الآداب و الأخلاق الشرعية
? تقديم فضيلة الشيخ العلامةعبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
? المقدمة
? الآداب الأول: المحبة والأخوة في الإسلام
1. من آثار المحبة :
2. المحبة في الله
3. النصيحة لأخيك
4. النصيحة سرا
5. النصيحة لولاة الأمور، والنصيحة للعامة
? الأدب الثاني: الإنصاف
? الأدب الثالث: التواضع ولين الجانب
? الأدب الرابع: المودة وإفشاء السلام
? الأدب الخامس: التعاون على البر والتقوى
? الأدب السادس: الإيثار
? الأدب السابع: حُسن الظن
? الأدب الثامن: الصبر
? خاتمة
تقديم فضيلة الشيخ العلامة
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأمر ونهى، أشهد أن الله هو الإله الحق لا إله لنا غيره ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنه أرسل الرسل يدعون إليه ويُعرِّفون بحقّه على عباده، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن الأحكام والآداب والأخلاق الشرعية بقوله وفعله؛ صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته ومن سار على نهجه واتبع هديه.
وبعد:
فهذه محاضرة كنت ألقيتها في بعض المساجد لبعض المناسبات ضمّنتها بعضاً من آداب الإسلام التي ربى بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، والتي دلّت عليها العقول الزكية والفطر المستقيمة، وشهد بفضلها وأثرها وحسنها الموافق والمخالف، وعرف بتحقيقها والتخلق بها ما يهدف إليه الإسلام من التعاون على الخير والتعامل بالحسنى، والمواساة والإيثار، والصدق والوفاء، والبعد عن الشقاق والنزاع والسباب والشتم والعيب والثلب والقذف وتتبع العثرات، ونحو ذلك مما يزرع البغضاء والأحقاد.
وقد كتب العلماء المتقدمون والمتأخرون في الأدب الديني ومحاسن الإسلام وما يدعو إليه من الأخلاق النبيلة والسمات الرفيعة ما يُعرف به أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها وأنه تنزيل من حكيم حميد.(1/1)
فنهيب بالمسلم أن يقرأ ما كتبه علماء الأمة في الآداب الشرعية ومكارم الأخلاق وما تحويه من تفصيل وإيضاح للأدلة النقلية والعقلية، وما أثر عن سلف الأمة من الأقوال والأفعال، وكيف اكتسبوا بَذلك أفئدة الناس وأقنعوهم باعتناق الإسلام عن محبة وطمأنينة مما سبَّب تَمكُّن الدين من القلوب والإقبال عليه بصدق ورغبة؛ وهذا ما نؤمِّله في أبنائهم في هذا الزمان، واللَّه المستعان وعليه التكلان.
وليعلم أن هذه المحاضرة ألقيتها ارتجالاً دون استعداد أو تحضير؛ فلهذا لم أذكر جميع الأدلة، ولم أتوسّع في شرح الآداب لضيق الوقت عن استيفاء ما في الموضوع من الفروع، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبدالله، نبي هذه الأمة، وكاشف الغمة، الذي خاطبه ربه: (وإنك لعلى خلق عظيم)(سورة القلم، الآية:4). وعلى آله وأصحابه الكرام الطيبين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن الإسلام قد أمر بكل ما تستحسنه العقول وتستسيغه، ونهى عن كل شيء تستقبحه العقول الزكية، وأمر المسلمين بالآداب والأخلاق الإسلامية، التي من شأنها التأليف بين قلوبهم وإزالة البغضاء والشنآن؛ وذلك مما يقوِّيهم ويكون سبباً في نصرهم على أعدائهم ويرفع من شأنهم ويعلي كلمتهم.
وإن مما دفعنا إلى الكتابة في هذا الموضوع هو ما نراه من مخالفة صريحة للآداب الإسلامية والأخلاق الشرعية؛ بل إننا نجد -والعياذ بالله- من يحضّ على عدم العمل بها والصد عنها.
ونحن نذكر بعض الآداب والأخلاق -لا كلها- لأن كل خصلة قد تحتاج بحثاً منفرداً؛ ولكن نختار بعض الآداب المهمة ليُعلم بذلك قدر الإسلام حيث قدّر هذه الآداب. والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الآدب الأول
المحبة والأخوة في الإسلام(1/2)
لا شك أن الإسلام ربط بين المسلمين وجعلهم إخوة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوةً) وقال: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) (سورة آل عمران، الآية:103)، وقال: (فمن عفي له من أخيه شيء)(البقرة:178). فجعلهم كلهم إخوة، وإن حصل ما حصل بينهم من القتال ومن القتل فإنهم -رغم ذلك- لا يخرجون عن هذه الأخوة.
