بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات القرآنية الواردة في المستهزئين بالإسلام ودعاته – دراسة موضوعية
The Qoranic Verses dealing with the Mocker’s Who Scorn Islam and It’s Propagandists : A Thematical Study
كتبه
سامي وديع عبد الفتاح القدومي
samiwadi@maktoob.com
للاطلاع على كتب المؤلف
http://Samiwadi.blogspot.com
حقوق الطبع محفوظة لدار الوضاح
عمان - الأردن
فهرس الموضوعات
الصفحة ... العنوان
1 ... المقدمة
9 ... الفصل الأول: تعريف المستهزئين وبيان أسباب استهزائهم وأساليبهم وكفرهم.
10 ... المبحث الأول : تعريف المستهزئين لغة واصطلاحاُ.
17 ... المبحث الثاني :الألفاظ القرآنية القريبة من معنى الاستهزاء .
25 ... المبحث الثالث : أسباب استهزاء الكفار بالإسلام ودعاته
48 ... المبحث الرابع : أساليب استهزاء الكفار بالإسلام ودعاته
68 ... المبحث الخامس : كفر المستهزئين بالإسلام ودعاته.
76 ... الفصل الثاني : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام وشريعته والرسل -عليهم السلام - والمؤمنين . وبيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة
77 ... المبحث الأول : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام وشريعته .
77 ... تمهيد : وفيه بيان أن الاستهزاء بدين الله مقصد من مقاصد الكفار .
81 ... المطلب الأول : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام .
98 ... المطلب الثاني : استهزاء الكفار بشرائع الإسلام
102 ... المبحث الثاني : استهزاء الكفار بالرسل - عليهم السلام - والمؤمنين.
102 ... المطلب الأول : استهزاء الكفار بالرسل السابقين .
115 ... المطلب الثاني : استهزاء الكفار بمحمد - صلى الله عليه وسلم -
125 ... المطلب الثالث : استهزاء الكفار بالمؤمنين .
137 ... المبحث الثالث : الرد على المستهزئين
161 ... المبحث الرابع : عاقبة المستهزئين في الدنيا والآخرة
161 ... تمهيد : وفيه بيان استهزاء الكفار بعذاب الله سبحانه وتعالى .
164 ... المطلب الأول : عاقبة المستهزئين في الدنيا .
170 ... المطلب الثاني : عاقبة المستهزئين في الآخرة
182 ... الخاتمة .(1/1)
183 ... قائمة المصادر والمراجع
194 ... ملخص باللغة الإنجليزية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
التمهيد
لقد دأب الكفار على الاستهزاء بدين الله - سبحانه وتعالى-، فقد استهزأوا بالقرآن الكريم ، و بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبشرائع الإسلام ، و ما كل هذا الاستهزاء إلا للكفر الذي عشش في قلوبهم ، و تربع على عرش أهوائهم ، وتملك عقولهم ، فغدوا ساخرين مما لا يسخر منه ، فاستهزأوا بالأنبياء و المرسلين، كنوح و هود و شعيب و لوط و موسى عليهم السلام، و كذلك فقد استهزأوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم– و بما جاء به .
و لم يكتف الكفار المستهزئون من الاستهزاء بالأنبياء و شرائع الإسلام و عقيدته ، بل استهزأوا بالمؤمنين ، استهزأوا بصفاتهم و أفعالهم و أفكارهم و سمتهم الحسن و قولهم الطيب ، و ما تزال هذه الجادة المعوجة،هي جادة الكفار التي يسيرون عليها ، و ينتهجون نهجها ؛في صحفهم و إذاعتهم و لقاءاتهم ... .
فعرفنا الله –سبحانه وتعالى- أعداءنا المستهزئين ؛ أساليبهم و منهجهم ، و علمنا -الله سبحانه وتعالى- كيف نواجههم .
فعلينا –نحن المسلمين- ألا نقتات السَّوف. و علينا أن نأخذ بهدي قرآننا ، فنعرف أن المستهزئين كفار خارجون من الملة ، فلا نواليهم ، و لا نقف جانبا ننظر إليهم ، و لكن علينا أن نتبرأ منهم ، و أن نعاديهم .
و هذا البحث يوضح حقيقة المستهزئين ، و أسباب استهزائهم ، و أساليبهم و كفرهم ، و كذلك المجالات التي اتخذها المستهزئون ميداناً لاستهزائهم ،ويخبرنا بكيفية رد الرسل –عليهم السلام- والمؤمنين عليهم ، و في نهاية الأمر يذكر عاقبتهم في الدنيا و عاقبتهم في الآخرة .
أسباب اختيار الموضوع
لما ذكر -آنفا- من أن شأن الكفار هو الاستهزاء بالإسلام و دعاته ، فقد اختار الباحث الكتابة في هذا الموضوع . و هناك أسباب أخرى :(1/2)
السبب الأول : لقد اهتم القرآن الكريم في عرض وقائع استهزاء المستهزئين ، وبيان أحوالهم ، وما ذلك إلا لحاجة المؤمنين لعرض هذا الموضوع . وبناءً على ذلك فقد اختار الباحث هذا الموضوع ليخدم رسالة القرآن في بيانه .
السبب الثاني : لما كان الكفار قد دأبوا على الاستهزاء بالأنبياء و الدعاة فقد أراد الباحث بيان هذا الجانب تسلية لقلوب الدعاة المؤمنين ؛ لما يتعرضون له من الاستهزاء في كافة المستويات و الأندية ، و حتى ينظر الدعاة في قصص الأنبياء و أتباعهم . و في هذا تثبيت لقلوب الدعاة ، و دفع لهم لخوض حياتهم الدعوية بثقة و ثبات غير ناظرين إلى أقوال المستهزئين بعين الاعتداد . و حتى تساعدهم في غذِّ خطواتهم ؛ حتى لا يقفوا سادرين أمام عقبات لا لعًا إلا التمسك بالقرآن الكريم .
السبب الثالث : إن الله ـ سبحانه وتعالىـ أعد للمستهزئين العذاب في الدنيا و الآخرة . و وصف ـ سبحانه وتعالىـ عذاب المستهزئين في الآخرة؛حتى يكون رادعاً لهم عما هم فيه . ومن هذا الباب أراد الباحث بيان هذه العاقبة ليخدم رسالة القرآن في إنذار المستهزئين.
السبب الرابع : المستهزئون بالإسلام و دعاته كانوا فيما مضى ، و لكنهم ما يزالون بيننا ؛و لأجل هذا لا بد من تعريفهم و تجلية واقعهم ؛ و ما ذلك إلا لتستبين سبيل المجرمين المستهزئين .
هذا . و الله الموفق .
حدود البحث
لقد درس الباحث الآيات القرآنية الكريمة الواردة في المستهزئين بالإسلام ودعاته بطريقة موضوعية ، محاولاً ربط مدلول هذه الآيات بالواقع الذي يعيشه المسلمون في هذه الأيام و هذه الأحوال .
ولم يورد الباحث الآيات التي أوردت طعون الكفار بالأنبياء ضمن هذا البحث ، لأن الطعون الموجهة من الكفار إلى الأنبياء ؛ كرميهم بالجنون و السحر و الكهانة لا تعتبر استهزاء .
و البحث مختص بموضوع الاستهزاء ، و ليس شرطاً في الطعن أن يكون استهزاء .(1/3)
و لم يدخل الباحث أي آية ضمن هذا البحث ، على أساس أنها واردة في بيان الاستهزاء ، إلا أن يكون قد نص المفسرون على أنها واردة في بيان الاستهزاء .
المنهجية
1- سلك الباحث المنهج الاستقرائي في جمع الآيات المرتبطة بالموضوع ،
2- وسلك الباحث المنهجي التحليلي في تفسير الآيات بما يخدم الموضوع .
3- أشار الباحث إلى المكي والمدني من الآيات المذكورة أصالةًً دون ما يأتي منها عرضاً
4- لم يورد الباحث الآيات التي تتكلم عن استهزاء المستهزئين وفق اجتهاده ،وإنما أوردها بعد الوقوف على أقوال المفسرين في ذلك.
5- حاول الباحث ربط مدلول الآيات بالواقع المعاش .
6- أورد الباحث أسباب النزول و لو كانت ضعيفة استئناساً.
7- يعرض الباحث الآية المراد تفسيرها ثم يعزوها إلى سورتها ويذكر رقمها ويفسرها ، وإذا أعيد ذكر الآية خلال تفسيرها لا يعزوها ، مكتفيا بعزوها الأول ، سواء ذكرت مجزأة أو كاملة. وإذا تكرر ذكر الآية في مكان آخر ، وأراد الباحث أن يفسرها من جديد ، فإنه يعزوها إلى سورتها ورقمها من جديد غير مكتف بعزوها الأول ؛ وذلك لبعده .
8- عندما يعزو الباحث إلى ( الجزء ) فإنه يقصد ( المجلد) إلا أن يكون المجلد مجزءاً عدة أجزاء ، فيحمل الجزء على ذلك .
9- إذا كان الحديث من رواية البخاري أو مسلم أو كليهما ، اكتفى الباحث بالعزو إليهما دون غيرهما .
10- يحكم الباحث على الحديث المرفوع صحة وضعفا، وقد يكتفي بنقل قول محدث للحكم على الحديث.
11- لم يتعرض الباحث إلى القراءات القرآنية في الآيات إلا ما كان منها مؤثراً في صلب الموضوع فقط ؛ أي ما كانت القراءة فيه فيصلا في إيراده كشاهد في موضوع الاستهزاء مثل ( سُخريا) بالضم و ( سِخريا) بالكسر.
أدبيات الدراسة
لقد بحث موضوع المستهزئين بالدين في كتب الفقه في كتاب الردة ، وفي كتب العقيدة في الأمور المكفرة المخرجة من الملة .
غير أن هناك ثلاثة كتب قريبة من عنوان هذه الرسالة وهي :(1/4)
1- أسلوب السخرية في القرآن الكريم ، دون ذكر الطبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1987م.
2- التصوير الساخر في القرآن الكريم ، دون ذكر الطبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1992م.
وهذان الكتابان تأليف الدكتور عبد الحليم حفني . وهما كتابان يبحثان في سخرية القرآن من الكافرين ، وهذا الموضوع هو خلاف هذه الرسالة فهي تبحث في موضوع المستهزئين بالإسلام ودعاته .
وهذان الكتابان ـ أيضاً ـ ليسا من التفسير الموضوعي .
3- الاستهزاء بالدين وأهله ، الطبعة الثانية ، مكتبة السنة ، القاهرة ، 1416هـ للدكتور محمد سعيد القحطاني.
وهذا الكتاب ليس تفسيرا موضوعيا ، وكذلك فإنه موجز فيما عرضه من المباحث .
ولقد نظر الباحث إلى فهارس الرسائل العلمية المتوفرة ، وسأل أهل الشأن في ذلك ؛ فتبين أن أحداً لم يكتب في هذا الموضوع بهذه الطريقة الموضوعية في التفسير .
صيغ مادة (هزأ) في القرآن الكريم
وردت صيغ مادة ( هزأ ) في القرآن ( 34) مرة : كما يلي:
1-صيغة المضارعة : 17 مرة : كما يلي :
? تستهزئون: مرة واحدة.
? يستهزئون: 14 مرة.
? يُستهزأ : مرة واحدة.
? يستهزئ: مرة واحدة.
2- الفعل الماضي: 3 مرات : كما يلي :
? استهزئ : 3 مرات .
3- فعل الأمر : مرة واحدة : كما يلي :
? استهزئوا : مرة واحدة
4- اسم الفاعل: مرتين : كما يلي :
? مستهزئون : مرتين .
5- المصدر 11 مرة : كما يلي :
? هزواً : 11 مرة .
الفصل الأول : تعريف المستهزئين وبيان أسباب استهزائهم وأساليبهم وكفرهم
المبحث الأول :
تعريف المستهزئين لغة و اصطلاحاً.
تعريف المستهزئ لغة :
وقبل البدء بتعريف المستهزئين لابد من تعريف الاستهزاء .
ويقف الباحث عند النظر في المعاجم اللغوية على عدة معان ٍ لمادة ( هزأ ) . ومن هذه المعاني :
أولا : السخرية.(1/5)
يقول إسماعيل بن عباد : " الهُزْء : السخرية" (1) ، ويقول بن سيْدَه : " استهزأ : سخر " (2)
ثانيا : الكسر
يقول ابن سيْدَه :" وهزأ الشيء يهزئه : كسره . قال يصف درعا
لها عكن ترد النبل (3) خنسا (4) ... ... وتهزأ بالمعابل (5) والقطاع (6)
__________
(1) ) إسماعيل بن عباد الصاحب ( ت 385 هـ / 995 م ) ، المحيط في اللغة ، تحقيق محمد حسن آل ياسين ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، عالم الكتب ، بيروت ، 1994 م ، ص 37.
(2) ) علي بن إسماعيل بن سيْدَه ( ت 458 هـ / 1066 م ) ، المحكم والمحيط الأعظم ، تحقيق د .عبد الحميد هنداوي ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000 م ، ص 350 .
وانظر أحمد بن فارس ( ت 395 هـ / 1005 م ) ، مجمل اللغة ، تحقيق زهير عبد المحسن ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1984م ،ص 904 .
وانظر محمد بن مكرم بن منظور ( ت 711 هـ / 1311 م ) ، لسان العرب ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة ، دار صادر ، بيروت ، دون ذكر التاريخ ، ص 183 .
وانظر أحمد بن محمد الفيومي ( ت 770 هـ / 1369 م ) ، المصباح المنير ، الجزء 2 ، دون ذكر الطبعة ، المطبعة الكبرى الأميرية ، مصر ، 1906 م ، ص 786 .
وانظر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ( ت 817 هـ / 1414 م ) ، القاموس المحيط ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997 م ، ص ص 125-126.
(3) ) النبل : السهام . انظر الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 1399.
(4) )خنس: تأخر ورجع ، انظر المصدر ذاته ، الجزء 1 ، ص 745.
(5) ) معابل :جمع معبلة ، وهي : نصل طويل وعريض ، انظر المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 1359.
(6) ) القطاع: جمع قِطع ، وهو: نصل صغير عريض ، انظر المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 1008 .(1/6)
عكن الدرع : ما تثنى ، والباء في ( بالمعابل ) زائدة ، هذا قول أهل اللغة ، وهو عندي خطأ إنما تهزأ هاهنا من الهزء الذي هو السُخري ،كأن الدرع لما رَدت النبل خنسا جعلت هازئةً بها " (1)
ثالثاً:الانتقام
يقول السمين الحلبي “ويقال :إن الاستهزاء الانتقام ،وأنشد من الطويل
قد استهزئوا مني بألفي مدجج (2) سراتهم (3) وسط الضخاضخ (4) جثم (5) “ (6)
رابعاً:موت الفجأة
قال الزبيدي “وهزأ زيد :مات مكانه ،أي فجأةً كما قيده الزمخشري في الكشاف (7) “ (8)
__________
(1)
)ابن سيْدَه ، المحكم والمحيط الأعظم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص 350.
(2) )مدجج : الفارس المجهز بالسلاح . انظر الفيروز آبادي ، القاموس المحيط .، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 293.
(3) )سراة كل شيء ما ارتفع منه وعلا . انظر المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 1698 .
(4) ) والصواب ( الصحاصح) بالصاد . وهذا ما ورد في القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة’ دار الفكر، دون ذكر مكان النشر ، 1993 م ، ص 200.
والصحاصح : جمع صحصح : الأرض الجرداء المستوية ذات الحصى الصغيرة .
انظر ابن منظور ، لسان العرب ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 508 .
(5) ) جثم : لزم مكانه فلم يبرح . انظر الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 1432.
(6) ) أحمد بن يوسف ( ت 756 هـ/1355م) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ ، تحقيق محمد التونجي ، الجزء الرابع ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1993 م ، ص 290
(7) )انظر محمود بن عمر الزمخشري ( ت 538 هـ/1144م) ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، تحقيق عبد الرزاق مهدي ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997، ص 104
(8) )محمد مرتضي الزبيدي ( ت 1205 هـ / 1790 م) ، تاج العروس من جواهر القاموس ، تحقيق عبد الستار فراج ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة ، مطبعة حكومة الكويت ، الكويت ، 1965م ، ص 510.(1/7)
خامساً:المزح في خفيةٍ ،وقد يقال :لما هو كالمزح
يقول السمين الحلبي" الهزؤ :مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح “ (1)
سادساً:له معان مجازية.
يقول الزمخشري “ومن المجاز :مفازةٌ هازئةٌ بالركب ؛ أي :فيها سراب ( ... ) وغداة هازئةٌ :شديدةُ البرد ،كأنها تهزأُ بالناس حيث يعتريهم الانقباض والرعدة ونحوها “ (2)
سابعاً:التحريك
يقول الفيروز آبادي “كأهزأها،وراحلته حرَّكها “ (3)
ثامناً:الإسراع
يقول الزمخشري “وناقته تهزأ به ؛أي " تسرع وتخف” (4) .
وكلمة (استهزأ) تتعدى بـ (الباء) تتعدى بـ(من)؛فيقال استهزأت به ومنه .قال ابن أبي بكر الرازي "هزئ منه وبه “ (5)
يقول الزمخشري ـ في بيان أصل كلمة الاستهزاء ـ”والاستهزاء :السخرية والاستخفاف ،وأصل الباب الخفة ـ من الهزء وهو القتل السريع ـ وهزأ يهزأ :مات على المكان ( ... )
وناقته تهزأ به ؛أي تسرع وتخف .
فإن قلت :لا يجوز الاستهزاء على الله تعالى ؛ لأنه متعال عن القبيح ،والسخرية من باب
العيب والجهل .ألا ترى إلى قوله : (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) (البقرة /67).
__________
(1) ) الحلبي ، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 289 .
(2)
)محمود بن عمر الزمخشري ( ت 538 هـ / 1144م) أساس البلاغة، الطبعة 1 ، مكتبة لبنان ، لبنان ، 1996م ، ص 105 .
(3) ) الفيروز آبادي ، القاموس المحيط ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 126.
(4) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 104.
(5) ) محمد بن أبي بكر الرازي ( ت 660 هـ/1262م) ، مختار الصحاح ، الطبعة 1 ، دار عمار ، عمان ، 1996م ، ص 339.(1/8)
فما معنى استهزائه بهم ؟ قلت : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم ؛ لأن المستهزئ غرضه الذي يرميه هو :طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به ،وإدخال الهوان والحقارة عليهم ،والاشتقاق – كما ذكرنا- شاهد لذلك” (1)
وبقول الزمخشري يتضح أصل الكلمة ،ألا وهو:طلب الخفة .
والمعاني المذكورة - آنفاً - لا تخرج عن هذا الأصل.
فأما المعنى الأول :وهو :السخرية فمقصدها الاستخفاف ممن يسخر منه .
والمعنى الثاني : وهو الكسر ، فكلام ابن سيْدَه فيه واضح جلي ، وخلاصته أن الهزء في البيت هو من الهزء بمعنى السخرية .
أما المعنى الثالث : وهو الانتقام ، فالاستهزاء – في البيت المذكور كشاهد على هذا المعنى لا يخرج عن أصله- : الاستخفاف -، لأن معنى البيت يوضح ذلك . ومعنى البيت هو : ولقد بعث إلى الشاعر بألفي فارس مجهز بالسلاح ، وقد لزم سادتهم أرضاً جرداء مستوية . وهؤلاء الفوارس كانوا سبباً في وقوع الاستخفاف بالشاعر ، وذلك عندما يتصور الواحد منا ، ماذا يفعل ألفا مدجج برجل واحد ؟ إن هذا الرجل الذي سيقابله ألفا مدجج سيصبح – ولابد- محل استخفاف ، وسيقع عليه أمر عظيم ، ويكون الاستخفاف واقع به ، وهذا أمر معلوم بداهة.
أما المعنى الرابع : وهو موت الفجأة ، فلا يخرج عن أصل الهزء : الخفة . وهذا هو الزمخشري يقول "وأصل الباب الخفة ، من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ : مات على المكان " (2) .فموت الفجأة موت سريع يموت فيه الإنسان على مكانه ، وهذا هو الموت الذي يقع في خفة وسرعة.
وأما المعنى الخامس : وهو : المزح في خفية أو ما هو كالمزح ، فإنه لا يخرج عن أصل الكلمة.
__________
(1)
) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 104.
(2) ) المصدر ذاته، الجزء 1 ، ص 104.(1/9)
فالمزح هو : الدعابة والملاطفة والانبساط في القول مع الآخرين على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية ، حتى يخرج الاستهزاء والسخرية ؛ أي : إن الفارق بين المزح والاستهزاء هو أن المزح يكون دون أذية ، أما الاستهزاء فهو بأذية (1)
أما المزح في خفية : فهو مزح غير واضح المعالم ، لا يدري سامعه هل هو ملاطفة أم أذية ؟ وذلك لأنه المستهزئ –أحياناً- قد يلجأ إلى أسلوب المزاح في استهزائه ، لكن هذا المزاح الذي يسلكه المستهزئ خفي لا تتضح معالمه اتضاحاً جلياً . وكذلك ما هو كالمزح.
ومن هذا الباب فالاستهزاء قد يكون مزحاً في خفية أو بصورة كالمزح . وبهذا الفهم لا يخرج المعنى الخامس عن أصل الكلمة .
أما المعنى السادس : وهو : المعاني المجازية؛ فقد أبان الزمخشري وجه الاستهزاء فيها فالصحراء الهازئة هي التي فيها سراب ، فيظن المسافر أنه ماء فتهزأ الصحراء به وتستخف . وغداة هازئة أي؛ باردة ؛فهي تهزأ بالناس عندما يرتعدون من البرد وتستخف بهم . (2)
أما المعنى السابع ، وهو: التحريك ،فإن التحريك يكون عند استخفاف الشيء وكذلك المعنى الثامن ، وهو: الإسراع،فإن الناقة عندما تسرع تستخف بصاحبها الذي على ظهرها .
وبناءً على ما ظهر من معنى الاستهزاء - وهو: الاستخفاف - فيكون المعنى اللغوي للمستهزئين هو :المستخفون .
تعريف المستهزئين اصطلاحاً
__________
(1) ) انظر محمد مرتضى الزبيدي ( ت 1205 هـ / ... 1790م) ، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق عبد السلام هارون ، الجزء 7 ، دون ذكر طبعة ، نشر وزارة الإرشاد والأنباء ، الكويت ، 1970 م ، ص 117
(2) ) انظر الزمخشري ، أساس البلاغة ، مصدر سابق ،ص 501 .(1/10)
لم أجد أحداً من العلماء السابقين عرف المستهزئين بتعريف وقال :إنه تعريف اصطلاحي للمستهزئين .ولكن أبا حامد الغزالي عرف السخرية في كتابه (إحياء علوم الدين ).ولأن السخرية مقاربة لمعنى الاستهزاء مقاربة كبيرة ؛ فسأورد قول أبي حامد الغزالي ؛لعله يكون هادياً لمعنى المستهزئين الاصطلاحي .
يقول الغزالي “ومعنى السخرية :الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء." (1)
“ فالسخرية إذن ؛ أسلوب عدائي مصوغ بروح الفكاهة “ (2) .
ولقد اعتمد الآلوسي تعريف الغزالي للسخرية في تعريف الاستهزاء ؛ قال الآلوسي : " وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء : الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول والإشارة والإيماء " (3)
علماً بأن هذا القول هو قول الغزالي في السخرية ،ولكن الآلوسي جعله في الاستهزاء ؛ لأن السخرية والاستهزاء يؤديان معنى متقارباً .
وبناءً على هذا ؛ فالمستهزئون هم :المستحقرون والمستهينون بغيرهم ، والمنبهون على عيوب الآخرين على وجه يضحك منه ، وقد يكون ذلك بالفعل والقول
وفي هذا التعريف قيد مهم ، وهو: (على وجه يضحك منه )؛ حتى يخرج مجرد الطعن والاستحقار والاستهانة من الاستهزاء .
وفي نهاية الأمر ، فتعريف المستهزئين - أيضاً - بمدلوله العرفي بين الناس ،واضح المعالم ،ولا يخرج عما عُرِفَ به آنفاً.
__________
(1) )محمد بن محمد الغزالي ( ت 505هـ / 1112م) ، إحياء علوم الدين ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الخير ، بيروت ، 1997 م ، ص 277.
(2) ) حفني ، أسلوب السخرية في القرآن الكريم , مرجع سابق ، ص 15 .
(3) ) محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854 م ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، الجزء 1، الطبعة 2 ، إدارة الطباعة المنيرية ، مصر ، دون تاريخ ، ص 146.(1/11)
المبحث الثاني : الألفاظ القرآنية القريبة من معنى الاستهزاء
وهذه الألفاظ القرآنية القريبة من معنى الاستهزاء ، منها ما هو قريب جداً من معنى الاستهزاء ، و منها ما هو أقل قرباً ، ولا يدل على الاستهزاء إلا بقرينة .
وهذه الألفاظ هي :
1- السخرية
2- الضحك
3- الغمز
4- اللعب
5- الخوض
6-اللمز .
وفيما يلي عرض لهذه الألفاظ في ضوء السياق القرآني ، وذلك بأخذ نموذج واحد ورد فيه اللفظ ، ثم يُنظر في اللفظ في ضوء السياق القرآني . و الهدف من هذا العرض هو بناء تصور واضح حول معنى الاستهزاء من خلال آيات القرآن الكريم قبل الدخول في موضوع البحث . وسأقف أمام الآيات وقفة سريعة جداً و أسلط الضوء على اللفظة القرآنية المرادة فقط .
أولاً : السخرية
يقول تعالى :( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (1)
__________
(1) ) سورة هود / 38-39
وهاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص 3 .
وانظر محمد بن أحمد بن جزي (ت 741 هـ ،1341م)، التسهيل لعلوم التنزيل ، تحقيق عبد الله الخالدي ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة ، دار الأرقم بن أبي الأرقم ، لبنان ، دون تاريخ ، ص 365 .(1/12)
لقد أرسل الله -سبحانه وتعالى– نوحاً - عليه السلام- إلى قومه حتى يخلصهم من الكفر الذي وقعوا فيه ، ويدعوهم إلى عباد الله وحده ، ولكن قومه كذبوه ، ورموه بالضلال ، وسخروا منه –وما زال هذا هو ديدن الكفار الذي دأبوا عليه حتى أصبحت قلوبهم يباباً- فأمره الله - سبحانه وتعالى -بصنع السفينة .وعندما بدأ نوح - عليه السلام- بصنع السفينة بدأ الملأ من قومه يسخرون منه . والذي يراد من الوقوف عند معنى هذه الآية – في هذا المقام- هو – فقط – تسليط الضوء على عبارة ( سخروا منه )
يقول الراغب الأصفهاني : " سخرت منه ، واستسخرته للهزء منه ، قال تعالى (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) " (1)
إذن ؛ فمعنى : سخروا منه ، هو : استهزأوا به .
فقوم نوح – عليه السلام – يستهزئون بنوح ؛ لأنه يصنع السفينة وينذرهم بأن الله سيغرق الكافرين . وماذا فعل – نوح عليه السلام – من أمر يسخر منه ؟
ألأن نوحاً – عليه السلام- يعمل بالنجارة كي يصنع السفينة ، والنجارة عمل – في قومه - منقصة في حق- صاحبه ؟ !
أو لأن نوحاً – عليه السلام – يبني سفينة في أرض ليس فيها بحر ولا بحيرة حتى تسير السفينة فوقها ؟ ! (2) أو لأن نوحاً - عليه السلام- أخبر قومه بأنه يبني بيتا يمشي على ظهر الماء ؟ ! (3) أو لأن نوحاً - عليه السلام- أخبر قومه بأنهم مغرقون بالطوفان فكان هذا سبب سخريتهم ؟ !
__________
(1) )حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 402.
(2) )انظر محمد بن علي الشوكاني ( ت 1250 هـ /1834م) ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار ابن كثير ، دمشق ، 1994 م ، ص 564.
(3) ) انظر أحمد بن محمد الخفاجي ( ت 1069 هـ / 1659م) ، عناية القاضي كفاية الراضي ، ضبطه وخرج أحاديثه عبد الرزاق المهدي ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1997 م ، ص 163 .(1/13)
وعلى كل حال : فأن السبب الحقيقي ، والباعث الرئيس على الاستهزاء- عند قوم نوح – هو الكفر.
وبالجهة المقابلة ، فنوح – عليه السلام - يقول لقومه : (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون )
أي : إن تسخروا مني ومن الذين معي لظن أن عملنا غير مثمر ( فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصرا على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب (1)
ثانيا الضحك والغمز .
يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)) (2)
هاتان الآيتان تعرضان صورتين من صور استهزاء الكفار بالمؤمنين ، فأما الصورة الأولى فهي : الضحك من المؤمنين .
وأما الصورة الثانية فهي : الغمز استهزاء بالمؤمنين .
ولابد من الوقوف على الصورتين ، وتسليط الضوء على اللفظين القرآنيين ( الضحك والغمز) فالذين أجرموا يستهزئون من الذين آمنوا ، بل وصل الاستهزاء بهم إلى حد عظيم ؛ حيث ظهر هذا الاستهزاء بصورة الضحك ؛ لأن الاستهزاء – عند الكفار – قد تجاوز الشعور القلبي إلى ضحك يصدر نتيجة الاستهزاء المكنون في صدورهم .
__________
(1) )انظر إبراهيم بن عمر البقاعي ( ت 885 هـ /1480م) نظم الدرر في تناسب الآي والسور ، الجزء 9 ، الطبعة 1 ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، 1975 م ، ص ص 284-285.
(2) )سورة المطففين / 29 – 30
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومدنية في قول الحسن وعكرمة .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 19 ، ص 214.
قال ابن جزي : "هي آخر سورة نزلت بمكة "
ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، الجزء 2، ص 460.(1/14)
فمجرد الضحك لا يدل على الاستهزاء دون قرينة ؛ لأن أسباب الضحك قد تتعدد ، فقد يكون الضحك بسبب فكاهة أدبية ، أو بسبب موقف احتوى على مفارقة تبعث على الضحك ، وقد يكون بسبب استهزاء –كما هو الحال في هذه الآية- بلغ الزبى وتجاوز الحد إلى درجة لم يستطيع القلب أن يحتويه ، فخرج الاستهزاء على شكل ضحك يُسمع صوته ، ويُرى صاحبه فاكهاً .ففي هذه الآية “ استعير الضحك للسخرية “ (1) . إذن ؛ فالضحك لفظ قريب في معناه لمعنى الاستهزاء ، وهذا هو المهم في هذا المقام .
وأما قوله تعالى : (وإذا مروا بهم يتغامزون ) فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون -وهم في مجالسهم- يستهزئون بالمؤمنين عن طريق الغمز . والغمز هو : الإشارة بالجفون و الحواجب (2) .
وللغمز استعمالات متعددة فقد يستخدمه الإنسان كنوع من أنواع التحية ، أوقد يستخدم للتنبيه على أمر ما ، وقد يستخدم –كما هو الحال في هذه الآية- للاستهزاء.ومن هنا ، فإن الغمز قريب في معناه من الاستهزاء ، وإنه يدل على الاستهزاء بقرينة ؛ وذلك لتعدد استخدامه . وهذا هو المطلوب بيانه .
ثالثاً : الخوض و اللعب .
يقول تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)) (3)
__________
(1) )حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ،ص 501.
(2) ) انظر الطاهر أحمد الزاوي ، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة ، الجزء 3 ، الطبعة 3 ، دار الفكر ، دون ذكر مكان الطبعة ، دون ذكر تاريخ النشر ،ص 417 .
وانظر صديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ / 1889 م ) ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين ، الجزء 7 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان 1999م ،ص394 .
(3) ) سورة التوبة / 65
وهذه الآية مدنية
انظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ، ص 3.(1/15)
تعرض هذه الآية من سورة التوبة مشهداً من حادثة وقعت من المنافقين في غزوة تبوك ، هذه الغزوة الشديدة الصعبة ؛ لبعد المسافة ، وحر الجو ، وعظم العدو .
يروي الإمام الطبري بسنده هذه الحادثة ويقول : “حدثني يونس (1) قال : أخبرنا ابن وهب (2)
قال: حدثني هشام بن سعد (3) عن زيد بن أسلم (4)
__________
(1) ) يونس هو : ابن عبد الأعلى بن مَيْسرة بن حفصة الصدفي ، روى عنه مسلم و النسائي و ابن ماجة ، وهو ثقة (ت264هـ ) يروي عنه الطبري كثيراً .
انظر يوسف المزي (ت742 هـ /1342م) ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، تحقيق بشار عواد معروف ،الجزء 8 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1998 م ،ص ص 211-212 .
وانظر أحمد بن علي بن حجر (ت852 هـ /1448م) ، تقريب التهذيب ، بعناية عادل مرشد ، طبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1996 م ،ص 542 .
وانظر محمد صبحي حلاق ، رجال تفسير الطبري جرحاً وتعديلاً من تحقيق ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) لأحمد شاكر ومحمود شاكر ، الطبعة 1 ، دار ابن حزم، لبنان ، 1999 م ،ص 606.
(2) )ابن وهب ، هو : عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفهِري ثقة حافظ عابد له عقل ودين، روى له الجماعة ( ت 197هـ ) انظر يوسف المزي ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص ص 317-320
وانظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 271.
(3) )هشام بن سعد المدني
صدوق له أوهام ، ولكنه أثبت الناس في زيد بن أسلم (ت160 هـ )
انظر يوسف المزي ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص ص 402-403 وانظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ،ص 503 .
(4) ) زيد بن أسلم القرشي العدوي مولى عمر بن الخطاب ثقة عالم بتفسير القرآن ، وكان يرسل . (ت136 هـ )
انظر يوسف المزي ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، مصدر سابق ،ص ص ص 64-66
وانظر ابن حجر، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ،ص 162
وهذا سند حسن للمقال المذكور في هشام بن سعد والله أعلم .(1/16)
عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء !
فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ! لأخبرن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقاً بحقب (1) ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة ، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ! ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) “ (2)
لقد تعلل المنافقون بأن ما فعلوه كان خوضاً ولعباً فرد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم – بأن هذا استهزاء فقال لهم : “أبالله وآياته كنتم تستهزئون “
أي إن هذا الخوض وهذا اللعب هو استهزاء . (3)
فمعنى اللعب يقارب معنى الاستهزاء حيث يقول القرطبي " الهزء : السخرية و اللعب " (4) ؛
__________
(1) ) الحَقَب : الحبل الذي يشد به الرحل في بطن البعير
انظر ابن منظور ، لسان العرب ، مصدر سابق ، الجزء 1 ،ص 324.
(2) ) محمد بن جرير الطبري (ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، تحقيق محمود محمد شاكر ، الجزء 14 ، دون ذكر الطبعة ، دار المعارف ، مصر،دون ذكر تاريخ النشر ،ص ص 333-334.
وقد أخرج ابن جرير في المصدر ذاته عن المفسرين من التابعين حول هذه الحادثة آثاراً مرسلة
انظر المصدر ذاته ، ص ص334-335 .
(3) ) فلم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما اعتذروا به بل أنزلهم منزلة المعترف بوقوع الاستهزاء .
انظر محمد بن محمد العمادي (ت 982 هـ /1574م) ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، وضع حواشيه : عبد اللطيف عبد الرحمن ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،1999 م ، ص 166 ..
(4) )القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء1 ، الطبعة 1 ، مصدر سابق، ص 200(1/17)
وذلك لأنهما لا يفيدان شيئاً ، وإنما هما عبث لا فائدة فيه ، ولا يحملان معنى الجد في طياتهما .
وأما معنى الخوض لغة فهو : المشي في الماء (1)
وهذه الكلمة (الخوض) تشعرنا بمعنى دقيق ؛ ألا وهو : إن الخوض في أصله هو الدخول في الماء الكثير . والماء الكثير ساتر لما تحت القدمين ، فالذي يخوض في الماء لا يرى ما تحت قدميه ، فهو لا يدري إلى أي موقع تقع قدماه ، وربما وقعتا في هوّة ، أو ربما وقعتا على شئ جارح . ولكن الذي يسير على اليابسة ، فالطريق واضحة أمامه ، يضع قدمه حيث يرى أماناً و استقراراً وثباتاً ، ومن هذا الباب أصبح الخوض وصفاً للكلام في الباطل (2) .
إذن ؛ فالخوض كلام في الباطل ، والاستهزاء بالدين كلام في الباطل ، فالأمران كلام في الباطل ، ومن هذا الباب قارب معنى الخوض معنى الاستهزاء .
رابعاً : اللمز .
يقول تعالى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّاً جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3)
وهذه الآية تعرض استهزاء المنافقين بالمؤمنين المتصدقين ، حيث إن الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا يتصدقون في سبيل الله –سبحانه وتعالى-فجاء رجل من الصحابة ، فتصدق بشيء كثير ، فقال المنافقون : هذا مراءٍ ، وجاء رجل آخر فتصدق بصاع . فقال المنافقون : إن الله لغني عن صاع هذا ، فنزلت هذه الآية .
__________
(1) )انظر الزاوي ، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة ، مرجع سابق ، الجزء 2 ،ص 126 .
(2) ) انظر محمد متولي الشعراوي ، تفسير الشعراوي ، الجزء 6 ، دون ذكر الطبعة ، نشر أخبار اليوم ، دون ذكر مكان النشر ، دون ذكر تاريخ الطباعة ،ص 3709.
(3) ) سورة التوبة /79
هذه الآية مدنية . انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ،ص 3 .(1/18)
يروي البخاري عن ابن مسعود قال “لما أُمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه . فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الآية “ (1)
والمراد –هنا- هو الوقوف عند كلمة (اللمز) ، فما هو معنى اللمز ؟ معنى اللمز هو : " الاغتياب وتتبع المعاب " (2) وقيل اللمز هو : تتبع المعاب في الحضور ، وقيل : اللمز هو تعييب الناس باللسان (3) ، وقيل اللمز هو : الطعن في الأنساب (4) .
وعلى كل حال ، فمعنى اللمز هو تعييب الناس ، وهذا التعييب قد يكون استهزاء –كما هو الحال في هذه الآية- وقد يكون طعناً .
ومن هنا ، فإن اللمز هو أعم من الاستهزاء من جهة أن اللمز قد يكون استهزاء وقد يكون طعناً مجرداً . وكذلك فالاستهزاء أعم من اللمز من جهة أن الاستهزاء قد يكون بالقول والفعل و بأساليب متعددة ، فليس كل لمز استهزاء ، وليس كل استهزاء لمزاً ، فبينهما عموم وخصوص من جهة .
المبحث الثالث : أسباب استهزاء الكفار بالإسلام ودعاته .
السبب الأول : الكفر
__________
(1) ) أحمد بن علي بن حجر ( ت852 هـ /1448م) ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، الجزء 2 ، بيت الأفكار الدولية ، توزيع دار ابن حزم ، دون ذكر الطبعة ، دون ذكر التاريخ ،ص 2008 .
و أخرج مسلم عن ابن مسعود نحوه
عياض بن موسى ( ت544 هـ /1150م) ، إكمال المُعلم بفوائد مسلم ، تحقيق يحيي بن إسماعيل ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الوفاء ، مصر ، 1998 م ،ص 542.
(2) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ،ص 747.
(3) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2،ص 512.
(4) ) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 20 ، ص ص163-164.(1/19)
يقول تعالى : (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ(36)) (1)
فكفار قريش كأبي جهل وأشباهه كانوا يستهزئون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأوه ، ويتخذونه هزواً ، ويقولون ( أهذا الذي ذكر آلهتكم ) أي يسبها ويسفه أحلامكم (2) . والاستفهام في قولهم (أهذا) مستعمل للتعجب ، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عجيبة من عجائب الدهر . وكذلك فاسم الإشارة ( هذا ) مستعمل في التحقير وذلك بقرينة الاستهزاء التي دل عليها السياق (3) .
وهم مع هذا الاستهزاء كافرون (بذكر الرحمن ) ؛ أي : بالقرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو كافرون باسم (الرحمن) ؛ حيث قالوا : ما نعرف إلا مسيلمة (4)
والشاهد في هذه الآية ، هو أن الكفر سبب رئيس للاستهزاء . فهم كافرون بالله - سبحانه وتعالى -، وذلك هو السبب في استهزائهم .
يقول الزمخشري : " ( يتخذونك هزؤاُ ) وهم على حال هي أصل الهزء و السخرية وهي الكفر بالله " (5)
السبب الثاني : الرئاسة .
__________
(1)
) سورة الأنبياء / 36
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 177.
(2) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 241.
(3) ) انظر محمد الطاهر بن عاشور ، التحرير و التنوير ، الجزء 16 ، دون ذكر الطبعة ، الدار التونسية ، تونس ، 1984 م ،ص 66.
(4) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 3 ،ص 118.
(5) ) المصدر ذاته ، الجزء 3 ،ص 118.(1/20)
يقول تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39)) (1)
تعرض لنا هذه الآيات الكريمة ، قصة صنع نوح –عليه السلام- السفينة ، وكيف أن قومه استهزأوا به . فلقد مكث نوح -عليه السلام- في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده و عبادته ، ولكن في نهاية الأمر ، أوحى الله -سبحانه وتعالى- إلى نوح -عليه السلام- بأنه لن يؤمن أحد من قومك غير الذين آمنوا معك ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون “ أي لا تحزن حزن بائس مستكين ، ولا تغتم بما كانوا يتعاطونه من التكذيب و الاستهزاء و الإيذاء في هذه المدة الطويلة ، فقد انتهت أفعالهم ، وحان وقت الانتقام منهم “ (2)
ثم يأمر الله - سبحانه وتعالى -نوحاً-عليه السلام- بصنع السفينة ، ويعلمه بأن صنعها بوحي من الله وأمر منه ، و أنها أيضاً بمرأى من الله وعلم . (3)
__________
(1) )سورة هود / 36-39
وهذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 9 ،ص 3.
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ،ص 310 .
(3) ) انظر علي بن محمد (ت725 هـ /1325م) ، لباب التأويل في معاني التنزيل ، اعتنى به عبد السلام شاهين ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1995 م ،ص 300(1/21)
وبعد هذه المقدمة اليسيرة فإن المراد هو : بيان أن الرئاسة سبب من الأسباب التي دفعت الكفار للاستهزاء بالإسلام ودعاته . وعليه مدار الحديث في هذا المقام.
وإذا نظر القارئ المتمعن المتدبر في قوله تعالى : (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) ، فإنه يلاحظ أن الذين يقومون بالاستهزاء والسخرية من نوح - عليه السلام- هم الملأ.
فنوح - عليه السلام- يصنع السفينة ، وكل قوم نوح يمرون به ويرونه ، ويرون صناعاته السفينة ولكن الملأ هم الساخرون – فقط - وليس أحد غيرهم . فلماذا الملأ هم الساخرون – فقط – من نوح - عليه السلام- ؟! وقبل ذلك من هم الملأ ؟
الملأ هم الرؤساء في القوم ، وهم الأشراف الذي يملأون صدور المحافل بإجرامهم ، ويملأون القلوب بجلالهم وهيبتهم ، ويملأون الأبصار بجمالهم وأبهتهم (1)
فلماذا الملأ هم المستهزئون ؟ ولماذا يركز القرآن الكريم على إظهار دور الملأ في مواجهة الأنبياء سواء بالتكذيب أو الاستهزاء ؟
فعلى سبيل المثال لا الحصر :
يقول تعالى – في سياق قصة نوح- عليه السلام- : (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (2)
ويقول تعالى – في سياق عرض قصة هود - عليه السلام -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ) (3)
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 776 .
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص .285
(2) ) سورة الأعراف / 60.
(3) ) سورة الأعراف / 66.(1/22)
ويقول تعالى – في سياق عرض قصة صالح - عليه السلام-: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (1)
ويقول تعالى – في سياق عرض قصة شعيب - عليه السلام- : (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (2)
فالذي يلاحظ عند النظر في هذه الآيات أن الملأ هم من يتولى مواجهة الأنبياء وأتباع الأنبياء .
فلماذا الملأ هم المستهزئون مع أنهم هم الحكام والوجهاء وذوو السلطان ؟ (3)
وذلك ؛ لأن الملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسلهم لهم ، وهم يدعونهم إلى عبادة الله سبحانه و تعالى وحده ، وخلع كل شيء يشوب هذه العبادة الخالصة . كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة و الربوبية الشاملة تعني –أول ما تعني- نزع السلطان المغتصب من أيدي الملأ ،وبعد ذلك رده إلى صاحبه الشرعي وهو شرع الله - سبحانه وتعالى -.
وهذا الأمر هو ما كان يقاوم الملأ في سبيله ، يريدون أن يحافظوا على ما هم فيه من الظلم و الطغيان (4) .
