الأبعاد التربوية للحج
د . حمدي شعيب
((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ)) [البقرة: 197].
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور" (1).
تشكِّل الآية السابقة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملمحاً يفتح للمسلم باباً عظيماً في الفقه نحن في أمس الحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو فقه ترتيب العقلية المسلمة، أو (فقه الأولويات)، وهو ما يُعرف بفقه مراتب الأعمال؛ حيث يتعلم منه المسلم أن للأعمال مراتب متباينة ومتفاضلة في أهميتها وفي ثوابها وفضلها، وأن لكل عمل
وقتاً معيناً، وأولوية متقدمة على سائر الأعمال، وهو ما يُعرف بـ (واجب الوقت).
وعلى ضوء ذلك يمكن إعادة ترتيب العقل المسلم وصياغته، فيدرك من خلاله أن فقه الأولويات: هو مراعاة النسب بين الأعمال والتكاليف الشرعية، والإخلال بها يُحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. والعقيدة في الإسلام مقدمة على العمل. والأعمال متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وهي تتفاضل عند الله ـ سبحانه ـ وليست على درجة واحدة؛ فالنافلة لا يجوز
تقديمها على الفريضة، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. ومما ينبغي أن نعرفه: القضايا التي هي أوْلى بالاهتمام فتُعطى الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها، وأن نعرف أوْلى الأعداء بتوجيه قوانا الضاربة، وتركيز الهجوم عليه، وأي المعارك أوْلى بالبدء؟
وأجاب ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها: الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟ ثم رجَّح أنه لا يوجد أفضل بإطلاق؛ وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له(2).
ولا ننسى وصيته صلى الله عليه وسلم عندما رتب أولويات الإنفاق، فقال: "وابدأ بمن تعول"(3).(1/1)
وكذلك عندما قص علينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة عدم ترتيب الأولويات بما حدث لجريج العابد عندما قدَّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل صالح آخر أرجح؛ حيث قدم الاستمرار في صلاته، ولم يلبِّ نداء أمه ثلاثاً، فأغضبها، ودعت عليه دعوة استجاب ـ سبحانه ـ لها فيها، وهي أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فاتهمته إحدى البغايا بالزنا والفجور، ولكن الحق ـ سبحانه ـ أنجاه بتوبته وصلاحه(4).
والداعية أوْلى الناس بامتلاك تلك العقلية المرتبة، فيعرف حق الوقت، ويفقه أولوياته، ويربأ بنفسه أن يكون تعامله مع القضايا تعاملاً مختلاً، مثل ذلك السفيه الذي استجار به غريق فاشترط أولاً أن يستر هذا الغريق المسكين عورته، حتى ينقذه!
إشارة نبوية:
تنمية روح الجندية والانضباط: وتبدأ هذه الرحلة المباركة من أماكن معينة، تعرف بالميقات المكاني للحج، وهي خمسة حدود مكانية؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:"وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة،ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَمْ. قال: "فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج، أو العمرة. فمن كان دونهن فمَهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها"(5).
ولا يجوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبد الحج أو العمرة، ومن تجاوزها فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها، وإلا فعليه دم يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم.
من هذه الشعيرة الخاصة يمكننا أن نضع أيدينا على مغزى بعيد لها، وبُعْدٍ تربوي تستشعره النفس من خلال تدبرها، وهو أن يتعود المسلم دوماً أن لكل عمل ولكل أمر حدوداً معينة لا يجوز تجاوزها، بل إن تجاوزها قد يكون من الخطورة بمكان؛ حيث ينعكس أثره على صحة العمل نفسه، وقبوله عند الحق ـ سبحانه ـ.(1/2)
وهذا المغزى الانضباطي التربوي البعيد يكاد يكون سمة بارزة من سمات المنهج الإسلامي التي يُربَّى المسلم عليها؛ حيث توجد عنده هذه الروح، وينميها في حسه، فتعوِّده على حب النظام والانضباط، والطاعة للأوامر، والتزام حدود كل عمل فلا يتجاوزه، وهي كلها جوانب تندرج تحت صفات الجندية المنشودة.
وكذلك كانت روح كل الشعائر والأعمال الخاصة بركن الحج.
وتدبر كيف أن لهذا الركن العظيم أركاناً أربعة هي: الإحرام، وطواف الإفاضة، والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة؛ فمن ترك ركناً لم يصح حجه، ولا يتم إلا به.
وتدبر أيضاً أن لهذا الركن واجبات؛ فمن ترك واجباً فعليه دم لفقراء الحرم.
وهي أيضاً روح كل العبادات والشعائر.
ويمكننا أن نأخذ مثالاً واحداً وهو الصلاة، وكيف أن لها شروطاً، وفرائض، وسنناً معينة، كلها توقيفية لا يجوز الزيادة عليها. والمقام لا يتسع هنا إلى التفصيل أكثر من هذه الإشارات.
وكذلك كانت روح علاقات المسلم كلها. فسلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه، ومع أهله له ضوابط محددة، وهي حقوق في عنقه: "إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه"(6).
من هنا نخلص إلى أن الانضباط والتزام حدود الله ـ تعالى ـ من صفات المسلم الحق.
وعكس هذا هو عدم النظام والتسيب، والمخالفة، والتعدي.
بل إن تلك القضية لها آثار خطيرة داخل النفوس وكذلك داخل الصف.
ولنتدبر هذه النصيحة العظيمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم التي تبرز تلك الرابطة بين النظام في الظاهر، والنظام في الداخل؛ فما هي إلا إشارة حمراء تحذر العاملين، وتبين أن الاختلاف الظاهري ينتج اختلافاً بين القلوب. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(7).
والداعية أوْلى بالالتزام بصفات الجندية، وهو اللبيب الذي بالإشارة يفهم؛ فما بالك إذا كانت تلك الإشارة نبوية واضحة جلية؟
إنذارٌ للنمل!(1/3)
فضل إعلان الهوية: من عند هذه المواقيت المكانية، وفي أثناء تلك المواقيت الزمانية يُحْرِم المسلم إذا نوى الحج أو العمرة؛ وذلك بأن يخلع ثيابه التي يلبسها، ويرتدي ثياب الإحرام، وهي تتكون من رداء وإزار أبيضين نظيفين، أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة غير ثياب التبرج والزينة، ويستحب للإحرام الاغتسال والتطيب ونظافة الملبس.
وإذا أحرم المسلم كان عليه أن يرفع صوته بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
ثم يلتزم باجتناب محظورات الإحرام المعروفة.
وبتدبرنا لهذا العمل من أعمال الحج والذي يُصنَّف ركناً من أركانه، وكذلك واجباً من واجباته، وذلك من الجانب الذي يهمنا هنا وهو البعد التربوي لهذه الشعيرة، ودورها المهم؛ حيث تستشعر النفس أن هذا العمل يرمز إلى معنى رفيع وهو قضية جهد الإنسان في التغيير وفعاليته في صنع الأحداث، فشرارة البداية في التحولات الحضارية، هي محاولة تغيير النفس: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)). [الرعد: 11].
ومع قناعتنا بأن التغيير المنشود هو التغيير الداخلي أي تغيير النفس والجوهر الإنساني، ورغم يقيننا بأن الحق ـ سبحانه ـ لا يعامل الناس بظواهرهم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(8).
ولكن البعد التربوي للإحرام يوجهنا إلى منحى آخر مهم، وإلى دلالة عظيمة هي: أن من أراد التغيير الداخلي فلا يهمل التغيير الخارجي؛ فالإنسان كلٌّ لا يتجزأ، وأي خلل ظاهري له تأثير بعيد داخلياً؛ وذلك كما أشرنا إلى وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم التحذيرية: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(9) وكذلك كما نهتم بتسوية الصفوف، خوفاً من تأثيرها على الداخل: "لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(10).(1/4)
والإحرام رمز للانسلاخ من مرحلة إلى أخرى، ويعتبر عهداً بين المسلم وربه، وتأكيداً على صدق نية التغيير والالتزام بذلك ظاهرياً بلبس الإحرام، وإعلان ذلك برفع الصوت بالتلبية حتى يعلم الناس جميعاً بهذا الميثاق، وبتوابعه ـ وهي اجتناب محظوراته ـ، بل إن البعد التربوي لهذه التلبية ودلالاتها نستشعرها من تدبر قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا ـ يعني عن يمينه وشماله ـ"(11).
وتدبر ذلك النداء ورفع الصوت بالتلبية وأثره الكوني والباطني، وتواصله مع ذلك النداء الذي رفعه مؤسس هذا المشروع العظيم الخليل ـ عليه السلام ـ عندما أمره الحق ـ سبحانه ـ أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم، ووعده بالإجابة: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )) [ الحج: 27] "أي نادِ في الناس بالحج داعياً إياهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِر أنه قال: يا رب كيف أبلغ صوتي ولا ينفذهم؟
فقال: نادِ؛ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه ـ وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس ـ وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً، فحجوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك"(12).
