رب يسر وأعن يا كريم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه وأثابه الجنة بمنه وكرمه
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد فهذا كتاب يشتمل على جملة كثيرة من الآداب الشرعية والمصالح المرعية يحتاج إلى معرفته أو معرفة كثير منه كل عالم وعابد بل وكل مسلم وقد صنف في هذا المعنى كثير من أصحابنا كأبي داود السجستاني صاحب السنن وأبي بكر الخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي حفص وأبي علي بن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم وصنف في بعض ما يتعلق به كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء والطب واللباس وغير ذلك الطبراني وأبو بكر الآجري وأبو محمد الخلال والقاضي أبو يعلى وابنه أبو الحسين وابن الجوزي وغيرهم
وقد اشتمل هذا الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه على ما تضمنته هذه المصنفات من المسائل أو على أكثرها وتضمن مع ذلك أشياء كثيرة نافعة حسنة غريبة من أماكن متفرقة فمن علمه علم قدره وعلم أنه قد علم من الفوائد المحتاج إليها ما لم يعلم أكثر الفقهاء أو كثير منهم لاشتغالهم بغيره وعزة الكتب الجامعة لهذا الفن
والله أسأل حسن القصد والنية وأن ينفع به من حفظه أو قرأه أو كتبه وأن يجعله عام النفع والبركة بفضله ورحمته إنه على كل شيء قدير
____________________
(1/27)
صفحة فارغة
____________________
(1/28)
فصل في الخوف والصبر والرضا
يسن لكل مسلم مكلف خوف السابقة والخاتمة والمكربة والخديعة والفضيحة والصبر على الطاعة والنعم والبلاء والنقم في بدنه وعرضه وأهله وماله وعن كل مأثم واستدراك ما فات من الهفوات وقصد القرب والطاعة بنيته وفعله وقوله وسائر حركاته وسكناته والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والنظر في حاله ومآله وحشره ونشره وسؤاله ويسن رجاء قبول الطاعة والتوبة من المعصية والقناعة والاكتفاء بالكفاية المعتادة بلا إسراف ولا تقتير ذكر ذلك في الرعاية الكبرى وغيرها
وقال في نهاية المبتدئين هل يجب الرضا بالمرض والسقم والفقر والعاهة وعدم العقل قال القاضي لا يلزم وقيل بلى
قال ابن عقيل الرضا بقضاء الله تعالى واجب فيما كان من فعله تعالى كالأمراض ونحوها قال فأما ما نهي عنه من أفعال العباد كالكفر والضلال فلا يجوز إجماعا إذ الرضا بالكفر والمعاصي كفر وعصيان
وذكر الشيخ تقي الدين أن الرضا بالقضاء ليس بواجب في أصح قولي العلماء إنما الواجب الصبر وذكر في كتاب الإيمان { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب والريب يكون في علم القلب وعمله بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم فلهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علما وعملا وإلا فإذا كان عالما بالحق ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعا عظيما لم يكن صاحب يقين
____________________
(1/29)
وذكر الشيخ وجيه الدين من أصحابنا في شرح الهداية أنه يجوز البكاء على الميت إذا تجرد عن فعل محرم من ندب ونياحة وتسخط بقضاء الله وقدره المحتوم والجزع الذي يناقض الانقياد والاستسلام له
وقال ابن الجوزي في آخر كلامه في قوله تعالى { يا أسفى على يوسف } قال وروي عن الحسن أن أخاه مات فجزع الحسن جزعا شديدا فعوتب في ذلك فقال ما سمعت الله عاب على يعقوب عليه السلام الحزن حيث يقول { يا أسفى على يوسف }
وذكر الشيخ تقي الدين في التحفة العراقية أن البكاء على الميت على وجه الرحمة مستحب وذلك لا ينافي الرضا بقضاء الله بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود
وأن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت وأن الفضيل لما مات ابنه ضحك وقال رأيت أن الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع فأما رحمة الميت والرضا بالقضاء وحمد الله كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل
وقال في الفرقان والصبر واجب باتفاق العقلاء ثم ذكر في الرضا قولين ثم قال وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها ولا يلزم العاصي الرضا بلعنه ولا المعاقب الرضا بعقابه قال بعضهم المؤمن يصبر على البلاء ولا يصبر على العافية إلا صديق
وقال عبد الرحمن بن عوف ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر
وقال أبو الفرج بن الجوزي الرجل كل الرجل من يصبر على العافية وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر وإنما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند
____________________
(1/30)
حضور الطعام اللذيذ فصل في البهت والغيبة والنميمة والنفاق
ويحرم البهت والغيبة والنميمة وكلام ذي الوجهين
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم أخرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح
رواه أبو داود حدثنا ابن المصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس حديث صحيح قال حدثني يحيى بن عثمان عن بقية ليس فيه عن أنس
وعن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح
رواه أحمد وأبو داود
وروى أحمد حديث أنس عن أبي المغيرة عن صفوان كما سبق
وقال ابن عبد البر وقال عدي بن حاتم الغيبة مرعى اللئام وقال أبو عاصم النبيل لا يذكر في الناس ما يكرهونه إلا سفلة لا دين لهم
وروى أبو داود عن جعفر بن مسافر عن عمرو بن أبي سلمة عن زهير هو ابن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا
إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ومن الكبائر السبتان بالسبة أخرجه أبو داود وهو حديث حسن
حديث حسن
____________________
(1/31)
وذكر القرطبي عن قوم أن الغيبة إنما تكون في الدين لا في الخلقة والحسب وأن قوما قالوا عكس هذا وأن كلا منهما خلاف الإجماع لكن قيد الإجماع في الأول إذا قاله على وجه العيب وأنه لا خلاف أن الغيبة من الكبائر وفي الفصول والمستوعب أن الغيبة والنميمة من الصغائر
وقد روى أبو داود والترمذي وصححه قول عائشة عن صفية إنها قصيرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال الترمذي حسن صحيح
عن همام قال كان رجل يرفع إلى عثمان حديث حذيفة فقال حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتات أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
يعني نماما رواه أحمد والترمذي وفي الصحيحين المسند منه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا إن شر الناس عند الله يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي رواه أحمد والبخاري ومسلم ولهما تجدون من شر الناس ولأبي داود والترمذي إن من شر الناس
وهذا لأنه نفاق وخداع وكذب وتحيل على اطلاعه على أسرار الطائفتين لأنه يأتي كل طائفة بما يرضيها ويظهر أنه معها وهي مداهنة محرمة وذكر ذلك العلماء
قال ابن عقيل في الفنون قال تعالى { كأنهم خشب مسندة } أي مقطوعة ممالة إلى الحائط لا تقوم بنفسها ولا هي ثابتة إنما كانوا يستندون إلى من ينصرهم وإلى من يتظاهرون به ( يحسبون كل صيحة عليهم ) لسوء اعتقادهم { هم العدو } للتمكن به من الشر بالمخاطبة والمداخلة
وعن أبي الشعثاء قال قيل لابن عمر إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا
____________________
(1/32)
خرجنا قلنا غيره قال كنا نعد ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح والبخاري
رواه النسائي وابن ماجه
وعن ابن عمر مرفوعا مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة أخرجه أحمد ومسلم والنسائي
رواه أحمد ومسلم والنسائي وزاد لا تدري أيهما تتبع
وعن أبي هريرة مرفوعا آية المنافق ثلاث زاد مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر أخرجه البخاري ومسلم
رواه البخاري ومسلم ولهما أيضا ولأحمد وغيره والثالثة وإذا أؤتمن خان )
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر أخرجه البخاري ومسلم
رواه البخاري ومسلم ولهما أيضا ولأحمد وغيره وإذا وعد أخلف بدل وإذا أؤتمن خان
قال الترمذي وغيره معناه عند أهل العلم نفاق العمل وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله
وعن حذيفة رضي الله عنه قال إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس عشر مرار رواه أحمد هو في المسند
وفي إسناده من لا يعرف
وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعا خصلتان لا تجتمعان في منافق حسن سمت وفقه في الدين أخرجه الترمذي وهو حسن
____________________
(1/33)
وعن عقبة بن عامر مرفوعا أكثر منافقي أمتي قراؤها رواه أحمد من رواية ابن لهيعة وروى مثله من حديث عبد الله بن عمرو وقال في النهاية أراد بالنفاق هنا الرياء لأن كليهما إظهار غير ما في الباطن
وعن ابن عمر مرفوعا إن الله قال لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيران فبي يغترون أم علي يتجرؤون أخرجه الترمذي وقال حسن غريب
رواه الترمذي وقال حسن غريب وله معناه من حديث أبي هريرة وفي أوله يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب أخرجه الترمذي وهو متروك
يقال أتاح الله لفلان كذا أي قدره له وأنزله به وتاح له الشيء وقوله يختلون أي يطلبون الدنيا بعمل الآخرة يقال ختله يختله إذا خدعه وراوغه وختل الذئب الصيد إذا اختفى له وقال ابن عبد البر قال منصور الفقيه شعرا
( لي حيلة فيمن ينم % وليس في الكذاب حيله )
( من كان يخلق ما يقول % فحيلتي فيه قليله )
وقال موسى صلوات الله عليه يا رب إن الناس يقولون في ما ليس في فأوحى الله إليه يا موسى لم أجعل ذلك لنفسي فكيف أجعله لك
وقال عيسى صلوات الله عليه لا يحزنك قول الناس فيك فإن كان كاذبا كانت حسنة لم تعملها وإن كان صادقا كانت سيئة عجلت عقوبتها
وقال ابن حزم اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة
____________________
(1/34)
وقال ابن مسعود قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار والله ما أراد محمد بهذا وجه الله فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه وقال رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وفي البخاري فأتيته وهو في ملأ فساررته وفي مسلم قال قلت لا جرم لا أرفع إليه حديثا بعدها ترجم عليه البخاري باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه ولمسلم هذا المعنى أيضا وعند غيرهما في أوله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
قال عبد الله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث وللترمذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود دعني عنك فقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر أخرجه الترمذي وقال هذا حديث غريب
وروى الخلال عن مالك أنه سئل عن الرجل يصف الرجل بالعور أو العرج لا يريد بذلك شينه إلا إرادة أن يعرف قال لا أدري هذا غيبة
وقال محمد بن يحيى الكحال لأبي عبد الله الغيبة أن تقول في الرجل ما فيه قال نعم قال وإن قال ما ليس فيه فهذا بهت وهذا الذي قاله أحمد هو المعروف عن السلف وبه جاء الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود
رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة
وذكر أبو بكر في زاد المسافر ما نقل عن الأثرم وسئل عن الرجل يعرف بلقبه إذا لم يعرف إلا به فقال أحمد الأعمش إنما يعرفه الناس هكذا فسهل في مثل هذا إذا كان قد شهر
قال في شرح خطبة مسلم قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم يجوز ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه إذا كان المراد تعريفه لا تنقصه
____________________
(1/35)
للحاجة كما يجوز الجرح للحاجة كذا قال ويمتاز الجرح للحاجة بالوجوب فإنه من النصيحة الواجبة بالإجماع وفي ذلك أحاديث وآثار كثيرة تأتي والكلام في ذلك في فصول العلم وفي الغيبة في فصول الهجرة
وتحرم البدع المحرمة وإفشاء السر زاد في الرعاية الكبرى المضر والتعدي بالسب واللعن والفحش والبذاء
وروى أبو داود والترمذي وقال غريب والإسناد ثقات عن أبي العالية عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال لا تلعن الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان
ولأبي داود أيضا هذا المعنى من حديث أبي الدرداء من رواية نمران وفيه جهالة ووثقه ابن حبان
وعن ابن مسعود مرفوعا ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء أخرجه أحمد والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وهو حديث صحيح
رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب وإسناده جيد
وعن ابن مسعود مرفوعا سباب المسلم فسوق وقتاله كفر أخرجه البخاري ومسلم والنسائي
متفق عليه
وعن سويد بن حاتم بياع الطعام عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا فقال لا تسبه فإنه قد نبه نبيا من الأنبياء لصلاة الصبح أخرجه العقيلي قال ابن
____________________
(1/36)
حبان فيه سويد يروي الموضوعات عن الأثبات وهو صاحب حديث البرغوث ثم رواه بإسناده
وقال ابن عبد البر هذا حديث ليس بقوي انفرد به سويد
وقال ابن عدي في سويد هو إلى الضعف أقرب
وقال ابن معين لا بأس به
وقال أبو زرعة ليس بقوي
وعن أبي هريرة مرفوعا المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما إن لم يعتد المظلوم أخرجه مسلم والترمذي
رواه مسلم والترمذي وصححه
ويأتي في الأمر بالمعروف في لعنة المعين قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لا تكوني فاحشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش أخرجه مسلم وأحمد
وقوله يا عائشة عليك بالرفق وإياك والفحش والعنف أخرجه البخاري ومسلم
ويأتي ما يتعلق بهذا بعد فصول طاعة الأب بالقرب من ثلث الكتاب
عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا أخرجه البخاري ومسلم
رواه البخاري موقوفا ورواه مسلم مرفوعا
وله في لفظ آخر عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا أخرجه مسلم والترمذي
رواه الترمذي وقال حسن صحيح
____________________
(1/37)
وعن ابن عمر مرفوعا إذا كذب العبد تباعد الملك منه ميلا من نتن ما يخرج من فيه أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وأخرجه أبو نعيم وقال غريب
رواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن عبد الرحيم بن هارون عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عنه وقال حسن غريب تفرد به عبد الرحيم قال الدارقطني عبد الرحيم متروك وقال أبو حاتم مجهول وقال ابن عدي روى مناكير عن قوم ثقات وقال ابن حبان في الثقات يعتد بحديث إذا روى من كتابه فصل في المكر والخديعة والسخرية والاستهزاء
ويحرم المكر والخديعة والسخرية والاستهزاء قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب }
وفي سببها وتفسيرها كلام طويل في التفسير والمراد بأنفسكم إخوانكم لأنهم كأنفسكم وقال تعالى { ويل لكل همزة لمزة }
وللترمذي وقال غريب من حديث أبي سلمة الكندي عن فرقد السبخي عن مرة بن شراحيل الهمداني عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به أخرجه الترمذي وقال هذا حديث غريب وأخرجه الخطيب وضعفه ابن رجب
إسناده ضعيف
وعن لؤلؤة عن أبي صرمة من ضار ضار الله به ومن شاق شق الله عليه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي والطبراني
رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب وفي نسخه صحيح إسناد جيد مع أن لؤلؤة تفرد عنها محمد بن يحيى بن حبان
ويحرم الكذب لغير إصلاح وحرب وزوجة ويحرم المدح والذم بالباطل كذا قال في الرعاية
____________________
(1/38)
قال ابن الجوزي وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان ذلك المقصود مباحا وإن كان واجبا فهو واجب وهو مراد الأصحاب ومرادهم هنا لغير حاجة وضرورة فإنه يجب الكذب إذا كان فيه عصمة مسلم من القتل وعند أبي الخطاب يحرم أيضا لكن يسلك أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فقال في مفارقة أرض الغصب إنه في حال المفارقة عاص ولهذا الكذب معصية ثم لو أراد أن يقتل مؤمنا ظلما فهرب منه فلقي رجلا فقال رأيت فلانا كان له أن يقول لم أره فيدفع أعلى المفسدتين بارتكاب أدناهما وذكر ابن عقيل وغيره أنه حسن حيث جاز لا إثم فيه وهو قول أكثر العلماء
قال الشيخ تقي الدين والمسألة مبنية على القبح العقلي فمن نفاه وقال لا حكم إلا لله فإن الكذب يختلف بحسب إمكانه ومن أثبته وقال الأحكام لذات الفعل قبحه لذاته انتهى كلامه
ومهما أمكن المعاريض حرم وهو ظاهر كلام غير واحد وصرح به آخرون لعدم الحاجة إذا وظاهر كلام أبي الخطاب المذكور أنه يجوز ولو أمكن المعاريض والظاهر أنه مراد تشبيها بالإنشاء من المعذور كمن أكره على الطلاق فأوقعه ولم يتأول بلا عذر وفيه خلاف مذكور في موضعه ومن دليله لأنه قد لا يحضره التأويل في تلك الحال فتفوت الرخصة فلعل هذا في معناه وليس بالواضح ويأتي في كلام الشيخ تقي الدين في التوبة من حق الغير ما يوافق التردد والنظر في ذلك وجزم في رياض الصالحين بالقول الثاني
ولو احتاج إلى اليمين في إنجاء معصوم من هلكة وجب عليه أن يحلف قال في المغني لأن إنجاء المعصوم واجب وقد تعين في اليمين فيجب وذكر خبر سويد بن حنظلة أن وائل بن حجر أخذه عدو له فحلف إنه أخوه ثم ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صدقت المسلم أخو المسلم وكلام ابن الجوزي السابق في الزيادة على الثلاث المستثناة في الحديث يخرج على الخلاف والمشهور في
____________________
(1/39)
المذهب هل يقاس على المستثنى من القياس إذا فهم المعنى ويأتي فعل عبد الله بن عمر
وقال بعض أصحابنا المتأخرين في كتاب الهدي إنه يجوز كذب الإنسان على نفسه وغيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من المشركين من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب ولا سيما تكميل الفرح وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب وكان الكذب سببا في حصول المصلحة الراجحة
قال ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعمال الحق كما أوهم سليمان بن داود عليهما السلام إحدى المرأتين بشق الولد نصفين حتى يتوصل بذلك إلى معرفة عين أمه فصل في إباحة المعاريض ومحلها
وقد تقدم بعض هذا من الكلام في المعاريض وتباح المعاريض وقال ابن الجوزي عند الحاجة وقد تقدم في الرعاية وغيرها وتكره من غير حاجة والمراد بعدم تحريم المعاريض لغير الظالم
وقيل يحرم وقيل له التعريض في الكلام دون اليمين بلا حاجة
قال الشيخ تقي الدين ونص عليه أحمد وذكر في بطلان التحليل أنه قول أكثر العلماء
قال مثنى لأبي عبد الله كيف الحديث الذي جاء في المعاريض في الكلام قال المعاريض لا تكون في الشراء والبيع وتصلح بين الناس فلعل ظاهره أن
____________________
(1/40)
المعاريض فيما استثنى الشرع من الكذب ولا تجوز المعاريض في غيرها
وسأله محمد بن الحكم عن الرجل يحلف فيقول هو الله لا أزيدك يوهم الذي يشري منه قال هذا عندي يحنث إنما المعاريض في الرجل يدفع عن نفسه فأما في الشراء والبيع لا يكون معاريض قلت أو يقول هذه الدراهم في المساكين إن زدتك قال هو عندي يحنث
وقال أبو طالب إنه سأل أبا عبد الله عن الرجل يعارض في كلام الرجل يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به قال إذا لم يكن يمين فلا بأس في المعاريض مندوحة عن الكذب وهو إذا احتاج إلى الخطاب فأما الابتداء بذلك فهو أشد فهذا النص قول خامس وجزم في المغني وغيره بالقول الأول وقال ظاهر كلام أحمد له تأويله وهو مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذكره القاضي عياض إجماعا واحتج في المغني بأن مهنا كان عند أحمد هو والمروذي وجماعة فجاء رجل يطلب المروذي ولم ير المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في كفه وقال ليس المروذي هاهنا هاهنا يريد ليس المروذي في كفه فلم ينكره أبو عبد الله
وقال المروذي جاء مهنا إلى أبي عبد الله ومعه أحاديث فقال يا أبا عبد الله معي هذه الأحاديث وأريد أن أخرج فحدثني بها قال متى تريد تخرج قال الساعة أخرج فحدثه بها وخرج فلما كان من الغد أو بعد ذلك جاء إلى أبي عبد الله فقال له أبو عبد الله أليس قلت الساعة أخرج قال قلت أخرج من بغداد إنما قلت لك أخرج من زقاقك قال في المغني وقد ذكره بنحو هذا المعنى فلم ينكره أبو عبد الله انتهى كلامه وهذان النصان لا يمين فيهما
واحتج في المغنى بالأخبار المشهورة في ذلك وبآثار وليس في شيء منها يمين كقوله لا يدخل الجنة عجوز أخرجه الترمذي
ولمن استحمله إنا حاملوك على ولد
____________________
(1/41)
الناقة أخرجه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح
وقوله لرجل حر من يشتري العبد أخرجه أحمد والترمذي والبغوي وإسناده صحيح
وغير ذلك قال وهذا كله من التأويل والمعاريض وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقا فقال لا أقول إلا حقا أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح
وكان يقول ذلك في المزاح من غير حاجة إليه انتهى كلامه
يؤيده أنه إذا جاز بالتعريض في الخبر بغير يمين جاز باليمين لأنه إن كان التعريض كذبا منع منه مطلقا وقد ثبت جوازه من غير يمين وإن كان صدقا لم يمنع من تأكيد الصدق باليمين وغيرها وغاية ما فيه إيهام السامع وليس بمانع وإلا لمنع بغير يمين والغرض أن المتكلم ليس بظالم ولم يتعلق به حق لغيره
ولا يقال لا يلزم من جواز الإيهام بغير يمين جوازه بها لأنه معها آكد وأبلغ لأنا نقول لم نقس بل نقول إن كان الإيهام عليه للمنع فليطرد وقد جاء بغير يمين
وأيضا القول بأن الإيهام عليه للمنع دعوى تفتقر إلى دليل والأصل عدمه ولا يقال الأصل في كل يمين عقدها المؤاخذة بها لظاهر القرآن إلا ما خصه الدليل ولا دليل لا نقول لا نسلم إن عقدها مع التأويل والتعريض يشملها القرآن ثم هي يمين صادق فيها بدليل صدقه بغير يمين يؤيده أن حقيقة الكلام لا تختلف باليمين وعدمها فما كان صدقا بدونها كان صدقا معها هذا لا شك فيه ولأن الأصل بقاء حقيقة اللفظ وعدم تغيره باليمين فمدعي خلافه عليه الدليل وقد روي إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب أخرجه القضاعي وابن الأعرابي وأبو الشيخ والبيهقي وهو ضعيف وأخرجه البخاري وإسناده صحيح ورواه البيهقي بسند صحيح
وهذا ثابت عن إبراهيم النخعي
____________________
(1/42)
وروي مرفوعا وليس هو في مسند أحمد ولا الكتب الستة ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المعاريض عن إسماعيل بن إبراهيم بن بسام عن داود بن الزبرقان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
ورواه أيضا عن أبي زيد النميري حدثنا الربيع بن محبور حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن سعيد فذكره وداود والعباس ضعيفان عند المحدثين قال ابن عدي مع ضعفهما يكتب حديثهما وقد ذكر في المغني هذا الخبر تعليقا بصيغة الجزم محتجا به ولم يعزه إلى كتاب والله أعلم
وفي تفسير ابن الجوزي في قوله تعالى { بل فعله كبيرهم هذا } المعاريض لا تذم خصوصا إذا احتيج إليها ثم ذكر خبر عمران بن حصين ولم يعزه قال وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يسرني أن لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي وقال النخعي لهم كلام يتكلمون به إذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم قال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف وذكر ابن الجوزي كلاما كثيرا فتبين أن قول الإمام أحمد لا يجوز مع اليمين ومن غير يمين يجوز وعنه لا وعنه الفرق بين الابتداء وغيره وقد يقيدون به الجواز الأولى بالمصلحة لا مطلقا وعليه تحمل الآثار
وأما الأصحاب فتجوز عندهم المعاريض وقيل تكره وقيل تحرم ولم أجد أحدا منهم صرح بالفرق بين اليمين وغيرها وقد قال أحمد التدليس عيب وقال أكرهه وقال لا يعجبني وعلله بأنه يتزين للناس فظاهر هذا أنه لا يحرم وكذا اقتصر القاضي وأصحابه وأكثر العلماء على كراهته يؤيده قوله في رواية مهنا وقيل له كان شعبة يقول التدليس كذب فقال لا قد دلس قوم ونحن نروي عنهم
____________________
(1/43)
ولو كره التعريض مطلقا أو حرم أو كان كذبا لعلل به لاطراده وعموم فائدته بل علل بالتزين وغالب صور التعريض أو كثير منها في غير رواية الحديث لا تزين فيه ولا يتعلق به ذلك كالمواضع التي استعملها الشارع وغير ذلك ولهذا اقتصر أبو الخطاب وغيره على هذا التعليل
وقال القاضي ولأنه يفعل ذلك كراهة التواضع في الحديث لراوية ومن كره التواضع في الحديث فقد أساء وهذا معنى قول أحمد يتزين انتهى كلامه فتدبر هذا فإنه أمر يختص بالرواية لكن لا يعارض هذا نصه في الفرق بين اليمين وغيرها
قال الشيخ تقي الدين كل كراهته هنا للتحريم يخرج على قولين في المعاريض إذا لم يكن ظالما ولا ومظلوما والأشبه التحريم فإن التدليس في الرواية والحديث أعظم منه في البيع كذا قال قال القاضي وغيره وذهب قوم من أصحاب الحديث إلى أنه لا يقبل خبره وهذا غلط لأنه ما كذب بل صدق إلا أنه أوهم ومن أوهم في خبره لم يرد خبره كمن قيل له حججت فقال لا مرة ولا مرتين يوهم أنه حج أكثر وحقيقته أنه ما حج أصلا فلا يكون كذبا انتهى كلامه وهو موافق لما سبق
وقال الشيخ تقي الدين ليس بصادق في الحقيقة العرفية فيقال قد يمنع ذلك وعدم فهم بعض الناس ليس بحجة فقد يفطن للتعريض بعض الناس دون بعض ولهذا لا يعد في العرف كذبا ولأنه صادق لغة والأصل بقاء ما كان ولأن الاعتبار باستعمال الشارع وحقيقته والله أعلم
وعن الأعمش قال حدثت عن أبي أمامة مرفوعا يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب أخرجه أحمد وأبي يعلى والبيهقي وهو ضعيف
____________________
(1/44)
وعن عائشة قالت ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة أخرجه أحمد والبيهقي وإسناده صحيح
رواه أحمد
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن امرأة قالت يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناج إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني قال المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وحسنه للترمذي
له طرق إلى بهز وهو ثابت إليه وبهز حديثه حسن رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه ولأحمد حديث مكحول عن أبي هريرة ولم يسمع منه قاله البخاري وغيره مرفوعا لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح ويترك المراء وإن كان صادقا أخرجه أحمد
المراء في اللغة الجدال يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل وتفسير المراء في اللغة استخراج غضب المجادل من قولهم مريت الشاة إذا استخرجت لبنها
وعن السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي في إسناد الحديث إضطراب
رواه أبو داود وابن ماجه ولفظه كنت
____________________
(1/45)
شريكي فنعم الشريك وتداريني من المداراة بلا همز وروي بالهمز والأول أشهر
وقال لقمان لابنه يا بني لا تمارين حكيما ولا تجادلن لجوجا ولا تعاشرن ظلوما ولا تصاحبن متهما
وقال أيضا يا بني من قصر في الخصومة خصم ومن بالغ فيها أثم فقل الحق ولو على نفسك فلا تبال من غضب
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك آثما أن لا تزال مماريا وعن ابن مسعود مثله
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى ما ماريت أخي أبدا لأني أرى إن ماريته إما أن أكذبه وإما أن أغضبه
وقال محمد بن علي بن الحسين الخصومة تمحق الدين وتثبت الشحناء في صدور الرجال يقال لا تمار حكيما ولا سفيها فإن الحكيم يغلبك والسفيه يؤذيك وقال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول من لاحى الرجال وماراهم قلت كرامته ومن أكثر من شيء عرف به
وقال بلال بن سعد الإمام الذي كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ومحله بالشام كالحسن البصري بالبصرة قال إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا فقد تمت خسارته
وقد روي عن سفيان بن أسيد ويقال أسد مرفوعا كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود وإسناده ضعيف
رواه البخاري في الأدب وأبو داود من رواية بقية عن ضبارة الحضرمي عن أبيه وبقية مختلف فيه وهو مدلس وأبو ضبارة تفرد عنه ابنه ترجم عليه أبو داود باب في المعاريض ولأحمد مثله
____________________
(1/46)
من حديث النواس بن سمعان من رواية عمرو بن هارون وهو ضعيف وثم المراد بها الكذب أو التعريض من ظالم أو الكراهة والله أعلم
وذكر ابن عبد البر الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري بي كان أول ما أمرني به ربي عز وجل أن قال إياك وعبادة الأوثان وشرب الخمور وملاحاة الرجال أورده الهيثمي وقال رواه البزار والطبراني وقال رواه الطبراني وهو ضعيف عند الجمهور
وقال مسعر بن كدام يوصي ابنه كداما شعرا
( إني منحتك يا كدام وصيتي % فاسمع لقول أب عليك شفيق )
( أما المزاحة والمراء فدعهما % خلقان لا أرضاهما لصديق )
( إني بلوتهما فلم أحمدهما % لمجاور جار ولا لرفيق )
( والجهل يزري بالفتى في قومه % وعروقه في الناس أي عروق )
وقال أبو العباس الرياشي
( وإذا بليت بجاهل متجاهل % يجد المحال من الأمور صوابا )
( أوليته مني السكوت وربما % كان السكوت عن الجواب جوابا )
ويأتي بالقرب من نصف الكتاب ما يتعلق بهذا وتحريم الكبر والفخر والعجب
وقال ابن منصور لأبي عبد الله رخص في الكذب ثلاث قال وما بأس على ما قيل في الحديث
وقال أبو طالب قال أبو عبد الله لا بأس أن يكذب لهم لينجو يعني الأسير قال النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وقال في رواية حنبل الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل قلت له فقول النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون يصلح بين اثنين أو رجل لامرأته يريد بذلك
____________________
(1/47)
رضاها قال لا بأس به فأما ابتداء الكذب فهو منهي عنه وفي الحرب كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها لم ير بذلك بأسا في الحرب فأما الكذب بعينه فلا قال النبي الكذب مجانب الإيمان أخرجه أحمد وإسناده صحيح
كذا قال وروي هذا الخبر في المسند عن أبي بكر موقوفا
وقال أحمد ولا يصلح من الكذب إلا في كذا وكذا وقال لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذابا فهذا مكروه فقد نص على إباحة الكذب في ثلاثة أشياء لكن هل هو التورية أو مطلقا ورواية حنبل تدل على تحريم ابتداء الكذب ورواية ابن منصور ظاهرة في الاطلاق فصارت المسألتان على روايتين والإطلاق ظاهر كلام الأصحاب والله أعلم
ولهذا استثنوه من الكذب المحرم أعني الإمام أحمد والأصحاب كما استثناه الشارع فيجب أن يكون المراد التصريح وأيضا التعريض يجوز في المشهور في غير هذه الثلاثة بلا حاجة فلا وجه إذا لاستثناء هذه الثلاثة واختصاص التعريض بها والله أعلم
وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعا ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا أخرجه البخاري ومسلم
رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وزاد ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا إلا في ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل زوجته وحديث المرأة زوجها وهو في البخاري من قول ابن شهاب لم أسمع أحدا يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا وذكره ولأبي داود والنسائي قال ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث الحديث كما تقدم
وعن شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعا كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا
____________________
(1/48)
ثلاث خصال إلا رجل كذب لامرأته ليرضيها أو رجل كذب في خديعة حرب أو رجل كذب بين امرأين مسلمين ليصلح بينهما حديث حسن أخرجه أحمد والترمذي والطحاوي والبيهقي
رواه أحمد وللترمذي لا يحل الكذب
وفي رواية لا يصلح الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس أخرجه الترمذي
وقال حسن وقد روي عن شهر مرسلا
وفي الموطأ عن صفوان بن سليم مرسلا أن رجلا قال يا رسول الله أكذب لامرأتي فقال لا خير في الكذب أخرجه مالك
فقال فأعدها وأقول لها فقال لا جناح عليك
وعن أنس قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار فلما كان الغد قال مثل ذلك فطلع ذلك الرجل ثم في اليوم الثالث فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال نعم قال أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم أره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه فذكر الله تعالى وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك لأقتدي به فلم أرك
____________________
(1/49)
تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه قال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق رواه أحمد وإسناده صحيح
وظاهر كلام أحمد والأصحاب أنه يجوز الكذب في الصلح بين كافرين كما هو ظاهر الأخبار ورواية أحمد بين مسلمين في الخبر إرسال وشهر مختلف في ثقته ثم إن بعض الرواة رواه بالمعنى ثم ظاهرة غير مراد لأنه يجوز بين كافر ومسلم لحق المسلم كالحكم بينهما ثم هو مفهوم اسم وفيه خلاف وقد يحتمل أن يختص بالمسلمين لظاهر الخبر وهو أخص كما يختص الأخذ من الزكاة للصلح بين المسلمين مع إطلاق الآية فيه فهذا القول أظهر ولعله متعين لأن الكذب إنما جاز لمصلحة شرعية والقول بأن الإصلاح بين أهل الكتاب والتأليف بينهم مصلحة شرعية يفتقر إلى دليل والأصل عدمه ثم يقال لو كان مصلحة شرعية لجاز دفع الزكاة في الغرم فيه كالصلح بين المسلمين ولأن الشارع جعل درجة الإصلاح أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ومن المعلوم أن الإصلاح بين أهل الكتاب ليس بأفضل من ذلك فعلم أنه أراد بذلك الصلح بين المسلمين وأن الذي رغب فيه وحض عليه هو الذي أجاز الكذب لأجله وأنه لا تجب إجابة دعوتهم بل تستحب أو تجوز أو تكره مع أن الشارع أمر بها أمرا عاما وأجاب دعوة يهودي فالدليل الذي أخرجهم من الإطلاق والعموم وهو لما فيه من الإكرام والمودة فهنا مثله فقد تبين من قوة الدليل أنه يجوز الكذب للصلح بينهم وهل يستحب أو يباح أو يكره يخرج فيه خلاف وعلى هذا قول ابن حزم في كتاب الإجماع اتفقوا على تحريم الكذب في غير الحرب وغير مداراة الرجل امرأته وإصلاح بين اثنين ودفع مظلمة مرادة بين اثنين مسلمين أو مسلم وكافر لما سبق وقد عرف بما سبق أن هذا الإجماع مدخول
قال أبو داود حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
____________________
(1/50)
عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البيت هي الحالقة أخرجه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح وأخرجه مالك
سالم هو ابن أبي الجعد رواه الترمذي عن هناد عن أبي معاوية وقال حسن صحيح
الحالقة الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر
وقال صالح لأبيه قول النبي صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد
يحدث الرجل بكل شيء يريد قال أبي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين أخرج مسلم وابن ماجه
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ففرق بين ما يحدث عنه وبين ما يحدث عن بني إسرائيل فقال حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنه كانت فيهم الأعاجيب فيكون الرجل يحدث عن بني إسرائيل وهو يرى أنه ليس كذلك فلا بأس ولا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يرى أنه صدق
وظاهر كلام غير واحد أنه لا يجوز إذا ظن أنه كذب كما أن ظاهر كلام غير واحد وهو ظاهر الخبر أنه يجوز التحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يرى أنه كذب فيحدث بما يشك فيه وكذا جزم في شرح مسلم في الخبر المذكور أنه عليه السلام قيد بذلك لأنه لا يكون يأثم إلا برواية ما يعلمه أو يظنه كذبا أما ما لا يعلمه أو يظنه كذبا فلا إثم عليه في روايته إذا فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه وإن ظنه غير كذب أو علمه وفي رسالة الشافعي رحمه الله أنه أباحه عن بني إسرائيل ممن يجهل صدقه وكذبه وينهاهم عنه عمن لا يعرف صدقه انتهى كلامه
____________________
(1/51)
والخبر الأول في صحيح مسلم وغيره وضبط يرى في الخبر الأول بفتح الياء وضمها والكذابين على التثنية والجمع والخبر الثاني في السنن
ورواه أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج رواه أحمد أخرجه أبو داود وأحمد والطحاوي وإسناده حسن
حديث حسن جيد الإسناد حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي حسان عن عبد الله بن عمرو قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى نصبح ما نقوم إلا إلى عظم صلاة أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح
حديث حسن وإسناده جيد وقال قبل ذلك باب رواية حديث أهل الكتاب
حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري قال أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه أخرجه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي وسنده حسن
إسناده جيد وابن أبي نملة اسمه نملة رواه أحمد من حديث الزهري
ولأحمد حدثنا عفان حدثنا هلال حدثنا قتادة عن أبي حسان عن عمران بن حصين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لا نقوم إلا لعظم صلاة يعني المكتوبة الفريضة أبو هلال هو محمد بن سليم الراسبي
____________________
(1/52)
حديثه حسن
وللبخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا أخرجه البخاري والبيهقي
الآية
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أخرجه البخاري والترمذي وأحمد
رواه البخاري
فصل يتعلق بما قبله
الكذب هو إخباره عن الشيء خلاف ما هو عليه ولهذا يقول أصحابنا في اليمين الغموس هي التي يحلف بها كاذبا عالما بكذبه وهذا هو المشهور في الأصول وهو قول الشافعية وغيرهم ولهذا قال عليه السلام في الخبر المشهور في الصحيحين وغيرهما من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
فقيده بالعمد قيل هو دعاء بلفظ الأمر أي بوأه الله ذلك وقيل هو خبر بلفظ الأمر يدل عليه ما في الصحيح أو الصحيحين يلج النار وعند بعض المتكلمين شرط الكذب العمدية وعند بعضهم أيضا يعتبر للصدق الاعتقاد وإلا فهو كاذب وعلى القول الأول إن طابق الحكم الخارجي فصدق وإلا فكذب وبحث المسألة في الأصول هذا في الماضي والحال فإن تعلق بالمستقبل فكذلك على رواية المروذي المذكورة
وقال عبد الله سمعت هارون المستملي يقول لأبي بم تعرف الكذابين قال بالمواعيد أو بخلف المواعيد وكذا قال ابن عقيل في الفصول بعد ذكره لخبر أبي هريرة أكذب الناس الصباغون والصواغون ضعيف أخرجه أحمد وابن ماجه
قال وهذا صحيح لأن أحدهم
____________________
(1/53)
يعد ويخلف وذكر غير واحد قول أحمد قال ابن عباس إذا استثنى بعده فله ثنياه ليس هو في الأيمان إنما تأويله قول الله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت }
فهذا استثناء من الكذب لأن الكذب ليس فيه كفارة وهو أشد من اليمين لأن اليمين تكفر والكذب لا يكفر وكذا قال الجمهور إن المعنى إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فقل إن شاء الله ولو كان بعد سنة مع أن جمهور العلماء قالوا لا يصح الاستثناء إلا متصلا
قال ابن جرير الصواب له أن يستثنى ولو بعد حنثه في يمينه فيقول إن شاء الله ليخرج بذلك مما يلزمه في هذه الآية فيسقط عنه الحرج فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال إلا أن يستثني متصلا بكلامه ومن قال له ثنياه ولو بعد سنة أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة
قال ابن الجوزي فائدة الاستثناء خروج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه قال موسى عليه السلام { ستجدني إن شاء الله صابرا } ولم يصبر فسلم منه بالاستثناء وفي المغني في الطلاق إن الحالف على الممتنع كاذب حانث واحتج بقوله تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } إلى قوله { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } وقد قال تعالى { ألم تر إلى الذين نافقوا } إلى قوله { والله يشهد إنهم لكاذبون }
قال أبو جعفر النحاس نظيرها الآية { يا ليتنا نرد } الآية لأنه قاله ردا على من قال بخلاف ذلك وقد قال تعالى { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } الآية
وفي صحيح البخاري أن سعد بن عبادة قال يوم فتح مكة يا أبا سفيان اليوم
____________________
(1/54)
يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فأخبر أبو سفيان بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة أخرجه البخاري
وروى مسلم عن جابر أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية أخرجه مسلم والترمذي وصححه الحاكم
قال في شرح مسلم وفي هذا الحديث حديث حاطب يرد عليه وأن لفظ الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به عمدا أو سهوا سواء كان من ماض أو مستقبل وهذا قاله ابن قتيبة وأظنه احتج هو وغيره بقول النبي صلى الله عليه وسلم آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
فدل على أن إخلاف الوعد ليس بكذب وإلا لاقتصر على اللفظ الأول
ولقائل أن يقول هذا لا يمتنع من كونه كذبا وهو من عطف الخاص على العام وإنما ذكر بلفظ خاص صريح لئلا يتوهم متوهم أنه ليس بكذب وأنه لم يدخل في اللفظ ثم غايته أن يدخل من طريق الظاهر وقد ثبت أنه كذب باستعمال الكتاب والسنة فوجب القول به ولا تعارض
وقال بعض أهل اللغة لا يستعمل الكذب إلا في إخبار عن الماضي بخلاف ما هو به وإذ قد تبين هذا فإذا أخبر عن وجود شيء يعلمه أو يظنه جاز وإن علم عدمه أو ظنه لم يجز وكذلك إن شك فيه لأن الشك لا يصلح مستندا للإخبار وسواء طابق الخارج مع الظن أو الشك أو لا
وقد ذكر الأصحاب أنه يجوز في القسامة العمل بالظن وأنه خبر مؤكد باليمين وكذا لغو اليمين يجوز أن يحلف بالظن وكذا ما ظنه بخط أبيه من الدين يعمل به ويحلف وأنه تجوز الشهادة بالملك لمن بيده عين يتصرف فيها تصرف الملاك في
____________________
(1/55)
المشهور كما لو شاهد سبب اليد مع بيع أو غيره مع احتمال كون البائع غير مالك والشهادة آكد من الخبر وأنه يخبر بدخول الوقت بعلم أو ظن وغير ذلك من المواضع وذلك دليل على أنه يخبر بعلم وظن خاصة وهذا أوضح ودليله مشهور كقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار الذين قتل منهم القتيل بخيبر يحلف خمسون منكم على رجل منهم قالوا أمر لم نشهده فكيف نحلف أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
الحديث
وحلف جابر بالله إن ابن صياد الدجال فقال له ابن المنكدر أتحلف بالله قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في الصحيحين وغيرهما وقد ظهر من هذا أنه لو أخبر بوجود شيء يظنه فلم يكن جاز مع أنه كاذب على القول الأول ولو أخبر به وهو يظن عدمه فكان لم يجز مع أنه صادق
وأن قول الأصحاب رحمهم الله واللفظ للمغني لا كفارة في يمين على ماض لأنها تنقسم على ثلاثة أقسام ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا وما تعمد الكذب فيه فهو يمين الغموس وما يظنه حقا فتبين بخلافه فلا كفارة وذكر في هذين القسمين رواية ظهر أنه لو شك وحلف على خلاف ما يظنه فطابق أنه لا كفارة لأنه صادق وإن لم يجز إقدامه على اليمين لكن هل يدخل يمينه في خلاف ظنه في الغموس ظاهر كلامهم لا يدخل
وقد قال في المغني في مسألة الشهادة المذكورة الظن يسمى علما قال تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات }
وخرج من كلامهم إذا لم يطابق مع الشك فإنه ليس بصادق ولم يتعمد الكذب فلا ظن له فيقال إن وجبت الكفارة فيما يظنه فتبين بخلافه فهنا أولى فظاهر تخصيص هذه الصورة بعدم الكفارة يقتضي الوجوب في غيرها لأن الظن هو المانع من الوجوب وإلا لوجبت لظاهر الآية
____________________
(1/56)
وقد علل في المغني عدم وجوبها في الظن بأنه لم يقصد المخالفة كالناسي وهذا لم يقصد المخالفة مع أن ظاهر قوله لا كفارة في يمين على ماض أنه لا كفارة في هذه الصورة مع أنه لو أراد الحصر ووجوب الكفارة فيها لقال إن كان صادقا فلا كفارة وإن لم يكن صادقا فإن تعمد الكذب أو ظن شيئا فبان بخلافه فلا كفارة وإلا وجبت إلا أن يدوم شكه فلا كفارة لأنه الأصل والأول أظهر
وقد جزم في المغني وغيره بهذا المعنى في الطلاق فقال وإن قال أنت طالق إن أخاك لعاقل وكان أخوها عاقلا لم يحنث وإن لم يكن عاقلا حنث كما لو قال والله إن أخاك لعاقل وإن شك في عقله لم تطلق لأن الأصل بقاء النكاح فلا يزال بالشك وإن قال أنت طالق ما أكلت هذا الرغيف لم يحنث إن كان صادقا ويحنث إن كان كاذبا كما لو قال والله ما أكلته وقال في المغني فيما إذا صالح أجنبي عن المنكر أنه يصير بمنزلة المدعي في جواز الدعوى على المنكر قال ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي فإن لم يعلم لم يحل له دعوى شيء لا يعلم بثبوته فمراده بالعلم الظن ليتفق كلامه أو يكون في المسألة عنده قولان ذكر في كل مكان قولا بحسب ما رآه في كلام الأصحاب أو ما أداه اجتهاده في ذلك الوقت
ومن المعلوم أن الوكيل يقوم مقام الموكل لأنه نائبه وفرعه فلا يجوز له دعوى لا تجوز لأصله فلا يدعي إلا ما يعلمه أو يظنه حقا كما سبق وكذا قال القاضي في قوله تعالى { ولا تكن للخائنين خصيما }
يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم لغيره في إثبات حق أو نفيه وهو عالم بحقيقة أمره وذكر ابن الجوزي هذا ولم يخالفه فدل على موافقته
وقال ابن عقيل في الفنون لا تصح وكالة من علم ظلم موكله في الخصومة فظاهره يصح إذا لم يعلم والظاهر أن مراده بالعلم أيضا الظن وإلا فبعيد جدا القول به مع ظن ظلمه
فإن قيل ظن التحريم لا يمنع صحة العقد بخلاف العلم به ولا يلزم من هذا أن
____________________
(1/57)
يخاصم في باطل فلا معارضة بينه وبين ما سبق قيل ليس المراد من التوكيل وصحته إلا المخاصمة فيما وكله فيه مما يعلمه أو يظنه باطلا وإلا فكان يمكن تصحيح العقد مع العلم ولا يخاصم في باطل فلا مفسدة في ذلك وقد دل كلامه على أنه لو شك في ظلمه صحت وخاصم فيه وعلى هذا عمل كثير من الناس أو أكثرهم يتوكلون ويدعون مع الشك في صحة الدعوى وعدمها لأنه ليس بمخبر عن نفسه وإنما يخبر عن الموكل ويبلغ كلامه لكونه لا يلحن بحجته ولأن الحاجة قد تمس إلى ذلك لكثرة مشقته وهذا بخلاف المدعي لنفسه لخبرته بأحواله وقضاياه والله أعلم
وقد قال أبو داود باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال جلسنا لعبد الله بن عمر فخرج إلينا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد الله ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح
حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم حدثنا عمر بن يونس حدثنا إبراهيم حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري حدثني المثنى بن يزيد عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله عز وجل أخرجه أبو داود
انتهى كلامه فالترجمة توافق ما سبق من كلام القاضي والخبر قد رواه أحمد في المسند ولم يصرح بخلافه فهل يكون مذهبا له فيه خلاف بين الأصحاب والظاهر أنه لا يخالفه والخبر إنما يدل لما سبق في كلام ابن عقيل كما تراه والإسناد الأول صحيح والثاني إنما فيه المثنى بن يزيد تفرد عنه عاصم بن محمد المذكور فيكون مجهولا في اصطلاح المحدثين لكن