إذن ؛ فالرئاسة و السلطان والملك و السيادة ، هي أشياء تشكل سبباً من أسباب استهزاء الكفار بالإسلام ودعاته .
__________
(1) ) سورة الأعراف / 75.
(2) ) سورة الأعراف / 88
(3) ) انظر لبيان أسباب عداوة الملأ للدعوة . عبد الكريم زيدان ، أصول الدعوة إلى الله ، الطبعة 6 ، مكتبة القدس ، العراق ، 1992 م ، ص ص 380-389 .
(4) ) انظر سيد قطب ( ت1386 هـ / 1966 م ) ، في ظلال القرآن ، الجزء 8 ، الطبعة 25 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1966م ،ص 1306 .(1/23)
فالدين يكبح جماح شهواتهم و رغباتهم ، و يضع لهم حدوداً صارمة ، حتى لا يتكبروا على أحد ، و لا يبغوا على أحد ، و حتى يستسلم الجميع –و الملأ معهم أيضاً- لأوامر الله ، وهذا أمر يرفضه أصحاب الرئاسة ، و أصحاب السيادة .
السبب الثالث : الترف .
و الترف هو : " التوسع في النعمة" (1) ، وهذا التوسع في النعمة ، هو سبب من الأسباب التي تدفع الكفار إلى الاستهزاء بالإسلام و دعاته .
يقول تعالى : (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(41)قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(42)أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (2)
__________
(1) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ،ص 166 .
(2) ) سورة الأنبياء / 41-44
وهذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 11 ،ص 177 .(1/24)
وفي هذه الآيات تسلية للنبي –صلى الله عليه و سلم- بأن الرسل قبله قد استهزئ بهم و لكن العذاب قد حل بالمستهزئين و يقول تعالى له : (قل) ؛ أي : يا محمد لهم (من يكلؤكم) ؛ أي : يحفظكم (من الله) ؛ أي : غير الله سبحانه و تعالى . و لكن الكفار معرضون عن آيات الله سبحانه و تعالى ، ومما يستنكر عليهم كفرهم و استهزاؤهم ، و لكن ألهم آلهة تمنعهم من عذاب الله ؟! والجواب –يقيناً- : لا . فما الذي يجعلهم يكفرون و يستهزئون ؟! (1)
إنه الترف و التنعم في العيش . يقول ابن جزي : "( بل متعنا هؤلاء و آبائهم ) أي متعناهم بالنعم و العافية في الدنيا ، فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله . و ( ... ) لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر و لا حفظ ، بل حملهم على ذلك أنا متعناهم و آبائهم “ (2) فهذا نص واضح جلي يبين أن الترف هو سبب لاستهزاء الكفار بدين الله سبحانه و تعالى و بالرسل الكرم .
فهذا هو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرة الكفار ، وهذا المتاع هو الترف ، و الترف يفسد القلب أيما إفساد ، ويبلد الحس أيما بلاده ، و ينتهي إلى ضعف الحساسية بالله و الخوف منه ، و يطمس البصيرة دون تأمل لآيات الله ، و هذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان ليرى نفسه ويراقبها ، و يصلها بالله سبحانه و تعالى حتى لا تنساه (3) .
__________
(1) ) انظر عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 791 هـ /1389م) ، أنوار التنزيل و أسرار التأويل ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1988 م ، ص 71 .
و انظر إسماعيل بن كثير ( ت774 هـ /1373م) ، تفسير القرآن العظيم ، الجزء 3 ،الطبعة 2 ، دار الفيحاء و دار السلام ، دمشق / الرياض ، 1998 م ،ص 242.
(2) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ،ص 23
(3)
) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 17 ، ص 2381(1/25)
و بعد هذا يهدد الله سبحانه و تعالى الكفار بما فعل بالذين من قبلهم ؛ حيث نصر المؤمنين عليهم ، و ذهب المتاع الذي عند الكفار ،( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ؛ أي : بالظهور عليها ؛ حيث يفتحها المؤمنون بلداً بلداً ، وأرضاً بعد أرض . و أسند الله سبحانه و تعالى الفعل إلى نفسه (ننقصها) تعظيماً للمؤمنين المجاهدين وتعظيماً للجهاد في سبيله (1) .
السبب الرابع : الجهل .
يقول تعالى :( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) (2)
تعرض هذه الآية موقف بني إسرائيل من نبيهم عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة لأجل معرفة القاتل . فما كان من بني إسرائيل إلا أن قالوا لنبيهم – بقلب صفيق ولسان سليط- : (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) . علما بأن موسى - عليه السلام- نبيهم الذي أنقذهم من العذاب المهين برحمة الله ورعايته ، ولكن ردهم كان سفاهة وسوء أدب واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ، ولكن موسى - عليه السلام- رد على قولهم السفيه بأن استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين ؛ فقال(أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) (3)
__________
(1) ) انظر صديق بن حسن (ت1307 هـ /1889م) ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،1999م ، ص 408
(2) ) سورة البقرة / 67 هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، جامع البيان لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 148.
(3) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص ص 77-78.(1/26)
فبنو إسرائيل لا يثقون بقول أنبيائهم . بل يعاملون أنبيائهم بقلة أدب وسفه وجهالة ؛ حيث قالوا لنبيهم : (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)أي نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ولا جامع بينهما (1) . إن هذا لهو الهزء بعينه ، أن يتهم قوم نبيهم بالاستهزاء بدين الله وأوامره.
والشاهد من إيراد هذه الآية هو أن الجهل سبب من أسباب الاستهزاء بدين الله ؛ حيث إن قوم موسى – عليه السلام – اتهموه بالاستهزاء بأوامر الله ودين الله ؛ حيث قال لهم : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) فاتهم بنو إسرائيل نبيهم بأنه يهزأ بأمر الله .فاستعاذ موسى - عليه السلام – من الجهل ؛ لأن الجهل سبب من أسباب الاستهزاء بدين الله .
وفي ذلك يقول الفخر الرازي كلاماً نفيسا : “ إن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ، ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء ، فلم يستعذ موسى – عليه السلام –
من نفس الشيء الذي نسبوه ، لكنه استعاذ من السبب الموجب له “ (2)
والذي يظهر من كلام الرازي هو أن الجهل سبب من أسباب الاستهزاء ، وأن الجهل موجب للاستهزاء . وقال الرازي عن هذا الوجه في تفسير الآية " هذا الوجه الأقوى " (3)
ولكن ما هو معنى الجهل في هذه الآية ، وقد ذكر الراغب الأصفهاني ثلاثة معان له وهي :
" الأول : خلو النفس من العلم ( ... )
الثاني : اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه .
الثالث : فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا " (4)
__________
(1) ) انظر صديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ/ 1889م) ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1999 م ، ص 140 .
(2) ) محمد بن عمر الرازي ( ت 604 هـ /1208) ، مفاتيح الغيب ، الجزء 3 ، الطبعة 3 ، دار الفكر ، لبنان ، 1985م ، ص 126 .
(3) ) المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص 126 .
(4) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 209.(1/27)
فما هو معنى الجهل في هذه الآية ؟ إن معنى الجهل في هذه الآية هو : فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل ؛ لأن موسى -عليه السلام – لم يتهم بخلو نفسه من العلم ، ولم يتهم بأنه اعتقد شيئا بخلاف ما هو عليه ، بل اتُّهم بقوله الذي وجهه إلى قومه وهو أمره لهم أن يذبحوا بقرة ، وهذا الاتهام مضمونه أن موسى -عليه السلام –أصبح مستهزئا .وفعل الاستهزاء لا يصح في حق الأنبياء،وهو طيش وسفه .
وفي هذا يقول الدكتور صلاح الخالدي : “ والمراد بالجهل الذي نزه موسى نفسه عنه ، ووصف به قومه ، الخفة و الطيش و السفاهة ، إنه الجهل المقابل للاتزان و الجدية ، و ليس المقابل للعلم ؛ لأن القوم من بني إسرائيل كانوا يعلمون وجوب تنفيذ أوامر الله التي يبلغهم إياها
نبيهم ، يعلمون هذا ولا يجهلونه ، ومع ذلك جهلوا في ردهم على موسى ذلك الرد ، فجهلهم هو سفاهتهم وخفتهم وطيشهم ؛ ولذلك استعاذ موسى بالله أن يكون بهذا الجهل مثلهم “ (1)
ويقول تعالى : (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ) (2)
لقد كان الكفار من اليهود و النصارى و المشركين ، يسخرون من النداء إذا أذن مؤذن المسلمين بالصلاة ، واتخذوا المناداة إلى الصلاة هزواً وكذلك لعباً ، وكل هذا الاستهزاء وهذا اللعب ، بسبب أنهم لا يعقلون ، ولو عَقَلوا عظم ما يفعلونه وخطره وعقابه لما فعلوه (3) .
__________
(1) ) صلاح الخالدي ، التفسير الموضوعي بين النظرية و التطبيق ، الطبعة 1 ، دار النفائس ، الأردن 1997م ، ص 117
(2) ) سورة المائدة /58
وهذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 3 .
(3) ) انظر محمد بن جرير الطبري ( ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن
، الجزء 4 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية لبنان ، 1999م ، ص 631.(1/28)
إذن ؛ فاستهزاء الكفار بالنداء إلى الصلاة هو بسبب أن الكفار لا يعقلون . يقول ابن عادل الدمشقي : “ ذلك الاستهزاء مستقر بسبب عدم عقلهم “ (1)
ويحتمل –أيضاً- أن يكون استهزاء الكفار بالصلاة لا بالمناداة إليها (2) . وما أورده الواحدي في سبب نزول هذه الآية يرجح أن الاستهزاء كان بالمناداة وبالصلاة
وخلاصة ما أورده الواحدي أن اليهود كانوا يستهزئون بالمسلمين إذا صلوا وقالوا : قاموا لا قاموا ، صلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا . يقولون هذا على طريق الاستهزاء والضحك ؛ فأنزل الله هذه الآية .
وكذلك نزلت في رجل من نصارى المدينة كان إذا سمع المؤذن يقول :أشهد أن محمداً رسول الله ،قال :حرق الكاذب ، فدخل خادم هذا الرجل المستهزئ بنار ذات ليلة ،وكان هذا المستهزئ نائماً وكذلك أهله نيام ، فتطايرت شرارة من النار التي دخل بها الخادم ؛ فأحرق البيت،فاحترق النصراني المستهزئ وأهله وبيته (3)
فالكفار إذا سمعوا النداء إلى الصلاة استهزئوا بالنداء ،أو استهزئوا بالصلاة ، فالاستهزاءان سوء سيحيق بأصحابه .
__________
(1) ) عمر بن عادل الدمشقي (ت880 هـ /1475م) ، اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل عبد الموجود و آخرين ، الجزء 7 ،دون ذكر الطبعة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1988م ، ص 400
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 236
المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 597 .
(2) )انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 683.
(3) )انظر علي بن أحمد الواحدي (ت468 هـ /1076م)، أسباب النزول ، ضبطه محمد عبد القادر ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000م ، ص 104.(1/29)
للكن ما المقصود بالجهل هنا ، هل هو : خلو النفس من العلم ؟ أو اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ؟ أو فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل ؟ (1)
و الذي يظهر –هنا- أن معنى الجهل (لا يعقلون) هو : اعتقاد الشيء خلاف ما هو عليه ، و الدليل على ذلك هو أنهم كانوا يعلمون علماً مجرداً عن الاعتقاد ، أن محمداً عليه الصلاة و السلام رسول ،و أن ما جاء به حق . وبناء على ذلك ؛ فليس الجهل عندهم هو خلو النفس من العلم
وليس كذلك هو فعل الشيء خلاف ما حقه أن يفعل – وهذه نقطة دقيقة- وذلك لأن سبب استهزائهم هو اعتقادهم المخالف للواقع . وفعلهم ؛ أي : استهزاؤهم هو جهل طيش وسفه ؛ أي : فعل الشيء خلاف ما حقه أن يفعل ، و البحث –هنا- عن سبب استهزائهم لا عن ذات استهزائهم و كنهه ، وبين الأمرين بون .
إذن ؛ فإن جهلهم هنا جهل اعتقادي .
ويقول تعالى (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُون(37)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(38)لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ(40)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون*) (2)
__________
(1) ) انظر معاني الجهل في . حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 209.
(2)
)سورة الأنبياء / 37-41
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 11، ص 177.(1/30)
الإنسان مخلوق عجول ، ولفرط استعجاله ، ولقلة صبره ، جعل كأنه خلق من العجل ذاته ، وذلك تنزيل لما طبع عليه من الأخلاق ، منزلة ما طبع من الأركان والأجزاء إعلاما بأنه لا انفكاك للإنسان عن العجل. (1)
ولكن هذا العجل قد يكون سيئا ، كما هو الحال عند الكفار ؛ حيث استعجلوا العذاب فقالوا ( متى هذا الوعد ) وهذا استعجال للعذاب أي : متى يأتي العذاب أو متى تأتي الساعة ؟ وهذا الاستعجال هو استعجال على جهة الاستهزاء والسخرية (2)
وهذا الاستعجال موجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - حيث يقول لهم الكفار ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) أي :يا محمد ويا أصحاب محمد متى يأتينا العذاب أو تأتينا الساعة إن كنتم صادقين في دعواكم ؟ (3)
ولكن الكفار المستهزئين باستعجالهم لو يعلمون ما هو بانتظارهم ، لما استعجلوا العذاب ، ولكنهم حين يرون ما يرون سيعلمون حقيقة الحال (4)
__________
(1) )انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص 336.
(2) ) انظر محمد بن يوسف بن حيان ( ت 754 هـ / 1353م) ، النهر الماد من البحر المحيط ، ضبط بوران وهديان ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الجنان ، لبنان ، 1987 م ، ص 461.
- وانظر صديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ / 1889م) ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999 م ، ص 406
- وانظر مصطفى الخيري المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار السلام ، القاهرة ، دون تاريخ ، ص 388.
(3) )انظر عبد الله بن عمر البيضاوي ( ت 791 هـ / 1389م) ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، الجزء 2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1988م ، ص 70 .
(4)
)
انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1853م) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به أحمد وعمر السلامي ، الجزء 17 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص 66 .(1/31)
وهذا الجهل الذي دفعهم إلى استهزائهم سيستمر معهم حتى يروا العذاب ، وبعد ذلك يزول الجهل عنهم ويصبحون عالمين ، وهذا الأمر يفهم من قوله تعالى (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ) وذلك ؛ لأن ( حين ) وما بعدها استئناف مقرر لجهل الكفار ومبين أن جهلهم مستمر إلى ذلك الوقت الذي يرون فيه العذاب (1)
فهم سيعلمون ولكن حين لا يدفعون عن وجوهم النار ولا عن ظهورهم لإحاطة النار بهم (2)
والمراد – هنا – هو بيان أن الجهل سبب لاستهزاء الكفار بالعذاب ، حيث إنهم لا يعلمون ما هو العذاب ، ولو علموا لما استهزأوا .يقول أبو السعود – في شأن استعجال الكفار العذاب استهزاء - : " إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه " (3)
إذن ؛ فالجهل هو سبب استهزائهم بالعذاب ، فما هو الجهل المقصود من المعاني الثلاثة التي ذكرها الراغب الأصفهاني (4)
1-أهو خلو النفس من العلم ؟
2- أم هو اعتقاد الشيء خلاف ما هو عليه ؟
3- أم هو : فعل الشيء خلاف ما حقه أن يفعل ؟
والمقصود به هنا هو :
اعتقاد الشيء خلاف ما هو عليه
وذلك ؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أخبر الكفار بالعذاب الذي أعد لهم . وهذا ينفي أن يكون معنى الجهل – هنا – هو : خلو النفس من العلم ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم .
ولكنهم اعتقدوا خلاف ما عليه الحقيقة ، فاعتقدوا أن العذاب كذب ، واعتقدوا خلاف ما أخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) )انظر المصدر ذاته ، الجزء 17 ، ص 66.
(2) ) انظر عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 598 هـ / 1202م) ، زاد المسير في علم التفسير ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، دون تاريخ ، ص 352.
(3) )العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 337 .
(4) )انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 209(1/32)
وكذلك ليس سبب استهزائهم هو فعل الشيء خلاف ما حقه أن يفعل ؛ أي : جهل طيش و سفه بل هو جهل اعتقادي ، لأن ذات استهزائهم هو فعل خلاف ما حقه أن يفعل ، بينما سبب هذا الفعل الطائش السفيه هو الجهل الاعتقادي ، أي اعتقاد الشيء خلاف ما هو عليه
إذن؛ فالجهل سبب من أسباب الاستهزاء .
السبب الخامس : ضعف الحجة(1/33)
يقول تعالى : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)يَاقَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ(30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًاكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ(34)الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا(1/34)
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) (1)
هذه الآيات تعرض مخاطبة مؤمن آل فرعون لفرعون وقومه ، و ليس الوقوف على تفاصيل . هذا الخطاب مراداً هنا ، ولكن سقت هذا الخطاب؛ لبيان الجو العام للآيات ؛ لأن الشاهد المراد هو قوله تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) (2)
الجو في هذه الآيات هو جو محاججه لفرعون وإقامة حجه عليه من الرجل الذي آمن من قومه .وفرعون لا يملك الحجة التي يستطيع بها الرد على موسى - عليه السلام- وعلى من آمن معه .
لكن فرعون صاحب عتو و تمرد وافتراء ، وهو مكذب لموسى - عليه السلام- ولم يستطع أن يرد على حجة الرجل الذي آمن من قومه ، فأمر وزيره هامان أن يبني صرحاً ، وهو القصر العالي المنيف الشاهق من الآجر المضروب من الطين المشوي كما قال تعالى ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا) (3) (4)
__________
(1)
) سورة غافر / 28 –37 وهذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق، الجزء15 ، ص 257.
(2) ) سورة غافر/ 36-37.
(3) ) سورة القصص / 38.
(4) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق، الجزء 4 ، ص 102 .(1/35)
يريد فرعون من طلبه هذا –على زعمه- أن يطلع إلى أسباب السماوات . وأسباب السماوات هي : أبوابها (1) ، ولكن فرعون مراوغ في طلبه لا يريد حقيقة أن يبني صرحاً و لا أن يصعد إلى السماء .
يقول الفخر الرازي : “ اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا ؟
أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح ، و الذي عندي أنه بعيد . و الدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو ، إما أن يقال إنه كان من المجانين ، أو كان من العقلاء ، فإن قلنا : إنه كان من المجانين ؛ لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه ؛ لأن العقل شرط في التكليف ، ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن .
وأما إن قلنا : إنه من العقلاء ؛ فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله ، أنه يتعذر في قدرة البشر ، و ضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي ، ويعلم –أيضاً- ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال.
وإذا كان هذان العِلْمان بديهيين ، امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء . و إذا كان فساد هذا معلوماً بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون “ (2)
وخلاصة قول الرازي هي : إن فرعون لم يقصد بناء صرح حقيقة و إنما قصد المراوغة.
وهذه المراوغة كانت استهزاءً بموسى - عليه السلام- بل إن فرعون بنى النتيجة مسبقاً فقال : ( و إني لأظنه كاذباً ). وهذا هو منطق الطغاة المتجبرين ، أصحاب الحجج الواهية و السلطة القوية .
__________
(1) ) انظر عبد الرحمن بن الجوزي (ت598 هـ /1202م) ، تذكرة الأريب في تفسير الغريب ، تحقيق علي حسين البواب ، الجزء 2 ، الطبعة1 ، مكتبة المعارف ، الرياض ، 1986م ، ص 131.
(2)
) محمد بن عمر الرازي (ت604 هـ /1208م) ، مفاتيح الغيب ، الجزء 27 ، الطبعة 2 ، دار إحياء التراث ، لبنان ، 1997م ، ص 515 .(1/36)
يقول سيد قطب : "هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، و تهدد الأساطير التي قام عليها ملكه .
وبعيد عن هذا الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون و إدراكه ، وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج ، وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور .
إنما هو الاستهتار و السخرية من جهة ، و التظاهر بالإنصاف و التثبت من جهة أخرى ، و ربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن " (1)
وفي الحقيقة ، هو استهزاء أراد به فرعون أن يتراجع من أمام الحجة الساطعة ، فهو لا يستطيع دحض الحجة بالحجة .
وهذا الأمر ملاحظ قي حياتنا التي نعيش دقائقها ، حيث إن أناساً كثيرون يهربون من الحجج المسلطة عليهم بالاستهزاء و السخرية ، معتقدين أنها وسيلة مثالية للمراوغة أمام الحجة القوية ، التي لا يستطيعون ردها .
و من الآيات التي تبين الاستهزاء بسبب ضعف الحجة قوله تعالى –حاكياً قول فرعون الذي يستهزئ بموسى -عليه السلام- : (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)) (2)
وسيأتي الكلام عنها عند بيان استهزاء فرعون بالله سبحانه و تعالى (3)
السبب السادس : التصور المنحرف لبواعث الطاعة عند المؤمنين .
يقول تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (4)
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن مرجع سابق ، الجزء 24 ، ص ص 3081-3082 .
(2) ) سورة الشعراء / 25.
(3) ) انظر –إن شئت- المطلب الأول من المبحث الأول من الفصل الثاني .
(4) ) سورة التوبة / 79
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ص 3 .(1/37)
و تعرض هذه الآية استهزاء المنافقين بالمؤمنين المتصدقين . حيث إن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتصدقون في سبيل الله –سبحانه و تعالى- ، فجاء رجل من الصحابة ؛ فتصدق بشيء كثير ، فقال المنافقون : هذا مراء . وجاء رجل آخر فتصدق بصاع . فقال المنافقون : إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت هذه الآية . وهذا خلاصة ما رواه البخاري و مسلم في سبب نزولها (1)
فما هو السبب الذي دفع المنافقين للاستهزاء بتصدق المؤمنين بصدقاتهم . سواء كانت هذه الصدقات كبيرة أو كانت صغيرة ؟
إن السبب هو : التصور المنحرف لبواعث الطاعة عند المؤمنين
يقول سيد قطب –كلاماً نفيساً في بيان سبب استهزاء المنافقين من المتصدقين المؤمنين- : "والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية ، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله و بواعثه في النفس .( ... )
وهكذا تقوّلوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس و رضا قلب و اطمئنان ضمير ، و رغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته ، وكل على غاية جهده .
ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة ، لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر ، لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثاً ذاتياً لتبلى دواعي الإيمان و التضحية و المشاركة . من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياءً ، وعن المقل : إنه يذكر بنفسه .
__________
(1) )انظر ابن حجر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 2008 .
و انظر عياض بن موسى ، إكمال المُعلم بفوائد مسلم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 542 .(1/38)
يجرحون صاحب الكثير ؛ لأنه يبذل كثيراً ، ويحتقرون صاحب القليل ؛ لأنه يبذل قليلا ، فلا يسلم من تجريحهم و عيبهم أحد من الخيّرين . ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي ، شحيحو الأنفس ، لا ينفقون إلا رياءً ، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير " (1)
ومن هذا النص يتضح أن المنافقين لا يدركون البواعث الحقيقية التي تدفع المؤمنين للتطوع ، ومن ثم يتصورون بواعث منبثقة من طبيعة تفكيرهم المادي ، فيكونون تصوراً منحرفاً لطبيعة هذه البواعث . وبناء على ذلك هم يسخرون من المؤمنين المتصدقين لتصدقهم .
السبب السابع : حب الدنيا .
يقول تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212)) (2)
الدنيا قد زينت للكفار بما فيها من المحاسن ، حتى حُسِّنت في أعينهم ، وأشربت محبتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها ، ولكن من هو المزين . ألله هو المزين لهم أم الشيطان ؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل يجب التفرقة بين نوعي التزيين ، وهما :
1- التزيين من حيث الخلق و الإيجاد .
2- التزيين من حيث الوسوسة و الإغواء .
فالتزيين من حيث الخلق و الإيجاد مستند إلى الله - سبحانه وتعالى –؛ إذ ما من شيء إلا هو خالقه . والتزيين من حيث الوسوسة والإغواء مستند إلى الشيطان و القوى الحيوانية عند الإنسان . (3)
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 10 ، ص 1681
(2)
) سورة البقرة / 212
هذه الآية مدنية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 148 .
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 257(1/39)
فالكفار يحبون ملذات العاجلة ، ويبتغون المكاثرة و المفاخرة ، ويطلبون فيها الرياسات و المباهاة ، ويستكبرون على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن المؤمنين تركوا المكاثرة والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الأموال والرياسات ؛ فسخر الكفار من المؤمنين في تركهم الدنيا و إعراضهم عنها . (1)
والكفار يسخرون من فقراء المؤمنين كبلال و عمار و صهيب - رضي الله عنهم - لفقرهم و إعراضهم عن الدنيا . وهذه السخرية سخرية مستمرة غير منقطعة و هذا ما تدل عليه صيغة الاستقبال (ويسخرون من الذين آمنوا) (2)
فهذه الآية تحذر من زينة الدنيا والرغبة في هذه الزينة ، ونسيان الآخرة و ترك العمل لها ، و العمل للدنيا الفانية ، فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة . و لكن أبناء الآخرة أهل التقوى وأصحاب الإيمان سيكونون يوم القيامة فوق الذين كفروا بدرجات حيث يدخل المؤمنون الجنان العالية و يدخل الكافرون أسافل النيران (3) .
فالشاهد ـ مما ذكر ـ أن حب الدنيا من جهة الكفار ، كان سبباً للاستهزاء بالمؤمنين ؛ لإعراضهم عن الدنيا ، ولو لم يكن الكفار يحبون الحياة الدنيا وزينتها ،لما استهزأوا من المؤمنين بسبب إعراضهم عن الدنيا .فحب الدنيا عند الكفار سبب من أسباب استهزائهم بالمؤمنين .
__________
(1) ) انظر محمد بن عمر الرازي (ت 604 هـ /1208م) ، مفاتح الغيب ، الجزء 6 ، الطبعة 3 ،
دار الفكر ، لبنان ، 1985 م ، ص 7 .
وانظر محمود الآلوسي (ت 1270هـ /1854م) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني ، اعتنى به محمد أحمد و عمر السلامي ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000م ،ص 676.
(2) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ،ص 257 .
(3) ) انظر جابر الجزائري ، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ، الجزء 1 ، الطبعة 4 ، دار السلام ، مصر ، 1992م ، ص 190.(1/40)
السبب الثامن : علم الكفار الباطل .
يقول تعالى :( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(83)) (1)
تبين هذه الآية حال الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات ، و هي الأدلة الواضحة ، و البراهين الظاهرة . فإن الكفار فرحوا بما عندهم من الشبهات ، و ظنوا هذه الشبهات علماً نافعاً . وقد سمى الله - سبحانه وتعالى -ما عندهم من العقائد الزائفة ، وشبههم الداحضة- علماً ، من باب التهكم و الاستهزاء بهم (2)
إذن ؛ فهذه الأمم الكاذبة جاءتهم رسلهم بالأدلة الواضحة البينة ، ورغم هذه الأدلة الواضحة ، و البينات الساطعة ، التي جاء بها الرسل ، كذب الكفار ، واستهزءوا بها ، بل وفرحوا بما عندهم من العلم ، “والفرح هنا مكنى به عن آثاره ، وهي الازدهاء ، كما في قوله تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ) (3) " (4)
فهو فرح كبر وبطر، وهذا هو شأن الكفار في كل زمن ، يتباهون بما عندهم من العلم الزائف ،ويدعون أنه العلم الحق ،وأنه التقدم والحضارة والرقي ، وإن هم إلا في تأخر وغباء.
وقد اختلف في تعيين هذا العلم الذي اختال الكفار وتكبروا بسبه على أقوال : منها: عقيدة الكفار بعدم البعث والحساب .
ومنها : علم الدنيا ومنافعها ووجوه الكسب فيها،نحو:( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (5)
__________
(1) ) سورة غافر / 83
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء15 ، ص 257.
(2) ) انظر أحمد المراغي ، تفسير المراغي ، الجزء 24 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر
مكان لدار النشر ، دون ذكر تاريخ الطبعة ، ص 100
(3) ) سورة القصص / 76 .
(4) ) محمد الطاهر عاشور ، التحرير والتنوير ، الجزء 24 ، دون ذكر الطبعة ، الدار التونسية للنشر ، ، تونس،1984م ،ص 221.
(5) ) سورة الروم / 7.(1/41)
ومنها : علم الفلاسفة الذين يحتقرون علوم الشرائع .
ومنها : عقائد الكفار المأخوذة عن أهل الضلال ممن سبقهم .
ومنها : أن تسمية العقائد الزائفة بالعلم هو تهكم واستهزاء بالكفار (1)
إذن ؛ فهذا العلم الذي فرح به الكفار هو علم غير علم الدين ، فأي شيء كان هذا العلم ، فهو علم باطل ، مهما اختلفت المسميات و الأنواع .
ولقد دفعهم هذا العلم إلى التعاظم والتكبر على دين الله سبحانه و تعالى ، ولكن العذاب وقع وأحاط بالكفار ، بعد تماديهم واستهزائهم يقول تعالى :( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) أي : لقد كانوا يستهزئون بالعذاب –الذي توعدهم الله به- فنزل بهم . وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء شنشنة لهم ، وكذلك فإن استهزاءهم كان متكرراً ، ولم يكن مرة واحدة فقط ، وهذا مستفاد من الفعل المضارع (يستهزئون) (2) .
ويالها من حماقة وقع فيها الكفار ، أن استهزءوا بالعذاب ، و العذاب يُخاف منه ، ولا يستهزأ به . فهم اتخذوا العذاب هزواً ، ودأبهم هو الاستهزاء بإنذار الله ووعيده ، فهم يعلنون العداء ويجاهرون به ، ولكنهم هم الهالكون لا محالة.
وإن كان من عجيب الأمر أن يكذب الإنسان الضعيف بعذاب الله ، فالأعجب من ذلك أن يستهزئ الإنسان الضعيف بعذاب الله ووعيده .
__________
(1) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15، ص 300 .
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 236 .
وانظر ابن عاشور ، التحرير و التنوير ، مرجع سابق ، الجزء 24 ، ص 221 .
وانظر المراغي ، تفسير المراغي ، مرجع سابق ،الجزء 24 ، ص 100 .
(2) ( وانظر ابن عاشور ، التحرير و التنوير ، مرجع سابق ، الجزء 24 ، ص 221.(1/42)
وسبب استهزاء الكفار بالرسل وبيناتهم هو ما عند الكفار من العلم الباطل . حيث ظن الكفار أن ما وراء علمهم هو باطل و أن علمهم هو الحق ، ونسوا - بل وتناسوا - أنهم لا يعلمون إلا قليلاً ، وأن وراء علمهم ، كمٌّ عظيم من العلوم لا يعرفون عنها. فالعلم بغير إيمان فتنة تعمي وتطغي ؛ وذلك لأن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور ، وينتفخ صاحبه ، فيتخيل نفسه أكبر من حقيقته وواقعه . ويستخفه علمه ، وينسى جهله ، و الكفار فرحوا بما عندهم من العلم و استهزأوا بما يذكرهم بما وراءه ، فعلمهم سبب في استهزائهم بالرسل وبّيناتهم (1)
المبحث الرابع : أساليب استهزاء الكفار بالإسلام و دعاته .
ولا بد من الإشارة إلى أنه سيُقتصر على شاهد قرآني واحد في كل أسلوب ؛ وذلك حتى لا يحدث تكرار كبير في ذكر الآيات وتفسيرها ؛ لأن هذه الآيات ستذكر في أماكن أخرى من هذا البحث . و سيُشار إلى هذه الأساليب عند ذكر الآيات في أماكنها المختلفة .
الأسلوب الأول : المخادعة .
يقول تعالى :( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (2)
تبين هذه الآية واقع المنافقين في استهزائهم بالمؤمنين ، و تبين أسلوبهم في الاستهزاء ، وهذا الأسلوب -الذي بينته الآية- هو : أسلوب الخداع . وكما هو معلوم ، فإنه ليس كل خداع استهزاء ، و لكن الخداع –هنا- كان استهزاءً بنص الآية الكريمة (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )
وفي بيان سبب نزول هذه الآية ؛ فقد قال ابن جرير الطبري: “حدثنا محمد بن العلاء (3)
__________
(1) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 24 ، ص 3101 .
(2) ) سورة البقرة / 14
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1، ص 148 .
(3) ) هو ابن كُرَيب الهَمْداني أبو كُرَيب الكوفي مشهور بكنيته : ثقة حافظ
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 435.(1/43)
قال : حدثنا عثمان بن سعيد (1) حدثنا بشر بن عُمارة (2) عن أبي رَوْق (3) عن الضحاك (4) عن ابن عباس في قوله : (و إذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا ) . قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أو بعضهم . قالوا : إنا على دينكم ، و إذا خلوا إلى أصحابهم و هم شياطينهم ( قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) " (5)
و أخرج ابن أبى حاتم هذا القول من طريق محمد بن العلاء (6)
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن حميد (7) قال حدثنا سلمة بن الفضل (8) عن محمد بن إسحاق (9) عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت (10)
__________
(1) ) هو: ابن مرة القرشي . أبو عبد الله الكوفي : مقبول
انظر المصدر ذاته ، ص 324
(2) ) بشر بن عُمارة الخثعمي : ضعيف
انظر المصدر ذاته ص 62
(3) ) وهو : عطية بن الحارث الهَمْداني صاحب التفسير : صدوق
انظر المصدر ذاته ص 333 .
(4) ) الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخُراساني : صدوق كثير الإرسال
انظر المصدر ذاته ، ص 221 .
وهذا إسناد ضعيف لضعف بشر بن عُمارة الخثعمي .
(5) ) محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الجزء1 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1984م ، ص ص 129-130.
(6) ) انظر عبد الرحمن بن أبي حاتم ( ت327 هـ /939م) تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين ، تحقيق أسعد الطيب ، الجزء1 ، الطبعة 2 ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1999م ، ص 46.
(7) ) وهو : محمد بن حُميد بن حيَّان الرازي كان ابن معين حسن الرأي فيه
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 410 .
(8) ) سلمة بن الفضل الأبرش مولى الأنصار قاضي الري : صدوق كثير الخطأ
انظر المصدر ذاته ، ص 188 .
(9) ) محمد بن إسحاق بن يسار إمام المغازي : صدوق يدلس
انظر المصدر ذاته ، ص 403 .
(10) ) محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت : مجهول تفرد عنه ابن إسحاق
انظر المصدر ذاته ، ص 439 .(1/44)
عن عكرمة (1)
و عن سعيد بن جبير (2) عن ابن عباس نحوه (3) .
وقد روي سبب آخر في سبب نزول هذه الآية وهو أن عبد الله بن أُبي و أصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء ، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال مرحباً بالصديق سيد بني تميم و شيخ الإسلام ، وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه و ماله لرسول الله .
ثم أخذ بيد عمر . فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب ، الفاروق القوي في دين الله ، الباذل نفسه و ماله لرسول الله ثم أخذ بيد علي . فقال : مرحباً بابن عم رسول الله و ختنه ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله ، ثم افترقوا .فقال عبد الله لأصحابه :كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ،فأثنوا عليه خيراً.
فرجع المسلمون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبروه بذلك ، فنزلت هذه الآية (4)
__________
(1) ) عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري . ثقة ثبت عالم بالتفسير لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا تثبت عنه بدعة .
انظر المصدر ذاته ، ص 336 .
(2) ) سعيد بن جبير الأسدي مولاهم الكوفي ثقة فقيه ، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس و تسعين و لم يكمل الخمسين .
انظر المصدر ذاته من ص 174 .
وهذا إسناد ضعيف لجهالة محمد مولى زيد بن ثابت .
(3) ) انظر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ /923م )،جامع البيان عن تأويل آي القرآن،الجزء1 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1984م ص 130.
(4) )انظر علي بن أحمد الواحدي ( ت 468 هـ / 1076م) أسباب النزول ، ضبطه محمد شاهين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000 م ، ص 13.
وانظر عبد الرحمن السيوطي ( ت 911 هـ / 1505م) ، لباب النقول في أسباب النزول ، اعتنى به بديع اللحام ، الطبعة 1 ، دار الهجرة ، دمشق ، 1990 م ، ص 14.(1/45)
يقول السيوطي –عن إسناد هذه الرواية- : “ هذا الإسناد واه جداً ؛ فإن السدِّي الصغير (1) كذاب وكذا الكلبي (2) و أبو صالح (3) ضعيف “ (4)
وقد حكم الشوكاني على الإسناد بما حكم عليه السيوطي (5)
وبعد استعراض ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم فإنه يتبين أن الذين كانوا يقومون بالخداع الاستهزائي هم اليهود . وقد علمت ما في الإسنادين من ضعف .
وبعد استعراض ما أخرجه الواحدي فانه يتبين أن الذين كانوا يقومون بالخداع الاستهزائي هم المنافقون العرب ، وقد علمتَ ما في الإسناد من ضعف .
وعلى كل حال ، فان المستهزئين – كانوا منافقين عرباً ،أم كانوا يهوداً- قد استخدموا الخداع كأسلوب من أساليب الاستهزاء . فهم إذا لقوا المؤمنين خادعوهم ، وقالوا : آمنا بما آمنتم به ، و أما إذا انفردوا برؤسائهم في الكفر ، فإنهم يقولون لهم : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون بالمؤمنين
__________
(1) ) هو : محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل السدي وهو الأصغر : متهم بالكذب
انظر محمد بن أحمد الذهبي (ت748 هـ /1347م) ، المغني في الضعفاء ،تحقيق نور الدين عتر ، الجزء 2 ، دون ذكر الطبعة ، ، دار إحياء التراث ، قطر ، دون تاريخ ، ص 263 .
وانظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 440 .
(2) ) هو : محمد بن السائب الكلبي النسابة المفسر : متهم بالكذب ورمي بالرفض انظر الذهبي ، المغني في الضعفاء ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 200.
وانظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 59.
(3) )وهو : باذام ، ويقال بآذان ، مولى أم هانئ : ضعيف يرسل انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 59.
(4) )السيوطي ، لباب النقول في أسباب النزول ، مصدر سابق ، ص 14
(5) )انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 53.(1/46)
وبعد ذلك القول الكاذب يمشون ويذهبون إلى شياطينهم ، وتعدى الفعل : خلا – في قوله تعالى (خلوا إلى شياطينهم) - بحرف الجر : إلى ،لأنه ضمن معنى مشوا وذهبوا (1) . أي إن مرجع المنافقين هو إلى شياطينهم الذين يرشدونهم ويدبرون لهم الخطط حتى ينفذوها .
وكلمة خلوا – في هذا النص – لها دلالة لطيفة ، وهي خوف المنافقين من النور ، وخشيتهم الضياء . إنهم كالخفافيش التي عميت أبصارها عن رؤية الشمس في وضح النهار ، فالمنافقون – دائما – في خلواتهم وفي ظلماتهم يراوغون ويخادعون (2) .
والشياطين الذين يخلو المنافقون إليهم هم رؤساؤهم في الكفر والنفاق ،وهم أكابرهم الذين يتولون أمر إرشادهم ، وسمّاهم الله - سبحانه وتعالى -شياطين لأنهم مماثلون للشيطان في التمرد والفساد ،وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر (3)
وبعد هذا يقول المنافقون لشياطينهم : ( إنا معكم ،إنما نحن مستهزئون ) وانظر إلى الفرق بين قول المنافقين للمؤمنين : آمنا ، وبين قولهم لشياطينهم : إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
فعند قولهم للمؤمنين : آمنا . اكتفوا بالمطلق من القول : آمنا . دون أن يقولوا لهم : آمنا بما آمنتم به ، ولكن قالوا : آمنا و حسْب .
__________
(1) )انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 72 .
(2) )انظر عبد الحميد كشك ، في رحاب التفسير ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة ، المكتب المصري الحديث ، مصر ، دون تاريخ ، ص 202.
(3) )انظرالعمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 65.(1/47)
ولكنهم قالوا لشياطينهم : إنا معكم إنما نحن مستهزئون ؛ فأكدوا المعية و الموافقة بقولهم : إنا معكم ؛ أي : موافقوكم على دينكم . ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم : آمنا . وهو الاستخفاف بالمؤمنين ؛ وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بـ ( إنما ) و ( نحن ) و ( مستهزئون ) . و كأنهم لما قالوا : إنا معكم. أنكر عليهم الاقتصار على هذا ؛ أي: وكيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم ، والتزام أحكامهم من صلاة وأكل لذبائحهم ؟ فأجابوا بذلك الجواب ( إنما نحن مستهزئون) ، وقد زادوا الجملة الاسمية تحقيقا باستخدامهم حرف التوكيد ( إن ) مع العلم بأن الجملة الاسمية تدل على الثبوت؟ (1)
فهم منافقون جبناء يجبنون عن المواجهة ، ويتخذون المخادعة وسيلة للتستر . وهم فوق ذلك يتخذون المخادعة أسلوباً من أساليب الاستهزاء بالإسلام ودعاته المؤمنين .
الأسلوب الثاني الاستفهام .
يقول تعالى (قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (2)
__________
(1) ) انظر محمد بن يوسف بن حيان ( ت 754 هـ ، 1353م ) ، تفسير النهر الماد من البحر المحيط ، ضبطه بوران وهديان ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار الفكر ، دون ذكر مكان للنشر ، 1987 م ، ص 12 .
وانظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 104
(2)
) سورة هود / 87
هذه آية مكية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 365.(1/48)
فقوم شعيب يستهزئون بالصلاة التي أمر الله بها، ويقولون لشعيب – عليه السلام- : أصلاتك يا شعيب تأمرنا أن نترك عبادة الآلهة التي كان آباؤنا يعبدونها ، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الغش والخداع ، والتطفيف بالميزان . وقولهم هذا ، إنما هو سخرية واستهزاء وتهكم . (1)
وقد استخدم الكفار – هنا – أسلوب الاستفهام المساق للاستهزاء ؛ لأن الهمزة في ( أصلاتك )هي همزة للاستفهام ، وهذا الاستفهام استفهام تهكمي.
جاء في كتاب ( إعراب القرآن وبيانه ) : “ الهمزة للاستفهام ، ومعناه الهزء والسخرية “ (2)
وجاء في كتاب ( الجدول في إعراب القرآن ) : “ الهمزة للاستفهام التهكمي “ (3)
ومن الآيات التي عرضت هذا الأسلوب الذي يستخدمه المستهزئون :
1- يقول تعالى (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50)أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ) (4)
2- يقول تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (5)
__________
(1) )انظر ابن كثير . تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 599 .
وانظر محمد علي الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق ، 1988م ، ص ص 71-72 .
(2) ) محيي الدين الدرويش ، إعراب القرآن وبيانه ، الجزء 4 ، الطبعة 3 ، دار اليمامة ، سوريا، 1992 م ، ص 416.
(3) )محمود صافي ، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه ، الجزء 6 ، الطبعة 1 ، دار الرشيد ، دمشق ، 1991 م ، ص 333.
(4) ) سورة الإسراء / 50 –51.
(5) ) سورة الأنبياء / 36.(1/49)
3- يقول تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (1)
4- يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) (2)
5- يقول تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (3)
6- يقول تعالى : (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ) (4)
7- يقول تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (5)
8- يقول تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (6)
9- يقول تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (7)
وستُعرض هذه الآيات بتفسير وتفصيل يبين ما فيها من المعاني التي تتصل بموضوع البحث ، وسيكون هذا العرض مدعما بأقوال المفسرين الأعلام . وذلك في مواضع متفرقة من هذا البحث
وإنما يُكتفى بذكر الآيات فقط – في هذا الموضع - مخافة التكرار
الأسلوب الثالث : الضحك .
__________
(1) ) سورة الأنبياء / 38 و سورة يس / 48.
(2) ) سورة الفرقان / 41.
(3) ) سورة الشعراء / 23.
(4) ) سورة الشعراء / 25.
(5) ) سورة يس / 47.
(6) ) سورة التوبة / 124.
(7) ) سورة سبأ / 7.(1/50)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46)فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47)وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (1)
أرسل الله - سبحانه وتعالى -رسوله موسى - عليه السلام- إلى فرعون وملئه . فقال لهم موسى - عليه السلام- : ( إني رسول رب العالمين ) وعندما أظهر موسى - عليه السلام- المعجزات التي أيده الله بها لفرعون وملئه ضحكوا من الآيات المعجزة التي تثبت أن موسى - عليه السلام - مرسل من ربه
وهذه الآيات التي عرضها موسى - عليه السلام -هي آيات عظام “ كقلب العصا حية ، وإخراج اليد بيضاء “ (2)
وهذه الآيات التي أظهر فيها موسى - عليه السلام- صدق رسالته كانت واضحة أيما وضوح يقول تعالى : (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) " أي : قرينتها التي قبلها " (3)
فهذه الآيات في غاية الكبر والوضوح والظهور ، فكلما ترى آية تقول إنها كبيرة (4)
__________
(1)
) سورة الزخرف / 46-48
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 57.