ولا شك أن الأخوة تقتضي المحبة بمعنى أن تحب لأخيك الخير وتدله عليه. فالمحبة من أعظم الخصال التي دعا إليها الإسلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). فالمراد أنه يحب له الخير ويكره له الشر، ومعلوم أنه إذا أحب له الخير دلّه عليه، وإذا رأى منه شراً حذّره عنه. فالأخوة في الإسلام هي أن تعرف أن كل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويعترف بالعبادات ويفعلها، ويعتقد ما تعتقده من حق الله، فإنه أخٌ لك في الله، وأخ لك في الدين، ولو تباعدت الأنساب أو اختلفت الألوان، فما دمت أنت وهو على دين واحد فإنه أخوك، وإذا كان أخاك فعليك أن تحبه في الله ولله.
ثم إن للمحبة في الله والمحبة في الدين آثاراً؛ ليست المحبة في الله مجرد دعوى المحبة ثم تترك أخاك على ما هو عليه من الجهل أو البدعة أو المعصية أو الحاجة الشديدة؛ وأنت تقدر على إزالة ذلك عنه!
فمن هذه الآثار نذكر ما يلي:
1/ المحبة في الله:
ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن تكون المحبة لله، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنُ يقذف في النار".
فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" أي لأجل الله، ولأجل صلاحه، واستقامته فإذا كان كذلك فإنه يجد حلاوة الإيمان.(1/3)
بل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحبة من الخصال التي يستحق أهلها أن يكونوا من أهل الظلال يوم القيامة في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه".
والمراد باجتماعهما الاجتماع في حياتهما، وبتفرقهما التفرق بعد موتهما؛ يعني اجتمعا في الدنيا على أنهما متحابان ولم يفرق بينهما إلا الموت. فهذان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والمسلمون والحمد لله كذلك، ولكن كثيراً ما يوسوس الشيطان بينهم، ويوقع بينهم البغضاء والوحشة ونفرة بعضهم من بعض فتكون تلك النفرة سبباً للتقاطع والتباغض والتحاسد الذي نهى عنه الله في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يَكُن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب...)(الحجرات:11). واللمز هو العيب، كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل هُمزة لُمزة)(الحجرات:11).
فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الوسائل التي تحصل بها المحبة منها:
1. صفاء القلب.
2. والنية الخالصة.
ومعلوم أن المسلمين إذا صفت قلوبهم وخلصت نياتهم، ونصح بعضهم بعضاً، وأحب بعضهم بعضاً؛ زالت بينهم المنافسات والحسد والبغضاء ونحو ذلك، وأصبحوا مجتمعين وأصبحت قلوبهم مجتمعة مؤتلفة، لم يكن بينهم حقد، ولا تفرق واجتمعت كلمتهم على ما يحبه الله تعالى، وهو ما أراده من العباد.(1/4)
وهذا هو ما حصل لصفوة الأمة وخيارها وهم الصحابة -رضي الله عنهم- الذي كانوا أعداء قبل الإسلام فائتلفوا بالإسلام؛ فذكّرهم الله بذلك في قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)(آل عمران:103)، وقال تعالى: (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم)، فأصبحوا إخواناً متماسكين بهذه الأخوة في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(آل عمران:103).
فهذا ما يحث عليه الإسلام؛ يحثنا على أن نكون مجتمعين غير متفرقين، مجتمعة قلوبنا وإن تفرقت أبداننا، مجتمعة أهدافنا، ونياتنا، وأعمالنا، لا يخالف بعضنا بعضاً؛ فإن وقع الاختلاف، وقع التضاد والتحاسد، ونحو ذلك، وبذلك تضعف كلمتنا وتضعف معنوياتنا، ولم يكن لأحد عند الآخر قدر، وصار كل منا يستبدّ برأيه وبنفسه ويدعي أن الصواب في جانبه، ويحقر إخوته ولو كانوا أكبر منه وأفضل، ويلتمس مثالبهم ومعايبهم وينشر السمعة السيئة لمن خالفه!
وهذا ما يتمناه أعداؤنا، ويتمناه الشيطان وأولياؤه؛ فإنهم يتمنون للمسلمين؛ سيما أهل السنة وأهل الحق، أن تكون قلوبهم متفرقة مثلما قال الله تعالى عن اليهود: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى)(الحشر:14). فهذا بلا شك مما يتمناه أعداؤنا.
ولا شك أن هذا التفرق الذي نحس به ونسمع به بين الحين والآخر أثر من آثار الآداب السيئة، وإلا فلو تأدبنا بآداب الإسلام لما حدث لنا هذا التفرق، ولما التمس بعضنا عورة بعض ولا أحد يستهزئ بالآخر ويدّعي أن الكمال في جانبه.