____________________
(1/58)
يقال عاصم كبير من رجال الصحيحين فالظاهر أنه لا يروي عمن يروي عن آبائه شيئا إلا أن يعرف حاله مع أنه متابع للإسناد الأول فهذا حجة في المسألة والله أعلم
وردغة الخبال بفتح الراء والغين المعجمة وسكون الدال المهملة وبفتح الخاء والباء الموحدة صديد أهل النار اللهم أجرنا والمسلمين منها
وأما ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه أخرجه أبو داود وسنده حسن
فهو من رواية عمرو بن أبي نعيمة قال الدارقطني مجهول يترك ووثقه ابن حبان وقال بعضهم لا يصح خبره
وأما إن تعلق الإخبار بالمستقبل فإن علقه بمشيئة الله فواضح كما سبق وإلا فالحكم على التفصيل السابق فلا يخبر عن شيء سيوجد أو لا إلا باعتقاد جازم أو ظن راجح ثم إن طابق فقد اجتمع الإخبار الجائز والصدق وإن لم يسند الإخبار إليهما لم يجز ثم إن طابق فصدق وإن لم يطابق لغير مانع شرعي فكذب محرم وإلا فكذب لا إثم فيه
وقد روى أبو داود من رواية أبي النعمان عن أبي وقاص عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه أخرجه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي
وقال أبو حاتم الرازي أبو وقاص مجهول ورواه الترمذي وقال ليس إسناده بالقوي قال ولا يعرف أبو النعمان ولا أبو وقاص فاعتبر في هذا الخبر أن تكون نيته أن يفي وهو وإن كان ضعيفا فهو يعتضد بغيره من الأخبار والمعنى مع أن فيها كفاية وتعليق الخبر فيها بمشيئة الله مستحب ولا يجب للأخبار المشهورة في تركه في الخبر والقسم وسبق كلام ابن جرير
وقال القاضي أبو يعلى في الخلاف في مسألة الفرار من الزكاة لما قيل له إن
____________________
(1/59)
أصحاب الجنة عوقبوا على ترك الاستثناء في القسم فقال لا لأنه مباح وعلى أن هذا الوعيد عليهم لم يسلم من الكذب إن أتى به متصلا أو منفصلا وقد نسيه وإلا فلا هذا ظاهر الآية وذكره ابن الجوزي عن الجمهور فظاهر كلام أحمد السابق وحكايته قول ابن عباس إنه يسلم منه بالاستثناء مطلقا ولعل مراده كالقول الأول
أما من حلف وحنث فالكفارة كالواجب وهي ماحية لحكم ما وقع ولهذا قال الأصحاب وغيرهم اليمين على المباح والإقامة عليها وحلها مباح وإن اليمين لا تغير الشيء عن صفته ولم يذكروا إذا حنث سوى الكفارة وإنها زاجرة ماحية وهذا ظاهر الأدلة الشرعية وظاهر كلام أحمد السابق وحكايته لقول ابن عباس يدل على أنه يأتي بالاستثناء ليسلم من الكذب وأن الكفارة لا تزيله ولعل مراده الخبر لا القسم وسبق كلام ابن جرير
وروى أبو داود في باب الكذب عن حفص بن عمر هو النميري عن شعبة وعن محمد بن الحسين هو ابن اشكاب حدثنا علي بن حفص حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم قال ابن حسين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع أخرجه مسلم والحاكم وأبو داود وابن حبان
ولم يذكر حفص أبا هريرة إسناده جيد وحفص وابن اشكاب ثبتان ورواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا كفى بالمرء كذبا وذكره ولمسلم أيضا بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع ففي هذين الخبرين أن من فعل ذلك وقع في الكذب المحرم فلا يفعل ليجتنب المحرم فيكون من فعل ذلك عمدا قد تعمد كذبا
وقال في شرح مسلم معناه الزجر عن التحديث بكل ما سمع فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن
____________________
(1/60)
وقد تقدم أن مذهب أهل السنة أن الكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد لكن التعمد شرط لكونه إثما انتهى كلامه
فلعل ظاهره لا يحرم لعدم تعمد الكذب ولم يذكر رواية أبي داود المذكورة قال المروذي قلت لأبي عبد الله يجيئونني بالطعام فإن قلت لا آكله ثم أكلت قال هذا كذب لا ينبغي أن يفعل
وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يأتيه الأمي الذي لا يكتب فيقول أتكتب لي كتابا فيملي عليه شيئا يعلم أنه كذب أيكتب له قال لا فلا يكتب له الكذب فصل في الزعم وكون زعموا مطية الكذب
قال ابن الجوزي في تفسيره كان ابن عمر يقول زعموا كنية الكذب وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل زعم فلان اقتصر ابن الجوزي رحمه الله على هذا فدل على الكراهة عنده
وقال أبو داود باب في قول الرجل زعموا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي قلابة قال قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس مطية الرجل أخرجه أبو داود وأحمد والطحاوي
قال أبو داود وأبو عبد الله حذيفة واقتصر على هذا
وقال الحافظ ضياء الدين في أطراف الحافظ ابن عساكر بخطه لم يسمع أبو قلابة منهما وهو كما قال الحافظ ضياء الدين ورواه أحمد عن أبي قلابة عن أبي مسعود البدري قال قيل له ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا وذكره
____________________
(1/61)
قال في النهاية معناه أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطيته وسار حتى يقضي أربة فشبه ما يقدمه أمام كلامه ويتوصل به إلى غرضه من قوله زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ فذم من الحديث ما كان هذا سبيله
والزعم بضم الزاي والفتح قريب من الظن
قال في شرح مسلم في سجود التلاوة الزعم يطلق على القول المحقق وعلى الكذب وعلى المشكوك فيه وينزل كل موضع على ما يليق به وقال في أول خطبة مسلم كثر الزعم بمعنى القول وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم زعم جبريل وفي خبر ضمام بن ثعلبة زعم رسولك أخرجه مسلم
وأكثر سيبويه في كتابه من قوله زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها سيبويه وقال في باب السؤال أوائل كتاب الإيمان ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين فصل في حفظ اللسان وتوقي الكلام
قال الخلال في توقي اللسان وحفظ الكلام أخبرني محمد بن نصر بن منصور الصائغ سمعت أحمد بن حنبل وقد شيعته وهو يخرج إلى المتوكل فلما ركب الجمل التفت إلينا فقال انصرفوا مأجورين إن شاء الله تعالى
وروى الخلال عن عطاء قال كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو أن تنطق في معيشتك بما لا بد لك منه
وقال أحمد حدثنا أبو داود حدثنا شعبة حدثني قيس بن مسلم سمعت
____________________
(1/62)
طارق ابن شهاب يحدث عن عبد الله إن الرجل يخرج من بيته ومعه دينه فيلقي الرجل إليه حاجة فيقول له إنك كيت إنك كيت يثني عليه وعسى أن لا يحظى من حاجته بشيء فيسخط الله عليه فيرجع وما معه من دينه شيء
وروى الخلال عن عبد الله بن المبارك قال عجبت من اتفاق الملوك الأربعة كلهم على كلمة قال كسرى إذا قلت ندمت وإذا لم أقل لم أندم وقال قيصر أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت وقال ملك الهند عجبت لمن تكلم بكلمة إن هي رفعت تلك الكلمة ضرته وإن هي لم ترفع لم تنفعه وقال ملك الصين إن تكلمت بكلمة ملكتني وإن لم أتكلم بها ملكتها
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أحاديث كثيرة فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وهو في الصحيحين
وعن ابن عمرو مرفوعا من صمت نجا أخرجه أحمد والترمذي وهو صحيح
رواه أحمد والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة
وعن أبي سعيد قال إذا أصبح بن آدم قالت الأعضاء كلها للسان اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا أخرجه الترمذي وأحمد وهو حسن
رواه الترمذي مرفوعا قال وهو أصح
وعن أبي هريرة مرفوعا إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وصححه ابن حبان
رواه أحمد والبخاري ومسلم
____________________
(1/63)
ومعنى ما يتبين فيها لا يتأملها ويجتهد فيها وفيما تقتضيه وفي رياض الصالحين لا يتبين فيها أخير أم لا وفي شرح مسلم في أواخر الكتاب معناه لا يتدبرها ولا يفكر في قبحها وما يخاف أن يترتب عليها
ولأحمد والبخاري إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم أخرجه البخاري وأحمد والترمذي
وللترمذي وابن ماجه إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار أخرجه الترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي
فهذه الرواية إن صحت معناها لا يتأملها ولا يجتهد فيها وفيما تقتضيه بل قالها في بادئ الرأي
ورواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجه من حديث بلال بن الحارث وفيه ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت وفيه يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وفيه يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة قال الترمذي حسن صحيح
وعن أبي هريرة مرفوعا من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان وهو حديث حسن لغيره
رواه ابن ماجه والترمذي وقال غريب وهو في الموطأ والترمذي أيضا عن علي بن الحسين مرسلا
والترمذي عن محمد بن بشار وغير واحد عن محمد بن يزيد بن خنيس المكي سمعت سعيد بن حسان المخزومي حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة مرفوعا كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله عز وجل أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
ورواه ابن ماجه عن ابن اليسار أم صالح تفرد عنها سعيد
____________________
(1/64)
وباقيه حسن قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خنيس وفي الموطأ عن أسلم أن عمر دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه فقال عمر مه غفر الله لك فقال أبو بكر إن هذا أوردني الموارد
وروى الترمذي عن أبي عبد الله محمد بن أبي بلخ البغدادي صاحب أحمد بن حنبل عن علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي أخرجه الترمذي
ورواه الترمذي أيضا عن أبي بكر بن النضر عن أبيه عن إبراهيم بمعناه وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم وإبراهيم لم أجد فيه كلاما وحديثه حسن إن شاء الله تعالى
وروى الترمذي عن فضالة بن الفضل الكوفي عن أبي بكر بن عياش عن ابن وهب بن منبه عن أبيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما أخرجه الترمذي وهو ضعيف
ابن وهب لا يعرف تفرد به عنه ابن عياش قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد قال إن عيسى ابن مريم عليه السلام لقي خنزيرا على الطريق فقال له انفذ بسلام فقيل له أتقول هذا للخنزير فقال عيسى إني أكره وأخاف أن أعود لساني النطق بالسوء
ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان
الحديث فهذا من آداب الكلام إذا كان في الحكاية عن الغير سوء واقتضى ذلك رجوع الضمير إلى المتكلم لم يأت الحاكي بالضمير عن نفسه
____________________
(1/65)
صيانة لها عن صورة إضافة السوء إليها وفي رواية يا ويلي يجوز بفتح اللام وكسرها ورأيت في بعض النسخ يا ويلتا وقال ابن عبد البر قال أبو هريرة لا خير في فضول الكلام وقال عمر بن الخطاب من كثر كلامه كثر سقطه
وقال يعقوب عليه السلام لبنيه يا بني إذا دخلتم على السلطان فأقلوا الكلام وقالوا أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره وما ظهر معناه في لفظه وقالوا العيي الناطق أعيى من العيي الساكت
أوصى ابن عباس بخمس كلمات فقال إياك والكلام فيما لا يعنيك في غير موضعه فرب متكلم فيما لا يعنيه في غير موضعه قد عنت ولا تمار سفيها ولا فقيها فإن الفقيه يغلبك والسفيه يؤذيك واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن تذكر به ودع ما تحب أن يدعك منه واعمل عمل رجل يعلم أنه يجازى بالإحسان ويكافأ
وقال بعض قضاة عمر بن عبد العزيز وقد عزله لم عزلتني فقال بلغني أن كلامك مع الخصمين أكثر من كلام الخصمين
وتكلم ربيعة يوما فأكثر الكلام وأعجبته نفسه وإلى جنبه أعرابي فقال له يا أعرابي ما تعدون البلاغة قال قلة الكلام قال فما تعدون العي فيكم قال ما كنت فيه منذ اليوم
وقال بعضهم
( عجبت لإدلال العيي بنفسه % وصمت الذي قد كان بالقول أعلما )
( وفي الصمت ستر للعيي وإنما % صحيفة لب المرء أن يتكلما )
وكان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام ويقول لا يوجد إلا في النساء أو الضعفاء
وذم أعرابي رجلا فقال هو من يتامى المجلس أعيى ما يكون عند جلسائه وأبلغ ما يكون عند نفسه
____________________
(1/66)
وقال المفضل الضبي لأعرابي ما البلاغة قال الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل وقال الأحنف البلاغة الإيجاز في استحكام الحجة والوقوف عندما يكتفى به
وقال خالد بن صفوان لرجل كثير كلامه إن البلاغة ليست بكثرة الكلام ولا بخفة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة
وسئل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ما البلاغة قال القصد إلى عين الحجة بقليل اللفظ
وقيل لبعض اليونانية ما البلاغة قال تصحيح الأقسام واختيار الكلام
وقيل لرجل من الروم ما البلاغة فقال حسن الاقتصاد عند البديهة وإيضاح الدلالة والبصر بالحجة وانتهاز موضع الفرصة
وفي الخبر المأثور الخير كله في ثلاث السكوت والكلام والنظر فطوبى لمن كان سكوته فكرة وكلامه حكمة ونظره عبرة
وقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول لا خير في كثرة الكلام واعتبر ذلك بالنساء والصبيان أعمالهم أبدا يتكلمون ولا يصمتون وقال الشاعر
( وإن لسان المرء ما لم يكن له % حصاة على عوراته لدليل )
وقال الحسن بن هانئ
( إنما العاقل من ألجم % فاه بلجام )
( مت بداء الصمت خير % لك ذا من الكلام )
وقال آخر
( يموت الفتى من عثرة بلسانه % وليس يموت المرء من عثرة الرجل )
( فعثرته من فيه ترمي برأسه % وعثرته بالرجل تبرا على مهل )
وذكر غير ابن عبد البر ما أنشده بعضهم
____________________
(1/67)
( سأرفض ما يخاف علي منه % وأترك ما هويت لما خشيت )
( لسان المرء ينبئ عن حجاه % وعي المرء يستره السكوت ) فصل
قد سبق الكلام في الوعد والصدق والكذب ونحو ذلك والأخبار في ذلك وقد أثنى الله سبحانه على إسماعيل عليه السلام فقال { إنه كان صادق الوعد } وذلك لأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره وعد رجلا فانتظره حولا روي عن ابن عباس وقيل انتظره اثني عشر يوما وقيل ثلاثة أيام
قال ابن عبد البر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتظر رجلا وعده في موضع من طلوع الشمس إلى غروبها أخرجه أبو داود والبيهقي وابن أبي الدنيا وابن الأثير وفي سنده راو لا يعرف
وقال الشاعر
( لسانك أحلى من جنى النحل وعده % وكفاك بالمعروف أضيق من قفل )
وقال آخر
( لله درك من فتى % لو كنت تفعل ما تقول )
وقال آخر
( لا خير في كذب الجواد % وحبذا صدق البخيل )
وقال آخر
( الخير أنفعه للناس أعجله % وليس ينفع خير فيه تطويل )
وقال آخر
( كانت مواعيد عرقوب لها مثلا % وما مواعيدها إلا الأباطيل )
____________________
(1/68)
وقال ابن الكلبي عن أبيه كان عرقوب رجلا من العماليق فأتاه أخ له يسأله شيئا فقال له عرقوب إذا أطلع نخلي فلما أطلع أتاه فقال إذا أبلح فلما أبلح أتاه فقال إذا أزهى فلما أزهى أتاه فقال إذا أرطب فلما أرطب أتاه فقال إذا أتمر فلما أتمر جذه ليلا ولم يعطه شيئا فضرب به العرب المثل في خلف الوعد
وقال غيره كان عرقوب جبلا مكللا بالسحاب أبدا ولا يمطر شيئا قالت الحكماء من خاف الكذب أقل المواعيد وقالوا أمران لا يسلمان من الكذب كثرة المواعيد وشدة الاعتذار
وقال آخر
( إن الكريم إذا حباك بموعد % أعطاكه سلسا بغير مطال )
وقال آخر
( قم لوجه الله بالحق وكن % صادق الوعد فمن يخلف يلم )
وذكر ابن عبد البر قول عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله بم يعرف المؤمن قال بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من كانت له عند الناس ثلاث وجبت له عليهم ثلاث من إذا حدثهم صدقهم وإذا ائتمنوه لم يخنهم وإذا وعدهم وفى لهم وجب له عليهم أن تحبه قلوبهم وتنطق بالثناء عليه ألسنتهم وتظهر له معونتهم
وقال سعيد كل الخصال يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب قيل للقمان الحكيم ألست عبد بني فلان قال بلى قيل فما بلغ بك ما أرى قال تقوى الله عز وجل وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني ثم قال
( ألا رب من تغشه لك ناصح % ومؤتمن بالغيب غير أمين )
وقال نافع مولى ابن عمر طاف ابن عمر سبعا وصلى ركعتين فقال له رجل من قريش ما أسرع ما طفت وما صليت يا أبا عبد الرحمن فقال ابن عمر أنتم أكثر منا طوافا وصياما ونحن خير منكم نحن نلتزم صدق الحديث وأداء الأمانة وإنجاز
____________________
(1/69)
الوعد
وأنشد محمود الوراق
( أصدق حديثك إن في الصدق % الخلاص من الدنس )
( ودع الكذوب لشأنه % خير من الكذب الخرس )
وقال آخر
( ما أقبح الكذب المذموم صاحبه % وأحسن الصدق عند الله والناس )
وقال منصور الفقيه
( الصدق أولى ما به % دان امرؤ فاجعله دينا )
( ودع النفاق فما رأيت % منافقا إلا مهينا )
وقال الحسن البصري لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه
وقال الفريابي كنت عند الأوزاعي إذ جاءه رجل فقال يا أبا عمرو هذا كتاب صديقك من بلد كذا وهو يقرأ عليك السلام فقال متى قدمت قال أمس قال ضيعت أمانتك لا كثر الله في المسلمين أمثالك
قال الشاعر
( إذا أنت حملت الأمانة خائنا % فإنك قد أسندتها شر مسند )
وقال بعض الحكماء من عرف بالصدق جاز كذبه ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه وقالوا والصدق عز والكذب خضوع
وقال كعب بن زهير
( ومن دعا الناس إلى ذمه % ذموه بالحق وبالباطل )
( مقالة السوء إلى أهلها % أسرع من منحدر سائل )
____________________
(1/70)
وقال لقمان لابنه يا بني احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئا لم يصبر عنه وقال الأصمعي قيل لكذاب ما يحملك على الكذب فقال أما إنك لو تغرغرت ماءه ما نسيت حلاوته وقيل لكذاب هل صدقت قط قال أكره أن أقول لا فأصدق
وذكر ابن عبد البر الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحق ثقيل فمن قصر عنه عجز ومن جاوزه ظلم ومن انتهى إليه فقد اكتفى ويروى هذا لمجاشع بن نهشل وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحق ثقيل رحم الله عمر بن الخطاب تركه الحق ليس له صديق
لما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما قال لمعيقيب الدوسي ما يقول الناس في استخلاف عمر قال كرهه قوم ورضيه قوم آخرون قال فالذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه قال بل الذين كرهوه قال إن الحق يبدو كرها وله تكون العاقبة { والعاقبة للتقوى }
وقال الحكمة تدعو إلى الحق والجهل يدعو إلى السفه كما أن الحجة تدعو إلى المذهب الصحيح والتشبيه يدعو إلى المذهب الباطل
وقال بعض الحكماء من جهلك بالحق والباطل أن تريد إقامة الباطل بإبطال الحق وقال بعض الحكماء لا يعد الرجل عاقلا حتى يستكمل ثلاثا إعطاء الحق من نفسه في حال الرضا والغضب وأن يرضى للناس ما يرضى لنفسه وأن لا يرى له زلة عند صحوة
وقال أبو العتاهية
( ومن ضاق عنه الحق ضاقت مذاهبه % )
لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عمر رضي الله عنهما فقال يا عمر إن وليت على
____________________
(1/71)
الناس فاتق الله والزم الحق فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان إذا وضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان وضع فيه الباطل أن يكون خفيفا واعلم أن لله تعالى عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة وأن الله عز وجل ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم فإذا ذكرتهم قلت إني لخائف أن لا ألحق بهم وأن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم حسنها فإذا ذكرتهم قلت إني لخائف أن أكون مع هؤلاء وأن الله عز وجل ذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون المؤمن راهبا راغبا لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجزه
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية رضي الله عنهما أن ألزم الحق ينزلك الحق في منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق
أول كتاب كتبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خلافته أما بعد فإنه هلك من كان قبلكم فإنهم منعوا الحق حتى اشتري وبسطوا الباطل حتى اقتدي
وقال ابن مسعود رضي الله عنه من كان على الحق فهو جماعة وإن كان وحده
وقال غيره الأحمق يغضب من الحق والعاقل يغضب من الباطل
وقال غيره الحق ثقيل وطلابه قليل وقال غيره الحق كثير وطلابه يسير وقال ابن مسعود رضي الله عنه تكلموا بالحق تعرفوا واعملوا به تكونوا من أهله
وقال أبو العتاهية
( وللحق برهان وللموت فكرة % ومعتبر للعالمين قديم )
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه إذا ظهر الباطل على الحق ظهر الفساد في
____________________
(1/72)
الأرض وقال إن لزوم الحق نجاة وإن قليل الباطل وكثيره هلكة وقال سعد بن أبي وقاص لسلمان رضي الله عنهما أوصني قال أخلص الحق يخلصك قال ابن عبد البر وأظن من هنا قول القائل أعز الحق يذل لك الباطل
يقال من لم يعمل من الحق إلا بما وافق هواه ولم يترك من الباطل إلا ما خف عليه لم يؤجر فيما أصاب ولم يفلت من إثم الباطل
وقال منصور الفقيه
( فاتق الله إذا ما شوورت % وانظر ما تقول )
( لا يضرنك أن قال % من الناس جهول )
( إن قول المرء فيما % لم يسل عنه فضول )
وعن أبي هريرة مرفوعا أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل % )
وقال أصدق قول قالته العرب قول القائل
( وما حملت من ناقة فوق رحلها % أبر وأوفى ذمة من محمد )
أنشد ثعلب
( وإن أشعر بيت أنت قائله % بيت يقال إذا أنشدته صدقا )
قال جعفر بن محمد ما ناصح الله عبد مسلم في نفسه فأخذ الحق لها وأعطى الحق منها إلا أعطي خصلتين رزق من الله يقنع به ورضا من الله عنه فصل في السعة في الكلام وألفاظ الناس
قال الخلال في السعة في الكلام وألفاظ الناس قال المروذي بعثني أبو عبد الله في حاجة وقال كل شيء تقوله على لساني فأنا قلته
وقال الميموني إن أبا عبد الله دقت عليه امرأة دقا فيه بعض العنف فخرج وهو يقول ذا دق الشرط
____________________
(1/73)
وقال المروذي إن أبا عبد الله قيل له حفص وابن أبي زائدة ووكيع قال وكيع أطيب هؤلاء قال الأثرم سمعت أبا عبد الله وذكر عبد الله بن رجاء وأبا سعيد مولى بني هاشم فقال ولكن أبو سعيد كان أيقظهما عينا
وقال مهنا سألت أحمد عن إسماعيل بن زكريا قال ليس به بأس إلا أنه ليس له حلاوة وقال سألت أحمد عن حديث فقال ما خلق الله من ذا شيئا
وقال الخلال سألت إبراهيم الحربي قلت لم تقول العرب للشيخ يا غلام قال ليس العرب كلها تقوله قيس تقوله قلت فيجوز أن يقول للشيخ يا بني قال نعم يعني لا بأس به ثم قال أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة يا بني والمغيرة كان شيخا كبيرا لعله كان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال لأنس يا بني أخرجه الترمذي وفي سنده علي بن زيد وهو ضعيف ومع ذلك فقد حسنه
قال ولم يقل له يا بني إنما قال يا بني أي أنت ابن فصل في حسن الظن بأهل الدين
قال في نهاية المبتدئ حسن الظن بأهل الدين حسن ظاهر هذا أنه لا يجب وظاهره أيضا أن حسن الظن بأهل الشر ليس بحسن فظاهره لا يحرم وظاهر قوله عليه السلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
أن استمراء ظن السوء وتحقيقه لا يجوز وأوله بعض العلماء على الحكم في الشرع بظن مجرد بلا دليل وليس بمتجه
وروى الترمذي عن سفيان الظن الذي يأثم به ما تكلم به فإن لم يتكلم لم يأثم وذكر ابن الجوزي قول سفيان هذا عن المفسرين ثم قال وذهب بعضهم إلى أنه يأثم بنفس الظن ولو لم ينطق به وذكر قبل ذلك قول القاضي أبي يعلى إن الظن منه محظور
وهو سوء الظن بالله والواجب حسن الظن بالله عز وجل وكذلك سوء الظن
____________________
(1/74)
بالمسلم الذي ظاهره العدالة محظور وظن مأمور به كشهادة العدل وتحري القبلة وتقويم المتلفات وأرش الجنايات
والظن المباح كمن شك في صلاته إن شاء عمل بظنه وإن شاء باليقين وروى أبو هريرة مرفوعا إذا ظننتم فلا تحققوا وهذا من الظن الذي يعرض في قلب الإنسان في أخيه فيما يوجب الريبة فلا ينبغي أن يحققه والظن المندوب إليه إحسان الظن بالأخ المسلم فأما ما روي في حديث احترسوا من الناس بسوء الظن فالمراد الاحتراس بحفظ المال مثل أن يقول إن تركت بابي مفتوحا خشيت السراق انتهى كلام القاضي
وذكر البغوي أن المراد بالآية سوء الظن ثم ذكر قول سفيان وذكر القرطبي ما ذكره المهدوي عن أكثر العلماء أن ظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز وأنه لا حرج بظن القبيح بمن ظاهره قبيح
وقال ابن هبيرة الوزير الحنبلي لا يحل والله أن يحسن الظن بمن ترقض ولا بمن يخالف الشرع في حال
وقال البخاري في صحيحه باب ما يكون من الظن ثم روى عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا وفي لفظ ديننا الذي نحن عليه قال الليث بن سعد كانا رجلين من المنافقين
وعن عبد الله بن عمرو الخزاعي عن أبيه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح فقال لي التمس
____________________
(1/75)
صاحبا فجاءني عمرو بن أمية الضمري فقال بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا قلت أجل قال فأنا لك صاحب قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قد وجدت صاحبا فقال من قلت عمرو بن أمية الضمري فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره فإنه قد قال القائل أخوك البكري ولا تأمنه قال فخرجنا حتى إذا كنا بالأبواء قال لي إني أريد حاجة إلى قومي بودان فتلبث لي قليلا قلت سر راشدا فلما ولى ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط قال فأوضعت فسبقته فلما رأني قد فته انصرفوا وجاءني فقال كانت لي إلي قومي حاجة قلت أجل قال ومضينا حتى قدمنا مكة فدفعنا المال إلى أبي سفيان رواه أحمد وأبو داود وعبد الله بن عمرو تفرد عنه عيسى بن معمر مع ضعف عيسى وروايته عن عيسى ابن إسحاق بصيغة عن
وترجم أبو داود على هذا الخبر وخبر أبي هريرة الذي في الصحيحين لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أخرجه البخاري ومسلم
باب في الحذر وقال أيضا باب في حسن الظن ثم روى من رواية شتير ولم يرو عنه غير محمد بن واسع عن أبي هريرة قال نصر بن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حسن الظن من حسن العبادة أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم
وكذا رواه أحمد
ثم روى أبو داود خبر صفية الذي في الصحيحين أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره وهو معتكف وأن رجلين من الأنصار رأياهما فأسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال
____________________
(1/76)
شرا أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان
قال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءا وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجا وقال أيضا لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه
وقال أبو مسلم الخولاني اتقوا ظن المؤمن فإن الله جعل الحق على لسانه وقلبه وقد ذكرت في موضع آخر قوله صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله إسناده ضعيف أخرجه الترمذي وقال هذا حيث غريب
رواه الترمذي
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان
وسئل بعض العرب عن العقل فقال الإصابة بالظنون ومعرفة ما لم يكن بما كان وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لله در ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق
قال الشاعر
( أبغي صواب الظن أعلم أنه % إذا طاش ظن المرء طاشت معاذره )
وقال ابن عباس الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل
وقال الشاعر
( وإني بها في كل حال لواثق % ولكن سوء الظن سوء من شدة الحب )
وقال المتنبي
( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه % وصدق ما يعتاده من توهم )
____________________
(1/77)
وقال أبو حازم العقل التجارب والحزم سوء الظن وقال الحسن البصري لو كان الرجل يصيب ولا يخطئ ويحمد في كل ما يأتي داخله العجب
وقال ابن مسعود أفرس الناس كلهم فيما علمت ثلاثة العزيز في قوله لامرأته حين تفرس في يوسف { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } وصاحبة موسى عليه السلام حين قالت { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } وأبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تفرس في عمر رضي الله عنه واستخلفه
نظر إياس بن معاوية يوما وهو بواسط في الرحبة إلى آجرة فقال تحت هذه الآجرة دابة فنزعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية فسئل عن ذلك فقال إني رأيت ما بين الآجرتين نديا من بين الرحبة فعلمت أن تحتها شيئا يتنفس
ونظر إياس بن معاوية يوما إلى صدع في أرض فقال في هذا الصدع دابة فنظروا فإذا فيه دابة فقال إن الأرض لا تنصدع إلا عن دابة أو نبات قال معن بن زائدة ما رأيت قفا رجل قط إلا عرفت عقله
وقال وهب بن منبه خصلتان إذا كانتا في الغلام رجيت نجابته الرهبة والحياء
ومر إياس بن معاوية ذات ليلة بماء فقال أسمع صوت كلب غريب قيل له كيف عرفت ذلك قال لخضوع صوته وشدة صياح غيره من الكلاب قالوا فإذا كلب غريب مربوط والكلاب تنبحه
وقال عمرو بن العاص أنا للبديهة ومعاوية للأناة والمغيرة للمعضلات وزياد لصغار الأمور وكبارها
أراد يوسف بن عمر بن هبيرة أن يولي بكر بن عبد الله المزني القضاء فاستعفاه فأبى أن يعفيه فقال أصلح الله الأمير ما أحسن القضاء قال كذبت قال فإن كنت كاذبا فلا يحل لك أن تولي الكذابين وإن كنت صادقا فلا يحل لك أن تولي
____________________
(1/78)
من لا يحسن
وفي الصحيحين أو صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه أمر القعقاع وقال عمر رضي الله عنه أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه حتى يستفهمه
وروى الحاكم في تاريخه عن بشر بن الحارث يعني الحافي قال صحبة الأشرار أورثت سوء الظن بالأخيار
وروي أيضا عن أبي بكر بن عياش قال لا يعتد بعبادة المفلس فإنه إذا استغنى رجع فصل
ويجب كف يده وفمه وفرجه وبقية أعضائه عما يحرم ويسن عما يكره
قال ابن الجوزي هذا فيمن لم يضطر إلى ذلك وإلا جاز قال أبو الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم ومتى قدر أن لا يظهر موافقتهم لم يجز له ذلك قال البخاري ويذكر عن أبي الدرداء فذكره كذا قال ابن الجوزي وقول أبي الدرداء هذا ليس فيه موافقة على محرم ولا فيه كلام وإنما فيه طلاقة الوجه خاصة للمصلحة وهو معنى ما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
فلما دخل ألان له القول قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له القول قال يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من
____________________
(1/79)
ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه
قال في شرح مسلم وغيره فيه مداراة من يتقى فحشه ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام وقد ذكر ابن عبد البر كلام أبي الدرداء في فضل حسن الخلق
وفي الصحيحين لما تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك كان يجيء ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيتبسم تبسم المغضب
قال بعض أصحابنا في كتاب الهدي وفيه أن التبسم يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة فوران الدم فيه فينشأ عن ذلك السرور والغضب بعجب يتبعه ضحك أو تبسم فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ولا سيما عند المعتبة كما قيل
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة % فلا تظنن أن الليث يبتسم )
وقيل لابن عقيل في فنونه أسمع وصية الله عز وجل يقول { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } وأسمع الناس يعدون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق فقال ابن عقيل النفاق هو إظهار الجميل وإبطال القبيح وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر والذي تضمنته الآية إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن فخرج من هذه الجملة أن النفاق إبطال الشر وإظهار الخير لإقاع الشر المضمر ومن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر فليس بمنافق لكنه يستصلح ألا تسمع إلى قوله سبحانه وتعالى { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
فهذا اكتساب استمالة ودفع عداوة وإطفاء لنيران الحقائد واستنماء الود وإصلاح العقائد فهذا طب المودات واكتساب الرجال
____________________
(1/80)
وقال أبو داود باب في العصبية ثم روى بإسناد جيد إلى سماك عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه موقوفا ومرفوعا قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه أخرجه أبو داود وأحمد وسنده حسن
حديث حسن
يقال ردي وتردى لغتان كأنه تفعل من الردى الهلاك أراد أنه وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في البئر وأريد أن ينزع بذنبه فلا يقدر على خلاصه
وعن بنت واثلة سمعت أباها يقول قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم أخرجه أبو داود وسنده حسن
حديث حسن رواه أبو داود
ولأحمد وابن ماجه قلت يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه قال لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم أخرجه ابن ماجة وأحمد وهو حسن بما قبله
وعن عبد الله بن أبي سليمان عن جبير بن مطعم مرفوعا ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية أخرجه أبو داود وهو حديث حسن
رواه أبو داود وقال لم يسمع من جبير
وعن سراقة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم أخرجه أبو داود وضعفه
إسناده ضعيف ورواه أبو داود
وفي هذا الباب روى أبو داود من حديث ابن إسحاق عن داود بن حصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي وقال فهلا قلت وأنا الغلام الأنصاري أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف
رواه أحمد وابن
____________________
(1/81)
ماجه من رواية ابن إسحاق وهو مدلس وعبد الرحمن تفرد عنه داود ووثقه ابن حبان
قال في النهاية في الحديث العصبي من يعين قومه على الظلم هو الذي يغضب لعصبته ويحامي عنهم والعصبة الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه ويتعصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم ومنه الحديث ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل على عصبية والتعصب المحاماة والمدافعة
ولمسلم من حديث جندب من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتله جاهلية أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان
قال صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه وسألته عن حديث ابن عباس إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو وهو في المسند بإسناده صحيح
قال أبي لا تغلو في كل شيء حتى الحب والبغض قال أبو داود باب في الهوى حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن ابن أبي مريم عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حبك للشيء يعمي ويصم أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
ابن أبي مريم هو أبو بكر بن عبد الله الغساني الحمصي عالم دين لكنه ضعيف عند أهل العلم ورواه أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي من حديثه
وعن أبي هريرة أراه رفعه قال أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما أخرجه الترمذي وإسناده صحيح
إسناده
____________________
(1/82)
ضعيف رواه الترمذي قال وقد روي عن علي مرفوعا والصحيح عن علي موقوفا
وقال النمر بن تولب
( وأبغض بغيضك بغضا رويدا % إذا أنت حاولت أن تحكما )
( واحبب حبيبك حبا رويدا % فليس يعولك أن تصرما )
وقال الأصمعي إذا حاولت أن تكون حكيما
وروى الطبراني وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى التودد إلى الناس أخرجه الطبراني وهو ضعيف
وعن ابن عمر مرفوعا الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة والتودد إلى الناس نصف العقل وحسن السؤال نصف العلم أخرجه القضاعي والبيهقي
حدثنا يحيى بن عبد الباقي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن أسباط حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال صلى الله عليه وسلم مداراة الناس صدقة أخرجه ابن حبان وابن السني وهو ضعيف
إسناد الأولين ضعيف وهذا فيه لين ويأتي ذلك فيما يتعلق بالمخالطة قبل فصول اللباس وقال بعضهم
( لما عفوت ولم أحقد على أحد % أرحت نفسي من هم العداوات )
إني أحيي عدوي حين رؤيته % لأدفع الشر عني بالتحيات )
( وأظهر البشر للإنسان أبغضه % كأنه قد ملا قلبي محبات )
( ولست أسلم ممن لست أعرفه % فكيف أسلم من أهل المودات )
( الناس داء وداء الناس قربهم % وفي الجفاء بهم قطع الأخوات )
____________________
(1/83)
( فجامل الناس وأجمل ما استطعت وكن % أصم أبكم أعمى ذا تقيات )
الأبيات الأربعة الأولى ذكرها ابن عبد البر لهلال بن العلاء وقال بعضهم من المتأخرين زمن هولاكو شعرا
( قوم مضوا كانت الدنيا بهم نزها % والدهر كالعيد والأوقات أوقات )
( عدل وأمن وإحسان وبذل ندى % وخفض عيش نقضيه وأقوات )
( ماتوا وعشنا فهم عاشوا بموتهم % ونحن في صور الأحياء أموات )
( لله در زمان نحن فيه فقد % أودى بنا وعرتنا فيه نكبات )
( جور وخوف وذل ما له أمد % وعيشة كلها هم وآفات )
( وقد بلينا بقوم لا خلاق لهم % إلى مداراتهم تدعو الضرورات )
( ما فيهم من كريم يرتجى لندى % كلا ولا لهم ذكر إذا ماتوا )
( عزوا وهنا فها نحن العبيد وهم % من بعد ما ملكوا للناس سادات )
( لا الدين يوجد فيهم لا ولا لهم % من المروءة ما تسمو به الذات )
( والصبر قد عز والآمال تطمعنا % والعمر يمضي فتارات وتارات )
( والموت أهون مما نحن فيه فقد % زالت من الناس والله المروءات )
( يا رب لطفك قد مال الزمان بنا % من كل وجه وأبلتنا البليات )
وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله
( ما دمت حيا فدار الناس كلهم % فإنما أنت في دار المداراة )
( من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى % عما قليل نديما للندامات )
وقال زهير
( ومن لم يصانع في أمور كثيرة % يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم )
المنسم للرجل استعارة وهو في الأصل للدواب وفي الزبور من كثر عدوه فليتوقع الصرعة حكي أن داود قال لسليمان عليهما السلام لا تشتر عداوة رجل واحد بصداقة ألف
____________________
(1/84)
فصل في وجوب التوبة وأحكامها وما يتاب منه
تلزم التوبة شرعا لا عقلا خلافا للمعتزلة قال بعضهم المسألة مبنية على التحسين والتقبيح العقلي كل مسلم مكلف قد أثم من كل ذنب وقيل غير مظنون قال في نهاية المبتدئين تصح التوبة مما يظن أنه إثم وقيل لا ولا تجب بدون تحقق إثم والحق وجوب قوله إني تائب إلى الله من كذا وأستغفر الله منه والقول بعدم صحة توبته هو الذي ذكره القاضي مذهبا لأن التوبة هي الندم على ما كان منه والندم لا يتصور مشروطا لأن الشرط إذا حصل بطل الندم
قال القاضي وإذا شك في الفعل الذي فعله هل هو قبيح أم لا فهو مفرط في فعله وتجب عليه التوبة من هذا التفريط ويجب عليه أن يجتهد بعد ذلك في معرفة قبح ذلك الفعل أو حسنه لأن المكلف أخذ عليه أن لا يقدم على فعل قبيح ولا على ما لا يأمن أن يكون قبيحا فإذا قدم على فعل يشك أنه قبيح فإنه مفرط وذلك التفريط ذنب تجب التوبة منه وأصل هذه المسألة مذكور في آخر باب الإمامة
قال الشيخ تقي الدين فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن وتصح من بعض ذنوبه في الأصح
وذكر الشيخ محيي الدين النووي أنها تصح من ذلك الذنب عند أهل الحق وهو الذي ذكره القرطبي أنه خلاف قول المعتزلة وقال ابن عقيل وعن أحمد ما يدل على أن التوبة لا تصح إلا عن جميع الذنوب قال في رجل قال لو ضربت ما زنيت ولكن لا أترك النظر فقال أحمد رضي الله عنه ما ينفعه ذلك فسلبه الانتفاع بترك الزنا مع إصراره على مقدماته وهو النظر
فأما صحة التوبة عن بعض الذنوب فهي أصل أهل السنة وإنما يمنع صحتها المعتزلة والقائلون بالاحتياط وأنه لا تنفع طاعة مع معصية فأما من صحح الطاعة مع المعاصي صحح التوبة من بعض المعاصي انتهى كلامه وذكر هذه الرواية
____________________
(1/85)
القاضي
وذكر ابن عقيل في الإرشاد هذه الرواية ولفظها قال أي توبة هذه وصرح أنها اختياره وأنها قول جمهور المتكلمين قال وقد قال أحمد في تعاليق إبراهيم الحربي لو كان في الرجل مئة خصلة من خصال الخير وكان يشرب النبيذ لمحتها كلها وهذا من أغلظ ما يكون واحتج لاختياره بما ليس فيه حجة
وقال الشيخ تقي الدين إنما أراد يعني أحمد أن هذه ليست توبة عامة لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر فإن نصوصه المتواترة تنافي ذلك وحمل كلامه على ما يصدق بعضه بعضا أولى لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف انتهى كلامه
وقال ابن عقيل أيضا في الفنون قال بعض الأصولين لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره فإن الإنسان لو قتل لإنسان ولدا وأحرق له بيدرا ثم اعتذر عن إحراق البيدر دون قتل الولد لم يعد اعتذارا وهذا ظاهر على مذهب أحمد ويجب أن يكون هو المذهب لأن أحمد قال إذا ترك الصلاة تكاسلا كفر وإن كان مقيما على الزكاة والحج وغير ذلك انتهى كلامه وفي مأخذه نظر ظاهر
قال القاضي أبو الحسين اختلفت الرواية هل تصح التوبة من القبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم التائب بقبحه أو لا يعلم على روايتين
إحداهما يصح اختارها والدي وشيخه لأنه لا خلاف أنه يصح التقرب من المكلف بفعل واجب مع ترك مثله في الوجوب كذا في مسألتنا
والثانية لا يصح اختارها أبو بكر واحتج بقوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } فوعد بغفران الصغائر باجتناب الكبائر فإذا ارتكب الكبائر أخذ بالكبائر والصغائر واختارها ابن شاقلا واحتج بأنه يستحيل أن يكون محبوبا لقوله تعالى { إن الله يحب التوابين } ويكون في حال ما هو محبوب كفعل ما هو ممقوت
____________________
(1/86)
وروى أحمد ومسلم عن الأغر بن يسار المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله عز وجل في اليوم مئة مرة أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة أخرجه البخاري وأحمد وصححه ابن حبان وأخرجه مسلم وصححه ابن حبان
رواه مسلم والبخاري وقال سبعين مرة ولأحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا والله إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أخرجه البخاري وأحمد وصححه ابن حبان وأخرجه مسلم وصححه ابن حبان
ولأحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله أخرجه أحمد والبخاري وفي سنده محمد بن مصعب بن صدقة القرقساني كثير الغلط
محمد بن مصعب مختلف فيه ولم يسمع الحسن من الأسود
وعن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما مرفوعا لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه
ولأحمد والبخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة أخرجه البخاري وأحمد
____________________
(1/87)
وإن جهله تاب مجملا والمراد والله أعلم توبة عامة وإلا فقد ذكر الشيخ تقي الدين أن التوبة المجملة لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق بخلاف العام وما قاله صحيح
وعنه لا تقبل من الداعية إلى بدعته المضلة والقاتل ذكرها القاضي وأصحابه
قال ابن عقيل التوبة من سائر الذنوب مقبولة خلافا لإحدى الروايتين عن أحمد لا تقبل توبة القاتل ولا الزنديق ثم بحث المسألة وقال الزنديق إذا ظهر لنا هذا يجب أن نحكم بإيمانه الظاهر وإن جاز أن يكون عند الله عز وجل كافرا وقال ولأن الزندقة نوع كفر فجاز أن تحبط بالتوبة كسائر الكفر من التوثن والتمجس والتهود والتنصر وكمن تظاهر بالصلاح إذا أتى معصية وتاب منها
وقال وليس الواجب علينا معرفة الباطن جملة وإنما المأخوذ علينا حكم الظاهر فإذا كان لنا في الظاهر حسن طريقته وتوبته وجب قبولها ولم يجز ردها لما بينا وإن جميع الأحكام تتعلق بها قال ولم أجد لهم شبهة أوردوها إلا أنهم حكوا عن علي رضي الله عنه أنه قتل زنديقا ولا أمنع من ذلك وإن الإمام إذا رأى قتله لأنه ساع في الأرض بالفساد ساغ له ذلك فأما أن تكون توبته لم تقبل بدلالة أن قطاع الطريق لا يسقط الحد عنهم بعد القدرة ويحكم بصحتها عند الله عز وجل في غير إسقاط الحد عنهم فليس من حيث لم يسقط القتل لا تصح التوبة ولعل أحمد رضي الله عنه عنى بقوله لا تقبل في غير إسقاط القتل فيكون ما قبله هو مذهبه رواية واحدة
وقال أيضا وهو معنى ما ذكره الأصحاب لعل أحمد تعلق بأن فيه حق آدمي وذلك لا يمنع صحة التوبة لأنه تعلق به حقان فالتوبة تسقط ما يثبت في معصية الله عز وجل ويبقى ظلم الآدمي ومطالبته على حالها وذلك لا يمنع صحة التوبة وكذلك قال هو وهو معنى كلام غيره كمن قال لا تقبل توبة المبتدع نحن لا نمنع أن يكون مطالبا بمظالم الآدميين ولكن لا يمنع هذا صحة التوبة كالتوبة من السرقة وقتل النفس وغصب الأموال صحيحة مقبولة والأموال والحقوق للآدمي
____________________
(1/88)
لا تسقط ويكون هذا الوعيد راجعا إلى ذلك ويكون نفي القبول عائدا إلى القبول الكامل
ومن كلام القاضي أبي يعلى وذكر أنه نقل ذلك من كتب أخيه قال المروذي سئل أحمد رضي الله عنه عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل احتجر التوبة عن صاحب بدعة أخرجه أبو الشيخ والبيهقي
وحجر التوبة أي شيء معناه قال أحمد لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فقال النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل البدع والأهواء ليست لهم توبة أخرجه ابن جرير وأخرجه الطبراني
قال الشيخ تقي الدين لأن اعتقاده لذلك يدعوه إلى أن لا ينظر نظرا تاما إلى دليل خلافه فلا يعرف الحق ولهذا قال السلف إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية وقال أيوب السختياني وغيره إن المبتدع لا يرجع
وقال أيضا التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له ومعرفته بحججه يحتاج إلى ما يقارب ذلك من المعرفة والعلم والأدلة ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شبابهم أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
قال أحمد وغيره لأن الشيخ قد عسا في الكفر فإسلامه بعيد بخلاف الشاب فإن قلبه لين فهو قريب إلى الإسلام
وعن ابن عباس لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا وقال إن آية الفرقان { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } مكية نسختها آية مدنية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا }
____________________
(1/89)
فجزاؤه جهنم )
وقال أيضا عن آية النساء لم ينسخها شيء وإن آية الفرقان نزلت في أهل الشرك روى ذلك البخاري ومسلم أخرجه البخاري ومسلم
