة ، نص عليه وقال : رُوِي في هذا ألوان ، ولم يقض فيها بشيء ) )) انتهى .
ودليل ذلك شيئان :(1/17)
أولهما : الخبر ، وأحسن ما في الباب : ما أخرجه البيهقي في : ((السنن)) عن السائب بن زيد ( صحابي ) - رضي الله عنه - أنه قال : (( كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شهر رمضان بعشرين ركعة ، وكانوا يقرؤون بالمئين ، وكانوا يتوكؤون على عِصِيِّهم في عهد عثمان من شدة القيام )) . قال النووي في : (( خلاصة الأحكام )) : (( رواه البيهقي بإسناد صحيح )) وبنحوه في : (( المجموع شرح المهذب )) . وصححه أيضاً ابن العراقي في : (( طرح التثريب )) ، والسيوطي في : (( المصابيح )) وغيرهما .
والثاني : الإجماع والاتفاق . وقد حكاه في : (( كشاف القناع )) ،وقال الموفق في : (( المغني )) : (( وهذا كالإجماع )) أي : في زمن عمر - رضي الله عنه - . ومما يُؤَكِّد ذلك ما صح عن عطاء رحمه الله ، حيث أخرج ابن أبي شيبة في : ((المصنف)) عن عطاء قال : (( أدركتُ الناس وَهُم يُصَلّون ثلاثة وعشرين ركعة بالوتر )) .
وبهذين يتقرر ما سبق . قال البرهان ابن مفلح رجمه الله في : (( المبدع )) : (( والسِّر فيه أن الراتبة عَشْر : فضُوعِفَتْ في رمضان ؛ لأنه وقت جِدّ وتشمير )) .
لكن يُشْكل على ما سبق شيئان :
أولهما : ما أخرجه البخاري ومسلم في : (( صحيحيهما )) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (( ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )) .
والثاني : ما أخرجه مالك في : (( الموطأ )) عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - أنه قال : (( أمَرَ عمرُ بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميماً الداريّ : أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، وكان القارئ يقرأ بالمئين ، حتى كنا نعتمد على العِصِي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر )) . قال السيوطي في : (( المصابيح )) : (( سنده في غاية الصِّحَّة )) .(1/18)
ولذلك قال المباركفوري في : (( تحفة الأحوذي )) : (( قد ادَّعى بعض الناس أنه قد وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر - رضي الله عنه - ، واستقر على ذلك في الأمصار . قلت : دعوى الإجماع على عشرين ركعة واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جداً )) . انتهى .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله أن التراويح في رمضان غير محددة بعدد بل تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره ، وذلك تابع لاختلاف أحوال المصلين . قال رحمه الله ـ كما في : (( مجموع الفتاوي )) ـ : (( ويُشْبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان ، فإنه قد ثبت أن أبيّ بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث، فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة ؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ، ولم يُنكره مُنكِر . واستحب آخرون : تسعة وثلاثين ركعة ، بناءً على أنه عمل أهل المدينة القديم . وقال طائفة : قد ثبت في الصحيح عن عائشة : (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة )) . واضطرب قوم في هذا الأصل ، لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين .
والصواب : أن ذلك جميعه حسن ، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه -، وأنه لا يَتَوَقَّت في قيام رمضان عدد ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُوَقِّت فيها عدداً ، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها : بحسب طول القيام وقصره .
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل القيام بالليل ، حتى إنه قد ثبت عنه في : ((الصحيح)) من حديث حذيفة : (( أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران )) ؛ فكان طول القيام يُغْني عن تكثير الركعات .(1/19)
وأُبيّ بن كعب لما قام بهم – وهم جماعة واحدة – لم يمكن أن يطيل بهم القيام ، فكَثَّر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام ، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته ، فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكَثَّروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين )) انتهى .
وقال أيضاً رحمه الله ( كما في : (( مجموع الفتاوي )) ) : (( إن نفس قيام رمضان لم يُوقِّت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عدداً معيناً …والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين …ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مُوَقّت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ ! )) انتهى .