وهو رمز لإعلان الهوية، وما يدل عليه من أن هذا المشروع مشروع كوني يهش ويبش له كل الخلائق، ويتجاوب معه الوجود كله، ويباركه رب هذه الخلائق ورب هذا الوجود كله ـ سبحانه ـ.(1/5)
وهو رمز التميز الذي يفرق بين أصحاب هذا المشروع الرباني العظيم وأصحاب المشاريع الأرضية المغايرة؛ يفرق بين المشروع الذي يتجاوب له الوجود وتأنس إليه الفطرة وبين المشاريع الأخرى التي وإن لم تصطدم فهي تتنافر مع الوجود، وتأنف منها الفطرة الإنسانية.
وهو أيضاً عنوان التحدي الذي يشمخ به أصحاب هذا المشروع على غيرهم من أصحاب المشاريع المناوئة؛ التحدي بالركون إلى الحق ـ سبحانه ـ، إلى القوة التي تباركه وتزكيه وتباهي بأصحابه ملائكة السماء؛ حيث روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج على حِلَقٍ من أصحابه، فقال: "ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة"(13).
ومن هنا ندرك كم لهذا العمل العظيم من أعمال الحج من آثار كونية!
وكم له من آثار باطنية تأخذ بتلابيب النفس، ويتراقص لها القلب لهفة وحباً وشوقاً! وذلك استجابة لدعاء الخليل ـ عليه السلام ـ الذي رفعه ذات يوم من أيام هذا المشروع العظيم: ((رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ)) [إبراهيم: 37].
لذا فهو إعلان مادي بالالتزام بعهد الانسلاخ، والتحول من الماضي بكل سلبياته والدخول إلى المستقبل المنشود من خلال بوابة الحاضر.
والدعاة العاملون يعون جيداً مغزى هذا العمل، ودلالاته الكثيرة، وأهمية تلك النقلة، والعبور من مرحلة التفلُّت إلى مرحلة العمل من أجل أداء هذه الشعيرة الإسلامية الكبرى.
لبنة التربية:(1/6)
عند هذه المواقيت المكانية، وأثناء المواقيت الزمانية للحج يبدأ المسلم رحلته المباركة، ويحدد نيته فيختار أحد الأنساك الثلاثة: إما التمتع، أو الإفراد، أو القِران.
وكذلك عندما ينهي رحلته يكون على أحد الخيارين: إما التعجل في نهاية اليوم الثاني عشر وقبل غروب شمسه، أو أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر.
وبتدبر هذه الخيارات سواء في بداية الرحلة أو في نهايتها التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أي من الأئمة، وكذلك في اختلاف الفقهاء في أفضلية أي من الأنساك على غيرها، وبتدبر هذه الرحمة الإلهية في قوله ـ سبحانه ـ: ((فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) [البقرة: 203]، وبالنظرة الشمولية العامة، والغوص في المغزى البعيد للنصوص، وعدم قصرها على موضوع الحج، بل بالتوسع في معناها البعيد، ومن هذا المنطلق المنهجي نجد أن هذه النظرة لهذه الركيزة القائمة على تدبر الخيارات في رحلة الحاج تفتح باباً عظيماً في المنهج، وتكشف أضواءاً على قضيةٍ طالما شغلت الكثيرين في مختلف العصور؛ ألا وهي (قضية تعدد الصواب)، وهي من أهم جوانب إعادة صياغة العقلية المسلمة وركائزها التي ندعو إليها ليزيد رصيدنا من هذه العقليات التي تفقه وتعي (فقه الموازنات) أو فقه
الترجيح، وهو الفقه الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية).
ولا ننسى الفقه الآخر المرتبط بهذا الفقه ويلازمه وقد يتداخل معه؛ ألا وهو (فقه الأولويات).
فعلى أساس هذين الفقهين يتم الترجيح والموازنة بين الاختيارات على أساس الأصوب والأوْلى.
وفي النهاية نخلص إلى أن ذلك من علامات سعة المنهج ومرونة الشريعة، وكذلك من علامات نضج حاملي هذا المنهج وثقتهم في سمو فكرتهم التي يدعون إليها وعلوها، وهي أيضاً دلالة بارزة على سعة أفق دعاة مشروعه الحضاري.(1/7)
وإذا كان لهذه القضايا أهميتها في الماضي فإن هذه الأهمية تتضاعف في حلقة الصراع والتدافع الحضاري المعاصرة أمام تيارات ومشاريع مناوئة يُلقي حاملوها بالتهم جزافاً على حاملي المشروع الحضاري الإسلامي، ويتهمونهم بالجمود والتحجر وأحادية النظرة.
آلامٌ ... وآمال:
ضرورة إيجاد محور تغييري واحد: ثم يبدأ الحاج طوافه، فيبدؤه باستلام الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبِّله، فإن لم يتيسر تقبيله قبَّل يده إن استلمه بها، فإن لم يتيسر ذلك، فإنه يستقبله ويشير إليه بيده إشارة ولا يقبِّلها، قائلاً: بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءاً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يستلم الركن اليماني بيمناه، ويكمل سبعة أشواط مع مراعاة سُنَّتَيْ الاضطباع والرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى.
وحول هذا الركن من أركان الحج، ومن خلال تأملاتنا التي تدور من الجانب الذي يعنينا في هذه الدراسة وهو البعد التربوي له نجد أننا أمام عدة قضايا مهمة:
أولها: عندما يرنو المسلم إلى هذه الأعداد الغفيرة من كل جنس ولون، ومن كل أرض وصقع، ومن كل لسان ولغة، وكيف توحدت في زيها، وفي خطواتها ونداءاتها.
لذا فإننا نؤكد أن هذا الدين هو الفكرة الموثوق بها والوحيدة المرشحة من قِبَلِ الحق ـ سبحانه ـ ركيزةً لتجميع الأمة كل الأمة بعد إخفاق الأفكار الأخرى التي استوردت على أيدي حفنة من بني جلدتنا، فكانت كالنباتات الشيطانية الغريبة على تربتنا.
ثانيها: أهمية وجود القضية المحورية التي لا بد منها لإيقاظ الأمة كل الأمة لتكون مشعلاً يبث الحماسة، وعاملاً يحرك مشاعر الجميع سواء الفرد أو الأمة.
فبرغم توحد اللباس والخطوات والكلمات لهذه الجموع الغفيرة إلا أن المشكلة هي وجود القضية أو الفكرة التي توحد اهتمامات الأمة، وتحرك جماهير الشارع.(1/8)
ولقد حاول المخلصون مراراً أن يوجدوا المشروع الذي يجمع شمل الأمة، والذي يشعل حماس أبناء الأمة؛ فإن أمة لا يجمعها قضية خطيرة ومصيرية مثل ضياع أوَّل قبلتيها ومعراج رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم وموطن مقدسات كل الرسالات السماوية فلن تجمعها قضايا أخرى.
وللأسف يغفل كثير من أبناء الأمة الإسلامية عن هذه القضية التي لا يختلف عليها اثنان لتعبئة الأمة حوله، ولتوجيه الأنظار للخطر المحدق بالجميع، ومن أجل مناهضة المشروع الصهيوني الغربي الذي يهدد كل الأمة.
أما بالنسبة للفرد المسلم فالكل يطوف ظاهرياً حول محور واحد، والكل يردد الكلمات نفسها،والكل يسكب عبراته،ولكن كلٌ يبكي على ليلاه،حقاً:"إنما الأعمال بالنيات"(14).
ثالثها: أهمية التنظيم؛ وهو ما يُعرف بفقه تنسيق الجهود وتوفير الطاقات، وتوظيف الإمكانات. وهذه القضية تبدو واضحة في كل أعمال الحج؛ ففي وقت معين وفي أماكن معينة تسير هذه الجموع المليونية في سلاسة وفي يسر وفي نظام عجيب ومعجز، وما كان هذا ليتأتى إلا بالتنظيم الجيد والدقيق الذي وضعه صلى الله عليه وسلم عندما حج سنة عشر من الهجرة، وتبعه المسلمون حتى يومنا هذا دون تبديل أو تحريف.
رابعها: عندما ينظر الداعية إلى هذه الجموع المليونية نظرة ذات بُعد كمي؛ فيملأ جوانحه الأمل، ويتذكر مؤسس هذا المشروع العظيم؛ يتذكر الخليل ـ عليه السلام ـ وهو يقف وحيداً، ويؤذن بالحج كما أمره الحق ـ سبحانه ـ "نادِ وعلينا البلاغ"، فتكون النتيجة هي هذه الجموع التي لا تُحصى، والتي تأتي من كل حدب وصوب، حتى قيام الساعة،
مشاة وراكبين، وكلهم شوق وبقلوب تهوي إلى هذا المكان الطاهر.