وما روي عن ابن عباس في نفي قبول توبة القاتل يشبه والله أعلم أنه أراد به أن حق المقتول لا يسقط بمجرد التوبة إلى الله عز وجل بل لا بد من الخروج من مظلمة الآدميين وهذا حق كما قاله ابن عباس فإن من تمام توبته تعويض المظلوم فيمكن أولياء المقتول فإذا مكنهم فقتلوه أو عفوا عنه أو صالحوه على الدية فهل يسقط حق المقتول في الآخرة على قولين في مذهب أحمد وغيره ولعل ابن عباس كان ممن يقول لا يسقط حق المقتول في الآخرة
قال وعلى هذا القول فيأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح فإذا استكثر القاتل وغيره من أهل الظلم التائبين من الحسنات ما يوفي به غرماءه ويبقى له فضل كان بمنزلة من عليه ديون واكتسب أموالا يوفي بها ديونه ويبقى له فضل ويأتي كلامه في توبة المبتدع وغيره أيضا
ويؤيده ما قال أحمد في المسند حدثنا سفيان عن عمار عن سالم سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل قتل مؤمنا ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال ويحك وأنى له الهدى سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يقول يا رب سل هذا فيم قتلني أخرجه أحمد والترمذي
والله لقد أنزلها الله على نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نسخها بعد إذ أنزلها قال ويحك وأنى له الهدى عمار هو الدهني وسالم هو ابن أبي الجعد إسناد جيد ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان
ورواه أحمد أيضا بمعناه عن محمد بن جعفر وروح عن شعبة عن مسلم سمعت ابن عباس فذكره بإسناد جيد ومسلم هو ابن مخراق
____________________
(1/90)
وينبغي أن يقال إذا قيل لا توبة له معناه يعذب على هذا الذنب ولا بد ثم يخرج كأهل الكبائر إذا لم يتوبوا لا أنه لا يخرج من النار أبدا ولم أجد هذا صريحا عن ابن عباس ولا عن أحمد وحكاه بعضهم قولا في التفسير ولا وجه له فإنه لا يكفر بذلك عند أهل السنة ولا وجه عندهم لتخليد مسلم في النار فصل في عدم صحة توبة المصر وكيفية التوبة من الذنوب
ولا تصح التوبة من ذنب أصر على مثله ولا يقال للتائب ظالم ولا مسرف ولا تصح من حق الآدمي ذكره في المستوعب والشرح وقدمه في الرعاية وقطع به ابن عقيل في الإرشاد وفي الفصول وهو الذي ذكره النووي في رياض الصالحين عن العلماء ونص عليه أحمد
قال عبد الله سألت أبي عن رجل اختان من رجل مالا ثم إنه أنفقه وأتلفه ثم إنه ندم على ما فعل وتاب وليس عنده ما يؤدي فهل يكون في ندمه وتوبته ما يرجى له به إن مات على فقره خلاص مما عليه فقال أبي لا بد لهذا الرجل من أن يؤدي الحق وإن مات فهو واجب عليه
وقال في رواية محمد بن الحكم فيمن غصب أرضا لا يكون تائبا حتى يردها على صاحبها وإن علم شيئا باقيا من السرقة ردها عليه أيضا
وقال فيمن أخذ من طريق المسلمين توبته أن يرد ما أخذ فإن ورثه رجل فقال في موضع لا يكون عدلا حتى يرد ما أخذ وقال في موضع هذا أهون ليس هو أخرجه وأعجب إلي أن يرده
وقال أحمد في رواية صالح فيمن ترك الصلاة وسأله صالح توبته أن يصلي قال نعم وقيل بلى والله تعالى يعوض المظلوم قاله ابن عقيل
وقال في الهداية ومظالم العباد تصح التوبة منها على الصحيح في المذهب وهو قول ابن عباس ومن مات نادما عليها كان الله عز وجل المجازي للمظلوم عنه كما ورد في الخبر لا يدخل النار تائب من ذنبه
____________________
(1/91)
وقال في الرعاية الكبرى فعلى المنع يرد ما أثم به وتاب بسببه أو بذله إلى مستحقه أو ينوي ذلك إذا أمكنه وتعذر رده في الحال واخر ذلك برضا مستحقهن يستحل من الغيبة والنميمة ونحوهما
قال ابن أبي الدنيا حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا أسباط عن أبي رجاء الخراساني عن عباد بن كثير عن الجريري عن أبي نضرة عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى فإن الرجل قد يزني فيتوب فيتوب الله عز وجل عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه أخرجه ابن أبي الدنيا
عباد ضعيف وأبو رجاء قال العقيلي منكر الحديث ثم ذكر حديثه موت الغريب شهادة أخرجه العقيلي وفي سنده الهذيل بن الحكم وقال فيه البخاري منكر الحديث
وقيل إن علم به المظلوم وإلا دعا له واستغفر ولم يعلمه وذكر الشيخ تقي الدين أنه قول الأكثرين وذكر غير واحد وإن تاب من قذف إنسان أو غيبته قبل علمه به هل يشترط لتوبته إعلامه والتحلل منه على روايتين واختار القاضي أنه لا يلزمه لما روى أبو محمد الخلال بإسناده عن أنس مرفوعا من اغتاب رجلا ثم استغفر له من بعد غفر له غيبته أخرجه ابن الجوزي قال النسائي متروك
وبإسناده عن أنس مرفوعا كفارة من اغتيب أن تستغفر له أخرجه ابن أبي الدنيا قال البخاري اتركوه
ولأن في إعلامه
____________________
(1/92)
إدخال غم عليه قال القاضي فلم يجز ذلك وكذا قال الشيخ عبد القادر رضي الله عنه إن كفارة الاغتياب ما روى أنس وذكره وخبر أنس المذكور ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وفيه عنبسة بن عبد الرحمن متروك وذكر مثله من حديث سهل بن سعد وفيه سلمان بن عمرو كذاب ومن حديث جابر وفيه حفص بن عمر الأيلي متروك وذكر أيضا حديث أنس في الحدائق وقال إنه لا يذكر فيها إلا الحديث الصحيح
وقال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس قال حذيفة رضي الله عنه كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته فقال سفيان بل تستغفر مما قلت فيه فقال ابن المبارك لا تؤذوه مرتين ومثل قول ابن المبارك اختاره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح الشافعي في فتاويه
وقال الشيخ تقي الدين بعد أن ذكر الروايتين في المسألة المذكورة قال فكل مظلمة في العرض من اغتياب صادق وبهت كاذب فهو في معنى القذف إذ القذف قد يكون صدقا فيكون في المغيب غيبة وقد يكون كذبا فيكون بهتا
واختار أصحابنا أنه لا يعلمه بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم أيما مسلم شتمته أو لعنته أو سببته أو جلدته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة أخرجه مسلم وأحمد
وهذا صحيح المعنى من وجه كذا قال وهذا المعنى في المسند والصحيحين وغيرهم وفيه اشتراط ذلك على ربه وفيه إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر
وقال أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه حدثنا السميط عن أبي السوار العدوي عن خاله قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأناس يتبعونه قال
____________________
(1/93)
فاتبعته معهم قال ففجئني القوم يسعون وأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني ضربة إما بعسيب أو قضيب أو سواك أو شيء كان فوالله ما أوجعني قال فبت بليلة وقال أو قلت ما ضربني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لشيء علمه الله عز وجل في وحدثتني نفسي أن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبحت فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنك راع لا تكسر قرون رعيتك فلما صلينا الغداة أو قال أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أناسا يتبعوني وإني لا يعجبني أن يتبعوني اللهم فمن ضربت أو سببت فاجعلها له كفارة وأجرا أو قال مغفرة ورحمه أخرجه أحمد وسنده جيد
أو كما قال إسناد جيد
ولعل مراد الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى إن شاء الله تعالى ما في شرح مسلم وغيره أنه أجاب العلماء بوجهين
أحدهما المراد ليس بأهل لذلك عند الله عز وجل في باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له النبي صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر
والثاني أن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامهم بلا نية كقولهم تربت يمينك وعقرى وحلقى لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء فخاف أن يصادف إجابة فسأل ربه سبحانه ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا وإنما كان يقع هذا منه نادرا ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه أخرجه البخاري ومسلم
وفي الحديث أنهم قالوا ادع على دوس فقال اللهم اهد دوسا أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وقال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون أخرجه البخاري
____________________
(1/94)
وقال ابن عقيل في الفنون إن المراد عند فورة الغضب لأمر يخصه أو لردع يردعه بذلك الكلام عن التجرؤ على فعل المعصية لا لعنه في الخمر لأنه تشريع في الزجر إلا أن يكون أراد رحمة فإنه يحتمل احتمالا حسنا لأن لعنته عند من لعنه غاية في المنع عند ارتكاب ما لعنه عليه وتوبته فسمى اللعنة رحمه حيث كانت آيلة إلى الرحمة قال الشيخ تقي الدين بن تيمية كلامه المتقدم
وقال ابن الأثير في النهاية في قوله إن رجلا اعترض النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فصاح به الناس فقال دعوا الرجل أرب ما له قيل أرب بوزن علم ومعناها الدعاء عليه أي أصيبت آرابه وسقطت وهي كلمة لا يراد بها وقوع الأمر كما يقال تربت يداك وقاتلك الله وإنما تذكر في معرض الدعاء وفي هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم قولان
أحدهما تعجبه من حرص السائل ومزاحمته
والثاني أنه لما رآه بهذه الحال من الحرص غلبه طبع البشرية فدعا عليه وقد قال في غير هذا الحديث اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي له رحمة وقيل معناه احتاج فسأل من أرب الرجل يأرب إذا احتاج ثم قال ما له أي أي شيء به وما يريد
والرواية الثانية أرب بوزن حمل أي حاجة له وما زائدة للتقليل أي له حاجة يسيرة وقيل معناه حاجة جاءت به فحذف ثم سأل فقال ما له
والرواية الثالثة أرب بوزن كتف والأرب الحاذق الكامل أي هو أرب فحذف المبتدأ ثم سأل فقال ما له أي ما شأنه
وهذا أحسن من إعلامه فإن في إعلامه زيادة إيذاء له فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولا إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف فتبصر هذا ففي
____________________
(1/95)
إعلامه هذان الفسادان وفيه مفسدة ثالثة ولو كانت بحق وهو زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة أو تجدد القطيعة والبغضة والله تعالى أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة
وهذه المفسدة قد تعظم في بعض المواضع أكثر من بعض وليس في إعلامه فائدة إلا تمكينه من استيفاء حقه كما لو علم فإن له أن يعاقب إما بالمثل إن أمكن أو بالتعزير أو بالحد وإذا كان في الإيفاء من الجنس مفسدة عدل إلى غير الجنس كما في القذف وفي الفدية وفي الجراح إذا خيف الحيف وهنا قد لا يكون حقه إلا في غير الجنس إما العقوبة أو الأخذ من الحسنات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت عنده مظلمة لأخيه في دم أو مال أو عرض فليأته فليستحله قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار إلا الحسنات والسيئات فإن كان له حسنات أخذ من حسنات صاحبه فأعطيها وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فألقيت على صاحبه ثم يلقى في النار أخرجه البخاري وابن حبان
وإذا كان فيعطيه في الدنيا حسنة بدل الحسنة فإن الحسنات يذهبن السيئات فالدعاء له والاستغفار إحسان إليه وكذلك الثناء عليه بدل الذم له وهذا عام فيمن طعن على شخص أو لعنه أو تكلم بما يؤذيه أمرا أو خبرا بطريق الإفتاء أو التحضيض أو غير ذلك فإن أعمال اللسان أعظم من أعمال اليد حيا أو ميتا حتى لو كان ذلك بتأويل أو شبهة ثم بان له الخطأ فإن كفارة ذلك أن يقابل الإساءة إليه بالإحسان بالشهادة له بما فيه من الخير والشفاعة له بالدعاء فيكون الثناء والدعاء بدل الطعن واللعن
ويدخل في هذا أنواع الطعن واللعن الجاري بتأويل سائغ أو غير سائغ كالتكفير والتفسيق ونحو ذلك مما يقع بين المتكلمين في أصول الدين وفروعه كما يقع بين أصناف الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم من أنواع أهل العلم والنهي من كلام بعضهم في بعض تارة بتأويل مجرد وتارة بتأويل مشوب بهوى وتارة بهوى
____________________
(1/96)
محض بل تخاصم هذا الضرب بالكلام والكتب كتخاصم غيرهم بالأيدي والسلاح وغيره وهو شبيه بقتال أهل العدل والبغي والطائفتين الباغيتين والعادلتين من وجه والباغيتين من وجه
وهذا باب نافع جدا والحاجة إليه ماسة جدا فعلى هذا لو سأل المقذوف والمسبوب لقاذفه هل فعل ذلك أم لا لم يجب عليه الاعتراف على الصحيح من الروايتين كما تقدم إذ توبته صحت في حق الله تعالى بالندم وفي حق العبد بالإحسان إليه بالاستغفار ونحوه
وهل يجوز الاعتراف أو يستحب أو يكره أو يحرم الأشبه أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فقد يكون الاعتراف أصفى للقلوب كما يجري بين الأوداء من ذوي الأخلاق الكريمة ولما في ذلك من صدق المتكلم وقد تكون فيه مفسدة العدوان على الناس أو ركوب كبيرة فلا يجوز الاعتراف
قال وإذا لم يجب عليه الإقرار فليس له أن يكذب بالجحود الصريح لأن الكذب الصريح محرم والمباح لإصلاح ذات البين هل هو التعريض أو الصريح فيه خلاف فمن جوز الصريح هناك فهل يجوز هنا فيه نظر ولكن يعرض فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب وهذا هو الذي يروي عن حذيفة بن اليمان أنه بلغ عثمان رضي الله عنه شيء عنه فأنكر ذلك بالمعاريض وقال أرقع ديني بعضه ببعض أو كما قال وعلى هذا فإذا استحلف على ذلك جاز له أن يحلف ويعرض لأنه مظلوم بالاستحلاف فإذا كان قد تاب وصحت توبته لم يبق لذلك عليه حق فلا يجب اليمين عليه لكن مع عدم التوبة والإحسان إلى المظلوم وهو باق على عداوته وظلمه فإذا أنكر بالتعريض كان كاذبا فإذا حلف كانت يمينه غموسا
وقال الشيخ تقي الدين أيضا سئلت عن نظير هذه المسألة وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنى بها ثم تاب من ذلك وسأله زوجها عن ذلك فأنكر فطلب استحلافه فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسا وإن لم يحلف قويت التهمة وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم فأفتيته أنه يضم إلى التوبة
____________________
(1/97)
فيما بينه وبين الله الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون بإزاء إيذائه له في أهله فإن الزنى بها تعلق به حق الله تعالى وحق زوجها من جنس حقه في عرضه وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال بل هو من جنس القذف الذي جزاؤه من غير جنسه فتكون توبة هذا كتوبة القاذف وتعريضه كتعريضه وحلفه على التعريض كحلفه
وأما لو ظلمه في دم أو مال فإنه لا بد من إيفاء الحق فإن له بدلا وقد نص أحمد في الفرق بين توبة القاتل وبين توبة القاذف وهذا الباب ونحوه فيه خلاص عظيم وتفريج كربات النفوس من آثار المعاصي والمظالم فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله عز وجل ولا يجرئهم على معاصي الله تعالى وجميع النفوس لا بد أن تذنب فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب من التوبة والحسنات الماحيات كالكفارات والعقوبات هو من أعظم فوائد الشريعة انتهى كلامه
وقال ابن عقيل فإن كانت المظلمة فساد زوجة جاره أو غيره في الجملة وهتك حرمة فراشه قال بعضهم احتمل أن لا يصح إحلاله من ذلك لأنه مما لا يستباح بإباحته ابتداء فلا يبرأ بإحلاله بعد وقوعه قال ابن عقيل وعندي أنه يبرأ بالإحلال بعد وقوعه وينبغي أن يستحله فإنه حق لآدمي فيجوز أن يبرأ بالإحلال بعد وقوع المظلمة ولا يملك إباحتها ابتداء كالدم والقذف والدليل على أنه حق له أنه يلاعن زوجته ويفسخ نكاحها لأجل التهمة به وغلبة ذلك على ظنه وإنما يتحالف في حقوق الآدميين انتهى كلامه
ولأن الزوج يمنع من وطئها زمن العدة وفي منعة من مقدمات الجماع خلاف وذلك سبب فعل الزاني لا سيما إن كان أكرهها فقد ظلمها وظلم الزوج وقد روى النسائي وابن ماجه والترمذي وصححه حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وفيه ألا إن لكم على نسائكم حقا وإن لنسائكم عليكم حقا أما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن
____________________
(1/98)
تحسنوا إليهن في كسوتهن أخرجه النسائي وابن ماجه
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قيل ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
قال في شرح مسلم وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وجرما لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وأفسدها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن منه غيره كان في غاية من القبح انتهى كلامه
وعلى هذا يكون المراد بما يأتي من أن الحد كفارة أي في حق الله عز وجل وأما حق الآدمي فالكلام فيه كغيره من حقوق الآدميين ولهذا لو اقتص من القاتل لم يسقط حق الله عز وجل فيه مع أنه مبني على المسامحة فأولى أن لا يسقط حق الآدمي هنا ولا يلزم أن يختص بعقوبة في الدنيا سوى الحد الذي هو حق الله عز وجل في القصاص وقذف الآدمي بالزنى أو غيره بشيء والله أعلم فصل فيما على التائب من قضاء العبادات ومفارقة قرين السوء ومواضع الذنوب
قال في الرعاية بعد كلامه السابق وأن يفعل ما تركه من العبادات ويباعد قرناء السوء وأسبابه ومفهوم كلامه في الشرح وغيره أن مجانبة خلطاء السوء لا يشترط في صحة التوبة وهو المشهور عند العلماء وقطع به ابن عقيل وجعله أصلا لأحد الوجهين في أن التفرق في قضاء الحج من الموضع الذي وطئ فيه لا يجب
____________________
(1/99)
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد في الذي قتل مئة نفس وقال له الرجل العالم من يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل فاعبد الله تعالى معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
قال في شرح مسلم قال العلماء في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب فيها الذنوب والإخوان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم وأن يستبدلهم بصحبة أهل الخير وتتأكد بذلك توبته فإن اقتص من القاتل أو عفي عنه فهل يطالبه المقتول في الآخرة على وجهين وتوبة المرابي بأخذ رأس ماله ويرد ربحه إن أخذه
وفي الحديث الصحيح المشهور حديث صاحب النسعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك أخرجه مسلم وأبو داود
قال القاضي عياض وفي هذا الحديث أن قتل القصاص لا يكفر ذنب القاتل بالكلية وإن كفر ما بينه وبين الله عز وجل كما جاء في الحديث الآخر فهو كفارة له ويبقى حق المقتول قال أبو داود في باب ما يرجى في القتل حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن أبي هشام حدثنا المسعودي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم
إسناده جيد فصل في العفو عمن ظلم وجعله في حل
قال صالح دخلت على أبي يوما فقلت بلغني أن رجلا جاء إلى فضل
____________________
(1/100)
الأنماطي فقال له اجعلني في حل إذا لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل فتبسم أبي وسكت فلما كان بعد أيام قال لي مررت بهذه الآية { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم حدثني المبارك حدثني من سمع الحسن يقول إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة ونودوا ليقم من أجره على الله عز وجل فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا قال أبي فجعلت الميت في حل من ضربه إياي ثم جعل يقول وما على رجل أن لا يعذب الله تعالى بسببه أحدا
وقال في رواية حنبل وهو يداويه اللهم لا تؤاخذهم فلما برئ ذكره حنبل له فقال نعم أحببت أن ألقى الله تعالى وليس بيني وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم شيء وقد جعلته في حل إلا ابن أبي دؤاد ومن كان مثله فإني لا أجعلهم في حل رواه بعضهم من رواية أبي العباس البرذعي حدثنا أبو الفضل البغدادي قال قال لي حنبل فذكره
وقال عبد الله قال أبي وجه إلي الواثق أن أجعل المعتصم في حل من ضربة إياك فقلت ما خرجت من داره حتى جعلته في حل وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوم يوم القيامة إلا من عفا أخرجه الخطيب وإسناده ضعيف
فعفوت عنه
وذكر في رواية المروذي قول الشعبي إن تعف عنه مرة يكن لك من الأجر مرتين وروى عنه إبراهيم الحربي أنه جعلهم في حل وقال لولا أن ابن أبي دؤاد داعية لأحللته وروى عنه عبد الله أنه أحل ابن أبي دؤاد وعبد الرحمن بن إسحاق فيما بعد وروى الخلال عن الحسن قال أفضل أخلاق المؤمن العفو وروى أيضا من رواية مجالد عن الشعبي عن مسروق سمعت عمر يقول كل الناس مني في حل
____________________
(1/101)
فصل في الإبراء المعلق بشرط
نص الإمام أحمد رضي الله عنه فيمن قال لرجل إن مت بفتح التاء فأنت في حل من ديني إنه لا يصح لأنه إبراء معلق بشرط
وقال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجاءه رجل فقال له إني كنت شاربا مسكرا فتكلمت فيك بشيء فاجعلني في حل فقال أبو عبد الله أنت في حل إن لم تعد فقلت له يا أبا عبد الله لم قلت له لعله يعود قال ألم تر ما قلت له إن لم تعد فقد اشترطت عليه ثم قال ما أحسن الشرط إذا أراد أن يعود فلا يعود إن كان له دين
وقال المروذي سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله اجعلني في حل قال من أي شيء قال كنت أذكرك أي أتكلم فيك فقال له ولم أردت أن تذكرني فجعل يعترف بالخطأ فقال له أبو عبد الله على أن لا تعود إلى هذا قال له نعم قال قم ثم التفت إلي وهو يبتسم فقال لا أعلم أني شددت على أحد إلا على رجل جاءني فدق علي الباب وقال اجعلني في حل فإني كنت أذكرك فقلت ولم أردت أن تذكرني أي هذا الرجل كأنه أراد منهما التوبة وأن لا يعود رواهما الخلال في حسن الخلق من الأدب
ورأيت بعض أصحابنا يختار أنه لا فرق بين المسألتين وأن فيهما روايتين فقد يقال هذا وقد يقال بالتفرقة لأن التوبة لرعاية حصولها وتأكدها صح تعليقها بالشرط بخلاف غيرها والله أعلم
وقد صح عن أبي اليسر الصحابي البدري أنه كان له على رجل دين فقال له إن وجدت قضاء فاقض وإلا فأنت في حل من ديني فصل فيمن استدان وليس عنده وفاء وهو ينوبه
قال الإمام أحمد رضي الله عنه حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا جعفر بن زياد عن منصور قال حسبته عن سالم عن ميمونة أنها استدانت دينا فقيل لها
____________________
(1/102)
تستدينين وليس عندك وفاؤه قالت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من أحد يستدين دينا يعلم الله عز وجل أنه يريد أداءه إلا أداه الله عز وجل عنه أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان
إسناده حسن
ورواه النسائي عن محمد بن قدامة عن جرير عن منصور عن زياد بن عمرو بن هند عن عمران بن حذيفة قال كانت ميمونة رضي الله عنها تدان وتكثر الحديث وفيه إلا أداه الله عنه في الدنيا
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيدة بن حميد عن منصور فذكره ورواه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن أبي خيثمة عن جرير وترجم عليه ذكر قضاء الله عز وجل في الدنيا دين من نوى الأداء فيه إسناد جيد إلا أن زيادا لم يرو عنه غير منصور ووثقه ابن حبان ولم يرو عن عمران غير زياد ولم أجد فيه كلاما
وروى النسائي حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب بن جرير حدثني أبي عن الأعمش عن حصين بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم استدانت فقيل لها يا أم المؤمنين تستدينين وليس عندك وفاء فقالت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل أخرجه النسائي
إسناد صحيح
وعن أبي الغيث عن أبي هريرة مرفوعا من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عز وجل ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله عز وجل أخرجه البخاري وابن ماجه
رواه البخاري
كان شيخنا القاضي شمس الدين بن مسلم رحمه الله يقول اختلف في هذا فقيل هو دعاء وقيل هو خبر انتهى كلامه وأيما كان حصل المقصود لأن هذا الخبر صدق وحق وقال غير واحد منهم ابن عقيل في الإرشاد في مسألة
____________________
(1/103)
تكفير أهل الأهواء ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم غير مردودة وزيادة لفظة في الدنيا تدل على أنه دعاء لكن في صحة هذه الزيادة نظر
قال أحمد في رواية أبي طالب في تعليم القرآن التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله عز وجل بأمانات الناس
وقال عبد الله سألت أبي عن رجل استدان دينا على أن يؤديه فتلف المال من يده وأصابه بعض حوادث الدنيا فصار معدما لا شيء له فهل يرجى له بذلك عند الله عز وجل عذر وخلاص من دينه إن مات على عدمه ولم يقض دينه فقال إن هذا عندي أسهل من الذي اختان وإن مات على عدمه فهذا واجب عليه
فظاهر هذا أنه يعاقب على ذلك أو يحتمل العقاب والترك والله تعالى يعوض المظلوم إن شاء وقد ورد في الخبر أن الله تعالى يعوض عن بعض الناس ويدع بعضا
ونص الإمام أحمد رضي الله عنه والأصحاب رحمهم الله على صحة ضمان دين الميت المفلس ولم يفرقوا بين كون سببه محرما أو لا وبين التائب وغيره لامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عمن عليه ثلاثة دنانير ولم يخلف وفاء حتى ضمنها أبو قتادة أخرجه البخاري
رواه البخاري
وامتنع من الصلاة على من عليه ديناران حتى ضمنهما أبو قتادة أخرجه من حديث أبي قتادة النسائي وأحمد والترمذي وابن ماجه وإسناده صحيح وصححه ابن حبان
رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وروى الدارقطني وغيره أن عليا رضي الله عنه ضمنها فالظاهر أنها وقائع والظاهر من الصحابة رضي الله عنهم قصد الخير ونية الأداء وأنهم عجزوا عن ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة الآن بردت
____________________
(1/104)
عليه جلدته أخرجه من حديث جابر بن عبد الله أحمد والحاكم والبيهقي والطيالسي وسنده حسن
لما وفى عنه
رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو بكر ابن أبي شيبة وجماعة وإسناده حسن ورجاله ثقات وفيهم عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر وحديثه حسن
وعندنا يجتمع القطع والضمان على السارق وذكره في المغني إجماعا مع بقاء العين مع الحد كفارة لإثم ذلك الذنب لقوله صلى الله عليه وسلم ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه من حديث عبادة ومع أن الإمام أحمد والأصحاب رحمهم الله لم يفرقوا بين التائب وغيره ولهذا لما كانت التوبة مؤثرة في إسقاط حد ذلك ذكروها ولما لم تؤثر لم يذكروها
قال ابن عقيل في المجلد التاسع عشر من الفنون في حل الدين بالموت وأنا أقول المطالبة في الآخرة فرع على مطالبة الدنيا وكل حق لم يثبت في الدنيا فلا ثبات له في الآخرة ومن خلف مالا وورثه فكأنه استناب في القضاء والدين كان مؤجلا فالنائب عنه يقضي مؤجلا والذمة عندي باقية ولا أقول الحق متعلق بالأعيان ولهذا تصح البراءة منه ويصح ضمان دين الميت لبقاء حكم الذمة فلا وجه لمطالبة الآخرة فقيل له الذي امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه كان معسرا لأنه سأل هل خلف وفاء فقيل لا وقد أجل الشرع دين المعسر أجلا حكميا بقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ثم أجله حال الحياة لم يوجب بقاءه بعد الموت حتى شهد الشرع بارتهانه فقال ابن عقيل تلك قضية في عين فيحتمل أن يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم علم بأنه كان مماطلا بالدين ثم افتقر بعد المطل بإنفاق المال فحمل الأمر على الأصل الذي عرف منه وقضية الأعيان إذا احتملت وقفت فلا يعدل عن الأصل المستقر لأجلها
والأصل المستقر هو أن كل حق موسع لا يحصل بتأخيره في زمان السعة والمهلة
____________________
(1/105)
نوع مأثم بدليل من مات قبل خروج وقت الصلاة لا يأثم بخلاف من مات بعد خروج الوقت مع التأخير والإمكان من الأداء
وللقاضي في الخلاف هذا المعنى فقال فيمن له تأخير الصلاة فمات قبل الفعل لم يأثم وتسقط بموته قال لأنها لا تدخلها النيابة فلا فائدة في بقائها في الذمة بخلاف الزكاة والحج وعلى أنه لا يمتنع أن لا يأثم والحق في الذمة كدين معسر لا يسقط بموته ولا يأثم بالتأخير لدخول النيابة لجواز الإبراء وقضاء الغير عنه وقيل له لو وجبت الزكاة لطولب بها في الآخرة ولحقه المأثم كما لو أمكنه فقال هذا لا يمنع من ثبوت الحق في الذمة بدليل الدين المؤجل والمعسر بالدين
وقال أيضا في الفنون قال شافعي في مسألة الإقرار لوارث يفضي إلى سد باب الخروج عن الدين ومحال أن يوجب الله تعالى حقا ولا يجعل للمكلف منه مخرجا
قال حنبلي إذا أقر ورد الحاكم الحنبلي أو الحنفي قوله فقد بذل وسعه في قضاء الدين إذا عجز عن قضائه فيما بينه وبين الغريم ومن بلغ جهده فلا تبعة عليه في تعويق الحقوق بدليل المعسر العازم على قضاء دينه متى استطاع إذا مات قبل اليسار فعزمه على القضاء قام العزم في دفع مأثمه مقام القضاء فلا مأثم وكذلك من أشهد على نفسه عبدين فلما أقام الغريم الشهادة بعد موت من عليه الحق ردت شهادتهما ولا يقال بأنه مأثوم في تعويق الحق إذا كان صاحب الحق رضي شهادتهما ومن عليه الحق لم يعلم أن شهادتهما لا تقبل فكل عذر لك في رد الشهادة وكون الحق لا طريق له إلا ذلك هو جوابنا في هذا الإقرار انتهى كلامه
فظاهره ولو فرط في تأخير الإقرار إلى المرض ولعله ليس بمراد كمعسر قدر على الوفاء في وقت وطولب لأنه لا يلزمه الوفاء قبل الطلب في أظهر الوجهين فأخر حتى افتقر ثم ندم وتاب
وقال أبو يعلى الصغير في مسألة حل الدين بالموت معنى قول ابن عقيل وقال أبو بكر الآجري بعد أن ذكر الخبر إن الشهادة تكفر غير الدين قال هذا إنما هو
____________________
(1/106)
فيمن تهاون بقضاء دينه وأما من استدان دينا وأنفقه في غير سرف ولا تبذير ثم لم يمكنه قضاؤه فإن الله تعالى يقضيه عنه مات أو قتل انتهى كلامه فإن حمل كلام ابن عقيل على ظاهره وحمله عليه غير مراد والله أعلم بحمله قصة الذي ضمن على المطل لا على القدرة على الوفاء صار فيمن تهاون بقضاء الدين أو بالإقرار منه ولم يطلب ذلك منه وجهان
وقال الشيخ مجد الدين في شرح الهداية في مسألة صرف الزكاة في الحج الغارم الذي لم يقدر في وقت من الأوقات على قضاء دينه غير مطالب به في الدنيا ولا في الآخرة فاعتبر القدرة لا المطالبة فهو موافق لكلام الآجري والله أعلم وقال حفيدة تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة فيغفر الله عز وجل له بالتوبة الحق الذي له وأما حقوق المظلومين فإن الله عز وجل يوفيهم إياها إما من حسنات الظالم أو من عنده
وقال القرطبي في تفسيره حكاية عن العلماء فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه عينا كان أو غيره إن كان قادرا عليه فإن لم يكن قادرا عليه فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه وهذا يدل على الاكتفاء بهذا وأنه لا عقاب عليه للعذر والعجز وقد أفتى بهذا بعض الفقهاء في هذا العصر من الحنفية والمالكية والشافعية وأصحابنا وشرط المالكي في جوابه أن يكون استدان لمصلحة لا سفها
وحكي أن بعض العلماء المتقدمين قال إن ما معناه إن الله تعالى لم يعاقبه في الدنيا بل أمر بإنظاره إلى الميسرة فكذلك في الدار الآخرة وينبغي أن يحمل كلام ابن عقيل المتقدم إن كان المال مرادا منه على العاجز فيكون مثل هذا القول مع أن من نظر فيه لا يتوجه حمله على المال ولا يظهر أن مراده ذلك ليتفق ما ذكرنا من كلامه وليتفق كلامه وكلام غيره
أما حمله على ظاهره وهو ما فهمه صاحب الرعاية ففيه نظر وبعد ظاهر ولهذا ذكر ابن عقيل في كتاب الانتصار أن من شرط صحة التوبة إخراج المظلمة
____________________
(1/107)
من يده وقال بعد هذا ومظالم العباد تصح التوبة منها ومن مات نادما عليها كان الله تعالى هو المجازي للمظلوم عنه كما ورد في الخبر لا يدخل النار تائب من ذنوبه وكذا قال ابن عقيل في الإرشاد ومن شرط صحتها رد المظلمة إلى مالكها إن كان باقيا أو التصدق بها إن كان معدوما وليس له ورثة
وتلخيص ما سبق أن من أخذ مالا بغير سبب محرم يقصد الأداء وعجز إلى أن مات فإنه يطالب به في الآخرة عند أحمد وفي كونه صريحا أو ظاهرا نظر ولم أجد من صرح بمثل ذلك من الأصحاب وسبق كلام القاضي والآجري وابن عقيل وأبي يعلى الصغير وصاحب المحرر لا يطالب وليس إنفاقه في إسراف وتبذير سببا في المطالبة به خلافا للآجري مع أنه مطالب بإنفاقه في وجه غير منهي عنه
وأما من أخذه بسبب محرم وعجز عن الوفاء وندم وتاب فهذا يطالب به في الآخرة ولم أجد من ذكر خلاف هذا من الأصحاب إلا ما فهمه صاحب الرعاية مع أنه فهم مع القدرة أيضا وهذا غريب بعيد لم أجد به قائلا وإن احتج أحد لذلك بأن التوبة تجب ما قبلها فلا نسلم أن القادر على أداء الحق تاب إذا لم يؤده ولأن من المعلوم المستقر في الشريعة أنه لو ادعى عليه أنه غصب منه كذا فأقر به ألزم بأدائه وأنه لو أجاب تبت من ذلك فلا يلزمني أنه لا يقبل منه بلا شك وأنه لو قبل ذلك منه لتعطلت الأحكام وبطلت الحقوق ولأن غايته أنه لا ذنب له ومن أخذه بسبب مباح لا يمنع من طلبه به وإلزامه به إجماعا فهذا أولى لظلمه وإذا كانت توبة القاتل لا تمنع القود إجماعا على ما ذكره الشيخ تقي الدين فالمال أولى
وإن احتج به في حق العاجز المفرط في الأداء فالمراد به غير المال بدليل ما سبق وما يأتي ولكن يدل للقول فيمن أخذ مالا بغير سبب محرم ما سبق من خبر ميمونة وخبر أبي هريرة وهما خاصان أخص مما يدل على خلافهما فيجب تقديمهما وإن خالفهما ظاهر حمل على غير مدلولهما كذلك لأن فيه توفيقا وجمعا
وما روى الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند قال حدثنا يزيد أنبأنا صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين عن عبد
____________________
(1/108)
الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ليدعو بصاحب الدين يوم القيامة فيقيمه بين يديه فيقول أي عبدي فيم أذهبت مال الناس فيقول أي رب قد علمت أني لم أفسده إنما ذهب في غرق أو حرق أو سرقة أو وضيعة فيدعو الله عز وجل بشيء فيضعه في ميزانه فترجح حسناته أخرجه أحمد وإسناد ضعيف لضعف صدقة بن موسى
حدثنا عبد الصمد حدثنا صدقة حدثنا أبو عمران حدثني قيس بن زيد عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يدعو الله عز وجل بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقال يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس فيقول يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم ألبس ولكن أتى علي هكذا إما حرق وإما سرق وإما وضيعة فيقول الله عز وجل صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم فيدعو الله عز وجل بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخله الجنة بفضل رحمته ضعيف كسابقه وهو في المسند
ولو عوقب وعذب من هذه حاله لكلف بالمحال لعدم تفريطه وتعديه وقد قال الله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولأنه غير آثم لما تقدم وكل من كان غير آثم كان غير معذب بالإجماع
ولم يصح في الضمان غير قصة أبي قتادة ولا يلزم منها تعدد الشخص وهي قضية في عين محتملة وسبق في القصة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة الآن بردت عليه جلدته
ووجه الأول وهو أنه قد يعاقب وقد يعوض الله عز وجل المظلوم ما تقدم من الخبر وحديث الدواوين ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو مظالم العباد أخرجه أحمد وسنده ضعيف
رواه أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها
وحديث من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم
____________________
(1/109)
قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه وهذا العاجز عنده مظلمة ولم يحلله صاحب الحق
وحديث الشهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدين أخرجه مسلم والترمذي
وما ورد في شهيد البحر أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف
من زيادة والدين فضعيف
وحديث غفران ذنب الحاج بعرفة إلا التبعات قال الهيثمي في المجمع رواه الطبراني في الكبير وفيه راو لم يسم وبقية رجاله رجال الصحيح
رواه الطبراني من حديث عبادة وما ورد من غفران التبعات وتعويض أصحابها أخرجه أبو يعلى وأخرجه ابن ماجه
فضعيف
وحديث نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان
وقال أبو داود في باب التشديد في الدين حدثنا سليمان بن داود المهري أنبأنا ابن وهب حدثني سعيد بن أبي أيوب أنه سمع أبا عبد الله القرشي سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أعظم الذنوب عند الله عز وجل أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عز وجل عنها أن يموت رجل عليه دين لا يدع له قضاء أخرجه أبو داود وأحمد
كذا في نسخه إن أعظم وفي نسخة إن من
____________________
(1/110)
أعظم أبو عبد الله القرشي تفرد عنه سعيد فلهذا قال بعضهم لا يعرف لكن سعيد من الثقات الذين روى لهم الجماعة والله أعلم
وقد يقال والأخبار السابقة عامة وإخراج هذا الفرد منها يفتقر إلى دليل والأصل عدمه وهذا ضعيف ولأنه دين ثابت في الذمة لأن الموت لا يسقطه بدليل صحة ضمانه ولو تبرع إنسان بقضائه جاز لرب الدين قبضه ولأن من ضمن مفلسا حيا لا يبرأ بموته ولو برئ المضمون برئ الضامن وما ثبت فالأصل دوامه واستمراره ولم يزل إلا بمزيل وزواله من غير بدل ولا تعويض إجحاف بصاحب الحق وإضرار به فوجب اطراحه وهذا ضعيف أيضا وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر ضعيف لأن ابن معين وأبا داود والنسائي وغيرهم ضعفوا صدقة بن موسى وهو الدقيقي وقيس بن زيد لم أجد من يروي عنه غير أبي عمران الجوني وقال أبو الفتح الأزدي ليس بالقوي وقاضي المصرين وهما البصرة والكوفة هو شريح القاضي الإمام المشهور وإن صح هذا الخبر فإنما هو في حق من أصيب في ماله فقابل ثواب المصيبة حق صاحب المال فلهذا خلص من تبعته في الآخرة بخلاف مسألتنا { ولا يظلم ربك أحدا } من أن الخبر لا يلزم منه سقوط المطالبة عن كل مدين ولله سبحانه أن يتفضل بما شاء على من يشاء من عباده ولأنه في الدار الآخرة موسر مكلف فكلف بالخلاص من الحق كما لو أيسر في الدنيا ويساره إما بحسناته وإما بأن يحمل من سيئات صاحبه عليه كما دل عليه الخبر الصحيح وبهذا يعرف ضعف القول بأنه من تكليف المحال وهو أيضا لزمه بفعله واختياره ودعوى أنه غير آثم إن أريد بوجه ما فممنوع وإن أريد به من بعض الجهات فمسلم ولكن لا ينتج الدليل وبسط القول في ذلك يطول وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى
فأما إن أنفقه أو أتلفه مسلم غير مكلف ومات معسرا غير مكلف لم يمكن القول بأن صاحبه لا يجازى عليه ولا أنه يتبع به غير المكلف لأنه يفضي إلى تكليفه ودخوله النار بتحميله من سيئات صاحب المال
____________________
(1/111)
وقد نقل الإمام أحمد وغيره إجماع العلماء على أن من مات مسلما صغيرا من أهل الجنة فتعين أنه بمنزلة حرقه وغرقه ونحو ذلك من المصائب والله سبحانه وتعالى أعلم فصل في براءة من رد ما غصبه على ورثة المغصوب منه وبقاء إثم الغصب
قال حرب سئل أحمد رضي الله عنه عن رجل غصب رجلا شيئا فمات المغصوب منه وله ورثة وندم الغاصب فرد ذلك الشيء على ورثته فذهب إلى أنه قد برئ من إثم ذلك الشيء ولم يبرأ من إثم الغصب الذي غصب وقال في رواية أحمد بن أبي عبيدة أما إثم الغصب فلا يخرج منه وقد خرج مما كان أخذ
وقال الشيخ تقي الدين لا يسقط حق المظلوم الذي أخذ ماله وأعيد إلى ورثته بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته فصل
قال بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله وسئل عن رجل كان له على قوم مال أو أودعهم مالا ثم مات فجحد الذين في أيديهم الأموال لمن ثواب ذلك المال قال إن كان أحد ممن عليه أو في يده الوديعة كان قد نوى في حياة الميت أن لا يؤديها إليه فأجرها للميت وإن كان هؤلاء جحدوا الورثة فأجرها للورثة فيما نرى فصل في وجوب اتقاء الصغائر ومحقرات الذنوب
كان أحمد رضي الله عنه يمشي في الوحل ويتوقى فغاصت رجله فخاض وقال لأصحابه هكذا العبد لا يزال يتوقى الذنوب فإذا واقعها خاضها ذكره ابن عقيل
____________________
(1/112)
وغيره
وروى أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله عز وجل طالبا أخرجه أحمد وابن ماجه وسنده حسن
وعن ابن مسعود مرفوعا إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه أخرجه أحمد والطبراني وسنده حسن وهو صحيح
مختصر لأحمد
وقال أنس إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات رواه أحمد والبخاري أخرجه البخاري
ولهما ولمسلم وغيرهم عن ابن مسعود موقوفا إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي بيده فذبه عنه أخرجه البخاري فصل في التصدق بالمظالم
قال الخلال باب إذا تصدق بالمظالم فلا يحابين فيه أحدا قال حرب سئل أحمد عن رجل كانت عنده مظالم لقوم فماتوا وأراد أن يتصدق بها عنهم وله إخوان محاويج وقد كان يصلهم قبل هذا أيجوز له أن يدفعها إليهم فكأنه استحب أن يعطي غيرهم قال لا يحابي فيها أحدا
وقال في رواية المروذي في هذه المسألة أرى كأنه إنما فعله على طريق المحاباة أن يحابيهم فلا يجوز وإن كان لم يحابهم فقد تصدق كأنه عنده قد أجاز ما فعل
____________________
(1/113)
فصل فيمن كان عنده مال حلال وشبهة
فإن كان في يده مال حلال وشبهة فليخص نفسه بالحلال وليقدم قوته وكسوته على أجرة الحجام والزيت وإسجار التنور وأصل هذا قوله صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام اعلفه ناضحك أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح
ذكره ابن الجوزي وكذا قال الشيخ تقي الدين الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد كحديث كسب الحجام والأقرب ما دخل في الباطن من الطعام والشراب ونحوه ثم ما ولي الظاهر من اللباس ثم ما ستر مع الانفصال من البناء ثم ما عرض من المركوب ونحوه فصل في حقيقة التوبة وشروطها
والتوبة هي الندم على ما مضى من المعاصي والذنوب والعزم على تركها دائما لله عز وجل لا لأجل نفع الدنيا أو أذى وأن لا تكون عن إكراه أو إلجاء بل اختيارا حال التكليف وقيل يشترط مع ذلك اللهم إني تائب إليك من كذا وكذا وأستغفر الله وهو ظاهر ما في المستوعب فظاهر هذا اعتبار التوبة بالتلفظ والاستغفار ولعل المراد اعتبار أحدهما ولم أجد من صرح باعتبارهما ولا أعلم له وجها
وقد روى الترمذي وقال حسن غريب عن أنس مرفوعا قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة أخرجه الترمذي وهو حديث حسن
فقوله ثم استغفرتني غفرت لك علق الغفران على الاستغفار دل على
____________________
(1/114)
اعتباره والمراد أنه استغفر من ذنوبه توبة وإلا فالاستغفار بلا توبة لا يوجب الغفران قال ذو النون المصري وهو توبة الكذابين
وهكذا قال في شرح مسلم باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة يريد ما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله عز وجل فيغفر لهم أخرجه مسلم
لكن الاستغفار بلا توبة فيه أجر كغيره من ذكر الله عز وجل والله أعلم وقد قال الله تعالى { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما }
والأولى وهو أنه لا يشترط ذلك هو الذي ذكره في الشرح وقدمه في الرعاية وذكره ابن عقيل في الإرشاد وزاد وأن يكون إذا ذكرها انزعج قلبه وتغيرت صفته ولم يرتح لذكرها ولا ينمق في المجالس صفتها فمن فعل ذلك لم تكن توبة ألا ترى أن المعتذر إلى المظلوم من ظلمه متى كان ضاحكا مستبشرا مطمئنا عند ذكره الظلم استدل به على عدم الندم وقلة الفكرة بالجرم السابق وعدم الاكتراث بخدمة المعتذر إليه ويجعل كالمستهزئ تكرر ذلك منه أم لا كذا قال
وعلى تقدير أن يمكن المنازعة في هذا المعنى إنما يدل على اعتبار ذلك وقت الندم والغرض الندم المعتبر وقد وجد فما الدليل على اعتبار تكرره كلما ذكر الذنب وإن عدم ذلك يدل على عدم الندم والأصل عدم اعتباره وعدم الدليل عليه مع أن ظاهر قوله عليه السلام الندم توبة حديث صحيح وأخرجه أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان
أنه لا يعتبر وهذه الزيادة وهي تجديد الندم إذا ذكره قول أبي بكر بن الباقلاني والأول قول إمام الحرمين وغيره مع أن قول الشافعية وغيرهم أن توبته السابقة لا تبطل بمعاودة الذنب خلافا
____________________
(1/115)
للمعتزلة في بطلانها بالمعاودة
وقال ابن عقيل والدلالة على أن الندم توبة مع شرط العزم أن لا يعود ورد المظلمة من يده خلافا للمعتزلة في قولهم الندم مع هذه الشرائط هو التوبة وليس فيها شرط بل هي بمجموعها توبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الندم توبة وليس لهم أن يقولوا أجمعنا على احتياجها إلى العزم لأن ذلك شرط ولا يوجب أن يكون هو التوبة كما أن الصلاة من شرطها الطهارة ولا تصح إلا بها وليست هي الصلاة ولأن التوبة هي الندم والإقلاع عن الذنب فمن ادعى الزيادة على ما اقتضته اللغة يحتاج إلى دليل انتهى كلامه وكلام الأصحاب السابق يدل على أن العزم ركن والأمر في هذا قريب فإنه معتبر عندهم وإن كف حياء من الناس لم تصح ولا يكتب له حسنة وخالف بعضهم
وهي التوبة النصوح كما قال الحسن البصري ندم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود
وقال البغوي في تفسيره قال عمر وأبي ومعاذ رضي الله عنهم التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع كذا قال والكلام في صحته عنهم ثم لعل المراد التوبة الكاملة بالنسبة إلى غيرها
وقال الكلبي هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن
فظاهره أنه لا يعتبر إضمار أن لا يعود ولم أجد من صرح بعدم اعتباره ولم يذكر ابن الجوزي عن عمر إلا أن التوبة النصوح أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدث نفسه أن لا يعود وقرأ أبو بكر عن عاصم { نصوحا } بضم النون وهو مصدر مثل القعود يقال نصحت له نصحا ونصاحة ونصوحا وقيل أراد توبة نصح لأنفسكم وقرأ الباقون بفتحها قيل هو مصدر وقيل هو اسم فاعل أي ناصحة على المجاز
____________________
(1/116)
وروى أحمد عن ابن مسعود مرفوعا التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه أخرجه أحمد وضعف الهيثمي إسناده
ولعل المراد إن صح الخبر ثم ينوي أن لا يعود فيه
وقال في الشرح في قبول شهادة القاذف قال النبي صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الندم توبة قيل التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم بالقلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود ومجانبة خلطاء السوء قد تقدم في آخر فصل ولا تصح التوبة من ذنب مع الإقامة على مثله من كلامه في الرعاية وذكر في الرعاية في مكان آخر أو غيرها فيه روايتين ولعل من اعتبره يقول مع عدم المجانبة يختل العزم أو يقول المخالطة ذريعة ووسيلة إلى مواقعة المحظور والذرائع معتبرة ولأن المسألة تشبه التفرق في قضاء الحج الفاسد ولهذا جعلها ابن عقيل أصلا لعدم الوجوب في قضاء الحج الفاسد والله أعلم
أما الحديث الأول فرواه ابن ماجه حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهيب بن خالد حدثنا معمر عن عبد الكريم عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له كلهم ثقات وعبد الكريم هو الجزري بلا شك وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه
وأما الحديث الثاني فرواه الإمام أحمد حدثنا سفيان عن عبد الكريم أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال دخلت مع أبي علي عبد الله بن مسعود قال أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الندم توبة قال نعم وقال مرة نعم سمعته يقول الندم توبة ورواه ابن ماجه حدثنا هشام بن عمار حدثنا سفيان عن عبد الكريم الجزري فذكره بمعناه كلهم ثقات وزياد وثقة أحمد بن عبد الله العجلي ولم يرو عنه غير عبد الكريم بن مالك الجزري والصحيح أنه غير