ما هكذا يكون المنصفون!
/ النصيحة لأخيك:
لا شك أن المحبة تقتضي أن تنصح أخاك إذا رأيته قد أخلّ بواجب.
وهذه النصيحة من أعظم آثار المحبة فتنصحه لله تعالى وتقول: إني أحبك في الله -من آثار محبتي أن أنصحك بكذا وكذا، وأدلك على كذا وكذا...(1/5)
وهذه النصيحة ليست مقتصرة على الأمور الدنيوية، مثل مشاركته في تجارتك أو مساهمته معك، أو أن تدله على ما يربح فيه ... وشبه ذلك، فإن هذا ليس من خصوصيات المحبة، بل المحبة أوسع من ذلك.
فمن المحبة أن ترشده إلى الطاعة وتدله عليها، وتحذره من المعصية وتحثه على الابتعاد عنها، وتبيّن له طرق الخير والشر، وتوضح له الطريق السوي الذي يوصله إلى رضى الله تعالى والجنة؛ وهذه هي حقيقة المحبة.
وسوف يتقبل منك إذا علم أنك صادق المودة، ليس لك هدف دنيوي، ولا قصد إلا أنك تريد له الخير وتدله عليه.
ولا تحتقر نفسك أن تنصحه، وتدله على ما ينفعه في دينه ودنياه، ولو كنت أجهل منه، أو أصغر منه؛ هذا هو مقتضى المحبة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية أمثلة من آثار هذه المحبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تظالموا ولا تهاجروا، ولا تحاسدوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره- بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
وظاهر الحديث بيِّن لا يحتاج إلى شرح، فلماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأخوة بين المسلمين بقوله: "وكونوا عباد الله إخواناً"، أمرهم أن يثبِّتوا هذه الأخوة التي من آثارها عدم تحقير بعضهم بعضاً، وأن لا يظلم بعضهم بعضاً، ولا يعتدي بعضهم على بعض، ولا يهجر بعضهم بعضاً. فكل ذلك من آثار هذه المحبة ومن آثار هذه الأخوة.(1/6)
فإذا عرفت أن كل المسلمين إخوة لك فإياك أن تُغل قلبك بحق لأحدهم أو بغض لهم، أو احتقار أو ازدراء لأيهم، خاصةً إذا كان عالماً أو طالب علم فتكون بذلك مخالفاً لهذه التوجيهات النبوية التي دل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مخلاً بهذه الأخوة لأنك إذا لم تعمل بهذه الإرشادات فلست صادقاً في أنك تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، الذي هو شرط من شروط الإيمان كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
فلا يكون كامل الإيمان، ولا من أهل الإيمان الصحيح الحق إلا من أحب لأخيه ما يحب لنفسه.
/ النصيحة سرا:
ومن آثار المحبة أنك إذا رأيت أخاك واقعاً في خطأ أرشدته سراً فيما بينك وبينه، فتخلو به وتقول له: يا أخي، إنك وقعت في هذه الزلة وفي هذا الخطأ، ومن النصيحة أن أنبهك عليه بيني وبينك، فإن المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، وأنا لا أحب أن أنشر عنك سمعة سيئة، ولكني أحب أن أدلك على الخير، وأحب أن أنبهك لأني رأيتك قد أخطأت في هذا القول وفي الفعل، وقد رأيتك تقصّر في هذا العمل، ولا تقوم بهذا الأمر.
فتنِّبهه على الخطأ سواء كان في الآداب، أو في الطاعات، كأن يتثاقل عن الصلوات، ويتكاسل عن الجمع أو الجماعات، أو يسبل ثوبه، أو يحلق لحيته ويطيل شاربه.. إلخ. فهذه من الأفعال التي تستدعي نصحه، وبيان الحق له فيها.
وهكذا إذا وقع في الأخطاء القولية، في خطبة أو موعظة أو نصيحة فعليك أن تبين له أنك تحبه، ثم تنصحه فيما بينك وبينه، فبهذا يظهر له حبك له، فيتقبَّل منك، فإن كان له عذر اعتذر وقبلته، وإن لم يكن له عذر قبل وتقبل نصيحتك، وشهد بأنك من أهل الأخوة الصادقة.(1/7)
فالنصيحة من الآداب الحسنى، ومن آثار المحبة الصادقة، ومن الآداب الدينية، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله بقوله: "الدين النصيحة". فينصحهم عن التقصير والنقص الذي يقعون فيه، ويبيّن لهم وجه الخلل، ووجه النقص الذي يقعون فيه.
ذلك أنه ليس كل إنسان كاملاً، بل لا بد أن يقع الإنسان في خلل وفي نقص، فإذا رأيت أخاك قد وقع في الخلل فإن من كمال الأخوة والمحبة أن ترشده إلى الصواب، وتبين له الحق وتدله عليه؛ وسيستقبله منك وينساق إليه بكل سرور.