وهذا الاختيار لابن تيمية يرحمه الله به تَأْتلف الأخبار-وسبق طرف منها-، ولذلك يقول الحافظ ابن حجر يرحمه الله في : (( فتح الباري )) : (( والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ، ويَحْتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها ، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس . وبه جزم الداودي وغيره )) انتهى .
إلا أن الاقتصار على إحدى عشرة ركعة – أو ثلاث عشرة أحياناً – مع طول قيام هو الأقرب ، لحديث عائشة السابق . وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( كما في : (( المجموع )) ) حيث قال رحمه الله : (( والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين ، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل )) انتهى .
وبذلك جزم جماعة ، ومنهم : أبو بكر ابن العربي ، والمباركفوري ، فقد قال الأول في : (( عارضة الأحوذي )) : (( والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة، صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيامه ، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له ولا حَدّ فيه )).(1/20)
وأما الثاني فقال في : (( تحفة الأحوذي )) : (( القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه ، أعني : إحدى عشرة ركعة ، وهو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسند الصحيح بها أمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح )) . أ . هـ .
{ { { { {
إذا كان مَنْ أُصَلّي وراءه التراويح يزيد على إحدى عشرة ركعة : فهل أتابعه أم أنصرف بعد الـ(إحدى عشرة ركعة ) ؟
سبق أن قيام رمضان لا يَتَوَقَّت بعدد بل بحسب طول القيام وقصره ، قال ابن عبد البر في : (( التمهيد )) : (( لا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود ، وأنها نافلة وفعل خير وعمل بر ، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر)). وقال ابن العراقي في : (( طرح التثريب )) : (( قد اتفق العلماء على أنه ليس له – أي : قيام الليل – حَدّ محصور )) .
ومن ثَمَّ قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله – وسبق - : (( ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مُوَقّت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ ! )). وقال الشوكاني في : (( نيل الأوطار )) : (( قَصْر الصلاة المسماة بـ( التراويح ) على عدد معين ، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يَرِد به سنة )) .(1/21)
لذا ينبغي على من صَلَّى وراء إمام يزيد على ( إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة ) أن يُتِم معه ، ولا ينصرف ؛ لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبَتْ له قيام ليلة )) قال الترمذي : (( حسن صحيح )) وصححه المنذري والحاكم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم . قال أبو داود رحمه الله : (( سمعت أحمد يقول : يُعجبني أن يُصلّي مع الإمام ويُوتِر معه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف : كُتِب له بقيّة ليلته)) )) ، وقال رحمه الله : (( وكان أحمد يقوم مع الناس ويوتر معهم )) .
وقال الأثرم رحمه الله : (( وأخبرني الذي كان يَؤمُّه في شهر رمضان : أنه كان يُصلي معهم التراويح كُلَّها والوتر . قال : وينتظرني بعد ذلك حتى أقوم ، ثم يقوم ؛ كأنه يذهب إلى حديث أبي ذر : (( إذا قام مع الإمام حتى ينصرف : كُتب له بقية ليلته )) )) انتهى . والله أعلم .