____________________
(1/117)
زياد بن الجراح
ورواه ابن حبان في صحيحه أنبأنا أبو عروبة حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن أسباط عن مالك ابن مغول عن منصور بن خيثمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الندم توبة
أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا محفوظ بن أبي توبة حدثنا عثمان بن صالح السهمي حدثنا ابن وهيب عن يحيى بن أيوب سمعت حميد الطويل يقول قلت لأنس بن مالك أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الندم توبة قال نعم محفوظ ضعفه أحمد ولعل حديثه حسن
ولأحمد من حديث ابن عباس كفارة الذنب الندامة أخرجه ابن حبان والحاكم وإسناده ضعيف
وله من حديث علي إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد وإسناده ضعيف
وعن عثمان بن واقد عن أبي نصيرة عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر الصديق مرفوعا ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ضعيف أخرجه أبو داود والترمذي وفي إسناده من لا يعرف
رواه أبو داود والترمذي وفي لفظ ولو فعله في اليوم سبعين مرة وقال حديث غريب وليس إسناده بالقوي كذا قال الترمذي وهو حديث حسن ومولى أبي بكر لم يسم والمتقدمون حالهم حسن
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال إذا أذنب عبدي فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت
____________________
(1/118)
فقد غفرت لك أخرجه البخاري ومسلم
وفي رواية قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء لم يقل البخاري اعمل ما شئت ولا فليعمل ما شاء ومعناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك
قال في نهاية المبتدئين قال أبو الحسين التوبة ندم العبد على ما كان منه والعزم على ترك مثله كلما ذكره وتكرار فعل التوبة كلما خطرت معصيته بباله ومن لم يفعل ذلك عاد مصرا ناقضا للتوبة وهذا معنى كلام ابن عقيل السابق لكن أبو الحسين يقول يكون ناقضا للتوبة وعند ابن عقيل يدل على عدم الندم فلم توجد عنده توبة شرعية وبطلانها بالمعاودة أقرب من هذا لخبر ابن مسعود وقول الصحابة والأظهر مذهبا ودليلا أنها لا تبطل بذلك لما سبق
وقال ابن عقيل في الفصول إن المظاهر إذا عزم على الوطء راجع عن تحريمها بعزمه قال وهذا يدل على أن العزم على معاودة الذنب مع التصميم على التوبة نقض للتوبة فجعله ناقضا للتوبة بالعزم لا بغيره وهذا أظهر من كلامه السابق وكلام أبي الحسين ثم إن أراد أنه يؤاخذ بالذنب السابق الذي تاب منه كما هو ظاهر كلامه فضعيف وإن أراد انتقاض التوبة وقت العزم بالنسبة إلى المستقبل وأنه يؤاخذ بالعزم بالنسبة إلى المستقبل فهذا ينبني على المؤاخذة بأعمال القلوب ويأتي الكلام فيها في الفصل الذي بعده أو الذي يليه ولهذا قال ابن عقيل بعد كلامه المذكور في المظاهر قال فإن وطئ كان من طريق الأولى عائدا لأن فعل الشيء آكد من العزم عليه ولذلك اختلف الناس في العزم هل يؤاخذ به العازم ولم يختلفوا في أن الأفعال يؤاخذ بها وهذا من ابن عقيل يدل على أن الإبطال عنده بالمعاودة كقول المعتزلة من طريق الأولى والله أعلم وكذا قال في نهاية المبتدئين لا تصح توبة من نقض توبته ثم عزم على مثل ما تاب منه أو فعله والأجود في العبارة نقضها بعزمه على ذلك أو فعله وقال في الرعاية الكبرى تصح توبة من نقض توبته على الأقيس
____________________
(1/119)
ويعتبر للتوبة أن يخرج من حق الآدمي فيرد المغصوب أو بدله وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه وقد سبق الكلام في ذلك
ويمكن من نفسه من قود عليه وكذا من حد القذف والمراد إن قلنا لا يسقط بالتوبة كما هو المشهور ويؤدي حق الله عز وجل حسب إمكانه ولا يشترط الإقرار بما يوجب الحد
والأولى له ستر نفسه إن لم يشتهر عنه وكذا إن اشتهر عند الشيخ وعند القاضي الأولى الإقرار به ليقام عليه الحد
ولا يعتبر في صحة التوبة من الشرك إصلاح العمل وكذا غيره من المعاصي في حصول المغفرة وكذا في أحكام التوبة في قبول الشهادة وغير ذلك وعنه يعتبر سنة قال بعضهم إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنى ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة وقيل إن فسق بفعله وإلا فلا يعتبر ذلك وقيل يعتبر مضي مدة يعلم منها حاله بذلك
وعلى المذهب الأول يكون المراد بقوله في سورة النور { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } أي في التوبة فيكون الإصلاح من التوبة والعطف لاختلاف اللفظين ذكره في المغني وذكر ابن الجوزي قول ابن عباس أظهروا التوبة وقال غيره لم يعودوا إلى قذف المحصنات وقال الإصلاح من التوبة في آية البقرة { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم }
وفي سورة الفرقان { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } جمعا بينه وبين المغفرة بالاستغفار والندم وقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يهدم ما كان قبله
وقد قال ابن حامد في كتاب الأصول إنه يجيء على مقالة بعض أصحابنا من
____________________
(1/120)
شرط صحتها وجود أعمال صالحة لظاهر الآية { إلا من تاب } وقوله صلى الله عليه وسلم من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما كان في الجاهلية ومن أساء أخذ بالأول والآخر أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن حبان )
كذا قال وهو غريب
ومن صحت توبته فهل تغفر خطيئته فقط أم تغفر ويعطى بدلها حسنة ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة الأول وهو حصول المغفرة خاصة وهذا ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم وفي مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله عز وجل لهم ويضعها على اليهود والنصارى أخرجه مسلم
ومعناه يضعهما عليهم بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بذلك لقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى }
وقوله ويضعها أي يضع عليهم مثلها بذنوبهم وقد قيل يحتمل أنه وضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى قال سمعته يقول إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ويقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما المنافق والكافر فيقول الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } متفق عليه أخرجه البخاري وأحمد وابن حبان
قيل كنفه هو ستره وعفوه
وأما قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر }
____________________
(1/121)
الآية فقيل سبب نزولها ما في الصحيحين عن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر }
الآية
وقيل إن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ولو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزلت هذه الآية إلى قوله { غفورا رحيما }
رواه مسلم
من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس فأما قوله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }
قال ابن الجوزي اختلفوا في هذا التبديل وفي زمان كونه فقال ابن عباس يبدل الله شركهم إيمانا وقتلهم إمساكا وزناهم إحصانا قال وهذا يدل على أنه يكون في الدنيا وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد
والثاني أن هذا يكون في الآخرة قاله سلمان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وقال عمرو بن ميمون بن مهران يبدل الله عز وجل سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات حتى إن العبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي وعن الحسن كالقولين وروي عن الحسن قال ود قوم يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا يعني الذنوب فقيل من هم قال هم الذين قال الله فيهم { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }
قال ابن الجوزي ويؤكد هذا القول حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فيعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر
____________________
(1/122)
وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا أخرجه مسلم والترمذي وابن حبان
فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه
فهذا الحديث في رجل خاص وليس فيه ذكر للتوبة فيجوز أنه حصل له هذا بفضل رحمة الله عز وجل لا بسبب منه بتوبته ولا غيرها كما ينشئ الله عز وجل للجنة خلقا بفضل رحمته فلا حجة فيه لهذا القول في هذه المسألة
وأما الآية فهي محتملة للقولين والأول توافقه ظواهر عموم الأدلة ولا ظهور فيها للقول الثاني فكيف يقال تبديل خاص بلا دليل خاص مع مخالفته للظواهر ولا يقال كلاهما تبديل فمن قال بالثاني فقد قال بظاهر الآية لأن التبديل لا عموم فيه فإذا قيل بتبديل متفق عليه توافقه ظواهر الكتاب والسنة كان أولى
وعلى أن القول الثاني يجوز أن يكون لمن شاء الله بفضل رحمته أو لمن عمل صالحا فالقول بالعموم لكل تائب يفتقر إلى دليل وفي الآية وظواهر الأدلة ما يخالفه والله تعالى أعلم
والنواجذ هنا الأنياب عند الجمهور وقيل الضواحك والضاحكة السن بين الأنياب والأضراس وهي أربع ضواحك وقيل الأضراس كما هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان بعد الأضراس ويقال ضرس الحلم بضم اللام وسكونها لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل فصل حكم توبة الكافر من المعاصي دون الكفر والعكس
ولا تصح توبة كافر من معصية قال ابن عباس في رواية الوالبي في قوله تعالى { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } لا يقبل الله عز وجل مع الشرك عملا وقيل تصح من غير الكافر بالقول والنية ومنه بالإسلام ويغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها
____________________
(1/123)
في الإسلام فيه قولان معروفان
قال الشيخ تقي الدين أحدهما يغفر له الجميع لقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }
أي ينتهوا عن كفرهم ولأنه اندرج في ضمن المحرم الأكبر فسقط بسقوطه وفيه نظر لأنه كيف يندرج ويسقط مع إصراره عليه وعدم توبته منه وهذا ظاهر كلام أكثر الأصحاب رحمهم الله ولم أجده صريحا في كلامهم وقد سبق كلام ابن حامد في الفصل قبله وهو يدل على الغفران لأنه لم يذكر الخبر إلا حجة لمن اعتبر لصحة التوبة أعمالا صالحة وأنه يجيء على مقالة بعض أصحابنا فيدل على أن الأشهر خلافه
والثاني لا نقله البغوي عن أحمد رواه الخلال وهو ظاهر ما اختاره ابن عقيل قال الشيخ تقي الدين وهذا القول تدل عليه النقول والنصوص
وقال في موضع آخر إنه إن تاب من جميع معاصيه غفر له وإن أصر عليها لم يغفر له وإن كان ذاهلا عن الإصرار والإقلاع إما ناسيا أو ذاكرا غير مريد للفعل ولا للترك غفر له أيضا والحديثان يأتلفان على هذا يعني حديث عمرو بن العاص وقول النبي صلى الله عليه وسلم له يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله أخرجه مسلم في الإيمان
رواه مسلم وغيره
وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين أن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعملة في الجاهلية والإسلام
قال الشيخ تقي الدين فالإسلام لتضمنه التوبة المطلقة يوجب المغفرة المطلقة إلا أن يقترن بها ما ينافي هذا الاقتضاء وهو الإصرار كما أنه يوجب الإيمان المطلق ما لم يناقضه كفر متصل فالإصرار في الذنوب كالاعتقاد في التصديق انتهى كلامه
____________________
(1/124)
ولقائل أن يقول هذه دعوى تفتقر إلى دليل والأصل عدمه بل الإسلام إنما يتضمن التوبة من نقيضه وهو الشرك والكفر لا توبة مطلقة حتى يوجب مغفرة مطلقة ولو تضمن توبة مطلقة فإنما يوجب مغفرة مطلقة إذا لم يخطر بباله المحرم أما إذا ذكره ولم يتب منه بل توقف فيه فلم يندم عليه ولم يقلع عنه فكيف يسقط يؤيد هذا أنه قال كما أنه يوجب الإيمان المطلق وهذا يكفي إذا لم يخطر بباله بعض أنواع الكفر فلو ذكره وتوقف فيه ولم يتب منه كان ذلك مانعا من عمل المقتضى عمله والمقصود وكون التوقف في الأمر الخاص مانعا من عمل المقتضى عمله فلا أثر للفرق بأن المانع هنا رفع عمل المقتضى بالكلية وهناك لم يرفعه مطلقا فليس هو نظيره لأن المقصود تأثير التوقف في الأمر الخاص وهذا حاصل وهذا متوجه إن شاء الله تعالى
وقد ظهر أن الأولى أن يقال فالإسلام لتضمنه التوبة المطلقة يوجب المغفرة إلا أن يقترن بها ما ينافي هذا الاقتضاء وهو توقفه في بعض المحرمات عند ذكرها فلم يندم ولم يقلع كما أن الإسلام يوجب الإيمان المطلق ما لم يناقضه توقف في بعض المكفرات عند ذكره فلم يندم ولم يقلع ويكون هذا دليلا للقول الثاني وموافقا لقول الشيخ تقي الدين إنه الذي تدل عليه الأصول هذا إن ثبت أن الإسلام يتضمن توبة مطلقة والله سبحانه وتعالى أعلم
ولمن قال بالغفران أن يحمل خبر ابن مسعود على النفاق فيسلم ظاهرا لا باطنا وإذا أسلم الكافر وكان قد فعل خيرا وإحسانا فهل يكتب له في إسلامه ما عمله في كفره يتوجه أن يقال إن قلنا يخفف عن الكافر من عذاب الآخرة بما عمله في كفره أو ثبت خبر أبي سعيد الآتي كتب له ذلك في إسلامه وإلا احتمل وجهين
وحكى بعض العلماء قولين في الكلام على حديث حكيم وهو ما في الصحيحين عن حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور كان يتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء فقال له أسلمت على ما أسلفت من خير أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
____________________
(1/125)
وإن لم يكتب له فالمعنى أنه سبب في حصول الخير وإسلامه
وعن أبي سعيد مرفوعا وإذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله عز وجل له كل حسنة كان أزلفها ومحا عنه كل سيئة كان أزلفها وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عز وجل أخرجه النسائي وإسناده صحيح
ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك ورواه عنه من تسع طرق وثبت فيها كلها أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك وذكره البخاري ولم يصل سنده وليس عنده كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ووصله النسائي وغيره
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وقد فسر حسن الإسلام هنا بالإسلام ظاهرا وباطنا بأن لا يكون منافقا ولعل هذا يؤيد من قال بمثله حديث ابن مسعود وقد يقول من قال بحسن الإسلام في حديث ابن مسعود إن التوبة من المحرمات في الكفر أن يقول حسن الإسلام هنا أخص وأنه يعتبر لمضاعفة الحسنات ويقول هذا أخص من الظواهر في المضاعفة لكل مسلم فهو أولى لكن لا أعرفه قيل والله أعلم قال الشيخ تقي الدين ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس قال وإذا أظهر التوبة أظهر له الخير فصل في ميل الطبع إلى المعصية والنية والعزم والإرادة لها وما يعفى عنه من ذلك
قال في الرعاية وميل الطبع إلى المعصية بدون قصدها ليس إثما فظاهر هذا أنه لو قصد المعصية أثم وإن لم يصدر منه فعل ولا قول
____________________
(1/126)
وقال الشيخ تقي الدين حديث النفس يتجاوز الله عنه إلا أن يتكلم فهو إذا صار نية وعزما وقصدا ولم يتكلم فهو معفو عنه وقال في موضع آخر الإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور فإذا كان في القلب حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ثابتا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم }
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء }
فهذا الالتزام أمر ضروري ومن جهة ظن انتفاء اللازم غلط غالطون كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل حتى تنازعوا هل يعاقب على الإرادة بلا عمل قال وقد بسطنا ذلك وبينا أن الهمة التي لم يقرن بها فعل ما يقدر عليه الهام ليست إرادة جازمة وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يعملها لا عمن أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن قيام مراده كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما فإن هذا يعاقب لأنه أراد وفعل المقدور من المراد هذا كلامه
وفي عيون المسائل لابن شهاب العكبري العود الموجب للكفارة في الظهار هو العزم على الوطء فإن قيل العزم هو حديث النفس وذلك معفو عنه بقوله عليه السلام إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن حبان
قيل لا يوجب الكفارة بحديث النفس بانفراده وإنما يوجبها بالظهار بشرط العزم على الوطء انتهى كلامه
وقال القاضي أبو يعلى الخلاف في الصبي الشهيد نية المعصية واعتقادها معفو عنه ما لم يفعلها وجزم جماعة فيما إذا فكر الصائم فأنزل أنه يأثم على النية ويثاب عليها ولذلك مدح الله عز وجل الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض
____________________
(1/127)
وجاء النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله عز وجل أخرجه اللالكائي وهو متروك
والأمر بالتفكر في آلائه ولو لم يكن مقدورا عليها لم يتعلق بها ذلك وأما هل يفطر بذلك إذ أنزل قال بعض أصحابنا لو أمذى الأشهر أنه لا يفطر وهو المروي عن أحمد رحمه الله تعالى وقول الجمهور منهم أبو حنيفة والشافعي عملا بالأصل ولا نص فيه ولا إجماع وهو دون المباشرة وتكرار النظر على ما لا يخفى فيمتنع القياس عليهما زاد صاحب المغني والمحرر ويخالف ذلك في التحريم إن تعلق بأجنبية زاد صاحب المغني أو الكراهة إن كان في زوجة كذا قالا ولا أظن من قال يفطر بذلك كأبي حفص البرمكي وابن عقيل وهو مذهب مالك يسلم ذلك
وقد ذكر ابن عقيل وجزم به في الرعاية الكبرى أظنه في أول كتاب النكاح أنه لو استحضر عند جماع زوجته صورة أجنبية محرمة أنه يأثم ويتوجه أن يكون مراد صاحب المغني والمحرر نية محرمة تعلقت بأجنبية عارية عن فعل مع أن فيه نظرا وأما في المغني فاحتج أولا على عدم الفطر بقوله عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به فظاهره أنه لا يأثم لكن حمله على أنه أراد بالخبر العفو في عدم الفطر أولى لما فيه من الموافقة والصواب وقد لا يشكل عليه قوله يخالفه في التحريم إن تعلق بأجنبية لأن صاحب المحرر قد وافقه في هذا مع أنه لم يحتج بهذا الخبر ولا منع التأثيم والله سبحانه أعلم
وأما الفكرة الغالبة فلا إثم بها ولا فطر قال ابن الجوزي في تفسيره في قوله تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }
فإن قيل هل يؤاخذ الإنسان إذا أراد الظلم بمكة ولم يفعله فالجواب من وجهين
____________________
(1/128)
أحدهما أنه إذا هم بذلك في الحرم خاصة عوقب هذا مذهب ابن مسعود فإنه قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل مؤمن عند البيت وهو بعدن أبين أذاقه الله عز وجل في الدنيا من عذاب أليم
وقال الضحاك إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى فتكتب عليه وإن لم يعملها وقال مجاهد تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات
وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه هل تكتب السيئة أكثر من واحدة فقال لا إلا بمكة لتعظيم البلد وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها
والثاني أن معنى ومن يرد من يعمل وقال أبو سليمان الدمشقي هذا قول سائر من حفظنا عنه انتهى كلام ابن الجوزي
وقد ذكر أصحابنا أنه إذا نوى الخيانة في الوديعة لا يضمن لقوله صلى الله عليه وسلم عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان أخرجه ابن حبان والبيهقي وهو حديث صحيح
ولأنه لم يخن فيها بقول ولا فعل كما لو لم ينو والمراد كما لو لم ينو في عدم الضمان ولم يذكروا أنه لا يأثم فعلى هذا يأثم بذلك ولا يلزم منه الضمان وفيه وجه يضمن بذلك
ومثله نية الملتقط الخيانة وأما لو نوى حال الالتقاط بأن التقط قاصدا للتمليك فإنه يضمن لأنها ليست نية مجردة لاقترانها بالفعل
وذكر الأصحاب أنه لو طلق بقلبه لم يقع ولو أشار بأصبعه لعدم اللفظ واحتجوا بالخبر إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به صحيح وقد سلف
متفق عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي خلافا لابن سيرين والزهري وعن مالك روايتان
____________________
(1/129)
وقال القاضي في كتاب المعتمد وقاله غيره وللعبد قدرة على مساعي قلبه وقد قال أحمد في رواية صالح إذا حدث نفسه بشيء صرف ذلك عن نفسه وصرفه عن نفسه يدل على قدرته قال القاضي وللقلب أفعال سوى حديث النفس بالفعل لقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }
قال وقد يؤاخذ الإنسان بشيء من أفعال القلب نحو إرادة العزم والرضى بالفعل والسخط به والاختيار له والنية عليه مثل الحسد والطمع وتعليق القلب بما دون الله عز وجل والنفاق والرياء والإعجاب وأما ما لا يؤاخذ به فهو كالخواطر الواردة عليه مما لا يدخل تحت قدرته انتهى كلامه
ويأتي قريبا كلام الشيخ عبد القادر في ركون القلب إلى غير الله عز وجل وقد قال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام { وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين }
قال المفسرون عقوبة له على تلك الكلمة فاستعان بمخلوق أي بعدد السنين التي كان لبثها وكذا ذكره ابن الجوزي ومذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ويفرق بين الهم والعزم قال المازري وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الأحاديث
قال القاضي عياض مذهب عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله عز وجل والإنابة لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية فإذا عملها كتبت معصية ثانية فإن تركها خشية لله عز وجل كتبت حسنة كما في الحديث إنما تركها من جرائي أخرجه مسلم فصار تركه لها لخوف الله عز
____________________
(1/130)
وجل ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم
وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله عز وجل بل لخوف الناس هل تكتب حسنة قال لا لأنه إنما حمله على تركها الحياء وهذا ضعيف هذا كلامه
وجرائي بفتح الجيم وتشديد الراء بالمد والقصر معناه من أجلي
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة أخرجه البخاري والترمذي
والله أعلم
وقد عرف دليل القولين من يرى المؤاخذة على أعمال القلوب ومن يرى عدمها مما سبق من لا يرى المؤاخذة يحتج بقوله عليه السلام إن الله تعالى تجاوز لأمتي الخبر وبحديث الهم بالسيئة
وقد يحتج بقوله تعالى عن الحرم { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } فخصه بذلك
ومن يرى المؤاخذة فقد يجيب عن الخبر الأول إما بأن عمل القلب عمل فيدخل في اللفظ أو يقول إنما يدل على محل النزاع بعمومه فيخص بأدلتنا
وعن الخبر الثاني بأنه لا تصريح فيه وإن سلم بظهوره ترك بأدلتنا
وعن الآية الكريمة إما بأن المراد بقوله { ومن يرد } أي يعمل كما سبق أو بأنه خصه للعذاب الخاص وهو العذاب الأليم لا أنه يختص بالمؤاخذة المطلقة بل خصه لاختصاصه بالمؤاخذة الخاصة
ومن يرى المؤاخذة يحتج بقوله تعالى { إن بعض الظن إثم }
وبقوله تعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم }
وبإجماع العلماء على تحريم الحسد ونحوه
____________________
(1/131)
من النفاق والرياء
ومن لا يرى المؤاخذة قد يجيب عن الأول بأنا نقول به وهو الظن الذي اقترن به قول أو فعل ثم لو كان خلاف الظاهر فلما فيه من الجمع بينه وبين أدلتنا وعن الثانية بأن القول مراد فيها بدليل قوله { لهم عذاب أليم في الدنيا } وهو الحد ولا يجب إلا بالقول وأما الحد فهو حق لآدمي تعم البلوى بوقوعه فاحتيج إلى زيادة ردع وهو المؤاخذة بمجرده
وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن النهى عن الحسد إنما يتوجه إلى من عمل بمقتضى التسخط على القدر أو ينتصب لذم المحسود وينبغي أن يكره ذلك من نفسه وهذا معنى ما ذكره الشيخ تقي الدين وذكر قول الحسن البصري غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعتد به يدا ولسانا وعليه أن يكره ذلك من نفسه قال وفي الحديث ثلاث لا ينجو منهن أحد الحسد والظن والطيرة وسأحدثكم بالمخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض أخرجه أبو الشيخ والطبراني وهو ضعيف انتهى
وقد ذكر ابن عبد البر هذا الخبر الأخير عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاحتجاج به والقول به وذلك في النسخة الوسطى من الآداب بأبسط من هذا
قال الحاكم في تاريخه أخبرنا أبو بكر بن الجعابي قال لا تشتغل بالحسد واصبر عليهم فقد حدثونا عن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال الحسد داء منصف يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود كذا ذكره الحاكم ويتوجه أنه لا يضر المحسود مع ما له من الأجر والثواب
قال ابن عقيل في الفنون افتقدت الأخلاق فإذا أشدها وبالا على صاحبها الحسد فإنه التأذي بما يتجدد من نعمة الله فكلما تلذذ المحسود بنعم الله تعالى تأذى الحاسد وتنغص فهو ضد لفعل الله تعالى ساخط بما قسمه متمن زوال ما
____________________
(1/132)
منحه خلقه فمتى يطيب بهذا عيش ونعم تنثال انثيالا وهذا المدبر لا يزال بأفعال الله متسخطا وما زال أرحم الناس للنظر في عواقبهم ولو لم يكن إلا النزع وحشرجة الروح فكيف بمقدمات الموت من البلى والضنى فمن شهد هذا فيهم كيف يحسدهم والله سبحانه أعلم
وأما النفاق في القول أو العمل فلتأثيره في المأمور به شرعا ولهذا الشك مانع في حصوله ووجوده وأما الرياء فإنما يكون في القول أو العمل فأثر لاقترانه بأحدهما فصل وصية الإمام أحمد ولده بنية الخير
قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه يوما أوصني يا أبت فقال يا بني انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير وهذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول سهلة الفهم والامتثال على السائل وفاعلها ثوابه دائم مستمر لدوامها واستمرارها وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعا سواء تعلقت بالخالق أو بالمخلوق وأنها يثاب عليها ولم أجد في الثواب عليها خلافا
قال الشيخ تقي الدين في كتاب الإيمان ما هم به من القول الحسن والعمل الحسن فإنما يكتب له به حسنة واحدة وإذا صار قولا وعملا كتب له به عشر حسنات إلى سبع مئة وذلك للحديث المشهور في الهم ويلزم من العمل بهذه الوصية ترك أعمال القلوب المذمومة شرعا وإن من عملها لم يبق في حرز من الله وعصمة وقد وقع فيما يخاف عليه فيه من الشر والعذاب ودل هذا النص على المعاقبة على أعمال القلوب المذمومة وهكذا قول الإمام أحمد رحمه الله الآتي قبل فصول تعلم القرآن والحديث إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب
وأما إن لم ينو خيرا ولا شرا فهذا يبعد خلو عاقل عنه ثم نية الخير منها ما يجب بلا شك فقد فعل محرما فيالها من وصية ما أشد وقعها وما أعظم
____________________
(1/133)
نفعها فنسأل الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين العمل بها والتوفيق لها ولما يحبه ويرضاه آمين فبمثل هذا تكون وصايا أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين والله سبحانه أعلم
وقد قيل نية المؤمن خير من عمله وأشرف من عمله لاعتبارها فيه بخلاف العكس وقيل أيضا النية سبقت العمل وهذا واضح صحيح وسيأتي في الدعاء قبيل ما يتعلق بالمصحف والقراءة والكلام في أعمال القلوب وهل يكون أجر من نوى الخير أو وزر من نوى الشر عمل شيئا معها أو لا إلا أنه لم يأت بالعمل كاملا ذكرت هذه المسألة في الفقه في باب صلاة المريض وغير ذلك وفي حواشي المنتقى في صلاة الجماعة فصل هل الحدود كفارة مطلقا أم بشرط التوبة
ومن لم يندم على ما حد به لم يكن حده توبة ذكره في الرعاية وذكره غير واحد منهم ابن عقيل قالوا هو مصر والحد عقوبة لا كفارة
{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم }
واستدلوا بآية المحاربة
والأولى أن يقال يكون الحد مسقطا لإثم ذلك الذنب في الدنيا فهو كفارته كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن لقيه مصرا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن لقيه كافرا عذبه ولم يغفر له ونقل محمد بن عوف الحمصي عن أحمد نحو هذا إلا أنه قال فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له إذا توفي على الإسلام والسنة ولم يذكروا من لقيه كافرا إلى آخره
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لأصحابه تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب منكم شيئا من
____________________
(1/134)
ذلك فعوقب به فهو كفارته ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عز وجل عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له أخرجه البخاري ومسلم
قال فبايعناه على ذلك
وسبق قريبا حديث ابن عمر في النجوى وقول الله عز وجل سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه
فهذا لمن شاء الله أن يغفر له من المؤمنين
ولأحمد عن علي رضي الله عنه مرفوعا من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله تعالى أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا فستره الله عليه وعفا الله عنه فالله تعالى أكرم أن يعود في شيء عفا عنه أخرجه أحمد والدارقطني وابن ماجه والترمذي وحسنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
ورواه ابن ماجه والدارقطني والترمذي وقال غريب ولم أجد عندهم وعفا الله عنه
وأما آية المحاربة فإنما فيها له عذاب في الآخرة لكن على ماذا فليس فيها ونحن نقول بها لكن على إصراره وعدم توبته لا على ذنب حد عليه لما سبق والله سبحانه أعلم
قال القاضي عياض قال أكثر العلماء الحدود كفارة استدلالا بهذا الحديث يعني حديث عبادة ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أدري الحدود كفارة أخرجه البيهقي
كذا قال وحديث أبي هريرة إن صح فما سبق أصح منه وفي هذا زيادة علم فيتعين القول بها فصل في صحة توبة العاجز عما حرم عليه من قول وفعل
وتصح توبة من عجز عما حرم عليه من قول وفعل كتوبة الأقطع عن السرقة والزمن عن السعي إلى حرام والمجبوب عن الزنى ومقطوع اللسان عن القذف
____________________
(1/135)
والمراد إما أن يكون ما تاب منه كان قد وقع منه وإما أن تكون التوبة من عزمه على المعصية لو قدر عليها ولا تصح توبة غير عاص كذا وجدته في كلام الأصحاب وغيرهم من الفقهاء رحمهم الله تعالى
وقال الشيخ عبد القادر في الغنية التوبة فرض عين في حق كل شخص ولا يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر لأنه إن خلا عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنب بالقلب وإن خلا فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المفترقة المذهلة عن ذكر الله عز وجل فإن خلا فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وبصفاته وأفعاله فلكل حال طاعات وذنوب وحدود وشروط فحفظها طاعة وتركها معصية والغفلة عنها ذنب فيحتاج إلى توبة وهي الرجوع عن التعويج الذي وجد إلى سنن الطريق المستقيم الذي شرع له فالكل مفتقر إلى توبة وإنما يتفاوتون في المقادير فتوبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة وتوبة خاص الخاص من ركون القلب إلى سوى الله عز وجل كما قال ذو النون المصري توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة وكما قال أبو الحسين النوري التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله عز وجل وذكر كلاما كثيرا
وسبق قريبا في العزم على المعصية أن تعلق القلب بغير الله محرم ويأتي في أول الزهد خبر يتعلق بهذا
وظاهر كلام بعض أصحابنا وغيرهم صحة التوبة من كل ما حصلت فيه المخالفة أو أدنى غفلة وإن لم يأثم
ولعل هذا القول أقوى وهو معنى ما اختاره الشيخ تقي الدين وغيره ولعله معنى كلام مجاهد من لم يتب إذا أصبح وأمسى فهو من الظالمين والله أعلم
وعلى هذا لا يسمى معصية ولا ذنبا بناء على أنه نص فيما يأثم به وقد ذكر ابن عقيل وغيره أنه ليس بنص وأنه يرد للتأكيد وإن منه قول أبي هريرة رضي الله عنه عن الذي خرج من المسجد بعد الأذان أما هذا فقد عصى أبا القاسم وقوله
____________________
(1/136)
صلى الله عليه السلام ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا أخرجه أحمد والترمذي والبغوي وصححه ابن حبان وذكر غيره قول عمار من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم والله أعلم
وهذا من جنس قول الشيخ عبد القادر طعام الشيخ مباح للمريد وطعام المريد حرام في حق الشيخ لصفاء حاله وعلو رتبته
وقد ذكر الشيخ تقي الدين أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا قال وذكر القاضي أنه هل يطلق الحرام على ما ثبت بدليل ظني روايتين وسبق في أوائل فصول التوبة الأخبار في التوبة عموما ومن ترك التوبة الواجبة مدة مع القدرة عليها والعلم بوجوبها لزمته التوبة من ترك التوبة تلك المدة فصل في التوبة من البدعة المفسقة والمكفرة وما اشترط فيها
ومن تاب من بدعة مفسقة أو مكفرة صح إن اعترف بها وإلا فلا قال في الشرح فأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها قال في الرعاية في موضع آخر من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح وقيل إن اعترف بها وإلا فلا وقيل إن كان داعية لم تقبل توبته وذكر القاضي في الخلاف في آخر مسألة هل تقبل توبة الزنديق قال أحمد في رواية المروذي في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له وقال في رواية المروذي وإذا تاب المبتدع يؤجل سنة حتى تصح توبته واحتج بحديث إبراهيم التيمي أن القوم تاركوه في صبيغ بعد سنة فقال جالسوه وكونوا منه على حذر
وقال القاضي أبو الحسين بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها فظاهر هذه الألفاظ قبول توبته منها بعد الاعتراف والمجانبة لمن كان يقارنه ومضى سنة ثم ذكر رواية ثانية أنها لا تقبل واختارها ابن شاقلا واحتج لاختياره بقوله عليه السلام من
____________________
(1/137)
سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن أنس مرفوعا إن الله عز وجل احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة
وقال الشيخ تقي الدين وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم وإن كان من الناس من استثنى بعض الذنوب كقول بعضهم إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا للحديث الإسرائيلي الذي فيه فكيف من أضللت وهذا غلط فإن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع انتهى كلامه
قال ابن عقيل في الإرشاد الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد وماتوا فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم وبه قال أكثر العلماء خلافا لبعض أصحاب أحمد وهو أبو إسحاق بن شاقلا وهو مذهب الربيع بن نافع وأنها لا تقبل ثم احتج بحديث الإسرائيلي وغيره وقال نحن لا نمنع أن يكون مطالبا بمظالم الآدميين ولكن هذا لا يمنع صحة التوبة كالتوبة من السرقة وقتل النفس وغصب الأموال صحيحة مقبولة والأموال والحقوق للآدمي لا تسقط ويكون هذا الوعيد راجعا إلى ذلك ويكون نفي القبول راجعا إلى القبول الكامل وهو مأزور بإضلالهم وهم مأزورون بأفعالهم وقد تقدمت المسألة في أول فصول التوبة فصل في قبول التوبة ما لم ير التائب ملك الموت أو يغرغر
وتقبل ما لم يعاين التائب الملك وروى ابن ماجه من رواية نصر بن حماد ولا يحتج به بالإجماع عن موسى بن كردم وهو مجهول عن محمد بن قيس عن أبي
____________________
(1/138)
بردة عن أبي موسى قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تنقطع معرفة العبد من الناس قال إذا عاين ضعيف جدا أخرجه ابن ماجه
وقيل ما دام مكلفا كذا في الرعاية وقيل ما لم يغرغر لأن الروح تفارق القلب قبل الغرغرة فلا تبقى له نية ولا قصد صحيح فإن جرح جرحا موحيا صحت توبته والمراد مع ثبات عقله لصحة وصية عمر وعلي رضي الله عنهما واعتبار كلامهما
وذكر في الرعاية قولا لا تصح وصيته مطلقا وهذا يدل على أنه لا عبرة بكلامه ولعله أراد ما ذكره في الترغيب من قطع بموته كقطع حشوته وغريق ومعاين كميت وذكر الشيخ وغيره أن حكم من ذبح أو أبينت حشوته وهي أمعاؤه لا خرقها وقطعها فقط كميت
وقال في الكافي تصح وصية من لم يعاين الموت وإلا لم تصح قال لأنه لا قول له والوصية قول ولعله أراد ملك الموت فيكون كالقول الأول وذكر الشيخ في فتاويه إن خرجت حشوته ولم تبن ثم مات ولده ورثه وإن أبينت فالظاهر يرثه لأن الموت زهوق النفس وخروج الروح ولم يوجد ولأن الطفل يرث ويورث بمجرد استهلاله وإن كان لا يدل على حياة أثبت من حياة هذا انتهى كلامه
ولا يلزم من هذا اعتبار كلامه بدليل أنه اعتبره بالطفل الذي استهل لكن يدل على أنه ليس في حكم الميت مع بقاء روحه مطلقا وهو خلاف كلامهم في الجنايات لكنه ظاهر كلامهم في الإرث في الغرقى والهدمى وقد ذكر الشيخ في ميراث الحمل أن الحيوان يتحرك بعد ذبحه شديدا وهو كميت والمسألة مذكورة في أول كتاب الجنايات والله سبحانه أعلم
وقد روى أحمد والترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا
____________________
(1/139)
إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان وإسناده حسن
قال ابن الأثير في النهاية ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزله الشيء الذي يتغرغر به المريض والغرغرة أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى أصل الحلق ولا يبلع ومنه لا تحدثهم بما يغرغرهم أي بما لا يقدرون على فهمه فيبقى في أنفسهم لا يدخلها كما يبقى الماء في الحلق عند الغرغرة انتهى كلامه
وقال ابن حزم اتفقوا أن من قربت نفسه من الزهوق فمات له ميت أنه يرثه وإن قدر على النطق فأسلم فإنه مسلم يرثه المسلمون من أهله وأنه إن شخص ولم يكن بينه وبين الموت إلا نفس واحد فمات من أوصى له بوصية فإنه قد استحقها فمن قتله في تلك الحال قيد به ولعل مراده أسلم ولم تبلغ الروح الحلقوم مع أن قوله ظاهر قوله عليه السلام في الصدقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
الخبر المشهور
وقال في شرح مسلم في هذا الخبر من عنده أو حكاية عن الخطابي المراد قاربت بلوغ الحلقوم إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته باتفاق الفقهاء انتهى كلامه
والخبر الذي رواه البخاري ومسلم أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة المراد قربت وفاته وحضرت دلائلها وذلك قبل المعاينة والنزع ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان لقوله تعالى { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش
قال القاضي عياض وقد رأيت بعض المتكلمين على الحديث جعل الحضور هنا على حقيقة الاحتضار وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجا بقوله ذلك حينئذ أن تناله الرحمة ببركة
____________________
(1/140)
النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي وليس هذا بصحيح
وعن أبي ذر مرفوعا إن الله يقبل توبة عبده أو قال يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب أخرجه أحمد وابن حبان وفي إسناده مجهول
قيل وما وقوع الحجاب قال تخرج النفس وهي مشركة
رواه أحمد والبخاري في تاريخه من رواية عمر بن نعيم تفرد عنه مكحول قال بعضهم لا يدرى من هو قال البخاري وروى عنه مكحول في الشاميين
ولأحمد عن أبي سعيد مرفوعا إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب عز وجل لا أزال أغفر لهم ما استغفروني أخرجه أحمد وابن جرير وإسناده ضعيف
قال غير واحد من المفسرين في قوله { ثم يتوبون من قريب } إن المراد به التوبة في الصحة ولا يصح هذا عن ابن عباس لأنه من رواية أبي صالح واسمه باذام ولم يرو عنه على أن مرادهم معاينة ملك الموت عليه السلام كما قال غير واحد من المفسرين وهي رواية على بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس وقال غير واحد من المفسرين المراد به التوبة قبل الموت
ويروى عن ابن عمر في قوله تعالى { حتى إذا حضر أحدهم الموت } أنه السوق وقيل معاينة الملائكة لقبض الروح ويروى عن عبد الله بن عمر من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ولم يرد أن الساعة ضابط إنما أراد والله أعلم نفي ما يتوهم من قوله في الآية { من قريب } وقد أخبر تعالى عن فرعون لعنه الله أنه لما أدركه الغرق { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } قال تعالى { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين }
وقد ذكر ابن الأنباري أن فرعون جنح إلى التوبة في غير وقتها عند حضور الموت ومعاينة الملائكة وأضاعها في وقتها وقد قال تعالى { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } ) يعني حين لا ينفعهم { فلولا كانت قرية آمنت }
____________________
(1/141)
وروى عن ابن عباس وغيره أي لم تكن قرية آمنت وذكر أهل اللغة أن لولا بمعنى هلا وان الاستثناء منقطع وعن أبي عبيدة أن المعنى وقوم يونس وأنكره الفراء وقيل الاستثناء يتعلق بقوله { حتى يروا العذاب الأليم } فيكون متصلا وذكر أبو البقاء أنه منقطع لأنه مستثنى من القرية والقوم ليس من جنس القرية وقيل متصل لأن المعنى أهل القرية وقيل هذا من الله عز وجل خص به قوم يونس وقيل لأن العذاب لم يباشرهم بل دنا منهم بخلاف غيرهم وقيل لصدقهم وإخلاصهم وقد قال تعالى عن الأمم المكذبة { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } أي عاينوا العذاب { سنت الله التي قد خلت في عباده } فصل قبول التوبة إلى طلوع الشمس من مغربها
روى أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي موسى إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها أخرجه مسلم وأحمد
وعن صفوان بن عسال مرفوعا باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أربعون أو سبعون سنة خلقه الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه أخرجه أحمد والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح
رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه
ولمسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه أخرجه مسلم وابن حبان
____________________
(1/142)
وعن أبي هريرة مرفوعا لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه
وعن أبي سعيد مرفوعا { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل } قال طلوع الشمس من مغربها أخرجه أحمد والترمذي وإسناده ضعيف
رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب
ورواه بعضهم ولم يرفعه
قال في شرح مسلم قال العلماء هذا حد لقبول التوبة وقد روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض أخرجه مسلم والترمذي
فهذا المراد به أن طلوع الشمس آخر الثلاثة خروجا فلا تعارض بينه وبين ما سبق
وقال ابن هبيرة فيه أن حكم هاتين الآيتين في أن نفسا لا ينفعها إيمانها الحكم في طلوع الشمس من مغربها كذا قال
وأما ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن وتخطم أنف الكافر بالخاتم حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر ويقول هذا يا كافر ويقول هذا يا مؤمن أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وهو ضعيف
رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وعنده فتجلو وجه المؤمن بالعصا
فهذا إن صح وفيه نظر فلا تعارض لأنه إن كان خروجها قبل طلوع الشمس فليس في الخبر تصريح بأن الإيمان لا ينفع بخروجها وقد لا يتفق إيمان
____________________
(1/143)
أحد بعد خروج الدابة وإن كان نافعا والزمان بينها وبين طلوع الشمس قريب وإن كان بعد طلوع الشمس فالمراد أن الناس لما آمنوا عند طلوع الشمس من مغربها فقد يشتبه من تقدم إسلامه بمن تأخر فخرجت الدابة فميزت وبينت هذا من هذا بأمر جلي واضح وليس في الخبر أيضا تصريح بأن الإيمان ينفع إلى خروجها بعد طلوع الشمس وقوله تخطم أنف الكافر أي تسمه بسمة يعرف بها والخطام سمة في عرض الوجه إلى الخد والخوان هو الشيء الذي يؤكل عليه
وعن عبد الله بن السعدي مرفوعا لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وإسناده صحيح
رواه أحمد عن الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن مالك بن يخامر عن ابن السعدي وفي آخره فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل إسماعيل بن عياش حمصي حديثه عن أهل بلده جيد عند أكثر المحدثين وضمضم حمصي
وليس المراد بهذا الخبر ترك ما كان يعمله من الفرائض قبل طلوع الشمس من المغرب فيجب الإتيان بما كان يعمله من الفرائض قبل ذلك وينفعه ما يأتي به من الإيمان الذي كان يأتي به قبل ذلك فقوله وكفي الناس العمل أي عملا لم يكونوا يفعلونه
وقد ذكر ابن حامد أن المذهب لا ينقطع التكليف خلافا للمعتزلة والمشهور في التفسير أن المراد بقوله تعالى { يوم يأتي بعض آيات ربك } طلوع الشمس من المغرب وهو الصواب وصححه ابن الجوزي وغيره وقد ذكر
____________________
(1/144)
أقوالا ضعيفة
قال المفسرون منهم ابن الجوزي وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان ثم ذكر ابن الجوزي عن الضحاك أن من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل منه كما يقبل منه قبل الآية انتهى كلامه فظاهره مخالفة كلام الضحاك لما سبق وليس بمراد فالعمل الصالح الذي سببه ظهور الآية لا ينفع لأن الآية اضطرته إليه وأما ما كان يعمله فظهور الآية لا تأثير لها فيه فيبقى الحكم كما كان قبل الآية
قال ابن هبيرة النفس المؤمنة إن لم تكسب في إيمانها خيرا حتى طلعت الشمس من مغربها لم ينفعها ما تكسبه وطلوع الشمس من مغربها على ظاهره عند أهل العلم لا كما تأوله من تأوله من الباطنية وهو رد على من زعم أن الله عز وجل لا يفعل ذلك من الحكماء والمنجمين وفيه بيان عجز نمرود في مناظرته والله سبحانه أعلم فصل في أن قبول التوبة فضل من الله تعالى
وقبول التوبة تفضل من الله عز وجل ولا يجب عليه ويجوز ردها قال ابن عقيل بناء على ذلك الأصل وإنه يحسن منه كل شيء وإن العقل لا يحكم على أفعاله ولا يقبحها قال والدلالة على عدم وجوب قبولها في الشرع والعقل أن الله أخبر أنه يقبل التوبة من عباده فمتى قال قائل إنه يجب ذلك بالوعد أوجب عليه العفو لأنه قال { ويعفو عن السيئات }
ومعلوم أن العفو تفضل كذلك التوبة قبولها تفضل ولأنه سبحانه قد ثبت بأنه يجب شكره ويستحق العذاب بكفره فلو كان قبول التوبة واجبا عليه لما وجب شكره على فعل ما وجب كما لا يجب شكر قاضي الدين انتهى كلامه
ومسألة التحسين والتقبيح وأن العقل يحسن ويقبح قال بذلك من أصحابنا أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وقال هو قول عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة وقال به أيضا غيرهما من الأصحاب وأكثر
____________________
(1/145)
الأصحاب لم يقولوا بذلك وهو قول الأشعرية والمسألة مشهورة في الأصول وعند المعتزلة العقل يحسن ويقبح فأوجبوه عقلا وذكر في شرح مسلم أن أهل السنة قالوا لا يجب عقلا لكن كرما منه وفضلا وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع وهذا معنى قول غير واحد من أصحابنا وهو موافق لمن قال منهم يجب بوعده إخراج غير الكفار منها