وهذا ما يؤكد أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود؛ فالداعية عليه البلاغ، والحق ـ سبحانه ـ يرعى النتائج بعد ذلك، ويبارك في الأجر العظيم الذي ينتظر الداعية عند القيام بوظيفته البلاغية.(1/9)
وكذلك حَمَلَةُ الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، لقد كلفهم الحق ـ سبحانه ـ بوظيفة، أو دور معين، ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء تلك الوظيفة.
ولا نريد أن نكرر هنا ما أكدنا عليه ووضحناه آنفاً، ولكننا نذكِّر الداعية أن يفقه وظيفته من حيث ماهيتها، ومنهجية تنفيذها، والأجر المترتب عليها، وكيفية تلقي التكاليف، وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة، وضرورة أن يصل إلى درجة البلاغ المبين للفكرة، ثم ـ وهذا هو الأهم ـ عليه أن يستشعر هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر، ودور المدد الرباني في تنفيذ جمع شمل الأمة المنشود، وكيف أن هذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل للعاملين، وهو العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع المغايرة.
خامسها: عندما يُتْبِع الداعية هذه النظرة، بنظرة أخرى ذات بُعدٍ نوعي؛ فيملأ قلبه الأسى عندما يتأمل ذلك الفارق الشاسع بين ثقل تلك الأعداد القليلة التي كانت تطوف معه صلى الله عليه وسلم وأثرها في صنع أحداث الكون حولها، ودورها في صنع حركة التاريخ، وبين ثقل هذه الجموع المعاصرة، وهم يطوفون الطواف نفسه، ويرددون الكلمات نفسها، ولكن أصابهم مرض العصر، مرض الغثائية، أو الإمَّعية، وكيف تداعت عليهم أرذل الأمم، فشتتت جموعهم، وأصبحوا على هامش الأحداث.
وهي مرحلة القصعة التي حذر منها صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى الأمم عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا
وكراهية الموت"(15).(1/10)
ويعود الداعية بعد تدبره لهذا الملمح التربوي، إلى نظرة واقعية يراجع بها منهجيته، فيدرك أهمية التركيز على التربية، ويهتم بالتقييم النوعي لثماره، ولا يغتر بالتجمعات الغثائية القطيعية.
سادسها: عندما يستلم المسلم الحجر الأسود، تعاوده السكينة، ويطمع في وعده صلى الله عليه وسلم: "إن مسحهما يحطَّان الخطايا حطّاً"(16).
سابعها: عندما يتأمل الداعية مشروعية سُنَّة الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى، ويدرك مغزى حرصه صلى الله عليه وسلم أن يكون سلوك المسلمين وحركتهم بمنهجهم عنواناً يرد كيد الأعداء، ويطمس الشبهات، ويزيل الإشاعات التي رددتها يهود حول حُمَّى يثرب التي أصابت المسلمين.
ثم يأسى على واقع أمته وكيف أن مجرد تلك الإشاعات حول الوهن الصحي الظاهري الذي زعموا أنه أصاب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ قد استحالت إلى حقيقة مُرَّة وهو إصابة مسلمي عصرنا بوهن أخطر، وهو الوهن الباطني، والهزيمة الداخلية النفسية.
ومن خلال تلك القضايا التي ذكرنا طرفاً منها يتبين للداعية مدى أهمية المشاركة في جولة التدافع الحضارية المعاصرة، وذلك بحمل المشروع الحضاري الإسلامي؛ فبه ـ وبه وحده ـ تستطيع أمتنا أن تجابه المشروع الصهيوني الغربي.
فهو المشروع الذي به تتوحد اهتمامات الأمة وجهودها، فيكون تمحورها وطوافها حول محور تغييري واحد، وذلك للخروج من مرحلة القصعة؛ فلعل هذه المشاركة تزيل الوهن والغثائية، وتُري أعداء الأمة من المشاركين معنى القوة والعزة.
ساعة ... وساعة:
تنمية خُلق التيسير: بعد إتمام الطواف، وقبل أن يبدأ السعي، يُسن للحاج أن يصلي ركعتين جاعلاً مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ بينه وبين الكعبة ولو بَعُدَ، وإن لم يتيسر له صلَّى في أي موضع، ويُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (الكافرون)، وفي الثانية (الإخلاص).(1/11)
بعد ذلك يُستحب له أن يذهب إلى زمزم ويشرب منها، ويصب على رأسه، وإن تيسر له رجع وكبَّر واستلم الحجر الأسود.
ولو تدبرنا نوعية تلك السنن وموضعها لوجدناها تتكرر بصفات أخرى طوال رحلة الحج، ونجدها أيضاً تفصل بين كل عملين شاقين.
أو بمعنى آخر كأنها لحظات لالتقاط الأنفاس قبل الشروع في الأعمال التي تتطلب جهداً ومشقة.
وتدبر جلسات الاستراحة الإيمانية المتعددة تلك، والتي تأتي على هيئات مختلفة عملاً ووقتاً مثل يوم التروية قبل الخروج إلى عرفة، والمبيت بالمزدلفة قبل أعمال يوم النحر الشاقة من رمي ونحر وحلق وطواف.
وهذا الملمح التربوي يفتح باباً عظيماً في المنهج، ويدلنا على سمة عظيمة من سمات ذلك المشروع الحضاري، وهو مراعاة الطبيعة البشرية، ومراعاة قدرات المشاركين في حمله، وكذلك يدل على يسر هذا المنهج وواقعيته وملاءمته للجميع.
وتدبر كيف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد راعى قدرات أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، فجعل ذروة سنام الدين ـ وهو الجهاد ـ درجات ومراتب، فلم يُحرَم أحد من شرف القيام به، حتى وإن قصرت همته، وضعفت قدراته، بل وإن اعترف بها؛ وذلك لأن الجهاد هو سبيل الأمة ومصدر عزها، ولا بد من أن يشارك الجميع في الركب؛ لذا صُنِّف الحج على أنه جهاد الضعفاء، فعن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ قال: "جاء رجلٌ
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، إني ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إلى جهادٍ لا شوكة فيه: الحج"(17).
وكان منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسطية، بمراعاة الفطرة الإنسانية، وحدود الاستطاعة البشرية: "مَهْ، عليكم بما تُطيقون، فوالله! لا يملُ الله حتى تملوا"(18).
وذلك روح الدين، وأساس القاعدة الربانية التي يقوم عليها المنهج الإسلامي: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)) [البقرة: 185].(1/12)
ويخرج الداعية من هذه الركيزة،بأن يراعي الطبيعة البشرية، وقدرات المشاركين، ويوظف كلاًّ في مكانه، ولا يُشعر أحداً بأفضلية مكانته على الآخر.
وإن كان الركب يحتاج إلى طلائع قوية، ودعائم صلبة تتحمل التبعات فإن الصف أيضاً يضم بجانب هؤلاء الرواحل آخرين من أنصاف الرواحل، والأقل منهم درجة، أو درجات، ولكل قدراته وطاقته التي توضع في عين الاعتبار، ولكل دوره الذي لا يستطيع أحد غيره القيام به، ولكل ثغره الذي لا يستطيع أن يحرسه غيره، بل ولكل فضله ومكانته التي لا يمكن لأحد بخسها.
وعلى الداعية كذلك ألا يهمل فترات الترويح على النفس، ولكن بشرط أن تنضبط بشرعيتها مع الأهداف والغايات الربانية للمسيرة؛ فهو المجاهد الذي لا ينسى قضيته حتى وإن استراح لبعض الوقت، وكذلك يجب ألا تطول فترات الراحة المباحة والاستجمام البريء فتنسيه مهمته.
وهو من باب الوسطية؛ أو التوازن والاعتدال، كما في نصيحته صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة! ساعةً وساعةً"(19).
الشقائق:
دور المرأة في المشروع الحضاري: بعد ذلك يتجه الحاج إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا تلا قوله ـ سبحانه ـ: ((إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ومَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)) [ البقرة: 158]، ثم
يقول: "نبدأ بما بدأ به الله". ثم يبدأ من الصفا فيرتقي ثم ينظر إلى الكعبة، فيكبر ويوحد، ويدعو ثلاثاً من خيري الدنيا والآخرة، ثم يبدأ السعي متجهاً إلى المروة ويذكر الله ـ عز وجل ـ ويدعو وهو يمشي. ويركض هرولة بين الميلين. ثم يمشي حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع كما صنع على الصفا. ثم يعود إلى الصفا ويكرر ذلك سبعاً.(1/13)
وعندما نتأمل هذا العمل العظيم من أركان الحج أو واجباته ـ وذلك من زاوية بحثنا المتواضع، ومغزاه التربوي ـ من حيث دلالاته باعتباره ركيزة من ركائز المشروع الحضاري فإننا نرى بدايةً أنه قد شُرع للأمة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي"(20)،شُرع ليربط الأمة بتاريخها الناصع،ويذكر الأمة بجذورها،
وأصالتها تذكرة دائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يذكرها بتلك التجربة العظيمة، والجهد الشاق الذي قامت به هاجر الصابرة المؤمنة المثابرة، ـ عليها السلام ـ وهي تبحث عن الماء لرضيعها ولها بعد أن نفد الماء الذي كان معها، و "عطشت، وعطش ابنها ـ أي انقطع لبنها فعطش ابنها ـ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أي يبكي ويتقلب، وفي رواية: يتلبط أي يتمرغ ويضرب الأرض برجليه، وفي أخرى: يتلمظ أي يخرج لسانه فيبل به شفتيه وكانت سنه حينئذ سنتين ـ، فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ـ أي قميصها ـ ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليه،فنظرت: هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: فذلك سعي الناس بينهما. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً؛ فقالت: صهٍ ـ تريد نفسها ـ ثم تسمَّعت، فسمعت أيضاً! فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ، ـ أي ساعدني لأني سمعتك ـ فإذا هي بالمَلَكِ ـ أي جبريل ـ عليه السلام ـ عند ماء زمزم ـ فبحث بعَقبهِ ـ أي عظم مؤخر القدم ـ أو قال بجناحه، حتى ظهر
الماء"(21).