فلا شك أن تبادل النصيحة من الآداب الشرعية الناتجة عن المحبة والمودة الصادقة
/ النصيحة لولاة الأمور، والنصيحة للعامة:
وتكون النصيحة لكل فرد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: "الدين النصيحة" وكررها ثلاثاً: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وولاة الأمور هم كلُّ من كان له ولاية في أمر من الأمور: فإمام المسجد ومؤذنه، ورب الأسرة، وأمير القبيلة؛ أو البلدة، ومدير المدرسة والمدرس نفسه، ومعلمو الكُتّاب والموظفون ونحوهم، كل منهم يُعتبر من ولاة الأمور. فلهم حق علينا أن ننصحهم، وأن نبين لهم؛ وهذا من الآداب الشرعية.
ونصيحتهم لا بد أن تكون من أثر محبتهم، فمعلوم أنه لا بد أن يقع أحدهم في خطأ وخلل، إما عن عمد وإما زلة بغير تعمد، فكل منهم حق علينا أن ننصحه؛ فاستقامتهم يحصل بها عز ونصر ويقوى بها المسلمون جميعاً.
o والنصيحة من المواعظ التي أمرنا بها في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(النحل:125).
o وهي أيضاً من التذكير كما في قوله تعالى: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)(ق:45).
كما أنها من الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)(لقمان:17).
الأدب الثاني
الإنصاف(1/8)
قال تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)(الحشر:14).
فقد ذم الله الحسد في هذه الآية وهو من الآداب السيئة وضده الإنصاف وهو من الآداب الشرعية.
والإنصاف هو أن تنصف من نفسك، وتعترف بما أنت مخلّ به، ولا شك أن ذلك يرفع من قدرك ولا ينقصك عند الله ولا عند عباده بل يرفع من معنوياتك.
فمن الآداب الشرعية كون الإنسان ينصف من نفسه؛ فيعترف بالحق على نفسه، وبما أخطأ فيه، فيسترشد ويستصوب ما أخطأ فيه، ويجعل الحق قصده، ومطلبه، ويأخذ به حيث وجده.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر من التقاطع ومن الشحناء ويسميها الحالقة ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".
فإذا نظرنا في آداب المسلم وجدناه ينصف من نفسه ويَّتبع الحق ويتقبله أينما كان ومع من كان، ووجدناه يحب أهل الخير ويتقبل منهم نصحهم وإرشادهم فالإنسان ينصف من نفسه، ويعترف بما عنده؛ وهذه من الآداب الحسنة.
وأما الذي يشمئز من الناس ولا يقبل كلام من فوقه، ويحتقر من دونه من جاءه بنصيحة، ويقول: من أنت حتى تنصحني؟ أين علمك وأنا أعلم منك وأجلّ وأكبر منك سناً، وقدراً؟ فكيف ترشدني وتنصحني؟
فهل يقول هذا عاقل؟
فالحق مقبول مع من جاء به، يقول القائل: اقبل الحق مما جاء به وإن كان عدواً، ورُدَّ الباطل على من جاء به وإن كان صديقاً.
انظر إلى القول لا إلى القائل، فإذا كان القول صواباً فاقبله وأنصف من نفسك، واعترف بخطئك إذا بُيِّن لك خطؤك؛ لأنك لست معصوماً، بل لا بد أن يقع منك خطأ؛ قال صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
ولقد كان العلماء الأجلاء -رحمهم الله- إذا نُصحوا تقبَّلوا النصيحة وأقبلوا عليها مهما كان قائلها، وردوا آراءهم، وطمسوا ما كتبوه من الكتابات، ورجعوا إلى الحق الصوا.(1/9)
وذلك هو واجب الجميع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فعلى هذا يلزمنا أن نرجع إلى الحق، وأن ننصف من أنفسنا أن لا نُصِرَّ على أخطائنا، ولا نصر على باطل بعد أن تبين لنا أنه كذلك، ولو كان الذي جاء به صغيراً أو حقيراً أو نحو ذلك. هذا هو الإنصاف.
ولا شك أن الإنسان لا سيما طالب العلم وحامله، عليه أن يكون قدوة للناس في علمه، وفي عمله، فلا يحتقر مَن دونه ولا يتكبر على الصغير ولا على غيره؛ ولا يتكبر على أحد، ولا يحمل في نفسه اشمئزازاً ولا عتواً ولا نفوراً عن الحق، بل يكون متواضعاً لكل الناس.