وقد قال ابن الجوزي في قوله تعالى { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } أي واجبا أوجبه هو على نفسه وأما ما احتج به ابن عقيل فلا يخفى وجه ضعفه وحكى القاضي أبو يعلى الإجماع على وجوب شكره وحمده ومدحه في جميع ما يفعل من الملاذ والمنافع
وقال الشيخ تقي الدين كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل وليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى { وكان حقا علينا نصر المؤمنين }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أتدري ما حق العباد على الله عز وجل إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
لكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه مخلوق والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب وغلطوا في ذلك وهذا الباب غلطت فيه القدرية الجبرية أتباع جهم والقدرية النافية
وحديث معاذ في الصحيحين عن أنس عن معاذ قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال يا معاذ قلت لبيك يا رسول الله وسعديك
____________________
(1/146)
قال هل تدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال هل تدري ما حق العباد إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال أن لا يعذبهم
وفي الصحيحين عن عمرو بن ميمون عن معاذ قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير فقال يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله عز وجل قلت الله ورسوله أعلم قال فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وإن حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا وإنما أخبر معاذ بذلك أخرجه البخاري ومسلم
والله أعلم خوفا من إثم كتمان العلم
كما في الصحيحين عنه أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على الرحل فناداه ثلاثا كل مرة يجيبه لبيك يا رسول الله وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشرون قال إذا يتكلوا أخرجه البخاري ومسلم
وأخبر بها معاذ عند موته تأثما
قال ابن هبيرة لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم وفيه زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعه والإرداف وقرب الرديف وأراد بندائه ثلاثا استنصاته وحضور قلبه وفيه جواز إخفاء بعض العلم للمصلحة في ترك العمل اتكالا على الرخصة قال وقوله ما حق العباد على الله أي ما جزاؤهم فعبر عن الجزاء
____________________
(1/147)
بالحق وذكر قول بنت شعيب { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } كذا قال والله أعلم
وتوبة الكافر من كفره قبولها مقطوع به جزم به في شرح مسلم وغيره وسبق كلام ابن عقيل أنه لا يجب ويجوز ردها وتوبة غيره تحتمل وجهين ولم أجد المسألة في كلام أصحابنا وذكر في شرح مسلم أن فيها خلافا لأهل السنة في القطع والظن واختيار أبي المعالي الظن وأنه أصح والله أعلم فصل في تبديل السيئات حسنات بالتوبة
تبديل السيئات حسنات بالتوبة هل ذلك في الدنيا فقط بالطاعات أم في الدنيا والآخرة للمفسرين قولان والثاني اختاره الشيخ تقي الدين لظاهر آية الفرقان ولحديث أبي ذر في الرجل الذي تعرض عليه صغار ذنوبه وتبدل أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح
رواه أحمد ومسلم والترمذي وهذا الرجل المراد بخروجه من النار الورود العام
قال الشيخ تقي الدين التائب عمله أعظم من عمل غيره ومن لم يكن له مثل تلك السيئات فإن كان قد عمل مكان سيئات ذلك حسنات فهذا درجته بحسب حسناته فقد يكون أرفع من التائب إن كانت حسناته أرفع وإن كان قد عمل سيئات ولم يتب منها فهذا ناقص وإن كان مشغولا بما لا ثواب فيه ولا عقاب فهذا التائب الذي اجتهد في التوبة والتبديل له من العمل والمجاهدة ما ليس لذلك البطال وبهذا يتبين أن تقديم السيئات ولو كانت كفرا إذا تعقبها التوبة التي
____________________
(1/148)
يبدل الله فيها السيئات حسنات لم تكن تلك السيئات نقصا بل كمالا وقد سبقت هذه المسألة قريبا فصل تخليد الكفار في النار بوعيد الله تعالى
يجب بوعيده تخليد الكفار في النار قال ابن عقيل وغيره ويجب بوعده إخراج غيرهم منها وقيل قد لا يدخل النار بعض العصاة تكرما من الله بالشفاعة وقيل من مات فاسقا مصرا غير تائب لم يقطع له بالنار لكن نرجو له ونخاف عليه ذنبه نص عليه وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة في تارك الصلاة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وهو صحيح
وقال ابن الجوزي في تفسيره في قوله تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
نعمة عظيمة من وجهين أحدهما أنه يقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع له بالعذاب وإن كان مصرا والثاني أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين وهو أن يكونوا على خوف وطمع فصل في حبوط المعاصي بالتوبة والكفر بالإسلام
وتحبط المعاصي بالتوبة والكفر بالإسلام والردة بالطاعة المتصلة بالموت ولا تحبط طاعة بمعصية غير الردة المذكورة وذكر ابن الجوزي وغيره أن المن والأذى يبطل الصدقة وقال ابن عقيل لا تحبط طاعة بمعصية إلا ما ورد في الأحاديث الصحيحة فيتوقف الإحباط على الموضع الذي ورد فيه ولا نقيس عليه
وقال الشيخ تقي الدين الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ولكن قد
____________________
(1/149)
تحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة واختاره أيضا في مكان آخر قال كما دلت عليه النصوص واحتج بإبطال الصدقة بالمن والأذى قال في نهاية المبتدي وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ثم ذكر { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ولم يتكلم عليها ثم ذكر { ولا تبطلوا أعمالكم } الآية وذكر أقوال المفسرين فيها منهم الحسن قال بالمعاصي والكبائر قال وهو يدل على حبوط بعض الأعمال بها
وذكر ابن الجوزي { لا ترفعوا أصواتكم } الآية ولم يتكلم على ما يحبط قال وقد قيل إن الإحباط بمعنى نقص المنزلة لا حبوط العمل من أصله كما يحبط بالكفر وذكر البغوي حبوط حسناتكم وليس مراده ظاهره
وقال القرطبي ليس قوله { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع وقيل لا تحبط معصية بطاعة لا مع التساوي ولا مع التفاضل قال وفي سورة البقرة { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } وفي سورة النساء { ولا باليوم الآخر } ولأنه في البقرة أخبر بحبوط عمله بعد الإيمان والإيمان المشروط في قبول العمل هو الإيمان بالله واليوم الآخر لا بأحدهما فلو قيل ولا باليوم الآخر لكان يتوهم أن أحدهما كاف في قبول العمل كما لو قيل هذا يصلي بلا وضوء ولا تيمم ويحكم بين الناس بلا كتاب ولا سنة { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير }
وأما في سورة النساء فإنه ذمهم على ترك الإيمان وهم مذمومون على ترك كل منهما على حدته ويرده قوله تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقول النبي صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحها أخرجه أحمد والترمذي بإسناد حسن
رواه الترمذي
____________________
(1/150)
وحسنه
وقال ابن هبيرة في حديث حذيفة فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه
قال لأن هذه حسنات أخبر الله أنهن يذهبن السيئات قال وإنما يعني الصيام المفروض والصلاة المفروضة فلا يحتاج الإنسان أن يعين لذلك مكفرا غير ذلك ولو أراد غير المفروض المعهود لقال صيام وصلاة قال الشيخ تقي الدين كفارة الشرك التوحيد والحسنات يذهبن السيئات قال في نهاية المبتدي وقيل تحبط الصغائر بثواب المرء إذا اجتنبت الكبائر كذا قال ولم يذكر ما يخالفه وهو الذي ذكره ابن عقيل في الانتصار وقيل له في الفنون في قوله عليه السلام إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي
كيف يعذبان بما ليس بكبيرة والصغائر بترك الكبائر تنحبط أولا فأولا بقوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية فقال في الخبر كان وكان لدوام الفعل فلهذا بالدوام حكم الكبيرة على أن في الخبر تعذيبهما بالصغائر وفي الآية إخبار بتكفيرها وتكفيرها يجوز أن يكون بالآلام والبلايا ولعل المعذبين لم تكفر صغائرهما بمصائب ولا آلام
كذا قال وتقدم قول أبي بكر فيه وفي الغنية إذا تاب المؤمن عن الكبائر اندرجت الصغائر في ضمنها لقوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية لكن لا يطمع نفسه في ذلك بل يجتهد في التوبة عن جميع الذنوب صغيرها وكبيرها فعلى كلام هؤلاء من أصحابنا رحمهم الله أن الصغائر تكفر
____________________
(1/151)
باجتناب الكبائر وهو ظاهر ما ذكره جماعة من المفسرين منهم ابن الجوزي لظاهر قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }
واختلف الصحابة والتابعون في الكبائر اختلافا كثيرا في بضعة عشر قولا ليس في شيء منها أنه الشرك فقط وحكاه بعض المفسرين قولا ولم يذكر قائله فالقول به خلاف إجماع الصحابة والتابعين في الآية مع أنه خلاف ظاهرها على ما لا يخفى فظاهرها أن اجتنابها مكفر نصبه الشارع سببا لذلك فليس المكفر حسنات ولا مصائب بل ذلك مكفر أيضا فمن ادعى أنه مراد الآية أو مقتضاها أو تدل عليه فقد خالف ظاهر الآية بغير دليل كما خالف ظاهر الإجماع السابق ولو كان الأمر كما قاله أو كما قاله من قال المراد الشرك لبينه الصحابة والتابعون ولما أغفله مثلهم وإنما أجروا الآية على ظاهرها ولا يخفى أنه لا يتجه تضعيف القول الأول وتصحيح الثاني وأن طريق التضعيف واحد
ومما يوافق ظاهر الآية ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر أخرجه مسلم والترمذي وابن حبان
وروى مسلم أيضا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله أخرجه مسلم وابن حبان
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جاء يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويتقي الكبائر فإن له الجنة أخرجه النسائي وأحمد بإسناد ضعيف لضعف بقية وهو حديث صحيح
إسناده جيد وفيه بقية بن الوليد وحديثه جيد رواه
____________________
(1/152)
أحمد والنسائي وليس عنده يصوم رمضان
وقد ظهر مما سبق أن الصغائر لا تقدح في العدالة لوقوعها مكفرة شيئا فشيئا وقد اعترف ابن عقيل بصحة هذا وأنه لولا الإجماع لقلنا به كذا قال وأين الإجماع المخالف لهذا بل هذا مقتضى ما سبق عن أصحابنا ومقتضى الإجماع السابق لظاهر الكتاب والسنة وهو متوجه كما ترى وقاله ابن عقيل في الواضح في النهي عنه أحد شيئين لا بعينه وهذا معنى قول بعض أصحابنا إنه يقدح في العدالة إدمان الصغيرة لكن ظاهر القول الأول ولو أدمن
وقد روى ابن جرير في تفسير قوله تعالى { إن تجتنبوا } حدثنا المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن قيس بن سعد عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس كم الكبائر أسبع هي قال هي إلى سبع مئة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وكذا رواه ابن أبي حاتم عن شبل وهو إسناد صحيح
فإن قلنا قول الصحابة حجة صارت الصغيرة بإدمانها كالكبيرة وإن لم نقل بذلك فالعمل لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار صارت الصغيرة بإدمانها كالكبيرة وإن لم يتب فالعمل بظاهر القول السابق وظاهر الأدلة أولى
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون أخرجه أحمد والبخاري وعبد بن حميد وإسناده صحيح
رواه أحمد حدثنا يزيد حدثنا حريز حدثنا حبان عن عبد الله فذكره
قال البخاري في تاريخه حبان بن يزيد الشرعبي أبو خراش الشامي وروى عنه
____________________
(1/153)
حريز يروي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمرو قاله معاذ ابن معاذ وحدثني عصام قال حدثنا حريز عن حبان وقال يزيد بن هارون عن حبان والأول أصح ولم أجد في حبان كلاما ولا روى عنه إلا حريز لكن ظاهر ما ذكره البخاري أنه مشهور
قال الأصمعي أصل الشرعبة الطول يقال رجل شرعاب وامرأة شرعابة وهذا منسوب إلى شرعب بن قيس من حمير والأقماع جمع قمع بكسر القاف وبسكون الميم وفتحها كنطع ونطع وقيل بفتح القاف وسكون الميم وهو الإناء الذي ينزل في رؤوس الظروف ليملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان شبه أسماع الذين يسمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئا مما يفرغ فيها فكأنه يمر عليها مجتازا كما يمر الشراب في الأقماع
قال ابن الأثير في النهاية ومنه الحديث أول من يساق إلى النار الأقماع الذين إذا أكلوا لم يشبعوا وإذا جمعوا لم يستغنوا أي كأن ما يأكلونه ويجمعونه يمر بهم مجتازا غير ثابت فيهم ولا باق عندهم وقيل أراد بهم أهل البطالات الذين لا هم لهم إلا في ترجئة الأيام بالباطل فلا هم في عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ويأتي هذا المعنى في آخر الكتاب في نظم صاحب النظم
وجعل الصغيرة في حكم الكبيرة بهذا الحديث فيه نظر لأن الأصل عدم ذلك وقد عمل به في الكبائر وليس بخاص في الصغائر ليخص به ظاهر ما سبق
والأشهر في كتب الفقه أن الصغائر تقدح في العدالة فلا تكفر باجتناب الكبائر فعلى هذا إذا مات غير تائب منها فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له عند أهل السنة كالكبائر خلافا للمعتزلة
وعلى الأول إذا كفرت باجتناب الكبائر ظاهره لا تنقص درجته عن درجة من لم يأت صغيرة كالتوبة منها والله سبحانه أعلم
وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله عن المعتزلة وغيرهم أنه يجب الإحباط وإذا اجتنب الكبائر أن لا يعاقب على صغيرة بل تنقص درجته عن درجة من لا ذنب له
____________________
(1/154)
مع مساواته له في الحسنات ولا يجوز عندهم أن يعاقب على ذلك
وأن عند الأشعرية لا يجوز الإحباط ويعاقب على السيئة ويجازى بالحسنة وأن الصغيرة يجوز أن تغفر فلا تنقص درجته
قال والقاضي أبو بكر وأمثاله حملوا قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } على أن المراد به الكفر فقط وقالوا { نكفر عنكم سيئاتكم }
أي إن شئنا وجعلوا هذه الآية مثل قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
وهذا غلط في ظاهر الآية خالفوا به تفسير إجماع السلف والأحاديث الصحيحة ومدلولها والمعتزلة أيضا غلطوا في معنى الآية فاعتقدوا أن قوله { نكفر عنكم سيئاتكم } المراد به المغفرة ولا بد وهذا قد يظنه كثير من الناس بخلاف تفسير الكبائر بالشرك لم ينقل عن أحد من السلف وجعلت المعتزلة المغفرة في { إن الله لا يغفر أن يشرك به } والآية مشروطة بالتوبة كقوله { إن الله يغفر الذنوب جميعا }
وليس كذلك إذ لو كانت مشروطة بالتوبة لم تخص بما دون الشرك ولم تعلق بالمشيئة بل قوله { لمن يشاء } لا يمنع أن تكون المغفرة بأسباب منها الحسنات ومنها المصائب المكفرة
وأما قوله { إن تجتنبوا } الآية ففيه الوعد بالتكفير والتكفير يكون بالأعمال الصالحة تارة وبالمصائب المكفرة تارة فمن كفرت سيئاته بنفس العمل كان من باب الموازنة وهذا تنقص درجته عمن سلم من تلك الذنوب كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وغيرهم ومن كفرت بالمصائب والحدود وعقوبات الدنيا فإنه تسلم له حسناته فلا تنتقص درجته بل ترتفع درجاتهم بالصبر على المصائب فيكونون أرفع مما لو عوفوا وأصحاب العافية يكونون أدنى
وقوله { من يعمل سوءا يجز به } عام وسقوط الحسنات التي تقابلها من الجزاء أيضا وكذلك { ومن يعمل مثقال ذرة } الآية
ثم إما أن يقال هذا مشروط بعدم التوبة أو يقال التوبة فيها شدة على النفس
____________________
(1/155)
ومخالفة هوى ففيها ألم هو من جنس الجزاء فيكون { من يعمل سوءا } عاما محفوظا أو يقال التوبة من جنس الحسنات الماحية فلم تبق السيئة سيئة كما أن الإيمان الذي تعقبه الردة ليس بإيمان فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له وعند الأشعرية وغيرهم وجود التوبة كعدمها يمكن مع ذلك أن يعذبه لكن يظن أنه يغفر له وإلا فالاستحقاق لا يدري عندهم لأنه من باب الإحباط وهم يقولون إنه ممتنع
وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب وذكر حديث فثقلت البطاقة وطاشت السجلات أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وإسناده صحيح وقال الترمذي حسن غريب
وحديث البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر الله لها أخرجه البخاري ومسلم
وحديث الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له أخرجه البخاري مسلم والترمذي
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة فصل في سرور الإنسان بمعرفة طاعته والعجب والرياء والغرور بها
إذا سر الإنسان بمعرفة طاعته هل هو مذموم
قال ابن الجوزي إن كان قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله عز وجل ولكنه لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فسر بحسن صنيع الله عز وجل ونظره له ولطفه به حيث كان يستر الطاعة والمعصية فأظهر الله عليه الطاعة وستر المعصية فيكون فرحه بذلك لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم ويستدل بإظهار الله الجميل وستر القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة قد جاء معنى ذلك في الحديث فأما إن كان فرحه بإطلاع الناس عليه
____________________
(1/156)
لقيام منزلته عندهم حتى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه فهذا مكروه مذموم
فإن قيل فما وجه حديث أبي هريرة قال قال رجل يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه فقال له أجران أجر السر وأجر العلانية أخرجه الترمذي وابن ماجه وإسناده ضعيف
فالجواب أنه حديث ضعيف رواه الترمذي وقد فسره بعض العلماء بأن معناه بأن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير لقوله صلى الله عليه وسلم أنتم شهداء الله في الأرض أخرجه من حديث أنس البخاري ومسلم وابن حبان
وروى مسلم عن أبي ذر قال قيل يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان
فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرموه عليه فهذا رياء وورود الرياء بعد الفراغ من العبادة لا يحبطها لأنه قد تم على نعت الإخلاص فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به فأما إن تحدث به بعد فراغه وأظهره فهذا مخوف والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء فإن سلم من الرياء نقص أجره فإن بين عمل السر والعلانية سبعين درجة وورود الرياء قبل الفراغ من العبادة إن كان مجرد سرور لم يؤثر في العمل وإن كان باعثا على العمل مثل أن يطيل الصلاة ليرى مكانه فهذا يحبط الأجر انتهى كلامه
وقال ابن عقيل الإعجاب ليس بالفرح والفرح لا يقدح في الطاعات لأنها مسرة النفس بطاعة الرب عز وجل ومثل ذلك مما سر العقلاء وأبهج الفضلاء وكذلك روي في الحديث أن رجلا قال يا رسول الله إني كنت أصلي فدخل علي صديق لي فسرني ذلك فقال لك أجران أجر السر وأجر العلانية
____________________
(1/157)
وإنما الإعجاب استكثار ما يأتي به من طاعة الله عز وجل ورؤية النفس بعين الافتخار وعلامة ذلك اقتضاء الله عز وجل بما آتى الأولياء وانتظار الكرامة وإجابة الدعوة وينكشف ذلك بما يرى من هؤلاء الجهال من إمرار أيديهم على أرباب العاهات والأمراض ثقة بالبركات وما شاكل ذلك من الخدع حتى إن الواحد منهم لو كسر له عرض قال على سبيل الاقتضاء لله أليس قد ضمنت نصر المؤمنين ولا يدري الجاهل من المؤمن المنصور وما النصر وماذا شرط النصرة وذكر كلاما كثيرا رحمه الله إلى أن قال
إن العجب يدخل من إثبات نفسك في العمل ونسيان ألطاف الحق ومن إغفال نعمه التي لا تحصى وإلا فلو لحظ العبد اتصال النعم لاستقل عمله وإن كثر وأن يقابل النعم شكرا ويدخل من الجهل بالمطاع فلو عرف العبد من يطيع ولمن يخدم لاستكثر لنفسه منه سبحانه ذلك واستقلها أن تكون داخلة مع أملاك سبع سماوات يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويدخل أيضا من طرق الجهالة بكثرة الخلل والعلل التي ينبغي أن يكون معها على غاية الخجل والخوف مع أن يقع الطرد والرد فإن المسيء مستوحش ويدخل أيضا من النظر إلى الخلق بعين الاستقلال وإدمان النظر إلى العصاة المتشردين ولو أنه نظر إلى العمال لله عز وجل لاستقل نفسه فهذه معالجة الأدواء وحسم مواد الفساد في الأعمال
قال ابن الجوزي وقد ذكر هذا المعنى وفهم هذا ينكس رأس الكبير ويوجب مساكنة الذل فتأمله فإنه أصل عظيم
وقال ابن عقيل أيضا انظر إلى لطف الله عز وجل بخلقه كيف وضع فيهم لمصالحهم مدارك تزيد على العلم ودواعي تحثهم على فعل ما فيه الصلاح والكف عن الشر والفساد من ذلك وضعه للشهوة وهيجان الطبع لطلب الجماع وذلك طريق النشوء وحفظ النسل وآلام تحصل من الرقة على الحيوان ليحصل الامتناع من الإقدام على الإيلام ويحصل منع المؤلم وكف المتعدي وجعل المسرة الواقعة بالمدحة داعية إلى فعل الخير إذ لا يمدح إلا على الخير وعلى ذلك جميع ما يدفع
____________________
(1/158)
الضرر ويجلب الخير لم يخله من دواع باعثة على فعله ولواذع زاجرة عن فعل القبيح فسبحان من يفيض جوده بالخير لعلمه بأنه حسن نافع ويصرف السوء لعلمه بقبحه وغنائه عنه ويصرف خلقه بأنواع الصوارف العاجلة والصوارف بالوعيد والعقاب الآجل
وذكر ابن حبان في صحيحه أن معنى الحديث أنه يسره أن الله عز وجل وفقه لذلك العمل فعسى يستن به فيه فإذا كان كذلك كتب الله له أجرين وإذا سره ذلك لتعظيم الناس إياه أو ميلهم إليه كان ذلك ضربا من الرياء لا يكون له أجران ولا أجر واحد انتهى كلامه
وحديث أبي هريرة المذكور رواه الترمذي حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو داود حدثنا أبو سنان الشيباني عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن أبي هريرة إسناد جيد ورواه ابن ماجه قال الترمذي غريب
قال ورواه الأعمش وغيره عن حبيب عن أبي صالح مرسلا ثم ذكر التفسير السابق عن بعض العلماء قال
وقال بعض أهل العلم إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله فيكون له مثل أجورهم قال الترمذي فهذا له مذهب أيضا وحمل في شرح مسلم حديث أبي ذر على ظاهره وقال هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه إلى حمدهم وإلا فالتعريض مذموم انتهى كلامه
ولأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث جندب من يرائي يرائي الله به ومن يسمع يسمع الله به أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
____________________
(1/159)
قال ابن عقيل أنت لو علمت أن إكرام الخلق لك رياء سقطت من عينك أفأقنع أنا منك أن تجعلني في العادة جزءا من كل أو بعضا من جماعة وقال ما يحلو لك العمل حتى تحلو لك تسميتهم بعابد وزاهد فارث لنفسك من ذلك فإنه رياء وسمعة وليس لك منه إلا ما حظيت به من الصيت تدري كم في الجريدة أقوام لا يؤبه لهم إلا عند القيام من القبور وكم يفتضح غدا من أرباب الأسماء من الخلق بعالم وصالح وزاهد نعوذ بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة
وعن أبي سعيد مرفوعا لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان أخرجه أحمد وابن حيان وإسناده ضعيف راوه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة
وعن أبي هريرة مرفوعا إن العبد إذا صلى في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن قال الله عز وجل هذا عبدي حقا أخرجه أبن ماجه وإسناده ضعيف رواه ابن ماجه
وروى أحمد عن مالك بن دينار قال مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره مذمتهم قيل ولم ذاك قال لأن حامدهم مفرط وذامهم مفرط
وروى ابن الجوزي في مناقب أصحاب الحديث بإسناده عن ابن السماك سمعت أحمد بن حنبل يقول إظهار المحبرة من الرياء فصل في إصلاح السريرة والإخلاص وعلامات فساد القلب
في الأثر من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله ما بينه وبين الناس أخرجه الديلمي وهو ضعيف
قال سفيان بن عيينة كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات فذكر ذلك وفي آخره ومن عمل لآخرته كفاه الله عز وجل أمر دنياه رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وقال ألا إن في الجسد مضغة
____________________
(1/160)
إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد وفساده مستلزم لفساد سائر الجسد فإذا رأى ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أن القلب ليس بصالح بل فاسد ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده
قال عثمان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه
وقال ابن عقيل في الفنون للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع مكلف بالتلمح للمتفرس وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا وظهر مع الزمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه وقد اختلف الفقهاء بالتكشف على مدعي الطرش والعمى عند لطمه أو زوال عقله عند ضربه أو الخرس وما شاكل ذلك مما لا تعلم صحته إلا من جهته ولا تمكن الشهادة به
ثم ذكر في التكشف عن هذا ما ذكره أصحابنا وغيرهم وأن من أراد التكشف عن رجل خطب منه فإنه لا يزال يذكر المذاهب ويعرض بها ويذكر الأفعال الزرية في الشرع التي يميل إليها الطبع وينظر هشاشته إليها وتعبسه عند ذكرها وما شاكل ذلك فإنه لا يزال البحث بصاحبه والتوقف حتى يوقفه على المطلوب بما يظهر من الدلائل فافهم ذلك بطريق مريح من كل إقدام على ما لا تسلم من عاقبته ويعصم من كل ورطة وسقطة يبعد تلافيها وذلك دأب العقلاء فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلا عن أن تتكلم ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل معاشر ومجاور فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر يزيد وحريم الشرع ينتهك فلا إنكار ولا منكر ولا مفارقة لمرتكب ذلك ولا هجران له وهذا غاية برد القلب وسكون النفس وما كان ذلك في قلب قط فيه شيء من إيمان لأن الغيرة أقل
____________________
(1/161)
شواهد المحبة والاعتقاد قال
حتى لو تحجف الإنسان بكل معنى وأمسك عن كل قول لما تركوه يفصح لأنهم كثرة وهو واحد والكلام شجون والمذاهب فنون وكل منهم ينطق بمذهب ويعظم شخصا وآخر يذم ذلك الشخص والمذهب ويمدح غيره ولا يزال كذلك حتى يهش لمدح من يهوى ويعبس لذمه وينفر من ذم مذهب يعتقده فيكشف ذلك فالعاقل من اجتهد في تفويض أمره إلى الله عز وجل في ستر ما يجب ستره وكشف ما يجب كشفه ولا يعتمد على نفسه فإنه يتعب ولا يبلغ من ذلك الغرض قال لأنه إذا لم يهش لخلافة أبي بكر ولا علي رضي الله عنهما إن كانت المناظرة فيهما ولا إلى القدر ولا إلى نفيه ولا إلى حدوث العالم ولا قدمه ولا النسخ ولا المنع من النسخ والسكون إلى هذا وبرد قلبه يدل على أنه كافر لا يعتقد إذ لو كان هذا اعتقادا يحركه لهش إلى ناصر معتقده ولأنكر على مفسد معتقده فالويل للكاتم من المتكشفين وإرضاء الخلق بالمعتقدات وبال في الآخرة ومباغتتهم فيها ومكاشفتهم بها وبال في الدنيا وتغرير بالنفس ولا ينجو منهم المشارك لهم في الحيل والأحرى بالإنسان أن يتماسك عما فيه ويترك فضول الكلام وإذا توسط اعتمد على الله في إصلاح دنياه وإذا قصد إظهار الحق لأجل الله عز وجل فالله تعالى يعصمه ويسلمه وما رأينا من رد البدع إلا السلامة انتهى كلامه
وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } أي المتفرسين وروى الترمذي في تفسيرها الخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل وقد روى الجنيد رحمه الله هذا الخبر وهو في ترجمته
وروى الترمذي عن أنس مرفوعا من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه
____________________
(1/162)
وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ولا يمسي إلا فقيرا ولا يصبح إلا فقيرا وما أقبل عبد إلى الله عز وجل بقلبه إلا جعل الله تعالى قلوب المؤمنين تنقاد إليه بالود والرحمة وكان الله بكل خير أسرع أخرجه الترمذي وهو ضعيف
ولأحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه عن شداد مرفوعا الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
دان نفسه حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة
وقال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس قال الأحنف بن قيس كثرة الأماني من غرور الشيطان وقال يزيد على المنبر ثلاث يخلقن العقل وفيها دليل على الضعف سرعة الجواب وطول التمني والاستغراق في الضحك وقال أعرابي
( وما العيش إلا في الخمول مع الغنى % وعافية تغدو بها وتروح )
وقال بعضهم
( لولا منى العاشقين ماتوا % أسى وبعض المنى غرور )
( من راقب الناس مات غما % وفاز باللذة الجسور )
وقال آخر
( من راقب الموت لم تكثر أمانيه % ولم يكن طالبا ما ليس يعنيه )
وللترمذي مرفوعا بإسناد ضعيف وموقوفا بإسناد جيد أن معاوية كتب إلى عائشة
____________________
(1/163)
رضي الله عنهما اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي فكتبت إليه سلام عليك من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله عز وجل إلى الناس أخرجه الترمذي وابن المبارك وابن حبان وهو حديث حسن
والسلام عليك فصل في فضيحة العاصي
هل يفضح الله عز وجل عاصيا بأول مرة أم بعد التكرار فيه قولان للعلماء والثاني مروي عن عمر وغيره من الصحابة واختار ابن عقيل في الفنون الأول واعترض على من قال بالثاني ترى آدم هل كان عصى قبل أكل الشجرة بماذا فسكت فصل أسباب موانع العقاب وثمرات التوحيد والدعاء والمأثور المرفوع منه
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في أثناء كلام له الذنوب تزول عقوباتها بأسباب بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة لكنها من عقوبات الدنيا وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة وتزول أيضا بدعاء المؤمنين كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه
وسئل ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء بالخلق وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه بالله عز وجل فقال سبب هذا تحقيق التوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية فتوحيد الربوبية أنه لا خالق إلا الله عز وجل فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما سواه إذا قدر شيئا فلا بد له من شريك معاون وضد معروف فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من الأمور طلب منه ما لا يستقل به
____________________
(1/164)
ولا يقدر وحده عليه إلى أن قال فالراجي مخلوقا طالب بقلبه ما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه
ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده أن يمنع تحصيل مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد ثم إن وحده العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة إلى أن قال فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضرر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون سواه وتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف والجدب أو حصول اليسر أو زوال العسر في المعيشة فإن ذلك لذة بدنية ونعمة دنيوية قد يحصل منها للكافر أعظم مما يحصل للمؤمن
وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله والدين فأعظم من أن يعبر عنه بمقال أو يستحضر تفصيله بال ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ولهذا قال بعض السلف يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك
وقال بعض الشيوخ إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعو فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته مالا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت
وفي بعض الإسرائيليات يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك وهذا المعنى كثير وهو موجود محسوس بالحس الباطن للمؤمن وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه فإن ما كان من باب الذوق والوجد لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس ولفظ الذوق وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافي كما أن لفظ الإحساس
____________________
(1/165)
عام فيما يحس بالحواس الخمس بل وبالباطن وأما في اللغة فأصله الرؤية كما قال تعالى { هل تحس منهم من أحد }
وهذا الكلام بتمامه في آخر الكلام على دعوة ذي النون عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة والحاكم وقال صحيح الإسناد فإنها لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له أخرجه الترمذي والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله الحليم العظيم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات السبع والأرض رب العرش الكريم أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث حديث حسن أخرجه الترمذي وابن السني والطبراني وأخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال سبحان الله العظيم وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم أخرجه الترمذي وأحمد وابن السني وهو ضعيف
رواهما الترمذي وإسناد الثاني ضعيف وروى النسائي الأول من حديث ربيعة بن عامر والحاكم من حديث أبي هريرة
وعن علي رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما صنع فجئت فإذا هو ساجد يقول يا حي يا قيوم يا حي
____________________
(1/166)
يا قيوم أخرجه ابن سعد والحاكم وهو ضعيف
ثم رجعت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد على ذلك ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت فإذا هو ساجد يقول ذلك ففتح الله عليه
وعنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين أخرجه ابن السني والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ابن حبان
ورواهما النسائي والحاكم وروى ابن حبان الثاني
وعن أبي هريرة مرفوعا ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }
أخرجه ابن أبي الدنيا والحاكم رواه الحاكم
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعوة المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت أخرجه أبو داود وأحمد وابن أبي الدنيا وابن حبان والبخاري وهو حسن
وعن أسماء بنت عميس قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب الله ربي لا أشرك به شيئا أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وإسناد المتصل حسن
وفي رواية أنها تقال سبع مرات
وعن أبي سعيد الخدري قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو
____________________
(1/167)
برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة فقال مهموم لزمتني ديون يا رسول الله قال ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك قال قلت بلى يا رسول الله قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني أخرجه أبو داود وفي سنده غسان بن عوف وهو لين الحديث
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب أخرجه أبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف
رواهن أبو داود وروى ابن ماجه حديث أسماء ورواه النسائي في اليوم والليلة ورواه أيضا عن عمر بن عبد العزيز مرسلا وإسناد المتصل جيد وحديث أبي سعيد رواه أبو داود عن أحمد بن عبيد الله الغداني عن غسان بن عوف عن الجريري عن أبي نضرة عنه غسان ضعفه الأزدي واختلط الجريري بأخرة
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك اسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحا أخرجه أحمد وصححه ابن حبان
رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد وفيه قيل يا رسول الله ألا نتعلمها قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها
وروى أحمد حدثنا خلف بن الوليد قال حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة
____________________
(1/168)
عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال قال عبد العزيز أخو حذيفة قال حذيفة يعني ابن اليمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر يصلي أخرجه أحمد وأبو داود وهو حسن
رواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا وقال ابن أخي حذيفة قال بعضهم كذا رواه شريح عن يونس عن يحيى وخالفهما إسماعيل بن عمر وخلف بن الوليد فروياه عن يحيى وقالا فيه قال عبد العزيز أخو حذيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا حذيفة رواه الحسن بن زياد الهمداني عن ابن جريج عن عكرمة عن محمد بن عبد الله بن أبي قدامة عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا حذيفة ورواه ابن جرير في تفسيره من حديث ابن جريج وقال عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال بعضهم في عبد العزيز لا يعرف ووثقه ابن حبان ومحمد تفرد عنه عكرمة
وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن زياد القطواني حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا صلوا هو مرسل جيد الإسناد كما قال المصنف
قال ثابت وكانت الأنبياء صلوات الله عليهم إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة
الظاهر أنه مرسل جيد الإسناد ولهذا المعنى شاهد في الصحيحين في الكسوف وقد قال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة }
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم أخرجه الحاكم وفي سنده بشر بن رافع وهو ضعيف
وفي الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
وصحح الترمذي أنها باب من أبواب الجنة
____________________
(1/169)
واعلم أن القلوب تضعف وتمرض وربما ماتت بالغفلة والذنوب وترك إعماله فيما خلق له من أعمال القلوب المطلوبة شرعا وأعظم ذلك الشرك وتحيا وتقوى وتصح بالتوحيد واليقظة وإعماله فيما خلق له والضد يزول بضده وينفعل عنه عكس ما كان منفعلا عنه وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله
( رأيت الذنوب تميت القلوب % وقد يورث الذل إدمانها )
( وترك الذنوب حياة القلوب % وخير لنفسك عصيانها )
قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }
وفي الصحيحين أو في صحيح مسلم من حديث حذيفة إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ثم إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يبقى أسود مربادا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه أخرجه مسلم وأحمد
فالهوى أعظم الأدواء ومخالفته أعظم الدواء وسيأتي في آخر فصول التداوي في دواء العشق ما يتعلق بهذا وخلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة كما قال تعالى { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }
فلجهلها تظن الشفاء في اتباع هواها وإنما هو أعظم داء فيه تلفها وتضع الداء موضع الدواء والدواء موضع الداء فيتولد من ذلك علل وأمراض ثم مع ذلك تبرئ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح لظلمها وجهلها
ولهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملا على كمال الربوبية لجميع المخلوقات ويستلزم توحيده وأنه الذي لا تنبغي العبادة والخوف والرجاء إلا له سبحانه وتعالى وفيه العظمة المطلقة وهي مستلزمة إثبات كل كمال وفيه الحلم وهو مستلزم كمال رحمته وإحسانه فمعرفة القلب بذلك توجب إعماله في أعمال القلوب المطلوبة شرعا فيجد لذة وسرورا يدفع ما حصل وربما حصل البعض بحسب قوة ذلك وضعفه كمريض ورد عليه ما يقوى طبيعته
وهذه
____________________
(1/170)
الأوصاف في غاية المناسبة لتفريج ما حصل للقلب وكلما كان الإنسان أشد اعتناء بذلك وأكثر ذوقا ومباشرة ظهر له من ذلك ما لم يظهر لغيره
والحياة المطلقة التامة مستلزمة لكل صفة كمال والقيومية مستلزمة لكل صفة فعل وكمالها بكمال الحياة فالتوسل بهاتين الصفتين يؤثر في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال
وعن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }
وفاتحة آل عمران ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد وهو حسن
صححه الترمذي وغيره ورواه أبو داود وابن ماجه ولأحمد سمعته يقول في هاتين الآيتين { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } اسم الله الأعظم
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما وصححه ابن حبان من حديث أنس أن رجلا دعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله عز وجل باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى إسناده قوي أخرجه الترمذي وابن ماجه والبخاري ابن حبان والحاكم وفي بقية الأحاديث من تحقيق التوحيد والاعتماد والتوكل والرجاء وأسرار العبودية والاستعاذة من كل شر والاستغفار من كل ذنب والتوسل بأسمائه الحسنى ما يحصل المقصود
والصلاة أمرها عظيم وقد روى أحمد وابن ماجه من حديث ليث بن أبي سليم وفيه كلام عن مجاهد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وقد شكا وجع بطنه قم فصل فإن في الصلاة شفاء أخرجه أحمد وابن ماجه وضعفه البوصيري في الزوائد
وروي موقوفا على أبي هريرة أنه قاله
____________________
(1/171)
لمجاهد قال البخاري قال ابن الأصبهاني ليس له أصل أبو هريرة لم يكن فارسيا إنما مجاهد فارسي وقد روي من حديث أبي الدرداء مرفوعا ولا يصح قاله ابن الجوزي في جامع المسانيد
ومعلوم أن الصلاة حركات مختلفة تتحرك معها الأعضاء الظاهرة والباطنة وقد ذكر الأطباء أن في المشي رياضة وقوة وتحليلا وأن مما يحفظ الصحة إتعاب البدن قليلا ويحصل للنفس بالصلاة قوة وانشراح مع ذلك فتقوى الطبيعة فيندفع الألم والجهاد أقوى في هذا المعنى وأولى وقد قال تعالى { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم }
وعن عبادة مرفوعا جاهدوا في الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم أخرجه أحمد والبيهقي وهو ضعيف
رواه أحمد من رواية إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الشامي وأبو بكر ضعيف عندهم
وعن أبي هريرة مرفوعا سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا أخرجه أحمد وهو ضعيف
رواه أحمد من رواية ابن لهيعة وفي معناه الحج لأنه من سبيل الله عز وجل كما رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى { حسبنا الله ونعم الوكيل } نافعة في ذلك قال تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم }
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد
____________________
(1/172)
صلى الله عليه وسلم حين قالوا { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } رواه البخاري
وفي السنن عن عطية العوفي وهو ضعيف عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر أن يؤمر فينفخ قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا أخرجه الترمذي وأحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان
رواه أحمد ورواه الترمذي وحسنه ورواه النسائي عن إسماعيل بن يعقوب بن إسماعيل عن محمد بن موسى بن أعين عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا وهو إسناد جيد
ومن ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد رضي الله عنه حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي كعب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك قال إذن يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وقال حسن صحيح
حديث حسن ورواه الترمذي بأطول من هذا وحسنه والحاكم وقال صحيح
ومن ذلك أن يلحظ أن انتظار الفرج من الله تعالى عبادة فينتعش بذلك ويسر به ففي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوا الله من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج أخرجه الترمذي وهو ضعيف
واعلم أن الدواء إنما ينفع غالبا من تلقاه بالقبول وعمله باعتقاد حسن وكلما قوي الاعتقاد وحسن الظن كان أنفع
____________________
(1/173)
وقد روى الترمذي وقال غريب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا الله عز وجل وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه أخرجه الترمذي والحاكم وفي سنده صالح المري وهو ضعيف
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله تعالى لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل أخرجه أحمد وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف
وسيأتي في الدعاء قوله عليه السلام في الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله أخرجه أحمد وصححه ابن حبان
وفي الصحيحين أو في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل قالوا وكيف يعجل يا رسول الله قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
فالعارف يجتهد في تحصيل أسباب الإجابة من الزمان والمكان وغير ذلك ولا يمل ولا يسأم ويجتهد في معاملته بينه وبين ربه عز وجل في غير وقت الشدة فإنه أنجح قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفك في الشدة أخرجه أحمد والترمذي وأبو يعلى وقال الترمذي حديث حسن صحيح
رواه أحمد وغيره
وللترمذي وقال غريب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سره أن يستجيب الله عز وجل له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في
____________________
(1/174)
الرخاء
فهذه الأمور ينظر فيها العارف ويعلم أن عدم إجابته إما لعدم بعض المقتضي أو لوجود مانع فيتهم نفسه لا غيرها وينظر في حال سيد الخلائق وأكرمهم على الله عز وجل كيف كان اجتهاده في وقعة بدر وغيرها ويثق بوعد ربه عز وجل في قوله { ادعوني أستجب لكم } وقوله { أجيب دعوة الداع إذا دعان }
وليعلم أن كل شيء عنده بأجل مسمى وأن من تعاطى ذلك على خير ولا بد وأن من لم يجب إلى دعوته حصل له مثلها
وقال غير واحد منهم الترمذي وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله عز وجل إياها وصرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم قال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر أخرجه الترمذي وأحمد وسنده حسن
ولأحمد من حديث أبي سعيد مثله وفيه إما أن يعجلها أو يدخرها له في الآخرة أو يصرف عنه من السوء مثلها أخرجه أحمد والبخاري وإسناده حسن
والله تعالى أعلم ويأتي ما يتعلق بالدعاء في الجملة قبل آداب القراءة وله مناسبة بهذا
وروى الحاكم في تاريخه عن عبد بن حميد أنه قال لرجل شكا إليه العسرة في أموره
( ألا يا أيها المرء الذي % في عسرة أصبح )
( إذا اشتد بك الأمر % فلا تنس ألم نشرح )
وعن علي أن مكاتبا جاءه فقال إني عجزت عن كتابتي فأعني قال ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صفين أداه الله عز وجل
____________________
(1/175)
عنك قال قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك أخرجه الترمذي وأحمد وفي سنده عبد الرحمن بن اسحاق الواسطي وهو ضعيف
رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب
وقال أبو الفرج يا متشردا عن مولاه لا تفعل
( لا تغضبن على قوم تحبهم % فليس ينجيك من أحبابك الغضب )
( ولا تخاصمهم يوما وإن عتبوا % إن القضاة إذا ما خوصموا غلبوا )
وقال ابن عقيل في الفنون والله ما اعتمد على أني مؤمن بصلاتي وصومي بل أعتمد إذا رأيت قلبي في الشدائد يفزع إليه وشكري لمن أنعم علي وقال قد صنتك بكل معنى عن أن تكون عبدا لعبد وأعلمتك أني أنا الخالق الرازق فتركتني وأقبلت على العبيد كلكم تسألوني وقت جدب المطر وبعد الإجابة يعبد بعضكم بعضا
{ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار }
وقال أيضا أما تستحي وأنت تعلم كلب الصيد فلا يأخذ إبقاء عليك فيقبل تعلمك وتكسر عادية طبعه وتكلب نفسه عن الفريسة وهو جائع مضطر إليها حتى إذا أخذت الصيد إن شئت أطعمته وإن شئت حرمته ينتهي حالك معي وأنا المنعم الذي أنشأتك وغذيتك وربيتك أنني كلفتك أن تمسك نفسك عن البحث فيما يسخطني لم تضبط نفسك بل غلبتك على ارتكاب ما نهيت وعصيان ما أمرت بلغت الصناعة من هذا الحيوان الخسيس أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر علقت الآداب بالبهيم وما تعلق بقلبك طول العمر وكمال العقل تنشط لزرع نواة وغرس فسيلة وتقعد منتظرا حملها وينع ثمرها وربما دفنت قبل ذلك ولو عشت كان
____________________
(1/176)
ماذا وما قدر ما يحصل منها وأنت تسمع قولي { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } وقولي { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } هذا وأمثاله من آي القرآن لا تنشط أن تزرع عندي ما تجني ثماره النافعة على التأبيد هذا لأنك مستبعد ما ضمنت في الأخرى قوي الأمل في الدنيا ألم تسمع قوله تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } وتسمع قوله { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } وأنت تحدق إلى المحظورات تحديق متوسل أو متأسف كيف لا سبيل لك إليها وتسمع قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة } تهش لها كأنها فيك نزلت وتسمع بعدها { وجوه يومئذ باسرة }
فتطمئن أنها لغيرك ومن أين ثبت هذا الأمر ومن أين جاء الطمع الله الله هذه خدعة تحول بينك وبين التقوى وقال أيضا الطباع الردية أبالسة الإنسان والعقول والأديان ملائكة هذا الشأن وفي خلال تعتلج ولها أخلاق تتغالب والشرائع من خارج هذا الجسم لمصالح العالم وما دام العبد في العلاج فهو طالب فإذا غلب العقل واستعمل الشرع فهو واصل
وقال ابن الجوزي أيضا ينبغي للعاقل أن يعلم أنه مفلس من الوجود فكل أحد يريده لنفسه لا له من أهل وولد وصديق وخادم وليس معه على الحقيقة إلا الحق سبحانه وتعالى فإن خذله أو وأخذه بذنبه لم يبق له متعلق وكان الهلاك الكلي وإن لطف به وقربه إليه لم يضره انقطاع كل منقطع عنه فليجعل العاقل شغله خدمة ربه فماله على الحقيقة غيره وليكن أنيسة وموضع شكواه فلا تلتفت أيها المؤمن إلا إليه ولا تعول إلا عليه وإياك أن تعقد خنصرك إلا على الذي نظمها
وقال تأملت إقدام أكثر الخلق على المعاصي فإذا سببه حب العاجل والطمع
____________________
(1/177)
في العفو وإني لأعجب من الصوفية إذا مات لهم ميت كيف يعملون دعوة ويرقصون ويقولون وصل إلى الله عز وجل أفأمنوا أن يكون وقع في عذاب فهؤلاء سدوا باب الخوف وعملوا على زعمهم على المحبة والشوق وما كان العلماء هكذا فصل وجوب حب العبد لربه بما يتحبب إليه من نعمه
قال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس قال صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل ابن آدم ما أنصفتني أتحبب إليك بالنعم وتتبغض إلي بالمعاصي خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد أخرجه ابن أبي الدنيا
وقال جعفر بن محمد من نقله الله عز وجل من ذل المعاصي إلى عز الطاعة أغناه بلا مال وآنسه بلا أنس وأعزه بلا عشيرة
أخذه محمود الوراق فقال
( هذا الدليل لمن أراد % غنى يدوم بغير مال )
( وأراد عزا لم توطده % العشائر بالقتال )
( ومهابة من غير سلطان % وجاها في الرجال )
( فليعتصم بدخوله % في عز طاعة ذي الجلال )
( وخروجه من ذلة العاصي % له في كل حال )
وقال الحسن وإن هملجت بهم خيولهم ورفرفت بهم ركائبهم إن ذل المعصية في قلوبهم أبى الله عز وجل إلا أن يذل من عصاه وقالت هند الطاعة مقرونة بالمحبة فالمطيع محبوب وإن نأت داره وقلت آثاره والمعصية مقرونة بالبغضة والعاصي ممقوت وإن مستك رحمته وأنالك معروفه
كتب ابن السماك إلى أخ له أفضل العبادة الإمساك عن المعصية والوقوف عند الشهوة وأقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة وحكي عن سفيان بن عيينة
____________________
(1/178)
مثله
وقال محمود الوراق وينسب إلى الشافعي رحمة الله عليهما شعرا
( تعصي الإله وأنت تظهر حبه % هذا محال في القياس بديع )
( لو كان حبك صادقا لأطعته % إن المحب لمن يحب مطيع )
( في كل يوم يبتديك بنعمة % منه وأنت لشكر ذاك مضيع )
وقال أبو العتاهية
( أراك امرءا ترجو من الله عفوه % وأنت على ما لا يحب مقيم )
( فحتى متى تعصي ويعفو إلى متى % تبارك ربي إنه لرحيم ) فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف وهو كل ما أمر به شرعا والنهي عن المنكر وهو كل ما ينهى عنه شرعا فرض عين وهل هو بالشرع أو بالعقل مبني على التحسين والتقبيح ذكره القاضي وغيره على من علمه حراما وشاهده وعرف ما ينكر ولم يخف سوطا ولا عصا ولا أذى زاد في الرعاية الكبرى يزيد على المنكر أو يساويه ولا فتنة في نفسه أو ماله أو حرمته أو أهله وأطلق القاضي وغيره سقوطه بخوف الضرب والحبس وأخذ المال وأنه ظاهر نقل ابن هانئ في إسقاطه بالعصا خلافا للمعتزلة وأبي بكر بن الباقلاني وأسقطه القاضي أيضا بأخذ المال اليسير
وقال أيضا وقيل له قد أوجبتم عليه شراء الماء بأكثر من ثمن مثله قال إنما أوجبنا ذلك إذا لم تجحف الزيادة بماله ولا يمتنع أن يقال مثله هنا ولا يسقط فرضه بالتوهم فلو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه كذلك قال وإذا لم يجب الإنكار لظننا زيادة المنكر خرج عن كونه حسنا لأن ما أزال وجوبه أزال حسنه ويفارق هذا إذا ظننا أن المنكر لا يزول وأنه يحسن الإنكار وإن لم يجب كما يقاتل الكفار والبغاة والخوارج وإن ظن إقامتهم على ذلك انتهى كلامه فقد صرح بأن فرضه لا يسقط بالتوهم وقوله وإذا لم يجب
____________________
(1/179)
الإنكار لظننا زيادة المنكر ظاهره أنه لا يسقط إلا بالظن
وكلام الإمام أحمد والأصحاب رحمهم الله إنما اعتبروا الخوف وهو ضد الأمن وقد قالوا يصلي صلاة الخوف إذا لم يأمن هجوم العدو
وقال ابن عقيل في آخر الإرشاد من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة
قال أحمد رحمه الله في رواية الجماعة إذا أمرت أو نهيت فلم ينته فلا ترفعه إلى السلطان ليعدي عليه فقد نهي عن ذلك إذا آل إلى مفسدة
وقال أيضا من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف وكذا قاله جمهور العلماء وحكى القاضي عياض عن بعضهم وجوب الإنكار مطلقا في هذه الحال وغيرها
وعن أبي سعيد مرفوعا لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله عز وجل عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله عز وجل ما منعك أن تقول فيه فيقول يا رب خشيت الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي
وفي رواية لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق الله عز وجل إذا رآه أو شهده أو سمعه أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان
رواهما أحمد وابن ماجه وزاد فبكى أبو سعيد وقال قد والله رأينا أشياء فهبنا ولهما من حديثه إن أحدكم ليسأل يوم القيامة حتى يكون فيما يسأل عنه أن يقال ما منعك أن تنكر المنكر إذا رأيته فمن لقنه الله حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان
وعن حذيفة مرفوعا لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه قيل كيف يذل نفسه
____________________
(1/180)
قال يتعرض من البلاء لما لا يطيق أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وهو صحيح
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح وقيل إن زاد وجب الكف وإن تساويا سقط الإنكار
قال ابن الجوزي فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب وظاهر كلام غيره أنه عذر لأنه أذى ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا وقد قال له أبو داود ويشتم قال يحتمل من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك
قال الشيخ تقي الدين الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين إما تعطيل الأمر والنهي وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها وكلاهما معصية وفساد قال تعالى { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } فمن أمر ولم يصبر أو صبر ولم يأمر أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر
وفي الصحيحين عن عبادة قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم أخرجه مالك والبخاري ومسلم وابن حبان
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور وأمر بالصبر على جورهم ونهى عن القتال في الفتنة
فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلما ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف
____________________
(1/181)
والنهي عن المنكر وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة وهؤلاء يقابلون لأولئك ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط في هذا الزمان
وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابا مفردا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما صنف الخلال والدارقطني في ذلك انتهى كلامه
قال الأصحاب ورجا حصول المقصود ولم يقم به غيره
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد ويجب إنكار المنكر وإن لم يغلب في ظنه زواله في إحدى الروايتين نقلها أبو الحارث وقد سأله عن الرجل يرى منكرا ويعلم أنه لا يقبل منه ويسكت فقال إذا رأى المنكر فليغيره ما أمكنه وهو الذي ذكره أبو زكريا النووي عن العلماء قال كما قال تعالى { ما على الرسول إلا البلاغ } وفي رواية أخرى لا يجب حتى يعلم زواله نقلها حنبل عن أحمد فيمن يرى رجلا يصلي لا يتم الركوع والسجود ولا يقيم أمر صلاته فإن كان يظن أنه يقبل منه أمره ووعظه حتى يحسن صلاته
ونقل إسحاق بن هانئ إذا صلى خلف من يقرأ بقراءة حمزة فإن كان يقبل منك فانهه
وذكر في كتاب الأمر بالمعروف وابنه أبو الحسين هل من شرط إنكار المنكر غلبة الظن في إزالة المنكر على روايتين إحداهما ليس من شرطه لظاهر الأدلة والثانية من شرطه وهي قول المتكلمين لبطلان الغرض وكذا ذكرهما القاضي فيما إذا غلب على الظن أن صاحب المنكر يزيد في المنكر
وقال ابن عقيل إذا غلب على ظنه أنه لا يزول فروايتان إحداهما يجب ثم ذكر رواية حنبل السابقة وقال في رواية أخرى في الرجل يرى منكرا ويعلم أنه لا يقبل منه هل يسكت فقال يغير ما أمكنه وظاهره أنه لم يسقط قال أيضا لا
____________________
(1/182)
يجوز انتهى كلامه
وقال في نهاية المبتدئين وإنما يلزم الإنكار إذا علم حصول المقصود ولم يقم به غيره وعنه إذا رجا حصوله وهو الذي ذكره ابن الجوزي وقيل ينكره وإن أيس من زواله أو خاف أذى أو فتنة
وقال في نهاية المبتدئين يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله وإن خاف أذى قيل لا وقيل يجب والذي ذكره القاضي في المعتمد أنه لا يجب ويخير في رفعه إلى الإمام خلافا لمن قال يجب رفعه إلى الإمام ثم احتج القاضي بحديث عقبة وسيأتي
وإذا لم يجب الإنكار فهو أفضل من تركه جزم به ابن عقيل قال القاضي خلافا لأكثرهم في قولهم ذلك قبيح ومكروه إلا في موضعين أحدهما كلمة حق عند سلطان جائر والثاني إظهار الإيمان عند ظهور كلمة الكفر انتهى كلامه وظاهر كلام أحمد أو صريحه عدم رواية الإنكار في الموضع الأول وسيأتي قبل فصول اللباس
وقال أبو الحسين واختلفت الرواية هل يحسن الإنكار ويكون أفضل من تركه على روايتين وفيه رواية ثالثة أنه يقبح وبه قال بعض الفقهاء المتكلمين وجه الأولى اختارها ابن بطة والوالد قوله تعالى { واصبر على ما أصابك } ووجه الثانية قوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
انتهى كلامه وذكر والده الروايتين
قال أحمد في كتاب المحنة في رواية حنبل إن عرضت على السيف لا أجيب وقال فيها أيضا إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق
وقال القاضي وظاهر نقل ابن هانئ ولا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول للنهي عنه قال واحتج المخالف بأن المضطر لو ترك أكل الميتة حتى مات أو تحمل المريض الصيام والقيام حتى ازداد مرضه أثم وعصى وإن كان في ذلك وجوب عزيمة كذا في مسألتنا والجواب أن هذه الأشياء تسقط بالضرر المتوهم
____________________
(1/183)
خوف الزيادة في المرض وخوف التلف بترك الأكل متوهم وليس كذلك الأمر بالمعروف لأنه لا يسقط فرضه بالتوهم لأنه لو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه لذلك ولأن منفعة تلك الأشياء تخصه ومنفعة الأمر بالمعروف تعم ولأن سبب الإتلاف هناك بمعنى من جهته وهنا من جهة غيره قال أبو داود سمعت أبا عبد الله يقول نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم وإن أنكر بيده فهو أفضل
قال عباس العنبري كنت مارا مع أبي عبد الله بالبصرة قال فسمعت رجلا يقول لرجل يا ابن الزاني قال فقال له الآخر يا ابن الزاني قال فوقفت ومضى أبو عبد الله فالتفت إلي فقال يا أبا الفضل أي شي قال قلت قد سمعنا وقد وجب علينا قال امض ليس هذا من ذلك ترجم عليه الخلال ما يوسع على الرجل في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا رأى قوما سفهاء
وقال القاضي عن رواية أبي داود وظاهر هذا أنه غير واجب قال وكذلك نقل أبو علي الدينوري أنه سئل على الرجل يرى منكرا أيجب عليه تغييره فقال إن غير بقلبه أرجو وذكر أبو حفص العكبري عن أبي عبد الله بن بطة ما يدل على هذا قال القاضي وهو محمول من كلامه على أن هناك من يقوم به أو على أنه هناك ما يمنعه من الإنكار بيده فصل
قال أبو داود سمعت أحمد سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى أن ينكر عليه وضعيف يعمل بالمنكر أيضا يقوى أن ينكر عليه قال نعم ينكر عليه فصل مراتب إنكار المنكر
وهو فرض كفاية على من لم يتعين عليه وسواء في ذلك الإمام والحاكم والعالم والجاهل والعدل والفاسق
وقال قوم لا يجوز لفاسق الإنكار وقال آخرون لا يجوز الإنكار إلا لمن أذن له ولي الأمر
وللمميز الإنكار ويثاب عليه
____________________
(1/184)
لكن لا يجب وقال ابن الجوزي الكافر ممنوع من إنكار المنكر لما فيه من السلطنة والعز وأعلاه باليد ثم باللسان ثم بالقلب
وفي الحديث الصحيح ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل أخرجه مسلم وأحمد والبيهقي
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله مراده أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل ولهذا قال ليس وراء ذلك فجعل المؤمنين ثلاث طبقات فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه قال وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم انتهى كلامه
وكذا قال في الغنية بعد الخبر المذكور ويعني أضعف فعل أهل الإيمان قال المروذي قلت لأبي عبد الله كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال باليد وباللسان وبالقلب هو أضعف قلت كيف باليد قال يفرق بينهم ورأيت أبا عبد الله مر على صبيان الكتاب يقتتلون ففرق بينهم وقال في رواية صالح التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح قال القاضي وظاهر هذا يقتضي جواز الإنكار باليد إذا لم يفض إلى القتل والقتال قال القاضي ويجب فعل الكراهة للمنكر كما يجب إنكاره وعند المعتزلة إنما يجب أن لا يفعل الإرادة لأنه قد يخلو المكلف من فعل الإرادة له والكراهة وهذا غلط لأنه لا يصح أن يخلو من فعل الضدين ولأن الشارع أوجب عليه فعل الكراهة بقلبه
وعلى الناس إعانة المنكر ونصره على الإنكار وما اختص علمه بالعلماء اختص إنكاره بهم أو بمن يأمرونه به من الولاة والعوام ومن ولاه السلطان الحسبة تعين عليه فعل ذلك وله في ذلك ما ليس لغيره كسماع البينة وذكر القاضي في الأحكام السلطانية أنه ليس له سماع البينة
وإن دعا الإمام العامة إلى شيء وأشكل عليهم لزمهم سؤال العلماء فإن أفتوا
____________________
(1/185)
بوجوبه قاموا به وإن أخبروا بتحريمه امتنعوا منه وإن قالوا هو مختلف فيه وقال الإمام يجب لزمهم طاعته كما تجب طاعته في الحكم ذكره القاضي وهل يسقط الإثم عمن لم يرض بالمنكر وسخط الإنكار ذكر ابن عقيل أنه رأى لبعض الفقهاء أنه لا يسقط ثم ذكر احتمالا أنه يسقط وأنه ظاهر قول أصحابنا رحمهم الله فصل في الإنكار على من يخالف مذهبه بغير دليل
ومن التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بلا دليل ولا تقليد سائغ ولا عذر كذا ذكر في الرعاية هذه المسألة وذكر في موضع آخر يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر ولا يقلد غير أهله وقيل بلى وقيل ضرورة
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله بعد أن ذكر المسألة الأولى من كلام ابن حمدان رحمه الله هذا يراد به شيئان أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافة من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعا لهواه عاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ نجم الدين
وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة
وإذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه
____________________
(1/186)
ولعب الشطرنج وحضور السماع أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد أن ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممن يكون اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه وهو مذموم مجروح خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز
وأما إذا تبين له رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على ذلك
وقال الشيخ تقي الدين في المسألة الثانية العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجهان لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون له ذلك والذين يوجبونه يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه مادام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتمس مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة إلى امرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها
قال وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه ولا يتبع أحدا في مخالفة الله ورسوله فإن الله فرض طاعة رسوله على كل أحد في كل حال
____________________
(1/187)
قال القاضي فيمن خالف مذهبه ينكر عليه وإن جاز أن يختلف اجتهاده الأول لأن الظاهر بقاؤه عليه وإلا لأظهره لينفي عنه الظن والشبهة كما ينكر على من أكل في رمضان أو طعام غيره وإن جاز أن يكون هناك عذر قال وإن علمنا من حال العامي أنه قلد من يسوغ اجتهاده لم ينكر عليه وإلا أنكرنا لأنه لا يجوز له العمل بما عنده كذا قال قال والأولى أنا لا ننكر إلا مع العلم أنه لا يقلد ومع الظن فيه نظر
وقد قال ابن عقيل في معتقده ومن لم يعلم أن الفعل الواقع من أخيه المسلم جائز في الشرع أم غير جائز فلا يحل له أن يأمر ولا ينهى وكذا ذكر القاضي
وقد قال صاحب المحرر وغيره عقب حديث عائشة إن ناسا يأتوننا باللحم لا ندري أسموا عليه أم لا قال سموا أنتم عليه وكلوا أخرجه البخاري وابن ماجه
قالوا وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد فصل على من ومتى يجوز الإنكار
ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهدا فيه كذا ذكره القاضي والأصحاب وصرحوا بأنه لا يجوز ومثلوه بشرب يسير النبيذ والتزوج بغير ولي ومثله بعضهم بأكل متروك التسمية
وهذا الكلام منهم مع قولهم يحد شارب النبيذ متأولا ومقلدا أعجب لأن الإنكار يكون وعظا وأمرا ونهيا وتعزيرا وتأديبا وغايته الحد فكيف يحد ولا ينكر عليه أم كيف يفسق على رواية ولا ينكر على فاسق وذكر في
____________________
(1/188)
المغني أنه لا يملك منع امرأته الذمية من يسير الخمر على نص أحمد لاعتقادها إباحته ثم ذكر تخريجا من أحد الوجهين في أكل الثوم أنه يملك منعها لكراهة رائحته قال وعلى هذا الحكم لو تزوج امرأة تعتقد إباحة يسير النبيذ هل له منعها على وجهين وذكر أيضا في مسألة مفردة أنه لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار على المجتهدات انتهى كلامه
وقد قال أحمد في رواية المروذي لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم
وقال مهنا سمعت أحمد يقول من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده
وعن أحمد رواية أخرى بخلاف ذلك قال في رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم وهم يلعبون بالشطرنج ينهاهم ويعظهم وقال أبو داود سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا فأخذ الشطرنج فرمى به فقال قد أحسن
وقال في رواية أبي طالب فيمن يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج يقلبها عليهم إلا أن يغطوها ويستروها وصلى أحمد يوما إلى جنب رجل لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال يا هذا أقم صلبك وأحسن صلاتك نقله إسحاق بن إبراهيم
وقال المروذي قلت لأبي عبد الله دخلت على رجل وكان أبو عبد الله بعث بي إليه بشيء فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها فأعجبه ذلك وتبسم وأنكر وأنكر صاحبها وفي التبصرة للحلواني لمن تزوج بلا ولي أو أكل متروك
____________________
(1/189)
التسمية أو تزوج بنته من زنا أو أم من زنى بها احتمال ترد شهادته وهذا ينبغي أن يكون فيما قوي دليله أو كان القول خلاف خبر واحد وإذا نقض الحكم لمخالفته خبر الواحد أو إجماعا ظنيا أو قياسا جليا فما نحن فيه مثله وأولى وحمل القاضي وابن عقيل رواية الميموني على أن الفاعل ليس من أهل الاجتهاد ولا هو مقلد لمن يرى ذلك
وعن أحمد رواية ثالثة لا ينكر على المجتهد بل على المقلد فقال إسحاق بن إبراهيم عن الإمام أحمد إنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب قال إذا كان متأولا أرجو أن لا يكون به بأس وإن كان جاهلا ينهى ويقال له إن النبي صلى الله عليه وسلم عنها
وفي المسألة قول رابع قال في الأحكام السلطانية ما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد الخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه وكنكاح المتعة وربما صارت ذريعة إلى استباحة الزنا فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته
ثم ذكر القاضي كلام أبي إسحاق وابن بطة في نكاح المتعة وقد ذكر أبو الخطاب وغيره ما يدل على أنه يسوغ التقليد في نكاح المتعة وقال في الرعاية في نكاح المتعة ويكره تقليد من يفتي بها وقال في الأحكام السلطانية في موضع آخر المجاهرة بإظهار النبيذ كالخمر وليس في إراقته غرم وقد تقدم كلامه في رواية مهنا وذكر ابن الجوزي أنه ينكر على من يسيء في صلاته بترك الطمأنينة في الركوع والسجود مع أنها من مسائل الخلاف وقال الشيخ عبد القادر يجب أن يأمره
____________________
(1/190)
ويعظه
قال ابن الجوزي واشتغال المعتكف بإنكاره هذه الأشياء وتعريفها أفضل من نافلة يقتصر عليها وذكر أيضا في المنكرات غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة قال فإن فعل ذلك مالكي لم ينكر عليه بل يتلطف به ويقول له يمكنك أن لا تؤذيني بتفويت الطهارة علي
وفي المسألة قول خامس قال الشيخ تقي الدين والصواب ما عليه جماهير المسلمين أن كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب قطرة واحدة لتداو أو غير تداو
وقال في كتاب بطلان التحليل قولهم ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء
وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس
والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم
____________________
(1/191)
ذلك الاجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بوضع الحمل وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل وأن ربا الفضل والمتعة حرام وذكر مسائل كثيرة
وقال أيضا في مكان آخر إن من أصر على ترك الجماعة ينكر عليه ويقاتل أيضا في أحد القولين عند من استحبها وأما من أوجبها فإنه عنده يقاتل ويفسق إذا قام عنده الدليل المبيح للمقاتلة والتفسيق كالبغاة بعد زوال الشبهة
وقال أيضا يعيد من ترك الطمأنينة ومن لم يوقت المسح نص عليه بخلاف متأول لم يتوضأ من لحم الإبل فإنه على روايتين لتعارض الأدلة والآثار فيه
وذكر الشيخ محيي الدين النووي أن المختلف فيه لا إنكار فيه قال لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق وذكر غيره من الشافعية في المسألة وجهين وذكر مسألة الإنكار على من كشف فخذه وأن فيه الوجهين فصل النصوص في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قد أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم أخرجه الترمذي وأحمد وهو حسن كما قال الترمذي
رواه الترمذي وحسنه ومعنى أوشك أسرع
____________________
(1/192)
وعن جرير رضي الله عنه مرفوعا ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله عز وجل بعذاب إسناده حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان
رواه أحمد وغيره
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال يا أيها الناس تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعذاب منه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي وابن حبان وإسناده صحيح
إسناده صحيح رواه جماعة منهم أبو داود والترمذي والنسائي
وعن عتبة بن أبي حكيم عن عمرو بن حارثة عن أبي أمية الشعباني عن أبي ثعلبة أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم قال لا بل أجر خمسين منكم أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان
عتبة مختلف فيه وباقيه جيد رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب وابن ماجه وزاد بعد قوله برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك بخويصة نفسك وذكره
ولأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث حذيفة فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف
____________________
(1/193)
والنهي عن المنكر
وعن أبي البختري أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لن يهلك الناس أو يعذروا من أنفسهم أخرجه أحمد وأبو داود وهو صحيح
إسناده جيد رواه أحمد وأبو داود
يقال أعذر فلان من نفسه إذا أمكن منها يعني أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم فيستوجبون العقوبة ويكون لمن بعدهم عذر كأنهم قاموا بعذره في ذلك ويروى بفتح الياء من عذرته وهو بمعناه وحقيقة عذرته محوت الإساءة وطمستها ويتعلق بالصدق والكذب ما يتعلق بالحق والباطل وله تعلق بهذا
وعن أبي عبيدة عن ابن مسعود مرفوعا لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم
{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا رواه أحمد
ولأبي داود ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود } إلى قوله { فاسقون } ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا زاد في رواية أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وروى الترمذي وابن ماجه هذا المعنى وقال الترمذي حسن غريب وروياه أيضا مرسلا وإسناد هذا
____________________
(1/194)
الخبر ثقات وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عندهم
وعن العرس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها أخرجه أبو داود والطبراني وهو حسن
رواه أبو داود من رواية مغيرة بن زياد الموصلي وهو مختلف فيه
وروى هو وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر حديث صحيح لغيره أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد والحميدي والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري وأخرجه أحمد والبيهقي في الشعب وابن ماجه من حديث أبي أمامة وأخرجه أحمد والنسائي من حديث طارق بن شهاب
رواه الترمذي ولفظه من أعظم الجهاد وقال حسن غريب
ولأحمد والنسائي عن طارق بن شهاب أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل قال كلمة حق عند سلطان جائر وهو لأحمد وابن ماجه من حديث أبي أمامة وفي السنة أحاديث
قال المروذي قال لي عبد الوهاب أنت كيف استخرت أن تقيم بسامراء قال المروذي فذكرت ذلك لأبي عبد الله فقال فلم لم تقل له لا بد للأسير ممن يخدمه ثم قال أبو عبد الله لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا فصل الإنكار الواجب والمندوب والمشترط فيه إذن الحاكم
والإنكار في ترك الواجب وفعل الحرام واجب وفي ترك المندوب وفعل المكروه مندوب ذكره الأصحاب وغيرهم
قال ابن عقيل في آخر كتاب الإرشاد وقال غيره أيضا فمن القبيح ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه كالرمي بالسهام واتخاذ الحمام والعلاج
____________________
(1/195)
بالسلاح لأن تعاطي ذلك لمعرفة الحرب والتقوي على العدو وليرسل على الحمام الكتب والمهمات لحوائج السلطان والمسلمين حسن لا يجوز إنكاره إن قصد بذلك الاجتماع على الفسق واللهو ومعاشرة ذوي الريب والمعاصي فذلك قبيح يجب إنكاره
ومن ترك ما يلزمه فعله بلا عذر زاد في نهاية المبتدئين ظاهر وجب الإنكار عليه وللنساء الخروج للتعلم وينكر على من ترك الإنكار المطلوب مع قدرته عليه ولا ينكر أحد بسيف إلا مع سلطان
وقال ابن الجوزي الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح لكونه لا يقدر على الإنكار بنفسه فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام لأنه يؤدي إلى الفتن وهيجان الفساد وقيل لا يشترط في ذلك إذن الإمام فصل في الإنكار على السلطان والفرق بين البغاة والإمام الجائر
ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظا له وتخويفا أو تحذيرا من العاقبة في الدنيا والآخرة فإنه يجب ويحرم بغير ذلك ذكره القاضي وغيره والمراد ولم يخف منه بالتخويف والتحذير وإلا سقط وكان حكم ذلك كغيره
قال حنبل اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له إن الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه فناظرهم في ذلك وقال عليكم بالإنكار بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم وانظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر وقال ليس هذا بصواب هذا خلاف الآثار
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يأمر بكف الدماء وينكر الخروج إنكارا شديدا
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد الكف لأنا نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلوا
____________________
(1/196)
فلا جزء من حديث أخرجه مسلم وأبو داود
خلافا للمتكلمين في جواز قتالهم كالبغاة قال القاضي والفرق بينهما من جهة الظاهر والمعنى أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله تعالى { وإن طائفتان } الآية وفي مسألتنا أمر بالكف عن الأئمة بالأخبار المذكورة وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بالإمام وفي مسألتنا يحصل قتالهم بغير إمام فلم يجز كما لم يجز الجهاد بغير إمام انتهى كلامه
وقال عبد الله بن المبارك
( إن الجماعة حبل الله فاعتصموا % منه بعروته الوثقى لمن دانا )
( كم يدفع الله بالسلطان معضلة % في ديننا رحمة منا ودنيانا )
( لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل % وكان أضعفنا نهبا لأقوانا )
وقال عمرو بن العاص لابنه يا بني احفظ عني ما أوصيك به إمام عدل خير من مطر وابل وأسد حطوم خير من إمام ظلوم وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم
قال ابن الجوزي الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ فأما تخشين القول نحو يا ظالم يا من لا يخاف الله فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء قال والذي أراه المنع من ذلك لأن المقصود إزالة المنكر وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته قال الإمام أحمد رحمه الله لا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول وعصاه
فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب ولأحمد من حديث عطية السعدي إذا استشاط السلطان تسلط عليه الشيطان
ووعظ ابن الجوزي في سنة أربع وسبعين وخمس مئة بحضور الخليفة المستضيء
____________________
(1/197)
بأمر الله وقال لو أني مثلت بين يدي السدة الشريفة لقلت يا أمير المؤمنين كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك إنه لم يجعل أحدا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر له منك فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق محبوسين
ووعظ أيضا في هذه السنة والخليفة حاضر قال وبالغت في وعظ أمير المؤمنين فما حكيته له أن الرشيد قال لشيبان عظني فقال يا أمير المؤمنين لأن تصحب من يخوفك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى تدرك الخوف قال فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسؤول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول لك أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم فبكى الرشيد حتى رحمه من وليه فقلت له في كلامي يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك انتهى كلامه
ووعظ شبيب بن شيبه المنصور فقال إن الله عز وجل لم يجعل فوقك أحدا فلا تجعل فوق شكرك شكرا
ودخل ابن السماك على الرشيد فقال له تكلم وأوجز فقال إن أخوف ما أخاف على نفسي الدخول إليك فغضب الرشيد وقال لتخرجن مما قلت أو لأفعلن بك وأصنعن قال أنت ولي الله في عباده فإن أنا لم أنصح لك فيهم وأصدقك عنهم خفت الله عز وجل في ذلك اتق الله في رعيتك وخف المرجع إلى الله عز وجل لم أر أحسن من وجهك فلا تجعله لجهنم حطبا
وقال بعضهم رب هالك بالثناء عليه ومغرور بالستر عليه ومستدرج بالإحسان إليه
وقال الفضيل إذا قيل لك أتخاف الله عز وجل فاسكت فإنك إن جئت بلا جئت بأمر عظيم وهول وإن قلت نعم فالخائف لا يكون على ما أنت عليه وقال أبو حاتم كل ما تكره الموت من أجله فاتركه لا يضرك متى مت وقال سفيان ينبغي لمن وعظ أن لا يعنف ولمن وعظ أن لا يأنف ويذكر من
____________________
(1/198)
يعظه ويخوفه ما يناسب الحال وما يحصل به المقصود ولا يطيل ولكل مقام مقال ولكل فن رجال والآيات والأخبار المتعلقة بالظلم والأمر بالعدل والتقوى والكف عن المحرمات مع اختلافها كثيرة مشهورة
وفي الصحيحين أو صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم والمرأة راعيه على بيت زوجها ومسؤولة عنه والعبد راع في مال سيده ومسؤول عنه أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه حدثني أبو اليمان حدثني إسماعيل بن عياش عن يزيد بن أبي مالك عن لقمان بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه فكه بره أو أوثقه إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة أخرجه أحمد وإسناده حسن
إسناده حسن إن شاء الله تعالى
وعن عبادة مرفوعا ما من أمير عشرة إلا جيء به يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوبقه أخرجه أحمد والبيهقي
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه مرفوعا معناه رواهما أحمد وإسنادهما ضعيف لكن لهذا المعنى طرق يعضد بعضها بعضا
وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن الإمارة نعمت المرضعة وبئست الفاطمة أخرجه البخاري والنسائي وابن حبان
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أظنه عن أبي هريرة سبعة يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان
فذكر منهم الإمام العادل
____________________
(1/199)
وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المقسطون يوم القيامة عند الله عز وجل على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان
وقد ذكرت ما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا ترد لهم دعوة حديث حسن أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وانظر تمام تخريجه فيه
فذكر منهم الإمام العادل
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان
وعن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان
رواهما مسلم وغيره ويأتي بعد نحو كراسين ما للمسلم على المسلم من النصح وغيره
وذكر ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يصلح هذا الأمر إلا شدة في غير عنف ولين في غير ضعف
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة بعيد الغور لا يطلع الناس منه على عوره ولا يخاف في الله لومة لائم
وعنه أيضا لا يقيم أمر الله في الناس إلا رجل يتكلم بلسانه كلمة يخاف الله في الناس ولا يخاف الناس في الله
____________________
(1/200)
ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول كتاب كتبه أما بعد فإنه أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري وبسطوا الجور حتى افتدي
وقال مجاعة بن مرارة الحنفي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه والسلاح عند من لا يستعمله والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور
وقال علي رضي الله عنه الملك والدين أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر فالدين أس والملك حارس فما لم يكن له أس فمهدوم وما لم يكن له حارس فضائع
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الملوك من إذا ملك زهده الله عز وجل فيما في يديه ورغبه فيما في يدي غيره وأشرب قلبه الإشفاق على من عنده فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير
ومن كلام الفرس لا ملك إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل ومن كلامهم أيضا الملك الذي يأخذ أموال رعيته ويجحف بهم مثل من يأخذ الطين من أصول حيطانه فيطين سطوحه فيوشك أن تقع عليه السطوح
ومن كلام أرسطو طاليس العالم بستان سياجه الدولة الدولة سلطان تحيا به السنة السنة سياسة السياسة يسوسها الملك الملك راع يعضده الجيش الجيش أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرعية الرعية عبيد يتعبدهم العدل العدل مألوف وهو صلاح العالم
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن صف لي الفتنة حتى كأني أراها رأي العين فكتب له لو كنت شاعرا لوصفتها لك في شعري ولكني أصفها لك بمبلغ علمي ورأيي الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى فلما قرأ كتابه قال إن ذلك لكما وصفت فخذ من قبلك من الجماعة وأعطهم عطايا الفرقة واستعن عليهم بالفاقة فأنها نعم العون على الطاعة
فأخبر بذلك أبو جعفر المنصور فلم
____________________
(1/201)
يزل عليه حتى مضى لسبيله
لما أراد عمرو المسير إلى مصر قال لمعاوية رضي الله عنهما يا أمير المؤمنين إني أريد أن أوصيك قال أجل فأوصني قال انظر فاقة الأحرار فاعمل في سدها وطغيان السفلة فاعمل في قمعها واستوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع
قال بعض الحكماء الرعية للملك كالروح للجسد فإذا ذهب الروح فني الجسد
قال الاسكندر لأرسطا طاليس أوصني قال انظر من كان له عبيد فأحسن سياستهم فوله الجند ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فوله الخراج وقال بعض الحكماء لا تصغر أمر من جاء يحاربك فإنك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر
وقال النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء أخرجه أبو نعيم ولا يصح فإن في سنده محمد بن زياد اليشكري وقد كذبه غير واحد من الأئمة
وفي خبر آخر عن موسى عليه السلام قال علامة رضا الله تعالى عن عباده أن يستعمل عليهم خيارهم وأن ينزل عليهم الغيث في أوانه وعلامة سخطه أن يولي عليهم شرارهم وينزل عليهم الغيث في غير أوانه
كتب عامل إلى عمر بن عبد العزيز إن مدينتنا قد احتاجت إلى مرمة فكتب إليه عمر حصن مدينتك بالعدل ونق طرقها من المظالم
وقال محمد بن كعب القرظي قال لي عمر بن عبد العزيز صف لي العدل يا ابن كعب قلت بخ بخ سألت عن أمر عظيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر احتمالهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحد فتكون من العادين
____________________
(1/202)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم من إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وله شاهد يتقوى به من حديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه والنسائي وابن الجارود وابن حبان
ومن الأمثال في السلطان إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة لا صلاح للخاصة مع فساد العامة لا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء الملك عقيم الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم سكر السلطان أشد من سكر الشراب
قال شاعر
( نخاف على حاكم عادل % ونرجو فكيف بمن يظلم )
( إذا جار حكم امرئ ملحد % على مسلم هلك المسلم )
وعن مجاهد قال المعلم إذا لم يعدل بين الصبيان كتب من الظلمة
وقال محمود الوراق
( إني وهبت لظالمي ظلمي % وغفرت ذاك له على علمي )
( ورأيته أسدى إلي يدا % فأبان منه بجهله حلمي )
وقال أيضا
( اصبر على الظلم ولا تنتصر
فالظلم مردود على الظالم )
( وكل إلي الله ظلوما فما % ربي عن الظالم بالنائم )
وقال آخر
( وما من يد إلا يد الله فوقها % ولا من ظالم إلا سيبلى بظالم )
وقال كعب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء فقال عمر إلا من حاسب نفسه فقال كعب والذي نفسي بيده إنها لكذلك إلا من حاسب نفسه ما بينهما حرف يعني في التوراة وقال أبو
____________________
(1/203)
العتاهية
( أما والله إن الظلم لؤم % وما زال المسيء هو الظلوم )
( إلى ديان يوم الدين نمضي % وعند الله تجتمع الخصوم )
( ستعلم في الحساب أذا إلتقينا % غدا عند الإله من الملوم ) وكتب بها مع يحيى بن خالد بن برمك وقال الشاعر
( اذا جار الأمير وكاتباه % وقاضي الأرض داهن في القضاء )
( فويل ثم ويل ثم ويل % لقاضي الأرض من قاضي السماء )
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وإنما يرحم الله عز وجل من عباده الرحماء أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء أخرجه الترمذي وأبو داود وهو حديث حسن
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح
وعن أبي هريرة مرفوعا ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه أخرجه مسلم والترمذي وابن حبان
رواه مسلم
وقال سعيد بن المسيب لأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة
وقال جعفر بن محمد لأن أندم على العفو أحب إلي من أن أندم على العقوبة
كان يقال أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد
____________________
(1/204)
الذي يملك نفسه عند الغضب أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان وذكرت في مكان آخر ما تكرر من قوله عليه السلام لا تغضب أخرجه البخاري وأحمد
وقوله إذا غضب أحدكم فإن كان قائما فليجلس وإن كان جالسا فليضطجع أخرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان وقد قيل أوحى الله إلى موسى عليه السلام اذكرني عند غضبك أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق وإذ ظلمت فارض بنصرتي لك فإنها خير من نصرتك لنفسك
وقال عيسى عليه السلام يباعدك من غضب الله عز وجل أن لا تغضب وقد ذكرت معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان بن داود عليهما السلام أعطينا ما أعطي الناس وما لم يعطوا وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا فلم نر شيئا أفضل من العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية
وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه إنما يعرف الحلم ساعة الغضب
وكان يقول أول الغضب جنون وآخره ندم ولا يقوم الغضب بذل الاعتذار وربما كان العطب في الغضب
وقيل للشعبي لأي شيء يكون السريع الغضب سريع الفيئة ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة قال لأن الغضب كالنار فأسرعها وقودا أسرعها خمودا
أراد المنصور خراب المدينة لإطباق أهلها على حربه مع محمد بن عبد الله بن حسن فقال له جعفر بن محمد يا أمير المؤمنين إن سليمان عليه السلام أعطي فشكر وإن أيوب عليه السلام أبتلي فصبر وإن يوسف عليه السلام قدر فغفر وقد جعلك الله عز وجل من نسل الذين يعفون ويصفحون فطفئ غضبه وسكت وسيأتي ما يتعلق بهذا بالقرب من نصف الكتاب في الخلق الحسن والحلم ونحو ذلك
____________________
(1/205)
وقد قال ابن هبيرة فيما رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعا لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة ليكون عليه حسرة أخرجه البخاري وانظر تمام تخريجه في صحيح ابن حبان قال فيه من الفقه أن المنعم عليه إذا بولغ في الإحسان إليه فإن من تمام الإحسان أن يشعر قدر أكثر الذي خلص فيه ليكون عليه من جهتين بأن وقاه الله عز وجل الشر وغمسه في الخير كما أن الكافر إذا اشتد به الانتقام أري مقام الفوز الذي فاته لتضاعف حسرته من طرفين ما هو فيه وتوالي حسراته على ما فاته من الخير ليكون غمه في كلا جانبيه
وقال ابن عقيل في الفنون قال بعض أهل العلم قولا بمحضر من السلطان فأخذ السلطان في الاحتداد عليه وأخذ بعض من حضر يترفق ويسكن غضبه ولم يك محله بحيث يشفع في مثل ذلك العالم فالتفت العالم فقال للشافع يا هذا غضب هذا الصدر وكلامه إياي بما يشق أحب إلي من شفاعتك إليه فإن غضبه لا يغض مني وهو سلطاني وشفاعتك هي غضاضة علي وكان القائل حنبليا فأفحم الشافع وأرضى السلطان
وقال أيضا غضب بعض الصوفية على الأمير في طريق الحج فقال حنبلي بلسان القوم قبيح بنا أن نخرج ونرجع مطاوعة للنفوس وهل خرجنا إلا وقد قتلنا النفوس فرجع معه وأطاعه فقال سبحان الله لو خوطبوا بلسان الشريعة من آية أو خبر ما استجابوا فلما خوطبوا بكلمتين من الطريقة أسرعوا الإجابة فما أحسن قول الله عز وجل { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }
وفي حواشي تعليق القاضي أبي يعلى ذكر المدائني في كتاب السلطان عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل يا أمير المؤمنين عظني قال مستوص أنت قال نعم قال لا تهلك الناس عن نفسك
____________________
(1/206)
فإن الأمر يصل إليك دونهم ولا تقطع النهار بكذا وكذا فإنه محفوظ عليك ما غفلت وإذا أسأت فاحسن فإني لم أر شيئا أشد طلبا ولا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم
وبإسناده عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعمت الهدية ونعمت العطية الكلمة من كلام الحكمة يسمعها الرجل فينطوي عليها حتى يهديها إلى أخيه وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ادفع بالتي هي أحسن }
قال الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة فإذا فعلوه عصمهم الله عز وجل وخضع لهم عدوهم
وقال أبو داود في الخراج باب في اتخاذ الوزير حدثنا موسى بن عامر المري حدثنا الوليد حدثنا زهير بن محمد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله عز وجل بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله عز وجل به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان
حديث حسن رجاله ثقات وزهير تكلم فيه وحديثه حسن ويأتي في آداب الأكل في الضيف قصة أبي الهيثم بن التيهان فيها تعلق بهذا ويأتي أيضا في الاستئذان وأيضا في الشفاعة بالقرب من نصف الكتاب ما يتعلق بهذا وقال أبو العتاهية في إبن السماك الواعظ
