الأجوبة السنية عن الأسئلة الإندونيسية
بقلم راجى رحمة ربه المغني
إسماعيل عثمان زين
اليمني المكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى الصواب. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله والأصحاب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد، خصوصا أهل العلم الذين رفع الله عن بصائرهم الحجاب، فرأوا الباطل باطلاً، والصواب هو الصواب.
أما بعد، فقد بعث إليّ بعض المحبين من إخواننا الإندونيسيين أسئلة طلب مني الجواب عنها. وها أنا ذا أذكر نص كل سؤال، ثم أتبعه بما فتح الله به عليه من الجواب.
(السؤال الأول): قال الله تعالى في محكم كتابه: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. وقال في آية أخرى في سورة الأعراف وفي الحديد وفي التغابن: {آمِنُوْا بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ}، خطابا لأهل الكتاب. قال الفقير فإذا أمر الكافر بالإيمان فذلك تكليف بما لا يطاق لعلم الله أنه كافر في الأزل، فهو كافر فيما لا يزال، وقد قال الله تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. من فضلكم فسّر لنا هذه الآيات.
((1/1)
الجواب): إعلم أيها السائل الكريم - وفقني الله وإياك إلى طريق الصواب والسداد - أن هذه المسألة تحتاج إلى نوع مقدمة ينبنى عليها الجواب، فنحن ننقل عبارات بعض المفسرين في تلك الآيات الكريمة، ليتضح لك المغزى فيها. قال العلامة الجلال السيوطي في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} لعلم الله منهم ذلك، فلا تطمع في إيمانهم إهـ. وقال ابن كثير في سورة الأعراف عند قوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ} الآية. يقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم "قل" يا محمد "يا أيها الناس"، وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي. وقوله "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي": أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به إهـ. وقال العلامة الصاوي ما نصه: قوله "قل يا أيها الناس" أتى بهذه الآية دفعا لما يتوهم أن الفوز مخصوص بمن تبعه من أهل الكتاب، فأفاد هذا أن الفوز ليس قاصرا عليهم، بل كل من تبعه حصل له الفوز كان من أهل الكتاب أولا. والناس اسم جنس، واحده إنسان إهـ. وفي تفسير سورة الحديد من تفسير الجلالين في قوله تعالى "آمنوا" دوموا على الإيمان بالله ورسوله إهـ. وأما الآية التي في سورة التغابن فهي "فآمنوا بالله ورسوله" الآية. قال الصاوي في حاشيته على الجلال: "فآمنوا بالله ورسوله" خطاب لكفار مكة، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا... إلخ إهـ.(1/2)
فإذا تقرر ذلك اتضح لك أن التي فيها أمر الكفار بالإيمان من تلك الآيات الثلاث إنما هو في الآيتين اللتين في سورتي الأعراف والتغابن، فالأمر فيهما لطلب حصول مالم يحصل منهم. وأما التي في سورة الحديد فالأمر فيها ليس خطابا للكفار، بل للمؤمنين بدوام الإيمان، فهو فيها كالأمر في قوله تعالى خطابا لرسوله صلى الله عليه وسلم "يا أيها النبي صلى الله عليه وسلم اتق الله"، أي دم على تقواه. وقد صرح النحاة في تعريف الأمر بأنه طلب حصول ما لم يحصل أو دوام ما قد حصل، فقول السائل خطابا لأهل الكتاب ليس في محله لما تقرر. ثم الظاهر أن وجه الإشكال على السائل ما تضمنته آيتا الأعراف والتغابن ونحوهما مما فيه الأمر بالإيمان على الكفار مع سبق علم الله تعالى بعدم إيمانهم المشار إليه بنحو قوله تعالى: "سواء عليهم أ أنذرتهم أم لو تنذرهم" إلخ(1/3)
فالجواب: قد تقرر عند أهل الأصول أنه يجوز التكليف بالمحال على أرجح الأقوال، سواء كان محالا لذاته، وهو الممتنع وقوعه عادة و عقلا كالجمع بين النقيضين كالسواد والبياض، أم محالا لغيره وهو الممتنع وقوعه عادة لا عقلا، كالمشي من الزمن والطيران من الإنسان، أو عقلا لا عادةً كما في مسألتنا، وهي التكليف بالإيمان ممن علم الله أنه لا يؤمن، وأن التكليف بالمحال عقلا لا عادة واقع. وعللوه بتعلق علم الله بعدم وقوعه فهو في وسع المكلفين ظاهرا وليس من قبيل قوله تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، بخلاف المحالين الأولين، أعني المحال عقلا وعادة والمحال عادة لا عقلاً. وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وهو الذي رجحه التاج السبكي في شرح المنهاج وجرى عليه شيخ الإسلام في اللبّ. وعبارته مع الشرح: "والأصح وقوعه أي التكليف بالمحال لتعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فقط أي دون المحال لذاته والمحال لغيره عادة لا عقلا قال تعالى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" وهذان ليسا في وسع المكلفين بخلاف الأول وهذا قول الجمهور ورجحه الأصل في شرح المنهاج فعلم أن التكليف بالمحال لتعلق علم الله بعدم وقوعه جائز وواقع اتفاقا وقيل يقع بالمحال لغيره لا لذاته ورجحه الأصل هنا يعني في جمع الجوامع وقيل يقع بالمحال مطلقا" إهـ. بزيادة توضيح
والحاصل أن الكلام هنا في مقامين:
(المقام الأول) في جواز التكليف بالمحال بأقسامه الثلاثة، فهو جائز على الراجح الذي عليه أكثر الأصوليين.