الأدب الثالث
التواضع ولين الجانب
ومن الآداب التي أدّبنا بها الإسلام التواضعُ ولين الجانب؛ فإنه أمر أهله بالتواضع ونهى عن التكبر، والمتواضع هو الذي يُقبِل على الناس إقبالاً متساوياً بين كبيرهم وصغيرهم، ويسمع من هذا ومن ذاك، ويقبل من هذا ومن هذا، ويلين جانبه لهم، ويسعهم خلُقُه، ويُسفر لهم وجهَه، ويبسط لهم جاهَه ويتواضع لهم من خلقه قلباً وقالباً.
أما المتكبر فإنه ذلك الذي يشمخ بأنفه، ويترفّع بنفسه، ويحتقر من هو دونه كائناً من كان يزدري الناس ويراهم كأنهم حشرات على وجه الأرض، ولا يرى لغيره عليه حقاً ومن آثا ر تكبره هذا أنه لا يقبل نصحاً من أحد، فيدّعي أنه أرفع منهم قدراً وأفضل، فلا يتأثر بإرشاد ولا بموعظة تكبّراً وإعجاباً بنفسه.
وهذا لا شك من الأخلاق السيئة، فينبغي للمسلم أن يكون متواضعاً للصغير والكبير، لا يرفع نفسه ولا يترفع على أحد مهما كانت مقدرته ومنزلته، فيكون من آثار ذلك أن يقبل كل من أرشده أو نصحه، فإذا كان كذلك فقد تأدب بأدب حسن من تلك الآداب التي تخلّق بها نبينا عليه السلام، وتخلق بها أصحابه -رضي الله عنهم-.(1/10)
ولا شك أن من آداب الإسلام التي حرص عليها الإسلام مع التواضع، لينُ الجانب، والنظرُ إلى المسلمين بعين الرحمة والشفقة، ونصحهم وإرشادهم على الخير، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا شفقة عليهم من الوقوع في عذاب الله. وهذه كلها من آثار محبته للمسلمين، والشفقة عليهم من مواقعة العذاب.
فإذا تأدبنا بهذا وابتعدنا عما يضاده أصبحنا إخوة، وأمة متماسكة قوية لها معنوياتها ولها مكانتها، وأما إذا تفرقت كلمتنا وتشتتت آراؤنا واستبدّ كل منا برأيه؛ فإن ذلك من أسباب الفرقة وضعف المسلمين، ويكون سبباً في تمكين أعدائنا مناً؛ الذين يكيدوننا ويتربصون بنا الدوائر.
والمسلمون إذا اجتمعت كلمتهم وتمسكوا بدين الله كما أمرهم الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا)(آل عمران:103). وتمسكوا بهذا الحبل المتين واجتمعوا على أمره تعالى وأخذ بعضهم ينصح بعضاً وتأدبوا جميعاً بالآداب الشرعية كان ذلك من الأسباب التي تقوي كلمتهم وتجعلهم أمة متماسكة متكاملة.
الأدب الرابع
المودة وإفشاء السلام
جاءت الآداب الإسلامية لإثبات المودة وإفشاء السلام مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدّلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
فجعل إفشاء السلام سبباً للمحبة، وجعل المحبة سبباً لدخول الجنة: "لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا" ومعناه: إذا كنتم متباغضين، متقاطعين كل منكم يخذل الآخر ويبغضه، ولا يبين له خطأه، فإن عاقبتهم الهلاك المحقق.
ولا شك أن هذا من أسباب العذاب، بخلاف إذا ما تحاببنا وزالت البغضاء من قلوبنا، وأصبحنا إخوة متحابين في ذات الله تعالى، يحب بعضنا بعضاً، ونعمل بالأسباب التي تثبت هذه المحبة؛ كتبادل الزيارات، والنصائح، وتبادل أسباب المودة وإفشاء السلام وأشباهها.(1/11)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أيضاً على الأسباب التي تثبت هذه المحبة والمودة، والتي تُبْعدُ عن ضدها، فقال صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن حق الطريق، قال: "حق الطريق غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "للمسلم على المسلم ست بالمعروف تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتتبع جنازته إذا مات، وتحب له ما تحب لنفسك".
وكذا لو تأملنا النواهي التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، لعرفنا الحكمة فيها، لكونها تسبب بغضاً وحقداً. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبَع أحدكم على بيع أخيه" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب بعضكم على خطبة أخيه"، وغيرها من نواهيه صلى الله عليه وسلم، مثل النهي عن الغش في المعاملات، وبيع الغرر، وبيع الأشياء المجهولة والخفية، أو بيع ما لم يقسم، إنما هي قطع لمادة العداوة والبغضاء، والحقد والشحناء بين المسلمين.
فالمشتري مثلاً يسيء الظن فيمن خدعه، ومن غشه أو باع على بيعه فتحدث من هذا العداوة والشنآن بينه وبين البائع وذلك كله منافٍ لحكمة الألفة والأخوة والمودة التي دعانا إليها الإسلام.