( يا واعظ الناس قد أصبحت متهما % إذ عبت منهم أمورا أنت آتيها )
( كلابس الصوف من عري وعورته % للناس بادية ما إن يواريها )
( وأعظم الإثم بعد الشرك تعلمه % في كل نفس عماها عن مساويها )
____________________
(1/207)
( عرفانها بعيوب الناس تبصرها % منهم ولا تبصر العيب الذي فيها )
وقال بعض أصحاب الإسكندر له قد بسط الله عز وجل ملكك وعظم سلطانك فبأي الأشياء أنت أسر بما نلت من أعدائك أو بما بلغت من سلطانك فقال كلاهما عندي يسير وأعظم ما أسر به ما سننت في الرعية من السنن الجميلة والشرائع الحسنة ولما مات الإسكندر قال نادبه حركنا الإسكندر بسكونه قال ابن عبد البر كان يقال من أحبك نهاك ومن أبغضك أغراك وذكر الحاكم في تاريخه أن أحمد بن سيار كتب إلى بعض الولاة
( لا تشرهن فإن الذل في الشره % والعز في الحلم لا في الطيش والسفه )
( وقل لمغتبط في التيه من حمق % لو كنت تعلم ما في التيه لم تته )
( للتيه مفسدة للدين منقصة % للعقل مهلكة للعرض فانتبه ) فصل في الإنكار على غير المكلف للزجر والتأديب
ولا ينكر على غير مكلف إلا تأديبا له وزجرا قال ابن الجوزي المنكر أعم من المعصية وهو أن يكون محذور الوقوع في الشرع فمن رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه كذلك عليه أن يمنعه من الزنى انتهى كلامه
قال المروذي لأحمد الطنبور الصغير يكون مع الصبي قال يكره أيضا إذا كان مكشوفا فاكسره
وذكر الشيخ تقي الدين في الكلام على حديث ابن عمر أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع زمارة راع وسد أذنيه أخرجه أبو داود وفي سنده سليمان بن موسى الأشدق عند أفرادات وقال أبو داود في حديثه منكر
قال لم يعلم أن الرقيق كان بالغا فلعله كان صغيرا دون البلوغ والصبيان رخص لهم في اللعب ما لم يرخص فيه للبالغ انتهى كلامه وذكر الأصحاب وغيرهم أن سماع المحرم بدون استماعه وهو قصد السماع لا يحرم
وذكره الشيخ تقي الدين أيضا وزاد باتفاق المسلمين قال
____________________
(1/208)
وإنما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة في التحفظ فسن بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع وفي المغني جواب آخر أنه أبيح للحاجة إلى معرفة انقطاع الصوت وكذا قال في الفنون أبيح لضرورة الاستعلام كما لو أرسل الحاكم إلى أهل الزمر من يستمع له ويستعلم خبرهم أبيح له أن يستمع لضرورة الاستعلام وكالنظر إلى الأجنبيات للحاجة فصل في الإنكار على أهل السوق
قال ابن الجوزي من تيقن أن في السوق منكرا يجرى على الدوام أو في وقت معين وهو قادر على تغييره لم يجز له أن يسقط ذلك عنه بالقعود في بيته بل يلزمه الخروج فإن قدر على تغيير البعض لزمه فصل في الإنكار على أهل الذمة
إذا فعل أهل الذمة أمرا محرما عندهم غير محرم عندنا لم يعرض لهم ويدعهم وفعلهم سواء أسروه أو أظهروه هذا ظاهر قول أصحابنا وغيرهم لأن الله سبحانه وتعالى منعنا من قتالهم والتعرض لهم إذا التزموا الجزية والصغار وهو جريان أحكام المسلمين ولأن المقصود إقامة أمر الإسلام وهو حاصل لا أمر دينهم المبدل المغير ولأن الإقدام عليهم بإنكار ذلك والتعرض لهم فيه يفتقر إلى دليل والأصل عدمه لأن من كان منهم فاسقا في دينه قد يترتب عليه شيء من أحكام الدنيا فلا تصح شهادته مطلقا ولا وصيته إلى غيره ولا وصية غيره إليه وإن فعلوا أمرا محرما عندنا فما فيه ضرر أو غضاضة على المسلمين يمنعون منه ويدخل فيه نكاح مسلمة ويدخل فيه ما ذكره القاضي في جزء له إنهم إن تبايعوا بالربا في سوقنا منعوا لأنه عائد بفساد نقدنا فظاهر هذا أنا لا نمنعهم في غير سوقنا والمراد إن اعتقدوا حله
وفي الانتصار فيما إذا عقد على محرم هل يحل أن أهل الذمة لو اعتقدوا بيع درهم بدرهمين يتخرج أن يقروا على وجه لنا فظاهر هذا بل صريحه أن الأشهر منعهم مطلقا لأنهم كالمسلمين في تحريم الربا عليهم كما ذكره في باب الربا
____________________
(1/209)
ويدخل فيه ما ذكره القاضي في هذا الجزء أنه لا يجوز أن يتعلموا الرمي وكذا يمنعون مما يتأذى المسلمون به كإظهار المنكر من الخمر والخنزير وأعيادهم وصليبهم وضرب الناقوس وغير ذلك وكذا إن أظهروا بيع مأكول في نهار رمضان كالشواء منعوا ذكره القاضي في الجزء المذكور أيضا وقال الشيخ تقي الدين فيما إذا أظهر أحد من أهل الذمة الأكل في رمضان بين المسلمين ينهون عنه فإن هذا من المنكرات في دين الإسلام كما ينهون عن إظهار شرب الخمر وأكل لحم الخنزير انتهى كلامه
وإن تركوا التميز عن المسلمين في أحد أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم ألزموا به ولا يمنعون من نكاح محرم بشرطين أحدهما أن لا يرتفعوا إلينا والثاني أن يعتقدوا حله في دينهم لأن ما لا يعتقدون حله ليس من دينهم فلا يقرون عليه كالزنى والسرقة وهذا الحكم من أصحابنا في هذه المسألة بهذا التعليل دليل على أن كل أمر محرم عندنا إذا فعلوه غير معتقدين حله يمنعون منه
ويوافق هذا المعنى قولهم لا يلزم الإمام إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه خاصة سواء كان الحد واجبا عليهم في دينهم أم لا استدلالا بفعله صلى الله عليه الصلاة والسلام في رجمه اليهوديين الزانيين ولأنه محرم في دينهم وقد التزموا حكم الإسلام وذلك لأن تحريمه عندنا مع اعتقادهم تحريمه يصير منكرا فيتناوله أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولأنهم التزموا الصغار وهو جريان أحكام المسلمين عليهم إلا فيما اعتقدوا إباحته وما ذكر من إنكار ما هو محرم عليهم عندنا مع اعتقادهم تحريمه أعم من أن يكون التحريم عاما لنا ولهم أو عليهم خاصة في ملتهم وقررت شريعتنا تحريمه عليهم وذلك لاتفاق الملتين على تحريمه كما
____________________
(1/210)
لو كان التحريم عاما لنا ولهم لعدم أثر اختصاصهم بالتحريم إذ لا يشترط في إنكار المحرم أن يكون التحريم عاما للفاعل ولغيره وعلى هذا نمنعهم من تبايعهم الشحوم المحرمة عليهم في دينهم لأكلها أو لغيره ولأن تحريمها باق عند الإمام أحمد رضي الله عنه ولهذا نص على أنه لا يجوز لنا أن نطعمهم شيئا من هذه الشحوم وعلى هذا تحرم إعانتهم على ذلك والشهادة فيه
وفي الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم الشحوم أجملوها فباعوها فأكلوا ثمنها أخرجه البخاري ومسلم
جمله وأجمله أي أذابه
وثبت في السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن الله عز وجل إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه أخرجه أبو داود والدارقطني وقال العظيم آبادي رواته كلهم ثقات محتج بهم
رواه أبو داود وغيره والمراد المقصود منه الأكل فيتبعه غيره وتحريمه عام فلا يرد عبد وحيوان محرم وموطوءة الأب يرثها ابنه ونحو ذلك
واختار أبو الوفا ابن عقيل نسخ تحريم هذه الشحوم جزم به في كتاب الروايتين له وفيه نظر وفي المفيد من كتب الحنفية في باب الغصب ويمنع الذمي من كل ما يمنع المسلم منه إلا شرب الخمر وأكل الخنزير لأن ذلك مستثنى في عقودهم ولو غنوا وضربوا بالعيدان منعوا كما يمنع المسلمون لأن ذلك لم يستثن في عقودهم فصل في تحقيق دار الإسلام ودار الحرب
فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام وإن غلب عليها أحكام
____________________
(1/211)
الكفار فدار الكفر ولا دار لغيرهما
وقال الشيخ تقي الدين وسئل عن ماردين هل هي دار حرب أو دار إسلام قال هي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب والله أعلم فصل ما ينبغي أن يتصف به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متواضعا رفيقا فيما يدعو إليه شفيقا رحيما غير فظ ولا غليظ القلب ولا متعنتا حرا ويتوجه أن العبد مثله وإن كان الحر أكمل عدلا فقيها عالما بالمأمورات والمنهيات شرعا دينا نزيها عفيفا ذا رأي وصرامة وشدة في الدين قاصدا بذلك وجه الله عز وجل وإقامة دينه ونصرة شرعه وامتثال أمره وإحياء سنته بلا رياء ولا منافقة ولا مداهنة غير منافس ولا مفاخر ولا ممن يخالف قوله فعله ويسن له العمل بالنوافل والمندوبات والرفق وطلاقة الوجه وحسن الخلق عند إنكاره والتثبت والمسامحة بالهفوة عند أول مرة
قال حنبل إنه سمع أبا عبد الله يقول والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلا معلنا بالفسق فقد وجب عليك نهيه وإعلامه لأنه يقال ليس لفاسق حرمة فهؤلاء لا حرمة لهم وسأله مهنا هل يستقيم أن يكون ضربا باليد إذا أمر بالمعروف قال الرفق
ونقل يعقوب أنه سئل عن الأمر بالمعروف قال كان أصحاب عبد الله بن مسعود يقولون مهلا رحمكم الله
____________________
(1/212)
ونقل مهنا ينبغي أن يأمر بالرفق والخضوع قلت كيف قال إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيريد أن ينتصر لنفسه وسأله أبو طالب إذا أمرته بمعروف فلم ينته قال دعه إن زدت عليه ذهب الأمر بالمعروف وصرت منتصرا لنفسك فتخرج إلى الإثم فإذا أمرت بالمعروف فإن قبل منك وإلا فدعه
وقال أبو بكر الخلال أخبرني الميموني حدثنا ابن حنبل حدثنا معمر بن سليمان عن فرات بن سلمان عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال له يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك قال يا بني إني إنما أروض الناس رياضة الصعب إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا لهذا ويسكنوا لهذه
وأخبرني محمد بن أبي هارون سمعت أبا العباس قال صلى بأبي عبد الله يوما جوين فكان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى وكنت بجنبه فلما صلينا قال لي وقد خفض من صوته قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يكف شعرا ولا ثوبا أخرجه بنحوه مسلم وابن ماجه
فلما قمنا قال لي جوين أي شيء كان يقول لك قلت قال لي كذا وكذا وما أحسب المعنى إلا لك
وروى الخلال قيل لإبراهيم بن أدهم الرجل يرى من الرجل الشيء ويبلغه عنه أتقول له قال هذا تبكيت ولكن يعرض
وقد روى أبو محمد الخلال عن أسامة بن زيد مرفوعا لا ينبغي لأحد أن يأمر بالمعروف حتى يكون فيه ثلاث خصال عالما بما يأمر عالما بما ينهى رفيقا فيما يأمر رفيقا فيما ينهى وعن أسامة مرفوعا يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول
____________________
(1/213)
بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
رواه أحمد والبخاري ومسلم وزاد
وسمعته يقول مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون وهذه الزيادة لأحمد من حديث أنس وفيه قال خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون الاندلاق الخروج والأقتاب الأمعاء
وعن أنس قال قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم أخرجه أحمد وابن ماجه وإسناده قوي وصحح إسناده البوصيري
قلنا وما ظهر في الأمم قبلنا قال الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم قال زيد تفسيره إذا كان العلم في الفاسق
رواه أحمد وابن ماجه
قال ابن الجوزي من لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار أحدهما من لطف ينالونه به والثاني من رضاهم عنه وثنائهم عليه
قال الخلال أخبرني عمر بن صالح قال قال لي أبو عبد الله يا أبا حفص يأتي على الناس زمان المؤمن بينهم مثل الجيفة ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع فقلت وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع قال صيروا أمر الله عز وجل فضولا قال المؤمن إذا رأى أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر لم يصبر حتى يأمر وينهى يعني قالوا هذا فضول
قال والمنافق كل شيء يراه قال بيده على أنفه فيقال نعم الرجل ليس بينه وبين الفضول عمل وسمعت أحمد ابن حنبل رضي الله عنه يقول إذا رأيتم اليوم شيئا مستويا فتعجبوا
____________________
(1/214)
قال القاضي وغيره ويجب أن يبدأ وقال بعضهم ويبدأ في إنكاره بالأسهل ويعمل بظنه في ذلك فإن لم يزل المنكر الواجب زاد بقدر الحاجة فإن لم ينفع أغلظ فيه فإن زال وإلا رفعه إلى ولي الأمر ابتداء إن أمن حيفه فيه لكن يكره وسيأتي كلامه في نهاية المبتدئين من قدر على إنهاء المنكر إلى السلطان أنهاه وإن خاف فوته قبل إنهائه أنكره هو وتقدمت رواية أبي طالب ويحرم أخذ مال على حد أو منكر ارتكب
ونقل الشيخ تقي الدين فيه الإجماع أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز ولأنه مال سحت خبيث وظاهر قوله جواز المعاقبة بالمال مع إقامة الحد وشرط رفعه إلى ولي الأمر أن يأمن من حيفه فيه ويكون قصده في ذلك النصح لا الغلبة وقال في نهاية المبتدئين يفعل فيه ما يجب أو يستحب لا غير قال وقيل لا يجوز رفعه إلى السلطان الذي يظن عادة أنه لا يقوم به أو يقوم به على غير الوجه المأمور كذا قال وليس المذهب خلاف هذا القول قال ويخير في رفع منكر غير متعين عليه ونص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا يرفعه إلى السلطان إن تعدى فيه ذكره ابن عقيل وغيره قال قال أحمد إن علمت أنه يقيم الحد فارفعه
وقال الخلال أخبرني محمد بن أشرس قال مر بنا سكران فشتم ربه فبعثنا إلى عبد الله رسولا وكان مختفيا فقلنا أيش السبيل في هذا سمعناه يشتم ربه أترى أن نرفعه إلى السلطان فبعث إلينا إن أخذه السلطان أخاف أن لا يقيم عليه الذي ينبغي ولكن أخيفوه حتى يكون منكم شبيها بالهارب فأخفناه فهرب وقال محمد بن الكحال أذهب إلى السلطان قال لا إنما يكفيك أن تنهاه وقال ليعقوب أنههم واجمع عليهم قلت السلطان قال لا ونقل أبو الحارث يعظهم وينهاهم قلت قد فعل فلم ينتهوا قال يستعين عليهم بالجيران فأما السلطان فلا إذا رفعهم إلى السلطان خرج الأمر من يده أما علمت قصة عقبة بن عامر ونقل هذا المعنى جماعة ونقل مثنى في أخوين يحيف أحدهما على أخيه هل تجوز قطيعتة أم يرفق به وينصح قال إذا أمره ونهاه فليس عليه أكثر من هذا
____________________
(1/215)
وستأتي رواية حنبل فإن انتهى وإلا أنهى امره إلى السلطان حتى يمنعه من ذلك
قال المروذي وشكوت إلى أبي عبد الله جارا لنا يؤذينا بالمنكر قال تأمره بينك وبينه قلت قد تقدمت إليه مرارا فكأنه تمحل فقال أي شيء عليك إنما هو على نفسه أنكر بقلبك ودعه قلت لأبي عبد الله فيستعان بالسلطان عليه قال لا ربما أخذ منه الشيء ويترك وقال مثنى الأنباري قلت لأبي عبد الله ما تقول إذا ضرب رجل رجلا بحضرتي أو شتمه فأرادني أن أشهد له عند السلطان قال إن خاف أن يتعدى عليه لم يشهد وإن لم يخف شهد
والذي يتحصل من كلام الإمام أحمد أنه هل يجب رفعه إلى السلطان بعلمه أنه يقيمه على الوجه المأمور أم لا فيه روايتان فإن لم يجب فهل يلزمه أن يستعين في ذلك بالجمع عليه بالجيران أو غيرهم أم لا فيه روايتان ورواية أبي طالب يكره ويسقط وجوب الرفع بخوفه أن لا يقيمه على الوجه المأمور على نص أحمد وظاهره أيضا لا يجوز لعلمه عادة أنه لا يقيمه على الوجه المأمور فظاهر كلام جماعة جوازه وأطلق بعضهم رفعه إلى ولي الأمر بلا تفصيل والله أعلم لكن قد قال الأصحاب من عنده شهادة بحد يستحب أن لا يقيمها ولعل كلام الإمام أحمد في الأمر برفعه على الاستحباب وعلى كل تقدير فهو مخالف لكلام الأصحاب إلا أن يتأول على جواز الرفع وهو تأويل بعيد من هذا الكلام ولعله أمر بعد حظر فيكون للإباحة فيكون رفعه لأجل الحد مباحا ورفعه لأجل إنكار المنكر واجبا أو مستحبا والله سبحانه وتعالى أعلم
وله كسر آلة اللهو وصور الخيال ودف الصنوج وشق وعاء الخمر وكسر دنه إن تعذر الإنكار بدونه وقيل مطلقا كذا في الرعاية ونقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث في زق الخمر يحله فإن لم يقدر على حله يشقه وظاهره أنه لا يجوز كسره مع القدرة على إراقته قاله القاضي وهذا إختياره
ونقل المروذي في الرجل يرى مسكرا في قنينة أو قربه يكسره وظاهره جواز الكسر وأصح الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه إباحة إتلاف وعاء الخمر
____________________
(1/216)
وعدم ضمانه مطلقا وذكره جماعه وعلى هذا لا ضمان وعلى الرواية الأخرى يضمن إن لم يتعذر وذكر صاحب النظم إنما يضمن إذا ما طهر بغسله فقط كذا قال ويقبل قول المنكر في التعذر لتيقن المنكر والشك في موجب التضمين
والأولى أن يقال إن كان ثم قرينه وظاهر حال عمل بها وإلا أحتمل ما قال واحتمل الضمان للشك في وجود السبب المسقط للضمان والأصل عدمه
قال المروذي وسألت أبا عبد الله قلت أمر في السوق فأرى الطبول تباع أكسرها قال ما أراك تقوى إن قويت يا أبا بكر قلت أدعى أغسل الميت فأسمع صوت الطبل قال إن قدرت على كسره وإلا فاخرج سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور قال تكسر وقال ابن هانئ لأحمد والدف الذي يلعب الصبيان به قال يروى عن أصحاب عبد الله أنهم كانوا يتبعون الأزقة يخرجون الدفوف
قال في الرعاية وكذا كسر آلة التنجيم والسحر والتعزيم والطلسمات وتمزيق كتب ذلك ونحوه يعني أن له إتلاف ذلك مطلقا ومراده ومراد غيره في هذا ومثله أنه يجب إتلافه لأنه منكر
قال ابن حزم اتفقوا على أن رواية ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل وكذا كتابته وقراءته وتركه إن وجد لا يمحى أثره قال أبو الحسن لا تختلف الرواية إذا كسر عودا أو مزمارا أو طبلا لم يضمن قيمته لصاحبه واختلفت الرواية في كسر الدف هل عليه الضمان على روايتين ويحرم التكسب بذلك ونحوه ويؤدب الآخذ والمعطي والمعطى عليه وتعلمه وتعليمه ولو بلا عوض والعمل به
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى وآلات اللهو لا يجوز اتخاذها ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة انتهى كلامه
نقل مهنا في رجل دخل منزل رجل فرأى قنينة فيها نبيذ ينبغي أن يلقي فيها ملحا
____________________
(1/217)
أو شيئا يفسده وقال القاضي وهذا صحيح لأن بالإفساد قد زال المنكر قال صاحب النظم ويؤخذ من كلام غيره والبيض والجوز للقمار يتلف منه بحيث لا ينفعه في قماره عادة فإن زاد ضمنه فصل في البيت الذي فيه الخمر هل يتلف أو يحرق
قطع غير واحد بأن البيت الذي فيه الخمر لا يتلف وقال القاضي أبو الحسين اختلفت الرواية فيمن تجارته في الخمر هل يحرق بيته على روايتين إحداهما يحرق والثانية لا يحرق وجه الأولى اختارها ابن بطة ما روت صفية بنت أبي عبيد قالت وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيت رجل من ثقيف شرابا فأمر به عمر فحرق بيته وكان يدعى رويشدا فقال عمر إنك فويسق
وقال الحارث شهد قوم على رجل عند علي بن أبي طالب أنه يصنع الخمر في بيته فيشربها ويبيعها فأمر بها فكسرت وحرق بيته وأنهب ماله ثم جلده ونفاه رواهما ابن بطة قال ابن منصور لأحمد رجل مسلم وجد في بيته خمر قال يراق الخمر ويؤدب وإن كانت تجارته يحرق بيته كما فعل عمر برويشد قال إسحاق كما قال ووجه الثانية أنها كبيرة فلا يحرق بيت فاعلها عليها كبقية الكبائر
قال حنبل سمعت أبا عبد الله سئل عمن يعمل المسكر ويبيعه ترى أن يحول من الجوار قال أرى أن يوعظ في ذلك ويقال له فإن انتهى وإلا أنهى أمره إلى السلطان حتى يمتنع من ذلك ذكر القاضي الروايتين في الأمر بالمعروف فصل في المعالجة بالرقي والعزائم
قال أحمد رحمه الله في رواية البرزاطي في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من
____________________
(1/218)
الصرع بالرقي والعزائم ويزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم ومنهم من يخدمه قال ما أحب لأحد أن يفعله تركه أحب إلي فصل
قال المروذي قلت لأبي عبد الله في الرجل يدعى فيرى سترا عليه تصاوير قال لا ينظر إليه قلت قد نظرت إليه كيف أصنع أهتكه قال تخرق شيء الناس ولكن إن أمكنك خلعه خلعته قلت فالرجل يكتري البيت يرى فيه تصاوير ترى أن يحكه قال نعم قلت فإن دخلت حماما فرأيت فيه صورة ترى ان أحك الرأس قال نعم
قال ابن عقيل في الفنون وسئل هل يجوز تخريق الثياب التي عليها الصور قال لا يجوز لأنها يمكن أن تكون مفارش بخلاف غيرها فصل في النظر إلى ما يخشى منه الوقوع في الضلال والشبهة
ويحرم النظر فيما يخشى منه الضلال والوقوع في الشك والشبهة ونص الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه على المنع من النظر في كتب أهل الكلام والبدع المضلة وقراءتها وروايتها وقال في رواية المروذي لست بصاحب كلام فلا أرى الكلام في شيء إلا ما كان في كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم أو عن التابعين فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود رواه الخلال
وقال في رواية أحمد بن أصرم لرجل إياك ومجالسة أصحاب الخصومات والكلام
وقال في روايته أيضا لرجل لا ينبغي الجدال اتق الله ولا ينبغي أن تنصب نفسك وتشتهر بالكلام لو كان هذا خيرا لتقدمنا فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إن جاءك مسترشد فأرشده رواهما أبو نصر السجزي
وقال في رواية حنبل عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم وإياكم والخوض والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام وقال لي أبو عبد الله لا تجالسهم ولا
____________________
(1/219)
تكلم أحدا منهم
وقال أيضا وذكر أهل البدع فقال لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم وكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة لأن الكلام لا يدعو إلى خير عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به ودعوا الجدال وكلام أهل البدع والمراء أدركنا الناس وما يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام
وقال عبد الله سمعت أبي يقول كان الشافعي رضي الله عنه إذا ثبت عنده خبر قلده وخير خصلة فيه أنه لم يكن يشتهي الكلام إنما كانت همته الفقه
قال في روايته أيضا وكتب إليه رجل يسأله عن مناظرة أهل الكلام والجلوس معهم قال والذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من سلفنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل الزيغ وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتعدى ذلك
وقد قال أحمد في المسند حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام بن حسان حدثنا حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع بالدجال فلينأ عنه من سمع بالدجال فلينأ عنه من سمع بالدجال فلينأ عنه فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به بما معه من الشبه حتى يتبعه أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح
إسناد جيد ورواه أبو داود من حديث حميد بن هلال
وقال الزعفراني سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول ما ناظرت أهل الكلام إلا مرة وأنا أستغفر الله عز وجل من ذلك
وقال الربيع سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول لأن يبتلي الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك به خير له من الأهواء
وقال ابن عبد الحكم عنه لو علم الناس ما في الأهواء من الكلام لفروا منه كما يفرون من الأسد
وقال أيضا ما أحد ارتدى بالكلام فأفلح
وسأله المزني عن
____________________
(1/220)
مسألة من علم الكلام فقال له أين أنت فقال في المسجد الجامع في الفسطاط فقال لي أنت في تاران وتاران موضع في بحر القلزم لا تكاد تسلم منه سفينة ثم ألقى علي مسألة في الفقه فأجبت فيها فأدخل علي شيئا أفسد جوابي فأجبت بغير ذلك فأدخل شيئا أفسد جوابي فجعل كلما جئت بشيء أفسده ثم قال لي هذا الفقه الذي فيه الكتاب والسنة وأقاويل الناس يدخله مثل هذا فكيف الكلام في رب العالمين الذي الجدال فيه كفر فتركت الكلام وأقبلت على الفقه
وقال أيضا حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في القبائل والعشائر وينادي عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام
وقال ابن الجوزي رحمة الله عليه إما من عنده أو حكاية عن الشافعي لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم وقال نوح الجامع قلت لأبي حنيفة فيما أحدث الناس في الكلام من الأعراض والأجسام فقال مقالات الفلاسفة عليك بطريق السلف وإياك وكل محدثة
وقال عبدوس بن مالك العطار سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال والخصومات في الدين إلى أن قال لا تخاصم أحدا ولا تناظره ولا تتعلم الجدال فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه لا يكون صاحبه إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال
وقال العباس بن غالب الوراق قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري فيتكلم متكلم مبتدع أرد عليه قال لا تنصب نفسك لهذا أخبر بالسنة ولا تخاصم فأعدت عليه القول فقال ما أراك
____________________
(1/221)
إلا مخاصما
قال القاضي أبو الحسين وجه قول إمامنا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بقوم شرا ألقى بينهم الجدل وحزب عنهم العمل وقيل للحسن البصري تجادل فقال لست في شك من ديني وقال مالك بن أنس كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد عليهما السلام لجدله
وقال صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي حديث صحيح
الخبر وروى المظفر السمعاني في كتاب الانتصار لأهل الحديث عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من أمتي أهل البدع لم نفق له على سند ولا نخاله يصح
وذكر أبو المظفر فيه قيل للإمام مالك بن أنس رحمه الله وما البدع قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون
وقال الأوزاعي عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول فليحذر كل مسؤول ومناظر من الدخول فيما ينكره عليه غيره وليجتهد في اتباع السنة واجتناب المحدثات كما أمر انتهى كلام أبي الحسين وقال رجل لأيوب السختياني أكلمك بكلمة قال ولا بنصف كلمة
وقال الأوزاعي إذا أراد الله عز وجل بقوم شرا فتح عليهم الجدال ومنعهم العمل وقال مالك ليس هذا الجدل من الدين بشيء وقال الشافعي رضي الله عنه المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغائن
وروى أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا حجاج بن دينار الواسطي عن أبي غالب عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه
____________________
(1/222)
إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } ورواه جماعة منهم الترمذي وقال حسن صحيح هو حديث حسن أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي
قال ابن معين في أبي غالب صالح الحديث ووثقه الدارقطني وقال ابن عدي لا بأس به وقال ابن سعد منكر الحديث وضعفه النسائي وقال أبو حاتم ليس بقوي وقال ابن حبان لا يحتج به وقال موسى بن هارون الحمال أبو عمران عن أحمد لا تجالس أصحاب الكلام وإن ذبوا عن السنة
وقال في رسالته مسدد ولا تشاور أحدا من أهل البدع في دينك ولا ترافقه في سفرك وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول من تعاطى الكلام لا يفلح ومن تعاطى الكلام لم يخل من أن يتجهم
وقال ابن عقيل في الفنون قال بعض مشايخنا المحققين إذا كانت مجالس النظر التي تدعون أنكم عقدتموها لاستخراج الحقائق والاطلاع على عوائر الشبه وإيضاح الحجج لصحة المعتقد مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا وللعوام تخونا وللنظراء تعملا وتجملا فهذا في النظر الظاهر ثم إذا عولتم بالأفكار فلاح دليل يردكم عن معتقد الأسلاف والإلف والعرف ومذهب المحلة والمنشأ خونتم اللائح وأطفأتم مصباح الحق الواضح إخلادا إلى ما ألفتم فمتى تستجيبون إلى داعية الحق ومتى يرجى لكم الفلاح في درك البغية من متابعة الأمر ومخالفة الهوى والنفس والخلاص من الغش هذا والله هو الإياس من الخير والإفلاس من إصابة الحق فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة عمت العقلاء في أديانهم مع كونهم على غاية التحقيق وترك المحاباة في أموالهم ما ذاك إلا لأنهم لم يشموا ريح اليقين وإنما هو محض الشك ومجرد التخمين انتهى كلامه
وقال ابن شريح قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام
وقال الحسن بن علي البربهاري في كتابه شرح السنة واعلم أنه ليس في السنة
____________________
(1/223)
قياس ولا تضرب لها الأمثال ولا يتبع فيها الأهواء وهو التصديق بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح ولا يقال لم وكيف فالكلام والخصومة والجدال والمراء محدث يقدح الشك في القلب وإن أصاب صاحبه السنة والحق إلى أن قال وإذا سألك رجل عن مسألة في هذا الباب وهو مسترشد فكلمه وأرشده وإن جاءك يناظرك فاحذره فإن في المناظرة المراء والجدال والمغالبة والخصومة والغضب وقد نهيت عن جميع هذا وهو يزيل عن طريق الحق ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه جادل أو ناظر أو خاصم وقال البربهاري المجالسة للمناصحة فتح باب الفائدة والمجالسة للمناظرة غلق باب الفائدة انتهى كلامه
وروى أحمد عن ابن مسعود قال تذاكروا الحديث فإن حياته المذاكرة وفي شرح خطبة مسلم بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويذاكر مثله في الرتبة أو فوقه أو تحته ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أيام وليتحر الإنصاف ويقصد الاستفادة أو الإفادة لا يترفع على صاحبه
وقد قال ابن عقيل في خطبة الإرشاد وأعتذر عن لوم بعض أهل زماننا بقولهم الاشتغال بغير الأصول والسكوت عنها أحرى فإن هذا قول جاهل بمحل الأصول منحرف عن الصواب وذكر كلاما كثيرا قال أحمد كنا نسكت حتى دفعنا إلى الكلام فتكلمنا
وقال ابن الجوزي قال رجل لابن عقيل ترى لي أن أقرأ علم الكلام فقال الدين النصيحة أنت الآن على ما بك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء وتعرف الطفرة ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل أو قبله وهل الصفات زائدة على الذات وهل الاسم عين المسمى أو غيره وإني أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك فإن رأيت طريقة المتكلمين أجود من طريقة أبي بكر وعمر فبئس الاعتقاد وقد أفضى علم الكلام بأربابه إلى الشكوك في كلام طويل انتهى كلامه
وقال ابن عقيل في الفنون قال معتزلي لا مسلم إلا من اعتقد وجود الله
____________________
(1/224)
وصفاته على ما يليق به فقال ابن عقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل ما قد صعبته فقنع من الناس بدون ذلك ويقول للأمة أين الله أخرجه مسلم وأبو داود
فتشير إلى السماء فيقول إنها مؤمنة فتركهم على أصل الإثبات إلى أن قال إن مذهب المعتزلة أن من خرج من معتقدهم ليس بمؤمن وإن هذا ينعطف على السلف الصالح بالتكفير وإنا نتحقق أن أبا بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم لم يكن إيمانهم على ما اعتقده أبو علي الجبائي وأبو هاشم فخجل ثم قال القوم كانوا يعرفون ولا يتكلمون فقيل له القوم كانوا ينهون عن الجدال والجدال شبه المتكلمين
وقال أيضا في أثناء كلام له يتكلم عن الله عز وجل اعرفني بما تعرفت ولا تطلبني من حيث كتمت واقتطعت أنا اقتطعت بعض مخلوقاتي عن علمك لتقف حيث وقفتك فلما سألتني عن لطيفة فيك فقلت ما الروح فقلت مجيبا لك من أمري وقصرت عن علمك وعلم من سألك عنها فقلت { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }
قلت لرسولي في الساعة { أيان مرساها } فكان جواب السائل والمسئول { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو }
تجيء بعدها تبحث عني من لم يرضك لإيقافك على بعضك وهو يصفك تبحث عن ذاته وصفاته أما كفاك قولي { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }
فعرفك نفسك ونفسه عند سؤالك عنه بأنه مجيب لدعوتك فإياك أن تطلب ما وراء ذلك فإنك لا تجد إلا ما يورثك خبالا أتطمع أن تكشف حجابا أرخاه أو تقف على سر غطاه علم قصره خالقه عن درك بعض مخلوقاته التي فيك تريد أن تطلع به على كنه باريك والله إن موتك أحسن من حياتك
ثم ذكر ابن عقيل رحمه الله سؤال فرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام عن الله عز وجل ومحاجة نمرود عليه اللعنة لإبراهيم عليه السلام ثم قال فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم محيلون عند السؤال والجدال في تعريفه على أفعاله فكيف يجوز أن يصغى إلى قول من يقول وقفت على نعوت ذاته ومحمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/225)
يقول لا أحصي ثناء عليك أخرجه مسلم وأبو داود
فضلا عن أن أحصي نعتك والحق سبحانه وتعالى يقول عن الملائكة عليهم السلام { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } فهل يحسن بعد هذا كله أن تلتفت إلى من قال إني وقفت على نعوته إلا أن يريد بها ما تتلقاه الأمة بالقبول فيعمل عليه على شرط { ليس كمثله شيء } وتمسك عما لم يرد به نقل أو عما ورد به نقل ضعيف
وقال أيضا في مكان آخر من الفنون قد رجعت إلى معتقدي في الكتب متبعا للكتاب والسنة وأبرأ إلى الله عز وجل من كل قول حدث بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في القرآن ولا في السنة وقال أيضا كل يوم تموت منك شهوة ولا تحيا منك معرفة واعجبا يختلف الناس في ماهية العقل ولا يدرون فكيف يقدمون على الكلام في خالق العقل وقال أيضا قد تكرر من كثير من أهل العلم لا سيما أصحابنا قولهم مذهب العجائز أسلم فظن قوم أنه كلام جهل ولو فطنوا لما قالوا لاستحسنوا وقع الكلمة وإنما هي كلمة صدرت عن علو رتبة في النظر حيث انتهوا إلى غاية هي منتهى المدققين في النظر فلما لم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات والتأويلات بالاعتراض في أصل الوضع وقفوا مع الجملة التي هي مراسم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل فإذا سلم المسلمون وقفوا مع الامتثال حين عجز أهل التعليل فقد أعطوا الطاعة حقها ولقد علل قوم فمنعوا العقل عن الإصغاء إلى ذلك الإذعان بالعجز
ووجدت في كتاب لولد ولد القاضي أبي يعلى ذكر فيه خلافا في المذهب وكلام أحمد في ذلك قال والصحيح في المذهب أن علم الكلام مشروع مأمور به وتجوز المناظرة فيه والمحاجة لأهل البدع ووضع الكتب في الرد عليهم وإلى ذلك ذهب أئمة التحقيق القاضي والتميمي في جماعة المحققين وتمسكوا في ذلك مع استغنائه عن قول يسند إليه بقول الإمام أحمد في رواية المروذي إذا اشتغل بالصوم والصلاة واعتزل وسكت عن الكلام في أهل البدع فالصوم والصلاة لنفسه
____________________
(1/226)
وإذا تكلم كان له ولغيره يتكلم أفضل
وقد صنف الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه كتابا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره واحتج فيه بدلائل العقول وهذا الكتاب رواه ابنه عبد الله وذكره الخلال في كتابه وما تمسك به الأولون من قول أحمد فهو منسوخ قال أحمد في رواية حنبل قد كنا نأمر بالسكوت فلما دعينا إلى أمر ما كان بد لنا أن ندفع ذلك ونبين من أمره ما ينتفي عنه ما قالوه ثم استدل لذلك بقوله تعالى { وجادلهم بالتي هي أحسن }
وبأنه قد ثبت عن رسله الجدال ولأن بعض اختلافهم حق وبعضه باطل ولا سبيل إلى التمييز بينهما إلا بالنظر فعلمت صحته
وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك لكن يقال لي اسكت عمن خالفك فأقول لا أسكت
قال ابن طاهر وحكى لنا أصحابنا أن السلطان ألب أرسلان حضر هراة وحضر معه وزيره أبو علي الحسن بن علي فاجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة للشكاية من الأنصاري ومطالبته بالمناظرة فاستدعاه الوزير فلما حضر قال إن هؤلاء القوم اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك وإن يكن الحق معهم إما أن ترجع وإما أن تسكت عنهم فقام الأنصاري وقال أنا أناظر على ما في كمي فقال وما في كمك فقال كتاب الله عز وجل وأشار إلى كمه اليمنى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار إلى كمه اليسرى وكان فيه الصحيحان فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذا الطريق
قال ابن طاهر سمعت الأنصاري يقول إذا ذكرت التفسير فإنما أذكره من مئة
____________________
(1/227)
وسبعة تفاسير قال ابن طاهر وجرى وأنا بين يديه كلام فقال أنا أحفظ اثني عشر ألف حديث أسردها سردا وقل ما ذكر قط في مجلسه حديثا إلا بإسناده وكان يشير إلى صحته وسقمه قال ابن طاهر سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ينشد على المنبر بهراة في يوم مجلسه
( أنا حنبلي ما حييت وإن أمت % فوصيتي للناس أن يتحنبلوا )
وسمعته ينشد أيضا
( إذا العود لم يثمر ولم يك أصله % من الثمرات اعتده الناس في الحطب )
وروى الحافظ عبد القادر الرهاوي في تاريخ المادح والممدوح عن محمد بن الحسن الصندلاني عن أبي إسماعيل الأنصاري أخبرنا أبو يعقوب أخبرنا أحمد بن حسنويه سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي سمعت سلمة بن شبيب سمعت أحمد بن حنبل سمعت سفيان بن عيينة يقول تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين قيل لسفيان عمن هذا قال عن العلماء
وقال في الفنون ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين فهؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان
قال وقد خبرت طريق الفريقين غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح والمتكلمون عندي خير من الصوفية لأن المتكلمين قد يردون الشك والصوفية يوهمون التشبيه والأشكال الثقة بالأشخاص ضلال ما لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وما أحدثوا وعولوا على ما رووا لا على ما رأوا
وقال ابن حمدان في المفتي والمستفتي وعلم الكلام المذموم هو أصول الدين إذا تكلم فيه بالمعقول المحض أو المخالف للمنقول الصريح الصحيح فإن تكلم فيه بالنقل فقط أو بالنقل والعقل الموافق له فهو أصول الدين وطريقة أهل السنة
وكذا قال الشيخ تقي الدين لم يذم السلف والأئمة الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك بل لأن المعاني
____________________
(1/228)
التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا في المسائل والوسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم فهذا من مثارات الشبهة
قال ويجب على كل أحد الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية فإنه داخل في التبليغ بما بعث الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم وفي تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتهى كلامه
وقال أبو المعالي الجويني يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به وقال نحو هذا الشهرستاني صاحب المحصول وغيرهما والله سبحانه أعلم فصل
قال المروذي قلت لأحمد استعرت من صاحب الحديث كتابا يعني فيه أحاديث ردية ترى أن أحرقه أو أخرقه قال نعم فصل
ولا يجوز تحريق الثياب التي عليها الصور ولا المرقومة للبسط والدوس ولا كسر حلي الرجال المحرم عليهم إن صلح للنساء ولم تستعمله الرجال
____________________
(1/229)
فصل في وجوب إبطال البدع المضلة وإقامة الحجة على بطلانها
قال في نهاية المبتدئين ويجب إنكار البدع المضلة وإقامة الحجة على إبطالها سواء قبلها قائلها أو ردها ومن قدر على إنهاء المنكر إلى السلطان أنهاه وإن خاف فوته قبل إنهائه أنكره هو وقال القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة أبيه وقال المروذي قلت لأبي عبد الله يعني إمامنا أحمد رضي الله عنه يرى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة ويسكت عن الكلام في أهل البدع فكلح في وجهه وقال إذا هو صام وصلى واعتزل الناس أليس إنما هو لنفسه قلت بلى قال فإذا تكلم كان له ولغيره يتكلم أفضل
وقال أبو طالب عن أحمد كان أيوب يقدم الجريري على سليمان التيمي لأنه كان يخاصم القدرية وكان أيوب لا يعجبه أن يخاصمهم لأنهم لم يكونوا أصحاب خصومة يقول لا تضعهم في موضع تخاصمهم
وكان الجريري لا يخاصمهم فصل أهل الحديث هم الطائفة الناجية القائمون على الحق
ونص أحمد رضي الله عنه على أن أصحاب الحديث هم الطائفة في قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
ونص أيضا على أنهم الفرقة الناجية في الحديث الآخر وكذا قال يزيد بن هارون
ونص أحمد رضي الله عنه على أن لله تعالى أبدالا في الأرض قيل من هم قال إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أعرف لله أبدالا
وقال أيضا عنهم إن لم يكونوا هؤلاء الناس فلا أدري من الناس
ونقل نعيم بن طريف عنه أنه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الله تعالى يغرس غرسا يشغلهم في طاعته صحيح أخرجه ابن ماجه وابن حبان
أنه قال هم أصحاب الحديث
____________________
(1/230)
وروى البويطي عن الشافعي رحمه الله أنه قال عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابا
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه من أراد الحديث خدمه
قال الحافظ البيهقي قد خدمه أبو عبد الله أحمد بن حنبل فرحل فيه وحفظه وعمل به وعلمه وحمل شدائده وهو كما قال البيهقي رحمه الله
وقال الشافعي رضي الله عنه من قرأ القرآن عظمت قيمته ومن تفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن تعلم اللغة رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه
وقد مدح الحديث وأهله بالشعر جماعة منهم فتى في مجلس أبي زرعة الرازي ومنهم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي ومنهم أبو عامر الحسن بن محمد التستري ومنهم أبو مزاحم الخاقاني ومنهم أبو طاهر ابن سلفة ومنهم أبو الكرم خميس بن علي الواسطي
قال ابن الجوزي وكان من كبار العلماء ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب أصحاب الحديث وقد وقع لي بخطه
وروى أحمد بإسناده عن أبي عتبة الخولاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يزال الله عز وجل يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته قال أحمد في تفسير هذا الحديث هم أصحاب الحديث وكان الشافعي رضي الله عنه ينشد
( إذا رأيت شباب الحي قد نشؤوا % لا يحملون قلال الحبر والورقا )
( ولا تراهم لدى الأشياخ في حلق % يعون من صالح الأخبار ما اتسقا )
( فعد عنهم ودعهم إنهم همج % قد بدلوا بعلو الهمة الحمقا )
وقال المزني قال لي الشافعي رحمه الله يا أبا إبراهيم العلم جهل عند أهل الجهل كما أن الجهل جهل عند أهل العلم ثم أنشد الشافعي لنفسه
( ومنزلة الفقيه من السفيه % كمنزلة السفيه من الفقيه )
( فهذا زاهد في قرب هذا % وهذا فيه أزهد منه فيه )
____________________
(1/231)
( إذا غلب الشقاء على السفيه % تنطع في مخالفة الفقيه )
قال أبو موسى المديني وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولوا الفضل ذكره السخاوي ونسبه إلى العسكري والديلمي ولابن عساكر في ترجمة العباس وضعفه
ثم روى بإسناده ما رواه غيره وهو مشهور أن الشافعي رضي الله عنه لما دخل مصر أتاه جل أصحاب مالك رضي الله عنه وأقبلوا عليه فابتدأ يخالف أصحاب مالك في مسائل فتنكروا له وجفوه فأنشأ يقول وفي رواية عن الربيع بن سليمان قال لما دخل الشافعي مصر أول قدومه إليها جفاه الناس فلم يجلس إليه أحد فقال له بعض من قدم معه لو قلت شيئا يجتمع إليك به الناس فقال إليك عني وأنشد يقول
( أأنثر درا بين سارحة النعم % أأنظم منثورا لراعية الغنم )
( لعمري لئن ضيعت في شر بلدة % فلست مضيعا بينهم غرر الكلم )
( فإن فرج الله اللطيف بلطفه % وصادفت أهلا للعلوم وللحكم )
( بثثت مفيدا واستفدت ودادهم % وإلا فمخزون لدي ومكتتم )
( ومن منح الجهال علما أضاعه % ومن منع المستوجبين فقد ظلم )
وحكى ابن الأعرابي عن العرب أنها تقول من أمل رجلا هابه ومن جهل شيئا عابه وسيأتي في أن من العلم لا أدري قوله صلى الله عليه وسلم وإن من القول عيالا أخرجه أبو داود
وقال ابن عقيل في الفنون يقول الشاعر
( أحب المكان القفر من أجل أنني % أصرح فيه باسمه غير معجم )
واكمداه من مخالفة الأغمار واحصراه من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار والله ما زال خواص عباد الله يتطلبون لنزوحهم بمناجاتهم رؤوس الجبال والبراري والقفار لما يرون من استزراء المنكرين بشأنهم من الأغمار إلى أن قال
____________________
(1/232)
فلا ينبغي للعاقل أن ينكر تضييع أحواله وتكدير عيشه وقال الجهال يفرحون بسوق الوقت حتى لو اجتمع ألف أقرع يزعقون على بقرة هراس لقوي قلبه بما يعتقد أولئك وينفر قلبه من أدلة المحققين بهيمية في طباع الجهال لا تزول بمعالجة
قال ويل لعالم لا يتقي الجهال بجهده قال وكما يجب عليه التحرز من مضار الدنيا الواقعة من جهال أهلها بالتقية والواحد منهم يحلف بالمصحف لأجل حبة ويضرب بالسيف من لقي بعصبية ويرى قناة ملقاة في الأرض فيتنكب عن أخذها والويل لمن رأوه أكب رغيفا على وجهه أو ترك نعله مقلوبة ظهرها إلى السماء أو دخل مشهدا بمداسة أو دخل ولم يقبل الضريح إلى أن قال هل يسوغ لعاقل أن يهمل هؤلاء ولا يفزع منهم كل الفزع ويتجاهل كل التجاهل في الأخذ بالاحتياط منهم فإن الذنوب مما تقبل التوبة عنها وإلا إقالة للعالم من شر هؤلاء إذا زل في شيء مما يكرهون وينكرون وإن ظهر منه هوان وأبى إلا إهمالهم نظرا إليهم بعين الازدراء لهم فقد ضيع نفسه فإنه عندهم أهون وهم منه أكثر وعلى الإضرار به أقدر وهل تقع المكاره بالمسلم إلا من هؤلاء وأمثالهم
فإذا احتشم الإنسان أهل العلم والحكمة توقيرا لهم وتعظيما أوجب الشرع والعقل احتشام هؤلاء تحذرا واتقاء فتكهم وهل طاحت دماء الأنبياء والأولياء إلا بأيدي هؤلاء وأمثالهم حيث رأوا من التحقيق ما ينكرون فصالوا لما قدروا عليه وغالوا لما لم يقدروا عليه فهم بين قاتل للمتقين مكاشفة حال القدرة أو غيلة حال العجز فاسمع هذا سماع قابل فإنه قول من ناصح خبير بالعالم ولا تهون بهم فتهون بنفسك ويطيح دمك مما رأيت من جهلهم إنهم عمي لا يرون الحيل التي وضعها العلماء على ما دلهم عليها الشرع كبيع الصحاح بفضة قراضة ليخرج من الربا أخذا لذلك من قوله صلى الله عليه وسلم بع التمر ببيع آخر ثم اشتر بثمنه أخرجه البخاري ومسلم
ويقول الواحد منهم هذا خداع لله تعالى ويعدل إلى بيع الدينار الصحيح بدينار ونصف قراضة ويرى أن الربا الصريح خير من التسبب بالحلال بطريق الشرع إلى أن قال إن قوله صلى الله عليه وسلم عن اللحم الذي تصدق به على بريرة هو عليها
____________________
(1/233)
صدقة ولنا هدية أخرجه البخاري ومسلم
طريق مستعمل ويتعين في كل عين تحرم في حقنا لمعنى إذا ملكها من تباح له لمعنى مبيح ونقلها ذلك إلينا بطريق شرعي ملكناها والعامة لا ترضى ذلك وتذم العالم الذي يسلك هذا المسلك
وسمع وكيع بن الجراح كلام أناس من أصحاب الحديث وحركتهم فقال يا أصحاب الحديث ما هذه الحركة عليكم بالوقار
ورأى الفضيل بن عياض قوما من أصحاب الحديث بهم بعض الخفة فقال هكذا تكونون يا ورثة الأنبياء
وقال سفيان سماع الحديث عز لمن أراد به الدنيا ورشاد لمن أراد به الآخرة
وقال عبد الملك بن مروان للشعبي يا شعبي عهدي بك وإنك لغلام في الكتاب فحدثني فما بقي معي شيء إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن وأنشد
( ومللت إلا من لقاء محدث % حسن الحديث يزيدني تعليما )
وقال القاضي المعافى بن زكريا الجريري لتفقهه على مذهب محمد بن جرير الطبري قال نظير هذا قول ابن الرومي
( ولقد سئمت مآربي % وكان أطيبها الحديث )
( إلا الحديث فإنه % مثل اسمه أبدا حديث )
وبعض الناس يترك الصفات المطلوبة التي هي سبب لحصول الرتب العالية اتكالا على حسبه ونسبه وفعل آبائه فهذا أعمى فلله در القائل
( لسنا وإن كرمت أوائلنا % أبدا على الأحساب نتكل )