((1/4)
والمقام الثاني) في وقوعه، فهو على ثلاثة أقوال. الأول وهو قول الجمهور أنه واقع في المحال عقلا لا عادة فقط كما في مسألتنا، أي دون قسيميه. والقول الثاني أنه واقع فيه وفي المحال عادة لا عقلا، وعليه التاج السبكي في جمع الجوامع. والقول الثالث أنه واقع فيهما وفي المحال لذاته. وتوجيه كل من أرباب الأقوال الثلاثة مستوفى في كتب الأصول. فالتكليف بالإيمان ممن علم الله أنه لا يؤمن، وهو الذي سموه بالمحال عقلا لا عادة جائز وواقع اتفاقا لما مر، فليس من التكليف بما لا يطاق أصلا على أن المحققين منعوا كون ذلك محالاً. ولهذا قال السعد التفتازاني كما في شرح اللب: كل ممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس، فالتكليف بإيمان من ذكر تكليف بالممكن لا بالمحال عند المحققين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى "سواء عليهم أ أنذرتهم" إلخ. فإن ذلك لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم إيمانهم لييأس من إيمانهم فلا يطمع فيه. ومما يزيدك وضوحا ما قرره أهل الأصوليين من أن الأمر غير الإرادة، فلا تلازم بينهما. واستدلوا لذلك بأن الله أمر من علم أنه لا يؤمن كأبي لهب وبقية الكافرين بالإيمان ولم يرده منهم لكونه ممتنع الحصول، فلا تتعلق به الإرادة لتعلق العلم بعدمه. وبأن الإرادة صفو تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه. وهذا أحد الأقسام الأربعة في الكائنات التي أوجدها سبحانه وتعالى، وأشار إليها ناظم الخريدة البهية بقوله:
وإن لم يكن بضده قد أمرا >< والقصد غير الأمر فاطرح المرا
فقد علمت أربعا أقساما >< في الكائنات فاحفظ المقاما
وثانيها ما كان غير مأمور به ومرادا منه كالكفر منهم أي أبي جهل وبقية الكافرين. وثالثها ما كان مأمورا مرادا منه كإيمان سيدنا أبي بكر رضي الله عنه. ورابعها غير مأمور به وغير مراد منه كالكفر منه. والله أعلم بالصواب.
(السؤال الثاني):
قال الشيخ زين الدين المعبري في أذكيائه:
أما المعيل فلا يجوز قعوده >< عن مكسب لعياله متوكلا
((1/5)
السؤال) هل له سبيل إلى التجرد ؟، وإلا فما الذي يقوم مقامه ؟
(الجواب) اعلم هداني الله وإياك. أن التوكل مقام شريف من مقامات أهل العلم واليقين، ومنزل منيف من منازل أهل الورع واليقين. وقد اختلف العلماء في تفسير معنى التوكل وحقيقته. وأورد الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء جملة مستكثرة من أقاويل العلماء في تعريفه. وقال الشيخ جلال الدين المحلي في شرح جمع الجوامع: "التوكل هو الكف عن الاكتساب والإعراض عن الأسباب اعتمادا للقلب على الله تعالى". وقال العطار عليه: "فسر التوكل بذلك تبعا لكثيرين من الصوفية، لا بمجرد اعتماد القلب على الله تعالى، ولا بما يأتي عن المحققين ليتأتى معه المفاضلة بين حالتي الاكتساب وتركه لأن تفسيره بالمعنى الثاني أو بما يأتي عن المحققين لا ينافي تعاطى الأسباب. والمحققون على أنه قطع النظر عن الأسباب مع تهيّئها. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: أرسل ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟ قال: أعقلها وتوكل. رواه البيهقي وغيره".(1/6)
وفي الرسالة القشيرية: "أن التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله، فإن تعسر شيء فبتقديره وإن اتفق شيء فبتيسيره. وعلامة التوكل ثلاث لا يسأل ولا يردّ و لا يحبس" أهـ. فإذا جرينا على ما قاله المحققون في تفسير معنى التوكل فتعاطى الأسباب الظاهرة مع عدم التفات القلب إلى الأسباب بل إلى مسبِّب الأسباب لا ينافي التوكل. ثم إن الإمام الغزالي في الإحياء قسم المتوكلين في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات. (الأول) مقام الخوّاصّ ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زادٍ ثقةً بفضل الله تعالى في تقويته على الصبر أسبوعًا أو مل فوقه أو تيسير حشيش له أو قوت إلخ. (المقام الثاني) أن