الأدب الخامس
التعاون على البر والتقوى
ومن الآداب الشرعية أن يتعاون المسلمون على البر والتقوى كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(المائدة:2).
والتعاون هنا ليس مقصوراً على أمور الدين، بل يشمل التعاون على أمور الدنيا، وعلى تنفيذ حدود الله وتنفيذ أوامره، وعلى الأمر بالخير والدعوة إليه.(1/12)
ولا يكون هذا التعاون صحيحاً إلا إذا ائتلفت القلوب وتقاربت وتحابَّت وحسنت ظنون بعضهم في بعض فعند ذلك تجدهم يتزاورون ويتحابون ويتجالسون في الله، ويتبادلون النصيحة فيما بينهم، ويرشد بعضهم بعضاً، ويهدي بعضهم بعضاً، ويبين الأخ لأخيه النقص الذي فيه، ويفكرون في علاجه.
ثم بعد ذلك يتعاونون على علاج جراح الأمة. وماذا نفعل حتى تعود الأمة إلى دينها؟
إذا رأينا الأمة متفرقة؟
إذا رأينا أن المعاصي قد تمكّنت وكثر أهلها؟
إذا رأينا دعاة الفساد ودعاة الضلال يتعاونون على ضلالهم ويقوِّي بعضهم بعضاً؟
أفلا نكون نحن أولى بالحق ونحن أهل الأخلاق النبوية؟ الذين تخلّقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم. وتأدبوا بأدبه؟
سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)(القلم:4). فقالت: "كان خلقه القرآن"، تعني: أنه متأدب بآدابه ومتخلق بأخلاقه، وعامل بإرشاداته ومهتد بهديه، وسائر على نهجه.
فعلى أمته أن يتأدبوا بآداب نبيهم التي احتوى عليها القرآن، والتي رويت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم والتي سار عليها صحابته -رضي الله عنهم- فظلوا مجتمعين في عهده غير متفرقين.
الأدب السادس
الإيثار
قال الله تعالى في الأنصار: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(الحشر:9). فكانوا يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين مع أنهم من عدنان وهم من قحطان، وهؤلاء من مكة وهؤلاء من المدينة !! ولكن أحبوهم وقدّموهم على أهلهم لأنهم مؤمنون؛ فلأجل الإيمان يؤثرون هؤلاء على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.(1/13)
وسبب نزول هذه الآية أن صحابياً استضافه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عند أهله إلا الماء، فقال رجل من الأنصار: أنا أكْرِم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب به إلى بيته، وقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: ما عندي إلا عشاء صبيتي، فقدمت العشاء لذلك الضيف ! وبات هو وصبيته جياعاً تلك الليلة، فأنزل الله هذه الآية: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).
وقد نُقل أن كثيراً من المهاجرين من الحجاز ومن العراق هاجروا إلى خراسان، فلما استوطنوا تلك البلاد -وكان أهلها من المجوس- وكانوا تجاراً فيها فإذا أصبحوا جاء أحد يشتري من بعضهم وقد سبق له أن باع في هذا اليوم فإنه يدلّه على أخيه الذي لم يبع ويقول: اذهب إلى ذلك الأخ فإنه لم يبع شيئاً اليوم، ولم يأته أحد من الزبائن، أما أنا فقد أتاني قبلك اثنان. فيؤثر أخاه بالزبائن على نفسه.
وما كانت نتيجة هذه الإيثار؟
أن تأثر الناس من أبناء تلك البلاد من الفرس وغيرهم بذلك، فدعاهم ذلك إلى الإسلام، وقالوا: إن ديناً حث أهله على أن يتخلقوا بهذه الأخلاق، ويتأدبوا بهذه الآداب. فلا شك أنه دين قوي دفعهم إلى هذه الأخلاق والآداب الكريمة؛ فدفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام تاركين ديانتهم المجوسية أو النصرانية أو غيرها.
فإذا تأدب المسلمون بهذه الآداب التي منها أدب الإيثار، وأدب المحبة، وأدب المواساة ونحوها، أحب بعضهم بعضاً، وأحبهم الآخرون ودخلوا في الإسلام وتمكن في قلوب الذين دخلوا فيه حديثاً لِما رأوا من آداب وأخلاق أهله.