(2) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 260.
(3) ) علي بن محمد ( ت 725 هـ / 1325م) ، لباب التأويل في معاني التنزيل ، ضبطه عبد السلام شاهين ، الجزء 4 ،الطبعة 1، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1995م ، ص 111.
(4) )انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 260.(1/51)
ومثل ذلك مثل الأم التي ترى بنيها ، فتراهم من الفضل بمنزلة عالية ، ومراتبهم في الفضل متدانية قليلة التفاوت فتقول : ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل (1)
والشاهد هنا : ( فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ) فهم قد استهزأوا بالآيات أول ما رأوها بل وزيادة في الاستهزاء ضحكوا سخرية واستهزاء (2) وهذا الضحك كان ضحكاً من جميع ملأ فرعون مع فرعون (3)
إذن ؛ فالكفار استخدموا أسلوب الضحك ، وذلك للاستهزاء بموسى – عليه السلام- ، وبما جاء به من البينات ، رغم وضوحها وكبرها . والشاهد –هنا – أن الضحك من الأساليب المتبعة عند الكفار للاستهزاء بدين الله ورسله
ومن الآيات التي عرضت هذا الأسلوب :
1- يقول تعالى :( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (4)
2- يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (5)
__________
(1) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ص ص 258-259
(2)
) انظر عبد الله بن عمر البيضاوي ( ت 791 هـ / 1389م) ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1988 م ، ص 374 .
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 36.
وانظر مصطفى الخيري المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، دار السلام ، القاهرة ، 1996م، ص 566 .
(3) ) انظر إبراهيم بن عمر البقاعي ( ت 885هـ / ... )نظم الدرر في تناسب الآي والسور ، الجزء 17 ، الطبعة 1 ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، 1981 م ، ص 442.
(4) )سورة المؤمنون / 109 – 110.
(5) )سورة المطففين / 29 .(1/52)
3- يقول تعالى : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59)وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (1)
وستُعرض هذه الآيات في أماكن متعددة من هذا البحث وذلك مخافة التكرار
الأسلوب الرابع : إطلاق المدح بقصد استهزاء
يقول تعالى : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (2)
تعرض هذه الآية جواب قوم لوط لنبيهم - عليه السلام- ، بعدما أنكر عليهم ما كانوا يعملون من الفاحشة التي انتشرت في زمانهم ؛ حيث كانوا يأتون الذكور في أدبارهم ، وهذا العمل عمل قبيح أيما قبح ، مستقذر أيما استقذار ، مخل بالشرف خارق للمروءة ، تنفر منه الطبائع السليمة ، حتى طبائع الحيوانات والبهائم التي لا تعقل ، ولا تميز إلا بما آتاها الله من الغريزة .
والإنسان كرمه الله بالفهم و العقل ، بل بعث الله نبيه لوطاً - عليه السلام- ليرشد قومه إلى الله تعالى ، ويكفهم عن ذلك العمل القذر الذي انحدروا إليه . وصار هذا الفعل القبيح وصفا ملازما لهم ، يعرفون به ويشتهرون به (3)
وعندما أنكر لوط - عليه السلام- الفاحشة ، أجابه قومه جواباً سيئاً ، وهذا الجواب لم يستند إلى حجج مقنعة ، أو أعذار مسوغة ، وإنما عللوا أمر إخراجهم بأن لوطاً وأهله أناس يتطهرون من الفواحش (4)
__________
(1) )سورة النجم / 59- 60.
(2) ) سورة الأعراف / 82 .
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص 145.
(3) ) انظر الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، الجزء 3 ، الطبعة 3 ، دار القلم ، دمشق ، 1989 م، ص ص 51-52.
(4) ) انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854م) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، بعناية محمد أحمد وعمر السلامي ، الجزء 8 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص 568 .
وانظر أحمد مصطفى المراغي ، تفسير المراغي ، الجزء 8 ، الطبعة 3 ،دار الفكر ، دون ذكر مكان نشر ، 1974م، ص 205 .(1/53)
فهم قد قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه ، بل استهزأوا بطهارة لوط - عليه السلام - ؛ حيث قالوا : ( إنهم أناس يتطهرون ) و هذا الجواب منهم يدل على السخرية والاستهزاء بلوط - عليه السلام- ، ويدل على افتخارهم بما هم فيه (1)
يقول الزمخشري " وقولهم ( إنهم أناس يتطهرون ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش و افتخار بما كانوا فيه من القذارة ؛ كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف و أريحونا من هذا المتزهد “ (2)
وقد ضرب الآلوسي و المراغي المثال الذي ضربه الزمخشري بنصه (3) .
وهذا الاستهزاء الذي استهزأ به قوم لوط من لوط - عليه السلام - استهزاء مصوغ بالمدح ؛ حيث وصفوه بالطهارة ، ولكن هذا المدح حقيقة ليس مدحاً ، وإنما هو استهزاء .
وبناءً على ذلك فإن إطلاق المدح بقصد الاستهزاء أسلوب اتبعه المستهزئون بالدين و رسله .
وهناك آيات أخرى بينت هذا الأسلوب الذي اتخذه الكفار للاستهزاء بالإسلام ودعاته ، منها :
__________
(1) )انظر الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، مصدر سابق، الجزء 8 ، ص 568 .
وانظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 253.
وانظر المراغي ، تفسير المراغي ، مرجع سابق ، الجزء 8 ، ص 205.
وانظر الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، مرجع سابق ، الجزء 3 ، ص 53 .
(2)
)الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، الجزء 2، ص 119
(3) ) انظر الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، مصدر سابق، الجزء 8 ، ص 568 .
وانظر المراغي ، تفسير المراغي ، مرجع سابق ، الجزء 8 ، ص205.(1/54)
1- يقول تعالى : (قَالُوا يا شعيب أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(87)) (1)
2- يقول تعالى :( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)) (2)
3- يقول تعالى : (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا(41)) (3)
4- يقول تعالى : (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)) (4)
5- يقول تعالى : (وَقَالُوا يا أيها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)) (5)
الأسلوب الخامس : الدعاء بتعجيل العذاب .
يقول تعالى : (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (6)
تبين هذه الآية الدعاء الذي دعا به الكفار الله - سبحانه وتعالى -وذلك استهزاء بدين الله.
وهذا الدعاء هو سوء أدب مع الله تعالى - سبحانه وتعالى - وسوء أدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذه حماقة ظاهرة من الكفار ؛ حيث إنهم استعجلوا ما هو كائن لهم يوم القيامة من سوء العاقبة ، وأرادوا أن يكون لهم فيما هو قبل ذلك . فهم كفار بوعيد الله ، كفار برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وهم مع ذلك قليلو أدب مع الله ورسوله ، فهم يستهزئون بما لا يستهزأ به ؛ إنهم يستهزئون بالوعيد الإلهي .
الكفار طلبوا تعجيل قطهم قبل يوم الحساب . فما هو القط ؟
__________
(1) )سورة هود / 87 .
(2) )سورة الفرقان / 7.
(3) )سورة الفرقان / 41.
(4) )سورة الشعراء / 27 .
(5) )سورة الحجر / 6 .
(6) ) سورة ص / 16.
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 129 .(1/55)
القط هو : الشيء المقطوع عرضا (1)
والقط هو : الحظ و النصيب (2) وهو : الكتاب و الصحيفة لأنها قطعة قطعت من القرطاس (3)
إذن ؛ فالكفار اتخذوا أسلوب الدعاء أسلوباً استهزائياً بدين الله – سبحانه وتعالى -.
يقول القرطبي : “ وكل هذا استهزاء منهم “ (4) ويقول ابن كثير :
“ ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء و الاستبعاد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - آمراً له بالصبر على أذاهم “ (5) ويقول أبو السعود : “قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية : عجل لنا قطنا من العذاب الذي توعدنا به ، ولا تأخره إلى يوم الحساب “ (6)
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 676.
وانظر محمد بن يعقوب ، القاموس المحيط ، مصدر سابق، الجزء 1 ، ص 920.
(2) ) انظر عبد الحق بن عطية (ت546 هـ /1151م) ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،تحقيق عبدالله الأنصاري ، وعبد العال ، الجزء 12 ، الطبعة 1 ، طبع على نفقة أمير قطر ، 1987م ، ص 430 .
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 353 .
(4) ) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 142 .
(5) ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 39 .
(6) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 353 .
وانظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 79 .
وانظر محمد عزة دروزه ، التفسير الحديث ، الجزء 2 ، دون ذكر الطبعة ، دار إحياء الكتب العربية ، دون ذكر مكان النشر ، 1962م ، ص 73 .
وانظر محمد الصابوني ، صفوة التفاسير ، الجزء 14،الطبعة 1، دار القرآن الكريم ، بيروت ، 1981م ، ص 31 .
وانظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 487 .
وانظر ابن عطية ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، مصدر سابق ، الجزء 12 ، ص430 .(1/56)
فالشاهد من هذا ؛ أن الكفار اتخذوا الدعاء بتعجيل العذاب أسلوباً من أساليب الاستهزاء بدين الله سبحانه و تعالى (1)
الأسلوب السادس : إطلاق الشتائم و التهم الباطلة .
يقول تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ(13)) (2)
كان المنافقون – و ما يزالون- يستهزئون بالمؤمنين المتمسكين بدينهم . وهذا الاستهزاء نابعٌ من كذب المنافقين وظلمهم ؛ حيث يطلق المنافقون على المؤمنين التهم بقصد الاستهزاء . فيقول المنافقون – واصفين المؤمنين- : إنهم سفهاء ورجعيون ومتخلفون و متطرفون .
وكل استهزاء المنافقين بالمؤمنين – كما تبينه هذه الآية - كان بسبب أن المنافقين دعوا إلى أن يؤمنوا كما آمن المؤمنين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله وملائكته ورسله و البعث بعد الموت وكذلك الإيمان بالجنة و النار ، وغير ذلك مما أُخبر المؤمنون به ،ولذلك رد المنافقون بجواب سفيه مثلهم – وهذا فيما بينهم- فقالوا : أنؤمن كما آمن هؤلاء السفهاء (3)
وفي ذلك إنكار منهم لمبدأ الإيمان ؛ لأن الاستفهام ( أنؤمن ) في معنى الإنكار . (4)
.فهم ينكرون مبدأ الإيمان إنكارا جازماً مدعماً بتشبيه اخترعوه من عند أنفسهم حيث قالوا : ( أنؤمن كما آمن السفهاء) .
__________
(2) ) سورة البقرة /13
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 148 .
(3) )انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 80 .
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق، الجزء 1 ، ص 63.
(4) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 102 .(1/57)
والسفه هو خفة في العقل ، وهو الجهل بالأمور ، و أصل السفه في كلام العرب الخفة والرقة (1)
ولكن الله رد عليهم " أبلغ رد وأحكمه فقال : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) ولننظر إلى روعة البيان في تعبير القرآن ؛ فقد جاءت الجملة مؤكدة بأربعة تأكيدات .
( ألا ) : تفيد التنبيه .
و ( إن ) : التي تفيد التأكيد .
وضمير الفصل ( هم ) ، ثم تعريف الخبر ( السفهاء ) " (2)
وختم الرد عليهم بقوله ( لا يعلمون ) : لأن العلم نقيض الجهل والسفه ؛ فرد عليهم بما اتهموا به المؤمنين (3)
وللاستدلال على أن اتهام المنافقين المؤمنين بالسفه ، هو اتهام سيق على وجه الاستهزاء ؛ فهذه بعض من أقوال المفسرين
يقول القرطبي : “وهذا القول من المنافقين ، إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء ، فأطلع الله نبيه و المؤمنين على ذلك “ (4)
ويقول الشوكاني : “ فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءً و استخفافاً “ (5)
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 414 .
وانظر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي،القاموس المحيط، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 1637.
وانظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء1 ، ص 199 .
وانظر عمر بن عادل ( ت 880 هـ / 1475م ) اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل أحمد وآخرِين ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1998 م ، ص 358.
(2)
) الصابوني ، قبس من نور القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص 23.
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 63.
(3) ) انظر ابن عادل ، اللباب في علوم الكتاب ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 358.
(4) ) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء1 ، ص 199.
(5) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 51
وانظر الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص 23.
وانظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص22 .(1/58)
ومن هذا يظهر بأن إلقاء التهم ، وإطلاق الشتائم ؛ هو أسلوب اتخذه الكفار للاستهزاء بالمؤمنين و بدين الله - سبحانه وتعالى -.
وهو أسلوب قديم ، ولكنه حديث أيضاً ؛ حيث وصف موقع (لمايكروسوفت) العربَ بأنهم نفايات على شكل بشر وذلك عبر مقال على صفحة في شبكة المعلومات الدولية (إنترنت) والتي تملكها شركة مايكروسوفت الأمريكية (1)
الأسلوب السابع : تحريك أعضاء الجسم بقصد الاستهزاء .
يقول تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ(127)) (2)
هذه الأعضاء التي خلقها الله - سبحانه وتعالى- للإنسان ؛ خلقها ليعبده الإنسان بها .يقول تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون(56)) (3) وكذلك ليشكر الإنسان ربه على نعمائه ،ولكن الإنسان عندما يكفر يستخدم هذه الأعضاء في معصية الله تعالى ؛ يستخدمها في الاستهزاء بدينه
فهذه الآية تعرض لنا مشهداً عملياً للمنافقين عندما تنزل سورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ينظر المنافقون إلى بعضهم ؛ يتغامزون استهزاء بالقرآن واستخفافا به . (4)
وبعد هذا التغامز الاستهزائي يقولون : ( هل يراكم من أحد ) أي : هل يرى استهزاءكم وتغامزكم أحد فينقل ذلك إلى محمد ؟ (5)
__________
(1) ) انظر دون ذكر لكاتب المقال ، ((موقع لمايكروسوفت على الإنترنت يصف العرب بالنفايات)) ، السبيل ، دون ذكر المجلد ، عدد359 ، 2000م ، ص15 .
(2) ) سورة التوبة /127.
هذه الآية مدنية .
انظر القرطبي ،الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء8 ، ص 3.
(3) ) سورة الذاريات / 56.
(4) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 351
(5) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 1 ، ص 351 .(1/59)
كأنهم عند سماع تلك السورة يتأذون ويتضايقون ويريدون أن يخرجوا من المسجد ، زاعمين أنهم لا يصبرون على استماع القرآن ، ويغلب عليهم الضحك استهزاءً بالقرآن ، فيخافون أن يفتضح أمرهم بين المؤمنين (1) .
وبعد ذلك ينصرف المنافقون ؛ ولكن عند وجود فرصة يستطيعون الخروج بها دون رؤية أحد من المؤمنين ، وهذا ما يفيده حرف العطف (ثم) في قوله تعالى : (ثم انصرفوا) . وينصرف المنافقون جميعاً عن محفل الوحي (2) .
وبعد انصرافهم يصرف الله قلوبهم عن التقوى ؛ لأنهم استوجبوا ذلك؛ يقول تعالى: ( صرف الله قلوبهم ) . ويحتمل أن يكون دعاء عليهم (3)
وهذا الصرف كان بسبب أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرونه ، فلا يفهمون أمر الله ولا أمر رسوله (4)
والشاهد – هنا – قوله تعالى ( نظر بعضهم إلى بعض )؛ أي : نظر استهزاء وسخرية .
__________
(1) ) انظر محمد بن مصلح (ت951 هـ /1544م ) ، حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي ، ضبطه محمد عبد القادر شاهين ، الجزء 4 ، الطبعة 1، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م ، ص 535
(2) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء3 ، ص 204
وانظر محمود الآلوسي (ت1270 هـ /1854م ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1994م ، ص 74 .
(3) ) انظر عبد الحق بن عطية ( ت 546 هـ / 1151م) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق عبد الله الأنصاري وعبد العال إبراهيم ، الجزء 7 ، الطبعة 1 ،طبع على نفقة أمير قطر ، 1984 م ، ص 87 .
(4) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 7 ، ص 87.
وانظر الصابوني ، صفوة التفسير ، مرجع سابق ، الجزء 5 ، ص 54.
وانظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 531.(1/60)
قال الزمخشري "( نظر بعضهم إلى بعض ) تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي وسخرية به" (1)
فالمنافقون يستخدمون حركة عيونهم – وهي : الغمز – للاستهزاء بدين الله- سبحانه وتعالى- ؛ فهم يحركون بعض أعضاء جسمهم استهزاء بدين الله ، وهذا هو الأسلوب المراد بيانه.
ومن الآيات التي عرضت هذا الأسلوب الاستهزائي للكفار :
1- يقول تعالى (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50)أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) (2)
2- يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) (3)
وستُعرض هذه الآيات بتفسيرها في مواضع متعددة من هذا البحث.
الأسلوب الثامن : التندر بالله وآياته ورسله
يقول تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (4)
__________
(1) ) الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء2 ،ص 310.
(2) ) سورة الإسراء / 50-51.
(3) ) سورة المطففين / 29-30.
(4) ) سورة التوبة / 65- 66.
هاتان الآيتان مدنيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ، ص 3.(1/61)
لقد استهزأ رجل من المنافقين بالله وآياته ورسوله – وذلك: في غزوة تبوك – فقال : " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ! فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقا بحَقَبِ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . تنكبه الحجارة ، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ! ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : أبا الله و آياته ورسوله كنتم تستهزئون ،لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" (1)
وسبب النزول – هذا – رواه الطبري بسند حسن ، وقد سبقت دراسة الإسناد والحكم عليه في المبحث الثاني.
وقد جُعل استهزاؤهم بالقراء استهزاء بالله وآياته ورسوله ؛ لأن القراء يؤمنون بالله ويتعلمون آياته ويتبعون رسوله . والمنافقون استهزأوا بالقراء لأنهم قراء، وليس لأشياء اجتماعية فيما بينهم.
ولقد أورد ابن جرير الطبري روايات أخرى حول سبب نزول هاتين الآيتين ولكنها روايات مرسلة . منها :
__________
(1) ) محمد بن جرير الطبري (ت310 هـ /923م ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، تحقيق محمود شاكر ، الجزء 14 ، دون ذكر الطبعة ، دار المعارف، مصر ،دون ذكر تاريخ النشر ، ص ص 333-334.(1/62)
روى ابن جرير بسنده عن قتادة قال " بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه ناس من المنافقين ؛ فقالوا :يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها ! هيهات هيهات ! . فأطلع الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – على ذلك فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: احبسوا عليّ الركب فأتاهم ؛ فقال : قلتم كذا ، قلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب ! فأنزل الله - سبحانه وتعالى - فيهم ما تسمعون" (1)
والشاهد من هذا ؛أن الكفار استهزأوا بأسلوب التندر بالقراء ووصفوهم بأنهم كثيرو الأكل ، كاذبو اللسان ، جبناء عند اللقاء . وكذلك – كما في الروايات الأخرى المرسلة – تندروا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وما كان يعدهم به .
وكم هم الذين يتندرون بعلماء المسلمين ؛ ويقولون: إنهم أصحاب بطون بالعة للطعام ، وأصحاب ألسن دربة بالكلام . وما استهزاؤهم – هذا- لوقوع عالم بمخالفة الشريعة ، وإنما هو استهزاء عام من كل علماء المسلمين ؛ حيث اتخذوا استهزاءهم بالعلماء ذريعة للاستهزاء بالعقيدة والشريعة . فالله المستعان .
الأسلوب التاسع : التحدي بقصد الاستهزاء
__________
(1) ) الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 334.
وللاطلاع على الروايات المرسلة الأخرى عن مجاهد وغيره انظر المصدر ذاته ، الجزء 14، ص ص 334-335.(1/63)
يقول تعالى : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(22)قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) (1)
أرسل الله - سبحانه وتعالى -هوداً - عليه السلام- إلى عاد ، وقد كانوا يسكنون الأحقاف (2) ، فأنذر قومه ودعاهم إلى عبادة الله وحده ، وحذرهم من العذاب العظيم ، فقال قومه قولة السفهاء : أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا فإتنا بالعذاب الذي تعدنا به ، ولكن هوداً - عليه السلام- أرجع الأمور إلى الله فقال: ( إنما العلم عند الله )إن كنتم تستحقون العذاب ، أما أنا فإني مبلغ فقط (3)
والشاهد في هذه الآية أن قوم هود - عليه السلام- استهزأوا به ؛ حيث طلبوا العذاب مستعجلين مستهزئين فأصابهم ما كانوا يستهزئون . يقول أبو السعود " (وحاق بهم ما كانوا يستهزئون ) (4) من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )" (5)
__________
(1) ) سورة الأحقاف / 21-23.
هذه الآيات مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 167.
(2) ) الأحقاف جمع: حِقْف ، والحقف : المعوج من الرمل ، والأحقاف في الآية ديار عاد .
انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 80.
(3) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق، الجزء 4 ،ص ص 204-205.
(4) ) سورة الأحقاف / 26.
(5) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص
77 .(1/64)
فالكفار كانوا يستهزئون من نبيهم هود - عليه السلام- بأسلوب التحدي ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) ومقصودهم من هذا التحدي هو الاستهزاء.
المبحث الخامس : كفر المستهزئين بالإسلام ودعاته :
يقول تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (1)
تبين هذه الآيات حذر المنافقين من أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين من النفاق (2)
فهددهم الله وقال لنبيه ( قل استهزئوا إن الله مخرج ما كنتم تحذرون ) ؛ أي استهزئوا – وهذا أمر تهديد – ( إن الله مخرج ما كنتم تحذرون ) من إظهار مخازيكم ومثالبكم على ملأ الناس (3)
__________
(1) ) سورة التوبة / 64-66.
هذه الآيات مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ، ص 3.
(2) ) الضمائر في ( عليهم ) و ( تنبئهم ) تعود على المؤمنين . وفي (قلوبهم) تعود على الكافرين
انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 272.
ويجوز غير ذلك
انظر المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 273.
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 341.
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص
166.(1/65)
ولكن المنافقين وقعوا في المحذور ، واتخذوا الاستهزاء صنعة نفاقهم . وبعد ذلك تشير الآيات إلى حادثة استهزائية وقعت من المنافقين في غزوة تبوك ، حيث استهزأ المنافقون بالقراء ووصفوهم بأنهم أرغب بطونا وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء (1)
وقد سبق بيان الحكم على هذه الرواية في المبحث الثاني، وسبق – أيضاً - ذكر بعض الروايات الأخرى . والحكم عليها والإشارة إلى غيرها’ وذلك في المبحث الرابع .
وعندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين عن فعلتهم ما كانت حجتهم إلا أن قالوا ( إنما كنا نخوض ونلعب ) فجعلوا الخوض واللعب في الدين أمراً جائزاً ولكن اللعب والخوض في آيات الله استهزاء ؛ والاستهزاء كفر ؛ فجاء الرد عليهم ( قل أبالله و آياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ).
وبعد إثبات كفرهم نهاهم الله عن الاعتذار " والاعتذار : التنصل من الذنب وأصله من تعذرت المنازل ؛ أي درست وانمحت آثارها، فالمعتذر يزاول محو ذنبه" (2) ؛ ولذلك نهوا عن الاعتذار؛ لأن الكفر قد وقع منهم وكان منهم ما كان.
والشاهد – هنا – أن الاستهزاء كفر ، وأن المستهزئ كافر وللاستدلال على هذا، فهذه مجموعة من نصوص العلماء الأعلام تثبت أن الاستهزاء بدين الله كفر ، وبعض هذه النصوص تنقل الإجماع في ذلك .
__________
(1) ) انظر الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ،ص ص333-334.
(2) ) سليمان بن عمر العجيلي ( ت 1204 هـ / 1790م) الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية ، ضبطه وخرج أحاديثه إبراهيم شمس الدين ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1996 م، ص 276.(1/66)
1-يقول ابن العربي المالكي: " لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً وهو كيفما كان كفر ؛ فان الهزل بالكفر كفر ، لا خلف فيه بين الأمة ". (1)
وقوله " لا خلف فيه بين الأمة " يدل عن الإجماع .
2-يقول ابن حزم: " وكان قوله تعالى في المستهزئين بالله وبآياته ورسوله أنهم كفروا بذلك بعد إيمانهم ، فارتفع الإشكال ، وصح يقينا أن كل من استهزأ بشيء من آيات الله وبرسول من رسله فإنه كافر بذلك مرتد " (2)
3-يقول أبو حامد الغزالي " الردة وهي عبارة عن قطع الإسلام من مكلف ؛ إما بفعل كالسجود للصنم وعبادة الشمس وإلقاء المصحف في القاذورات ، وكل فعل صريح في الاستهزاء ، وإما بقول عناداً أو استهزاءً أو اعتقاداً فكل ذلك ردة من المكلف " (3)
4-يقول الزمخشري "( قد كفرتم ) ؛ قد ظهر كفركم باستهزائكم ( بعد إيمانكم ) بعد إظهاركم الإيمان " (4)
__________
(1) ) محمد بن عبد الله بن العربي ( ت 543 هـ / 1149م) أحكام القرآن ، تحقيق عبد الرزاق المهدي ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الكتاب العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص ص 442 –443.
(2)
) أحمد بن علي بن حزم ( ت 456 هـ / 1064م) المحلّى بالآثار ، تحقيق عبد الغفار البنداري ، الجزء 12 ، دون ذكر الطبعة ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، دون تاريخ للطبعة ، ص 437.
(3) ) عبد الكريم بن محمد الرافعي ( ت 623 هـ /1226م) العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ، تحقيق علي معوض وعادل أحمد ، الجزء 11 ، الطبعة 1 ، توزيع مكتبة عباس الباز ، مكة المكرمة ، 1997 م ، ص 97.
(4) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 273.(1/67)
5-يقول ابن الجوزي " (قد كفرتم ) ؛ قد ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء. (1)
6-يقول النووي :" الردة : هي : قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل سواء قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً " (2)
7-يقول ابن تيمية " الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه" (3)
8-يقول ابن كثير " (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) أي بهذا المقال الذي استهزأتم به" (4)
9-يقول الشوكاني : " ( فقد كفرتم ) ؛ أي : أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء " (5)
10-يقول الآلوسي " واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك " (6)
__________
(1) ) عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 598 هـ / 1202م) ، زاد المسير في علم التفسير ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، المكتب الإسلامي ، لبنان ، دون تاريخ ، ص 465
(2) ) محمد الخطيب الشربيني ( ت 977 هـ / 1569م) ، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج على متن منهاج الطالبين للنووي ، علق عليه جوبلي الشافعي ، الجزء 4 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر مكان النشر ، دون تاريخ ، ص ص 123 – 124.
(3) ) ابن تيمية، مجموعة الفتاوى ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص 173.
(4) ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق، الجزء 2 ، ص 484.
(5) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ،
الجزء 2 ، ص 430.
(6) ) محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ /1854م) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، الجزء 6 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1994 م ، ص 190.(1/68)
11-يقول محمد رشيد رضا : " والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله ، وفي صفات الله تعالى ، ووعده ووعيده ، وجعلها موضوعاً للعب والهزؤ كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة وتجري عليه به أحكام الردة إلا أن يتوب ويجدد إسلامه " (1)
وبعد عرض هذه الطائفة من أقوال العلماء يتبين أن المستهزئ بالله أو آياته أو رسوله كافر، وعلى هذا إجماع الأمة كما قال ابن العربي المالكي - آنفا - : " لا خلاف فيه بين الأمة " (2) وقال الآلوسي نحوه (3)
وبعد العرض القرآني الذي يُثبت كفر المستهزئ بالله وآياته و رسوله ، وبعد عرض أقوال العلماء التي تنص على أن المستهزئ بالدين كافر ، خارج من الملة ، وبعد عرض بعض الأقوال التي نصت على أن الإجماع قد انعقد على كفر المستهزئ بدين الله - سبحانه وتعالى -.
وبعد هذا العرض يرد تساؤل لابد منه – ولا أحسبه استطراداً- وهو :
هل وقع الكفر بالمستهزئين بسبب ذات الاستهزاء دون النظر لما في قلوبهم ؟ أو بعبارة أخرى : هل قول الاستهزاء بذاته كفر أم أنه فعل يدل على الكفر ؟
وللجواب عن هذا التساؤل لابد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع يندرج تحت البحث في مسمى الإيمان.
- فهل الإيمان معرفة فقط ؟
- أو هل الإيمان تصديق فقط ؟
__________
(1) ) محمد رشيد رضا ، تفسير القرآن الحكيم ، الجزء 10 ، الطبعة 2 ، دار المعرفة ، لبنان ، دون تاريخ نشر ، ص 531.
وانظر عبد العزيز بن باز العقيدة الصحيحة و نواقض الإسلام ، دون ذكر طبعة ، دار الصميعي ، الرياض ، دون تاريخ نشر ، ص 30.
وانظر محمد سعيد البوطي ، كبرى اليقينيات الكونية- وجود الخالق ووظيفة المخلوق ، الطبعة 8 ، دار الفكر المعاصر ، لبنان ،1993 م ، ص ص 367-368.
(2) ) ابن العربي ،أحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 343.
(3) ) انظر الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، مصدر سابق، الجزء 6 ، ص 190 .(1/69)
- أو أنه قول وعمل وقبل ذلك اعتقاد ؟
و للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة فإنه لابد من بيان مذاهب الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان ثم مناقشة ما ذهبوا إليه وهذا بحث يطول ، و قد بحث في كتب الفرق و العقائد و الرسائل الجامعية (1) و لكن المقام –هنا- هو مقام تفسير موضوعي يبحث في دلالة الآيات بما يخدم الموضوع المراد بحثه .
و لذلك ؛ فعلى الدارسين أن يرجعوا إلى كتاب الله- سبحانه و تعالى- لتقرير عقائدهم ، قبل الرجوع إلى المذاهب الكلامية التي تبحث في العقائد من منظور عقلي ، و قد يكون هذا النظر العقلي المجرد – أحياناً- بمنأى عن الصواب .
فالذين استهزأوا بالله و آياته و رسوله في غزوة تبوك ، أنكروا أن يكون استهزاؤهم عن استحقار لدين الله ، و كفر و لذلك فقد قالوا : (إنما كنا نخوض و نلعب) فرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أبالله وآياته و رسوله كنتم تستهزئون) "حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ، و لا يستقيم ذلك إلا بعد تحقق الاستهزاء و ثبوته" (2) ؛ أي : إن الخوض و اللعب في ذكر الله و آياته و رسوله استهزاء .
و بعد تقرير النبي- صلى الله عليه و سلم- استهزاءهم نهاهم عن الاعتذار فقال : (لا تعتذروا) . و لماذا نهاهم -صلى الله عليه و سلم -عن الاعتذار ؟ و ذلك ؛ لأنهم كفروا بعد إيمانهم الذي كانوا يظهرونه فقال (كفرتم بعد إيمانكم)
فقد حاول المستهزئون أن يدافعوا عن أنفسهم بأن قالوا (إنما كنا نخوض و نلعب) ؛ أي : لسنا جادين في كلامنا ، فكلامنا لعب فقط . و لكنهم رغم اعتذارهم كفروا بالذي قالوه من كلام الاستهزاء ، دون النظر إلى الاعتذارات التي هي أوهن من بيت العنكبوت .
__________
(1) ) انظر سفر الحوالي ، ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ، دون ذكر الطبعة ، مكتب الطيب ، القاهرة ، دون ذكر تاريخ الطبعة .
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 166.(1/70)
فالله -سبحانه و تعالى- “بيّن أن ذلك الاستهزاء كان كفراً ، و العقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز ، فثبت أن قولهم (إنما كنا نخوض و نلعب ) ما كان عذراً حقيقياً في الإقدام على ذلك الاستهزاء ، فلما لم يكن ذلك عذراً في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به ، لان المنع عن الكلام الباطل واجب ، فقال : (لا تعتذروا) ؛ أي : لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم “ (1)
يقول ابن حزم : “ فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع ، و قال تعالى : (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً)الآية
فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج من الإيمان ، و لم يقل تعالى في ذلك إني علمت أن في قلوبكم كفراً ، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء “ (2)
و كلام ابن حزم بيّن واضح في أن الكفر قد وقع على المستهزئين بنفس استهزائهم ، و لم يقل- سبحانه و تعالى - : إني علمت أن في قلوبكم كفراً . إنما كفروا بالاستهزاء ذاته.فدل على أن الاستهزاء مكفر بذاته دون الحاجة إلى النظر إلى ما في قلوب المستهزئين .
و أيضاً فليس الاستهزاء دالاً على الكفر ، بل هو كفر ، و الفرق بينهما هو ما يوضحه قول ابن تيمية :
__________
(1) ) محمد بن عمر الرازي (ت606 هـ / 1210م ) ، مفاتح الغيب ، الجزء 16 ، الطبعة 2 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997م، ص 94 .
(2) )على بن أحمد بن حزم (ت456 هـ / 1064م )، الفصل في الملل و الأهواء و النحل ، الجزء 2 ، الطبعة2 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م ، ص 224.(1/71)
" فهؤلاء القائلون بقول جهم و الصالحي ، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله و التكلم بالتثليث ، وكل كلمة من كلام الكفر ، ليس هو كفراً في الباطن ، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر ، و يجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله ، موحداً له ، مؤمناً به .
فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا : هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن ، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك . فيقال لهم : معنا أمران معلومان :
أحدهما : معلوم بالاضطرار من الدين .
والثاني : معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل .
أما الأول : فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره ، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره ، ومن استهزأ بالله وآياته و رسوله فهو كافر باطناً و ظاهراً ، و أن من قال : إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله ، و إنما هو كافر في الظاهر ، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين .
و قد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن ، و حكم بكفرهم و استحقاقهم الوعيد بها ، و لو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم . أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر ، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقاً و قد تكون كذباً ، بل كان ينبغي ألا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة ، و هذا كقوله تعالى :
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) {المائدة / 73 } (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) {المائدة / 72 } و أمثال ذلك .(1/72)
و أما الثاني : فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول ، و أنه رسول الله ، و كان محباً لرسول الله معظماً له ، امتنع مع هذا أن يلعنه و يسبه ، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به و بحرمته ، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون أيماناً إلا مع محبته و تعظيمه بالقلب " (1)
و بقول ابن تيمية يتضح أن الاستهزاء عمل كفري يخرج صاحبه من الملة ، و تبين –أيضاً- أن قول القائلين بأنه عمل يدل على الكفر قول خطأ .
و تبين الفرق بين أن يكون الاستهزاء كفراً ، و بين أن يدل على الكفر ؛ فإذا كان كفراً ؛ فإن فاعله كافر ظاهراً و باطناً عند الله - سبحانه و تعالى - ، و إذا كان الاستهزاء فعلاً يدل على الكفر ؛ فإن فاعله كافرٌ ظاهراً و قد يكون مؤمناً في باطنه ، عند الله - سبحانه وتعالى -.
و يقول الرازي وهو يبين الأحكام التي تدل عليها آية التوبة / 66 : " الحكم الثاني أنه يدل على بطلان من يقول : الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب " (2)
إن الكفر ليس فعل القلب فقط ، فإن الكفر يقع من فعل الجوارح كاللسان و اليد وغير ذلك ، أما من يقول بأن الكفر لا يقع إلا إذا اعتقد القلب الكفر فقط ، فهذا قول ترده الآية .
فإذا استهزأ مستهزئ بالقرآن الكريم استهزاءً صريحاً فلا يقال له : هل تعتقد هذا الاستهزاء ؟ لأن السؤال هنا ليس له مبرر ؛ لأن ذات فعله للاستهزاء هو كفر .
إذن ؛ فالمستهزئ بدين الله سبحانه و تعالى كافر ، فإذا كان مسلماً و استهزأ فإنه يعامل معاملة المرتد .
__________
(1) ) ابن تيمية ، مجموعة الفتاوى ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص ص 340-341 .
(2) ) محمد بن عمر الرازي (ت606 هـ / 1210م ) ، مفاتيح الغيب ، الجزء 16 ، الطبعة 2 ،دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997م ، ص 95 .(1/73)
و لو أن المسلمين في زماننا هذا حكموا كتاب الله في المستهزئين لما " تجرأ الملاحدة زعماء وكتاباً على دين الله سخرية و استهزاء ، و أصبح هذا ميداناً للزعماء و المفكرين ، و ملهاة للشعراء و الصحفيين ، و جرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام فأصبحت في بعض الأحيان و البلدان كالسلام !!" (1)
قل يا أخي للهازئين توقفوا
فالكفر حكم الله فيكم فاعرفوا
لو حُكَّم القرآن في أعناقكم
ضربت بسيف صارم لا يرأفُ .
الفصل الثاني : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام وشريعته و الرسل –عليهم السلام- و المؤمنين ، و الرد على المستهزئين ، و بيان عاقبة المستهزئين في الدنيا و الآخرة .
المبحث الأول : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام و شريعته
تمهيد : و فيه : بيان أن الاستهزاء بدين الله مقصد من مقاصد الكفار
يقول تعالى : (وَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6)وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7)) (2)
قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ؛ حيث كان يشترى المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى مغنيته لتفتنه ، فتطعمه هذه الغاوية ، وتسقيه و تغني له ، وكل ذلك إغواءً و صداً له عن دين الله (3) .
__________
(1) ) الحوالي ، ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ،مرجع سابق، الجزء 1 ، ص 83.
(2) ) سورة لقمان / 6-7
هاتان الآيتان مكيتان
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 137 .
(3) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 49 .(1/74)
و قيل نزلت في النضر بن الحارث ، و لكن لأنه اشترى كتب الأعاجم ، فكان يضحك مما يخبر به النبي- صلى الله عليه وسلم- الناس ، و يقول : عندي حديث خير من حديث محمد ، و يُحدثهم بأحاديث ملوك الفرس (1)
ومما روي – أيضاً- في سبب النزول : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تبيعوا القينات ، ولا تشتروهن ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل ذلك أنزلت عليه هذه الآية (وَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية " (2)
__________
(1) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 14 ، ص 49 .
(2) ) رواه الترمذي وقال : " هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة ، وعلي بن يزيد يضعّف في الحديث ، قال : سمعت محمدا يقول : القاسم ثقة ، وعلي بن يزيد يضعّف "
محمد بن عيسى بن سورة ( ت 279 هـ / 893م ) الجامع الصحيح ، تحقيق كمال يوسف الحوت ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1987م ، ص ص 322-323.
وانظر المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص ص 579 – 580.
وأخرج الطبري نحوه بثلاث روايات من طريق واحدة ، وهي : طريق عبيد الله بن زحْر عن علي بن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا . وهي الطريق التي أخرج بها الترمذي حديثه .
ولكن روايات الطبري اختلفت في لفظ مؤثر في المعنى وهو :
1. ... وفيهن نزلت هذه الآية .
2. ... وفيهن أنزل الله علي هذه الآية .
3. ... وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله .
انظر محمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ / 923م ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الجزء 10 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999 م ، ص 204 .
بينما أتت رواية الترمذي – في كتاب التفسير – بلفظ " في مثل ذلك أنزلت عليه هذه الآية "
انظر الترمذي ، الجامع الصحيح ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 322 .
أما ما أخرجه الترمذي في كتاب البيوع فهو بلفظ : " في مثل هذا أنزلت هذه الآية " ،. دون لفظ ( عليه ) . وتغير المعنى واضح .
انظر المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص 579 .
وعند النظر في إسناد الحديث الذي أخرجه الترمذي في كتاب التفسير والنظر في إسناد الحديث الذي أخرجه في كتاب البيوع ؛ يتبين أن الإسنادين هما إسناد واحد ؛ وهو : حدثنا قتيبة أخبرنا بكر بن مضر عن عبيد الله بن زحر به.
ولعل الاختلاف في اللفظ بزيادة ( عليه ) من خطأ النساخ . والأصل حذفها . والله أعلم
ولكن على كل حال ؛ فالحديث ضعيف ؛ لأن عبيد الله بن زحر صدوق يخطئ .
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 311 .
والسبب الثاني – وهو الأهم - : أن علي بن يزيد الألهاني ضعيف .
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ،مصدر سابق ، ص 345
وكذلك فقد ضعف البخاري علي بن يزيد ونقل الترمذي تضعيف البخاري .
انظر الترمذي ، الجامع الصحيح ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 323 .(1/75)
و أما لهو الحديث فقد قيل : إنه الغناء ، و قيل : الشرك . و قد أورد الطبري أقوال المفسرين من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود . و من التابعين كعكرمة و مجاهد في بيان معنى ( لهو الحديث )،و مفاد هذه الأقوال أن لهو الحديث هو : الغناء . و كذلك أورد الطبري أقوالاً أخرى بأن لهو الحديث هو : الشرك (1)
و لكن ابن جرير الطبري قال – بعد أن أورد هذه الأقوال- : " و الصواب من القول في ذلك أن يقال : عنى به كل ما كان من الحديث ملهياً عن سبيل الله ، مما نهى الله عن استماعه و رسوله ، لأن الله تعالى عم بقوله (لهو الحديث) و لم يخصص بعضاً دون بعض ، فذلك على عمومه ، حتى يأتي ما يدل على خصوصه ، و الغناء و الشرك من ذلك " (2)
و لكن ، لماذا يشترى هؤلاء الناس لهو الحديث ؟ إنهم يشترونه ليضلوا عن سبيل الله . يقول الشوكاني : " و اللام في (ليُضل عن سبيل الله) للتعليل " (3) . و هذا هو الدافع الأول لشراء لهو الحديث .
أما الدافع الثاني فهو اتخاذ سبيل الله سبحانه و تعالى هزواً . وسبيل الله هو دينه.
يقول أبو السعود : " (و يتخذها) بالنصب عطفاً على يُضل . والضمير للسبيل ، فإنه مما يذكر و يؤنث ،و هو دين الإسلام أو القرآن ؛ أي : (و يتخذها هزواً) مهزواً به " (4)
__________
(1) ) انظر محمد بن جرير ( ت 310هـ / 923م ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الجزء 10 ،
الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م ، ص ص 202-205
(2) )المصدر ذاته ، الجزء 10 ، ص 205
(3) )الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 270
(4) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 186 .
و قد قرئت (و يتخذها) بالرفع عطفاً على يشتري . و هذه قراءة الجمهور . و قرأ حمزة و الكسائي و الأعمش (و يتخذها) بالنصب عطفاً على يضل ..
انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 270 .(1/76)
فالذي يُفهم من كلام أبي السعود أن الهدف الثاني من شراء لهو الحديث هو : اتخاذ سبيل الله هزواً ، و سبيل الله هو : دين الإسلام أو القرآن .
فالكفار يبذلون أموالهم ، و جهدهم ، وأوقاتهم التي هي أعمارهم المحدودة ، كل هذا لأجل الصد عن دين الله ، و كذلك لأجل اتخاذ دين الله مادة سخرية واستهزاء .
فكم هي الجهات الكافرة التي تنفق الأموال الكثيرة ، و ذلك في إعداد المستشرقين الذين يكتبون لهو الحديث ليصدوا عن سبيل الله و ليتخذوها هزواً .
و كم هي التكاليف الباهضة التي ينفقها الغرب الكافر في إنشاء قنوات فضائية تبث برامج متنوعة ، هدفها الصد عن سبيل الله ، وكذلك الاستهزاء بدين الله - سبحانه وتعالى -.
و كثيرٌ هم الكتاب و الصحفيون الذين يبذلون أوقاتهم و عصارة أفكارهم المنتنة في كتابات تعبوا في إعدادها و تبييضها و تنقيحها ، ثم بذلوا جهد غير قليل في إيصال ما كتبوه إلى المطبعة كي يرى النور .
و لكن الهجمة في هذه الأيام شديدة المكر ، و هي أشد مكراً مما مضى ؛ لأن الاستهزاء الجاهلي كان صريحاً غير مداهن و لا متوارٍ ، ولكن ما يحصل في أيامنا هذه أشد مكراً ؛ لأن المستهزئين في مجتمعاتنا الإسلامية يقولون: نحن مسلمون ونحب ديننا .ويؤكدون على الالتزام التام بالدين الحنيف ، و لكنهم يستهزئون بالإسلام عقيدةً و شريعة .