يقعد في بيته أو في مسجد في القرى والأمصار. وهذا أضعف من الأول، ولكنه أيضا متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة معوّل على فضل الله تعالى. (المقام الثالث) أن يخرج ويكتسب اكتسابا على الوجه الذي ذكرناه في الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب. وهذا الكسب لا يخرجه أيضا عن مقامات التوكل - إلى أن قال - ويستحيل أن يقال لم يكن الصديق رضي الله عنه في مقام التوكل، فمن أولى بهذا منه ؟. فدل على أنه كان متوكلا لا باعتبار ترك الكسب والسعي، بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسّر الاكتساب ومدبّر الأسباب إلخ. ثم وضع رحمه الله تعالى ترجمة خاصة في بيان توكل المعيل، فقال: "بيان توكل المعيل" فأطال الكلام فيه بما حاصله أن من له عيال فحكمه في التوكل يفارق المنفرد، إذ المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين، أحدهما قدرته على الجوع أسبوعًا من غير استشراف وضيق نفس. وثانيهما أن يطيب نفسا بالموت إن لم يأته رزقه علما بأن رزقه الموت والجوع.(1/7)
وأما المعيل فلا يجوز له أن يكلف عياله على الصبر على الجوع ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادرا فعلم بذلك أنه لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب وهو المقام الثالث، كتوكل الصديق رضي الله عنه إذ خرج للكسب. فأما دخول البوادي وترك العيال توكلا أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في حقهم فذا حرام وقد يفضي إلى هلاكهم ويكون هو مؤاخذا بهم بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله، فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدةً وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم ونفسه أيضا عيال عنده إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. فقد اتضح بما قاله الإمام الغزالي أن المعيل لا يجوز له التجرد عن الأسباب الشاغلة والكف عن الاكتساب توكلا في حق عياله، وذلك لما عليه من الحقوق الواجبة لهم، اللهم إلا إن كان حال العيال كلهم كحاله، بأن يكونوا صابرين على الجوع مدة وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقا وغنيمة لهم في الآخرة، وحينئذ جاز له التوكل في حقهم. وأما إذا لم يكن حاله كذلك وهو الغالب فيجب عليه الاكتساب لأجلهم وتعاطى الأسباب التي تعينه على تحصيل كفايتهم وتبرئه مما عليه من الحقوق. ولا يجوز له القعود عن الاهتمام بأمرهم. وحينئذٍ فلا يمكنه إلا توكل المكتسب وهو المقام الثالث من مقامات التوكل. وهذا هو المراد بقول الشيخ زين الدين المذكور في السؤال. وليس المراد أن المعيل ليس له سبيل إلى التوكل أصلا. هذا ما تيسر لي من الجواب على هذه المسألة. والله أعلم بالصواب.
((1/8)
السؤال الثالث): ما قولكم في إطعام الطعام تصدقا وضيافة من أهل الميت للمعزين. بعض علمائنا يقول حرام إن كان قبل الدفن، ومحمودا إن كان بعد الدفن. وبعضهم يقول حرام إن كان بحضرة الجنازة أي في مجلس واحد وإلا فلا. وبعضهم يقول حرام مطلقا، لأن أغلب الناس أنهم يطعمون من تركة الميت أو من مالهم ومن بعض تركة الميت.
(فالجواب) والله الموفق للصواب: أن الإطعام المذكور تصدقا وضيافة كما ذكر في السؤال من القرب والمسحبات الشرعية، لأن الضيافة من مكارم الأخلاق ومن ثمرات الإيمان. وفي الحديث الصحيح: {فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه}. والصدقة من أفضل القربات ومن الحسنات التي تنمو بالمضاعفات. قال الله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} الآية. وقال تعالى: {وَأَقْرَضُوْا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية. وسواء كانت الصدقة عن الميت فإن ثوابها يصل إليه بالإجماع أو كانت للمتصدق نفسه فهي من أعماله الصالحة التي تكون في كفة حسناته وحيث كانت بنية الميت فيشترط أن تكون من بالغ عاقل جائز التصرفات.