وبتدبر هذه التجربة العظيمة نستطيع أن نتلمس بعض الملامح التربوية حول بعض القضايا الفرعية، ثم حول القضية العظيمة والمغزى الرفيع الذي نخلص إليه وذلك في الحلقة التالية ـ إن شاء الله ـ.
الهوامش:(1/14)
(1) رواه البخاري، 2/ 164.
(2) مدارج السالكين: ابن القيم، 1/ 85 ـ 90.
(3) رواه البخاري، ح/ 1337.
(4) قصة جريج العابد رواها البخاري، ح/ 2302، ومسلم، ح/ 4625..
(5) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/5.
(6) رواه الترمذي، ح/ 2337.
(7) رواه مسلم، ح/ 654.
(8) رواه مسلم، ح/ 4650.
(9) رواه مسلم، ح/ 654.
(10) رواه البخاري، ح/ 676.
(11) رواه ابن خزيمة، ح/ 2634 بسند صحيح.
(12) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، 3/ 226.
(13) رواه مسلم، ح/ 4869.
(14) رواه البخاري حديث رقم 1.
(15) رواه أبو داود ، ح/ 3745 .
(16) رواه أحمد، ح/ 5442.
(17) رواه الطبراني في المعجم الكبير، ح/ 2910 ورواته ثقات.
(18) رواه البخاري 1/ 101 باب أحب الدين إلى الله أدومه.
(19) رواه مسلم، ح/ 4937.
(20) المنهاج في يوميات الحاج: خالد بن عبد الله الناصر، 35.
(21) رواه البخاري، ح/ 3113.
---
استعرض الكاتب في الحلقة الأولى رحلة الحج مستنبطاً من مسيرتها الدروس والعبر، وإشارات للساري في طريق الملة الحنيفية، وقد ختم الحلقة بدور المرأة في المشروع الحضاري عندما توقف عند ركن السعي والرمل بين الصفا والمروة؛ حيث ذكرنا بهاجر ـ
عليها السلام ـ. وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب نظراته التربوية في مسيرة الحج وما يستفاد
منها في المشروع الحضاري لأمتنا الإسلامية.
ـ البيان ـ
أ - أما بالنسبة للقضايا الفرعية:
فأولها: عندما يتأمل الحاج أنه قد كُتب عليه السعي على النهج نفسه وبالخطوات التي
قامت بها أم إسماعيل ـ عليهما السلام ـ نرى أن الله ـ عز وجل ـ يريد أن يذكِّر كل مسلم،
أن هذه الأمة واحدة؛ لأنها تملك كل مقومات هذه الوحدة: من جذور تاريخية، وأرض،
وأفكار موحدة، وأنها تتجذر في التاريخ عمقاً يربطها بأبي البشر آدم وأبي الأنبياء إبراهيم
ـ عليهما السلام ـ أوائل من بنوا البيت، وأنها كذلك تتجذر في التاريخ عرضاً لتضم كل(1/15)
الأمم وكل أجناس الأرض؛ فهي أمة واحدة ورسالتها واحدة.
ثانيها: كيف أن الماء الذي كان في سقاء هاجر ـ عليها السلام ـ قد نفد لتتعرض هي
ووليدها الحبيب لهذه المحنة العظيمة التي تضطرها لهذا السعي والركض الشاق والمتكرر،
وهو الملمح الذي يبين أنه قد كتب على ابن آدم عامة حظه من الكد والنصب، تحقيقاً
لسنته ـ سبحانه ـ أن حياة هذا المخلوق هي سلسلة من الكد والتعب: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ)) [ البلد: 4]، وأن الإنسان مخلوق مبتلى: ((إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)) [الإنسان: 2].
وكتب كذلك على الدعاة وحاملي الأفكار النبيلة خاصة تحقيقاً لسنته ـ سبحانه ـ:
((الّم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ )) [العنكبوت: 1، 2].
إذن لا بد من الجهد والمحنة من أجل الاختبار والتمحيص، ومن أجل التمييز والانتقاء:
((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) [آل عمران: 179].
وهذا المبدأ ـ مبدأ الابتلاء ـ لم يُستثن منه أحد حتى هاجر الصابرة الممتحنة ووليدها ـ
عليهما السلام ـ بل كل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والصالحون والمصلحون على دربهم.
ثالثها: تدبر وصف الحديث الشريف لحال هاجر ـ عليها السلام ـ: "فانطلقت كراهية أن
تنظر إليه" أي كان هنالك شعور داخلي عارم يدفعها للعمل والبذل إحساساً بالمسؤولية
والإيجابية لعمل شيءٍ مَّا لتدفع به تلك المحنة، ولم تقعد وتولول تواكلاً وكسلاً وأن هذا
شيء مقدر؛ بل نستشعر من طريقة سعيها ـ عليها السلام ـ معنى التصميم والعزم، وهو
الشعور الذي يغيب عن بعض الدعاة؛ الشعور الداخلي بالمسؤولية لعمل شيء مَّا من أجل
الفكرة التي يحملونها.
رابعاً: كانت هاجر ـ عليها السلام ـ تسعى وتركض، ولا تريد أن تعود حتى تحصل على(1/16)
بغيتها حتى إنها كررت سعيها سبع مرات! أي كان هنالك تصميم وثبات وعدم يأس من
تحقيق بغيتها. ولقد كان بإمكانها أن تعذر إلى الله ـ سبحانه ـ بأن تسعى مرة أو مرتين.
وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بطرْق أبواب الخير مرات ومرات حتى تفتح، وأحرى لمن
داوم على قرع الباب أن يُفتح له.
فالداعية صاحب قضية، وهو دوماً يتطلع إلى المعالي، ولا تعوقه مغريات الأرض، ولا ثقلة
الطين حتى يتحقق هدفه العظيم، كما قال أحمد محمد الصديق:
يتعالى عن أراجيف الثرى نافضاً عنه غبارَ التهم
من تكن عيناه للأرض فلن يتسامى أبداً للأنجم
خامسها: بعد هذا المجهود المتكرر، والسعي الشاق المضني، والأخذ بكل الأسباب لا يسفر
ذلك عن شيء، حتى كان الفرج بيده ـ سبحانه ـ المطَّلع على هذا الأمر، فأرسل جبريل ـ عليه السلام ـ ليضرب بعقبه أو بجناحه الأرض فتتفجر زمزم.
وهو الملمح الذي يذكِّر الدعاة بالفقه الجيد لقضية التوكل على الله؛ وذلك بأن يسعوا في الأسباب ـ وبأفضل الأسباب ـ مع القناعة الداخلية بعدم الركون إليها، ثم مع اليقين فيما عنده ـ سبحانه ـ: ((مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ومَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ)) [النحل: 96]
والفرج بيده ـ سبحانه ـ وحده مالك الملك، ومقدِّر الأقدار؛ لذا فإن الجوارح تعمل
بالأسباب، والقلب يناجي رب هذه الأسباب: ((بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
[آل عمران: 26].
وثمرة هذه القضية هو الخلوص والتجرد للحق ـ سبحانه ـ ((وظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ)). [التوبة: 118].
ب - أما بالنسبة للقضية الكبرى والمغزى العظيم من ركن السعي؛ فإن هذا العمل الذي
يقوم به كل حاج ومعتمر يكاد يكون بكل دقائقه هو ما قامت به هاجر ـ عليها السلام ـ
نفسه، وكأنها رسمت الخُطا للاَّحقين في كل عصر وفي كل جيل؛ فلا تتم لهم عمرة ولا
حج إلا به، ثم ليتدبروا بعض الدروس التربوية منه. ولا يكاد يخلو هذا المكان من ساع(1/17)
ومهرول في أي لحظة، من اليوم والنهار، وكأننا بالحق ـ سبحانه ـ يريد أن تظل تلك
القضية ودروسها حية دوماً في وجدان الأمة حتى يرث الأرض ومن عليها؛ عرفاناً بدور
هاجر ـ عليها السلام ـ وتذكيراً للأمة، ورداً على أباطيل أعدائها وشبهاتهم.