و على كلٍّ، فالذي فعله الجاهليون السابقون من شراء لهو الحديث ، لأجل الصد عن دين الله ولاتخاذه هزواً ، يتكرر في مجتمعاتنا في صور مختلفة الألوان ، و لكنها متفقة المحتوى و المضمون .(1/77)
فليستهزئوا كما يريدون، فإن الله أعد لهم عذاباً مهيناً . يقول الله تعالى (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) ؛ " أي : كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر . ثم قال تعالى : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَ قْرًا) ؛ أي : هذا المقبل على اللهو و اللعب و الطرب ، إذا تليت عليه الآيات القرآنية ، ولّى عنها ، و أعرض و أدبر و تصامم و ما به من صمم ، كأنه ما سمعها ؛ لأنه يتأذى بسماعها ، إذ لا انتفاع له بها ، و لا أرب له فيها ، (فبشرهن بعذاب أليم) أي يوم القيامة ، يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله و آياته " (1)
المطلب الأول : استهزاء الكفار بعقيدة الإسلام .
أولاً : استهزاء الكفار بالله سبحانه وتعالى .
يقول تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (2) .
تعرض هذه الآية جزءاً من الحوار الذي دار بين موسى - عليه السلام – وفرعون – لعنه الله - . وتبين هذه الآية كيفية استهزاء فرعون الطاغية برب العالمين .
وقد استخدم فرعون أسلوب الاستفهام بقصد الاستهزاء بالله – سبحانه وتعالى – ؛ حيث إن فرعون بدأ يسأل موسى – عليه السلام - سؤال الساخر الهازئ " عن صميم دعوته ، ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم .
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) إنه – قبحه الله – يسأل : أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول أنك من عنده رسول ؟
__________
(1) ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص ص 583-584
(2) ) سورة الشعراء / 23
هذه الآية مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 13 ، ص 84 .(1/78)
وهذا سؤال المتنكر للقول من أساسه ، المتهكم على القول والقائل ، المستغرب للمسألة كلها ؛ حتى يراها غير ممكنة التصور ، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث " (1)
ففرعون يريد الاعتراض على دعوة موسى ؛ ولذلك بدأ بالاستفسار عن حقيقة الله المرسل . (2)
والشاهد- هنا - أن هذا الاستفسار التهكمي كان استهزاء بالله رب العالمين .وهذا الاستهزاء برب العالمين ما زال إلى الآن ، حتى أن بعض من يُسمّون بالأدباء والشعراء يستهزئون بالله – سبحانه وتعالى – في رواياتهم و قصصهم و أشعارهم . (3) .
وإذا نظر القارئ في تضاعيف ديوان بدر شاكر السياب ، وجده يستهزئ بالله – سبحانه وتعالى - ، بل وبمحمد – صلى الله عليه وسلم - ، بل بالكعبة أيضاً .
يقول بدر شاكر السياب :
" فنحن جميعاً أموات
أنا ومحمد والله
وهذا قبرنا
أنقاض مئذنة معفرة
يكتب عليها اسم محمد والله
على كسرة من الآجرّ والفخار ( ... )
والكعبة المحزونة المشوهة " (4)
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 19 ، ص 2592 .
(2) ) انظر البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 153 .
(3) ) وللاطلاع على عدة نماذج من استهزاء من يسمون بالأدباء والشعراء – بالله سبحانه وتعالى ؛ فانظر – إن شئت - :
عبد العزيز مصطفى " أقلام الردة أما آن لها أن تنكسر" ، البيان ، دون ذكر للمجلد ، العدد 125 ، لندن ، 1998 م ، ص ص 73-77 .
وانظر محمد سعيد القحطاني ، الاستهزاء بالدين وأهله ، الطبعة 2 ، مكتبة السنة ، القاهرة ، ص ص 32-34 .
(4) ) بدر شاكر السياب ، ديوان بدر شاكر السياب ، الجزء 1 ، دون ذكر الطبعة ، دار العودة ، بيروت ، 1971 م ، ص ص 395-396 .(1/79)
وهذا مثال واحد فقط ، ولولا مخافة تحوّل هذا البحث من بحث تفسيري إلى بحث أدبي ، لكانت الأمثلة الأدبية الهازئة أكثر . فقد كانت اتجاهات الأدباء " بعيدة عن الإسلام ، بل منسلخة تماماً من الدين ، إن لم تكن ساخرة مستخفة مستهزئة ، متجهة إلى الغرب وأفكاره وأدبائه وفلاسفته " (1)
أما استهزاء من يسمون أنفسهم بالمنظرين والمفكرين فإن محمد قطب ذكر مثالاً عن واحد منهم ؛ حيث يقول محمد قطب : " وكتب أحد الشيوعيين ( ولم يذكر اسمه ) - بمناسبة الخير المزعوم الذي كان سيفيض على البلاد من جراء السد العالي - : إن هذه الصحراء قد بقيت في يد الله ملايين السنين ، فظلت كما هي صحراء جرداء فلما تسلمها الإنسان حولها إلى مروج خضراء " (2)
فهذا الشيوعي يستهزئ بقدرة الله – سبحانه وتعالى – وأن الله – سبحانه وتعالى – لم يستطع خلال ملايين السنين أن يحول الصحراء الجرداء إلى مروج خضراء .
وقد جهل هذا الجهول بأن الذي خلق المروج الخضراء هو الله – سبحانه وتعالى - ، وأن الذي خلق مياه السد العالي هو الله وأن الذي خلق العقول المفكرة والأيدي العاملة هو الله . وقد جهل – أيضاً – أن لله سننا يسير الكون وفقها ، ولا يتخلف عنها إلا بإذنه ، ولكن المستهزئين عمُوا وصمّوا ، ثم عموا وصمّوا ، فازداد كفرهم حتى ظهر بصورة الاستهزاء .
ثانياً : استهزاء الكفار بكلام الله سبحانه وتعالى
يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ(10)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (3)
__________
(1) ) محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، الطبعة 2 ، مؤسسة المدينة للصحافة ، جدة ، 1988 م ، ص 304 .
(2) ) المرجع ذاته ، ص 358 .
(3) ) سورة الحجر / 10-13
هذه الآيات مكية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 415 .(1/80)
فالله – سبحانه وتعالى – أرسل الرسل إلى شيع الأولين ؛ وهي : الأمم السالفة ، وشيع : جمع شيعة ؛ والشيعة : الفرقة المتآلفة المتفقة . (1) . وهذه الأمم السالفة كانت تستهزئ بكل رسول يأتيها . وكما أن الأمم السابقة كانت مستهزئة بكلام الله الذي يلقى إليها ؛ فالله- سبحانه وتعالى – يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأً به غير مقبول ، ويكون قوله : " كذلك " تشبيهاً للاستهزاء المتقدم .
يقول الآلوسي : " ومعنى المثلية : كونه مقروناً بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة . وحاصله أنه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأً به غير مقبول ؛ لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق ، كما ألقى سبحانه كتب الرسل – عليهم السلام – في قلوب أشياعهم مستهزأً بها غير مقبولة كذلك " (2)
فهذه الآيات تبين كيفية تلقي الكفار – بدايةً – القرآن ؛ إنه تلقي الاستهزاء والسخرية ، فالقرآن يدخل قلوبهم ويدخل الاستهزاء معه ؛ لأنهم لا يستحقون الهداية ، والله لا يظلم أحداً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
يقول سيد قطب : " وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم ، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به ( ... ) (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) .
__________
(1) ) انظر عبد العزيز بن عبد السلام ( ت 660 هـ / 1262 م ) تفسير القرآن ، تحقيق د . عبد الله الوهيبي ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار ابن حزم ، لبنان ، 1996 م ، ص 171 .
(2) ) محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854 م ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به محمد أحمد وعمر السلامي ، الجزء 14 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000م ، ص 352 .
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء1 ، ص 416.(1/81)
نسلكه في قلوبهم مكذباً بما فيه ، مستهزأً به ؛ لأن هذه القلوب قلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية ، أم في الأجيال اللاحقة ، فالمكذبون من أمة واحدة ، وطينة واحدة " (1)
إذن ؛ فالاستهزاء عند الكفار هو أساس التلقي ، وهو منطق التدبر في التلقي، وعليه المعوّل عند التلقي وبعد التلقي .
ويقول تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) (2)
يخبر الله – سبحانه وتعالى – الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالذي يتناجى به رؤساء قريش حين جاؤوا يستمعون قراءة الرسول – صلى الله عليه وسلم – سراَ ، فقالوا : إنه رجل مسحور ، سحر فاختلط عليه أمره ، أو أن له سَحَراً ؛ أي : رئة ؛ أي يأكل ويشرب مثلكم فهو بشر وليس ملَكاً . (3)
وهذه الآية تبين – أيضاً -الكيفية التي يتلقى بها الكفار القرآن الكريم ؛حيث إنهم يتلقونه ويستمعون إليه استماع استهزاء ،وتلقي استهزاء؛لا سماع إيمان، ولا تلقي إيمان .
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن , مرجع سابق ، الجزء 14 ، ص 2129 .
(2) ) سورة الإسراء/ 47
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق، الجزء 10 ، ص 185.
(3) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص ص 400-401.
وانظر عبد العزيز بن عبد السلام ، تفسير القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 220.
وانظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء3 ، ص 62 .(1/82)
والله – سبحانه وتعالى – يخبر نبيه – صلى الله عليه وسلم - بالحالة التي يتلبس بها الكفار حين سماعهم القرآن الكريم . يقول تعالى : (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ) ؛ أي : نحن أعلم وقت يستمعون إليك بما يستمعون به ؛ إنهم يستمعون متلبسين بالاستهزاء . ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم ؛ إنهم يتناجون بالاستهزاء بمحمد- صلى الله عليه وسلم - (1) ، فهم يقولون : إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً وقولهم هذا هو بيان للاستهزاء (2) .
فالشاهد هو أنهم كانوا يستمعون إلى القرآن وهم متلبسون بالاستهزاء والاستخفاف والسخرية والتهكم بالقرآن .
يقول الزمخشري : " ( بما يستمعون به ) من الهزؤ بك وبالقرآن ( ... ) و ( به ) في موضع الحال ؛ كما تقول : يستمعون بالهزؤ ؛ أي هازئين " (3)
ويقول ابن جزي : " ( نحن أعلم بما يستمعون به ) كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء . والضمير في( به ) عائد على ( ما ) ؛ أي نعلم ما يستمعون به من الاستهزاء " (4)
ويقول الآلوسي : "( نحن أعلم بما يستمعون به ) ؛ أي : متلبسين به من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبالقرآن " (5)
__________
(1) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ،الجزء 3، ص 275.
(2) ) انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854م ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به محمد أحمد وعمر السلامي ، الجزء 15، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000م ، ص 115 .
(3) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 627 .
(4) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 477.
(5) ) الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 114.(1/83)
فبعد الوقوف على معنى هاتين الآيتين ؛ تتبين كيفية تلقي الكفار للقرآن الكريم ، وأن هذه الكيفية هي كيفية استهزائية بالقرآن منذ أن يسمعه الكفار إلى حين الانتهاء من سماعه . فعلى قلوبهم ران ، وعلى عقولهم أغشية وأغطية ، بل فيها فساد وخبل .
وبعد هذا العرض القرآني لكيفية تلقي الكفار القرآن ، وكيفية عمل أجهزة الاستقبال عندهم ، يعرض القرآن كيفية تعامل الكفار مع آيات الله بعد سماعها ؛عن طريق بيان كيفية عمل أجهزة الإرسال عند الكفار بعد سماع القرآن ؛ حيث إنهم لا يستمعون القرآن إلا على أجهزة الاستقبال المبرمجة على موجة الاستهزاء ، وكذلك إرسالهم لا يكون إلا بأجهزة مبرمجة – أيضاً - على موجة الاستهزاء .
يقول تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) (1)
فالله - سبحانه وتعالى - يرسل الرسل حتى يبشروا عباده بالجنة والأجر العظيم وكذلك لينذروا عباده من النار والعقاب الأليم ، ولكن الكفار يجادلون وجدالهم جدال بالباطل ، وما هذا الجدال إلا لدحض الحق ؛ أي : إبطاله وإزالته (2)
وأيضاً ؛ فإنهم اتخذوا آيات الله سبحانه وتعالى – وهي : آيات القرآن الكريم – هزواً. وكذلك اتخذوا ما أنذروا به من العذاب والعقاب هزواً أيضاً . (3)
__________
(1) ) سورة الكهف / 56 .
وهذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن , مصدر سابق ، الجزء 10 ، ص 311 .
(2)
) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 308.
وانظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 124.
(3) ) انظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 10 ، ص 382 .
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق , الجزء 1 ، ص 468
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق , الجزء 4 ، ص ص 198- 199 .(1/84)
ويقول- سبحانه وتعالى - : (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8)وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (1)
فهاتان الآيتان تصوران حال الكافر المعاند المستهزئ عند سماع آيات الله ؛ فهو ( يسمع آيات الله ) وهي ( تتلى عليه ) ولكنه ( يصر مستكبراً ) . والإصرار هو : التشدد في الشيء ، والامتناع عن الإقلاع عنه (2)
فهو يسمع آيات الله سماعاً متكرراً وليس سماع مرة عابرة ، وهذا السماع المتكرر مستفاد من الجملة الفعلية ( يسمع آيات الله ) ؛ لأن الجملة الفعلية تفيد الحدوث والتجدد حيناً بعد حين (3) ؛ فهو يسمع هذه الآيات تتلى عليه هو بذاته ؛ تخاطبه وتخاطب قلبه ووجدانه وعقله ولكنه يصر مستكبراً وإنه لأمر عظيم أن يدوم هذا السامع على الكفر بعد سماعه لآيات الله ، وبعد ذلك ( يصر مستكبراً) وزيادة على ذلك ( كأن لم يسمعها ) . وعطف الكلام - في قوله تعالى ( ثم يصر مستكبراً) - بـ ( ثم ) " لاستعظام الإصرار على الكفر بعد سماع آيات الله واستبعاد ذلك في العقل والطبع " (4)
__________
(1)
) سورة الجاثية / 8-9.
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 146 .
(2) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص ص 481-482 .
(3) ) انظر فضل حسن عباس ، البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) ، الطبعة 2 ، دار الفرقان ، أربد ، 1989 م، ص ص 92-93.
(4) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 270 .(1/85)
" وهذه الصورة البغيضة ؛ ولو أنها صورة فريق من المشركين في مكة ، إلا أنها تتكرر في كل جاهلية ، وتتكرر اليوم وغداً ، فكم في الأرض – وبين من يقال : إنهم مسلمون – من يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمع ؛ لأنها لا توافق هواه ،ولا تسير مع مألوفه ، ولا تعاونه على باطله ، ولا تقرّه على شرّه ، ولا تتمشى له مع اتجاه " (1) . ولذلك ( فبشرًّه بعذاب أليم ) على كفره وعلى إصراره على ما هو فيه . (2)
" والبشارة تكون للخير ، وهي هنا للسخرية . فإذا كان لا يسمع النذير ، فليأته الويل المنظور ، من صوت البشير ، زيادة في السخرية والتحقير " (3) .
ولقد جاء أسلوب السخرية بالكفار بشكل واضح في القرآن الكريم ، فكثيراً ما يسخر القرآن بأقوال الكفار وأفعالهم وعقائدهم الزائفة وتصوراتهم التافهة – سخرية لاذعة (4) .
وبعد ذلك ( وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً ). فهو يترقب أن يعلم شيئاً من آيات الله وأحكامه ليتخذها هزواً ؛ إنها نيّة مبيَّتة للنَّيل من القرآن وأحكامه ، نيًّة سوداء قاتمة ، غلفها الكفر بكل سوئه ؛ فإذا وصل إليه خبر الآيات وبلغه شيء منها جعلها هزواً وسخريةً (5) .فلا يتلقى شيئاً من القرآن ولا يسمع آية تتلى عليه ، إلا ليجعل تلقيه وسماعه وسيلة وذريعة للهزء والسخرية بها (6) .
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 25 ، ص 3225 .
(2) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 142 . 58 .
(3) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 25 ، ص 3225
(4) ) انظر حفني ، التصوير الساخر في القرآن الكريم ، مرجع سابق ، ص 31.
وانظر حفني ، أسلوب السخرية في القرآن الكريم ، مرجع سابق ، ص 5.
(5) ) انظر المراغي ، تفسير المراغي ، مرجع سابق ، الجزء 25 ، ص 144.
(6) ) انظر ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، مرجع سابق ، الجزء 25 ، ص 332 .(1/86)
وقد ذكر الزمخشري لطيفة في تفسير هذه الآية ؛ حيث يقول : " ( وإذا ) بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها ( اتخذها ) ؛ أي : اتخذ الآيات ( هزواً ) ، ولم يقل : اتخذه ؛ للإشعار بأنه إذا أحسَّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد - صلى الله عليه وسلم – خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه " (1)
وهذا إنما يدل على النيّة السوداء القاتمة المبيّتة قبل سماع الآيات . بل إنهم بعد سماع الآيات ليضحكون ؛ يقول تعالى : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59)وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (2)
فالكفار يعجبون من القرآن " وتعجبهم منه إنكاره " (3) ؛ أي : إنهم ينكرون القرآن وزيادة على ذلك يضحكون بدل أن يبكوا لما في القرآن من الموعظة البليغة ، بل إنهم على حال من اللهو والغفلة (4) ؛ فهم سامدون ؛ ومعنى سامد : " اللاهي الرافع رأسه " (5)
__________
(1) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 290 .
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 597 .
(2) ) سورة النجم / 59 –61
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 17 ، ص 76 .
(3) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 321.
(4) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 142 .
(5) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص ص 224-225 .
وانظر ابن أبي بكر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 159 .(1/87)
فسبحان الله ! هل يستطيع الإنسان أن يضحك ملأ فيه من شيء لا يُضحك منه ؟ ! وقد يقع مثل هذا إذا كان الضحك ضحكاً مصطنعاً ، أو كان الاستهزاء بالقرآن قد أعمى أعين الكفار ، وصمّ آذانهم ، و أغلق عقولهم ، وغلّف قلوبهم ، فغدوا لا يستمعون إلا بأُذُن الاستهزاء ، ولا يرون إلا بعين الاستهزاء ، ولا يتفكرون إلا بعقل الاستهزاء ، ولا تعقل قلوبهم شيئاً إلا متلبساً بالاستهزاء .
يقول الزمخشري : " ( وتضحكون ) استهزاءً " (1) . وكذا يقول القرطبي (2) والشوكاني (3) وغيرهم (4) .
فوا عجباً من الكفار يضحكون من القرآن ، وفيه الأوامر العظيمة التي تحتاج لرجال كي يحملوها ، وفيه من الأخبار ما ترتعد لها القلوب خوفاً وتجب ، ثم بعد ذلك تضطرب . ففيه ذكر مصارع الغابرين ، وأخبار عذابهم يوم الدين ، وفيه الوعيد والتهديد للعاصين والكافرين . ورغم ذلك هم يضحكون ، تالله إنهم لا يعقلون . ولو كانوا يعقلون لبكوا خشيةً وإيماناً ، ولما ضحكوا استهزاءً وطغياناً .
ويا عجباً للعقلية الكفرية ، عندما تواجهها الحقيقة ، فإنها تتخذ من الضحك أسلوب استهزاء ؛ ومن الاستهزاء أسلوب تملّص وهروب ، وهذا ما فعله الكفار عند سماعهم القرآن.
__________
(1) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص430 .
(2) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 17 ، ص 112 .
(3) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 142 .
(4) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 163 .
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجز5 ، ص 129 .(1/88)
وقد أُقيم عرض للأزياء في أحد فنادق القدس المحتلة ، وقد ظهرت العارضات كاسيات عاريات ، يُظهرهن مفاتنهن أمام الجماهير الناظرة ، وهذا أمر عظيم أن يعصى الله في بيت المقدس المطهَّر ، ولكن الأعظم من ذلك والأدهى والأمرّ أن يُصاحب ذلك العرض عزف موسيقي حتى يلهب مشاعر الجماهير ، وأي موسيقا هذه التي تكون مصاحبة لصوت قارئ يقرأ القرآن !حيث ظهرت الفتيات العارضات مع أنغام الموسيقا المصاحبة لقراءة قارئ يقرأ القرآن بصوت الندي . (1)
فهؤلاء يهود السوء ، يقتلون شعباَ مسلماَ ،ويأخذون أرضنا رغم أنفنا ، بَلْهَ يستهزئون بقرآننا . فصبر جميل والله المستعان !
ثالثاَ : استهزاء الكفار بعقيدة البعث بعد الموت .
يقول تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49)قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50)أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) (2)
__________
(1) ) انظر دون ذكر اسم الكاتب ، " بث آيات من القرآن الكريم على أنغام الموسيقا " ، السبيل ، دون ذكر للمجلد ، العدد ( 342 ) ، عمان ،2000 م ، ص 19.
(2) ) سورة الإسراء / 49 – 51
هذه الآيات مكية .
انظر القرطبي ، الجامع للأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 10 ، ص 185 .(1/89)
فالكفار يستنكرون وقوع المعاد ؛ حيث قالوا : ( أئذا كنا عظاماَ ورفاتاَ)" والاستفهام للاستنكار والاستبعاد . وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفّت عظامه ، وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم ، واختلطت ، عناصر الجسد بغيرها من العناصر ، فكيف يُعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع ؟ فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة الميت إلى حال الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي، كالحجارة والحديد ؛ فهو كقول القائل : أتطمع فيَّ وأنا ابن فلان ؛ فيقول : كن ابن السلطان ، أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي " (1)
والرُّفات : هو ما تكسر وبلي من التبن وكذلك أجساد البشر ونحوهما (2) ، أي إن الله قادر على خلقكم ولو كنتم حجارة أو حديداَ ، أو خلقاَ آخر يكبر في صدوركم ، وما الذي يكبر في صدور الكفار أكبر من الموت ؟ أي لو كنتم الموت بذاته فإن الله سيميتكم – أيها الكفار – وبعد ذلك يبعثكم (3)
وبعد هذه المحاجّة ، يرد الكفار فيقولون : ( من يعيدنا ) مع ما بيننا وبين الإعادة من بَوْن شاسع ومباينة عظيمة ؟ فيأمر الله – سبحانه وتعالى – رسوله أن يقول لهم : إن الذي فطركم – أي : اخترعكم – أول مرة من غير مثال يحتذيه ، ولا أسلوب ينتحيه ، وكنتم تراباَ بلا روح فصرتم تغدون وتروحون ؛ هو الذي يعيد العظام البالية ، والرفات المنتشرة إلى الحياة من جَديد (4)
__________
(1) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، المجلد 3 ، ص 278 . بتصرف .
(2) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ،مصدر سابق ، ص 359 .
(3) ) انظر حسين بن مسعود البغوي ( ت516هـ / 1122م ) ، معالم التنزيل ، حققه محمد النمر وآخران ، الجزء 5 ، الطبعة 2 ، دار طيبة ، السعودية ، 1993م ، ص 98 .
(4) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص136.
وانظر محمد بن أبي العز ( ت792 هـ / 1390م ) ، شرح العقيدة الطحاوية، خرّج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني ، دون ذكر الطبعة ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، دون ذكر تاريخ الطبعة ، ص 407 .(1/90)
فما هو رد الكفار ؟ إنهم يستهزئون من عقيدة البعث بعد الموت بالقول والفعل ؛ أما استهزاؤهم بالفعل فهو : تحريك رؤوسهم نحو النبي – صلى الله عليه وسلم – استهزاء ، يقول تعالى: ( فسينغضون إليك رؤوسهم ) . يقول البقاعي : " أي : يحركونها من شدة التعجب والاستهزاء ، كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون " (1) . وهذا استهزاء بأسلوب تحريك بعض أجزاء الجسم .
وأما الاستهزاء فهو قولهم : ( متى هو ) ؟ وهذا استهزاء بأسلوب الاستفهام المساق لأجل الاستهزاء .
يقول الآلوسي : " ( ويقولون ) استهزاء( متى هو ) ؟ أي : ما ذكرته من الإعادة " (2)
إن العناد والكفر قد بلغا من الكفار مبلغاَ عظيماَ ، موغلا في قلوبهم ، وذلك لأنهم نسوا – أو بالأحرى تناسوا – حقيقة أنهم لم يكونوا شيئاَ ، ورغم ذلك فقد أصبحوا شيئاَ يأكل ويشرب ويتكلم ويعمل ، له عظم ولحم ودم ، وتقوم حياته وفق سنة عظيمة في الدقة والتناسق ، وأبناؤهم أمام أعينهم لم يكونوا شيئاَ مذكوراَ ، سوى نطفة لا تحمل من معاني حياتنا المدرِكة شيئاَ ، ولا روح فيها ومن ثم هي مخلوق له جسد وروح وفكر ومنطق .
إنها العنجهية الجاهلية تحمل أصحابها على الاستهزاء والسخرية من البعث , كأن عقولهم معطلة ، أو كأنه لا عقول لهم . فعندما ذكر البعث استنكر الكفار أن يبعثوا من قبورهم ؛ لأنهم يكونون عظماَ ورفاتاَ ، واستهزأوا بالفعل ، وذلك بهزّ رؤوسهم واستهزأوا بالقول وذلك بسؤالهم : ( متى هو ) ؟
__________
(1) ) البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، مصدر سابق ، الجزء 11 ، ص 439 .
وانظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 628 .
(2) ) الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 118 .
وانظر البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، مصدر سابق ، الجزء 11 ، ص 439 .(1/91)
وعادة سؤال الكفار عن يوم القيامة – يوم البعث – عادة سجّلها القرآن في سورة القيامة ؛ يقول تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (1)
فالكفار يستخبرون النبي – صلى الله عليه وسلم – عن يوم القيامة ، وعن خروجهم من الأجداث بعد صيرورة أجسادهم تراباً (2) . وهذا الاستخبار والاستفهام هو استخبار واستفهام استهزائي ؛ لأن الكفار لا يقصدون من استفهامهم الاستعلام الحق ، وإنما يقصدون الاستهزاء ، فهو مأرب من مآربهم ، ومشرب من مشاربهم ، لا يستغنون عنه ولا يعيشون دونه .
يقول الشوكاني : "( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ) ؛ أي : يستخبرونك على جهة الاستهزاء منهم والإنكار " (3)
ويأمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالرد على الكفار دون الالتفات إلى استهزائهم : يقول أبو السعود :" ( قل ) لهم غير ملتفت إلى استهزائهم ، مغضيا عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة (إِي وَرَبِّي ) " (4)
__________
(1) ) سورة يونس / 53 .
هذه الآية مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 8 ، ص 220 .
(2) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 553.
(3) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 514.
انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3
ص 250 .
(4) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3
ص 250 .(1/92)
وهذا درس للدعاة حتى يتركوا الالتفات إلى المستهزئين ، وأقوال المستهزئين ، وأفعال المستهزئين ؛ لينطلقوا في أفق الحكمة غير ناظرين لما قيل ؛ حتى يمارسوا الدعوة بكل صدر رحب وقلب ثابت قوي ، وحتى يكون جوابهم مبنياً على الحكمة والصواب ، لا على التهاتر والسفه والخفة والطيش ، فالمسلمون بحاجة إلى دعاة خرِّيتين ، يدركون مآل الأفعال ، وأبعاد الأقوال ، وليس إلى دعاة مغفلين ، يفعلون دون أن يفكروا ، أو يفكرون بعد أن يفعلوا .
ومعنى : (إِي وَرَبِّي ) ؛ أي : إن العذاب واقع ؛ لأن كلمة : ( إي ) " كلمة موضوعة لتحقيق كلام متقدم " (1) ، " ومعناها بلى " (2) . فخرج الرد مخرج الجد ، وذلك تصغيراً لشأن استهزائهم بترك الالتفات إليه والعناية بالرد عليه .
وهذا الجواب مؤكدٌ تأكيداً قوياً من وجوه :
الأول : القسم : ( وربي ) ، مع دخول الحرف الخاص بالقسم : ( إي ) .
الثاني : دخول( إن ) المؤكدة : ( إنه لحق ).
الثالث : اللام في : ( لحق ) .
الرابع : اسمية الجملة .
وهذا يدل على أنهم بلغوا الغاية القصوى في الاستهزاء والسخرية والإنكار (3) .
ولن يفوت الكفار من عذاب الله – سبحانه وتعالى- فالعذاب لاحق بهم لن يهربوا منه ولن يخطئهم بل هو واقع بهم لا محالة (4) . وهذا الاستهزاء خرج مخرج الاستفهام. وهو أسلوب كفري في الاستهزاء من الدين وأهله .
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 103 .
(2) ) الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 26 .
(3)
) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 514.
(4) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 335 .(1/93)
ويقول تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ(5)يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ(6)فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ(7)وَخَسَفَ الْقَمَرُ(8)وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(9)يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10)كَلَّا لَا وَزَرَ(11)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (1)
فالإنسان الكافر يريد أن يدوم على فجوره فيما بين يديه من الزمان ، فلا يرجع عن ما فيه من الغيّ والضلال ، فلا يتوب ولا يستغفر ، فهو يقدّم الذنوب ويؤخّر التوبة ، ماضٍ في ضلاله ، ساعٍ في غياهب غيّه ، يريد أن يستغل عمره القادم في الفجور والضلال والمآثم (2)
ومن تمرد هذا الإنسان الماضي في فجوره ؛ أنه يسأل عن يوم القيامة ، سؤال استبعاد ، بل وزيادة على جحوده وكفره وعناده ، فإنه يستهزئ بيوم القيامة ، ويسأل سؤال استبعاد وكفر – وأيضاً – واستهزاء عن موعد يوم القيامة ؛ يقول الشوكاني : " يسأل متى يوم القيامة سؤال استبعاد واستهزاء" . (3)
__________
(1) ) سورة القيامة / 5-12
هذه الآيات مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 19 ، ص 84 .
(2) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 661.
(3) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 514 .(1/94)
فهم يسألون بـ ( أيّان ) ومعنى ( أيّان ) : " وقت الشيء ، ويقارب معنى ( متى ) " (1) . " والسؤال بـ ( أيّان ) – هذا اللفظ المديد الجرْس يوحي باستبعاده لهذا اليوم ، وذلك تمشياً مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره ، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة ، والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر ، ومصدّ للقلب المحب للفجور ، فهو يحاول إزالة هذا المصدّ وإزاحة هذا اللجام ؛ لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب .
ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها ، سريعاً خاطفاً حاسماً ، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم وجرْس الألفاظ ، وكان مشهداً من مشاهد يوم القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية ، والمشاهد الكونية :
( فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر ) .
فالبصر يخطف ويتقلّب سريعاً سريعاً تقلّب البرق وخطفه ، والقمر يخسف ويطمس نوره ، والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق ، ويختل نظامها الفلكي المعهود ، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق .
في وسْط هذا الذعر والانقلاب ، يتساءل الإنسان المرعوب : ( أين المفر ) ؟ ويبدو في سؤاله الارتياع والفزع وكأنما ينظر في كل اتجاه فإذا هو مسدود دونه ، مأخوذ عليه " (2)
فهم يستهزئون بيوم القيامة وأي شيء في يوم القيامة يُستهزأ منه ؟! أيُستهزأ من إخراج العظم والرفات من القبور ؛ لتدب فيها الحياة من جديد ؟!أم يُستهزأ من الحشر والحساب والصراط والعذاب ومساءلة الله العاصين ؟! أهو يوم القيامة أم شيء في قلوب المستهزئين يدفعهم إلى حمأة الرذيلة التي يغوصون فيها ؟ !
__________
(1) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 103.
(2) ) سيد قطب، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 29 ، ص 3769 .(1/95)
فيوم القيامة يوم مخيف يخافه الطائعون قبل أن يخافه العاصون ، ولذلك ؛ فهم له عاملون ، وعمّا نهاهم ربهم يبتعدون
إذن ؛ فعقيدة البعث كانت موضع استهزاء من الكفار الأغبياء ، وهذا ديدنهم فهم جميعاً أغبياء ، في كل زمان وكل مكان ، مهما بلغوا من المراتب العلمية واشتهروا بالألقاب البهيّة ؛ لأنهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ومن كان هذا شأنه فالإخفاق سبيله والضلال قرينه .
وخلاصة ما ذكر هو أن الكفار يستهزئون من الله – سبحانه وتعالى – الخالق العظيم ، الذي أتقن كل شيء خلقه وخلق الإنسان في أحسن تقويم .
فما هو الشيء الذي فعله الله – سبحانه وتعالى - حتى يكون مادة استهزائية عند الكفار؟ ! وما الشيء الذي في صفاته – جل وعلا – يستهزأ ؟ ! فلقد خلق الكون وأنعم على عباده نعمه الظاهرة والباطنة ، وقدر الأقوات والأعمار والأرزاق ، ولم يترك عباده هملاً ، بل بعث عليهم الرسل مبشرين بالجنة ومرغبين بها ، ومنذرين من النار ومحذرين منها . ولكن الكفار يستهزئون بالله – سبحانه وتعالى - لا لشيء ، وإنما لأنهم يريدون الاستهزاء فقط ، يريدون أن يستهزئوا من غير ما مبرر منطقي لفعلهم .(1/96)
ولقد استمر الاستهزاء بالله – سبحانه وتعالى – إلى هذه الأعصار ، وحل قريبا من هذه الديار ؛ حيث سخر بهم من يقولون عن أنفسهم : إنهم أدباء وشعراء . وهم قليلو حياء بلداء . وقد سبق نقل كلام بدر شاكر السياب ، وكيف يقول عن نفسه : إنه ميت ، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً ، وكذلك فمحمد – صلى الله عليه وسلم – مثله ، وكذلك رب العزة مثله أيضاً.- فتعالى الله عما يقول هذا الجهول علواً كبيراً – ويصف المئذنة بأنها قبره وقبر محمد – صلى الله عليه وسلم – وقبر الله – سبحانه وتعالى – مشيرا إلى أن المساجد هي مكان الموت ، وترك العمل الجاد المفيد . وهكذا يتابع استهزاءه بالكعبة المشرفة فيقول " والكعبة المحزونة المشوهة " (1) تعالى الله عما يقول هذا العابث اللاهي .
والأصل في هذه الدواوين – إن جاز التعبير بتسميتها بالدواوين – أن لا تنشر في بلاد المسلمين ، وينبغي أن يعاقب أهلها وفق ميزان الشرع .
والمستهزئون لا يقفون عند الاستهزاء بالله - سبحانه وتعالى – بل ويستهزئون بما أنزل من القرآن ، ولذلك ؛ فإن الله أدخل القرآن في قلوبهم مقروناً بالاستهزاء . وما أن يسمع المستهزئون آية من آيات الله إلا ويسخرون من كل آيات الله – سبحانه وتعالى – وما ذلك إلا لنيّة الاستهزاء المنتنة التي عششت في قلوبهم ؛ فنبتت ورسخت وكبرت وصعب اجتثاثها فأنى لهم الهداية بعد ذلك . فهم إذا سمعوا آيات الله ضحكوا مستهزئين ؛ لأن الاستهزاء قد بلغ في قلوبهم مبلغاً عظيماً فزاد وعظُم ، حتى خرج من حناجرهم ضحكاً به يتفكهون وغداً – من ضحكهم – سيبكون .
__________
(1) ) السياب ، ديوان بدر شاكر السياب ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص 396 .(1/97)
وأما إذا أخبر الكفار عن بعثهم من القبور ، فإنهم يستهزئون ، ويحركون رؤوسهم استهزاء ، وكأن الله الذي خلقهم من قبل من غير ما شيء ، عاجز أن يخلقهم بعد من شيء . إن هم إلا يعاندون ، ومن مصيرهم بعد الموت يستهزئون ، وهيهات هيهات ما يظنون ، إن هم من الأجداث يبعثون ، وعما قليل إلى ما كانوا يستهزئون سينظرون .
المطلب الثاني : استهزاء الكفار بشرائع الإسلام .
يقول تعالى : (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (1)
لقد كان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قاموا لا قاموا ، صلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا . على طريق الاستهزاء والضحك ؛ فأنزل الله هذه الآية " (2)
ويقول ابن جرير الطبري : " وإذا أذّن مؤذّنكم – أيها المؤمنون – بالصلاة سخروا من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ولعبوا من ذلك ( ... ) ولو عقلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب ما فعلوه " (3) .
فالكفار يسخرون من النداء للصلاة ، علماً بأن النداء إلى الصلاة لا يحمل إلا معانياً ساميةَ عظيمةً ، ففيها تكبير الله – سبحانه وتعالى – والشهادة بوحدانيته ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم - والدعوة إلى الصلاة والفلاح ، وليس في هذا الأمر ما يدعو إلى الضحك أو السخرية أو الاستهزاء أو اللعب .
__________
(1) ) سورة المائدة / 58
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 3 .
(2) ) علي بن أحمد الواحدي ( ت468 هـ / 1076م ) ، أسباب النزول ، ضبطه عبد القادر شاهين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000م ، ص 104 .
(3) ) محمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ / 923 م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، مصدر سابق، الجزء4 ، الطبعة 3 دار الكتب العلمية، لبنان , 1999م ، ص 631 .(1/98)
ولكن الكفار يستهزئون مما لا يُستهزأ منه ( وذلك بأنهم قوم لا يعقلون )
" إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين على ذلك ، فدخلوا على رسول الله وقالوا : يا محمد! لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية ، فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء من قبلك ولو كان في هذا الأمر خير ، كان أولى الناس به الأنبياء والرسل من قبلك . فمن أين لك صياح كصياح العير ؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من كفر !! " (1)
وقد ذكر الواحدي أن هذه الآية " نزلت في رجل من نصارى المدينة ، وكان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله، قال : حرِّق الكاذب ، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم ، وأهله نيام ، فتطايرت منها شرارة ، فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله " (2)
ويحتمل أن يرجع الضمير في( اتخذوها ) إلى الصلاة أيضاً (3)
وسواء كان الاستهزاء بالأذان أو الصلاة فلا مبرر له . فما الصلاة إلا عبادة مباركة زكية ، يناجي المؤمن فيها ربه ؛ فيقرأ القرآن ويعظم الرحمن ويخشع بالتسبيح ويخبت بالدعاء . وهل مثل هذا الأمر يدعو إلى الاستهزاء ؟
__________
(1) ) الواحدي ، أسباب النزول ، مصدر سابق ، ص 104.
(2) ) المصدر ذاته ، ص 104 .
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 290(1/99)
وهذا العداء المقيت للمسلمين كان وما يزال إلى يومنا هذا ؛ قد ترسخت جذوره وقوي عوده . حتى غدا كالطود العظيم . وعلى سبيل المثال لا الحصر : فقد تعرض مسلمون في أمريكا إلى هجوم مسلح ، وذلك بسبب إقامتهم الصلاة ؛ حيث أطلق رجل مسلح ما بحوزته من الرّصاص برشاش في أحد مساجد ولاية ( تينيسي) الأمريكية ، وذلك في أثناء صلاة الفجر (1)
وكذلك فقد نشرت مجلة ( لايف ) الأمريكية صورة للكعبة المشرفة ضمْن إعلان لشركة ( كوكا كولا ) المعروفة ؛حيث ظهرت الكعبة المشرفة مجلَّلَة بكسوة سوداء ، وقد كتب على هذه الكسوة السوداء عبارة: (كوكا كولا ) بالأحرف اللاتينية على شكل زخرفة حاول الكفار أن يحاكوا فيها شكل زخرفة كسوة الكعبة بالآيات القرآنية ؛ فكان شكل الأحرف اللاتينية المكونة لعبارة (كوكا كولا ) يشبه من الناحية الزخرفية شكل الآيات القرآنية المكتوبة على كسوة الكعبة . وأمام هذا المجسم يظهر رجل مسلم يلبس الثوب الأبيض المعروف ، ويظهر في حالة سجود أمام هذا المجسم . والأدهى من ذلك والأمرّ هو ما أوردته مجلة ( لايف ) الأمريكية ، والذي مفاده أن هذا المسلم يحاول أن يطفئ عطشه الروحي .
وقد عرضت مجلة ( الشريعة ) الأردنية صورة الإعلان الذي عرضته مجلة ( لايف ) الأمريكية ، خلال مقال أعدّه قسم التحقيقات لديها (2)
__________
(1) ) انظر دون ذكر اسم الكاتب ، " مسلمو أمريكا يتعرضون لهجوم عنصري بسبب الصلاة " السبيل ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 340) ، عمان ، 2000م ، ص 19 .
(2) ) انظر إعداد قسم التحقيقات " بعد نشرها إعلانا مسيئاً للمسلمين مجلة ( لايف ) تعترف بمسؤوليتها وتبرئ (كوكا كولا ) "، مجلة الشريعة ، دون ذكر المجلد ، العدد(367) ، الأردن ، 1996 م ص ص 42-43 .(1/100)
أما حجاب المرأة فقد وُصف بوصف مقذع ، بل وُصفت صاحبته المحجبة بوصف ظالم ، وهذا الوصف وصف استهزائي بالحجاب ؛ حيث وُصفت بأنها تظهر في سمت عفريت ، لأن الملابس تغطيها ولا تبقي شيئاً ظاهراً من جسدها (1)
حتى إن الكفار – فيما مضى - كانوا يستهزئون من طهارة المؤمنين ؛ فعن سلمان – رضي الله عنه – قال : " قال له بعض المشركين – وهم يستهزئون به - : إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة ، قال : أجل ، أمرنا أن لا نستقبل القبلة ولا نستنجي بأيماننا ، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع (2) ولا عظم" (3)
__________
(1) ) انظر أحمد فهمي ، الحجاب الإسلامي بين المد والجزر " ، البيان ، دون ذكر المجلد ، العدد (149) ، لندن ، 2000م ، ص 86 .
(2) ) الرّجيع : الرّوث .
انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 23 .
(3) ) محمد بن يزيد القزويني ( ت275هـ / 889م ) ، سنن ابن ماجه ، تحقيق : محمود نصّار ، الجزء1 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1998 م ، ص 185 .
وروى مسلم وأبو داود والترمذي نحوه من الطريق التي أخرج بها ابن ماجه حديثه : وهي : إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان .
وكلهم لم يذكروا عبارة : " وهم يستهزئون به " .
انظر عياض ، إكمال المُعْلم بفوائد مسلم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص ص 66-67 .
وانظر سليمان بن أشعث (ت 275 هـ / 889 م ) ، كتاب السنن ، تحقيق محمد عوّامة ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار القبلة ومؤسسة الريان والمكتبة المكية ، السعودية / لبنان /السعودية ، 1998 م ، ص ص 152-153 .
وانظر الترمذي ، الجامع الصحيح ، مصدر سابق ، الجزء1 ، ص 24 .
وإنما أوردت هذا الحديث رغم أن عبارة : " وهم يستهزئون به " غير محفوظة – وقد تكون تفسيراً من بعض الرواة – لأنه تفسير موافق لما يُفهم من قول المشرك ؛ حيث إن رائحة الاستهزاء تفوح منه(1/101)
إنه الدين الشامل الذي شمل كل شؤون الفرد ؛ الخاصة والعامة ؛ دينا شاملاً كاملاً ، فهو دين حياة ، ودين واقع ، وليس نظريات جوفاء ، وطقوسا فارغة . فهل يسخر من هذا الدين إلا كل ذي قلب مريض وعقل بليد ؟
بل صور التلفاز حجاب المرأة المسلمة بصورة منفرة استهزائية ؛ حيث ربطه بعدد " من المظاهر؛ كالقيود والسجون والمرض الجنون والعزاء والهرم ، وفي كل الصور التي يتوقف فيها نبض الحياة والعطاء ، أو تضعف فيها الحركة أو تذبل فيها زهرة الحياة ، أو تختفي في خريف العمر ألوانه الزاهية ( ... ) وظهرت المرأة المحتشمة في المشاهد التي يظهر فيها الفقر والبؤس والحرمان ( ... ) في ظل ظروف اجتماعية بائسة ، وطبقة وضيعة لتكريسه كمظهر للتخلف والجهل والقيد والعجز ". (1)
والغرب يستهزئ بلباس المرأة المسلمة وكذلك فإنه يستهزئ بإطاعتها زوجها (2) ، بل إن بعض الفاسقين يستهزئ بلحية المسلمين ، ويصفها بأنها لحية تيس (3)
وما نسمعه جميعاً في الإذاعات والفضائيات ، بل في شوارعنا وأنديتنا ، هو أكبر شاهد على استهزاء القاصي والداني من الكفار – أقول الكفار بملء فيَّ – بشرائع الإسلام .
فاللهم سلط عقابك وعذابك على المستهزئين الرافضين للهداية ، فأنت العزيز لا إله إلا أنت !
المبحث الثاني : استهزاء الكفار بالرسل – عليهم السلام -وبالمؤمنين.