واعلم أن الوليمة من أهل الميت للمعزّين وغيرهم تعتبر من الأعمال الصالحة ومن أنواع البر فهي محمودة شرعًا، ما لم تكن من مال القاصرين. وقد أُلّفتْ في هذا الشأن رسالة مفيدة تسمى "رفع الإشكال وإبطال المغالاة في حكم الوليمة من أهل الميت بعد الوفاة"، فهي وافية بالمقصود حكما ودليلا، رواية ودراية. وحاصلها أن الأصل في الوليمة الإستحباب والإستحسان شرعًا، ولا تخرج عن هذا الأصل إلا لعارض. ولا فرق في ذلك بين كونها قبل الدفن أو بعده كما في الرسالة المذكورة.(1/9)
وأما قول السائل: "بعض علمائنا يقول حرام إن كان قبل الدفن ومحمود إن كان بعد الدفن وبعضهم يقول حرام إن كان بحضرة الجنازة أي في مجلس واحد وإلا فلا. وبعضهم يقول حرام مطلقا، لأن أغلب الناس أنهم يطعمون من تركة الميت أو من مالهم ومن بعض تركة الميت". فنقول إن بعض العلماء القائلين بهذا التفصيل والتقسيم وكذلك القائلون بالإطلاق فالجميع ليس لهم على ما يقولونه دليل ولا تعليل، وإنما ذلك مجرد آراء هي عند الإنصاف لا تصدر عن عامي فضلا عن عالم. وأعظم من ذلك قول السائل: "وبعضهم يقول حرام إن كان بحضرة الجنازة أي في مجلس واحد وإلا فلا". فهذا القول من العجائب والغرائب أن يصدر من شخص يقال إنه من العلماء. وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. عافانا الله تعالى من ذلك وجنبنا أسباب المهالك.
وأما كون الوليمة أو بعضها من تركة الميت، فإذا كانت برضا الورثة البالغين ومن نصيبهم فلا مانع من ذلك كما قدمنا، لأن التركة بعد وفاة الميت هي ملك الورثة، فلهم أن يطعموا منها أو من غيرها. هذا ما تيسر لي من الجواب باختصار. ومن أراد المزيد فعليه بالرسالة المذكورة آنفا، فإن فيها ما يكفي ويشفي. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا يجعلنا ممن يقفون ما ليس لهم به علم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
(السؤال الرابع): لزيد على عمرو ديون كثيرة بلغت نصاب الزكاة فإذا حال عليها الحول قبل حلول الأجل فهل على عمرو إخراج الزكاة، لأن له مالا كثيرا بطريق الإستدانة، وكذلك زيد هل يجب عليه أن يخرج الزكاة فإن له مالا يبلغ النصاب وإن لم يكن بيده ؟.
((1/10)
الجواب) حيث كان الحال كما شرحه السائل وجب على عمرو إخراج زكاة ما بيده من الديون عند تمام الحول على أظهر الأقوال. وأما على الدائن الذي هو زيد ففيه تفصيل. فإن كان الدين ماشية أو غير لازم فلا تجب عليه زكاته، وإن كان عرضا للتجارة أو نقدا فإن كان حالا ابتداء أو انتهاء أي بحلول الأجل وتيسر أخذه من المدين وجبت عليه تزكيته في الحال. وإن كان مؤجلا كما في صورة السؤال وتيسر أخذه كذلك فحكمه كالمال المغصوب من مالكه على المعتمد، فلا تجب عليه تزكيته وإخراج الزكاة عنه حتى يعود إليه، فإذا عاد إليه زكاه للأحوال الماضية. وهذه المسألة بتمامها ذكرها الإمام النووي في المنهاج، ونص عبارته: "والدين إن كان ماشية أو غير لازم كمال كتابة فلا زكاة أو عرضا أو نقدا فكذا في القديم. وفي الجديد إن كان حالا وتعذر أخذه لإعسار أو غيره فكمغصوب، وإن تيسر وجبت تزكيته في الحال، أو مؤجلا فالمذهب أنه كمغصوب، وقيل أنه يجب دفعها قبل قبضه، ولا يمنع الدين وجوبها في أظهر الأقوال" إهـ. وفي شرح التحرير في بيان اجتماع زكاتين في مال واحد: ج 1 من حاشية الشرقاوي ص 376 ما نصه: "وزاد الأصل على هذه من له نصاب وعليه دين مثله فعلى كل من المالكين الزكاة. وفيه نظر لأن الزكاتين لم تجتمعا في مال واحد" إهـ. قال الشرقاوي عليه والحكم مسلم والنظر إنما هو في كون ذلك مثالا لاجتماعهما في مال واحد، لأن النصاب المذكور لا يتعين دفعه للدائن لتعلق حقه بالذمة فزكاته على مالكه وزكاة النصاب الذي في ذمته على الدائن فيجب عليه أن يزكي دينه وهو غير النصاب الذي عند المدين، لأن الثابت للدائن نظيره لا عينه" إهـ. والله أعلم بالصواب.