وعندما نتدبر هذا الركن من خلال زاوية دراستنا نجد أنه رد عملي، وبرهان جلي، حول
قضية طالما أثار حولها المعارضون للمشروع الحضاري الإسلامي الكثير من الشبهات
والاتهامات؛ بل العجب في الأمر أنه قد يُشارك بعض المسلمين في إثارة الغبار حولها
بحسن نية، أو بجهل، أو بهما معاً! وهي قضية مكانة المرأة في الإسلام، ودورها في
المشروع الحضاري.
ويكفينا في هذا المقام أن نقتطف بعض ما جاء في الرأي الشامل الجامع والراقي للحركة
الإسلامية المعاصرة حول هذه القضية؛ فالمرأة (هي الأم التي ورد في شأنها الأثر الكريم: أن
الجنة تحت أقدامها، والتي قدمها الله ـ تعالى ـ على كل من عداها في حق صحبة الأبناء
لها، وأنهن شقائق الرجال. والمرأة هي نصف المجتمع ونصف الأمة والقائمة على تنشئة
الأجيال. ومسؤولية المرأة الإيمانية كالرجل سواءاً بسواء؛ فهي مأمورة ـ كالرجل ـ بالإيمان
بالله، وبالعمل بالأركان، وعليها ما على الرجل من واجب التفقه في الدين. والحدودُ في
الشريعة واحدة بالنسبة للرجل والمرأة، ونفس المرأة في القصاص كنفس الرجل. وهي أول
من آمن، وأول من استشهد في سبيل الله. ولقد شاركت في الجهاد والغزوات. ولا يصح
زواج في الشريعة إلا بموافقتها ورضاها وإجازتها، ولا يجوز شرعاً إجبارها على الزواج
ممن لا ترضاه. وللمرأة ذمة مالية كاملة لا تنقص شيئاً عن ذمة الرجل المالية. ونقصها في
الدين ليس نقصاً في الإيمان ولا لأنها مخلوق متدنٍّ غير أهل للرقي، بل لرفع العبادات
عنها في أوقات معينة. ونقص الحظ هو في بعض أنصبة الميراث فقط. أما نقص العقل فهو(1/18)
محدد بالشهادة على أمور معينة أهمها الدَّيْن أي القرض، وعقود البيع والحدود. أما
قوامة الرجل عليها فلا يجوز أن تُفهَم على أنها مطلقة في كل الأمور ولعامة الرجال، بل
إن هذه القوامة خاصة بالأسرة فقط، وفيما يتعلق بالأمور المشتركة بين الزوج والزوجة.
ورياسة الرجل ليست رياسة قهر وتحكم واستبداد، ولكنها تراحم وتواد ومعاشرة
بالحسنى، وتقوم على التشاور؛ فالأصل هو المساواة، ولكن الاستثناءات ترد منه ـ سبحانه
ـ. وقد وردت النصوص بأن جسد المرأة كله عورة، ولا يجوز أن يظهر منه لغير محارمها
سوى الوجه والكفين، وأن خلوة المرأة بالرجل غير المحرم لها غير جائزة. وللمرأة وظيفة
أساسية هامة وسامية خصها ـ سبحانه ـ بها وهي وظيفة الحمل والأمومة، وهي ربة
البيت وملكته. وللمرأة حق المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما ماثلها. ولها
الحق في تولي مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها. والوظيفة المتفق على عدم جوازها
لها هي الولاية العامة، أي رئاسة الدولة. أما القضاء فقد اختلف الفقهاء بشأن توليها له،
وهذا يحكمه فقه الموازنات والترجيح. أما ما عدا ذلك من الوظائف فما دام أن للمرأة شرعاً
أن تعمل فيما هو حلال لم يرد فيه نص بتحريمه. وهذه الحقوق وكيفية استعمالها تحكمها
ظروف وأخلاقيات كل مجتمع)(1).
وهكذا فإن ركن السعي يفتح أفقاً رحيباً للمشاركين في المشروع الحضاري حول قضية
المشارِكات ودورهن، فلا يبخسن، ولا يُهملن. ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم
سماهن: الشقائق.
مع المؤتمرين!
فضل الجماعية وأهميتها: ثم بعد طلوع الشمس من يوم عرفة يتوجه الحاج من منى إلى
عرفة، وهو يلبي ويكبر: "الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد". ويرفع بها
صوته. ويكره له الصيام في هذا اليوم. ومن السنَّة النزول في نمرة إلى الزوال إن أمكن. فإذا
زالت الشمس سُنَّ للإمام أو نائبه أن يخطب خطبة تناسب الحال، ويبين للحاج ما يشرع(1/19)
في هذا اليوم وبعده. وبعدها يصلي الظهر والعصر جمع تقديم وقصراً؛ وذلك ليطول وقت
الوقوف والدعاء بعد الصلاة؛ حيث يتفرغ للذكر والدعاء والتضرع إلى الله، ويدعو بما
أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس لعرفة دعاء مخصوص، ويستحب أن يرفع يديه
حال الدعاء، ويستقبل القبلة. والأفضل أن يجعل الجبل بينه وبين القبلة، إن تيسر ذلك.
ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر من يوم العيد. وعليه أن يتثبت من كونه داخل عرفة،
ولا يخرج من عرفة إلا بعد غروب الشمس.
وبتأمل أعمال هذا اليوم العظيم نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من منظور دوره
ركيزةً من ركائز المشروع الحضاري:
أ - "الحج عرفة"(2) بهاتين الكلمتين وضح صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الركن من
أعمال الحج، ولقد أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم؛ فهو اليوم
الذي يجتمع فيه كل الحجيج في مكان واحد، وفي يوم واحد، وإن امتد وقت الوقوف.
وكأن المقصود هو اجتماع ممثلي الأمة من كل جنس ولون، ومن كل أرض وصقع، وكأنه
مؤتمر سنوي يناقش هموم الأمة، ويعطي الدليل على كيفية اجتماعها.
وعندما نتدبر مغزى حديثه صلى الله عليه وسلم أن الحج الصحيح هو من أدرك الوقوف
يوم عرفة فإننا نستشعر أن جمع الأمة على هذه الصيغة من الأهمية العظيمة بمكان،
ويبرهن أيضاً على أن حضور هذا المؤتمر السنوي الكبير يجب ألاَّ يتخلف عنه أحد ممن
حضر من ممثلي الأمة.
وكم هو منهج عظيم عندما يدعو في كل مناسبة إلى الوحدة، ويشيد بالجماعية وبركتها،
وينبذ أفكار التشتت والتشرذم!
ب - في توجه الحجيج إلى عرفات تحت راية التكبير والتوحيد والتهليل يفهم منه أهمية
الفكرة الربانية ودورها أن ركيزة التجميع لهذه الأمة هي كلمة التوحيد؛ فهي الفكرة
الربانية التي رشحها الحق ـ سبحانه ـ لأن تجتمع عليها الأمة ـ كل الأمة ـ وهي الراية
التي من الممكن أن يتجمع حولها كل الناس؛ فتنطلق بهم إلى سيادة الدنيا، وسعادة
الآخرة.(1/20)
ونحن في هذا المقام نضيف دليلاً آخر يؤكد ما قلناه؛ وهو ما أورده (ابن خلدون) في مقدمته
(أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين
على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم ـ لخُلُق التوحش الذي فيهم ـ أصعب الأمم انقياداً
بعضهم لبعض. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم
مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ـ تم اجتماعهم
وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى والسلامة)(3).
ج- وفي قصر الصلاة وجمعها نستشعر منه وكأن المقصود أن يطول وقت الوقوف
والتضرع إلى الله ـ عز وجل ـ وذلك من شأنه أن يحقق الهدف الثاني من أهداف ركن
الحج وهو قطف ثمرته الروحية من ذكر ودعاء واستغفار؛ فهو فرصة سانحة لا تتكرر إلا
كل عام، ولمن سعدوا بحضورها؛ حيث تبدو سويعات الوقوف وكأنها دورة تربوية روحية
مركَّزة قدَّرها ـ سبحانه وتعالى ـ لمعالجة بعض جوانب تلك الحالة الاعتلالية التي تحدثنا
عنها في (ظاهرة التآكل الروحي)؛ حيث تتسرب إلى بعض النفوس.
وتدبر كيف أن المربي العظيم صلى الله عليه وسلم قد عمم الترغيب في آثار الحج الروحية
عموماً، ثم خصص أهمية يوم عرفة، من ذلك: "من حج هذا البيت؛ فلم يرفث، ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه"(4)، "العمرة إلى العمرة كفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له
جزاء إلا الجنة"(5)، "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة،
وإنه ليدنو ـ عز وجل ـ ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟"(6).