المطلب الأول : استهزاء الكفار بالرسل السابقين .
__________
(1) ) يوسف نعمان نصر الله ، " تجميل للسفور والانحلال وتنفير من الاحتشام . صور نمطية لحجاب المرأة في المسلسلات التلفزيونية " ، السبيل ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 340 ) عمان ، 2000 م ، ص 12 .
(2) ) انظر أنصر حسن ، " الدعوة للإسلام ؛ صور الإسلام النمطية في الإعلام الغربي " قراءات ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 2 ) ، دون ذكر مكان الصدور ، 2000 م ، ص ص 94-100.
(3) ) انظر القحطاني ، الاستهزاء بالدين وأهله ، مرجع سابق ، ص 51 .(1/102)
يقول تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (1)
هاتان الآيتان تصوران المنهج الكفري المتأصل الذي سار عليه الكفار في استهزائهم برسلهم ؛ حيث أرسل الله – سبحانه وتعالى – الأنبياء – عليهم السلام – إلى عباده ؛ لينذروهم وليبشروهم وليعلموهم الدين الحق ، ولكن الكفار كانوا يستهزئون بكل نبي يأتيهم بما ينفعهم ويهديهم سواء السبيل .
والرسل الذين أرسلهم الله - سبحانه وتعالى- كثيرون ؛ حيث إن ( كم ) في قوله تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) هي ( كم ) الخبرية التي تفيد التكثير (2)
ومع هذه الكثرة الكاثرة من الأنبياء المبعوثين إلا أن الكفار كانوا يستهزئون بهم ، وهذا هو ديدنهم ودأبهم . يقول الزمخشري : " ( وما يأتيهم ) حكاية حال ماضية مستمرة " (3)
و هذه الكلمة التي فسر بها الزمخشري الآية (4) ، كلمة دقيقة ، ومفادها أن حال الكفار في الماضي والحاضر والمستقبل هو الاستهزاء بالرسل الكرام عليهم السلام .
والقرآن الكريم لم يعرض قصة كل نبي أرسله الله - سبحانه وتعالى - إلى عباده ، وإنما عرض بعض قصص المرسلين . يقول تعالى : (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (5) .
__________
(1) )سورة الزخرف / 6-7
هاتان الآيتان مكيتان .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16، ص 57 .
(2) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 627 .
(3) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 242 .
(4) ) أي: سورة الزخرف / 7 .
(5) ) سورة النساء / 164(1/103)
وكذلك لم يعرض القرآن مشاهد استهزاء الكفار بكل رسول قصّ قصَّته علينا ، وإنما عرض مشاهد الاستهزاء التي وقعت مع بعض الرسل ، ولا يعرف هل إن هذه المشاهد التي عرضها القرآن الكريم هي كل المشاهد التي حصلت مع الرسل الكرام ؟ أم أنها نزر يسير عُرض على سبيل البيان ؟ أم أنها نزر يسير عند بعضهم وهي كل المشاهد عند بعضهم الآخر ؟ وهذا كله في علم الله .
والمراد في هذا المقام هو عرْض هذه المشاهد التي عرضها القرآن ، وتفسيرها وَفْقَ ما جاء عن المفسرين .
أولاً : استهزاء الكفار بنوح عليه .
يقول تعالى :( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (1)
والمراد من إيراد هذه الآية – هنا - هو الإشارة إلى استهزاء قوم نوح بنوح - عليه السلام – رغم أنه ما جاء إلا لينصحهم ويخلصهم مما هم فيه من الشرك . ورغم أنه اعتزل وتفرغ إلى صناعة السفينة ، إلا أن قومه ظلّوا على استهزائهم دائبين ، وبصنع السفينة ساخرين.
ولقد صبر نوح - عليه السلام – على قومه حتى اللحظة الأخيرة ، ومكث يصنع السفينة وهم ما زالوا يستهزئون به . فالكفر لا يطيق الإيمان ، حتى ولو انعزل الإيمان عنه ؛ فهي معركة وجود لا معركة تصادم فقط .
فالكفار لا يدعون الدعاة في شأنهم ،ولو ترك الدعاة الاصطدام مع طواغيت الأرض ، وانزووا عنهم ، فسيظل الطواغيت يلاحقون الدعاة بأشياء كثيرة ، لعل من أخفها وطأة على الدعاة : السخرية والاستهزاء المتكرر صباحاً ومساءً
__________
(1) ) سورة هود / 38
هذه الآية مكية .
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 365 .
لقد سبق الحديث عن هذه الآية في المبحثين الثاني والثالث من الفصل الأول ، فلا داعي لتكرار ما قيل .(1/104)
" وذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً ، وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها ؛ فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية ، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها " (1)
ولكن نوحاً – عليه السلام – لم يكن صامتاً أمامهم ، بل رد عليهم الرد الحاسم بالقول الجازم فقال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) أي : إن تسخروا مني وممن يساعدني – لأنكم تظنون أن عملنا هذا عبث لا فائدة فيه – فإننا نسخر منكم الآن ؛ لأن ما نعمله هو الصواب الذي سينجينا من العذاب ، وما تعملونه أنتم سيؤدي بكم إلى الهلاك والخزي الذي سينزل بكم ، وسوف تعلمون صدق ما أقول (2) .
وهذا درس عملي للدعاة بأن يسخروا منهم ؛ عندما لا تنفع الموعظة الحسنة ، ولا الكلام الطيب . وكما يقول علي بن أبي طالب : أوفيهمُ بالصاع كيل السَّنْدرة (3) ، والسَّنْدرة: مكيال أكبر من الصاع (4) ؛ فعلي بن أبي طالب يخط لنا منهجاً صارماً حازماً حاسماً في الرد على الكافرين ؛ حيث إن الرد يكون مضاعفاً وقت لا ينفع فيه موعظة ولا كلام .
ثانياً : استهزاء الكفار بلوط - عليه السلام - .
يقول تعالى : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) (5)
__________
(1) ) سيد قطب، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ،الجزء 8 ، ص 1307.
(2) ) انظر البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص ص 284-285 .
(3) ) انظر يحيى بن شرف النووي ( ت 676 هـ / 1278 م ) ، شرح صحيح مسلم ، الجزء 12 ، الطبعة 1 ، الدار الثقافية العربية ، بيروت ، 1930م ، ص ص 185-186
(4) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 12 ، ص 185 .
(5) ) سور الأعراف / 82
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص 145 .(1/105)
هكذا قابل قوم لوط نصح نبيهم ؛ بأن أرادوا إخراجه لأنه مذنب – في نظرهم - . وهذا الذنب هو الطهارة من الفواحش (1)
ومقصود هؤلاء الأشقياء بقولهم : (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) هو السخرية بلوط - عليه السلام – وممن آمن معه . وبتطهرهم من الفواحش ؛ كما يقول الشطار من الفسقة العصاة لمن وعظهم من الصالحين : أخرجوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد (2) .
والمراد –هنا- بيان أن الكفار ما زالوا يعدّون الطهارة ذنباً يُسخر منه .يقول سيد قطب : " فهذه الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً ، بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح ، وعن منهج الحياة الذي تقوم عليه ( ... ).
ونعود إلى قوم لوط ، فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يا عجباً! أوَ من يتطهر يُخرج من القرية إخراجاً ، ليبقى الملوثون المدنسون ؟!
__________
(1) ) انظر البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 348 .
(2) ) انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854 م ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، الجزء 8 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان 2000م، ص 568 .
وقد سبق الكلام عن هذه الآية في المبحث الرابع من الفصل الأول .(1/106)
ولكن لماذا العجب ؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة ؟ أليست تطارد الذين يتطهرون فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية – وتسميه تقدمية وتحطيماً للأغلال عن المرأة وغير المرأة –أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون ؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين ؟! إنه منطلق الجاهلية في كل حين ! " (1) .
فنفي المتطهرين من الأرض التي يعيشون فيها سنّةٌ متبعة عند الظالمين . فقوم لوط أرادوا تجريد لوط – عليه السلام –من جنسيته بينهم ، ونفيه خارج البلاد بتهمة التطهر والتطهير .
فالتطهر تهمة يعاقب عليها قانون الظالمين ؛ كقوم لوط . بل أصبحت مجتمعاتنا تستهزئ من المتطهرين ؛ فالذي لا يشهد الأعراس المختلطة بالرجال والنساء – أو الأعراس التي تعزف فيها الموسيقا ، وينعق فيها المغنّون بسوء الكلام وساقطه – يصبح عند بعض الفئات الاجتماعية موضع استهزاء وسخرية وازدراء . ولربما قطعه أقاربه متمثلين قول قوم لوط : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) . ليصير الشعار: أخرجوهم من عائلتكم إنهم أناس يتطهرون . فالله المستعان . !
ثانياً : استهزاء الكفار بشعيب عليه السلام .
يقول تعالى : (قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (2)
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 8 ، ص ص 1315 –1316 .
(2) ) سورة هود / 87 .
هذه الآية مكية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 365(1/107)
لقد أرسل الله – سبحانه وتعالى – شعيباً - عليه السلام – إلى آل مدين ، وكانوا مع شركهم يبخسون الناس أشياءهم ؛ ينقصون المكيال والميزان ، فذكرهم شعيب – عليه السلام – بنعمة الله عليهم ، وأمرهم قبل ذلك كله بعبادة الله وحده؛ فقال لهم : (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) (1) . وهذه دعوة الفطرة التي تخاطب شغاف القلوب ، ويستجيب لها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ولكنهم أرادوا أن يبقوا على شركهم ، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون من الأفعال المحرمة ؛ فأهلكهم الله سبحانه وتعالى (2)
وردُّ قوم شعيب فيه استهزاءان :
الأول : استهزاؤهم بصلاة شعيب عليه السلام .
الثاني : استهزاؤهم بعقل شعيب عليه السلام .
أما الاستهزاء الأول؛ فقد قالوا : (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) أي : أصلاتك التي من نتائج الوسوسة والجنون تأمرك أن نترك عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا وأجدادنا من قبلهم ، وكذلك تأمرك أن نترك بخس الحقوق وإنقاص المكيال والميزان . (3)
والاستفهام في ( أصلاتك ) هو استفهام استهزائي تهكمي (4) .
__________
(1) ) سورة هود / 84
(2) ) انظر عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن ، دون ذكر الطبعة ، دار المعارف ، الرياض ، 1980 م ، ص 126.
وانظر محمد علي الصابوني ، النبوة والأنبياء ، الطبعة 2 ، مكتبة الغزالي ، دون ذكر مكان دار النشر ، 1980م ، ص ص 260-263 .
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ،مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 342
(4) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص 42 .
وانظر الدرويش ، إعراب القرآن وبيانه ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 416.
وانظر صافي ، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه ، مرجع سابق ، الجزء 6 ، ص 333 .(1/108)
يقول أبو حيان : " لما أمرهم شعيب بعبادة الله تعالى وترك عبادة أوثانهم ، وبإيفاء الكيل والميزان ، ردُّوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزؤ بقولهم : ( أصلاتك ) " (1) .
ولكن هناك تساؤلان :
الأول : لماذا استهزأ قوم شعيب بالصلاة دون غيرها ؟
الثاني : لماذا أسند قوم شعيب الأمر إلى الصلاة مع أن الآمر هو الله ؟
وللإجابة عن التساؤل الأول : يقول الزمخشري : " كان شعيب – عليه السلام - كثير الصلوات ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : ( أصلاتك تأمرك ) السخرية والهزء " (2)
ولعل الأمر يكون كما قال الزمخشري ، وكلمة : لعلّ ؛ لعدم وجود السند الصحيح في هذا الأمر . وقد يكون استهزاء قوم شعيب بالصلاة دون غيرها ؛ لأنها أظهر شعائر الدين . (3)
أما التساؤل الثاني فللإجابة عليه : يقول ابن جزي : " ونسب الأمر إليها مجاز كقوله : (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) }العنكبوت / 45{ " (4) ؛ أي : إن جعل الصلاة آمرة هو من باب المجاز .
أما الاستهزاء الثاني ، وهو : استهزاؤهم بعقل شعيب – عليه السلام - فهو قولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ )
__________
(1) ) محمد بن يوسف ( ت 749 هـ / 1348م ) ، تفسير النهر الماد من البحر المحيط ، ضبط بوران وهديان ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الجنان ، لبنان ، 1987 م ، ص 85
(2) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 395 .
(3) ) انظر الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، مرجع سابق ، الجزء 5 ، ص 72 .
(4) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص ص 376 –377 .
الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص ص 395-396 .(1/109)
ففي ظاهر الأمر أن هذا وصف لشعيب- عليه السلام – بالحلم ووصف بالرشد . وهذان الوصفان يدلان على المدح ، ولكن قوم شعيب أرادوا بقولهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) الاستهزاء بشعيب - عليه السلام – ونسبته إلى الغي والسفه (1)
ومن ذلك قولهم للحبشي : أبو البيضاء ، وقول خزنة جهنم لأبي جهل (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) (2) .
وهذا هو الاستهزاء بأسلوب إطلاق المدح بما ليس بمدح . وهذا المنهج الذي اتبعه كفار قوم شعيب يتبعه بعض الناس في هذا العصر ؛ حيث يقولون استهزاءً وسخريةً- إذا أقبل أحد المحافظين على طاعة ربهم - : جاء الشيخ!!!
ولقبُ الشيخ يقال احتراماً لأهل العلم ، أو لأصحاب السمت الصالح ، ولكن قد يطلقها بعض الناس من باب الاستهزاء . فسبحان الله !! فقد اتخذ الجاهلون سبيل الظالمين سبيلاً ، وأعادوا سلوك جادّة أساليبهم الدارسة ، فأصبحوا مظهراً واضحاً في مجمعاتنا الإسلامية ، واجتماعاتنا الاجتماعية فأسأل الله الهداية والمغفرة !
رابعاً : استهزاء الكفار بموسى عليه السلام
الاستهزاء الأول بموسى عليه السلام .
__________
(1) ) انظر محمد بن يوسف ( ت 749 هـ / 1348 م ) ، البحر المحيط ، الجزء 5 ، الطبعة 2 ، دار الفكر ، دون ذكر مكان دار النشر ، 1983م ، ص 253 .
وانظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1254 م ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، تحقيق محمد العرب ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، بيروت ، 1994م ، ص 177 .
(2) ) سورة الدخان / 49
وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 342 .(1/110)
يقول تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1)
تعرض هذه الآيات قصة البقرة التي أمر موسى – عليه السلام – قومه بذبحها ؛ حيث قُتل رجل من قوم موسى – عليه السلام – ؛ فأمر موسى – عليه السلام – قومه أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا المقتول ببعضها حتى ينطق ويخبر قومه عن قاتله ، ولكن اليهود ماطلوا وطلبوا بيان صفة البقرة ؛ فقال لهم موسى - عليه السلام- : إنها بقرة ليست كبيرة في العمر ولا صغيرة بل هي بين الكبر والصغر .
__________
(1) ) سورة البقرة / 67-73
هذه الآيات مدنية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 148 .(1/111)
ثم سألوه عن لونها فأجابهم: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) ثم سألوه عن البقرة وعن صفاتها ؛ يريدون وصفاً أدق – فيما زعموا – بحجة أن البقر تشابه عليهم ؛ ولذلك لم يهتدوا إلى البقرة المطلوبة ، رغم أن موسى - عليه السلام – أخبرهم عن لونها .
وبعد ذلك أخبرهم موسى - عليه السلام - بأنها بقرة لا تعمل بالحراثة أو غير ذلك من الأعمال و لا تسقي الحرث . وبعد هذه المحاورة الطويلة المملّة من اليهود قالوا لنبيهم: ( الآن جئت بالحق) وكأن موسى - عليه السلام - لم يأت بالحق فيما سبق ، و إنما جاء بالباطل ( فذبحوها و ما كادوا يفعلون ) أي: كادوا ألا يفعلوا . ولم يكن ذلك الذي أرادوا؛ لأنهم أرادوا ألا يذبحوا شيئاً من البقر؛ ولذلك فإنهم لم يذبحوا البقرة إلا بعد جَهد جهيد (1)
والشاهد – هنا – هو أن سؤال بني إسرائيل لموسى – عليه السلام – ( ما هي ؟ ) هو استفهام استهزائي . يقول سيد قطب :" والسؤال عن الماهية في هذا المقام – وإن كان المقصود الصفة – إنكار واستهزاء " (2)
فهي مفاوضات إسرائيلية مع موسى – عليه السلام - بشأن بقرة ؛ وصِفَتُها أنها مفاوضات استهزائية ، وليست جدّية ، وهذا شأنهم ودأبهم سابقاً وما زال حاضراً وسيظل مستقبلاً ، والواقع خير شاهد ، ومن لم يدرك الواقع لا محالة واقع .
الاستهزاء الثاني والثالث بموسى عليه السلام .
__________
(1)
) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 1، ص ص 153-158.
(2) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 1 ، ص 78.(1/112)
يقول تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ ) (1)
تعرض هذه الآيات جزءاً من الحوار الذي دار بين موسى – عليه السلام – وفرعون – لعنه الله – ؛ حيث قال فرعون مستهزئاً : (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟) (2) . ولكن موسى – عليه السلام – الداعية الصابر الثابت الجادّ ، المرسل من رب العالمين ، يحمل بين جنبيه عقيدة ثابتة كالطود ، لا يقف استهزاء فرعون عقبة أمام تحقيق أهدافها السامقة الشامخة .
فموسى – عليه السلام – لم يقف أمام فرعون موقف الصامت السادر ، وإنما تابع مسيره في رحلة شاقة يتداول الكلام فيها مع فرعون ؛ ليصل معه في نهاية الأمر إلى حسم النزاع والنقاش بالحجة الباهرة ، و الدليل القاطع ؛ بما آتاه الله من البراهين القاطعة لصدقه ، والآيات المثبتة لنبوته ورسالته .
فيردّ موسى – عليه السلام - : (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ )وهذا ردّ يتصف بالثبات والجدّية ، رغم جبروت فرعون وسلطانه الذي يهتزّ أمام موسى - عليه السلام – فيردّ فرعون – لعنه الله - ساخراً هازئاً : (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ؟ ) وهذا شاهد آخر .
__________
(1) ) سورة الشعراء / 23-29
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 13 ،ص 84 .
(2) ) سبق الكلام عن قول فرعون في المطلب الأول من المبحث الأول من الفصل الثاني . فانظر إليه . إن شئت .(1/113)
يقول ابن كثير : " فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله (أَلَا تَسْتَمِعُونَ ؟ ) ؛ أي : ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري " (1)
وسبب الاستهزاء الذي وجهه فرعون إلى موسى - عليه السلام - هو ضعف حجة فرعون ، وهذا الاستهزاء جاء بأسلوب الاستفهام المساق لأجل الاستهزاء .
وبعد ذلك يجيب موسى – عليه السلام – فرعون فيقول : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ ) وهذه قاصمة لفرعون ودعواه ، فأنت يا فرعون تدعي بأنك إله وتسأل عن رب العالمين باستهزاء ، فرب العالمين هو ربك أنت أيضاً، ورب من معك من الملأ الذين يتبعونك على ضلالك (2)
فيقف فرعون سادراً أمام حجة موسى – عليه السلام - ، التي أيقظت فطرته النائمة – أو بالأصح المنوَّمة – ليستهزأ استهزاء آخر بموسى – عليه السلام - ، فيقول فرعون هازئاً ساخراً : (إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) " يريد أن يتهكّم على مسألة الرسالة في ذاتها فيُبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم ؛ لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها ، ويتهم موسى – عليه السلام – بالجنون ليذهب أثر مقالته التي تطعن في وضع فرعون السياسي والديني في الصميم ، وترد الناس إلى ربهم ورب آبائهم الأولين . ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفتُّ في عضد موسى ، فيمضي في طريقه ليصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين " (3)
__________
(1) ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 444 .
(2) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 19 ، ص 2592 .
(3)
) أحمد فائز الحمصي ، قصص الرحمن في ظلال القرآن ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1995 م ، ص 102 .(1/114)
ويُلاحظ – هنا – أن فرعون سمّى موسى - عليه السلام - : رسولاً . فهل فرعون يعترف برسالة موسى عليه السلام ؟ والجواب : لا . إذن ؛ فلماذا سماه رسولاً ؟
سمّى فرعون موسى – عليه السلام - بالرسول من باب الاستهزاء والسخرية و الطنْز (1) .ولماذا لم يقل : رسولنا . بل قال : رسولكم ؟ والجواب على ذلك هو أن فرعون ترفع عن أن يكون موسى مرسلاً إليه نفسه . (2)
وهذا استهزاء بأسلوب إطلاق المدح بقصد الاستهزاء لا المدح . فوصف موسى – عليه السلام – بالرسالة ظاهره مدح ، ولكنه مدح أُُريد به الاستهزاء . ولو كان فرعون لا يريد الاستهزاء لقال : الذي يزعم أنه مرسل إليكم . ولكنه قال : رسولكم . فأثبت له الرسالة وهو منكر لها بُغية الاستهزاء من موسى – عليه السلام – يقول البيضاوي : وسمَّاه رسولاً على السخرية " (3)
__________
(1) ) انظر البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 153 .
وانظر إسماعيل حقي البُروسَوي (ت 1137 هـ / 1724م ) ، تفسير روح البيان ، الجزء 6 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر مكان دار النشر ، دون ذكر تاريخ النشر ، ص 269 .
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 51 .
(2) ) انظر البُروسَوي ، تفسير روح البيان ، الجزء 6 ، ص 269 .
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 51 .
وانظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 10 ، ص 58 .
(3) ) البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 153 .(1/115)
وبعد ذلك يقول فرعون لموسى - عليه السلام - : (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ ) وهذا إفلاس في الحجة ؛ لأن فرعون لو كان يقوى على رد حجة موسى لما هدده بالسجن ولقارع الحجة بالحجة ولكنه عجز أمام حجج موسى – عليه السلام - (1) . وهكذا الطغاة إذا عجزوا أمام الدعاة بالحجة والمنطق ، زجّوا بهم في غياهب السجون ، ليذوقوا ويلات المَنون قبل المَنون .
الاستهزاء الرابع بموسى عليه السلام
يقول تعالى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ) (2)
وقد سبق الكلام عن هاتين الآيتين ، وعن جو النص العام الذي وردا فيه ، وعن أنّ قول فرعون هذا إنما هو مراوغة ، وأن فرعون لم يقصد البناء حقيقة (3)
__________
(1) ) انظر محمد متولي الشعراوي ، قصص الأنبياء ، جمع المادة العلمية : منشاوي غانم ، الجزء 3 ، دون ذكر الطبعة ، مكتبة التراث الإسلامي ، مصر ، دون ذكر تاريخ النشر ، ص 1524 .
(2) ) سورة غافر / 36-37
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ،ص 257 .
(3) ) انظر المبحث الثالث من الفصل الأول ، السبب الخامس من أسباب استهزاء الكفار .(1/116)
والمقصود بيانه – هنا – أن فرعون استهزأ بموسى – عليه السلام - كأنه طفل أمامه . وأن فرعون كان مادياً لا يؤمن إلا بالمحسوس ، ويكفر بما دون ذلك ، وهذه النزعة المادية الكفرية عند فرعون ، نزعة ظهرت في هذا العصر على يد ( كارل ماركس ) اليهودي حفيد الحاخام اليهودي ( مردخاي ماركس ) ؛ حيث نادى ( كارل ماركس ) إلى إنكار وجود الله تعالى وكل الغيبيات ، والقول بأن المادة هي أساس كل شيء (1)
فمشركو مكة أفضل حالاً من فرعون ؛ حيث إنهم كانوا يؤمنون بوجود الله – سبحانه وتعالى – ؛ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (2) . إذن فمشركو مكة يؤمنون بوجود الله وهم أفضل حالاً من فرعون الملحد (3)
وكم هم الذين يستهزئون بإيمان المسلمين بالله - سبحانه وتعالى – ؛ حيث سمعت شخصاً – دون ذكر اسمه؛حتى لا يُحدث له ذكر – يفتخر بالشيوعية عقيدة ويستهزئ بإيمان المشايخ بالله سبحانه وتعالى .
الاستهزاء الخامس بموسى عليه السلام .
يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46)فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47)وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (4)
__________
(1) ) انظر الندوة العالمية للشباب ، الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة ، الطبعة 2 ، السعودية ، 1989 م ، ص ص 309 –313 .
(2) ) سورة الزخرف / 87
(3) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ،ص265 .
وانظر عبد الرزاق البدر ، القول السديد على من أنكر تقسيم التوحيد ، الطبعة 1 ، دار عفان ، السعودية ، 1997 م ، ص ص 63-85 .
(4) ) سورة الزخرف / 46-48
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 57 .(1/117)
وقد سبق الكلام عن هذه الآية في المبحث الرابع من الفصل الأول ، ولكن المراد بيَانه – هنا - أن فرعون يريد بناء صرح حتى يطّلع إلى رب العالمين ؛ لأنه لا يؤمن إلا بالمحسوسات ، ولكن أليست المعجزات التي جاء بها موسى – عليه السلام – محسوسة ؟ أليست العصا التي تنقلب حية تسعى معجزة محسوسة ؟ وغير ذلك من الآيات البينات من المعجزات المحسوسة . ولكنه الكفر ، والكفر عناد .
إذن ؛ لقد استهزأ فرعون وملؤه من موسى – عليه السلام – بأمور :
أولها : استهزاء فرعون من إله موسى .
ثانيها :استهزاء فرعون بما قال موسى حيث قال للملأ حوله : ألا تستمعون .
ثالثها : وصف فرعون موسى – عليه السلام – بالرسول تهكماً .
رابعها : طلب فرعون إلى هامان بناء صرح له حتى يطلع إلى رب العالمين .
خامسها : استهزاء فرعون وملئه من المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام .
وهذا الذي وُقف عليه من الأحداث مع موسى – عليه السلام – في شأن استهزاء الكفار منه . ولعل الواقع الذي عايشه موسى – عليه السلام – كان فيه من استهزاء فرعون وقومه أكثر مما وُقف عليه . والله أعلم .
المطلب الثاني : استهزاء الكفار بمحمد صلى الله عليه السلام
الاستهزاء الأول : يقول تعالى : (وَقَالُوا يا أيها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (1) تعرض هذه الآية الكريمة استهزاء كفار قريش بالنبي – صلى الله عليه وسلم - وتخبر عن عنادهم وكفرهم (2)
__________
(1)
) سورة الحجر / 6
هذه الآية مكية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ،مصدر سابق، الجزء 1 ،ص415 .
(2) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص721 .(1/118)
فكفار قريش قد استهزأوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – استهزاء ظاهره المدح ،وهذا الاستهزاء هو : وصفهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الذكر قد نزل عليه ، علماً بأنهم لا يؤمنون برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – . فلماذا وصفوا النبي– صلى الله عليه وسلم – بهذا الوصف ؟
لقد وصف الكفار النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا الوصف من باب الاستهزاء والتهكم ، لا من باب الوصف الصادق الجادّ . فكيف يصفونه بالنبوة ثم يقولون له : إنك لمجنون ؟! (1) إذن ؛ فنداؤهم النبي– صلى الله عليه وسلم – بـ (يا أيها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) استهزاء ظاهر (2) ، وهذه قِحَة ظاهرة منهم ، عليهم لعنة الله . وهذا استهزاء بأسلوب إطلاق المدح بقصد الاستهزاء لا المدح .
ولم يكتفوا بمجرد هذا الوصف الاستهزائي ، بل طعنوا في عقل النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالوا عنه: إنه مجنون . ولم يكتفوا بمطلق الوصف ، بل أكدوا وصفه بالجنون بحرفيّ توكيد ؛ الأول وهو : حرف التوكيد ( إن ) . والحرف الثاني : حرف ( اللام ) ؛ فقالوا : إنك لمجنون (3) .
__________
(1) ) انظر أحمد بن محمد بن عجيبة ( ت 1224 هـ / 1809 م ) ، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ،تحقيق : أحمد رسلان ، الجزء 3، دون ذكر الطبعة، طبع على نفقة د . حسن عباس ، القاهرة ، 1999 م ، ص 78 .
وانظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854م) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به أحمد وعمر السلامي ، الجزء 14 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص 344 .
(2) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 2127.
وانظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 7 ، ص5 .
وانظر محمد محمود حجازي ، التفسير الواضح ، الجزء 14 ، الطبعة 4 ، دار الجيل، دون ذكر مكان دار النشر , 1968 م ، ص 5 .
(3) ) انظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 7 ، ص5 .
وانظر علي الجارم ومصطفى أمين ، البلاغة الواضحة / البيان والمعاني والبديع . للمدارس الثانوية، دون ذكر الطبعة ، دون ذكر دار النشر، دون ذكر مكان دار النشر ،دون ذكر تاريخ النشر ، ص 156
انظر فضل حسن عباس ، البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) ، مرجع سابق ، ص 115 .(1/119)
وقد استخدم كفار قريش هذا الأسلوب مع النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر من مرة .
الاستهزاء الثاني : يقول تعالى : (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًاَ ) (1) .
فالكفار المشركون المكذبون بالبعث يتخذون النبي– صلى الله عليه وسلم – هزواً ؛إذا رأوه في مجلس من مجالس مكة ، أو رأوه ماشياً في شعب من شعاب مكة ، ويقولون : (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًاَ ) فهم يسخرون به أينما رأوه في مكة . (2)
وهذا الاستهزاء مبيّت في قلوبهم ولكنهم يظهرونهم وقت رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم- ، وما ذلك إلا زيادة في أذى النبي – صلى الله عليه وسلم- . وفي قولهم هذا : (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًاَ ) احتقار للنبي – صلى الله عليه وسلم- واستهزاء به .
أما احتقارهم له : فإشارتهم إليه باسم الإشارة : ( هذا ) ؛ لأن اسم الإشارة ( هذا ) يستخدم للاحتقار (3)
أما استهزاؤهم به : وصفهم إياه بصفة الرسالة (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًاَ ) . فهم لا يؤمنون به ؛ ولذلك فوصفه بأنه مرسل هو استهزاء وتهكم منهم (4) .
__________
(1) ) سورة الفرقان / 41
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 13 ، ص 3 .
(2) ) انظر جابر الجزائري ، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ، الجزء 3 ، الطبعة 4 ، دار السلام ، مصر ، 1992 م ، ص 617
(3) ) انظر محمد جمال الدين القاسمي ( ت 1332 هـ / 1914 م ) ، محاسن التأويل ، الجزء 12، الطبعة 2 ،دار الفكر ،بيروت ، 1978 م ، ص 263 .
(4) ) انظر البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 142(1/120)
يقول الزمخشري – عن وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالمرسل - : " وإخراجه في معرض التسليم والإقرار – وهم في غاية الجحود والإنكار- سخرية واستهزاء . ولو لم يستهزئوا لقالوا : أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولاً " (1)
إذن ؛ فهو استهزاء بأسلوب إطلاق المدح بقصد الاستهزاء .والاستهزاء الذي كان يلاقيه النبي – صلى الله عليه وسلم - هو مشقة عظيمة ، فقد كان المشركون يرون النبي – صلى الله عليه وسلم- مرات كثيرة ؛ فمكة – في ذلك الزمن - قرية صغيرة تتكرر رؤية الفرد فيها عدة مرات ؛ وبالأخص عندما يكون داعية مثل النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ يروح ويغدو داعياً إلى الله ؛ فيراه الكفار مرات عديدة ؛ ويتكرر استهزاؤهم به مرات عديدة ؛ لأنهم يستهزئون به كلما رأوه .
وكم هو الأمر صعب وثقيل على الواحد منا أن يُؤذى بالاستهزاء كلما مرّ في طرقات قريته أو مدينته ، أو كلما جلس مجلساً فرآه خصومه اتخذوه هزواً . وقد يلجأ الواحد منا إلى أن يعتزل الناس في بيته ، أو في مكان بعيد عن أعين الناس؛ كل ذلك ليأمن استهزاءهم . قد يترك الواحد منا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمجرد وقوع الاستهزاء به مرة أو مرتين .
ولكن النبي – صلى الله عليه وسلم - صبر وصابر وبقي على دعوته ، رغم ما لقيه من الأذى .
الاستهزاء الثالث : يقول تعالى : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ) (2)
__________
(1) )الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 286 .
(2) ) سورة الفرقان / 7-8
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 13 ، ص 3 .(1/121)
ولهاتين الآيتين سبب نزول ؛ ولبيانه فهذا قول الطبري : " ذكر أن هاتين نزلتا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما كان مشركو قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة ، وعرضوا عليه أشياء وسألوه الآيات فكان فيما كلموه حينئذ ، فيما حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس (1) أن قالوا له : فإن تفعل لنا هذا ؛ يعني ما سألوه عنه من تسيير جبالهم عنهم وإحياء آبائهم والمجيء بالله والملائكة قبيلاً ، وما ذكره الله في سورة بني إسرائيل ، خذ لنفسك ، سلْ ربك يبعث معك ملًكاً يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسَلْه فيجعل لك قصوراً وجناناً وكنوزاً من ذهب و فضة تغنيك عما نراك تبتغي . فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعلم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم .
__________
(1) ) سبق الكلام عن رجال هذا الإسناد والحكم عليه ؛ في المبحث الرابع من الفصل الأول . وهذا سند ضعيف ؛ محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت مجهول تفرد عنه ابن إسحاق .
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 439.(1/122)
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بفاعل ، فأنزل الله في قولهم : أن خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لها : أن يجعل له جناناً وكنوزاً وقصوراً ، أو يبعث معه ملًكاً يصدقه بما يقول ويرد عنه من خاصمه (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ) " (1)
فالكفار يرفضون أن يكون النبي مثلهم لا يخالف حاله حالهم ، وجهلوا أن الأنبياء والمرسلين بشر لا يختلفون عنهم في الخِلْقَة ، وإنما يختلفون عنهم في أمور جبلهم الله عليها في أطباعهم وأخلاقهم حتى بلغوا ذروة الكمال البشري (2) .
__________
(1) ) محمد بن جرير الطبري ( ت 310 هـ / 923م ) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الجزء 9 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999 م ، ص ص 366-367 .
(2) ) انظر عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 791 هـ /1389م) ، أنوار التنزيل و أسرار التأويل ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1988 م ، ص 135 .
انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1853م) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به أحمد وعمر السلامي ، الجزء 18 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص 580 .
انظر محمد دروزة ، التفسير الحديث ، الجزء 2 ، دون ذكر الطبعة ، دار إحياء الكتب العربية ، دون ذكر مكان النشر ، 1962 م ، ص ص 248 – 249 .(1/123)
فهم قد وضعوا شروطاً من عند أنفسهم تحدد ماهية الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وليس لهم في ذلك أثارة من علم ، وليس لهم من الحق إلا أن يطلبوا الدليل على صدق النبي – صلى الله عليه وسلم – فقط ؛ وقد جاءهم بالدليل على صدقه وهو القرآن الكريم . وبعد ذلك كله يضع الكفار الشروط التي تحدد ماهية النبي – صلى الله عليه وسلم- . وهذه الشروط افتراء من عند أنفسهم .
والشاهد في هذه الآية أن الكفار استهزأوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا : (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ) . وقولهم : (الرَّسُولِ ) تهكم واستهزاء ؛ لأنهم لا يؤمنون به ولا برسالته ، فوصفه بالرسول استهزاء منهم (1)
يقول الزمخشري: " وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنْز" (2)
إذن ؛ فالكفار أطلقوا المدح بقصد الاستهزاء والسخرية .
الاستهزاء الرابع : يقول تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (3)
فهل أصبح الذي يُخبر الناس ببعث الله – سبحانه وتعالى – لهم – بعد أن أثبت الله نبوته ورسالته – موضع سخرية واستهزاء ؟!
__________
(1) ) انظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 8 .
وانظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 10 ، ص 36 .
(2) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 270 .
وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2، ص 79 .
وانظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 73 .
(3) ) سورة سبأ / 7 .
وهذه الآية مكية .
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، الجزء 2، ص 161.(1/124)
ولم يقل الكفار في هذه الآية : إن محمد بن عبد الله يقول : إنكم لفي خلق جديد بعد الموت . وإنما قالوا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ) فنكروه وقالوا : (رَجُلٍ ) وعاملوه معاملة المجهول في طريقة الدلالة عليه ، كأنهم يخبرون عن عجيبة من عجائب الدهر (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . وهم كانوا يقصدون بذلك الاستهزاء والسخرية والتهكم والطنز . (1)
فهم يتعجبون من أن يبعثهم الله بعد أن تفرقت أجسادهم في الأرض ، وتمزقت فلم يبق ما يمسكها ، أوَ بعد كل ما حصل يعودون كما كانوا ؟! (2) . وكأنهم يقولون : " هل ندلكم على رجل عجيب غريب ، ينطق بقول مستنكر بعيد ، حتى ليقول : إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد ، وتعودون للوجود " (3) . وهذا الاستهزاء كان بأسلوب الاستفهام المساق للاستهزاء .
الاستهزاء الخامس :يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) (4)
فالمنافقون يستمعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – ولكن إذا خرجوا من عنده – صلى الله عليه وسلم – سأل المنافقون أهل العلم من الصحابة - رضوان الله عليهم –عن الذي قاله الرسول – صلى الله عليه وسلم – بصورة الاستعلام ولكنهم يستهزئون.
__________
(1) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص ص 237-238 .
(2)
) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 694 .
(3) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 22 ، ص 2895 .
(4) ) سورة محمد / 16 .
هذه الآية مدنية .
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، الجزء 2، ص 280 .(1/125)
يقول أبو السعود : " (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) هم المنافقون ( ... ) كانوا يحضرون مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيسمعون كلامه ، ولا يَعونه ، ولا يراعونه حق رعايته تهاوناً منهم (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من الصحابة – رضوان الله عليهم – (مَاذَا قَالَ آنِفًا ) ؛ أي : ما الذي قال الساعة ؟ على طريق الاستهزاء ، وإن كان بصورة الاستعلام " (1) . ومعنى : (قَالَ آنِفًا ) ؛ أي : قال سالفاً فيما سبق (2) .
وهذا الاستهزاء بأسلوب الاستفهام المساق للاستهزاء . وهذا الأسلوب الاستهزائي كان يتبعه المنافقون – فيما يبدو – كثيراً ؛ حيث قال ابن عباس – رضي الله عنه - : " كان قوم يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استهزاءً ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (3) حتى فرغ من الآية كلها " (4)
وكثير هم الذين يستهزئون بالعلماء ، فإذا سمع أحدهم حكماً لا يوافق هواه ولا يستطيع الاعتراض عليه في داخل المجلس ؛ لأن قول الله – سبحانه وتعالى – واضح في ذلك أو لأن قول رسول – صلى الله عليه وسلم - . وهذا المستهزئ يريد أن يبقى آكلاً للربا ، أو يريد أن تبقى نساؤه متبرجات ؛ فإنه يقول – بعد سماع تحريم الربا والتبرج - : ماذا قال هذا الشيخ آنفاً ؟! يستفهم كما استفهم المنافقون من قبل ، ويعترض كما يعترضون .
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق، الجزء 6 ، ص 88 .
(2) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 22 .
(3) ) سورة المائدة / 101
(4) ) محمد بن إسماعيل( ت 256 هـ / 870 م ) ، صحيح البخاري ، ضبط نصه : محمد نصار، غير مجزأ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2001 م ، ص 736 .(1/126)
ولم يقف استهزاء الكفار بالنبي – صلى الله عليه وسلم – عند حد الكلام فقط ، بل تجاوزوا الأمر إلى الفعل . فقد روى البخاري عن عبد الله – رضي الله عنه - : قَالَ:" بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا (1) وَدَمِهَا وَسَلَاهَا (2)
__________
(1) ) الفرْث هو : الكرْش .
انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 628 .
(2) ) سلى الجزور : " الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه "
ابن منظور ، لسان العرب ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 396 .(1/127)
فَيَجِيءُ بِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَثَبَتَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَاجِدًا فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثُمَّ سَمَّى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ عبد الله فَوَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً" (1)
__________
(1) ) رواه البخاري في كتاب الصلاة ، باب المرأة تطرح عن المصلي شيئاً من الأذى .
انظر أحمد بن علي بن حجر ( ت 852 هـ / 1448 م ) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، الجزء 1 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،2000 م ، ص ص 780 –781 .(1/128)
حقاً وصدقاً لقد أُتبع أصحاب القليب لعنة أن استهزأوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم – وضحكوا منه ومن صلاته ومما فعلوا به . وحقاً وصدقاً لقد أُتبع أصحاب القليب لعنة أن قُتلوا وهم يحاربون النبي - صلى الله عليه وسلم – وأُلقوا بالقليب .
الاستهزاء السادس : يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ) (1)
وقد بلغ الاستهزاء عند الكفار مبلغاً عظيماً ؛ حيث إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يأتيهم بالمعجزة الواضحة البينة فيسخرون وذلك لأنهم ألفوا السخرية والاستهزاء بالنبي – صلى الله عليه وسلم - . (2)
فالكفار ما أن يروا الآية حتى يستسخروا ، والآية هنا البينة كانشقاق القمر ونحوه من البينات الواضحات (3)
ولكلمة : ( يستسخرون ) ثلاثة معانٍ ، وهي :
1. السخرية : حيث إن معنى : ( يستسخر ) هو نفس معنى : ( يسخر ) .
2. يستدعي بعضهم بعضاً كي يسخروا .
3. يبالغون في السخرية (4) .
__________
(1) ) سورة الصافات / 14
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 57 .
(2) ) انظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 371 .
(3) ) انظر حسن بن محمد القمي ( ت 728 هـ / 1328 م ) ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، اعتنى به زكريا عميرات ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1996 م ، ص 557 .
(4) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 190.(1/129)
و سواء أن الكفار كانوا يستسخرون بمعنى يسخرون ، أو يستدعي بعضهم بعضاً لأجل السخرية ، أو يبالغون في السخرية ، فهم في نهاية الأمر ساخرون من المعجزات البينة الواضحة ، و ذلك بعد أن ظهرت للعيان ، و توغل صدقها إلى شغاف الجَنان .ولكن الكفر عناد (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) (1) . ولكن كفار مكة لم يجحدوا بها وحسب ، بل جحدوا بها واستهزأوا منها ، إمعاناً منهم في الكفر والضلال .
فالكفار يستهزئون من المعجزات التي يجريها الله على يد رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهي لا تدعو إلى الاستهزاء ، وإنما تدعو إلى التفكر والتدبر والإيمان ، ولكن أهل الضلال يغيبون عقولهم عندما يبحثون في أمر الإيمان ؛ لأن أهواءهم تريد شيئاً آخر غير الإيمان .
ولقد أورد محمد قطب صورة معاصرة للاستهزاء بمحمد - صلى الله عليه وسلم – فقال : " رسم صلاح جاهين – رسام الكريكاتير المعروف – صورة هزلية في جريدة الأهرام ؛ رسم فيها رجلاً بدوياً – يرمز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – يركب حماراً في وضع مقلوب ؛ أي : رأس الحمار في اتجاه ووجه الرجل في الاتجاه المضاد رمزاً للرجعية .
وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات . وعنوان الرسم ( محمد أفندي جوز التسعة ) وهو هجوم سافر على شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – وزوجاته التسع لم يسبق له مثيل في أية صحافة إسلامية على الإطلاق ، بل لعل الصحف الصليبية لا تتوقح بهذه الوقاحة " (2) .
ولو كان لهذا الأمر رجال لما تجرّأ مثلُ هذا أن يفعل مثلَ هذا .
إذن ؛ فإن الكفار قد استهزأوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم – بأساليب متنوعة .
الأسلوب الأول : إطلاق المدح بقصد الاستهزاء .
الأسلوب الثاني : الاستفهام المساق للاستهزاء .
__________
(1) ) سورة النمل / 14 .
(2) ) محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، مرجع سابق ، ص 358 .(1/130)
فأما الآيات التي تبين أسلوب الكفار الأول – وهو : إطلاق المدح بقصد الاستهزاء – فهي: 1- يقول تعالى : (وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (1)
2- يقول تعالى : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) (2)
3-يقول تعالى : (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ) (3)
وأما الآيتان اللتان تبينان أسلوب الكفار الثاني – وهو : الاستفهام المساق للاستهزاء – فهما :
1- يقول تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (4)
2- يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) (5)
وهناك أساليبُ أخرى استهزأ الكفار بها من النبي - صلى الله عليه وسلم – منها ما جاء في حديث البخاري المذكور آنفاً ؛ حيث ألقى الكفار سلى الجزور وفرثها على النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي ، ثم بعد ذلك تمايل الكفار من الضحك استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم . (6)
المطلب الثالث : استهزاء الكفار بالمؤمنين .