{ { { { {
في العشر الأواخر من شهر رمضان يَفْصل الناس بين قيام الليل ، فيصلّون جزءاً منه بعد سُنة صلاة العشاء الراتبة ويُسمى بـ(التراويح) ، ثم يعودون إلى المسجد مرة أخرى ليتموا الجزء الثاني من القيام ويسمى بـ(القيام) . ويختمون بـ(الوتر) . فهل هذا الفعل مشروع ؟
قال في : (( الإنصاف )) : (( قال المجد في : (( شرحه )) : ( لو تَنَفَّلوا جماعة بعد رَقْدة ، أو من آخر الليل ، لم يُكْره ) ، نَصّ عليه ، واختاره القاضي ، وجزم به ابن تميم ، والرعاية الصغرى والحاويين ، والفائق ، وابن مُنَجّا في : (( شرحه )) . وقدَّمه في : (( الرعاية الكبرى )) . وقيل : إذا أخّره بعد أكل ونحوه لم يكره . وجزم به ابن تميم أيضاً . واستحسنه ابن أبي موسى لمن نَقَض وتره . وقال ابن تميم : فإن خرج ثم عاد فوجهان )) انتهى .(1/22)
ويَشْهد لصِحَّة الفَصْل بين أجزاء القيام – على ما ذُكِر - : أن القيام أُوْقِع في وقته ؛ إذ يَبْدأ من بعد صلاة العشاء ، ولم يَأْتِ في الشرع ما يَمْنَع فَصْله أحياناً. قال العلامة عبد الرحمن بن القاسم يرحمه الله في : (( حاشية الروض المربع )) : ((وإن أَخّروا التراويح أو بعضها إلى آخر الليل أو مَدّوا القيام إلى آخره فهو أفضل ، قال الله تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً } ، وهو وقت التَّنَزّل الإلهي الذي يقول الله تعالى فيه : (( هل من سائل ؟ هل من مستغفر ؟ هل من تائب ؟ )) وأولى ذلك العشر الأخير منه ، واستحب الشيخ – يعني : ابن تيمية رحمه الله – إحياءها ، وقال : قيام بعض الليالي مما جاءت به السنة : وفي : (( الصحيحين )) : كان إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وشَدّ المئزر . وللترمذي وغيره وصَحَّحه : إذا كان في آخر الشهر دعا أهله ونساءه ، وقام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح – يعني : السحور - ، وكان الصحابة والتابعون يمدون الصلاة في العشر الأواخر إلى قُرْب طلوع الفجر ، كما جاء ذلك عنهم من غير وجه )) انتهى .
وقال العلامة عبد الله أبا بُطين رحمه الله : (( إذا تَبيّن أنه لا توقيت في عدد التراويح ، وأن وقتها عند جميع العلماء من بعد سنة العشاء إلى طلوع الفجر ، وأن إحياء العشر سنة مؤكدة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها ليالي جماعة كما قدمنا ، فكيف يُنكر على من زاد في صلاة العشر الأواخر عما يفعله أول الشهر ، فيُصَلى في العشر أول الليل كما يفعل في أول الشهر ، أو أقل أو أكثر من غير أن يوتر ، وذلك لأجل الضعيف لمن يُحب الاقتصار على ذلك ، ثم يزيد بعد ذلك ما يَسَّره الله في الجماعة ، ويُسمى الجميع قياماً وتراويح …(1/23)
وأما ما يَجْري على ألسنة العوام من تسميتهم ما يفعل أول الليل تراويح ، وما يُصلى بعد ذلك قياماً : فهو تفريق عامّي ، بل الكل قيام وتراويح ، وإنما سُمِّي قيام رمضان تراويح ؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات من أجل أنهم كانوا يطيلون الصلاة … وما يظنه بعض الناس من أن صلاتنا في العشر هي ( صلاة التعقيب ) الذي كرهه بعض العلماء : فليس كذلك ؛ لأن ( التعقيب) هو التطوع جماعة بعد الفراغ من التراويح والوتر ، هذه عبارة جميع الفقهاء في تعريف ( التعقيب ) ، أنه: التطوع جماعة بعد الوتر عقب التراويح ، فكلامهم ظاهر في أن الصلاة جماعة قبل الوتر : ليست هي ( التعقيب) )) انتهى .
{ { { { {
من كان مأموماً ويرى عدم شرعيّة ( دعاء ختم القرآن ) فهل يوافق الإمام ؟
يُشرع له متابعة الإمام في ذلك ، لعموم ما أخرجه البخاري ومسلم في : (( صحيحيهما )) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به فلا تختلفوا عليه )) . ولما تقرّر عند الفقهاء أن المأموم ينبغي أن يتابع إمامه فيما ساغ فيه الاجتهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ كما في : (( الاختيارات )) ـ : (( وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد : تبعه المأموم فيه ، وإن كان هو لا يراه ، مثل : القنوت في الفجر ، ووصل الوتر )) انتهى . هذا والله أعلم .