د - في هذا اليوم، وفي أثناء فرحة الحجيج بموقفهم، وبمؤتمرهم الجليل، وبينما هذا
الجمع الطيب مشغول في دورته الروحية كان من الفقه العميق أن يُعرِّج الحبيب صلى الله
عليه وسلم إلى التحذير من العدو المبين ذلك الذي يتأذَّى حسداً وحقداً من مجرد سجود(1/21)
المؤمن وطاعته لربه، فما بالك بهذا الموقف العظيم؟!
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما رُئِيَ الشيطان
يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر ـ أي أذل وأهون ـ ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا
لما رأى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوُزِ الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري من يوم بدر. قيل:
وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يَزَع ـ أي يقود ـ الملائكة"(7).
وهو العدو الذي لا ينام، ولا يغفل عن الدس والوسوسة. قال رجل للحسن: يا أبا سعيد!
أينام الشيطان؟! فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا(8).
وهذه اللمحة النبوية العظيمة تذكرنا بباب عظيم من الفقه ألا وهو علم الشر، وسبل الوقاية
منه، وهو الباب الذي لا يغني عنه ولا ينفي أهميته أن نفقه علم الخير، وسبل الوصول
إليه.
مع السائرين!
تنمية الجوانب الأخلاقية: بعد غروب شمس يوم عرفة تبدأ الإفاضة، فينطلق الحاج إلى
مزدلفة بهدوء وسكينة، مهللاً ومكبراً وملبياً، ثم يُصلي المغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان
واحد وإقامتين. ثم يوتر ويبيت بمزدلفة. فإذا تبين الفجر صلى مبكراً، ثم قصد المشعر
الحرام فوحَّد الله وكبَّر واستقبل القبلة، ثم دعا بما أحب حتى يُسفر جداً، أو يدعو في
مكانه إن لم يتيسر له. ثم يلتقط حصيات من مزدلفة ليرمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك
يتجه إلى منى. وإذا وصل إلى وادي محسر ـ وهو بين مزدلفة ومنى ـ استحب له الإسراع.
وعندما نتأمل هذه المسيرة من خلال بُعدها التربوي وما ترمز إليه نستشعر بعض الوقفات
واللمحات التربوية التي تدور حول بعض الأخلاقيات المنشودة للسائرين على درب
المشروع الحضاري:
أ - كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصي بالسكينة والهدوء فيقول: "أيها الناس!
عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع ـ أي بالإسراع ـ"(9) وكان صلى الله عليه(1/22)
وسلم يسير العَنَق ـ أي سيراً رفيقاً ـ فإذا وجد فجوة ـ أي مكاناً متسعاً غير مزدحم ـ نَصَّ ـ
أي أسرع ـ "(10).
والأمر بالسكينة وصية يُستشعر منها معانٍ عظيمة منها: الهدوء، والنظام، والطاعة،
ومراعاة حقوق الآخر، ومراعاة جلال الموقف؛ وذلك من خلال سمات المنهج الذي يربي
أتباعه على النظام والطاعة، وعدم التخلق بأخلاقيات الغوغائيين التي تبرز دوماً مع أي
تجمعات كبيرة.
ب - كان من هديه صلى الله عليه وسلم أثناء الإفاضة أن يستمر الذِّكر والتهليل والتكبير
والتلبية والاستغفار حتى تُرمى جمرة العقبة.
وكذلك كانت توجيهات الحق ـ سبحانه ـ: (( فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ واذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً )). [البقرة: 198 - 200].
وهذا الهدي وتلك التوجيهات توحي بأهمية المتابعة والاستمرار على الحالة الروحية
الرفيعة المكتسبة من الدورة الروحية العظيمة أثناء الوقوف بعرفات، وكذلك نستشعر معها
أهمية المحافظة على المكتسبات الربانية، والثمرة الروحية للحج؛ فلا تذهب مع مشقة
المسير. كما نستشعر مدى عمق التحذير الإلهي من خطر العودة إلى الضلال السابق؛ فالموفق
من تذكَّر ماضيه وقارنه بالحالة الربانية التي هو فيها، فشكر الله ـ عز وجل ـ ظاهراً
بالمتابعة والاستمرارية، وباطناً بالخوف من خطر النكوص والارتكاس، والانتكاس.
ونسأل الله ـ سبحانه ـ العفو والعافية، لا نحصي ثناءاً عليه ـ سبحانه ـ، هو كما أثنى
على نفسه.(1/23)
ج - في وصفه ـ سبحانه ـ لحالة الذِّكر المنشودة: ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) [البقرة: 200] نستشعر مدى أهمية تنقية النية وتصفيتها؛ فإذا كانت الغاية هي
الله ـ سبحانه ـ فيجب ألاَّ تختلط بغايات أو رايات أخرى.
كذلك يتبين لنا أهمية وجود العقلية المسلمة المرتبة التي تفقه أولوياتها؛ فمن كان همه رضا
خالقه ـ سبحانه ـ فينبغي ألاَّ تعيقه أي اهتمامات أخرى حتى وإن كان الوالد أو الولد؛
ففي تلك المواقف يصبح الاهتمام بالموروثات القبلية مثل مجد الآباء والأجداد، والفخر
بالأبناء والأموال من قبيل النزول من القمة إلى السفح، ومن الاهتمام والتمحور حول الأفكار
والمبادئ إلى التفاخر بالوسائل المادية كالأرض والطين. والحق ـ سبحانه ـ يحب معالي
الأمور.
د - ثم يبين الحق ـ سبحانه ـ خلقاً آخر يوصي به السائرين:((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) [البقرة: 199]. هذا وإن كانت هذه وصيته ـ سبحانه ـ بأن تلتزم قريش بالوقوف مع الناس، وعدم التمايز المكاني؛ فقد كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ـ وكانوا يُسَمَّوْن: الحُمْس ـ وسائر العرب يقفون بعرفات؛ فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها؛ ثم يفيض منها؛ فذلك قوله: ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ))"(11).
ولكننا نستشعر هنا المعنى التربوي البعيد للنص؛ حيث يدعو السائرين في كل درب وفي كل
مجال إلى التخلق بخلق المساواة والعدل والتسوية بين الأفراد وعدم التمايز الذي من شأنه
أن يمنع تولد الحقد والبغضاء والحسد داخل أي تجمع؛ فما بالك بالسائرين على درب
المشروع الحضاري؟!
ولقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يتتبع هذا الخلق في كل مجال.
وتدبَّرْ هذا السلوك النبوي التربوي الرفيع؛ فعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ(1/24)
"أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. فرجع أبي
فردَّ الصدقة". وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشير! ألك ولد
سوى هذا؟ قال: نعم. قال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشهدني إذاً؛
فإني لا أشهد على جَوْر. ثم قال: أيسرُّك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى! قال:
فلا إذاً"(12).
وكذلك كان شعور كل فرد من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ، وكأنه هو المقرب والمفضل
عنده صلى الله عليه وسلم.
ويستشعر الداعية أيضاً كيف أن بعضاً من داخل أي مؤسسة ـ خاصة المؤسسات الدعوية ـ
قد يصيبه حالة اعتلالية يرى فيها نفسه فوق الآخرين، فينظر إلى موقعه التنظيمي ويقيِّم
الآخرين على أساس تقدمه عليهم، ولا يفيض في الحركة الدعوية من حيث أفاض الناس،
وهي (ظاهرة الغرور التنظيمي)، ولو تدبر قليلاً لوجد الرد الإلهي واضحاً في سورة عبس؛
وهي السورة التي وضعت أساسات وموازين تقييم الناس.
هـ - وفي قوله ـ سبحانه ـ: ((فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . ومِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ)) [البقرة: 200 - 202].
(إن هناك فريقين: فريقاً همه الدنيا، فهو حريص عليها مشغول بها، ويذكرها حتى حين
يتوجه إلى الله بالدعاء؛ لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه(1/25)
عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا ـ إذا قدر العطاء ـ ولا نصيب لهم في الآخرة
على الإطلاق. وفريقاً أفسح أفقاً وأكبر نفساً؛ لأنه موصول بالله يريد الحسنة في الدنيا
ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة؛ فهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين، ولا يحددون
نوع الحسنة، بل يَدَعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم
راضون. وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم؛ فالله سريع الحساب)(13).
ونحن ندور مع البعد التربوي البعيد للنص، وهو التركيز على علاج (ظاهرة القصور
الفكري) التي تصيب بعضاً من اللحظيين ذوي النظرة المحدودة التقدير القاصرة القريبة من
حواسهم ضيقي الأفق؛ فلا يدركون الأبعاد البعيدة للقضايا والأمور.
وعلاجها يتم بضرورة تشجيع ذوي النظرة المستقبلية للأمور البعيدة التقدير، والاستشرافية
للقضايا.
وكم من مكاسب عظيمة أضاعها المحدوديون! ولم يكن لهم نصيب في فقه سراقه بن مالك ـ
رضي الله عنه ـ عندما تناقش مع الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء مطاردته له في الهجرة، ونظر إلى المكاسب العظيمة البعيدة التي تفوق جائزة قريش، فكسب نعمة الإسلام، والنجاة في الآخرة، وفوق هذا حصل على الوعد بسواري كسرى بعد سنوات أثناء
حكم الفاروق ـ رضوان الله عليه ـ.