أولا : استهزاء الكفار من إيمان المؤمنين .
__________
(1) ) سورة الحجر / 6
(2) ) سورة الفرقان /7 .
(3) ) سورة الفرقان / 41 .
(4) )سورة سبأ / 7 .
(5) ) سورة محمد/ 16.
(6) ) انظر ابن حجر ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص ص 780 – 781 .(1/131)
يقول تعالى : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (1)
هذه الآية تبين واقع المنافقين في استهزائهم بالمؤمنين ، وتبين أسلوب المنافقين في الاستهزاء ؛ وهذا الأسلوب الذي بينته الآية الكريمة هو أسلوب الخداع . فالمنافقون يقولون للمؤمنين: آمنا ، ونحن معكم ، ونحن نريد الإسلام ، ونريد وجوده في الواقع العملي في حياة الناس . ولكنهم إذا خلوا إلى أعوانهم الكبار رؤساء النفاق ، قالوا : نحن نستهزئ بالمؤمنين ، وأكدوا تبعيتهم لرؤسائهم ، بقولهم : (إنا معكم ). وأكدوا استهزاءهم بالمؤمنين بقولهم : (إنا معكم مستهزئون ). وما ذلك إلا بسبب ولائهم لشياطينهم . فلعنة الله عليهم وعلى شياطينهم . (2)
فهم يستهزئون بالمؤمنين لأنهم مؤمنون ، ولذلك يقولون : آمنا . فالإيمان موضوع استهزائهم الذي به يسخرون وبأصحابه يستهزئون .
ويقول تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ) (3)
__________
(1)
) سورة البقرة / 14
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 148.
(2) ) قد سبق الكلام عن هذه الآية في المبحث الرابع من الفصل الأول فانظر إليه إن شئت .
(3) ) سورة المؤمنون / 109-111 .
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 12 ، ص 95 .(1/132)
تبين هذه الآيات الكريمة رد الله - سبحانه وتعالى – على أهل النار الذين يطلبون الخروج من النار . والشاهد في هذه الآيات أن الكفار اتخذوا المؤمنين هزواً ، ولزيادة اشتغالهم بالاستهزاء بالمؤمنين ، نسي الكفار ذكر الله – سبحانه وتعالى - ، وزيادة في الاستهزاء كان الكفار يضحكون من المؤمنين (1)
وكأن الله يقول للكفار : " لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب واقتصرتم على أنفسكم بالكفر – وهو جرم عظيم – إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته، وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله " (2)
فالمؤمنون لم يعتدوا على الكفار إنما كانوا مسالمين يقولون ربنا إننا آمنا بك ، وآمنا بمغفرتك ، وآمنا برحمتك ، فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا برحمتك الواسعة فأنت خير الراحمين!
هذا الفريق المؤمن – سواء من الصحابة رضوان الله عليهم أم من المؤمنين عامة – لم يفعل شيئاً سوى أنه آمن واستغفر وطلب الرحمة من الرحيم –جل وعلا - ، ولكن الكفار لا يتركون المؤمنين على حالهم ، ولو أن المؤمنين لم يقاتلوهم ولو لم يتعرضوا لهم ، فإن الكره الدفين لا يتزحزح عن قلوبهم . فالاستهزاء بالمؤمنين قائم سواءً تعرض المؤمنون للكفار أو سالموهم ، فهذا شأن الكفار، إليه يسيرون وعليه يمشون وله يبذلون .
ومن هنا ، فليعلم الداعية المؤمن أن الانزواء والابتعاد عن المستهزئين لا يقطع استهزاءهم ؛ لأن الاستهزاء عند الكفار داء كداء الجرب ، لابد أن يحكُّوه ولو آذوا أنفسهم وأنزلوا الدماء من أجسامهم .
__________
(1) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص ص 345-346 .
انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 17 ، ص 2381.
(2) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 18 ، ص 2482 .(1/133)
ومن عقاب الله - سبحانه وتعالى – لهؤلاء المستهزئين أن يجعل استهزاءهم بالمؤمنين سبباً لمنع هدايتهم ، وسببًا لنسيانهم ذكر الله ، بل وزاد استهزاء الكفار ليخرج إلى السطح بأسلوب الضحك إمعاناً في الاستهزاء والكفر . يقول أبو السعود : " ( حتى أنسوكم ) أي : الاستهزاء بهم ( ذكري ) من فرط اشتغالكم باستهزائهم ( وكنتم منهم تضحكون ) وذلك غاية الاستهزاء " (1)
ثانياَ : استهزاء الكفار من فقر المؤمنين .
يقول تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2)
فالكفار يسخرون من فقراء المؤمنين كبلال وعمار – رضي الله عنهما - . وقد جاء بصيغة المضارعة : ( يسخرون ) للدلالة على السخرية (3)
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص ص 433-434 .
وقد قُرئت ( سِخرياً ) بـ ( سُخرياً ) . والذين قرأوا بالضم ، هم : نافع وحمزة والكسائي . وقد قرأ الباقون بكسر السين . والسُّخري والسِّخري - بالضم والكسر – لغتان ، وكلاهما مصدر ( سَخِرْتُ منه ) . والتي في الآية هي بمعنى الهزؤ ؛ بدليل قوله تعالى : (وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).
نصر بن علي بن محمد ( ت 565 هـ / 1170 م ) ، الكتاب المُوضَح في وجوه القراآت وعللها ، تحقيق : د . عمر الكبيسي ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، نشر الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ، جدة ، 1993 م ، ص 901 . بتصرف
(2) ) سورة البقرة / 212
هذه الآية مدنية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 1 ،ص 148 .
(3) ) انظر محمد بن عمر الرازي (ت 604 هـ /1208م) ، مفاتيح الغيب ، الجزء 6 ، الطبعة 3 ،
دار الفكر ، لبنان ، 1985 م ، ص 7.(1/134)
" فالشيطان زيّن للذين كفروا بالله ورسله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لا يرون غيرها ؛ ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين " (1) . فزينة الحياة الدنيا من البواعث على استهزاء الكفار من الفقراء المؤمنين (2)
ويقول تعالى : (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ(52)وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) (3)
وسبب النزول ما أخرجه الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال:" كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) " (4)
__________
(1) ) انظر الجزائري ، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 189 .
(2) ) قد سبق الكلام عن هذه الآية في المبحث الثالث من الفصل الأول
(3) ) سورة الأنعام / 52-53
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 295 .
(4) ) رواه مسلم ، كتاب فضائل الصحابة .
عياض ، إكمال المعلم بفوائد مسلم ، مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص 426 .(1/135)
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه قال : " مرّ الملأ من قريش على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعنده خباب وبلال وصهيب ، فقالوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ؟أيأمرنا أن نكون تبعاً لهؤلاء ؟ " (1)
__________
(1) ) ابن أبي حاتم ، تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص ص 1299 – 1300.(1/136)
فالله – سبحانه وتعالى - ينهى عن طرد العابثين الفقراء مهما كانت المكاسب المتوقعة ، سواء كانت إسلام صناديد قريش أو حتى إسلام الكفار أجمعين . فالرزق مقدر من الله – سبحانه وتعالى – ولا ذنب للفقراء أنهم فقراء ولا يجوز أن نعاملهم معاملة الدُّون ؛ لأنهم لا يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة وغير ذلك من زينة الحياة الدنيا ومفاتنها البراقة الزائلة . فلقد كان هؤلاء المسلمون الفقراء عابدين ؛ وذلك لقوله تعالى : ( يدعون ربهم ) ؛ والعبادة من معاني الدعاء (1) ، وهم – أيضاً – مداومون على العبادة – وهذه صفة ثانية – ؛ وذلك لقوله تعالى ( يدعون ربهم بالغداة والعشي ) . والغداة هي : أول النهار (2) . وقيل : ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس (3) . والعشي من زوال الشمس إلى الصباح (4) . وقيل : من صلاة المغرب إلى العتمة (5) ." والمراد بذكر الغداة والعشي : الدوام " (6) .
أما الصفة الثالثة ، فهي : إخلاص الطاعة لله ، وذلك لقوله تعالى : ( يريدون وجهه ) . يقول ابن جزي :"(يريدون وجهه ) إخبار عن إخلاصهم لله ، وفيه تزكية لهم " (7)
إذن؛ فهؤلاء المسلمون الفقراء هم :
1- عابدون .
2- مداومون على طاعة الله سبحانه وتعالى .
__________
(1) ) وانظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 136 .
(2) )انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 603 .
(3) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 234 .
(4) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 567 .
(5) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 217 .
(6) ) عبد الله بن أحمد النسفي ( ت 710هـ /1310م ) ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، تحقيق : يوسف البديوي ، الجزء 1، الطبعة 1 ، دار الكلم الطيب ، بيروت ، 1998 م ، ص 506 .
(7) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، الجزء 1، ص 262 .(1/137)
3- مخلصون فيما يقدّمونه من الطاعات لله تعالى .
ويخاطب الله – سبحانه وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم - : (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ) ؛ " أي : جزاؤهم ورزقهم على الله ، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره ( ... ) وإذا كان الأمر كذلك ، فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس مثل حالهم في الدين والفضل ، فإن فعلت كنت ظالماً . وحاشاه من وقوع ذلك منه ، وإنما هذا بيان للأحكام ، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام " (1)
" وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ، والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه ، واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعفاء الفقراء " (2)
وفي ذلك يروي الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : "( وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ) يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، فقال الأغنياء للفقراء : ( أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ) يعني : هداهم الله . وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسخرياً " (3)
__________
(1)
) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 340 .
(2) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 7 ، ص 1100 .
(3) ) محمد بن جرير الطبري ( ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن
، الجزء 5 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م ، ص 205 . وأخرج ابن أبي حاتم قريباً من هذا عن ابن عباس – رضي الله عنه -:
انظر ابن أبي حاتم ، تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 1300 .(1/138)
إذن الكفار كانوا يسخرون ويستهزئون من المؤمنين لفقرهم ورثاثة حالهم ؛ لأن الكفار يزِنون الأشياء بموازينهم الكفرية ؛ حيث إنهم اعتبروا قيمة الفرد بما يملك من المال ، فمن كان يملك المال فهو الأعلى مقاماً والأزكى نفساً والأذكى عقلاً ، ومن كان لا يملك المال فهم الأسفل مكاناً والأرذل نفساً والأسوأ عقلاً . ولكن الإسلام يعلمنا أن الرزق ليس مقياساً لقيمة الفرد ، وإنما قيمته بدينه .
وعندما قال الكفار : ( أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ) ؛ أي : " بأن وفقهم لإصابة الحق ، ولما يُسعدهم عنده تعالى من دوننا ، ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء " (1) ، فردّ الله – سبحانه وتعالى – قولهم حيث قال : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ؛ لأن " مدار استحقاق الإنعام ، معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم ، والاستفهام لتقرير علمه البالغ بذلك ، أي : أليس الله بأعلم بالشاكرين لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم ؟ وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان ، شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزل من ذلك كله " (2)
ويقول تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(47)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3)
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 23 ،ص 390 .
(2) ) المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 390 .
(3) ) سورة يس / 47-48
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 3 .(1/139)
فالكفار يستهزئون بالمؤمنين إذا دعوهم إلى إنفاق الأموال للمحتاجين . ولعل بعض من أسلم من فقراء المسلمين سألوا المشركين مالاً اعتادوا أخذه منهم ، فرد المشركون على الفقراء المؤمنين بقولهم - استهزاء – لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه (1)
" والتعبير في جوابهم بالإطعام مع أن المطلوب هو الإنفاق ؛ إما لمجرد التفنن تجنباً لإعادة اللفظ – فإن الإنفاق يراد منه الإطعام – وإما لأنهم سُئلوا الإنفاق وهو أعمّ من الإطعام ؛ لأنه يشمل الإكساء والإسكان ، فأجابوا بإمساك الطعام ، وهو أيسر أنواع الإنفاق ، ولأنهم كانوا يعيرون من يشحّ بإطعام الطعام . وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم لما هو فوقه أحرى " (2)
والشاهد – هنا – أن ردّ الكفار على المؤمنين هو ردّ استهزائي . يقول الشوكاني : " (قال الذين كفروا للذين آمنوا ) استهزاء بهم وتهكماً بقولهم : ( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) " (3)
ويقول تعالى : (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36)عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ(37)أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38)كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) (4)
__________
(1) ) انظر ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، مرجع سابق ، الجزء 23 ، ص 32 .
(2) ) المصدر ذاته ، الجزء 23 ، ص 32 .
(3) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 428 .
(4) ) سورة المعارج / 36 –39
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 18 ، ص 256 .(1/140)
وفي هذه الآيات يخاطب الله – سبحانه وتعالى – نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – وكأنه يقول له : " فما للذين كفروا يسرعون إليك لاستماع القرآن ، ثم يتفرقون بلا قبول له " (1)
فالكفار لا يسرعون الخطى نحو النبي - صلى الله عليه وسلم – ليسمعوا القرآن كي يهتدوا ويزدادوا إيماناً ، إنما يسرعون الخطى ليسخروا ويضحكوا ويستهزئوا وليقولوا : إن دخل هؤلاء المؤمنون الجنة – كما يخبرهم بذلك محمد – فلندخلنها ، وليكونن دخولنا لها قبلهم ؛ لأن الله أعطانا في هذه الدنيا أكثر مما أعطاهم ، ولذلك فسيعطينا في الآخرة أكثر مما أعطاهم (2)
ومعنى مهطعين ؛ أي : مصوبو أبصارهم (3) ، وكذلك فلها معنى آخر ألا وهو : المسرعون في عدوِهم (4)
فأيّاً كان معنى : ( مهطعين ) فالمقصود هو أن تصويب أنظارهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن لأجل الاستماع والاستيعاب ، وكذلك إسراعهم إلى سماع الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليس سماع استماع ، وإنما سماع استهزاء ولهو .
__________
(1) ) منصور بن محمد بن عبد الجبار ( ت 489 هـ / 1096 م ) ، تفسير القرآن ، تحقيق ياسر إبراهيم وغنيم عباس ، الجزء 6 ، الطبعة 1 ، دار الوطن ، الرياض ، 1997 م ، ص 50 .
(2) ) انظر محمد علي الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، الجزء 15 ، الطبعة 1 ، دار الفكر ، لبنان، 1997م، ص 89 .
(3) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ،ص 843 .
(4) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 339 .(1/141)
يقول الواحدي : " كان المشركون يجتمعون حول النبي – صلى الله عليه وسلم – يستمعون كلامه ولا ينتفعون به ، بل يكذبون به ويستهزئون ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية " (1) . إذن ؛ فإن الكفار يستهزئون من المؤمنين لأنهم ليسوا أصحاب جاه ومال ، ولذلك فهم يستكثرون عليهم دخول الجنة ، ويجدون في ذلك مفارقة تدفعهم إلى السخرية والاستهزاء . يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ) (2)
بل إن الكفار كانوا إذا رأوا المؤمنين ، يستهزئون منهم بالضحك والغمز
ويتلذذون بهذا الاستهزاء وكذلك يتغامزون فيما بينهم سخرية بالمؤمنين . وكذلك فإذا رجع الكفار إلى أهلهم رجعوا فكهين ؛ أي : متلذذون بالاستهزاء من المؤمنين (3)
__________
(1) ) الواحدي ، أسباب النزول ، مصدر سابق ، ص 229 .
(2)
) سورة المطففين / 29-32
يقول القرطبي : " مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة " .
(3) )انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 724 .
وانظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 489
وقد قرئت ( فكهين ) من دون ألف وهذه قراءة حفص وابن القعقاع والأعرج والسلمي ، وقرأ الباقون
( فاكهين ) بالألف . وهما بمعنى واحد .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 19 ، ص 229 .(1/142)
" والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا وسوء أدبهم معهم وتطاولهم عليهم ووصفهم بأنهم ضالون – مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة ، ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى ، وكثير من المعاصرين شهدوها ؛ كأنما هي الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها ، مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور ( ... ) .
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم وسخرية منهم ؛ إما لفقرهم ورثاثة حالهم ، وإما لضعفهم عن ردّ الأذى ، وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة ، وهم يسلطون عليهم الأذى ، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع ، مما يصيب الذين آمنوا وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين " (1)
ثالثاً : استهزاء الكفار من صدقات المؤمنين .
يقول تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2)
فإذا تصدق المسلم الطائع السخيّ الغنيّ بشيء كثير ؛ فإن المنافقين يقولون : إنه مراءٍ . وإذا جاء رجل مسلم طائع لا يجد إلا القليل ؛ فينفق مما يجد ؛ فإن المنافقين يقولون : إن الله لغني عن صاع هذا . يقولون ذلك سخرية واستهزاء بصدقات المؤمنين .
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 30 ، ص 3861
(2) ) سورة التوبة / 79
هذه الآية مدنية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 331 .(1/143)
يروي البخاري عن ابن مسعود قال “ لما أُمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه . فقال المنافقون : إن الله لغنيّ عن صدقة هذا ، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الآية “ (1)
فالمنافقون لا يدركون البواعث الحقيقية التي دفعت المسلمين إلى أعمال البر . لأنهم يمتلئون حقداً وحسداً . يريدون أن يستهزئوا ليردوا الغنيّ عن الصدقة مخافة رميه بالرياء ، ويصدّوا الفقير عن الصدقة مخافة رميه بالعبثية . (2)
فالمستهزئون لا يقدمون خيراً ولا يعملون بِراً ، وإنما يقدّمون الاستهزاء بأعمال البر ؛ حتى يبينوا للناس أنه لا فضل لأحد عليهم ؛ فالمكثر مراءٍ والمقلُّ عبثي في عمله ، ولا قيمة له ، وأنهم هم الأفضل والأعلى مكانة والأزكى نفوساً والأذكى عقولاً والأصوب منهجاً.
وبعض المسلمين في زماننا يصدر عنهم مثل هذا الاستهزاء ؛ إما جهلاً ، وإما عن سوء قصد ، وإما عن كليهما . وإلى الله المشتكى .
رابعاً :استهزاء الكفار من زيادة الإيمان عند المؤمنين .
يقول تعالى : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىرِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (3)
__________
(1) ) أحمد بن علي بن حجر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، مصدر سابق ، الجزء 2 ،ص 2008
و أخرج مسلم عن ابن مسعود نحوه
عياض بن موسى ، إكمال المُعلم بفوائد مسلم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 542 .
(2) ) قد سبق الكلام عن هذه الآية وسبب نزولها في المبحثين الثاني والثالث من الفصل الأول
(3) ) سورة التوبة / 124-125
هاتان الآيتان مدنيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق ، الجزء 8 ، ص 3(1/144)
فالمنافقون لا يفوتون أي فرصة للاستهزاء حتى يستهزئوا – رغم أنه لا يوجد في ديننا وإيماننا ما يُستهزأ به – فهم يستهزئون من المؤمنين حتى وقت نزول القرآن . فإذا أنزلت سورة من القرآن ، فإن المنافقين يستهزئون ؛ ويقولون : ( أيكم زادته هذه إيماناً ؟ ) . وهذا الاستفهام الاستهزائي موجه من المنافقين إلى المنافقين ، كأنهم يقولون : وأي شيء وأي عجب ، وأي دليل في هذا القرآن ؟! (1)
يقول الزمخشري : " ( فمنهم من يقول ) فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض ( أيكم زادته هذه ؟ ) السورة (إيماناً) إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به " (2)
إذن ؛ فهذا الاستفهام : ( أيكم زادته هذه إيماناً ؟ ) استفهام قصد به المنافقون الاستهزاء بالمؤمنين الذين يزيد إيمانهم بسماع القرآن ، وهذا الكلام الاستهزائي " لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه " (3)
إذن؛ فقد استهزأ الكفار من المؤمنين بعدة أساليب :
الأسلوب الأول : الخداع .
الأسلوب الثاني : الاستفهام المساق للاستهزاء
الأسلوب الثالث : الضحك .
الأسلوب الرابع : تحريك الأعضاء بقصد الاستهزاء .
وأما الأمور التي اتخذها المستهزئون موضوعاً لاستهزائهم فهي :
أولاً : استهزاء الكفار بإيمان المؤمنين
? يقول تعالى : (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (4) .
__________
(1) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 475 .
(2) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص ص 309 –310 .
(3) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 18 ، ص 2482 .
(4) ) سورة البقرة / 14 .(1/145)
? يقول تعالى : (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ) (1)
ثانياً : استهزاء الكفار من فقر المؤمنين :
? يقول تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (2)
? يقول تعالى : (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ(52)وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (3) .
? يقول تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(47)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (4)
? يقول تعالى : (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36)عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ(37)أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) (5)
__________
(1) ) سورة المؤمنون / 109-111.
(2) ) سورة البقرة / 212.
(3) ) سورة الأنعام/52- 53 .
(4) ) سورة يس / 47 -48.
(5) ) سورة المعارج / 36-38.(1/146)
? يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ) (1)
ثالثاً : استهزاء الكفار من صدقات المؤمنين :
? يقول تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)) (2)
رابعاً : استهزاء الكفار من زيادة الإيمان عند المؤمنين :
? يقول تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (3)
المبحث الثالث : الرد على المستهزئين .
أولاً : البراء من المستهزئين .
يقول تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (4)
ولهذه الآية سبب نزول أورده الطبري حيث قال : " حدثنا هناد بن السًّري (5) وأبو كُريب (6)
__________
(1) ) سورة المطففين / 29-31 .
(2) ) سورة التوبة / 79.
(3) ) سورة التوبة / 124 -125.
(4)
) سورة المائدة / 57
هذه الآية مدنية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 3 .
(5) ) هنّاد بن السري بن مصعب التميمي : ثقة .
انظر ابن حجر ، تقريب التهذيب ، مصدر سابق ، ص 505.
(6) ) وهو محمد بن العلاء بن كريب الهمداني ، أبو كريب مشهور بكنيته : ثقة حافظ .
انظر المصدر ذاته ، ص 435 .(1/147)
قالا حدثنا يونس بن بُكير (1) قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما ؛ فأنزل الله فيهم : (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ) إلى قوله تعالى : (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) (2) " (3)
ومعنى هذه الآية هو: لا يحل لنا أن نتخذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء وأنصاراً وأحباباً ، بل علينا أن نتبرأ منهم تبرؤاً يظهر في سلوكياتنا النابعة من عقيدتنا الإسلامية . وهذا البراء من اليهود والنصارى والمشركين لأنهم اتخذوا دين الله هزواً ولعباً وسخرية واستهزاءً. (4) ومن صور الولاية للمستهزئين :
1- الرضى بكفرهم واستهزائهم .
2- اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء .
3- مودتهم ومحبتهم والدعوة إلى التقارب معهم والتعايش في حب وسلام .
__________
(1) ) يونس بن بكير بن واصل الشيباني : صدوق يخطئ .
انظر المصدر ذاته ، ص 542 .
وباقي رجال السند سبق الكلام عنهم . انظر المبحث الرابع من الفصل الأول . وهو سند ضعيف ؛ لإن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت مجهول .
انظر المصدر ذاته ، ص 439 .
(2) ) سورة المائدة / 61
(3) ) محمد بن جرير الطبري ( ت310 هـ /923م)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الجزء 4 ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية لبنان ، 1999م ، ص 630
(4) ) انظر عمر بن عادل ( ت880 هـ/ 1475م ) ، اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل عبد الموجود وآخرِين ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، بيروت ، 1988م ،ص 400 .
وانظر الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 630 .(1/148)
4- مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين .
5- توليتهم أمراً من أمور المسلمين . . (1)
والكلام في الولاء والبراء كلام طويل الذيل كثير النَّيل ، وقد كُتب فيه . (2) ، ولكن المراد هو بيان أن على المؤمنين ألا يتخذوا الكفار المستهزئين أولياء ؛ لأن اتخاذهم أولياء يؤدي إلى خرق الصف الإسلامي وذلك بدخول عناصر معادية للإسلام تحت مظلة رعاية المسلمين الموالين لليهود والنصارى والمشركين ، مما يعرض الجسد الإسلامي لأن يغزى من داخله بمساعدة أبنائه من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، ولكن المحصلة النهائية هي سلبية النتائج في الحساب الإسلامي . ولهذا منع الإسلام موالاة أعدائه ، بل وأمر بجفائهم ومعاداتهم وإقامة الحواجز التي تحول دون اختلاطهم المباشر المؤثر على المسلمين سلباً .
ثانياً : مقاطعة مجالس الاستهزاء .
يقول تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) (3)
__________
(1) ) انظر أمين محمد الحاج، التقارب الديني –خطره – مراحله – آثاره ، الطبعة 1، القاهرة ، 1998م ،ص ص 60-65 .
(2) ) انظر أحمد عبد المولى رويجي ، "الولاء والبراء في القرآن الكريم-دراسة موضوعية " ،رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الشريعة ، الجامعة الأردنية ، عمان ، 1993 م .
(3) ) سورة النساء / 140
هذه الآية مدنية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 3 .(1/149)
هذه الآية تبين أن النهي عن مجالسة المستهزئين قد سبق هذه الآية . فأين ذلك النهي؟ يقول الزمخشري : " والمنزَل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة من قوله : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) [ الأنعام / 68 ] وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم ؛ فيستهزئون به ؛ فنُهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه " (1)
إذن ؛ فآية الأنعام [ 68 ] تدل على وجوب اعتزال مجالس الاستهزاء والمستهزئين (2) ،ولكن ما هو حكم الجلوس مع المستهزئين ؟ حكمه الحرمة بل إن الجالس مع المستهزئين بالدين كافر مثلهم ، يقول الواحدي : " ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ )؛ أي : إنكم كافرون مثلهم ؛ لأن من رضي بالكفر فهو كافر ، وهذا يدل على أن من رضي بمنكر يراه وخالط أهله ، كان في الإثم بمنزلة المباشِر" (3)
وبعد ذلك في الآخرة سيجمع الله الذين استهزأوا مع الذين جلسوا معهم مستمعين ؛ لأنهم شاركوهم في الكفر فكذلك الله يشارك بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً (4)
__________
(1) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص ص 611 –612 .
(2) ) انظر حسن بن محمد القمي ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 97 .
(3) )علي بن أحمد الواحدي ( ت 468 هـ / 1076م ) ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ، تحقيق عادل أحمد وآخرِين ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1994 م ، ص ص 129-130
(4) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص754 .(1/150)
وقد قيل :إنها منسوخة ، ولكن الصحيح أنها محكمة . قال الشوكاني :"وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم ،إلا ما يروى عن الكلبي ، فإنه قال : "هي منسوخة بقوله (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وهو أمر مردود ؛ فإن التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها " (1)
" وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فيسكت ويتغاضى ؛ يسمي ذلك تسامحاً ، أو يسميه دهاءً ، أو يسميه سعة صدر وأفق ، وإيماناً بحرية الرأي ! وهي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله ( ... ) .
إن الحميّة لله ولدين الله ولآيات الله هي آية الإيمان ، وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد ، وينزاح بعدها كل حاجز ، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار . وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمداً ثم تهمد ثم تخمد ثم تموت .
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس ، فإما أن يدفع وإما أن يقاطع المجلس وأهله ، فأما التغاضي والسكوت فهو أول الهزيمة ، وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق " (2)
إذن ؛ فمقاطعة مجالس المستهزئين أمر واجب تدخل مخالفته المسلم إلى حظيرة الكفر بعد أن كان مؤمناً ، كل هذا لأنه ماشى المستهزئين فيما يذهبون إليه ولم ينكر عليهم ، وإنما استروح إلى كلامهم كأنه كلام عادي ليس فيه حرمة تخرج المرء من الإسلام . فالتقوى هي التي تمنع المؤمن من مخالطة المستهزئين في مجالس استهزائهم ؛ لأن هذا الجلوس وإن كان قصيراً ولكنه عظيم الخطر .
ثالثاً : السخرية من المستهزئين .
__________
(1) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 608 .
(2) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص ص 780-781 .(1/151)
يقول تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (1)
إن نوحاً – عليه السلام – سخر من الساخرين كما سخروا منه . وفيه أن رد السخرية على الساخرين من منهاج دعوة الأنبياء – عليهم السلام – فهم قدوتنا ونحن على أثرهم مهتدون ، نهتدي بهديهم ونسلك سبيلهم . (2)
وكذلك فإن القرآن الكريم قد سخر من الكفار والمنافقين في آيات كثيرة ، ليس هذا المقام مقام عرضها وبيانها (3)
فعلى الدعاة أن يسخروا من الساخرين ، ولا يظنوا أن السخرية من الساخرين تخرج قيد أنملة عن جادة دعوة الأنبياء ؛ فهذا نوح – عليه السلام – يسخر من الساخرين ، ونحن على آثار نوح لسائرون ، ومن الساخرين لساخرون .
رابعاً: دعوة المستهزئين .
__________
(1) ) سورة هود / 38
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص 3 .
(2) ) ولقد سبق بيان هذه الآية في المبحث الثالث من الفصل الأول ، وفي المطلب الأول من المبحث الثاني من الفصل الثاني .
(3) ) انظر حفني ، التصوير الساخر في القرآن الكريم ، مرجع سابق . .
وانظر حفني ، أسلوب السخرية في القرآن الكريم ، مرجع سابق .
فقد أفاض مؤلف الكتابين في ذكر الشواهد التي تدل على أن القرآن قد سخر من الكفار سخرية عظيمة وكثيرة . ولم أعزُ إلى رقم الصفحة لأن موضوع استهزاء القرآن من الكفار هو الموضوع الرئيس فيهما .(1/152)
يقول تعالى : (قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(87)قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88)وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ(89)وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (1)
فقوم شعيب يستهزئون بنبيهم ، ولكن ما هو موضوع استهزائهم منه ؟ إنه الاستهزاء بعقل نبيهم وصلاته .
فقد استهزأ قوم شعيب بقدرات نبيهم العقلية ، فقالوا : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) . وهذا أسلوب إطلاق المدح بقصد الاستهزاء يقول الآلوسي : " (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) وصفوه – عليه السلام – بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية .فالمراد بهما ضد معناهما " (2)
إذن ؛ لقد قصد قوم شعيب بوصف نبيهم بالحليم الرشيد ، أنه " السفيه الضال ، وهذه تسمية على القلب استهزاء " (3)
__________
(1) ) سورة هود / 87-90
هذه آيات مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص 3 .
(2) ) محمود الآلوسي (ت1270 هـ /1854م ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1994م ، ص 177
(3) ) النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 87(1/153)
وقد استهزأ قوم شعيب بصلاة نبيهم – أيضاً – فقالوا : (يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) وهذا استهزاء بكل دين لله الذي جاء به شعيب – عليه السلام – ؛ لأن الصلاة هي أظهر شعائر الدين . فقولهم : أصلاتك . استهزاء ظاهر بصلاة نبيهم . يقول أبو حيان الأندلسي : " لما أمرهم شعيب بعبادة الله تعالى وترك عبادة أوثانهم وبإيفاء الكيل والميزان ، ردوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزو بقولهم : أصلاتك " (1)
ورغم هذا الاستهزاء بالنبي شعيب – عليه السلام - ، ولكنه لم يفقد تلطفه مع قومه فقد قال لهم- في بداية الرد عليهم -: ( يا قوم ). ويكرر هذا النداء " الذي ينمُّ عن المحبة والشفقة ، وهم يقابلونه بهذه السفاهة والرعونة " (2)
يقول أبو السعود : " وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام ؛ أي : أتقولون . والمعنى: إنكم نظمتموني في سلك السفهاء والغواة وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوّه به عاقل ، وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون ، واستهزأتم بي وبأفعالي " (3)
ويُلاحظ أن شعيباً - عليه السلام – يذكّر قومه بما لديه من القدرات وأنه ليس موضعاً للسخرية والاستهزاء . وهذا منهج نبوي في الرد على المستهزئين ، والذي يمكن أن يُطلق عليه : منهج نقض استهزاء المستهزئين .
__________
(1)
) محمد بن يوسف بن حيان ( ت 754 هـ / 1353م) ، النهر الماد من البحر المحيط ، ضبط بوران وهديان ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار الجنان ، لبنان ، 1987 م ، ص 85
(2) )الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، مرجع سابق ، الجزء 5 ، ص 74 .
(3) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ،ص 343 .(1/154)
أي : إنكم تستهزئون بي ، وأنا لست موضعاً للاستهزاء ، بدليل أن الله آتاني البينة والرزق الحسن . ومعنى البينة – هنا - : العلم والنبوة والهداية (1) ، والرزق الحسن هو : المال الحلال (2) .
إذن ؛ فشعيب – عليه السلام - تلطف بالرد على قومه بمنهج : ( ياقوم ) ، ثم رد تهمة الاستهزاء برد قوي يحرك العقل والعاطفة معاً . وهذا منهج نقض الاستهزاء . وبعد ذلك يصرح شعيب – عليه السلام –بمقصده الحقيقي الذي صرح به من قبل هذا الموقف ، ويصرح به في هذا الموقف للحاجة إليه ؛ حيث قال لهم : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) إنه الإصلاح الحقيقي الذي يبدأ به الداعية بنفسه فلا يخالف ما يعظ غيره حتى لا يخالف قولُه عملَه . إن شعيباً – عليه السلام – لا يريد إلا الإصلاح " الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه " (3) ، وهذا الإفصاح عن الهدف والتذكير به ؛ حتى لا يتوهم المدعوون أن للداعية مآرب أخرى .
وبعد ذلك يحذر شعيب – عليه السلام – قومه (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) .
__________
(1) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص 342 .
(2) ) انظر محمد بن عمر الجاوي ( ت 1316 هـ /1898م ) ، مراح لبيد لكشف معنى القرآن العظيم ، تحقيق محمد أمين الضناوي ، الجزء 1 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1997 م ، ص 515
(3)
) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 12 ، ص 1921(1/155)
" لا يحملنكم الخلاف معي و العناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب و المخالفة ، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم . و هؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان ، و قريب كذلك في الزمان " . (1)
ثم يأمرهم بأن يستغفروا ربهم عن عبادة الأوثان ، ثم يتوبوا إليه فإن الله عظيم الرحمة للتائبين ( إن ربي رحيم ودود ) . . (2)
فهو – عليه السلام –لم يقفل الطريق أمام قومه و لكن فتح لهم باب التوبة والرجوع إلى الله . إذن ؛ فالخطوات التي اتبعها شعيب – عليه السلام – في دعوة المستهزئين :
أولاً : التلطف مع قومه .
ثانياً : نقض استهزاء قومه بالحجة .
ثالثاً : تنبيه قومه إلى استقامته ، وأنه لا يخالف ما يدعوهم إليه .
رابعاً : تذكير قومه بهدفه الإصلاحي .
خامساً : تحذير قومه من عاقبة بقائهم على الكفر والاستهزاء ، وتذكيرهم بمصارع السابقين .
سادساً : فتح باب التوبة .
ويقول تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) (3)
وقبل وعظ المستهزئين أمر الله – سبحانه وتعالى – ترك المستهزئين وإهمال شأنهم ، وهذا الإهمال والترك له جوانب متعددة ، فقد يكون بالقول وقد يكون بالفعل ، فالذي لا يجعل لدينه وقاراً واحتراماً فإنه يتخذ دينه لعباً ولهواً .
__________
(1) ) المرجع ذاته ، الجزء 12، ص 1921 .
(2) ) انظر الجاوي ، مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد ، مصدر سابق ، الجزء 1، ص 515 .
(3) ) سورة الأنعام / 70
هذه الآية مكية .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 295 .(1/156)
وقد قال تعالى : ( دينهم ) – رغم أن الكفار ليسوا مسلمين ، وليس الإسلام دينهم المعتنق – دلالة على أن الإسلام هو الدين العالمي لكل البشرية ، سواء من آمن به أو لم يؤمن به ، فالذي يرفض الإسلام فإنه يرفض دينه ، والذي يستهزئ بالإسلام فإنه يستهزئ بدينه ، ولو لم يكن مسلماً (1) . ومعنى ( اتخذوا دينهم لعباً ولهواً ) ؛ أي سخروا به واستهزأوا منه (2)
وقد أمر الله – سبحانه وتعالى – بتذكير هؤلاء المستهزئين بالقرآن وآياته ؛ لما في آياته من الترغيب بالثواب العظيم ، والترهيب من العذاب الأليم ، وهذا التذكير مخافة أن تحبس هذه النفس المستهزئة وترتهن في نار جهنم .
ويقول الزمخشري : " ( وذكر به ) ؛ أي: بالقرآن (أن تبسل نفس ) مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها ، وأصل الإبسال : المنع " (3)
فهذه النفس التي ترتهن بما اكتسبت من سوء ، ليس لها من ولي ينصرها بالقوة ، ولا شفيع يدفع عنها عذاب جهنم بالمسألة والجاه .وإن تقدم هذه النفس المرتهنة كل عدل لا يقبل منها ، والعدل هو: الفدية ؛ لأن الذي يُفدى بشيء فإن من يفديه يقدم ما يعدل المُفدَى (4)
وهؤلاء المستهزئون المحبوسون في نار جهنم ( لهم شراب من حميم ) و " الحميم : الماء الشديد الحرارة " (5) ، وكذلك فلهم ( عذاب أليم ) وكل هذا ( بما كانوا يكفرون ) .
__________
(1) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 7 ، ص ص 1128-1129 .
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ،ص 398 .
(3) حسين بن محمد – مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 402
) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 35 .
(4)
) انظر النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 513 .
(5) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 254 .(1/157)
فتذكير المستهزئين بالقرآن ، منهج قرآني في التذكير . فعلى الدعاة أن يسترشدوا بهذا المنهج في دعوة المستهزئين ؛ لأن القرآن يزلزل القلوب ، ويكسر الحواجز التي تحبس الفطرة عن تسلّم زمام أمر القلب .
ولكن قد يسأل سائل عن المنهج المتبع في معاملة المستهزئين ، هل نسخر منهم أم هل ندعوهم ؟ وإذا لم نسخر منهم ودعوناهم فكيف تكون الدعوة دون الجلوس في مجالسهم الاستهزائية ؟
والجواب عن هذا السؤال هو : في بداية الأمر نتبرأ من المستهزئين أولاً ، وندعوهم ونذكرهم بدين الله ثانياً ، فإن لم يرجعوا إلى رشدهم فإننا نسخر منهم كما سخر نوح – عليه السلام – من ملأ قومه في نهاية الأمر بعد دعوته لهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .
وأما عن وعظهم في مجالس استهزائهم فلا شيء فيه ، والدليل على ذلك أن شعيباً – عليه السلام - سمعهم يستهزئون بصلاته ، ولكنه مكث معهم ليدعوهم وليبين لهم الحق . وأما الجلوس معهم للاستماع فقط من غير إنكار فهنا يكمن الخطر.
يقول القرطبي : " فكل من جلس مجلس معصية ، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعلموا بها ؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم ، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية (1) " (2) .
__________
(1) ) ويقصد القرطبي بالآية : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) . سورة النساء / 140 .
(2) ) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 357 .(1/158)
وهذه الردود الأربعة هي ردود فردية من الدعاة رسلاً كانوا أو أتباعاً ، أما الرد الذي تقوم به الجماعة - وأقصد الدولة التي تحكم بالقرآن – فهو معاملة المستهزئين معاملة المرتدين إن كانوا مسلمين ؛ ولهذا ذكر النووي وغيره مسألة الاستهزاء بدين الله – سبحانه وتعالى – في مباحث الردة ؛ بل ذكره في تعريفه للردة ؛ حيث يقول النووي : "الردة : هي : قطع الإسلام بنية أو بقول كفر أو فعل ، سواءً قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً " (1)
وقد لاحظت أن القرآن الكريم قد أتبع- أحياناً – ذكر موضوع المستهزئين بالتذكير بنعم الله – سبحانه وتعالى – وبديع صنعه ، أو أتبع موضوع المستهزئين بالترهيب من عقابه وذكر مصارع السابقين أو أتبع موضوع المستهزئين بذكر نعم الله وذكر مصارع السابقين .
ومن الآيات التي أتبعت موضوع الاستهزاء بذكر نعم الله وبديع صنعه :
أولاً: يقول تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6)أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (2)
__________
(1) ) الشربيني ، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج على متن منهاج الطالبين للنووي ، مصدر سابق ،الجزء 4 ، ص ص 123 – 124 .
وانظر الرافعي ،العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ، مصدر سابق ، الجزء 11 ، ص 97 .
(2) ) سورة الشعراء /6-7
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 84 .(1/159)
" ( فقد كذبوا ) ؛ أي : كذبوا بالقرآن تكذيباً مقارناً للاستهزاء به ، ولم يكتفوا بذلك بل طعنوا فيه ، فجعلوه تارة سحراً وأخرى شعراً ، ولم يتأملوا بما فيه من المواعظ والعبر ( فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) ؛ أي فقد بلغوا النهاية في السخرية والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة القرآن – الذي كانوا به يستهزئون من العقوبات العاجلة والآجلة . وفي الآية تهويل للعقاب ؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على أمر وخبر خطير كقوله سبحانه : (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1)عَنْ النَّبَإ الْعَظِيمِ ) (1) " (2) .
و لم يقل سبحانه و تعالى : ما كانوا به يكذبون . بل قال : ( ما كانوا به يستهزئون ) ؛لأن الاستهزاء أشد منه و مستلزم له . (3)
وبعد ذلك يوجه الله – سبحانه و تعالى – أنظار عباده إلى عظيم سلطانه و علو قدره و جلالة شأنه ، و أنه القاهر القادر العظيم الذي خلق الأرض و أنبت فيها من كل زوج كريم . (4)
__________
(1) ) سورة النبأ /1-2.
(2) ) المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 4 ، ص 44 .
(3) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 110 .
(4) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 442 .(1/160)
والاستفهام بـ ( ألم يروا ) للتوبيخ على ترك الكفار الاعتبار بما خلق الله سبحانه وتعالى (1) . ووصف الله – سبحانه وتعالى – ما ينبت من الأرض بأنه كريم ؛ أي : مرْضي وحسن . يقول الزمخشري : " وصف الزوج – وهو الصنف من النبات – بالكرم ، والكريم : صفة لكل ما يُرضى ويُحمد في بابه ، يقال : وجه كريم ، إذا كان في حسنه وجماله ، وكتاب كريم : مرضي في معانيه وفوائده ( ... ) والنبات الكريم : المرضي فيما يتعلق به من المنافع " (2) .
ويلاحظ في هاتين الآيتين بأن الله - سبحانه وتعالى- ذكر موضوع الاستهزاء ثم ذكر بعده مظهراً من مظاهر إنعامه وخلقه ؛ فذكر الأرض وما أخرج منها من أصناف كريمة مرضية فيما تنفع الناس به .
ثانياً : يقول تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(7)يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8)وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9)مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(10)هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ(11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12)وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (3) .
__________
(1) ) انظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 10 ، ص56 .
(2) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص ص 306 – 307 .
(3) ) سورة الجاثية /7 -13
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 146 .(1/161)
وبعد ذكر التوعّد للأفاك الأثيم الذي يستهزئ بآيات الله ، وبعد ذكر عقابه وهو جهنم ، يذكر الله – سبحانه وتعالى – لنا نعمه ليدل على عظمته جل وعلا . يقول تعالى : (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ) ومعنى: ( سخّر) أي : ساق البحر لما يريده – سبحانه وتعالى – قهراً ؛ لأن " التسخير : سياقةٌ إلى الغرض المختص به قهراً " (1) . فهذا البحر العظيم الواسع الممتد ، جعله الله لنا منفعة بأن قهره على ما يريده من منافع الخلق .
ومن المنافع التي ننتفع بها من البحر ، تلك السفن التي تسير عليه بأمر الله – سبحانه وتعالى – رغم أوزانها الثقيلة ولكنها لا تغرق (2) . ويقول تعالى : ( ولتبتغوا من فضله ) ؛ أي : بما فيه من الأسماك والدر وكذلك التجارة التي تقيمونها بواسطة البحر (3) وكل هذا الإنعام ( لعلكم تشكرون ) .
وكذلك سخّر الله – سبحانه وتعالى – ما في السماوات من شمس وقمر ، وما في الأرض من حيوان ونبات وغير ذلك (4) . وفي هذا التسخير آيات عظيمة للمتفكرين " والفكر لا يكون صحيحاً وعميقاً وشاملاً إلا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها ، إلى مصدر هذه القوى والطاقات ، وإلى النواميس التي تحكمها ، وإلى الصلة بين هذه النواميس وفطرة الإنسان " (5) وكذلك فقد أُتبع موضوع الاستهزاء بذكر مصارع السابقين ، ومن هذه الآيات التي أتبعت موضوع الاستهزاء بذكر مصارع السابقين :
__________
(1) ) حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 402 .