وإذا ما تخلق المسلمون جميعاً بهذه الأخلاق أصبحوا بذلك أمة لها قوتها ولها معنوياتها، ولها مكانتها في الأمم السابقة واللاحقة. وهذا ما يريده منا الإسلام.(1/14)
أما إذا ظهر فينا التخاذل والتحزُّب الذي ذمه الله تعالى في قوله: (كل حزبٍ بما لديهم فرحون)(الروم:32). بأن يصير هؤلاء حزباً يندّدون بأضدادهم ويتتبّعون عثراتهم، ويدّعون أن الكمال في حقهم دون غيرهم، ويدْعون الناس إلى الانضمام إليهم ويحذرون من الانضمام للأحزاب الأخرى، فيتلمَّسون العورات للغير، ويسيئون الظن بإخوتهم. فإن ذلك من أسباب الضعف، ومن الفشل.
الأدب السابع
حُسن الظن
إن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بأخيه المسلم، وكيف ذلك؟
إذا كنت تعرف سلامة عقيدة أخيك، وسلامة فطرته، ومنشأه ومجتمعه الذي نشأ فيه، وعرفته من خلال دروسه ومؤلفاته، أو مشايخه وماذا قرأ عليهم، وهكذا عرفت خطبه ونصائحه وغير ذلك، وعرفت أنه على العقيدة السليمة والفطرة المستقيمة فبذلك تحبه وتحسن الظن به. فإذا جاءك من ينقل لك عن أخيك فلان بأنه أخطأ في كذا، أو أنه قال كذا وكذا.
فماذا يكون موقفك؟
إن هذا الناقل قد يكون من الوشاة الذين يسعون بين الناس فساداً، وليقف من هذا الناقل موقف أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه.
فقد روي أن رجلاً جاء إلى عمر بن عبدالعزيز -رضي الله عنه- فقال: إن فلاناً قال كذا وكذا، وشاية ونميمة (ينقلها عن عمد).
ماذا قال عمر -رضي الله عنه-؟
عرض عليه ثلاث خيارات، قال: إن كنت موشياً نحن نبحث، فإن كنت صادقاً، واعتذر عذرناه، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت عفونا عنك. فقال: بل العفو.
والنمام قد ذمه الله بقوله تعالى: (همّازٍ مشاءٍ بنميم)(القلم:11).
والذي ينقل لك عن أخيك الصالح، أنه قال كذا وكذا، فالغالب أنه يكون نماماً، وقد ورد أن النمام معذب في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" وفي رواية : "لا يدخل الجنة قتّات". وهو النمام، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم ما العضْهُ؟ -وهو نوع من السحر- هي النميمة. القالة بين الناس!" فجعل النميمة من السحر أو شبيهاً بالسحر!(1/15)
فإذا جاءك إنسان ونقل إليك عن أخ لك مسلم محب متثبّت، فعليك أن تسيء الظن به.
ثم إذا كان صحيحاً فعليك أن تحسن الظن بذلك القائل، وتلتمس له عذراً أياً كانت تلك المقالة، فتقول: لعل له عذراً، لعل عذره كذا وكذا.
روى عن بعض السلف أنه قال: لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً. فلو كان لها محمل واحد خير، وعشرة محامل شر، فاحملها على محمل الخير لأنك تحسن الظن بصاحبها، وتعرف أنه من أهل الخير والنصيحة والمودة، وأنه لا يتعمد أن يزلّ أو يطعن في مسلم، وأن يكفر مسلماً، أو يقترف ذنباً.
وإذا كانت هذه حالة المسلم فإن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين.
وليس حسن الظن خاصاً بالدنيا؛ بل يجب حسن الظن أيضاً في أمور الآخرة. فمن عقيدة المسلم أن يكون حسن الظن بربه، فيظن بربه خيراً، أنه يغفر له ويعفو عنه سيئاته، ويكفر عنه خطاياه، ويرفع درجاته ويجزل مثوبته، ونحو ذلك.
فعلى المسلم أن يحسن الظن بإخوته، فيظن بهم الظن الحسن الذي يؤدي بهم إلى الخير، ويدفعهم إليه ويدلهم على ما فيه خير لهم، وما فيه الصلاح لهم والاستقامة عليه.
هذا من الآداب الشرعية، فمتى كان المسلمون كذلك استقامت حالتهم، واجتمعت كلمتهم.
الأدب الثامن
الصبر
لقد أمرنا بالصبر على ما يصيبنا، قال تعالى: (وتواصَوا بالحق وتواصوا بالصبر)(العصر:3)، وقال: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)(البلد:17)، وقال: (واصبر على ما أصابك)(لقمان:17).
والصبر -كما قال البعض- مشتق من المرارة؛ لأن الصبر طعمه مُر، فلذلك كان في الصبر شيء من القساوة، وشيء من الشدة؛ ولكن عاقبته أحلى من العسل.
فعلينا أن نصبر على الإيذاء، وعلى التعب، والمشقة، وعلى ما نراه من احتقار وتخاذل، ولا يفتّ ذلك في عضدنا.