(السؤال الخامس): تاجر كبير عادته أن يؤدي الزكاة آخر الحول كما هو واجبه. مثلا في رمضان ثم عرض له أمر من الأمور فأدى زكاة تجارته قبل آخر الحول شيئا فشيئا حتى إذا جاء آخر الحول فقد تمت له الزكاة. هل وقعت الزكاة موقعها فيما ذكر ؟.
((1/11)
الجواب) قد تقرر في كتب فقهائنا الشافعية أن المال الحولي إما تتعلق زكاته بالعين كالنقود وإما بالقيمة كعروض التجارة، فالأول لا يجوز ولا يجزئ إخراج زكاته قبل وجود سببي وجوبها، وهما ملك النصاب وتمام الحول. ويجوز بعد ملك النصاب وقبل تمام الحول ويكون ذلك تعجيلا للزكاة قبل الحول لما صح أن ابن عباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل الحول فرخص له في ذلك رواه أبو داود والترمذي، وقال الحاكم صحيح الإسناد، وللقاعدة الشهيرة أن الحق المالي إذا تعلق بسببين جاز تقديمه على أحدهما كتقديم الكفارة على الحنث. والثاني وهو عروض التجارة يجوز إخراج زكاتها قبل ملك النصاب وقبل الحول، وعللوا ذلك بأن النصاب فيها معتبر بآخر الحول وبأن حولها ينعقد بمجرد الشراء بنية التجارة. وهذا كله ظاهر مصرّح به في كتب المذهب.(1/12)
وإذا علمت ذلك فنقول إن كانت عروض التجارة للتاجر المذكور في السؤال بلغت النصاب في آخر الحول وقعت الزكاة موقعها وأجزأت عنه بشروطه الآتية. قال في نهاية المحتاج (ج 3 ص 139) ما نصه: "وخرج بالزكاة العينية زكاة التجارة، فيجوز التعجيل فيها بناءً على ما مرّ من أن النصاب فيها معتبر بآخر الحول. فلو اشترى عرضا قيمته مائة فعجل زكاة مائتين أو قيمته مائتان فعجل زكاة أربعمائة وحال الحول وهو يساوى ذلك أجزأه وكأنهم اغتفروا له تردد النية إذ الأصل عدم الزيادة لضرورة التعجيل وإلا لم يجز تعجيل أصلا، لأنه لا يدرى ما حاله عند آخر الحول" إهـ. ثم إن قولهم يجوز التعجيل فيها لا يتقيد بإخراج الزكاة المعجلة كلها دفعة واحدة ولا بإخراجها تدريجيا كما في مسألتنا، بل كلاهما جائز سائغ لدخوله في عموم إطلاقهم جواز التعجيل. وقد تقرر أن ما دخل تحت عموم كلامهم كان منقولا لهم، فيكون ما هنا منه. نعم لإجزاء وقوع المعجل زكاةً شروطُ ثلاثة كما يؤخذ من المنهاج وشرحه النهاية، أحدها بقاء المالك أهلا للوجوب إلى آخر الحول. ثانيها بقاء المال إلى آخره أيضا. ثالثها كون القابض لها في آخر الحول مستحقا. والله أعلم بالصواب.
(السؤال السادس): والد حكيم يقول في حال حياته بمحضر من أولاده بعد أن قسم أمواله لورثته بالعدل العادي وأشهد على قوله شاهدين عدلين. يقول هذا وأشار إلى بعض أمواله المعين - هذا لي - فتصرفوا بعد موتي في تجهيز جنازتي إلى أربعين يوما، فإن فضل شيء منه فتصدقوا عني. السؤال:
(1) لأي تجهيز يصرف ذلك المال المعين؟ فإن التجهيز في عادة أهل هذا القطر يشمل الواجب والسنة أو فعل البدعة، وكلها تجهيز للميت عند أهل ذلك القطر.
(2) هل التصرف إلى ما عينه الوالد موقوف على إجازة الورثة أم لا ؟
((1/13)
الجواب) والله الهادي إلى الصواب. اعلم أن هذه المسألة تفتقر إلى مقدمة أمام الجواب، وهي أن التجهيز إذا أطلق لا ينصرف إلا للواجب على ما استقر به العلامة ابن حجر في فتاواه. ونصه (ج 2 ص 13): "ولا تجوز الزيادة على ثوب يستر كل البدن إن كفن من بيت المال أو مما وقف على الأكفان كما أفتى به ابن الصلاة. ويحتمل أن يلحق به ما وقف علة تجهيز الموتى ويحتمل خلافه، لأن التجهيز لا ينصرف إلا إلى ما يجب من الكفن والدفن ونحوهما" انتهى. وفي حاشية الجمل على شرح المنهج في كتاب الفرائض عند قوله فبمؤن تجهيز ممونه أي من كفن وأجرة غسل وحمل وحفر وطم وحنوط انتهى. فأجرة الطم وما قبله من الأمور الواجبة. والحنوط من الأمور المندوبة. وهذا عرف الشارع في لفظة التجهيز وإنهم ذكروا أن مفهوم اللفظ إما حقيقة شرعية أو عرفية أو لغوية، وإنه يقدم مفهوم الأولى فالثانية فالثالثة.