(2) ) انظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 15 ، ص72
(3) ) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ،ص58 .
(4) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ،مصدر سابق ، الجزء 2، ص 270 .
(5) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 25 ، ص 3227 .(1/162)
أولاً : يقول تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(5)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) (1)
وهذا " تخويف وإنذار ، فإن الذي يستهزئون به حق ، والحق يأبى إلا أن يظهر يوماً ويخرج من حد النبأ إلى حد العيان " (2) . وبعد ذلك يقول سبحانه وتعالى : ( ألم يروا ) ؛ " أي : ألم يعلموا علماً يشبه الرؤية بالبصر لما سمعوا من إتيان المستهزئين قبلهم " (3) ؛ حيث إن الله أهلك قبلهم قروناً كثيرةً .والقرن " هو : مدة انقضاء أهل كل عصر " (4) ، وهؤلاء الذين أهلكهم الله كعاد وثمود أوتوا من البسطة في الأجسام ،والسعة في الأموال ، ما لم تؤت قريش من التمكين (5) " ومكنه في الأرض : أثبته فيها " (6) .
__________
(1) ) سورة الأنعام /5-6
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 295 .
(2) ) محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، الجزء 7 ،الطبعة 2 ، مؤسسة الأعلى للمطبوعات ، لبنان ، 1971 م ، ص 17 .
(3) ) انظر محمد جمال الدين القاسمي ( ت 1332 هـ / 1914 م ) ، محاسن التأويل ،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، الجزء 6، الطبعة 1 ،مؤسسة التاريخ العربي،بيروت ، 1994 م ، ص 276 .
(4) ) النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 491 .
(5) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 1 ، ص 491 .
(6) ) الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 115 ..(1/163)
فالأمم السابقة أمم قوية ، رزقها الله الرزق العظيم فأرسل عليها المطر مدراراً – أي : كثيراً – أي في الخصب بين الأنهار التي تجري من تحتهم ، والثمار التي نبتت من الغيث المدرار (1)
وبعد ذلك أهلكهم الله بسبب ذنوبهم ، وأنشأ بعدهم جيلاً آخر؛ ليختبرهم فيما يأمرهم ، فعملوا مثل أعمال من قبلهم ، فأهلكوا كإهلاكهم (2) . وفي هاتين الآيتين السابقتين ذَكَرَ الله – سبحانه وتعالى – أمر المستهزئين ، ثم وجّه النظر إلى عاقبة الأولين ، ومصارع الغابرين لتكون مصارعهم عبرة للناظرين ، فالنظر في مصارع الأولين ، يدخل الرهبة إلى النفس التي تريد الهداية ، أو النفس التي غفلت عن الحق ، ولكنها ما حملت بين جنباتها العناد والجحود ، بل كان سبب ضلالها الغفلة .
ثانياً : يقول تعالى : (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(10)قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (3)
" قال سبحانه وتعالى مؤنساً لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ومسلياً له : (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) كما استهزأوا بك يامحمد ، وفيه تسلية له – صلى الله عليه وسلم – ووعيد لأهل مكة ، كما أشار له بقوله : (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) ( ... ) أي : فنزل بهم وحلّ (مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) وهو الحق ؛ حيث أُهلكوا من أجل الاستهزاء به ، وقيل هو : الرسول ، وقيل : العذاب " (4)
__________
(1) )انظر النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 1 ، ص 491 .
(2) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 169 .
(3) ) سورة الأنعام / 10- 11
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 295
(4)
)
القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص ص 351-352 .(1/164)
وبعد أن أخبر الله – سبحانه وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم – عن مصارع المستهزئين السابقين ، فإن الله – سبحانه وتعالى – أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يأمر قومه بأن يسيروا في الأرض ، وينظروا في ديار المستهزئين السابقين كديار عاد ولوط وثمود (1) إذن ؛ فالمستهزئون مقصودون بأمر الله – سبحانه وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن يأمر قومه بالنظر في مصارع السابقين ؛ حتى يتعظوا بما حلّ بالسابقين من العذاب .
وفي بيان أن الأمر بالسير في ديار الهالكين موجه للمستهزئين يقول صديق حسن القنوجي : " ( قل ) يامحمد لهؤلاء المستهزئين " (2)
وهناك فرق بين قوله – سبحانه وتعالى - : ( فانظروا ) وبين : ( ثم انظروا ) ؛ يقول الزمخشري : " فإن قلت :أي فرق بين قوله : ( فانظروا ) وبين قوله : ( ثم انظروا ) . قلت : جعل النظر مسبَّباً عن السير في قوله : ( فانظروا )فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله : ( سيروا في الأرض ثم انظروا ) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين . ونبه على ذلك بـ ( ثم ) ؛ لتباعد ما بين الواجب والمباح " (3)
__________
(1) ) انظر فيصل عبد العزيز آل مبارك ( ت 1366هـ /1947م) ، توفيق الرحمن في دروس القرآن ،تحقيق عبد العزيز عبد الله ، الجزء 2 ، الطبعة 1 ، دار العليان ودار العاصمة ، السعودية ، 1996 م ، ص 123 .
(2) ). القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 352 .
(3) ). الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 10 .(1/165)
ولكن ابن المنير المالكي يقول متعقباً للزمخشري ما نصه : " وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحداً ، ليكون ذلك سبباً في النظر ؛ فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت : ( ثم ) فلتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير وشتان بين المقصود والوسيلة . والله أعلم " (1)
ولعل قول ابن المنير أقرب ؛ لأن العطف بـ ( ثم ) لا يعني أن ما قبلها مباح وأن ما بعدها واجب كما قال الزمخشري . بل إن العطف بـ ( ثم ) للتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير في الأرض ، والمقصود من العطف بالفاء هو إظهار السببية ؛ أي إن السير في الأرض سبب للنظر . فلذلك فسيروا في الأرض كي تنظروا والله أعلم . .
والذي يُلاحظ – هنا – أن ذكر استهزاء السابقين برسلهم أُتبع بالتحذير من عاقبة المستهزئين ؛ حيث أُمر المستهزئون بالنظر في مصارع السابقين .
__________
(1) ). أحمد بن محمد بن منير ( ت 683 هـ / 1284 م ) ،الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال ، المطبوع بحاشية : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 10 .(1/166)
ثالثاُ : يقول تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(67)وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(68)كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(69)أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (1)
__________
(1) ) سورة التوبة / 64-70
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 8 ،ص 3(1/167)
بعد أن بينتْ الآياتُ استهزاء المنافقين بالله وآياته ورسوله - وأنهم كفروا بسبب استهزائهم ، وذكرتْ صفات المنافقين ؛ حيث إنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم – أنذرتْ الآيات المستهزئين والمنافقين بالعذاب ، وبعد ذلك ذكرت مصارع السابقين ؛حتى يرتدع المستهزئون عن الذي هم فيه ؛حيث قال تعالى : ( كالذين من قبلكم ) ؛أي : إنكم قد فعلتم مثل ما فعل السابقون قبلكم ، ، ولكن السابقين ( كانوا أشد منكم قوة ) ؛ أي : منعةً وبطشاً وسلطاناً ( وأكثر أموالاً وأولاداً ) وكثرة المال وكثرة الولد عزّ وجاه وقوة ( فاستمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم ) ؛ أي : تمتع السابقون بخلاقهم وانتفعوا به ورضوا به عوضاً عن الآخرة ؛ والخلاق هو النصيب من الدنيا . فالكفار والمنافقون استمتعوا بنصيبهم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلهم ( وخضتم كالذي خاضوا ) ؛ فقد سلك الكفار طريق السابقين ، وخاضوا في الباطل ، وكذبوا الرسل واستهزأوا بهم وبالمؤمنين ، ولكنهم خسروا وحبطت أعمالهم (1)
وبعد ذلك يقول تعالى : ( ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ) و هو استفهام للتقرير و التحذير (2) ؛ أي: لقد جاءهم خبر الذين من قبلهم ( قوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و أصحاب مدين ) و هم قوم شعيب -عليه السلام –( و المؤتفكات ) ؛ أي : القرى المنقلبة التي جعل أعلاها أسفلها ؛ و هم قوم لوط – عليه السلام - ، فقد جاءتهم رسلهم بالبينات و لكنهم كذبوا و عصوا (3) .
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد البغوي (ت 516 هـ / 1122 م ) ، معالم التنزيل ، حققه محمد نمر وآخران ، الجزء 4 ، الطبعة 4 ، دار طيبة ، السعودية ، 1997 م ، ص ص 71 – 72 .
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ،ص 168 .
(3) ). انظر المصدر ذاته ، الجزء 3 ، ص 168.
وانظر البغوي ، معالم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 72.(1/168)
و توجيه النظر إلى مصارع السابقين تحذير من تعجيل العقوبة ،فكما أن السابقين كفروا و كذبوا و استهزأوا فأخذهم عذاب الله ، فكذلك من يعمل مثلهم فيكذب و يكفر و يستهزئ فإنه سيعذب مثلهم كما عذبوا .
و كذلك فإن قوة المستهزئين لا تمنع عقابهم ،فالسابقون سخروا و استهزأوا و هم أشد من الذين بعدهم قوة ، ولكن الله دمرهم . وكذلك فكثرة المال و الأرصدة البنكية لا تمنع العقاب الرباني ، و لا حتى كثرة الأولاد و الأحفاد و المناصرين ، فالله لا يقبل أن يُستهزأ برسله ، وأن يُستهزأ بدينه ، و كل من استهزأ بدين الله أو رسله أو عباده ، فإن عاقبته هلاك ، ومآله وبال ، و نهايته جحيم .
رابعاً : يقول تعالى : (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(41)قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) (1)
يسلي الله – سبحانه و تعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن الرسل السابقين قد استهزئ بهم ، كما استهزأ بك قومك ، و لأجل استهزائهم فقد نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون . (2)
يقول ابن الجوزي : " عزّى الله نبيه فقال : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك ) ؛ أي : كما فعل بك قومك ( فحاق ) ؛ أي : نزل ( بالذين سخروا منهم ) ؛ أي : من الرسل ( ما كانوا به يستهزئون ) ؛ يعني : العذاب الذي كانوا استهزأوا به " (3)
__________
(1) ) سورة الأنبياء / 40-41
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 177 .
(2) ) انظر ابن حيان ، النهر الماد من البحر المحيط، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 462 .
(3) ) عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 597 هـ / 1201م ) ، زاد المسير في علم التفسير ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، دون ذكر تاريخ النشر ، ص 352 .(1/169)
و بعد ذلك يأمر الله – سبحانه و تعالى – نبيه –صلى الله عليه و سلم – أن ينذر قومه ؛ لأن عذاب الله لا يمنعه أحد ، و ليس للبشر من حافظ يحفظهم إن أراد الله – سبحانه وتعالى – بهم العذاب . و في هذا إنذار و تهديد للمستهزئين .
يقول البيضاوي : " ( قل ) يا محمد للمستهزئين ( من يكلؤكم ) " (1) . و كلام البيضاوي يدل على أن هذا الخطاب موجه للمستهزئين ، و على أن الله – سبحانه و تعالى – يأمر رسوله – صلى الله عليه و سلم – ليوجه الخطاب للمستهزئين محذراً و مهدداً لهم لما يعملونه .
فما هو الخطاب الذي أمر الله – سبحانه و تعالى - رسوله –صلى الله عليه وسلم – بتوجيهه للمستهزئين ؟ إنه تذكير المستهزئين بأن عذاب الله لا يدفعه دافع ،و لا يحفظ أحد أحداً من عذاب الله . ومعنى : ( يكلؤكم ) : يحفظكم ؛ لأن " الكِلاءة : حفظ الشيء و تبقيته ".ومعنى : ( من الرحمن ) " أي : من عذاب الله و بأسه " (2)
وفي هذه الآية لطائف منها :
1- معنى : ( حاق ) ؛ أي : أحاط . و معناها يدور على الشمول و اللزوم ؛ يقول أبو السعود : " فإن معناها يدور على الشمول و اللزوم و لا يكاد يستعمل إلا في الشر " (3) . فالعذاب نزل بالمستهزئين فأحاط بهم و شملهم فلم ينجُ أحد ،ولزمهم العذاب حتى أهلكهم .
2- قوله تعالى : (قل من يكلؤكم من الرحمن )؛ ذكر فيه اسم الله – سبحانه وتعالى - : الرحمن . ولم يُذكر فيه اسم آخر مثل : العزيز ، القهار . علماُ بأن سياق الكلام سياق تهديد ووعيد ، والرحمن : اسم لله يحمل معاني الرحمة الإلهية ، فكيف تتوافق الرحمة مع العذاب .
__________
(1) ) البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 71 .
(2) ). حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ،ص 725 .
(3) ). العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 338.(1/170)
والسبب في ذلك يبينه أبو السعود حيث يقول : " وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كالئهم ليس إلا رحمته العامة " (1)
فالكفار المستهزئون لا يُحفظون إلا برحمة الله العامة ، أما هم فلا يستحقون الرحمة ، وإنما يستحقون العذاب الذي يستأصلهم ، فلا يبقي أحداً منهم ولا يذر .
ويلاحظ من الأمثلة الأربعة المذكورة آنفاً أن ذكر المستهزئين قد أُتبع بذكر مصارع السابقين ؛ تخويفاً للمستهزئين ، وردعاً للساخرين ، وليعلموا أن عاقبة المستهزئ وخيمة ، وأن نهايته أليمة . ولذلك ؛ فليرجعوا عما هم فيه من الخوض والاستهزاء إلى الرشد والصواب ، وإلا فإن للمستهزئين في السابقين عبرة ، وفي إهلاكهم من قبلهم عظة ، فلينظروا أين هم من طاعة الله قبل فوات الأوان ؟
خامساً : يقول تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(26)وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(27)فَلَوْلَا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) (2) .
تتحدث هذه الآيات عن هلاك قوم هود – عليه السلام – ؛ حيث إنهم استعجلوا العذاب على سبيل الاستهزاء (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) (3)
__________
(1) ). المصدر ذاته ، الجزء 4 ، ص 338.
(2) ) سورة الأحقاف / 26 - 28
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 167 .
(3) ) سورة الأحقاف / 22(1/171)
يقول أبوالسعود : " ( وحاق بهم ما كانوا يستهزئون ) من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء . ويقولون : ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) " (1)
إذن ؛ فقوم هود – عليه السلام – مستهزئون ، ولذلك ؛ أنزل الله بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون . والله قد مكن قوم هود من القوة والسلطان ، ما لم يؤت أهل قريش (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون )
يقول ابن عطية : " ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسطة في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ونالهم بسبب كفرهم العذاب ، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم " (2)
وبعد ذلك تحذير آخر ، وهو قوله تعالى : (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى ) وفي هذا القول " مخاطبة لقريش على وجه التمثيل لهم بمأرب وسدوم " (3) ؛ أي : كما أهلكنا ما حولكم من القرى ، فكذلك أنتم ، فلستم أعز منهم ولا أكثر قوةً ولا علماً ولا سلطاناً فاحذروا سوء العاقبة .
ويلاحظ أن ذكر هلاك قوم هود – عليه السلام – أتبع بإنذار – مع أن ذكر هلاك قوم هود إنذار بذاته - .وفي هذا توجيه نظر إلى هلاك القرى التي حول مكة ؛ ليكون الإنذار إنذارين ؛ إنذار إهلاك المستهزئين السابقين ، وإنذار آخر يدل عليه قوله تعالى : ( حولكم ) ؛ أي إن العذاب وقع حولكم فكان قريباً من دياركم ، فمن السهل إيقاعه بكم .
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 77.
(2) ) ابن عطية ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، مصدر سابق ، الجزء 13 ، ص 364 .
(3) )المصدر ذاته، ، الجزء 13 ، ص 365 .(1/172)
ومثاله- ولله المثل الأعلى – إذا أراد شخص أن ينذر أهل مدينة بوقوع فيضان أو مرض ما ، فإنه يقول : إن ما أُنذركم وأحذركم منه واقع بقربكم ، أو في المدينة المجاورة لكم ، فاحذروه .وكما أن قرب البلاء مدعاة إلى الخوف ، فكذلك قرب العذاب مدعاة إلى الخوف أكثر من أن يكون بعيداً
إذن ؛ " في مصارع الغابرين ذكرى ،ذكرى لمن كان له قلب ، فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه ، أو لم يرزق قلباً على الإطلاق ! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي ، فتفعل القصة فعلها في النفوس ، وإنه للحق ، فالنفس البشرية شديدة الحساسية بمصارع الغابرين " (1)
وقد يُتبع ذكر موضوع الاستهزاء ، بآيات تتحدث عن مصارع الغابرين ، وبعد ذكر مصارع الغابرين يأتي تعداد النعم . ومثاله :
1-يقول تعالى : (يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ(31)وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ) (2) .
__________
(1)
) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، مرجع سابق ، الجزء 26 ، ص 3366 .
(2) ) سورة يس / 30-35
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 3 .(1/173)
فالعباد كذبوا الرسل واستهزأوا بهم فما كان يأتيهم من رسول يدعوهم إلى الله إلا كانوا به يستهزئون . فقيل في شأنهم : (يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) ولكن من هو القائل ؟ يحتمل أن يكون الكفار الذين وقع عليهم العذاب ، وأنهم قالوه لما رأوا العذاب تحسرا على تركهم الإيمان، ويحتمل أن يكون القائل هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، في قصة أصحاب القرية . ويُحتمل أن تكون الملائكة هي القائلة لذلك تحسراً على العباد (1) . ويحتمل أن يكون القائل هو الله – سبحانه وتعالى - ، ويكون التحسر بمعنى التنبيه (2)
.وعلى كلٍ ، فالعباد يستهزئون بكل رسول أرسله الله - سبحانه تعالى – فهل أن هؤلاء المستهزئين لم يروا مصارع السابقين ، ولم يعلموا أنهم جميع يوم القيامة يحضرون ؟!
__________
(1) ) انظر المصدر ذاته ، الجزء 15 ، ص 23 .
(2) ) انظر منصور بن محمد ( ت 489 هـ / 1096 م ) ، تفسير القرآن ، تحقيق ياسر إبراهيم وغنيم عباس ، الجزء 4 ، الطبعة 1 ، دار الوطن ، الرياض ، 1997 م . ، ص ص 374 – 375 .(1/174)
يقول ابن الجوزي : " ( ألم يروا ) ؛ أي : ألم يعلموا ( كم أهلكنا من قبلهم من القرون ) فيعتبروا ويخافوا أن نعجّل لهم الهلاك ، كما عُجّل لمن أُهلك قبلهم ، ولم يرجعوا إلى الدنيا ( ... ) ( جميع لدينا محضرون) ؛ أي : إن الأمم يُحضرون يوم القيامة فيُجازون بأعمالهم " (1) و( كم ) في قوله تعالى : ( كم أهلكنا من قبلهم من القرون ) " خبرية بمعنى : كثير( ... ) ومما يثير الإنكار والتعجب من حال هؤلاء القوم أنهم علموا بإهلاك الله – عز وجل – مكذبي القرون السابقة ، علماً يشبه الرؤية البصرية ، ثم لم يتعظوا بذلك ولم يعتبروا به " (2) .
فهذا تذكير بمصارع الغابرين بعد ذكر موضوع الاستهزاء ، فالعباد يستهزئون بمن أُرسل إليهم ، وهم قد علموا إهلاك المستهزئين السابقين .أفلا يتعظون !!
وبعد ذكر مصارع السابقين يذكر القرآن نعم الله – سبحانه وتعالى – الدالة على قدرته (وَآيَةٌ لَهُمْ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) .
فهذه الأرض الميتة الهامدة التي ليس فيها نبات ولا زرع ، إذا أنزل الله – سبحانه وتعالى - عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، وهذه الأرض الميتة التي يحييها الله بالماء ، هي آية للناس على وجود الصانع وقدرته التامة (3)
__________
(1) ) عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 598 هـ / 1202م) ، زاد المسير في علم التفسير ، الجزء 7 ، الطبعة 3 ، المكتب الإسلامي ، لبنان/ سوريا ، 1984م ، ص 15 .
(2) ) عبد الرحمن حبنكه ، معارج التفكر ودقائق التدبر ، الجزء 6 ، الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق ، 2000م ، ص 99 .
(3) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 753 .(1/175)
وجعل سبحانه وتعالى للإنسان جنات النخيل والأعناب ، وخُص النخيل والأعناب بالذكر ؛ لأنهما أعلى الثمار ، وكذلك فجّرالله – سبحانه وتعالى - العيون في البساتين (1)
وبعد إنعام الله – سبحانه وتعالى – على عباده ، فإنهم يستهزئون برسله . وهذا الاستهزاء هو عين جحود النعمة .
إنه أسلوب التخويف بعذاب السابقين ، والتذكير بنعم الله – سبحانه وتعالى - ، وهذا هو أسلوب الترهيب والترغيب .
فهل من مدّكر ، وهل من متعظ ؛ ينظر في مصارع الغابرين فيخاف ، وينظر إلى نعم الله فيغمره الشكر ؟
2-يقول تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(7)فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ(8)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10)وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12)لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ) (2)
__________
(1) ) انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 25 .
(2)
) سورة الزخرف / 6- 14
هذه الآيات مكية
انظر المصدر ذاته ، الجزء 16 ، ص 57 .(1/176)
فالله – سبحانه وتعالى – أرسل رسلاً كثيرة ؛ حيث إن( كم ) في قوله تعالى : ( كم أرسلنا من نبي في الأولين ) " خبرية ، والمراد بها التكثير ؛ والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء " (1)
وما كان يأتي السابقين من نبي إلا كانوا به يستهزئون ؛ كاستهزاء المشركين بمحمد- صلى الله عليه وسلم – ، فأهلك الله المستهزئين السابقين ، وهم أشد بطشاً ؛ أي قوة . ( ومضى مثل الأولين ) ؛ أي : تقدم في القرآن ذكر قراهم وقصصهم التي من حقها أن تسير سير المثل لشهرتها (2) .
وبعد ذلك يذكّرنا الله – سبحانه وتعالى – بنعمه ؛ فقد جعل سبحانه وتعالى الأرض مهداً – أي : فراشاً – وجعل في هذه الأرض التي مُدت فراشاً – جعل فيها سبلاً ؛ أي : طرقاً . ، وذلك لعلنا نهتدي بها . يقول تعالى : ( لعلكم تهتدون ) ؛ نهتدي بها في أسفارنا ، أو نهتدي بها فنعرف نعمة الله علينا ، وكذلك الأزواج ، وهي : الأصناف التي خلقها الله – سبحانه وتعالى – فتبارك الله أحسن الخالقين . وجعل لنا الفلك – وهي : السفن – وكذلك الأنعام لنركبها ، ونذكر اسم الله إذا ركبنا عليها (3) .
فذكْر المستهزئين قد أُتبع بذكْر مصارع السابقين ، وبعد ذلك بذكْر نعم الله - سبحانه وتعالى – .
ومما مر من الآيات ، يتضح أن القرآن قد أتبع ذكْر الاستهزاء بذكْر نعم الله ، أو ذكْر مصارع السابقين ، أو ذكْر مصارع السابقين وبعده ذكْر نعم الله
( نظرة في أسلوب القرآن الكريم )
أ- وقد لاحظت أن كلمتي : ( يستهزئون ) و ( تستهزئون ) لم تذكرا في القرآن إلا
1- وسبقتا بإنذار الله .
2- أو أُتبعتا بذكر نعم الله وبيان قدرته .
__________
(1) ) المصدر ذاته ، الجزء 16 ، ص 59 .
(2) ) القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 219 .
(3) ) انظر علي بن محمد الماوردي ( ت 450 هـ / 1058 م ) ، النكت والعيون ، تحقيق سيد عبد الرحيم ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، لبنان ، 1992 م ص 217 .(1/177)
3- أو أُتبعتا بإنذار الله وذكر عقابه .
4- أو أُتبعتا بذكر عقاب الله وبعده بذكر نعمه .
وهذا الأمر إن دل على شيء ، فإنما يدل على أن إنذار المستهزئين وتخويفهم وتذكيرهم بإهلاك السابقين ، إنما هو أسلوب قرآني في دعوة المستهزئين .
وكذلك فإن ذكر نعم الله ، وتذكير المستهزئين بها ، وأيضاًح قدرة الله لهم من خلال بديع صنعه وعظيم أمره ، إنما هو أسلوب قرآني في دعوة المستهزئين .
وكذلك فإن تخويف المستهزئين وتذكيرهم بمصارع السابقين ، وما حلّ بهم ، وبعد ذلك تذكيرهم بنعم الله وقدرته ، إنما هو أسلوب قرآني في دعوة المستهزئين .
ب- وقد لاحظت أن المصدر ( هزواً ) لم يذكر في القرآن إلا وسبق بأحد صيغ ( اتخذ ) . و الاتخاذ : افتعال من الأخذ ، ويجري مجرى الجعل (1) .
فالاستهزاء لم يكن شيئاً عابراً عند المستهزئين ، وإنما كان حرفة يحترفونها ، ومهنة يمتهنونها ، وهذا ما يوحي به معنى : ( الاتخاذ ) .
فعلى الدعاة حين يردّون على المستهزئين أو يدعونهم أن يضعوا نصب أعينهم أن المستهزئين متمسكون باستهزائهم ، ومعتادون على ما هم فيه من الحال المغموسة في حمأة الرذيلة . فلا تكفي دعوة واحدة لردهم ولا كلمة واحدة لصدهم ، ولكن لابد من الصبر والمصابرة والثبات .
المبحث الرابع : عاقبة المستهزئين في الدنيا والآخرة
تمهيد : وفيه بيان استهزاء الكفار بعذاب الله سبحانه وتعالى .
يقول تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) .
__________
(1) ) انظر حسين بن محمد ، مفردات ألفاظ القرآن ، مصدر سابق ، ص 67 .
(2)
) سورة هود / 8
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص 3 .(1/178)
فالكفار يستهزئون بعذاب الله – سبحانه وتعالى - ، وذلك عن طريق استعجاله . يقول الواحدي : " ( ليقولن ما يحبسه ) أي : ما يحبس العذاب عنا ؟ يقولون ذلك تكذيباً واستهزاءً " (1) . ولكن ليستهزئ الكفار كما يشاؤون، فالعذاب مؤخَّر عنهم إلى أمة معدودة . والأمة – هنا – هي : السنون (2) . وعبّر عن السنين بأنها معدودة ؛ " لأن ما يحصره العدّ قليل " (3) .
وبعد هذا التأخير سينزل بالكفار ما كانوا به يستهزئون ؛ أي : سينزل العذاب بهم (4) . وعندما يأتيهم العذاب فلن يُصرف عنهم ، ولن يستطيع أحد صرفه مهما بلغ من القوة والسلطان ، بل سينزل بهم ما كانوا يستعجلون (5) .
وفي هذه الآية لم يقل سبحانه وتعالى : وحاق بهم ما كانوا يستعجلون . وإنما قال : ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ؛ أي : وُضع ( يستهزئون ) موضع ( يستعجلون ) ؛ لأن استعجال الكفار كان على جهة الاستهزاء (6) .وقال تعالى : ( وحاق بهم ) . ولم يقل : سيحيق بهم ؛ لأن الفعل الماضي يدل على تحقق وقوع العذاب ، فكأن العذاب قد حاق وانتهى الأمر (7)
__________
(1) ) الواحدي ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ،مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 565 .
(2) ) انظر محمد بن أحمد السمرقندي ( ت 375 هـ / 986 م ) ، بحر العلوم ، تحقيق على معوض وآخرَين، الجزء 2 ،الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1993 م ، ص 118 .
(3) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 548 .
(4) ) انظر الواحدي ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ،مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 565 .
(5) ) انظر السمرقندي ، بحر العلوم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 118 .
(6) ) انظر الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 362 .
(7) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 548 .(1/179)
والكفار في استعجالهم العذاب كأنهم ينتظرونه ، يقول تعالى : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33)فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (1)
فهل ينتظر هؤلاء الكفار أن تأتيهم لقبض أرواحهم ، أو ينتظرون أن يأتي أمر الله بالعذاب الذي يستأصلهم أو ينتظرون يوم القيامة الذي يجهز عليهم (2) .
وكذلك فعل الذين من قبلهم بأن استهزأوا فأصابهم ( سيئات ما عملوا ) ؛ أي : جزاء أعمال السوء التي يعملونها ( وحاق بهم ما كانوا بهم يستهزئون ) ؛ أي : نزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون (3)
وتعبير القرآن الكريم بأن ما أصاب الكفار من العذاب سيئات أعمالهم – ( فأصابهم سيئات أعمالهم ) – له دلالة واضحة على أن الكفار لا يعاقَبون بشيء خارج عن ثمرة أعمالهم الذاتية التي فعلوها من تلقاء أنفسهم ، مختارين لا مكرهين ، فالذي يزرع الشوك لا أظنه – أبداً – سيجني منه العنب (4)
ومثل هاتين الآيتين – في الدلالة على استهزاء الكفار بعذاب الله – قوله تعالى: (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (5) .
__________
(1) ) سورة النحل / 33-34
هاتان الآيتان مكيتان
انظر القرطبي، الجامع الأحكام القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 57 .
(2) ) النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 211 .
(3) ) انظر علي بن أحمد الواحدي( ت 468 هـ / 1076 م ) ، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق صفوان عدنان ، الجزء 1 ،الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق، 1995م ، ص ص605 -606 .
(4) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 2170 .
(5) ) سورة الأنبياء / 41
هذه الآية مكية
انظر القرطبي، الجامع الأحكام القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 11 ، ص 177 .(1/180)
فالكفار استهزأوا بالرسل ، واستهزأوا بالعذاب ولكن العذاب الذي كانوا يستهزئون به حاق بهم ، فلا مهرب لهم ولا مناص (1)
فسبحان الله !! هل العذاب مما يُستهزأ به ؟! ولكن الكافرين لا يعقلون .
المطلب الأول : عاقبة المستهزئين في الدنيا .
يقول تعالى : (وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) (2) .
وهذه الآية فيها تسلية لقلب النبي – صلى الله عليه وسلم - (3) ، حيث استهزئ بمن قبله من الرسل فأملى الله لهم - و " الإملاء : الإمهال " (4) - ثم أخذهم الله – سبحانه وتعالى – وأهلكهم وأنزل العذاب فوق رؤوسهم ( فكيف كان عقاب ) ؛ أي : كيف كان العقاب الذي حل بهم ؟ وهذا الاستفهام فيه إشارة إلى تفخيم العقاب وتعظيمه (5) . فالله – سبحانه وتعالى - يملي للمستهزئين في الدنيا ، ولكنه إذا أخذهم لا يفلتهم .
__________
(1) ) انظر هود بن محكم ( توفي في القرن الثالث الهجري / القرن العاشر الميلادي ) ، تفسير كتاب الله العزيز ، تحقيق بالحاج شريخي ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، دار الغرب الإسلامي ، لبنان ، 1990 م، ص 72
(2) ) سورة الرعد / 32
وسورة الرعد " مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء ، ومدينة في قول الكلبي ومقاتل "
القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 9 ، ص 243 .
(3) ) انظر النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 156 .
(4) ) المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 156 .
(5) ) انظر فضل بن حسن الطبرسي ( ت 548 هـ / 1153 م ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، تحقيق هاشم رسولي وفضل الله اليزيدي ، الجزء 6 ،الطبعة 1 ،دار المعرفة ، لبنان ، 1986 م ، ص 453 .(1/181)
وإهلاك المستهزئين سنة ربانية ؛ يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ(10)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) (1) .
" يقول تعالى مسلياً لرسوله – صلى الله عليه وسلم – في تكذيب من كذبه من كفار قريش : إنه أُرسل من قبله في الأمم الماضية ، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزأوا به ، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن الهدى " (2) .
وشيع الأولين هم : أمم الأولين (3) الذين أهلكهم الله – سبحانه وتعالى - بالعذاب . وسنة الأولين هي : سنة إهلاكهم بالعذاب ، والسنة هي الطريقة (4) .
ومما سبق يتبين أن سنة الله – سبحانه وتعالى - في المستهزئين هي إهلاكهم ، وهكذا أهلك الله – سبحانه وتعالى – المستهزئين بالنبي – صلى الله عليه وسلم - . يقول تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95)الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (5) .
__________
(1) ) سورة الحجر / 10 –13
هذه الآيات مكية .
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1،ص 415
(2) ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 722 .
(3) ) انظر ابن عبد السلام ، تفسير القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 171 .
(4) ) انظر المصدر ذاته، الجزء 2 ، ص 171 .
(5) ) سورة الحجر / 94-96
هذه الآيات مكية
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 1،ص 415(1/182)
يأمر الله – سبحانه وتعالى – نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – أن يبلغ ما بعثه الله به ، وأن يصدع في مواجهة المشركين ، وألا يلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوه عن آيات الله ، وألا يخاف منهم فإن الله كافيه وحافظه منهم (1) . والصدع بالحق هو التكلم به جهاراً على رؤوس الأشهاد (2) .
ولكن من هم المستهزئون ؟ وكيف كفى الله – سبحانه وتعالى – رسوله – صلى الله عليه و سلم – إياهم ؟
فقد قال ابن عباس في قوله تعالى : ( إنا كفيناك المستهزئين ) قال : " ( المستهزئين ) : الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بني أسد بن العُزّى ، والحارث بن غيطل السهمي ، والعاص بن وائل السهمي .
فأتاه جبريل – عليه السلام – فشكاهم إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة ، فأومأ جبريل إلى أبجله (3) . فقال : ما صنعت شيئاً ، فقال كفيتكه .
ثم أراه الحارث بن غيطل السهمي ، فأومأ إلى بطنه ، فقال : ما صنعت شيئاً ، فقال : كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل السهمي ، فأومأ إلى أخمصه (4) ،فقال : ما صنعت شيئاً، فقال : كفيتكه .
__________
(1) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص ص 737-738 .
(2) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 181 .
(3) ) الأبجل : عرق في باطن الذراع .
المبارك بن محمد الأثير ( ت 606 هـ / 1210 م ) ، النهاية في غريب الحديث والأثر ، تخريج صلاح عويضة ، الجزء 1 ،الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،1997 م ، ص 98 .
(4) ) الأخمص من القدم : الموضع الذي يلصق بالأرض عند الوطء .
المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 76 .(1/183)
فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجل من خزاعة وهو يريش نَبْلاً فأصاب أبجله فقطعها . وأما الأسود بن المطلب فعمي . فمنهم من يقول : عمي كذا ومنهم من يقول : نزل تحت شجرة ، فجعل يقول : يا بَنِيّ لا تدفعون عني ! قد هلكت ، أطعن بشوك في عينيّ ، فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه .
وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها ، وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها .
وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً حتى دخل في رجله شبرقة (1) حتى امتلأت فمات " (2) .
وقد أورد السيوطي في كتابه ( الدر المنثور ) نحو هذه الرواية ، وحسّنها (3) . وعلى كل حالٍ ، فهؤلاء المستهزئون كفار مشركون ، ولكن الله – سبحانه وتعالى –لم يقل : إنا كفيناك المشركين . وإنما قال : المستهزئون . لأنهم كفروا و زيادة على ذلك استهزأوا ، وبعد ذلك وصفهم الله – سبحانه وتعالى – بالشرك فقال : ( الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ) .
فالكفار كانوا يؤذون النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكن عندما أمره الله بالصدع طمأنه بأنه قد كفاه المستهزئين ، ولم يقل المشركين ؛ لأن المستهزئين هم أصحاب الأذية النفسية للدعاة .
__________
(1) ) الشبرق : نبت حجازي يؤكل وله شوك .
المصدر ذاته ، الجزء 2 ، ص 395 .
(2) ) سليمان بن أحمد الطبراني ( ت 360 هـ / 972 م ) ،المعجم الأوسط .، تحقيق طارق عوض الله وعبد المحسن إبراهيم ، الجزء 5 ،دون ذكر الطبعة ، دار الحرمين ، مصر ، 1995م ، ص ص 173-174 .
(3) ) انظر عبد الرحمن السيوطي ( ت 911 هـ / 1505 م ) ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، الجزء 14 ، الطبعة 1 ، دار الفكر ، بيروت ، 1983 م ، ص 101 .
وانظر الروايات الأخرى التي أوردها السيوطي والتي لا تخلو من مقال .
انظر المصدر ذاته ، الجزء 14 ، ص ص 100-104.(1/184)
وأثر أذى الاستهزاء قوي في نفوس الدعاة ؛ ولذلك قال الله – سبحانه وتعالى – لمحمد – صلى الله عليه وسلم – : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(98)وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (1)
أي يا محمد إنا نعلم أن كلمات الاستهزاء والشرك تؤذيك فيضيق صدرك ، فإذا نابك ضيق الصدر والحرج ، فافزع إلى الله تعالى بالتسبيح متلبساً بحمده ، وكن من المصلين ، فإن الله سيكشف عنك غمك ، ودم على عبادته – سبحانه وتعالى – حتى يأتيك المتيقَّن ، وهذا هو سبيلك فاتبعه (2) .
وعلى الدعاة أن يتبعوا هذا السبيل ، وليعلموا أن النفوس تتأذى ، والصدور تضيق ، ولكن الدواء الشافي هو ذكر الله – سبحانه وتعالى - والصلاة وكذلك المداومة على العبادة .
وذكر الساجدين في قوله تعالى : ( وكن من الساجدين ) دلالة على أن في السجود هدوءَ النفس وطمأنينتها ، وهذا أمر يعلمه المصلي الخاشع ؛ حيث إن نفسه ترتاح في السجود – عندما يشكو بثّه وحزنه إلى الله – ما لا ترتاح في غيره من أركان الصلاة .
والشاهد في هذه الآيات هو أن العقوبة الإلهية نزلت بالمستهزئين برسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؛ حيث إنها قد أصابتهم في الدنيا .
ويقول تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(7)فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) (3) .
__________
(1)
) سورة الحجر / 97-99 .
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص 37
(3)
) سورة الزخرف / 6-8
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 57 .(1/185)
يسلي الله – سبحانه وتعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بذكر استهزاء الأمم السابقة من أنبيائهم المرسلين إليهم ، ويعلمهم بأن استهزاء الأمم السالفة لا يمنع إرسال الله – سبحانه وتعالى - الرسل ، بل إن الله يرسل الرسل حتى للمستهزئين (1) .
والرسل الذين أرسلهم الله – سبحانه وتعالى – كثيرون كما يدل عليه قوله تعالى : ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين ) ؛ لأن ( كم ) – هنا – هي الخبرية التي تحمل معنى التكثير ، والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (2) .
ورغم هذه الكثرة في إرسال الرسل فإن السابقين من الأمم اتبعوا منهجاً في استقبال الرسل ، وهذا المنهج هو المنهج الاستهزائي ( وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون ) . وهذا الأسلوب الذي عُرض به استهزاء الكفار بالرسل هو أسلوب القصر بـ ( ما ) و ( إلا ) (3) .
فالكفار ما كان يأتيهم أي نبي إلا استهزأوا به ، بل كانوا يجددون الاستهزاء حيناً بعد حين ، وهذا ما تدل عليه الجملة الفعلية : ( يستهزئون ) (4) .
ولكن بعد هذا الاستهزاء وقع عليهم العذاب في الدنيا ( فأهلكنا أشد منهم بطشاً ) ؛ " أي : فتسبب عن الاستهزاء بالرسل ، أنا أهلكنا أشد قوة من أهل الذين يستهزئون بك ( ومضى مثل الأولين ) ؛ أي : سبق في القرآن مراراً ذكر صفة الأولين في الإهلاك " (5) .
__________
(1)
)انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص 27
(2) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 627 .
(3) ) انظر فضل حسن عباس ، البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) ، مرجع سابق ، ص 367 .
(4) ) انظر المرجع ذاته ، ص 92 .
(5) ) الجاوي ، مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد ، مصدر سابق ، الجزء 2،ص ص 379-380 .(1/186)
ولكن قد يتبادر إلى الذهن تساؤل عن سبب عدم استئصال الله – سبحانه وتعالى – مشركي مكة كما استأصل الأمم السابقة .
يقول سيد قطب : " القرون الأولى تُهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ويمضون في التكذيب ذلك أنها كانت رسالاتٍ مؤقتةً لأمة من الناس ، ولجيل واحد من هذه الأمة ، والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال ، وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم " (1) .
__________
(1) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 12 ، ص 1859.(1/187)
فقوم هود – عليه السلام- لما استهزأوا بالعذاب استأصلهم الله – سبحانه وتعالى – ؛ يقول جل وعلا : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(22)قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(23)فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24)تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(25)وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (1)
أرسل الله – سبحانه وتعالى – هوداً – عليه السلام – إلى عاد وقد كانوا يسكنون الأحقاف (2) ،
__________
(1) ) سورة الأحقاف / 21-26
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 167 .
(2) ) الأحقاف : جمع حِقْف . و الحِقْف : المُعْوَج من الرمل . والأحقاف في الآية : ديار عاد .
انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 80 .
ولا يشترط أن تكون ديار عاد على الرمل ؛ لأن الاسم قد يكون مرتجلاً . كما يقال : الزرقاء . وهي ليست زرقاء اللون ، بل إن لونها كلون مدينة المفرق ، ولكنها سميت بالزرقاء .(1/188)
فأنذر قومه ودعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من اليوم الآخر ، فردوا عليه رد السفهاء فقالوا : أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا ، فأتنا بالعذاب الذي تعدنا به ، ولكن هوداً – عليه السلام – يُرجِع الأمور إلى الله – سبحانه وتعالى – ؛ حيث قال لهم : إن الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين للعذاب أم لا . فلما أرسل الله – سبحانه وتعالى – العذاب على قوم هود – عليه السلام – ظنوه عارضاً ممطراً ولكنه هو العذاب الذي استعجلوه ، يدمر كل شيء في بلادهم شأنه الخراب ، وهذا هو جزاء المجرمين المستهزئين (1) .
والشاهد – هنا – أن قوم هود – عليه السلام - استهزأوا به ؛ حيث طلبوا العذاب مستعجلين مستهزئين ، فأصابهم ما كانوا به يستهزئون . يقول أبو السعود : " ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون : ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) " (2) .
فكانت عاقبة قوم هود – عليه السلام – العذاب في الدنيا ؛ لاستهزائهم ، ولهم في الآخرة عذاب النار .
المطلب الثاني : عاقبة المستهزئين في الآخرة .
الأمم الكافرة أمم مستهزئة (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (3) ، ولذلك ؛ فعذاب المستهزئين - في الجملة – كعذاب الكفار ؛ لأن المستهزئين من جملة الكفار .
والكلام في هذا المطلب سيكون حول الآيات التي ذكرت عذاب الكفار ، ولكنها أشارت أو صرحت بأن المستهزئين معذَّبون به .
__________
(1) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص ص 204 –205 .
.
(2) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 6 ،ص 77 .
..
(3) ) سورة الزخرف / 7 . .(1/189)
يقول تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ) (1) .
الأخسرون أعمالاً هم الذين سعوا في الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون العمل ، ولكن أعمالهم تبطل يوم القيامة ، ولا يُقام لهم وزن ولا قدر (2) .
ولكن ما هو جزاء من لا يُقام له وزن يوم القيامة ؟ إنها جهنم ، جزاؤهم وعقوبتهم ، وما ذلك إلا بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله – سبحانه وتعالى - (3) .فالكفار لم يقتصروا على الكفر فقط ، بل أضافوا إليه الاستهزاء بآيات الله ؛ ولذلك فإن الاستهزاء كفر وزيادة (4) .
__________
(1) ) سورة الكهف / 103-106
وهذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 3 ،ص 318 .
(2) ) انظر محمد بن الحسن الشيباني ( توفي في القرن السابع الهجري / القرن الرابع عشر الميلادي ) ، نهج البيان عن كشف معاني القرآن ، تحقيق حسين دَرْكَاهي ، الجزء 3 ، الطبعة 1 ، نشر الهادي ، إيران ، دون ذكر تاريخ نشر ، ص ص 297-298 .
(3) ) انظر الصابوني ، صفوة التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 8 ، ص32 .
(4) ) انظر محمد بن اطفيش ( 1332 هـ / 1914 م ) ، تيسير التفسير للقرآن الكريم ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، وزارة التراث القومي والثقافي ، سلطنة عُمان ، دون ذكر تاريخ الطبعة ، ص450.
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 3 ، ص 284 .(1/190)
ويقول تعالى : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(103)تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) (1) .