{ { { { {
هل تُشرع ( التراويح ) جماعة في السفر ؟
قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله : (( اعلم أن العبادات توقيفية ، وترك الشارع للفعل مع قيام مُقْتَضِيه دليلٌ للترك ، كما أن فعله دليل لطلب الفعل ، وقد سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه عِدّة أسفار في رمضان : ولم يُنْقل عنه ولا عن أحد من أصحابه – فيما بلغنا – فعلها جماعة ، وهذا دليل كافٍ سالم من المُعارض )) انتهى . والله أعلم .
{ { { { {
هل التزاحم على الجنازة عند حملها : سنة ؟(1/24)
تزاحم الناس على الجنازة عند حملها يُسَبِّب ـ غالباً ـ شيئين :
أولهما : المشقة على الناس وأذيتهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا ضرر ولا ضرار )) أخرجه الدارقطني في : (( السنن )) وكذا غيره . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه )) قال الهيثمي ـ رحمه الله ـ في : (( المجمع )) : (( رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح )) ، وأصل الحديث ثابت في (( صحيح مسلم )) .
والثاني : تأخير الجنازة وتباطؤها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدِّمونها عليه ، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )) متفق عليه .
وأخرج أبو داود في : (( السنن )) عن عبد الرحمن بن جَوْشَن أنه قال : ( كنتُ في جنازة عبد الرحمن بن سمرة ، فجعل زياد ورجال من مواليه يَمْشون على أعقابهم أمام السرير ، ثم يقولون : رويداً رويداً بارك الله فيكم ، فلحقهم أبو بكرة في بعض سِكَك المدينة فحمل عليهم بالبغلَة ، وشَدَّ عليهم بالسوط ، وقال : خَلُّوا ، والذي أكرم وجْه أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - لَقد رأيتُنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنكادُ أن نَرْمَل بها رَمَلاً ) . قال الحاكم في : (( مستدركه )) : (( صحيح )) ووافقه النووي في : ((المجموع )) والذهبي في : (( التلخيص )) . وقال النووي في : (( المجموع )) : (( واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة ، إلاّ أن يُخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيُّره ونحوه : فيُتَأنّى )) .
لذا قال ابن القيم ـ يرحمه الله ـ في : (( زاد المعاد )) : (( وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة مكروهة ، مخالفة للسنة ، ومتضمنة للتشبُّه بأهل الكتاب اليهود )) .(1/25)
والمقصود أن تزاحم الناس على الجنازة عند حملها لا يجوز لما يُحْدِث من أضرار ، بل عَدّه جماعةٌ من البدع ، يقول ابن حزم ـ رحمه الله ـ في: (( المحلى )) : (( ولا يجوز التزاحم على النعش ؛ لأنه بدعة لم تكن قبل )) . ثم ساق بسنده عن قتادة أنه قال:(( شهدتُ جنازة فيها أبو السَوَّار ـ هو حريث بن حسان العدوي ـ فازدحموا على السرير ، فقال أبو السوار : أترون هؤلاء أفضل أو أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ كان الرجل منهم إذا رأى مَحْملاً حمل ، وإلا اعتزل ولم يُؤذ أحداً )).
ويقول العلامة الفقيه عبد الرحمن بن القاسم – يرحمه الله – في : (( حاشية الروض المربع )) : (( ولو كان ازدحام الحاملين ، كما يفعل في بعض البلدان مسنوناً ، لتوفرت الهمم والدواعي على نقله ، نقلاً لا يقبل الاختلاف ، ولكان السلف الأول أولى بالمسارعة إليه ، فعلم أنه لم يكن الأمر كذلك ، وأن الازدحام الموجِب للدبيب بها بدعة ، لمخالفة الإسراع المأمور به )) أ.هـ. والله الموفق .
وبهذا تَتِمّ الأَجوبة ، والله أعلم . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله .(1/26)