عوائق.. وتضحيات:
أهمية معرفة عوائق الطريق: ثم نأتي إلى اليوم العظيم، يوم النحر؛ يوم العيد؛ حيث
ينطلق الحاج قبل طلوع الشمس إلى منى ملبياً وعليه السكينة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع
حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عندها، ثم يذبح الهدي، ثم
يحلق أو يقصر. وبذلك يتحلل التحلل الأول، فيلبس الثوب ويتطيب، ويحل له جميع
محظورات الإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة بدون رَمَل. ثم يصلي
ركعتي الطواف، ويسعى المتمتع والقارن أو المفرد الذي لم يسع. وبذلك يتحلل التحلل(1/26)
الكامل. ويشرب من زمزم، ويصلي الظهر ـ إن أمكن ـ، ويكبر، ثم يذهب للمبيت في منى
باقي الليالي.
وحول الأبعاد التربوية لأعمال يوم النحر نقتطف بعض هذه الملامح التي ترمز إلى معرفة
السائر لعوائق الطريق، وتصميمه على الانتصار عليها:
أ - عندما يبتدأ الحاج بالرمي فإنما هو من باب دخول البيوت من أبوابها؛ حيث إن
الرمي هو تحية منى.
وكذلك هو من باب البداية بالأصل الكبير في كل قضية؛ فبعد سفر طويل وتعبئة كبرى،
وشحن داخلي يتجه الحاج إلى العدو الأول، ذلك الذي حذره منه الحبيب صلى الله عليه
وسلم فعرَّفه عليه ليتجنبه؛ كيف لا وهو عينه ذلك العدو الذي لم يَرُقْهُ جلال سويعات
الوقوف بعرفات، وكان في أغيظ مواقفه؟!
وعندما يرمي الحاج سبعاً من الحصيات فإنه يبدو كأنه تصميم على جدية المواجهة ضد
شبهات الشيطان وشهواته.
وفي دعاء الحاج ربه عقيب الرمي يتبين أهمية سلاح الدعاء في كل موقف، وكذلك يتبين
معنى فقر العبد دوماً إليه ـ سبحانه ـ؛ فبعونه ـ عز وجل ـ تأتي القوة والمنعة والنصر في
معركته ضد عدو الله وعدوه.
وبتدبر البعد التربوي الشامل للرمي نستشعر أن أصل كل معركة أن تعرف من هو العدو
الحقيقي، فتواجهه.
فمن العوائق الرئيسة عدم معرفة العدو، وعدم معرفة أسلحته، ونقط ضعفه، ومعرفة كيفية
التغلب عليه.
ب - وفي النحر دلالات عظيمة للسائر: فهو يرمز إلى أن السائر الذي يعرف طريقه،
ويعرف هدفه، ويعرف أيضاً عدوه، وأن عليه ألاَّ تعيقه أي تضحيات في سبيل تحقيق ما
خطط له.
يتأمل الداعية ذلك وهو يتذكر رواده على الطريق، يتذكر الخليل ـ عليه السلام ـ وكيف
أنه ضحى بولده الوحيد الحبيب ـ عليه السلام ـ وذلك في سبيل رضاه ـ سبحانه ـ وامتثال
أمره.
والله ـ عز وجل ـ لا يريد العنت بعباده، وإنما يريد لهم تجربة واقعية تثبت وتبرهن أن
العبد قد رتب أولوياته جيداً، وعندما يثبت ذلك للعبد نفسه وليس للحق ـ سبحانه ـ(1/27)
الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عند ذلك فقط يكون النجاح في الاختبار.
كيف لا والحق ـ سبحانه ـ قد أخبر أن إبراهيم وولده ـ عليهما السلام ـ قد نجحا بالرغم
من عدم ذبح إسماعيل ـ عليه السلام ـ؟ فالقضية لم تك هي الذبح، بل هو مجرد اختبار
واقعي لجدية الاستعداد للتضحية: ((ونَادَيْنَاهُ أَن يَا إبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ)).[ الصافات: 104، 105].
والموفق هو من يعرف عوائق طريقه، فيتغلب عليها مضحياً في سبيل هدفه الأسمى، وهذا
هو الفيصل والفارق: ((ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ)). [البقرة: 165].
فرحم الله من أرى أعداء الله منه قوة، ورحم الله من أظهر لربه منه جدية وبذلاً وحباً
وتضحية، وترتيباً صحيحاً لأولوياته.
ج - وفي ذهاب الحاج إلى مكة لطواف الإفاضة أبعاد تربوية عظيمة منها أنه تأكيد على
أن السائر لم يزل على عهده، ولم تزل القضية المحورية التي يدور حولها وبها ومعها هي
شغله الشاغل.
ومنها أيضاً أنه فوق كونه تجديداً للعهد، فهو تجديد للزاد الذي من شأنه أن يقويه على
أي عقبة في الطريق.
ومنها أهمية تذكير الأمة بضرورة توحيد الغاية والهدف والهموم لتكون أشبه بمحور
تطوف كل فئات الأمة حوله حتى تتجمع القوى حول الأهداف العظام، ولا تتفرق.
فمن عوائق الطريق التشرذم تحت رايات متعددة، والتمحور حول أفكار غير موحدة؛ لأن
من أهم ركائز المشروع الحضاري الإسلامي هو الحركة الجماعية المنظمة والمتوافقة.
د - وعندما ينهي الحاج أعمال يوم النحر بالحلق أو التقصير، وهو من باب استعداد
الحاج لأعمال منى، التي ستكون أشبه باللجان المصغرة التي تعقد ورش عمل لمتابعة أعمال
المؤتمر السنوي الذي عقد في عرفة.(1/28)
وعندما يقرر صلى الله عليه وسلم صحة كلٍ من الحلق والتقصير، ثم يرتب الحلق ويفضله
على التقصير فإنما هو من باب يسر المنهج ومرونته، وكذلك له مغزى تربوي آخر وهو من
ركائز المشروع الحضاري ألا وهو قبول الآخر، أو بمعنى أشمل هو من باب التعددية
الفكرية والمذهبية؛ وذلك كما بينا ذلك عند الحديث عن أهمية إعادة صياغة العقلية
المسلمة على أصول منها: قضية تعدد الصواب.
فمن عوائق الطريق وجود بعض من ذوي الاعتلالات التربوية والحركية بل والفكرية،
فلا يرى إلا رأيه، ولا يستمع للآخر، بل يبلغ به الأمر إلى أن يسفه رأي الآخر، ويتمادى
به الاعتلال حتى يسفه الآخر نفسه.
وقديماً من وراء السنين أنصفنا المربون عندما حملوا لنا نصيحة الشافعي ـ رحمه الله ـ
عندما وضع قاعدة ذهبية من قواعد حرية الفكر: "رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي
الآخر خطأ يحتمل الصواب".
بل إن الحق ـ سبحانه ـ ذم رائد هؤلاء (الدكتاتوريين) عندما وضع قاعة بغيضة من قواعد
كبت الفكر: ((قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)) [ غافر:29].
مع لجان منى!:
أهمية بث روح المؤسسية: بعد ذلك تبدأ أيام منى أو أيام التشريق. وأعمالها تتلخص في
رمي الجمرات الثلاث، والمبيت بمنى، وهي أيام قال عنها المعلم العظيم صلى الله عليه
وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله"(14).
وحول أيام منى والأعمال الخاصة بها نقتطف بعض الملامح التربوية؛ وذلك من باب هذه
الدراسة وقيمتها وما ترمز إليه:
أ - حول لزوم المبيت للحاج بمنى، وأن يبقى أكثر الليل في أوله أو آخره. وكأن من فقه
المتابعة أن يشارك الحاج في حضور اجتماعات منى المصغرة والتي هي أشبه بفرق العمل أو
اللجان المنبثقة عن مؤتمر عرفات السنوي الكبير، وذلك لمدارسة التوصيات.
وهذا يبين لنا أهمية المتابعة لكل أمر.
ب - ومن أعمال منى رمي الجمرات الثلاث، كل واحدة بسبع من الحصيات، ووقت(1/29)
الرمي مسألة خلافية، ولكن المختار أن يبتدئ من الزوال إلى الغروب.
والبعد التربوي للرمي هو أنه يبدو كأنه تأكيد على أن المجتمعين عليهم ألا يغفلوا عن
العدو المتربص بهم، ومحاربته وصد ما يلقيه من شبهات وشهوات سواء للنفس أو الزوج أو
الولد، وألا يغفلوا أيضاً عن العدو الخارجي.
ورمي كل جمرة بسبع من الحصيات هو أيضاً من باب التصميم والجدية في المعركة.