كما علينا أن نصبر على تنفيذ أوامر الله تعالى، وعلى القيام بشرعه مهما كان الأمر؛ حتى تكون العاقبة لنا فإن العاقبة للمتقين.(1/16)
وقد أمرنا الله تعالى بالصبر في قوله: (اصبروا وصابروا)(آل عمران:200)، وفي قوله تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)(آل عمران:186)، بعد أن أخبرنا بأنه يبتلي عباده ليصبروا.
فلا بد من الصبر والمصابرة، ولا بد من الوقوف أمام العصاة ونحوهم بحزم، وعلينا أن نتحمل وأن نقف أمام العقبات التي نتعرض لها؛ حتى نكون بذلك من الصابرين الذين يُوفَّون أجرهم بغير حساب، كما وعدنا الله بقوله: (إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب)(الزمر:10).
وينبغي أن نكون متعاونين على تنفيذ أوامر الله، يقوي بعضنا بعضاً على مراجعة ولي الأمر، ويقوي بعضنا بعضاً على كتابة ملاحظة من الملاحظات؛ فإذا رأينا منكراً فعلينا أن نجتمع مع فلان أو فلان ونكتب لهم عن هذا المنكر ونطالب ولي الأمر أو المنتدب لهذا الأمر بأن يغير من هذا المنكر وأن يخفف منه ونصبر على نفقة أو تعب أو سهر أو سفر أو ما أشبه ذلك؛ فإن ذلك مما يضاعف الحسنات ونُؤجَر به عند الله سبحانه وتعالى.
خاتمة
تبين بهذا العرض أن الإسلام يهدف إلى جمع الكلمة، ونشر المحبة بين المسلمين وإخراجهم من الضغائن والعداوات والبغضاء ونحوها.
فإن لم يفعلوا ذلك نقص حظهم من الإيمان، وزادت العداوة بينهم، وقل التماسك بينهم. فكلما كان المسلمون متماسكين قويت كلمتهم.
إذا كان علماء الأمة وعامتهم وطلبتهم، وصغارهم وكبارهم؛ يقدّر بعضهم بعضاً، ويوقر بعضهم بعضاً.
فماذا تكون حالتهم؟
وعلماء هذه البلاد -والحمد لله- وسكانها من طلاب العلم والعبّاد وعامة الناس كلهم والحمد لله على عقيدة التوحيد، التي هو إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلّغه وفيما جاء عنه، وهم على عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، ليس بينهم اختلاف فيما يظهر والحمد لله؛ وهم على عقيدة واحدة في الإيمان، وفي القرآن، وفي الأوامر والنواهي، وفي محبة الصحابة، وآل محمد وأهل البيت وغيرهم.(1/17)
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا هذا التخاذل؟
ولماذا هذا التخالف؟
ولماذا هذا التحاسد؟
ولماذا هذا التضاد وهذا الاضطراب الذي يُلاحظ من البعض؟
لا شك أنه مكيدة من أعداء الله، ومن أعداء الإسلام، يريدون أن يفرّقوا بين علماء أهل السنة!
فإذا افترقت كلمتهم وتضادت، وصار كل منهم له وجه خاص، قال تعالى: (ولكل وجهة هو موليها)(البقرة:148). ولكل منهم حكم، وطريقة خاصة!! تفرقت حينئذ كلمتهم، ولم تبق لهم شوكة، وكان ذلك سبباً لبعدهم وعدم تنفيذ الأوامر التي يُراد تنفيذها.
ونحن نحسن الظن بعلمائنا، وطلابنا وشبابنا، كلهم -والحمد لله-، ونعرف أنهم مخلصون إن شاء الله في طلب العلم، وفي عبادتهم، لا يريدون من طلب العلم إلا التفقه في الدين والعمل والدعوة إليه، ولا يريدون بالعمل إلا وجه الله والدار الآخرة. هذا هو ظننا، وهو إن شاء الله صواب وموافق في جميع من نعرفه من العلماء والعُبّاد.
فإذا تأدبنا بالآداب الشرعية التي أدّبنا بها الإسلام زالت عنا هذه المخالفات وهذه الاضطرابات التي نسمعها، وأصبح المسلمون إخوة كما أمرهم الله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخواناً)(آل عمران:103)؛ فإنهم يجتمعون على تنفيذ أوامر الله.
نسأل الله أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يؤلِّف بين قلوب المسلمين، وأن يجمع كلمتهم، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتّباعه، والباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
ونسأله أن يزيل ما بينهم من البغضاء والحقد والشنآن، وأن يجعلهم إخوة متحابين في ذات الله، متبادلين المحبة في ذاته، وأن ينصرهم على أعدائهم، ويقويهم ويقوي كلمتهم، وأن يثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/18)