قال العلامة ابن يحيى في فتاويه ص (213) ما حاصله قال الإمام السيوطي في "فصل تعارض العرف مع الشرع وهو قسمان، أحدهما أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال. الثاني أن يتعلق به حكم فيقدم الشرع على عرف الاستعمال. فلو حلف لا يصلى لا يحنث إلا بذات ركوع وسجود أو لا يصوم لا يحنث بمطاق الإمساك أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء أو أوصى لأقاربه لم تدخل ورثته" انتهى بحذف.(1/14)
قال الشيخ ابن حجر في فتاواه "اللفظ محمول على عرف المخاطب بكسر الطاء، سواء في ذلك عرف الشارع وأهل العرف واللغة، ففي خطاب الشارع المحمول عليه المعنى الشرعي لأنه عرفه. فإن لم يكن معنى شرعي أو صرف عنه صارف فالمحمول عليه المعنى العرفي العام، وهو ما تعارفه جميع الناس بأن يكون متعارفا من الخطاب ويستمر لأن الظاهر إرادته لتبادره إلى الأذهان. فإن انتفى المعنى العرفي أو صرف عنه صارف حمل اللفظ على معناه اللغوي. وحاصل ذلك أن ما له معنى شرعي ومعنى عرفي ومعنى لغوي يحمل أولا على الشرعي، وإن كان ماله إلا الأخيران نحمله أولا على العرف العام" اهـ.
قال الشيخ محمد بن سليمان حويرث في فتاويه: صرح أئمتنا بأن اعتبار العرف في الوقف والوصية فيما لم ينص الواقف والموصى على دخوله أو اشتراطه كما هو معلوم من كلام ابن الصلاح وصرحوا أيضا بأن عرف الشارع مقدم على العرف العام وعلى المعنى اللغوي إلى آخر كلام ابن يحيى رحمه الله تعالى. وإذا تقرر ذلك فقول السائل بعد أن قسم أمواله لورثته إن أراد به تقسيم أمواله بينهم بطريق الهبة الشرعية المشتملة على الإيجاب والقبول وانه أقبضها إياهم في حال الصحة فأمواله المذكورة يملكها الورثة ملكا صحيحا شرعاً.
قال العلامة الباجوري على ابن قاسم ج 2 ص 82 "ومثلها أي الوصية في الحسبان من الثلث تبرع منجز في مرض الموت كهبة وإبراء ووقف وعتق بخلاف المنجز في الصحة، فإنه من رأس المال. ولو وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض فلا أثر لتقديم الهبة" إهـ.(1/15)
وفي نهاية المحتاج ج 6 ص 49 في الكلام على الوصية للوارث ما نصه: "ومن الوصية إبرائه وهبته والوقف عليه" اهـ وكتب الشيخ الشبراملسي (قوله ومن الوصية إبرائه) أي الوارث (قوله والوقف عليه) أي فتتوقف صحتها على إجازة الورثة. والكلام في التبرعات المنجزة في مرض الموت أو المعلقة به. أما ما وقع منه في الصحة فينفذ مطلقا وإن قصد به حرمان الورثة اهـ. وهذا صريح في صحة الهبة على الورثة وإنها لا تعتبر من الثلث حيث وقعت منه في الصحة وأقبضها كذلك. وحينئذ فإذا مات الوالد المذكور في السؤال ولم يكن له غير ذلك البعض المعين فتركته هي ذلك المعين لا غير، لأن التركة هي ما خلفه الميت من عين أو حق ولا يخلف الميت المذكور إلا ذلك. وقول السائل لأي تجهيز يصرف ذلك المال المعين ؟. الجواب: يصرف لمؤن تجهيزه الواجب من الكفن وأجرة حمل وحفر قبر وغيرها، ويكون كل ذلك من رأس المال ثم يصرف إلى ما يندب منه وإلى ما يفعل مما جرت به العادة لأمثال ذلك الميت في ذلك القطر إلى أربعين يوما من موته حيث كانت لهم عادة في ذلك عملا بعرف الموصى. هذا إذا لم يكن بدعة محرمة شرعا، وإلا فلا تصح الوصية بذلك ولا تنفذ. وكل ذلك مما زاد على الواجب يعتبر من ثلث التركة. فإذا بقي من ذلك الثلث شيء بعد الأربعين يوما من موته يتصدق به عن الميت اتباعا لشرطه كم تقرر. وقول السائل: "هل التصرف إلى ما عينه الوالد موقوف على إجازة الورثة أم لا ؟". فالجواب: أن ما يصرف لتجهيزه الواجب لا يتوقف إلى إجازة الورثة، فإن ذلك واجب بأصل الشرع أوصى به أم لا. وأما الذي يصرف إلى المندوب من التجهيز وغيره فكذلك لا يتوقف على الإجازة حيث خرج من الثلث، وإلا فلا بد من ذلك. ومعلوم أن الإجازة لا تعتبر إلا إذا صدرت من الورثة البالغين، ثم ما بقي من التركة المذكورة بعد تنفيذ الوصية يكون للورثة.(1/16)
وهذا كله وإن لم أر من يصرح بخصوص هذه المسألة من فقهائنا الشافعية ظاهر معلوم من غضون كلامهم. والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
(السؤال السابع): رجل شافعي أراد أن يتزوج بامرأة لها أب أو غيره من سائر الأولياء وكره ذلك الشافعي أن يعلم وليها بتزوجه لها، فتحيل لذلك بتقليد مذهب الحنفي الذي يصح النكاح عنده بغير ولي، فتعقد المرأة نكاح نفسها له أو توكل غيرها بحضور شاهدين. هل نقره نحن معاشر الشافعية على النكاح المذكور ؟. وهل أثم ذلك الرجل في تحيله ؟.