وفي اختلاف وقت الرمي؛ حيث يبدو الحجيج بين ذاكر لله ورام ودارس وطائف وآكل
وشارب، وفي الوقت نفسه يبدو حالهم كأنه من باب تكامل الجهود وتنوع الأعمال وتوافق
الوظائف، وكأنهم في حركة جماعية مؤسسية تقوم على لجان متوافقة متناسقة ومتكاملة
ومتعاضدة. وهو من باب أهمية المؤسسية في الحركة الجماعية الهادفة إلى تحقيق المشاريع
الحضارية. وهو أيضاً من باب الاعتراف والتقرير بل والتقدير لكل عمل سواء قل أو عظم،
ما دام يتوافق مع الحركة المؤسسية.
ج - كان القائد صلى الله عليه وسلم في هذه الحركة الجماعية أيام منى مثالاً للقيادة
الواعية؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في
الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: "لا حرج"(15).
وأهم سمة قيادية في مثل هذه المواقف ينبغي أن تتمثل في المرونة واليسر.
وهاتان السمتان ـ سواء المرونة القيادية، أو التخلق بخلق التيسير ـ إنما تنبثقان وتنبعان من
القاعدة الربانية الكبرى للمنهج الإسلامي: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ))
[البقرة: 185].
وهذه السمة القيادية تبدو بارزة عند القادة الربانيين في كل المواقف.
ولعلنا نذكر ذلك القائد الرباني طالوت الذي كان يتمتع بهذه المرونة القيادية، فكان
رحيماً في تجربته الجهاديةالتغييرية؛ عندما قال لأتباعه: ((إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ))
[البقرة: 249].(1/30)
والموفق من يكون متوازناً بين الحزم والمرونة، وبين الشدة والتيسير بشرط أن لا يخل ذلك
بروح الانضباط؛ فيحافظ على شعرة معاوية.
د - ومن السنة الصلاة في مسجد الخيف أيام التشريق؛ حيث ورد أنه صلى في هذا
المسجد سبعون نبياً. وهو من باب استشعار عمق جذور الحركة الدعوية، وأصالتها في عمق
التاريخ؛ فالمشروع الحضاري ليس بدعاً؛ بل هو بعث لروح الأمة وتجديد لدينها، أو
بالمعنى الأبسط: هو مجرد إزالة للركام المركب الذي طمس معالم المنهج سواء من جانب
ضياع المفاهيم، أو من جانب سوء طريقة عرضه ومعاصرة طرحه.
أو بمعنى آخر: هو جولة حضارية تغييرية جديدة تقوم على مرتكز عظيم وهو رصيد
التجربة.
هـ - ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أن أيام منى أكل وشرب وذكر لله.
وهذا يشعرنا بأهمية تنمية الجانب الروحي، ومتابعة ذلك عند السائرين على درب
المشروع الحضاري، حتى في سويعات الراحة المباحة من الأكل والشرب.
وداعٌ .. وأمل:
أهمية الحركة وبث روح الأمل: ثم نأتي إلى نهاية رحلة الحج المباركة التي تنتهي
بذهاب الحاج إلى مكة لطواف الوداع، وذلك قبل غروب شمس يوم الثاني عشر للمتعجل،
أو يوم الثالث عشر للمتأخر، ثم بعد ذلك يعود إلى بلده مباشرة.
وحول بعض الملامح التربوية للنهاية الجليلة لتلك الرحلة العظيمة نقتطف بعض هذه
القطوف التربوية.
لما كان الهدف هو حضور المؤتمر السنوي العام بعرفات، ومعرفة العدو الواحد، ثم حضور
لجان منى وفرق العمل المنبثقة عن المؤتمر العام، واستشعار روح المؤسسية، وفوق ذلك كله
التزود بزاد التقوى: ((وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [البقرة: 197]، وبلوغ درجات
رفيعة من التربية الروحية ـ كان الأصل أن يعود المؤتمرون إلى بلادهم للقاء من يمثلونهم من
الأمة ومتابعتهم.
يعودون إلى حيث ينشرون فكرتهم في أرجاء المعمورة، وكأن الانتشار بالفكرة هو الهدف
المطلوب، أو أن الحركة بالفكرة هي قضية الساعة الآن.(1/31)
وكذلك يدل على عالمية الرسالة؛ فهي مشروع لا يعرف حدوداً من جنس أو أرض.
ولكن قبل العودة كان لا بد من مِسك الختام فيِ الطوافِ الأخير طوافِ الوداع.
وتدبر مغزى كلمة وداع وأثرها على النفس.
وتدبر كيف كان الختام وكأنه تأكيد عملي أخير يركز على ضرورة فقه الهدف الواحد
والهم الواحد الذي تطوف حوله جموع السائرين، والذي ستحمله القلوب إلى بلادها، تلك
القلوب التي هوت شوقاً إلى هذا المكان، فأتت من كل فج عميق.
ولكن هذه القلوب لم يمنعها هذا الرباط الروحي ولن يمنعها من أن تعود فتنشر فكرتها،
وتدعو إلى مشروعها الذي تحقق على أرض فأصبح له مرتكز ومركز إشعاع ثابت وقاعدة
صلبة توضع عليها راية التجميع ليؤوبوا إليها كل حين، ثم يعودون للانتشار من جديد.
فحركة التاريخ وناموسية التغيير الحضاري من سماتها التبديل والحركة التي لا تعرف
السكون: بين مد وجزر، أو بين امتداد وانحسار.
وكذلك الأفكار؛ فالحركة تمنع نمو جراثيم التأسُّن الفكري في العقليات.
وأيضاً بالنسبة للأمم والجماعات والمؤسسات؛ فإن الحركة أيضاً تهاجم حشرات التعفن
الحضاري عند الأمم.
وإن الحركة في كل تلك المجالات مثلها مثل حركة الكون التي تجري مكوناتها في ديمومة
حركية، لا تهدأ حتى المستقر النهائي الذي يقرر منتهاه ومستقره العزيز العليم:((والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ)) [يس: 38].
والحركة الحضارية من شأنها التداول: ((وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ )) [آل عمران:
140].
وعندما يفقه الدعاة وكل من يشارك في مسيرة الدعوة إلى المشروع الحضاري تلك الإشكالية،
ويدركون مغزى السمة التداولية للحركة الحضارية، ويعون الناموسية التغييرية للتاريخ
فإن ذلك من شأنه أن يمدهم بزاد آخر، زاد ضروري، ألا وهو زاد الأمل.
ذلك الزاد الذي يعطي الدفعة العظيمة للسائرين، ويُضاعف روح البذل.(1/32)
وخير ما ورد عن ذلك الزاد تلك البشارات التي كان يطلقها الحبيب صلى الله عليه وسلم
أثناء أصعب المواقف؛ عندما حوصرت الدعوة وجففت منابعها، وحوصر الداعية، وذلك
أثناء غزوة الأحزاب، وكان هناك من يسجل لنا هذا الموقف الاستشرافي العظيم للقيادة
الربانية الواعية؛ كان هناك البراء ـ رضي الله عنه ـ فقال: "لما كان يوم الخندق عرضت
لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول، فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر
أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع
آخر، فقال: الله أكبر أُعطِيتُ فارس، واللهِ إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب
الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر. فقال: الله أكبر أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله
إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني"(16).
ومرت الأحداث، وتعاقبت الأيام، وتداولت الحركة الحضارية، واسْتَعْلت الدعوة على
الحصار الشيطاني، ومكَّن الله لها في الأرض، وتحقق ما بشر به القائد العظيم صلى الله
عليه وسلم.
وبعد: فهذه لمحات متواضعة حول الأبعاد التربوية لتلك الرحلة المباركة وما تمثله من
ركائز للمشروع الحضاري الإسلامي؛ وهي محاولة نرجو من الله بها القبول؛ فمنه وحده ـ
سبحانه ـ التوفيق؛ وإن كان بها من الزلات فهي مني ومن الشيطان.
الهوامش:
(1) رسالة المرأة في المجتمع المسلم، 5/ 29 بتصرف.
(2) رواه أحمد، ح/ 58220.
(3) المقدمة: ابن خلدون بتصرف.
(4) رواه البخاري، 2/ 164، ومسلم، 4/ 107.
(5) رواه مسلم، 4/ 107.
(6) رواه مسلم، ح/ 2402.
(7) رواه مالك، ح/ 840.
(8) إحياء علوم الدين: الغزالي، 3/ 147.
(9) رواه البخاري،ح/ 1559.
(10) رواه البخاري، ح/ 1555.
(11) رواه البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، ح/ 4158.
(12) رواه مسلم، ح/ 3509.
(13) في ظلال القرآن: سيد قطب، 2/ 201 بتصرف.(1/33)
(14) رواه مسلم، ح/ 1926.
(15) رواه البخاري، ح/ 1619.
(16) رواه أحمد، ح/ 17946، والنسائي، ح/ 3125..
---
العدد (147) ذو القعدة 1420- مارس 2000
العدد (148) ذو الحجة 1420- أبريل 2000(1/34)