فالكفار الخالدون في النار يسألون الله الخروج منها ، ولكن هيهات هيهات ؛ فهم قد كانوا يستهزئون بالمؤمنين استهزاء أنساهم ذكر الله – سبحانه وتعالى – فأنّى لهم الخروج (2) .
وهذه الآيات تعرض لنا صوراً من عذاب الكفار في النار :
منها : النار تلفح وجوههم ، ومعنى اللّفح هو : الإحراق (3) .
__________
(1) ) سورة المؤمنون / 103-110
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 12 ، ص 95 .
(2) ) انظر المطلب الثالث من المبحث الثاني من الفصل الثاني .
(3) ) انظر الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 295
وانظر النسفي ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 482 .(1/191)
وإحراق النار للكفار عام لأجسادهم , ولكن لماذا خُصت الوجوه - هنا – بالذكر دون سائر الأعضاء ؟ وذلك ؛ لأن الوجوه " أشرف الأعضاء ، فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار ، وهو السر في تقديمها على الفاعل " (1) . وهم مع هذا الإحراق كالحون ، والكلوح هو : " تكشر في عبوس " (2) .
وفي ذلك يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - : " ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قَالَ تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعَالِيَةُ حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ " (3) " ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح ، وتشوه هيئتها ، ويكدر لونها ، مشهد مؤذٍ أليم " . (4)
إذن ؛ فهما صورتان ؛ الأولى : لفح النار وجوههم ، والثانية : تقلص شفاههم العليا حتى تبلغ وسط رؤوسهم ، واسترخاء شفاههم السفلى حتى تضرب وسط بطونهم . وأما الصورة الثالثة ، فهي : جواب الله – سبحانه وتعالى – للكفار بـ ( اخسأوا ) (5) . وكلمة : ( اخسأوا ) تستعمل في زجر الكلاب (6) .
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ،ص 433 .
(2) ) الرازي ، مختار الصحاح ، مصدر سابق ، ص 284 .
.
(3) ) قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
محمد بن عيسى الترمذي ( ت 279 هـ / 893 م ) ، الجامع الصحيح ، تحقيق كمال الحوت ، الجزء 5 ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1987 م ،ص 307 .
(4) ) سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 18 ، ص 2481 .
(5) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 3 ، ص 245 .
(6) ) انظر محمد بن عبد الحق بن عطية ( ت 546 هـ / 1151 م ) ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق عبد الله الأنصار وعبد العال الستار ، الجزء 10 ،الطبعة 1 ، طبع على نفقة أمير دولة قطر ، قطر ، 1988 م ، ص 405 .(1/192)
ويا صَغار الكفار من أن يزجرهم الرب – جل وعلا – بكلمة تُستعمل في زجر الكلاب . فإن الواحد منا إذا زجره أحد البشر فإنه يتألم على أي وجه كان وجه كان الزجر ، فكيف بزجر من رب العالمين ؟ وكيف بزجر يزجر به الكلاب ؟ وكيف بزجر معناه الخلود في النار ؟
والشاهد – هنا – أن هذه الصور هي صور عذاب المستهزئين في النار ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) ؛ أي : إن العلة في زجر الكافرين المعَذَّبين هي أنهم كانوا يستهزئون بالمؤمنين ؛ يقول أبو السعود : " ( إنه ) تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء " (1) .
فهؤلاء المستهزئون لم يكتفوا بالكفر فحسب ، بل زادوا على ذلك أن بلغ السفه والتوقح بهم مبلغاً عظيماً ، حيث شغلهم عن ذكر الله – سبحانه وتعالى - (2) .
ويقول سبحانه وتعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(38)لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ(40)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (3) .
__________
(1) ) العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 433 .
(2) ) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 17 ، ص 2381 .
(3) ) سورة الأنبياء / 38-41
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 11، ص 177(1/193)
وهذا الاستعجال من الكفار للعذاب هو استعجال على جهة الاستهزاء والسخرية (1) فهم لا يعلمون أن الذي يستعجلونه إنما هو عذاب نار جهنم التي تحرقهم ، ولا يستطيعون كفها عنهم ، ولو علم الكفار أن العذاب سيحيط بهم لآمنوا ، ولما استعجلوا العذاب ، ولكن النار أو الساعة سوف تأتيهم وعندها ستبهتهم – أي : تفجؤهم – ولا يستطيعون ردها ، ولا هم يُنظرون فيأخرون عن العذاب (2) .
ولكن لماذا خُصت الوجوه والظهور بالذكر دون سائر الأعضاء ؟ لقد خُصت الوجوه بالذكر لأنها بمعنى القدّام ، وخُصت الظهور بالذكر لأنها بمعنى الخلف ، وفي ذلك دلالة على إحاطة النار بالمستهزئ من كل جانب (3) .
وهذا العذاب هو العذاب الذي لو يعلم المستهزئون المستعجلون للعذاب أنه سيقع بهم لما استهزأوا به ولما استعجلوه . فاللهم احمِ ظهورنا ووجوهنا من العذاب !
ويعرض القرآن لنا حواراً يدور بين أهل النار المستهزئين وأهل الجنة المؤمنين ؛ يقول تعالى : (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50)الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (4) .
__________
(1) ) انظر ابن حيان ، النهر الماد من البحر المحيط، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 461 .
وانظر القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 406 .
وانظر المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، مرجع سابق ، الجزء 3 ، ص 388 .
(2) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2،ص ص 22-23.
(3) ) وانظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 337.
(4) ) سورة الأعراف / 50 – 51
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 7، ص 145 .(1/194)
المسافة بعيدة بين أهل النار وأهل الجنة وهذا ما يُفهم من قوله تعالى : ( ونادى ) فأصحاب النار يستغيثون منادين أصحاب الجنة لكي يفيضوا عليهم الماء أو من الذي أعطاهم الله – سبحانه وتعالى - ، وطلبُ الكفار الماء بدايةً لشدة الحاجة إليه ، فمن الطَبَعَي أن يحتاج الإنسان الماء أكثر من الطعام ، وبعد ذلك طلب الكفار أي شيء من أهل الجنة حتى يأكلوا أو يشربوا ، ولم يعيّن الكفار شيئاً غير الماء ؛ لأن رزق الله للمؤمنين كثير ، فأي شيء مع الماء يفي بالحاجة ، أو لأن الكفار في موضع الذل والسؤال ، فهم لا يشترطون ، وإنما يترجّون صاغرين ، ولذا ؛ فليس من اللائق أن يشترطوا نوع الطعام أو الشراب بعد أن خصصوا الماء بالطلب . فهم أرادوا أن يحسنوا سؤالهم حتى لا يقال عنهم كما في اللهجة العامية : ( شحّاد وبتشرّط ) (1) . والله أعلم .
وصفة هؤلاء الكافرين أنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً ، ولذلك فقد حُرّمت عليهم ، ونسيهم الله ؛ أي : تركهم في النار (2) .
ويقول سيد قطب – عن هذه الآية - : " تلك من صور القيامة ، ومن صور الحوار فيها والخصام ، ومن صور النعيم فيها والعذاب . فهل القارئ في أثناء استعراضها يحسّ أن هذا كله آت في المستقبل البعيد ؟ أم يحس أنه واقع الحاضر المشهود ؟
أما أنا فقد نسيت نفسي ، ونسيت أني أستعرض هذه المشاهد في ثوبها الفني ، وحسبتني أشهدها في الواقع لا في الخيال " (3) .
__________
(1) ) وإنما أوردت هذا المثل العامي لتقريب الصورة .
(2) ) انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 2 ، ص 239 .
(3) ) سيد قطب ( ت 1386 هـ / 1966 م ) ، التصوير الفني في القرآن ، الطبعة 14 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1993 م ، ص ص 65-66 .(1/195)
فليعطش هؤلاء المستهزئون في النار ، وليجوعوا جزاءً بما كانوا يستهزئون ، وما كانوا يقولون ، وما كانوا يفعلون . فالله يمهل المستهزئين ولا يهملهم ، فهم يتفكهون في الدنيا بالاستهزاء ، ولكنهم يذوقون ويلات جهنم بسبب استهزائهم ، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً .
فعاقبة الكفار المستهزئين هي العاقبة السوأى ؛ يقول تعالى : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (1) .
فالذين أساؤوا هم الذين اجترحوا السيئات ، والسوأى هي : العقوبة السوأى ، وهي تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن .
يقول الآلوسي : " ( ثم كان عاقبة الذين أساؤوا ) ؛ أي : عملوا السيئات ( ... ) ( السوأى ) وهي : العقوبة بالنار ، فإنها تأنيث الأسوأ ، كالحسنى تأنيث الأحسن ، أو مصدر كالبشرى وصفت به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء ( ... ) ( أن كذبوا بآيات الله ) علة للحكم المذكور ؛ أي : لأن ، أو بأن كذبوا ( ... ) ( وكانوا بها يستهزئون ) عطف على ( كذبوا ) داخل معه في حكم العلية . وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده " (2)
__________
(1) ) سورة الروم / 10
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 14 ، ص 3
(2)
) محمود الآلوسي (ت 1270هـ /1854م) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني ، اعتنى به محمد أحمد و عمر السلامي ، الجزء 21 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000م ،ص 35 .
وانظر حسين بن محمد البغوي (ت 516 هـ / 1122 م ) ، معالم التنزيل ، حققه محمد نمر وآخران ، الجزء 6 ، الطبعة 4 ، دار طيبة ، السعودية ، 1997 م ، ص 263 .(1/196)
إذن ؛ فالنار هي العقوبة السوأى ، وسبب هذه العقوبة السوأى هو التكذيب أولا ، ويضاف إليه الاستهزاء ثانيا . ولم يقل سبحانه وتعالى : أن كذبوا بآيات الله وأن استهزأوا بها . بل قال : ( وكانوا بها يستهزئون ) ؛ حيث أورد الفعل بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا الاستهزاء ، حيث كان منهجاً متبعاً ولم يكن موقفاً واحداً ، وإنما مواقف متوالية , فلا يفرح المستهزئون بما هم فيه ، فالعاقبة للمتقين، أي العاقبة الحسنى ، وأما المستهزئون فلهم العاقبة السوأى .
الصابرون في الجنة والمستهزئون في النار، صنفان متقابلان ، فليختر الإنسان في أيهما يكون . ولا يجزع المؤمنون من استهزاء الكفار والمنافقين ؛ فالعاقبة هي التي تضع النقط على الحروف ، وهي التي تنهي كل هذه الأحداث الدائرة . هذه الدنيا مؤقتة لميقات يوم معلوم ، فليس المسيطر مسيطراً فيها إلى الأبد ، وليس المستهزئ الفكه فيها فكهاً إلى الأبد .
فنار جهنم هي مأوى المستهزئين؛ يقول تعالى : (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ(55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ(58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ(61)وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الْأَشْرَارِ(62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ(63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (1)
.
__________
(1) )سورة ص / 55-66
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 15 ،ص 129 .(1/197)
هؤلاء الطاغون الذين لم يلتزموا بما أمر الله به ، بل تجاوزوا الحد ، وزادوا في اقتراف المعاصي وتجبروا وتكبروا ، وفكان لهم شر مآب ، والمآب : المرجع والمصير ، فهم يصلون جهنم ، يدخلونها ويباشرون نارها وحرها ، بل وتكون جهنم كأنها فراش لهم ، فهي المهاد الذي عليه يجلسون ؛ فحصباؤها الجمر ، وحياتها الشقاء ، فهذا المهاد – أي : الفراش – الأصل أن يكون للراحة ولتنعيم الجسد ، ولكن مهاد جهنم يذيب الجلد ثم يذيب اللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب ؛ عقوبة من الله العزيز القهار ، وليذق الكافرون الحميم – وهو : الماء الحار – والغساق – وهو : الصديد الذي يسيل من أجساد المعذَّبين - . ولهم في عذاب جهنم أصناف متعددة من العذاب كلها فظيعة : ( وآخر من شكله أزواج ) (1) .
وبعد هذه المقدمة لحال الكفار في النار يدخل الأتباع على رؤسائهم ، فتقول الملائكة : ( هذا فوج مقتحم معكم ) ؛ أي : يا أيها الرؤساء الماكثون في العذاب ، هذه جماعة من الناس داخلة معكم في العذاب ، و " الفوج جماعة من الناس ، والمقتحم : الداخل في زحام وشدة ، وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولاً ، ثم دخل بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه " (2) . وبعد ذلك يقول الرؤساء لأتباعهم : ( لا مرحباً بهم ) (3) . و ( مرحباً ) " من الرحب بضم الراء ، وهو السعة ، ومنه الرحبة للفضاء الواسع " (4) .
__________
(1) ) انظرالبقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 404 .
(2) ) ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2،ص 212 .
(3) ) انظر المصدر ذاته، الجزء 2،ص 212 .
(4) )انظر محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1853م) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به أحمد وعمر السلامي ، الجزء 23 ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م ، ص 286 .(1/198)
فأجاب الأتباع مخاطبين رؤساءهم ( بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ) ثم يدعو الأتباع الله –سبحانه وتعالى - بمضاعفة العذاب للرؤساء ( ربنا من قدّم لنا هذه فزده عذاباً ضعفاً في النار ) (1) .
وبعد هذا التخاصم يقول الرؤساء أو الطاغون (2) : ( ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ) . يقول الآلوسي : " ( ما لنا لا نرى رجالاً كنا ) في الدنيا ( نعدهم من الأشرار ) ؛ أي : الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ؛ يعنون بذلك فقراء المؤمنين ، وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في دينهم " (3)
ويوبخ الكفار أنفسهم ويُؤنبونها على ما فعلت فيقولون : ( اتخذناهم سخرياَ ) (4) .فهم لا يرون الضعفاء المؤمنين الذين كانوا يسخرون بهم ، ولذلك ؛ فقد وبخوا أنفسهم بما فعلوه بهم ؛ لأنهم أخطأوا فيما فعلوا ، فإن اتخاذ المؤمنين هزواً وسخريةً خطيئة وقع بها الكفار ، وهم يدفعون ثمنها في نار جهنم .
والشاهد – هنا – أن هؤلاء الطاغين الذين يصلون نار جهنم وهي لهم مهاد ، وكذلك فإن شرابهم الحميم ومعه الغساق ، ولهم مثل هذا العذاب أنواع أخرى وأصناف متعددة ؛ هؤلاء كانوا يسخرون من المؤمنين . فهذه عاقبة استهزائهم ، النار أعدها الله لهم ، فليتمتعوا بمهادها وشرابها وطعامها وأصناف عذابها جزاء بما كانوا يستهزئون .
ومن العدل الإلهي أن يُرد استهزاء الكفار عليهم ، وأن يستهزئ المؤمنون من الكفار في الآخرة كما كان الكفار يستهزئون من المؤمنين في الدنيا .
__________
(1) ) وانظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق , الجزء 2 ، ص 212 .
.
(2) ) انظر المصدر ذاته، الجزء 2 ، ص 212 .
(3) ) الآلوسي ،روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،مصدر سابق ، الجزء 23 ، ص 286 .
(4)
) انظر العمادي ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، مصدر سابق ، الجزء 5 ،ص 369(1/199)
يقول تعالى : ( إن الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِم انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32)وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35)هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (1) .
فالكفار كانوا يضحكون ويستهزئون من المؤمنين في الدنيا ، ولكن الله – سبحانه وتعالى – يجعل المؤمنين في الآخرة يضحكون من الكفار ، كما ضحك الكفار من المؤمنين (2) .والمؤمنون يضحكون من الكفار وهم في حال التنعم على الأرائك ينظرون إلى ما حل بالكفار من الصَّغار والهوان (3) . وفي نهاية الأمر ( هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون ) ؛ أي : هل أُثيب الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين من الاستهزاء أم لا ؟ وهذا الاستفهام يعني أنهم قد نالوا أوفر جزاء وأتمه وأكمله (4) .
__________
(1) ) سورة المطففين / 29 – 36
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومدنية في قول الحسن وعكرمة .
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ،الجزء 19 ، ص 214.
قال ابن جزي : هي آخر سورة نزلت بمكة
انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، الجزء 2، ص 460.
(2) ) انظر ابن جزي ، التسهيل لعلوم التنزيل ، مصدر سابق ، الجزء 2،ص 463.
(3) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 725.
(4) ) انظر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 628.(1/200)
إن المستهزئون يتحسرون في الآخرة على استهزائهم ، وهذه الحسرة عذاب مؤلم ؛ يقول تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55)أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(57)أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(58)بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ(59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (1) .
وهذا خطاب من الله –سبحانه وتعالى – لعباده بأن يلتزموا أمر الله ؛ فيحلوا الحلال ويحرموا الحرام ويجتنبوا المعاصي ويفعلوا الطاعات ، من قبل أن يفاجئهم العذاب الأليم ،وهم لاهون غافلون لا يشعرون ، والعذاب – هنا – عذاب الدنيا كالقتل والأسر والقهر والجدب ، وليس عذاب الآخرة ، لأن عذاب الآخرة لا يأتي بغتة (2) .
__________
(1)
) سورة الزمر / 55-60
هذه الآيات مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 15 ، ص 207.
(2) ). القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص ص 89-90 .(1/201)
وهذا الالتزام بأمر الله كراهة ( أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) ؛ يقول الزمخشري : " ( أن تقول نفس ) كراهة أن تقول . فإن قلت : لم نكرت ؟ قلت : لأن المراد بها بعض الأنفس ، وهي : نفس الكافر ، ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس ؛ إما بلجاج في الكفر شديد ، أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير " (1) .
ومعنى : ( جنب الله ) ؛ أي : قربه ؛ لأن الجنب بمعنى الجوار والقرب ، ومنه قوله تعالى : ( والصاحب بالجنب ) (2) . فتتحسر النفس الكافرة على تفريطها في طلب قرب الله ،- وهو الجنة - ، وكذلك على سخريتها بدين الله وكتابه ورسوله والمؤمنين . وقوله تعالى : ( وإن كنت لمن الساخرين ) جملة حالية ؛ أي : كأن النفس المتحسرة تقول : فرطت وأنا ساخرة (3) .
فهيا " قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة ، وعلى التفريط في حق الله ، وعلى السخرية بوعد الله ( ... ) فالفرصة ها هي ذي سانحة ، ووسائل الهدى ما تزال حاضرة ، وباب التوبة ها هو ذا مفتوح ( ... ) فإذا انتهت الحياة فلا كرة ولا رجوع ، وها أنتم أولاء في دار العمل ، وهي فرصة واحدة إذا انقضت لا تعود ، وستسألون عنها مع التبكيت والترذيل " (4) .
__________
(1) ) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، مصدر سابق ، الجزء 4 ، ص 139.
(2) ) سورة النساء / 36
(3) ). القنوجي ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 6 ، ص ص 89-90 .
(4)
) انظر سيد قطب ، في ظلال القرآن ،مصدر سابق ، الجزء 24 ، ص 3059 .(1/202)
فالنفس الهازئة تتحسر على استهزائها ، والحسرة ألم ، فكيف بحسرة هي الألم في موطن العذاب والألم في نار جهنم ؟ إنها حسرة تمزق أحشاء النفس المستهزئة . فالكفر أمر تُعذب عليه هذه النفس ، ولذلك فإنها تتحسر على ما فرطت في جنب الله ، وكذلك فإنها تتحسر على السخرية بدين الله ، وذلك ؛ لأنها تعذّب عذاباً مستقلاً على سخريتها مع عذابها على كفرها ولذلك فقد تحسرت على استهزائها تحسراً مستقلاً عن كفرها ؛ فهما أمران : كفر مجرد ، وزيادة عليه استهزاء . فالاستهزاء كفر وزيادة وعقابه عقاب الكفر وزيادة ، وذلك بناءً على ما يُفهم من تحسر النفس على الأمرين : التفريط في جنب الله والاستهزاء في دين الله ؛ ( يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ) .
فالمستهزئون بدين الله – سبحانه وتعالى – منسيون في الآخرة ، فهم في النار لا يَخرجون منها ولا يُخرجون ؛ يقول تعالى : (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(33)وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(34)ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمْ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (1)
.
__________
(1)
) سورة الجاثية / 33 - 35
هذه الآية مكية
انظر القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، الجزء 16 ، ص 146.(1/203)
لقد ظهر للكفار في الآخرة جزاء سيئاتهم التي ارتكبوها في الدنيا ، وأحاط بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب ، ويقال لهم : اليوم نترككم في العذاب ، كما تركتم العمل لهذا اليوم ، ومسكنكم ومقركم الذي لا تخرجون منه هو النار ، وهذا العذاب بسبب اتخاذكم القرآن هزواً ولعباً وخداع الدنيا لكم حتى ظننتم أنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ، فعملتم لها على حساب الآخرة ،ولذلك ؛ فلن يخرج الكفار من النار ، ولن يُستعتبوا ؛ أي : لن يطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله ، ولا يُسترضون ، ولا يُقبل لهم عذر ولا توبة (1) .
المستهزئون منسيون في العذاب ، خالدون فيه لا يخرجون منه ، ولا تقبل منهم توبة ولا عذر . إذن ؛ فالخلود في النار جزاء رباني للمستهزئين ، فلينظر المستهزئون – قبل استهزائهم – إلى أن عاقبة المستهزئين هي الخلود في النار ، لعلهم يرتدعون وإن لم يرتدعوا فالنار متسعة لأمثالهم ، مجهزة لاستقبالهم .
قائمة المصادر والمراجع
المصادر
1. إبراهيم بن عمر البقاعي ( ت 885 هـ /1480م) نظم الدرر في تناسب الآي والسور ، الطبعة 1 ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، 1975 م
2. أحمد بن علي بن حجر (ت852 هـ /1448م) ، تقريب التهذيب ، بعناية عادل مرشد ، طبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1996 م
3. أحمد بن علي بن حجر ( ت852 هـ /1448م) ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، بيت الأفكار الدولية ، توزيع دار ابن حزم ، دون ذكر الطبعة ، دون ذكر التاريخ
4. أحمد بن علي بن حجر ( ت 852 هـ / 1448 م ) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،2000 م
__________
(1) ) انظر حسين بن مسعود البغوي ( ت516هـ / 1122م ) ، معالم التنزيل ، حققه محمد النمر وآخران ، الجزء 7 ، الطبعة 4 ، دار طيبة ، السعودية ، 1997م ، ص 248 .
و انظر الشوكاني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، مصدر سابق ، الجزء 5 ، ص 14.(1/204)
5. أحمد بن فارس ( ت 395 هـ / 1005 م ) ، مجمل اللغة ، تحقيق زهير عبد المحسن ، الطبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1984م
6. أحمد بن محمد الخفاجي ( ت 1069 هـ / 1659م) ، عناية القاضي كفاية الراضي ، ضبطه وخرج أحاديثه عبد الرزاق المهدي ،الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1997 م
7. أحمد بن محمد بن عجيبة ( ت 1224 هـ / 1809 م ) ، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ،تحقيق : أحمد رسلان ، دون ذكر الطبعة، طبع على نفقة د . حسن عباس ، القاهرة ، 1999 م
8. أحمد بن محمد الفيومي ( ت 770 هـ / 1369 م ) ، المصباح المنير ، دون ذكر الطبعة ، المطبعة الكبرى الأميرية ، مصر ، 1906 م
9. أحمد بن محمد بن منير ( ت 683 هـ / 1284 م ) ،الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال ، المطبوع بحاشية : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل , تحقيق عبد الرزاق مهدي ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997
10. أحمد بن يوسف ( ت 756 هـ/1355م) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ ، تحقيق محمد التونجي ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1993 م
11. إسماعيل حقي البُروسَوي (ت 1137 هـ / 1724م ) ، تفسير روح البيان ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر مكان دار النشر ، دون ذكر تاريخ النشر
12. إسماعيل بن عباد الصاحب ( ت 385 هـ / 995 م ) ، المحيط في اللغة ، تحقيق محمد حسن آل ياسين ، الطبعة 1 ، عالم الكتب ، بيروت ، 1994 م
13. إسماعيل بن كثير ( ت774 هـ /1373م) ، تفسير القرآن العظيم ، الطبعة 2 ، دار الفيحاء و دار السلام ، دمشق / الرياض ، 1998 م
14. حسن بن محمد القمي ( ت 728 هـ / 1328 م ) ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، اعتنى به زكريا عميرات ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1996 م
15. حسين بن محمد( ت 425 هـ / 1034 م ) ، مفردات ألفاظ القرآن ، الطبعة 2 ، دار القلم ، دمشق ، 1997 م(1/205)
16. حسين بن مسعود البغوي ( ت516هـ / 1122م ) ، معالم التنزيل ، حققه محمد النمر وآخران ، الطبعة 2 ، دار طيبة ، السعودية ، 1993م
17. سليمان بن أحمد الطبراني ( ت 360 هـ / 972 م ) ،المعجم الأوسط .، تحقيق طارق عوض الله وعبد المحسن إبراهيم ، دون ذكر الطبعة ، دار الحرمين ، مصر ، 1995م
18. سليمان بن أشعث (ت 275 هـ / 889 م ) ، كتاب السنن ، تحقيق محمد عوّامة ، الطبعة 1 ، دار القبلة ومؤسسة الريان والمكتبة المكية ، السعودية / لبنان /السعودية ، 1998 م
19. سليمان بن عمر العجيلي ( ت 1204 هـ / 1790م) الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية ، ضبطه وخرج أحاديثه إبراهيم شمس الدين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1996 م
20. صديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ / 1889 م ) ، فتح البيان في مقاصد القرآن ، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان 1999م
21. عبد الله بن أحمد النسفي ( ت 710هـ /1310م ) ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، تحقيق : يوسف البديوي ، الطبعة 1 ، دار الكلم الطيب ، بيروت ، 1998 م
22. عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 791 هـ /1389م) ، أنوار التنزيل و أسرار التأويل ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1988 م
23. عبد الحق بن عطية (ت546 هـ /1151م) ، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،تحقيق عبدالله الأنصاري ، وعبد العال ، الطبعة 1 ، طبع على نفقة أمير قطر ، 1987م
24. عبد الرحمن بن أبي حاتم ( ت327 هـ /939م) تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين ، تحقيق أسعد الطيب ، الطبعة 2 ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1999م
25. عبد الرحمن بن الجوزي (ت598 هـ /1202م) ، تذكرة الأريب في تفسير الغريب ، تحقيق علي حسين البواب ، الطبعة1 ، مكتبة المعارف ، الرياض ، 1986م(1/206)
26. عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 598 هـ / 1202م) ، زاد المسير في علم التفسير ، الطبعة 1 ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، دون تاريخ
27. عبد الرحمن السيوطي ( ت 911 هـ / 1505 م ) ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، الطبعة 1 ، دار الفكر ، بيروت ، 1983 م
28. عبد الرحمن السيوطي ( ت 911 هـ / 1505م) ، لباب النقول في أسباب النزول ، اعتنى به بديع اللحام ، الطبعة 1 ، دار الهجرة ، دمشق ، 1990 م
29. عبد العزيز بن عبد السلام ( ت 660 هـ / 1262 م ) تفسير القرآن ، تحقيق د . عبد الله الوهيبي ، الطبعة 1 ، دار ابن حزم ، لبنان ، 1996 م
30. عبد الكريم بن محمد الرافعي ( ت 623 هـ /1226م) العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ، تحقيق علي معوض وعادل أحمد ، الطبعة 1 ، توزيع مكتبة عباس الباز ، مكة المكرمة ، 1997 م
31. على بن أحمد بن حزم (ت456 هـ / 1064م )، الفصل في الملل و الأهواء و النحل ، الطبعة2 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م
32. أحمد بن علي بن حزم ( ت 456 هـ / 1064م) المحلّى بالآثار ، تحقيق عبد الغفار البنداري ، الجزء 12 ، دون ذكر الطبعة ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، دون تاريخ للطبعة
33. علي بن أحمد الواحدي (ت468 هـ /1076م)، أسباب النزول ، ضبطه محمد عبد القادر ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000م
34. علي بن أحمد الواحدي ( ت 468 هـ / 1076م ) ، الوسيط في تفسير القرآن المجيد ، تحقيق عادل أحمد وآخرِين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1994 م
35. علي بن أحمد الواحدي( ت 468 هـ / 1076 م ) ، الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، تحقيق صفوان عدنان ، الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق، 1995م
36. علي بن إسماعيل بن سيْدَه ( ت 458 هـ / 1066 م ) ، المحكم والمحيط الأعظم ، تحقيق د .عبد الحميد هنداوي ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2000 م(1/207)
37. علي بن محمد (ت725 هـ /1325م) ، لباب التأويل في معاني التنزيل ، اعتنى به عبد السلام شاهين ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1995 م
38. علي بن محمد الماوردي ( ت 450 هـ / 1058 م ) ، النكت والعيون ، تحقيق سيد عبد الرحيم ، الطبعة 1 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، لبنان ، 1992 م
39. عمر بن عادل الدمشقي (ت880 هـ /1475م) ، اللباب في علوم الكتاب ، تحقيق عادل عبد الموجود و آخرين ، دون ذكر الطبعة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1988م
40. فضل بن حسن الطبرسي ( ت 548 هـ / 1153 م ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، تحقيق هاشم رسولي وفضل الله اليزيدي ، الطبعة 1 ،دار المعرفة ، لبنان ، 1986 م
41. المبارك بن محمد الأثير ( ت 606 هـ / 1210 م ) ، النهاية في غريب الحديث والأثر ، تخريج صلاح عويضة ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،1997 م
42. محمد بن أبي بكر الرازي ( ت 660 هـ/1262م) ، مختار الصحاح ، الطبعة 1 ، دار عمار ، عمان ، 1996م
43. محمد بن أحمد بن جزي (ت 741 هـ ،1341م)، التسهيل لعلوم التنزيل ، تحقيق عبد الله الخالدي ، دون ذكر الطبعة ، دار الأرقم بن أبي الأرقم ، لبنان ، دون تاريخ
44. محمد بن أحمد الذهبي (ت748 هـ /1347م) ، المغني في الضعفاء ،تحقيق نور الدين عتر ، دون ذكر الطبعة ، ، دار إحياء التراث ، قطر ، دون تاريخ
45. محمد بن أحمد السمرقندي ( ت 375 هـ / 986 م ) ، بحر العلوم ، تحقيق على معوض وآخرَين، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1993 م
46. محمد بن إسماعيل( ت 256 هـ / 870 م ) ، صحيح البخاري ، ضبط نصه : محمد نصار، غير مجزأ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 2001 م
47. محمد بن جرير الطبري (ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، تحقيق محمود محمد شاكر ، دون ذكر الطبعة ، دار المعارف ، مصر،دون ذكر تاريخ النشر(1/208)
محمد بن جرير الطبري ( ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، الطبعة 3 ، دار الكتب العلمية لبنان ، 1999م
محمد بن جرير الطبري ( ت310 هـ /923م) ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1984 م
48. محمد بن الحسن الشيباني ( توفي في القرن السابع الهجري / القرن الرابع عشر الميلادي ) ، نهج البيان عن كشف معاني القرآن ، تحقيق حسين دَرْكَاهي ، الطبعة 1 ، نشر الهادي ، إيران ، دون ذكر تاريخ نشر
49. محمد الخطيب الشربيني ( ت 977 هـ / 1569م) ، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج على متن منهاج الطالبين للنووي ، علق عليه جوبلي الشافعي ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر مكان النشر ، دون تاريخ
50. محمد بن عبد الله بن العربي ( ت 543 هـ / 1149م) أحكام القرآن ، تحقيق عبد الرزاق المهدي ، الطبعة 1 ، دار الكتاب العربي ، لبنان ، 2000 م
51. محمد بن علي الشوكاني ( ت 1250 هـ /1834م) ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، الطبعة 1 ، دار ابن كثير ، دمشق ، 1994 م
52. محمد بن عمر الجاوي ( ت 1316 هـ /1898م ) ، مراح لبيد لكشف معنى القرآن العظيم ، تحقيق محمد أمين الضناوي ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1997 م
53. محمد بن عمر الرازي ( ت 604 هـ /1208) ، مفاتيح الغيب ، الطبعة 3 ، دار الفكر ، لبنان ، 1985م
54. محمد بن عمر الرازي (ت604 هـ /1208م) ، مفاتيح الغيب ، الطبعة 2 ، دار إحياء التراث ، لبنان ، 1997م
55. محمد بن عيسى بن سورة ( ت 279 هـ / 893م ) الجامع الصحيح ، تحقيق كمال يوسف الحوت ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1987م
56. محمد بن محمد العمادي (ت 982 هـ /1574م) ، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، وضع حواشيه : عبد اللطيف عبد الرحمن ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ،1999 م(1/209)
57. محمد بن محمد الغزالي ( ت 505هـ / 1112م) ، إحياء علوم الدين ، الطبعة 1 ، دار الخير ، بيروت ، 1997 م
58. محمد مرتضي الزبيدي ( ت 1205 هـ / 1790 م) ، تاج العروس من جواهر القاموس ، تحقيق عبد الستار فراج ، دون ذكر الطبعة ، مطبعة حكومة الكويت ، الكويت ، 1965م وطبعة 1970
59. محمد بن مصلح (ت951 هـ /1544م ) ، حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي ، ضبطه محمد عبد القادر شاهين ، الطبعة 1، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1999م
60. محمد بن مكرم بن منظور ( ت 711 هـ / 1311 م ) ، لسان العرب ، دون ذكر الطبعة ، دار صادر ، بيروت ، دون ذكر التاريخ
61. محمد بن يزيد القزويني ( ت275هـ / 889م ) ، سنن ابن ماجه ، تحقيق : محمود نصّار ، الطبعة 1 ، دار الكتب العلمية ، لبنان ، 1998 م
62. محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ( ت 817 هـ / 1414 م ) ، القاموس المحيط ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997 م
63. محمد بن يوسف بن حيان ( ت 745 هـ / 1344م) ، النهر الماد من البحر المحيط ، ضبط بوران وهديان ، الطبعة 1 ، دار الجنان ، لبنان ، 1987 م
64. محمد بن يوسف ( ت 745 هـ / 1344م) ، البحر المحيط ، الطبعة 2 ، دار الفكر ، دون ذكر مكان دار النشر ، 1983م
65. محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1854 م ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، الطبعة 2 ، إدارة الطباعة المنيرية ، مصر ، دون تاريخ
66. محمود الآلوسي ( ت 1270 هـ / 1853م) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، اعتنى به أحمد وعمر السلامي ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 2000 م
67. محمود الآلوسي (ت1270 هـ /1854م ) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني ، الجزء 7 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، لبنان ، 1994م(1/210)
68. محمود بن عمر الزمخشري ( ت 538 هـ/1144م) ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، تحقيق عبد الرزاق مهدي ، الطبعة 1 ، دار إحياء التراث العربي ، لبنان ، 1997
69. محمود بن عمر الزمخشري ( ت 538 هـ / 1144م) أساس البلاغة، الطبعة 1 ، مكتبة لبنان ، لبنان ، 1996م
70. منصور بن محمد بن عبد الجبار ( ت 489 هـ / 1096 م ) ، تفسير القرآن ، تحقيق ياسر إبراهيم وغنيم عباس ، الطبعة 1 ، دار الوطن ، الرياض ، 1997 م
71. نصر بن علي بن محمد ( ت 565 هـ / 1170 م ) ، الكتاب المُوضَح في وجوه القراآت وعللها ، تحقيق : د . عمر الكبيسي ، الطبعة 1 ، نشر الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ، جدة ، 1993 م
72. هود بن محكم ( توفي في القرن الثالث الهجري / القرن العاشر الميلادي ) ، تفسير كتاب الله العزيز ، تحقيق بالحاج شريخي ، الطبعة 1 ، دار الغرب الإسلامي ، لبنان ، 1990 م
73. يحيى بن شرف النووي ( ت 676 هـ / 1278 م ) ، شرح صحيح مسلم ، الطبعة 1 ، الدار الثقافية العربية ، بيروت ، 1930م
74. يوسف المزي (ت742 هـ /1342م) ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، تحقيق بشار عواد معروف ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1998 م
المراجع
1. أحمد عبد المولى رويجي ، "الولاء والبراء في القرآن الكريم-دراسة موضوعية " ،رسالة ماجستير غير منشورة ، كلية الشريعة ، الجامعة الأردنية ، عمان ، 1993 م
2. أحمد فائز الحمصي ، قصص الرحمن في ظلال القرآن ، الطبعة 1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1995 م
3. أحمد المراغي ، تفسير المراغي ، الجزء 24 ، دون ذكر الطبعة ، دار الفكر ، دون ذكر
مكان لدار النشر ، دون ذكر تاريخ الطبعة
4. أمين محمد الحاج، التقارب الديني –خطره – مراحله – آثاره ، الطبعة 1، القاهرة ، 1998م
5. بدر شاكر السياب ، ديوان بدر شاكر السياب ، دون ذكر الطبعة ، دار العودة ، بيروت ، 1971 م(1/211)
6. جابر الجزائري ، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ، الطبعة 4 ، دار السلام ، مصر ، 1992م
7. سفر الحوالي ، ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ، دون ذكر الطبعة ، مكتب الطيب ، القاهرة ، دون ذكر تاريخ الطبعة .
8. انظر سيد قطب ( ت1386 هـ / 1966 م ) ، في ظلال القرآن ، الطبعة 25 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1966م
9. صلاح الخالدي ، التفسير الموضوعي بين النظرية و التطبيق ، الطبعة 1 ، دار النفائس ، الأردن 1997م
10. الطاهر أحمد الزاوي ، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة ، الطبعة 3 ، دار الفكر ، دون ذكر مكان الطبعة ، دون ذكر تاريخ النشر
11. عبد الحليم حفني ، أسلوب السخرية في القرآن الكريم ، دون ذكر الطبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1987م.
12. عبد الحليم حفني ، التصوير الساخر في القرآن الكريم ، دون ذكر الطبعة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1992م.
13. عبد الحميد كشك ، في رحاب التفسير ، دون ذكر الطبعة ، المكتب المصري الحديث ، مصر ، دون تاريخ
14. عبد الرحمن حبنكه ، معارج التفكر ودقائق التدبر ، الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق ، 2000م
15. عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن ، دون ذكر الطبعة ، دار المعارف ، الرياض ، 1980 م
16. عبد الرزاق البدر ، القول السديد على من أنكر تقسيم التوحيد ، الطبعة 1 ، دار عفان ، السعودية ، 1997 م
17. عبد العزيز بن باز العقيدة الصحيحة و نواقض الإسلام ، دون ذكر طبعة ، دار الصميعي ، الرياض ، دون تاريخ نشر
18. عبد الكريم زيدان ، أصول الدعوة إلى الله ، الطبعة 6 ، مكتبة القدس ، العراق ، 1992 م
19. علي الجارم ومصطفى أمين ، البلاغة الواضحة / البيان والمعاني والبديع . للمدارس الثانوية، دون ذكر الطبعة ، دون ذكر دار النشر، دون ذكر مكان دار النشر ،دون ذكر تاريخ النشر(1/212)
20. فضل حسن عباس ، البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) ، الطبعة 2 ، دار الفرقان ، أربد ، 1989 م،
21. فيصل عبد العزيز آل مبارك ( ت 1366هـ /1947م) ، توفيق الرحمن في دروس القرآن ،تحقيق عبد العزيز عبد الله ، الطبعة 1 ، دار العليان ودار العاصمة ، السعودية ، 1996 م
22. محمد بن اطفيش ( 1332 هـ / 1914 م ) ، تيسير التفسير للقرآن الكريم ، دون ذكر الطبعة ، وزارة التراث القومي والثقافي ، سلطنة عُمان ، دون ذكر تاريخ الطبعة
23. محمد جمال الدين القاسمي ( ت 1332 هـ / 1914 م ) ، محاسن التأويل ، الطبعة 2 ،دار الفكر ،بيروت ، 1978 م
24. محمد جمال الدين القاسمي ( ت 1332 هـ / 1914 م ) ، محاسن التأويل ،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، الطبعة 1 ،مؤسسة التاريخ العربي،بيروت ، 1994 م ،
25. محمد حسين الذهبي ، التفسير والمفسرون ، دون ذكر الطبعة ، دون ذكر دار النشر ، دون ذكر مكان النشر ، دون ذكر تاريخ النشر .
26. محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، الطبعة 2 ، مؤسسة الأعلى للمطبوعات ، لبنان ، 1971 م
27. محمد رشيد رضا ، تفسير القرآن الحكيم ، الطبعة 2 ، دار المعرفة ، لبنان ، دون تاريخ نشر
28. محمد سعيد البوطي ، كبرى اليقينيات الكونية- وجود الخالق ووظيفة المخلوق ، الطبعة 8 ، دار الفكر المعاصر ، لبنان ،1993 م
29. محمد سعيد القحطاني ، الاستهزاء بالدين وأهله ، الطبعة 2 ، مكتبة السنة ، القاهرة، ، 1995 م
30. محمد صبحي حلاق ، رجال تفسير الطبري جرحاً وتعديلاً من تحقيق ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) لأحمد شاكر ومحمود شاكر ، الطبعة 1 ، دار ابن حزم، لبنان ، 1999 م
31. محمد الطاهر بن عاشور ، التحرير و التنوير ، دون ذكر الطبعة ، الدار التونسية ، تونس ، 1984 م
32. محمد عزة دروزه ، التفسير الحديث ، دون ذكر الطبعة ، دار إحياء الكتب العربية ، دون ذكر مكان النشر ، 1962م(1/213)
33. محمد علي الصابوني ، صفوة التفاسير ، الطبعة 1، دار القرآن الكريم ، بيروت ،1981م
34. محمد علي الصابوني ، قبس من نور القرآن الكريم ، الطبعة 1 ، دار القلم ، دمشق ، 1988م
35. محمد علي الصابوني ، النبوة والأنبياء ، الطبعة 2 ، مكتبة الغزالي ، دون ذكر مكان دار النشر ، 1980م
36. محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، الطبعة 2 ، مؤسسة المدينة للصحافة ، جدة ، 1988 م
37. محمد متولي الشعراوي ، تفسير الشعراوي ، دون ذكر الطبعة ، نشر أخبار اليوم ، دون ذكر مكان النشر ، دون ذكر تاريخ الطباعة
38. محمد متولي الشعراوي ، قصص الأنبياء ، جمع المادة العلمية : منشاوي غانم ، دون ذكر الطبعة ، مكتبة التراث الإسلامي ، مصر ، دون ذكر تاريخ النشر
39. محمد محمود حجازي ، التفسير الواضح ، الطبعة 4 ، دار الجيل، دون ذكر مكان دار النشر , 1968 م
40. محمود صافي ، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه ،الطبعة 1 ، دار الرشيد ، دمشق ، 1991 م
41. محيي الدين الدرويش ، إعراب القرآن وبيانه ، الطبعة 3 ، دار اليمامة ، سوريا، 1992 م
42. مصطفى الخيري المنصوري ، المقتطف من عيون التفاسير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، الطبعة 1 ، دار السلام ، القاهرة ، دون تاريخ
43. الندوة العالمية للشباب ، الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة ، الطبعة 2 ، السعودية ، 1989 م
الدوريات
1. أحمد فهمي ، الحجاب الإسلامي بين المد والجزر " ، البيان ، دون ذكر المجلد ، العدد (149) ، لندن ، 2000م
2. أنصر حسن ، " الدعوة للإسلام ؛ صور الإسلام النمطية في الإعلام الغربي " قراءات ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 2 ) ، دون ذكر مكان الصدور ، 2000 م
3. عبد العزيز مصطفى " أقلام الردة أما آن لها أن تنكسر" ، البيان ، دون ذكر للمجلد ، العدد 125 ، لندن ، 1998 م(1/214)
4. قسم التحقيقات " بعد نشرها إعلانا مسيئاً للمسلمين مجلة ( لايف ) تعترف بمسؤوليتها وتبرئ (كوكا كولا ) "، مجلة الشريعة ، دون ذكر المجلد ، العدد(367) ، الأردن ، 1996 م
5. يوسف نعمان نصر الله ، " تجميل للسفور والانحلال وتنفير من الاحتشام . صور نمطية لحجاب المرأة في المسلسلات التلفزيونية " ، السبيل ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 340 ) عمان ، 2000 م
6. دون ذكر اسم الكاتب ، " مسلمو أمريكا يتعرضون لهجوم عنصري بسبب الصلاة " السبيل ، دون ذكر المجلد ، العدد ( 340) ، عمان ، 2000م
7. دون ذكر اسم الكاتب ، " بث آيات من القرآن الكريم على أنغام الموسيقا " ، السبيل ، دون ذكر للمجلد ، العدد ( 342 ) ، عمان ،2000 م
8. دون ذكر لكاتب المقال ، ((موقع لمايكروسوفت على الإنترنت يصف العرب بالنفايات)) ، السبيل ، دون ذكر المجلد ، عدد359 ، 2000م(1/215)