(الجواب): والله الملهم للصواب. قد ذكر أئمتنا الشافعية في كتبهم أن يجوز لمن يلتزم مذهب الشافعي تقليد غير مذهبه في أفراد المسائل لضرورة أو حاجة أو مصلحة عامة أو غيرها، ولكن باجتماع شروطه المقررة في كتب الفقه، وأنه لا فرق في ذلك بين التقليد في النكاح أو غيره. ومن شروط التقليد علمه بالمسألة على مذهب من يقلده بسائر شروطها ومعتبراتها. قال العلامة ابن يحيى في أثناء جواب له، ونصه كما في البغية: "ويجوز التقليد ولو من غير ضرورة في التزويج وغيره، لكن باجتماع شروطه. ومنها العلم بأركان النكاح في مذهب المقلَّد وجريانه على مذهبه في تلك القضية وما تعلق بها كطلاق وظهار وعدم تتبع الرخص" اهـ. وإذا علمت ذلك فنقول - وبالله التوفيق - إن قلد ذلك الرجل الشافعي الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه في صحة ذلك النكاح تقليدا صحيحا مستوفيا لشروطه فالنكاح صحيح ظاهرا وباطنا، ولا يجوز لنا أن نتعرض له في ذلك والحال ما ذكر. وقول السائل "وهل أثم ذلك الرجل في تحيله ؟". فالجواب: نعم أثم بذلك إن كان تحيله لأجل إبطال حق للولي في الكفاءة ولم يكن عاضلا ولا به مانع من الولاية. وإن لم يكن كذلك أو كان في إعلامه مشقة ظاهرة واحتاجت المرأة للنفقة فلا يأثم بذلك. هذا ما تيسر في الجواب عن هذه المسألة. والله أعلم بالصواب.
((1/17)
السؤال الثامن): دائن يطالب دينه على مدينه مرة بعد مرة ولم يؤده مطلا حتى ثار ذلك الدائن وغضب وقال لورثته إن مت فلا تطالبوه، وإن أداه المدين إليكم فلا تقبلوه. فلما مات الدائن أدى دينه إلى بعض ورثته.
(السؤال): فهل للورثة رد أدائه تنفيذا للوصية أو لهم قبوله نظرا لكون تركة أبيهم مورثهم ؟
((1/18)
الجواب): لم أر أحدا تعرض لما نحن فيه من أئمتنا الشافعية فيما علمت، غير أن في فتاوى العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى ما يفيد صحة الوصية ولو صدرت في حال الغضب. ففي الجزء الرابع من الفتاوى المذكورة ص 34 ما نصه: سئل عن امرأة تشاجرت هي وزوجها، فقالت حقي بعد عيني صدقة على مسجد كذا. فهل هو وقف أو وصية أو نذر ؟. فأجاب بقوله الذي ذكروه أي فيما إذا كان على معين ولم تقل بعد موتي والمسجد المذكور معين. فإذا أرادت بقولها "بعد عيني" بعد موتي كان وصية وإن لم تعلم إرادتها فالظاهر العمل بعرف بلدها المطرد في المراد بتلك الكلمة إلى آخر كلامه. فاستفدنا من عدم تعرضه لحال المرأة الموصية في صورة السؤال وسكوته عنه أن الوصية تصح في حال الغضب من الموصى مع استيفاء الشروط المقررة. فحينئذ فقول الدائن في مسألتنا "إن مت فلا تطالبوه" إلخ صريح في الوصية منه للمدين بالدين الذي عليه وإبرائه منه، وذلك لاستناد النهي المذكور إلى ما بعد الموت. ولا يشترط القبول منه لفظا وإن كان معينا لعدم اقتضاء الصيغة ذلك، كما إذا كان الموصى به إعتاقا فإنه لا يشترط القبول من العبد الموصى له بالعتق. قال في فتح الوهاب ج 4 من حاشية الجمل ص 48 ما لفظه: "وظاهر أنه لا حاجة إلى القبول فيما لو كان الموصى به إعتاقا، كأن قال أعتقوا عني فلانا بعد موتي. بخلاف ما لو أوصى له برقبته فإنه يحتاج إلى ذلك لاقتضاء الصيغة له". وكتب الجمل "قوله فإنه يحتاج إلى ذلك أي للقبول لاقتضاء الصيغة له أي للقبول لأنه مخاطب بالوصية بخلاف الموصى بعتقه ليس مخاطبا بالوصية" إهـ. على أن لنا قولا ضعيفا بعدم اشتراط القبول مطلقا معينا كان الموصى له أو جهة والاكتفاء بالأخذ وعدم الرد. وحيث قلنا إن ذلك وصية للمدين بما عليه من الدين فإن خرج من الثلث فذاك، وإلا فالزائد يتوقف على إجازة الورثة المطلقين التصرف. وقول السائل "فهل للورثة رد أدائه تنفيذا للوصية ؟".(1/19)
فالجواب: حيث علم المدين أن الميت أوصى لهم بنهي المطالبة عنه بما عليه من الدين فيجب عليهم رد ما أداه إليهم، فإن الدين سقط عنه بعد موت الموصى حيث خرج من الثلث بناء على تلك الوصية وإن أثم بمطله مع قدرته على الوفاء إلا إن رد الوصية ولم يقبلها فلهم قبوله حينئذ، ويكون المردود به من جملة تركة الميت. هذا هو الظاهر في الجواب. والله أعلم بالصواب.
(السؤال التاسع): إلى متى تطلب الصلاة على الميت الغائب. إلى شهر أو إلى سنة أو إلى ما لا حد له؟
(الجواب): والله الموفق للصواب. قد تقرر في كتب أئمتنا الشافعية أنه تسن الصلاة على الميت في القبر غير الأنبياء وعلى الميت الغائب عن البلد. ولكن إنما يسن ذلك لمن كان من أهل فرضها وقت موته، وإلا فلا تسن ولا تصح. وأما المدة التي تطلب فيها الصلاة على الميت الغائب فظاهر كلام إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى عدم التقييد بمدة لأن المقصود منها الدعاء للميت فتجوز بل تسن ولو طالت المدة.
قال في فتح الباري (ج 6 ص 229) عند التعرض لشرح حديث موت النجاشي وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه ما نصه: "واستدل به على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففا يصلي عليه فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى له به وهو ملفف ؟. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك، وعن بعض أهل العلم إنما يحوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب منه لا ما إذا طالت المدة حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حبان: إنما يحوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يحز" إلى آخر ما في الفتح.(1/20)
وفي سبل السلام (ج 2 ص 101) عند الكلام على شرح الحديث المذكور ما نصه: "وفيه دلالة على مشروعية صلاة الجنازة على الغائب. وفيه أقوال: الأول تشرع مطلقا. وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما. والثاني منعه مطلقا وهو للهادوية والحنفية ومالك. والثالث يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه إلا إذا طالت المدة" إهـ.
وفي حاشية الجمل على فتح الوهاب (ج 2 ص 181) ما لفظه: "ولو صلى على من مات في يومه أو سنته وطهر في أقطار الأرض جاز وإن لم يعرف عينهم، بل تسن لأن الصلاة على الغائب جائزة، وتعينهم غير شرط إهـ شرح الرملي. وقولهم وإن لم يعرف عينهم إلخ أي وينوي الصلاة على من تصح صلاته عليه. وهذا أسهل النيات وأولاها إهـ برماوي" إهـ كلام الجمل رحمه الله تعالى. وكتب أيضا عند قوله "وتصح على قبر نبي أي ولو بعد بلى الميت" إهـ.
فاستفيد من تلك النقول الصريحة والنصوص الواضحة جواز الصلاة على الميت الغائب كالصلاة على الميت في القبر غير الأنبياء، بل وسنية ذلك لما فيها من الدعاء للميت بالرحمة والمغفرة ورفع الدرجات وغيرها، وأن ذلك لا يتقيد بمدة وزمان ولا بمكان دون مكان على الأصح من أقوال الأئمة عليهم من الله الرضا والرحمة. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. والحمد لله رب العالمين.(1/21)