( نبني كما كانت أوائلنا % تبني ونفعل مثل ما فعلوا )
وقد روي أن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم تمثل بهذين البيتين وقد أحسن القائل في قوله
____________________
(1/234)
( يا أيها المرء كن أخا أدب % من عجم كنت أو من العرب )
( إن الفتى من يقول ها أنا ذا % ليس الفتى من يقول كان أبي )
وأحسن ابن الرومي في قوله
( فلا تفتخر إلا بما أنت فاعل % ولا تحسبن المجد يورث بالنسب )
( فلا لا يسود المرء إلا بفعله % وإن عد آباء كراما ذوي حسب )
( إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة % من الثمرات اعتده الناس في الحطب )
وقد قال الجوهري في صحاحه في عصم وقوله ما وراءك يا عصام هو اسم حاجب النعمان بن المنذر وفي المثل كن عصاميا ولا تكن عظاميا يريدون به قوله
( نفس عصام سودت عصاما % وصيرته ملكا هماما )
( وعلمته الكر والإقداما % )
وللأصل تأثير وقد روى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك قال من طاب أصله حسن محضره وبعض الناس يحتج لتركه بكبر السن أو عدم الذكاء أو القلة والفقر أو غير ذلك وذلك من وسواس الشياطين يثبطون بها ومن نظر في حال السلف وجماعة من علماء الخلف وجدهم لا يلتفتون إلى هذه الأعذار ولا يعرجون عليها وقد قيل
( ومن يجتهد في نيل أمر ويصطبر % ينله وإلا بعضه إن تعسرا )
( فما دمت حيا فاطلب العلم والعلى % ولا تأل جهدا أن تموت فتعذرا )
ولكن ينبغي اغتنام أوقات الفراغ فإنه أقرب إلى حصول المقصود
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ أخرجه البخاري وأحمد وغيرهما
رواه البخاري من حديث ابن عباس
وذكر أبو جعفر النحاس قول بعض الحكماء
____________________
(1/235)
( بادر إذا الحاجات يوما أمكنت % بورودهن موارد الآفات )
( كم من مؤخر حاجة قد أمكنت % لغد وليس غد له بموات )
( تأتي الحوادث حين تأتي جمة % ونرى السرور يجيء في الفلتات )
وكان الشاشي محمد بن الحسين الفقيه الشافعي المشهور المتوفى سنة سبع وخمس مئة ينشد
( تعلم يا فتى والعود رطب % وطينك لين والطبع قابل )
وقال ابن الجوزي إن أبا بكر أحمد بن محمد الدينوري الحنبلي تلميذ أبي الخطاب المتوفى في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة قال أنشدني
( أصخ أخي لن تنال العلم إلا بستة % سأنبيك عن مكنونها ببيان )
( ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة % وإرشاد أستاذ وطول زمان )
قال وأنشدني رحمه الله تعالى
( تمنيت أن تمسي فقيها مناظرا % بغير عناء والجنون فنون )
( وليس اكتساب المال دون مشقة % تلقيتها فالعلم كيف يكون )
قال ابن الجوزي ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب وقد فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان ولازمهم الفقر والفضائل ينادي عليها { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }
فلما أجابت مرارة الابتلاء قالت
( لا تحسب المجد تمرا أنت آكله % لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا )
ثم ذكر الإمام أحمد رضي الله عنه وشأنه وقال فما شاع له الذكر الجميل جزافا ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب فيا له ثناء ملأ الآفاق وجمالا زين الوجود وعزا نسخ كل ذل هذا في العاجل وثواب الآجل لا يوصف
____________________
(1/236)
وتلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف ولا تزار ترخصوا وتأولوا وخالطوا السلاطين فذهبت بركة العلم ومحي الجاه ووردوا عند الموت حياض الندم فيالها حسرات لا تتلاقى وخسرانا لا ينجبر كانت صحبة اللذات كطرفة عين ولازم الأسف دائما وقد قال الشافعي رضي الله عنه
( يا نفس ما هو إلا صبر أيام % كأن مدتها أضغاث أحلام )
( يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة % وخل عنها فإن العيش قدامي )
ثم أيها العالم الفقير أيسرك ملك سلطان من السلاطين وإن ما تعلمه من العلم لا تعلمه كلا ما أظن المتيقظ يؤثر هذا ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن أو معنى عجيب تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية فقد حرم من رزق اللذات الحسية ما قد رزقت وقد شاركتهم في قوام العيش ولم يبق إلا الفضول التي إذا حذفت لم تكد تضر ثم هي على المخاطرة في باب الآخرة غالبا وأنت على السلامة في الأغلب فتلمح يا أخي عواقب الأحوال واقمع الكسل المثبط عن الفضائل
واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينى فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم فنحن الأغنياء وهم الفقراء فإن عمروا دارا سخروا الفعلة وإن جمعوا مالا فمن وجوه لا تصلح وكل واحد منهم يخاف أن يقتل أو يعزل أو يسم فعيشهم نغص العز في الدنيا لنا لا لهم وإقبال الخلق علينا وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى
والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا تطلبه إلا نفس شريفة كيف يذل لنذل ما عزه إلا بالدنيا ولا فخره إلا بالمسكنة وقال ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد قال وإذا قنعا بما يكفي لم يتمندل بهما سلطان ولم يستخدما بالترداد إلى بابه ولم يحتج الزاهد إلى تصنع والعيش اللذيذ المنقطع الذي لا يتمندل به ولا يحمل منة وما أكثر تفاوت الناس في الفهم حتى الشعراء كما قال بعضهم
( همها العطر والفراش ويعلو % ها لجين ولؤلؤ منظوم )
____________________
(1/237)
وهذا قاصر فإنه لو فعلت هذه سوداء لحسنها إنما المادح هو القائل
( ألم تر أني كلما جئت زائرا % وجدت بها طيبا وإن لم تطيب )
وكقول الآخر
( أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني % حتى إذا قلت هذا صادق نزعا )
ولو كان صادقا في المحبة لما كان له قلب يخاطبه وإذا خاطبه في الهجر لم يوافقه إنما المحب الصادق هو القائل
( يقولون لو عاتبت قلبك لارعوى % فقلت وهل للعاشقين قلوب )
انتهى كلامه والبيت الثاني لامرئ القيس قاله في أم جندب
وقال أيضا في كتابه السر المصون مثل المحب للعلم مثل العاشق فإن العاشق يهتم بمحبوبه ويهيم به وكذلك المحب للعلم فكما أن العاشق يبيع أملاكه وينفقها على معشوقه فيفتقر كذلك محب العلم فإنه يستغرق في طلبه العمر فيذهب ماله ولا يتفرغ للكسب فإذا احتاج دخل في مداخل صعبة فمنهم من يتعلق بالسلاطين إما أن يدخل في أشغالهم أو يطلب منهم ومن العلماء من يطلب من العوام البخلاء ومنهم من يرجع عن الجد في العلم إلى الكسب
وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد مع ابن طاهر والزجاج مع ابن وهب ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان حتى قال ابن المبارك لولا فلان وفلان ما اتجرت وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيرهم ثم قل ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة فيندفع الزمان وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم فطلب لم يعط فأولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل وقد قال منصور بن المعتمر إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس فيخرجون إلى جبل فيموتون فيه فإذا اتفق للعالم
____________________
(1/238)
عائلة أو حاجات وكفت أكف الناس عنه ومنعته أنفته من الذل هلك
فالأولى لمثل هذا العالم في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسب إن قدر عليه وإن أمكنه نسخ بأجرة ويدبر ما يحصل له ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل وقد يتفق للعالم مرفق فينفق ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم فيخرج ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر أو من الذل ما يكون الموت دونه
فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة بل يصور كل ما يجوز وقوعه
وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب فكم من مخاصم سب وشتم وطلق فلما أفاق ندم وقد كان يوسف بن أسباط تزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه
وقد تزهد خلق كثير فأخرجوا ما بأيديهم ثم احتاجوا فدخلوا في مكروهات وكان الشبلي يقدر على خمسين ألفا فتزهد وفرقها فنزل به قوم من الصوفية فبعث إلى بعض أرباب الدنيا يطلب منه فقال له يا شبلي اطلب من الله عز وجل فقال له أنا أطلب من الله عز وجل وأطلب الدنيا من خسيس مثلك فبعث إليه مئة دينار وقال ابن عقيل إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي الحرام وقد تزهد أبو حامد الطوسي وأقام سنين ببيت المقدس ثم عاد إلى وطنه فبنى دارا كبيرة وغرس بستانا فمثل هذا المتزهد المخرج لماله المغير لباسه كمثل ماء عمل له سكر فإنه يمنعه من الجريان ثم يعمل الماء في باطن السكر إلى أن ينقب ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى شبابا قد تنسكوا يقول الموت الموت جاءهم خوفا من تغيير حالهم وكذلك مخرج المال في حال الغنى إذا لم يحسب وقوع الفقر
وقد رأينا أبا الحسن الغزنوي وقد بنى له رباط ببغداد ووقفت عليه قرية فكان يقول يدخل لي في كل سنة ثلاثة آلاف وست مئة دينار فألف ومئتان لي ولأولادي وألف ومئتان لأهل الرباط وألف ومئتان للمجلس فكان يعطي
____________________
(1/239)
العلماء والقراء والزهاد ولا يقبل منه أحد حتى إنه أفطر في رمضان عند الوزير أبي القاسم الزينبي فبعث إليه خلعة قبل العيد وهذه عادتهم فيمن يفطر عندهم فحدثني الحاجب أنه حملها إليه فقال لا أقبل قال فقبحت له هذا وبالغت حتى قبل على مضض وكان يقول عرضت علي خمسة آلاف دينار فدفعتها بهذه الأصابع الخمس وقلت لا حاجة لي فيها
وكان يظن دوام ما هو فيه فاتفق موت السلطان مسعود فأحضر باب الحاكم ووكل به وأخذت منه القرية فافتقر فحدثني محاسن بن حماد قال كان بين الغزنوي وبين عبد الرحيم الملقب شيخ الشيوخ وحشة فلما افتقر الغزنوي بعث معي إليه بمئة دينار ورقعة بكارات دقيق فجئت بها إليه فقال لا أقبل فردها عليه ثم التفت إلي لانبساط كان بيننا فقال لي أغنني أنت بعشرة دنانير وخمس كارات فالصبيان جياع
وكان يقول من الناس من يحب الموت فمات قريبا وقد كان يمكنه أن يشتري من دخله قرى والحازم من يحفظ ما في يده كما قال سفيان الثوري من كان بيده شيء من المال فليجعله في قرن ثور فإنه زمان من احتاج فيه كان أول ما يبذل دينه
وقد كان صالح ابن الإمام أحمد ابن حنبل تولى القضاء بأصبهان فلما قرئ عهده بكى وقال أين عين أبي تراني وعلي السواد ولكن ما توليت حتى ركبني الدين وكثر العيال وكذلك يحكى عن حفص بن غياث وغيره من القضاة وقد كان المتوكل يبعث إلى أولاد الإمام أحمد الألوف وإنما كان صالح سخيا فالسخي الذي لا يحسب إلا خيرا لا يفي سخاؤه بما يلقى إذا افتقر
واعلم أن الإمساك في حق الكريم جهاد لأنه قد ألف الكرم كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد فإنما يستعين الكريم على الإمساك بذكر الحاجة إلى الأنذال قيل لبعض الحكماء لم حفظت الفلاسفة المال فقال لئلا يقفوا مواقف لا تليق بهم
قال ابن الجوزي وقد رأيت أنا ببغداد من الصوفية من كان له مال ودخل فكان
____________________
(1/240)
الخلق يتقربون إلى السلاطين ويطلبون منهم وهو لا يبالي فكنت أغبطه على ذلك لأن من احتاج إلى السلاطين يذلونه ويحتقرونه وربما منعوه فإن أعطوه أخذوا من دينه أكثر قال الرشيد لمالك بن أنس أتيناك فانتفعنا وأتينا سفيان بن عيينة فلم ننتفع به وكان ابن عيينة يقول قد كنت أوتيت فهما في القرآن فلما أخذت من مال أبي جعفر حرمت ذلك وإن احتاج الإنسان إلى العوام بخلوا فإن أعطوا تضجروا ومنوا وقل من رأيناه ينافق أو يرائي أو يتواضع لصاحب دنيا إلا لأجل الدنيا والحاجة تدعو إلى كل محنة قال بشر الحافي لو أن لي دجاجة أعولها خفت أن أكون عشارا على الجسر
فينبغي للعاقل ما يجمع همه ليقبل على العلم والعمل بقلب فارغ من الهم وبعد فإذا صدقت نية العبد وقصده رزقه الله تعالى وحفظه من الذل ودخل في قوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه }
ويأتي كلام ابن عقيل نحو ثلثي الكتاب في إخراج المال والكرم والله أعلم
وقال أيضا في كتاب السر المصون من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء انتهب الزمان ولم يضيع لحظة ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها
ومن وفق لهذا فليبتكر زمانه بالعلم وليصابر كل محنة وفقر إلى أن يحصل له ما يريد وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له فأما أن يفوته الإخلاص فذاك تضييع زمان وخسران الجزاء وأما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له وأما جمعه من غير حفظ فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل إلى أن قال وليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن خصوصا العوام وليصن نفسه من المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس وليزاحم القدماء من كبار العلماء والعباد منتهبا الزمان في كل ما هو أفضل من غيره ومن
____________________
(1/241)
علم أنه مار إلى الله عز وجل وإلى العيش معه وعنده وأن أيام الدنيا أيام سفر صبر على تفث السفر ووسخه انتهى كلامه
وقد قال أيضا لو صدقت في الطلب لوقعت على كنز الذهب ولو وجدوك مستقيما ما تركوك سقيما شعر
( وربما غوفص ذو غفلة % أصح ما كان ولم يسقم )
( يا واضع الميت في قبره % خاطبك القبر ولم تفهم )
( خاضوا أمر الهوى في فنون % فزاد في اسم هواهم حرف نون )
وقال أيضا اعلم أن الراحة لا تنال بالراحة ومعالي الأمور لا تنال بالراحة فمن زرع حصد ومن جد وجد
( تفانى الرجال على حبها % وما يحصلون على طائل )
لا يعجبنك لينها فجلد الحية كالحرير ولقد رأيت كيف غرت غيرك والعاقل بصير
أترى ينفع هذا العتاب أترى يسمع لهذا العذل جواب إذا أقلقهم الخوف ناحوا وإذا أزعجهم الوجد صاحوا وإذا غلبهم الشوق باحوا
شعر
( وحرمة الود ما لي عنكم عوض % وليس والله لي في غيركم غرض )
( ومن حديثي بكم قالوا به مرض % فقلت لا زال عني ذلك المرض )
انتهى كلامه
وقد روى مسلم بعد جمعه لطرق وأسانيد أظنه في حديث النهي عن يحيى بن
____________________
(1/242)
أبي كثير وهو تابعي إمام عابد أنه قال لا يستطاع العلم براحة الجسم وقد قيل
( ليس اليتيم الذي قد مات والده % بل اليتيم يتيم العلم والأدب )
وإذا كان الأمر كما قاله أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المذكور فينبغي للمشايخ الإحسان إليهم والصبر على ما يكون منهم واللطف بهم لئلا يتضاعف ألمهم وهمهم فيضعف الصبر وتحصل النفرة عن العلم واستحباب ذلك من الطلبة أولى بهم والأدب والتلطف وما يعينهم على المقصود وقد قال تعالى { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة }
وفي الصحيحين من حديث أنس بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا أخرجه البخاري ومسلم
وفي مسلم من حديث أبي هريرة إنما بعثتم ميسرين أخرجه البخاري وأحمد وليس هو في مسلم
وقد ذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلي اليمن بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وكان أبو سعيد يقول مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني حميد بن أبي سويد عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف هو في مسند الطيالسي
حميد له مناكير تكلم فيه ابن عدي وغيره ويأتي قبل ذكر الكرم والبخل في فصول الكسب قول محمد بن عبد الباقي الحنبلي يجب على المعلم أن لا يعنف وعلى المتعلم أن لا يأنف
وقال الأعمش كان ابن مسعود إذا جاءه أصحابه قال أنتم جلاء قلبي ويأتي في أول فصول العلم قول عمر رضي الله عنه تواضعوا لمن علمكم وتواضعوا
____________________
(1/243)
لمن تعلمون ولا تكونوا من جباري العلماء
ويأتي بعده في فصل قال المروذي قول عمر لا تعلم العلم لتماري به ولا لترائي به ولا لتباهي به ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ولا رضاء بالجهالة وقول ابن عمر وغيره من رق وجهه رق علمه وما يتعلق بذلك
وقال عمرو بن العاص لحلقة قد جلسوا إلى جانب الكعبة بعد أن قضى طوافة وجلس إليهم وقد نحوا الفتيان عن مجلسهم لا تفعلوا أوسعوا لهم وأدنوهم وألهموهم فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين قد كنا صغار قوم أصبحنا كبار آخرين
وهذا صحيح لا شك فيه والعلم في الصغر أثبت فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعا من مراعاتهم والاعتناء بهم وقد سبق في هذا الفصل قريبا كلام الشاشي
وقد روى البيهقي من طريقين عن أبي هريرة مرفوعا من تعلم القرآن في شبيبته اختلط بلحمه ودمه ومن تعلمه في كبره فهو يتفلت منه ولا يتركه فله أجره مرتين أخرجه البخاري والبيهقي
ولآخره شاهد في الصحيحين
وعن ابن عباس من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا أورده السيوطي وعزاه لابن مردويه والبيهقي
ورواه بعضهم مرفوعا
وعن الحسن البصري العلم في الصغر كالنقش في الحجر وقال إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن رافع وهو متروك مرسلا من تعلم وهو شاب كان كرسم في حجر ومن تعلم في الكبر كان كالكاتب على ظهر الماء وقال علقمة ما تعلمته وأنا شاب فكأنما أقرؤه من دفتر
وقد تواتر تعظيم الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم إلى غاية حتى بهر الأعداء كما
____________________
(1/244)
في حديث صلح الحديبية وغيره وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي }
وقول عمر جلسنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة كأنما على رؤوسنا الطير أخرجه ابن ماجه والنسائي من حديث البراء بن عازب وسنده حسن وعن المغيرة بن شعبة قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير أخرجه الحاكم من حديث المغيرة بن شعبة وأخرجه البيهقي وأبو نعيم من حديث أنس بن مالك
رواه البيهقي عن الحاكم عن الزبير بن عبد الواحد عن الحافظ محمد بن أحمد الزئبقي عن زكريا بن يحيى المنقري حدثنا الأصمعي حدثنا كيسان مولى هشام عن محمد بن حسان عن محمد بن سيرين عن المغيرة قال البيهقي ورويناه عن أنس بن مالك وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال من السنة أن يوقر أربعة العالم وذو الشيبة والسلطان والوالد ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه هو في مصنف عبد الرزاق
وروى البيهقي من طريق سويد بن سعيد عن خالد بن يزيد عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة مرفوعا ثلاث من توقير جلال الله ذو الشيبة في الإسلام وحامل كتاب الله عز وجل وحامل العلم من كان صغيرا أو كبيرا أخرجه البيهقي والبخاري وأبو داود وهو حسن
خالد ضعفه أحمد وابن معين والأكثر
وقال الشعبي أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت وقال هكذا يصنع بالعلماء وقال أيوب عن مجاهد أن ابن عمر أخذ له بالركاب وأخذ الليث بركاب الزهري وقال الثوري عن مغيرة كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير وكذلك أصحاب مالك مع مالك ولذلك قال الشاعر
____________________
(1/245)
( يدع الجواب فما يراجع هيبة % والسائلون نواكس الأذقان )
( أدب الوقار وعز سلطان التقى % فهو الأمير وليس ذا سلطان )
وقال الربيع والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر هيبة له
وقال الشافعي رضي الله عنه إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الفضيل بن عياض ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالما بين جهال قال البيهقي وروي هذا مرفوعا ولا يصح
وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يعني شيخ الإسلام سمعت أبا الفضل الجارودي يقول رحلت إلى أبي القاسم الطبراني إلى أصبهان فلما دخلت عليه قربني وأدناني وكان يتعسر علي في الأخذ فقلت له يوما أيها الشيخ لم تتعسر علي وتبذل للآخرين قال لأنك تعرف قدر هذا الشأن وهؤلاء لا يعرفون قدره
قال ابن طاهر سمعت أبا إسماعيل الأنصاري الحافظ يقول رأيت في حضري وسفري حافظا ونصف حافظ فالحافظ أبو بكر أحمد بن علي الأصبهاني والآخر أبو الفضل الجارودي وكان إذا حدث عن الجارودي يقول حدثنا إمام المشرق وفي تاريخ المادح والممدوح للحافظ عبد القادر الرهاوي أن الجارودي محمد بن أحمد توفي سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة وأن أبا إسماعيل الأنصاري كان إذا حدث عن أحمد بن علي الأصبهاني قال أخبرنا أحمد بن علي وكان أحفظ البشر
قال ابن طاهر رحلت من مصر إلى نيسابور لأجل أبي القاسم الفضل بن عبد الله بن المحب صاحب أبي الحسين الخفاف فلما دخلت عليه قرأت في أول مجلس جزأين من حديث أبي العباس السراج فلم أجد لذلك حلاوة واعتقدت أني نلته بغير تعب لأنه لم يمتنع علي ولا طالبني بشيء وكل حديث من الجزأين يساوي رحلة
____________________
(1/246)
وسيأتي ما يتعلق بهذا في فصول القيام وبعدها قبل فصول العلم وفي فصول العلم أيضا والله أعلم
وقد قيل
( ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد % أحدا سواك إلى المكارم ينسب )
( فاصبر لعادتنا التي عودتنا % أو لا فأرشدنا إلى من نذهب )
وقال آخر
( لا تلحقنك ضجرة من سائل % فلخير يومك أن ترى مسؤولا )
( لا تجبهن بالمنع وجه مؤمل % فبقاء عزك أن ترى مأمولا )
( واعلم بأنك صائر مثلا فكن % مثلا يروق السامعين جميلا )
وقال آخر
( وإذا الحبيب أتى بذنب واحد % جاءت محاسنه بألف شفيع )
وقيل أيضا
( وربما كان مكروه النفوس إلى % محبوبها سببا ما مثله سبب )
وقال أبو الحسن الدجاجي الحنبلي في آخر آبيات له
( فجد بلطف عنه عطفك واغنه % بجمال وجهك عن سؤال شفيع ) فصل حكم هجر أهل المعاصي
يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية قال أحمد في رواية حنبل إذا علم أنه مقيم على معصية وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرا ولا جفوة من صديق ونقل المروذي يكون في سقف البيت الذهب يجانب صاحبه يجفي صاحبه
وقد اشتهرت الرواية عنه في هجره من أجاب في المحنة إلى أن مات
____________________
(1/247)
وقيل يجب إن ارتدع به وإلا كان مستحبا وقيل يجب هجره مطلقا إلا من السلام بعد ثلاثة أيام
وقيل ترك السلام على من جهر بالمعاصي حتى يتوب منها فرض كفاية ويكره لبقية الناس تركه وظاهر ما نقل عن أحمد ترك الكلام والسلام مطلقا
قال أحمد في رواية الفضل وقيل له ينبغي لأحد أن لا يكلم أحدا فقال نعم إذا عرفت من أحد نفاقا فلا تكلمه لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على الثلاثة الذين خلفوا فأمر الناس أن لا يكلموهم قلت يا أبا عبد الله كيف يصنع بأهل الأهواء قال أما الجهمية والرافضة فلا قيل له فالمرجئة قال هؤلاء أسهل إلا المخاصم منهم فلا تكلمه
ونقل الميموني نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا بالمدينة حين خاف عليهم النفاق أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
وهكذا كل من خفنا عليه وقال في رواية القاسم بن محمد إنه اتهمهم بالنفاق وكذا من اتهم بالكفر لا بأس أن يترك كلامه
قال القاضي وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بحديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك في رواية مثنى الأنباري وقد سأله أكثر ما يعرف في المجانبة فذكر حديث عائشة رضي الله عنها في ترك النبي صلى الله عليه وسلم كلامها والسلام عليها حين ذكر ما ذكر كذا حكاه ولم أجد في قصة الإفك هذا بل كان قبل أن يأذن لها أن تذهب إلى بيت أبيها إذا دخل عليها يسلم ثم يقول كيف تيكم ففي هذا ترك اللطف فقط وأما قصة كعب ففيها ترك السلام والكلام ولهذا كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال فأقول هل حرك شفتيه أخرجه البخاري ومسلم
وأنه سلم على أبي قتادة فلم يرد عليه وحمله جماعة ممن شرحه على ظاهره في هجر أهل البدع والمعاصي بترك الكلام والسلام بخوف المعصية وفي رواية مثنى المذكورة والتي قبلها إباحة الهجر وترك الكلام والسلام بخوف المعصية ورواية الميموني تدل على وجوبه وكلام الأصحاب أو صريحه في النشوز على تحريمه
____________________
(1/248)
وأما ما رواه مسلم بعد قصة الإفك عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمر عليا أن يذهب فيضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركي وهي البئر فرآه مجبوبا فتركه أخرجه مسلم وأحمد
فلعل معناه اذهب فاضرب عنقه إن ثبت ذلك عليه وحذف للعلم به
وفي شرح مسلم قيل لعله مستحق القتل بغير الزنى وحركه الزنى وكف عنه علي اعتمادا على أن القتل بالزنى وقد علم انتفاء الزنى
قال القاضي وذكر الآجري في هجرة أهل البدع والأهواء قصة حاطب بن أبي بلتعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجره وطرده ثم تاب الله عز وجل عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود كذا ذكره القاضي عن رواية الآجري ولم أجد هذا في قصة حاطب بل فيها في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صدق ولا تقولوا له إلا خيرا فقال عمر رضي الله عنه إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه فقال يا عمر وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم وفي بعض طرقه فقد غفرت لكم كرواية مسلم وفي بعض طرقه أيضا أن عمر سأله في قتله مرتين
قال القاضي وروى الآجري عن أبي هريرة مرفوعا لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة القدرية فلا تعودوهم إن مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا أخرجه الآجري وهو حديث ضعيف
قال القاضي هذا مبالغة في الهجر وقد روى أبو داود من حديث رجل من الأنصار عن حذيفة مرفوعا معناه أخرجه أبو داود وفي سنده ضعيف ومجهول
وروى أيضا عن ابن عمر مرفوعا معناه أخرجه أبو داود
وليس فيه لكل أمة مجوس
وروى أيضا من رواية ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن عمر مرفوعا
____________________
(1/249)
لا تجالسوا أهل القدر ولا تناكحوهم رواه أحمد وإسناده جيد وفيه حكيم بن شريك الهذلي تفرد عنه عطاء بن دينار ووثقه ابن حبان
قال القاضي وروى الخلال عن ابن مسعود أنه رأى رجلا يضحك في جنازة فقال أتضحك مع الجنازة لا أكلمك أبدا وبإسناده عن الحسن قال كان لأنس بن مالك امرأة في خلقها سوء فكان يهجرها السنة والأشهر فتتعلق بثوبه فتقول أنشدك بالله يا ابن مالك أنشدك بالله يا ابن مالك فما يكلمها وبإسناده عن أنس قيل له إن قوما يكذبون بالشفاعة وقوما يكذبون بعذاب القبر قال لا تجالسوهم وبإسناده عن حذيفة أنه قال لرجل جعل في عضده خيطا من الحمى لو مت وهذا عليك لم أصل عليك وبإسناده عن الحسن قال قيل لسمرة إن ابنك أكل طعاما حتى كاد أن يقتله قال لو مات ما صليت عليه وبإسناده أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغا وبإسناده عن مجاهد قلت لابن عباس إن أتيتك برجل يتكلم في القدر فقال لو أتيتني به لأوجعت رأسك ثم قال لا تكلمهم ولا تجالسهم وقال سعيد بن جبير لأيوب لا تجالس طلق بن حبيب فإنه مرجئ وقال إبراهيم لرجل تكلم عنده في الإرجاء إذا قمت من عندنا فلا تعد إلينا
وقال محمد بن كعب القرظي لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تماروهم
وكان حماد بن سلمة إذا جلس يقول من كان قدريا فليقم وعن طاووس وأيوب وسليمان التيمي أبي السوار ويونس بن عبيد وغيرهم معنى ذلك قال القاضي هو إجماع الصحابة والتابعين وقال ولأن كل معصية حل بها الهجر لم تتقدر بالثلاث أو نقول جاز أن يزيد على الثلاث دليله هجر الزوج لزوجته عند إظهار النشوز بقوله تعالى { واهجروهن في المضاجع }
قال وإنما لم يهجر أهل الذمة لأنا عقدنا معهم لمصلحتنا بأخذ الجزية فلو قلنا يهجرون زال المعنى المقصود
____________________
(1/250)
وأما أهل الحرب ففي الامتناع من كلامهم ضرر لأنه يؤدي إلى ترك مبايعتهم وشرائهم
وأما المرتدون فإن الصحابة رضي الله عنهم باينتهم بالحروب والقتال وأي هجر أعظم من هذا
وذكر الشيخ موفق الدين رحمه الله في المنع من النظر في كتب المبتدعة قال كان السلف ينهون عن مجالسه أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم إلى أن قال وإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبع سنتهم في جميع الأمصار والأعصار متفقين على وجوب اتباع الكتاب والسنة وترك علم الكلام وتبديع أهله وهجرانهم والخبر بزندقتهم وبدعتهم وجب القول ببطلانه وأن لا يلتفت إليه ملتفت ولا يغتر به أحد
وقال أبو داود لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال لا أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه وإلا فألحقه به قال ابن مسعود المرء بخدنه وقال عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي قال لي أحمد إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم أخرجه مسلم وابن ماجه
ويجب الإغضاء عمن سترها وكتمها زاد في الرعاية الكبرى وشق عليه إشاعتها عنه
قال المروذي قلت لأبي عبد الله اطلعنا من رجل على فجور وهو يتقدم يصلي بالناس أخرج من خلفه قال اخرج من خلفه خروجا لا تفحش عليه
وقال ابن منصور لأبي عبد الله إذا علم من الرجل الفجور أنخبر به الناس قال لا بل يستر عليه إلا أن يكون داعية ويتوجه أن في معنى الداعية من اشتهر وعرف بالشر والفساد ينكر عليه وإن أسر المعصية وهو يشبه قول القاضي فيمن أتى ما يوجب حدا إن شاع عنه استحب أن يذهب إلى ولي الأمر ليأخذه به وإلا ستر نفسه وقد قال القاضي فإن كان يستتر بالمعاصي فظاهر كلام أحمد أنه لا يهجر
____________________
(1/251)
قال في رواية حنبل ليس لمن يسكر ويقارف شيئا من الفواحش حرمة ولا وصلة إذا كان معلنا بذلك مكاشفا
قال الخلال في كتاب المجانبة أبو عبد الله يهجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الردية أو تعدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى الإقامة عليه أو الإضرار وأما من سكر أو شرب أو فعل فعلا من هذه الأشياء المحظورة ثم لم يكاشف بها ولم يلق فيها جلباب الحياء فالكف عن أعراضهم وعن المسلمين والإمساك عن أعراضهم وعن المسلمين أسلم
وكلام الشيخ موفق الدين السابق يقتضي أنه لا فرق بين الداعية إلى البدعة وغيره وظاهره أنه إجماع السلف وذكر غيره في عيادة المبتدع الداعية روايتين وترك العيادة من الهجر واعتبر الشيخ تقي الدين المصلحة وذكر أيضا أن المستتر بالمنكر ينكر عليه ويستر عليه فإن لم ينته فعل ما ينكف به إذا كان أنفع في الدين وأن المظهر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية ولا يبقى له غيبة ويجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتا إذا كان فيه كف لأمثاله فيتركون تشييع جنازته انتهى كلامه
وهذا لا ينافيه ما تقدم من وجوب الإغضاء عنه فإنه لا يمنع وجوب الإنكار سرا جمعا بين المصالح وكلامهم ظاهر أو صريح في وجوب الستر على هذا وظاهر كلام الخلال السابق يستحب ولم أجد بين الأصحاب رحمهم الله خلافا في أن من عنده شهادة بما يوجب حدا له أن يقيمها عند الحاكم ويستحب أن لا يقيمها لقوله صلى الله عليه وسلم من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة قطعه من حديث أخرجه أحمد ومسلم وابن حبان
فدل هذا على أن ستره لا يجب وأنه ينكر عليه بطريقه ولم يفرقوا بين أن يكون المشهود عليه مشهورا بالشر والفساد أم لا ولا يتوجه ما تقدم من كلام القاضي في المقر
وروى أبو داود حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن
____________________
(1/252)
النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا إبراهيم ابن أبي مريم أنبانا الليث حدثني إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخينا كاتب عقبة بن عامر قال كان لي جيران يشربون الخمر وإني نهيتهم فلم ينتهوا فقلت لعقبة بن عامر إن جيراننا هؤلاء يشربون الخمر وإني نهيتهم فلم ينتهوا فأنا داع لهم الشرط فقال دعهم ثم رجعت إلى عقبة مرة أخرى فقلت إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر وأنا داع لهم الشرط فقال ويحك دعهم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مسلم
قال أبو داود قال هشام بن القاسم عن ليث في هذا الحديث قال لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم كعب تابعي ثقة لم يرو عن أبي الهيثم غيره ولهذا قال بعضهم في أبي الهيثم لا يعرف وقد روى خبره أحمد والنسائي وقال ابن عقيل في الفنون الصحابة رضي الله عنهم آثروا فراق نفوسهم لأجل مخالفتها للخالق سبحانه وتعالى فهذا يقول زنيت فطهرني ونحن لا نسخوا أن نقاطع أحدا فيه لمكان المخالفة
وقال في شرح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم ومن ستر مسلما ستره الله عز وجل يوم القيامة قال وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قصته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على
____________________
(1/253)
مثل فعله وهذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة
وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب عند الحاجة ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة وهذا مجمع عليه قال العلماء في القسم الأول الذي يستر فيه هذا الستر مندوب فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بالإجماع لكن هذا الأولى وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه انتهى كلامه
وإذا لم يأثم برفع فاعل معصية انقضت فرفع من هو متلبس بها ابتداء مثله أو أولى وما ذكره من الإجماع فيه نظر لما سبق ولما يأتي وقد ذكر هو وغيره قصة حاطب بن أبي بلتعة فيها هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة أو كان في الستر مفسدة وإن الأحاديث في السنن تحمل على ما إذا لم تكن فيه مفسدة ولا تفوت به مصلحة
وذكر المهدوي في تفسيره إنه لا ينبغي لأحد أن يتجسس على أحد من المسلمين قال فإن اطلع منه على ريبة وجب أن يسترها ويعظه مع ذلك ويخوفه بالله تعالى وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره الله عز وجل ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه أخرجه البخاري ومسلم
في نسخ معتمدة أو معظم النسخ معافاة يعود إلى الأمة وفي بعض النسخ وإن من المجاهرة وفي بعضها وإن من الجهار يقال جهر بأمر وأجهر وجاهر
قال ابن عقيل في الفنون سؤال عن قوله صلى الله عليه وسلم وجبت
____________________
(1/254)
والجواب أنه يجوز أن يكون قوله ذلك مما ألقي إليه من الوحي ويحتمل أن يكون لما ظهر له حين غفر شره لخيره والثالث يجوز أن يكون استسراره بالشر طاعة لله تعالى حيث قال من أتى من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل أخرجه مالك
فوجبت له المغفرة بطاعة الشرع باستسراره لستر الله عز وجل فجازاه الله عز وجل على ذلك بالمغفرة لما ستره عن الخلق طاعة للحق والله سبحانه أعلم فصل في هجر الكافر والفاسق والمبتدع والداعي إلى بدعة مضلة
وقد تقدم الكلام في الهجر وقال أحمد في مكان آخر ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به والتأذي دون غيره وقيل يجب هجره مطلقا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه السابق وقطع ابن عقيل به في معتقده قال ليكون ذلك كسرا له واستصلاحا واستدل عليه
وقال أيضا إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون هذا يقول حديث خرافة والمعري يقول ( تلوا باطلا وجلوا صارما % وقالوا صدقنا فقلنا نعم )
يعني بالباطل كتاب الله عز وجل وعاشوا سنين وعظمت قبورهم واشتريت تصانيفهم وهذا يدل على برودة الدين في القلب وهذا المعنى قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى
وقال الخلال حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه قال لا وإذا سلم عليه لا يرد عليه
____________________
(1/255)
وقال ابن حامد يجب على الخامل ومن لا يحتاج إلى خلطتهم ولا يلزم من يحتاج إلى خلطتهم لنفع المسلمين
وقال ابن تميم وهجران أهل البدع كافرهم وفاسقهم والمتظاهرين بالمعاصي وترك السلام عليهم فرض كفاية ومكروه لسائر الناس وقيل لا يسلم أحد على فاسق معلن ولا مبتدع معلن داعية ولا يهجر مسلما مستورا غيرهما من السلام فوق ثلاثة أيام وقد تقدمت هذه المسألة
وقال القاضي أبو الحسين في التمام لا تختلف الرواية في وجوب هجر أهل البدع وفساق الملة أطلق كما ترى وظاهرة أنه لا فرق بين المجاهر وغيره في المبتدع والفاسق قال ولا فرق في ذلك بين ذي الرحم والأجنبي إذا كان الحق لله تعالى فإما إذا كان الحق لآدمي كالقذف والسب والغيبة وأخذ ماله غصبا ونحو ذلك نظرت فإن كان المجاهر والفاعل لذلك من أقاربه وأرحامه لم تجز هجرته وإن كان غيره فهل تجوز هجرته أم لا على روايتين هذا لفظ والده في الأمر بالمعروف أو معناه إلا أنه قال وإن كان الحق غيره فهل تجوز على روايتين وقال قد نص أحمد على معنى هذا التفصيل قال في رواية الفضل بن زياد وقد سأله رجل عن ابنه عم له تنال منه وتظلمه وتشتمه وتقذفه فقال سلم عليها إذا لقيتها اقطع المصارمة المصارمة شديدة وهذا يدل على منع الهجر لأقاربه لحق نفسه وقال في رواية المروذي وقد سأله رجل فقال إن رجلا من أهل الخير قد تركت كلامه لأنه قذف مستورا بما ليس منه ولي قرابة يسكرون فقال اذهب إلى الرجل حتى تكلمه ودع هؤلاء الذين يسكرون وهذا يدل على جواز ذلك في حق القريب ولا يجوز ذلك في حق الأجنبي لأنه أمره بكلام القاذف ومنعه من كلام الشارب مع كونه قرابة له
وقال المروذي ذكر الطوسي فقال صاحب صلاة وخير فقيل له تكلمه فنفض يده وقال إنما أنكرت عليه كلامه في ذلك الرجل يعني بشر بن الحارث وقال إنه قبل من أم جعفر وهذا يدل على جواز ذلك لحق الآدمي لأنه هجر الطوسي مع صلاحه لكلامه في بشر وذلك لحق آدمي
____________________
(1/256)
قال القاضي وإنما كره أحمد هجرة الأقارب لحق نفسه للأخبار في صلة الرحم وإنما أجازها في حق الله تعالى ومنعها في حق الغير على رواية المروذي في حق الأجنبي لأن حق الله عز وجل أضيق لأنه لا يدخله العفو وحق الآدمي أخف لأنه يدخله العفو ويبين هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فدين الله عز وجل أحق أن يقضى أخرجه البخاري ومسلم
وكلام أكثر الأصحاب يقتضي أنه لا فرق وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في مواضع وهو الأولى والأخبار في صلة الرحم تخص بأدلة الهجر وحق الآدمي فيه حق الله تعالى وهو مبني على المساهلة والمسامحة بخلاف حق الآدمي فصل لا تجوز الهجرة بخبر الواحد عما يوجب الهجرة
قال القاضي ولا تجوز الهجرة بخبر الواحد بما يوجب الهجرة نص عليه في رواية أبي مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال حدثني ابن مكرم الصفار حدثنا مثنى بن جامع الأنباري قال ذكر أبو عبد الله هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني حديث المثنى كان لا يأخذ بالقرف ولا يصدق أحدا على أحد فقال إلى هذا أذهب أنا أو هذا مذهبي ابن مكرم يشك
وروى أبو مزاحم حدثني ابن مكرم حدثني الحسن بن الصباح البزار حدثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن جحادة عن الحسن قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذ بالقرف ولا يصدق أحدا على أحد أخرجه أبو نعيم وهو ضعيف
فإن قيل لا يمتنع أن يهجر بخبر الواحد لأنه يكسب التهمة كما يجوز الحبس بالتهمة لخبر بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهو كما قال
وقد قال أحمد في رواية المروذي وحنبل حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة قيل يحتمل أن يكون وجه الحديث أن رجلا ادعى على رجل حقا يتعلق بالمال
____________________
(1/257)
وبالبدن وأقام شاهدين ظاهرهما العدالة ولم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم عدالتهما في الباطن فحبس المشهود عليه ليسأل عن عدالتهما في الباطن لأن شهادتهما تهمة في حق المدعى عليه وهذا معدوم في مسألتنا انتهى كلام القاضي
وقد حمل بعض أصحابنا كلام أحمد على ظاهره في الحبس في تهمة فيتوجه عليه الهجر بخبر الواحد وفي المسألتين نظر والله أعلم
والقرف التهمة يقال قرفته بكذا إذا أضفته إليه وعبته واتهمته وقد تقدم في أوائل الكتاب عند ذكر الغيبة إخبار ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بالذي قاله رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فيما رواه أبو داود والترمذي أظنه من حديث ابن مسعود ونظيره إخبار زيد بن أرقم للنبي صلى الله عليه وسلم عن كلام عبد الله بن أبي وهو في الصحيحين أخرجه البخاري ومسلم
وفيه أنزلت سورة المنافقين وقال ابن عبد البر قال معاذ بن جبل إذا كان لك أخ في الله تعالى فلا تماره ولا تسمع فيه من أحد فربما قال لك ما ليس فيه فحال بينك وبينه وقد قيل
( إن الوشاة كثير إن أطعتهم % لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما )
الإل اختلف فيه واستشهد ابن الجوزي بهذا البيت على أنه القرابة وقيل أيضا
( لقد كذب الواشون ما بحت عندهم % بسر ولا راسلتهم برسول )
أي برسالة استشهد به ابن الجوزي في قوله تعالى { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } المعنى إنا رسالة رب العالمين أي ذوو رسالة رب العالمين هذا قول الزجاج وقال ابن قتيبة الرسول يكون في معنى الجمع كقوله تعالى { هؤلاء ضيفي }
وقوله تعالى { ثم يخرجكم طفلا }
وروى الحاكم في تاريخه أن رجلا ذكر في مجلس سلم بن قتيبة فتناوله بعض أهل المجلس فقال له سلم يا هذا أوحشتنا من نفسك وآيستنا من مودتك
____________________
(1/258)
ودللتنا على عورتك سلم ثقة وروى له البخاري توفي سنة مئتين فصل
من عنده سماع لمبتدع فطلبه دفعه إليه لعل الله ينفعه به نقله عبد الله وحضر زنديق مجلس أبي عبد الله فقال له إسحاق بن إبراهيم بن هانئ هذا عدو الله كبش الزنادقة فقال أبو عبد الله من أمركم بهذا عمن أخذتم هذا دعوا الناس يأخذون العلم وينصرفون وقد تقدم ما يخالف هذا عن غير واحد من الأئمة فصل حكم هجر المسلم العدل ومقاطعته ومعاداته وتحقيره
فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقال ابن عقيل يكره وكلام الأصحاب خلافه ولهذا قال الشيخ تقي الدين رحمه الله اقتصاره في الهجرة على الكراهة ليس بجيد بل من الكبائر على نص أحمد الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة
وظاهر كلام الأكثر هنا أنه لا فرق بين ثلاثة أيام وأكثر وكلامهم في النشوز يدل على هذا وذلك لظاهر ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله عز وجل المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
وفيهما أو في مسلم ولا تنافسوا ولا تهجروا
وفي نسخة معتمدة ولا تهاجروا ولا تقاطعوا إن الله عز وجل لا ينظر إلى
____________________
(1/259)
صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
التدابر المعاداة والمقاطعة لأن كل واحد يولي صاحبه دبره والتحسس بالحاء قيل الاستماع لحديث قوم وبالجيم التفتيش عن العورات وقيل بالحاء تطلبه لنفسك وبالجيم لغيرك وقيل هما بمعنى وهو طلب معرفة ما غاب وحال ولا تهجروا ولا تهاجروا بمعنى والمراد النهي عن الهجرة وقطع الكلام وقيل يجوز أن يكون لا تهجروا أي لا تتكلموا بالهجر بضم الهاء وهو الكلام القبيح
وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه أخرجه الترمذي
وذكر الحديث بمعنى بعض ما تقدم
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس أخرجه مسلم والترمذي
وفي لفظ تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا وفي رواية إلا المتهاجرين رواه مسلم الشحناء العداوة كأنه شحن قلبه بغضا أي ملأه وكلامه في المستوعب وغيره على أنه لا يحرم في الثلاثة أيام للخبر لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث
قال في شرح مسلم قال العلماء رضي الله عنهم إنما عفي عنها في الثلاثة لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفي عنها في الثلاث ليزول ذلك العارض وسيأتي كلام أبي داود بعد هذا الخبر يوافق هذا وقيل إن الخبر لا يدل على الهجرة في الثلاثة
قال في شرح مسلم على مذهب من لا يحتج بالمفهوم
____________________
(1/260)
ويتوجه أولا أن الخبر في الهجر بعذر شرعي للخبر السابق والذي ذكره القاضي في المجرد والشيخ عبد القادر وغيرهما استحباب هجرة أهل البدع والأهواء والفساق أطلقوا ولم يفرقوا فصل في زوال الهجر بالسلام ومسائل في الغيبة ومتى تباح
والهجر المحرم يزول بالسلام ذكره في الرعاية والمستوعب وزاد ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام عليه ثم قال في المستوعب والهجران الجائز هجر ذوي البدع أو مجاهر بالكبائر ولا يصل إلى عقوبته ولا يقدم على موعظته أو لا يقبلها ولا غيبة في هذين في ذكر حالهما قال في الفصول ليحذر منه أو يكسره عن الفسق ولا يقصد به الإزراء على المذكور والطعن فيه ولا فيما يشاور فيه من النكاح أو المخاطبة
قال أبو طالب سئل أبو عبد الله عن الرجل يسأل الرجل يخطب إليه فيسأل عنه فيكون رجل سوء فيخبره مثل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لفاطمة معاوية عائل وأبو جهم عصاه على عاتقه أخرجه مسلم وأبو داود ومالك
يكون غيبة إن أخبره قال المستشار مؤتمن يخبره بما فيه وهو أظهر ولكن يقول ما أرضاه لك ونحو هذا حسن وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه سأل أبا عبد الله عن معنى الغيبة يعني في النصيحة قال إذا لم ترد عيب الرجل
وقال الخلال أخبرني حرب سمعت أحمد يقول إذا كان الرجل معلنا بفسقه فليست له غيبة أنبانا أبو عتبة حدثنا ضمرة أنبأنا ابن شوذب عن الحسن قال ليس للفاسق المعلن لفسقه غيبة أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن زيد بن أسلم قال إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي
وقال في رواية الفضل بن زياد في رجل صاحب قينات ومعازف يؤذي أهل المسجد إذا ذكر ما فيه لا يضر لأنه قد أعلن لا يضره إذا حدث الناس عنه
____________________
(1/261)
وقال محمد بن يحيى الكحال لأبي عبد الله الغيبة أن يقول في الرجل ما فيه قال نعم قلت حديث بهز قال ليس له أصل ولفظه أترعون عن ذكر الفاسق كي يعرفه الناس اذكروه أخرجه الطبراني والقضاعي والخطيب والبيهقي وضعفه وأخرجه البيهقي من حديث أنس وضعفه
ذكره القاضي وغيره وخبر بهز هذا له طرق عنه وهي ضعيفة قال بعضهم وأمثلها الجارود بن يزيد عنه وهو متروك
وذكر ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا غيبة فيهم الفاسق المعلن بفسقه وشارب الخمر والسلطان الجائر ضعيف أخرجه ابن أبي الدنيا
قال وقال أنس والحسن من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة فيه
وقال الحجاج بن فرافصة قلت لمجاهد الرجل يكون وقاعا في الناس فأقع فيه أله غيبة قال لا قلت من ذا الذي تحرم غيبته قال رجل خفيف الظهر من دماء المسلمين خفيف البطن من أموالهم أخرس اللسان عن أعراضهم فهذا حرام الغيبة ومن كان سوى ذلك فلا حرمة له ولا غيبة فيه فهذه في غير النصيحة
ورواية الكحال تحريم الغيبة مطلقا والأشهر عنه الفرق بين المعلن وغيره
وظاهر الفصول والمستوعب أن من جاز هجره جازت غيبته ومرادهما والله أعلم ومن لا فلا ورواية الكحال أيضا تدل على تحريم لقب كالأعمش وقد تقدمت في أوائل الكتاب وأن رواية الأثرم تدل على جوازه إذا لم يعرف إلا به
____________________
(1/262)
وقد احتج البخاري على غيبة أهل الفساد وأهل الريب بقوله صلى الله عليه وسلم في عيينة بن حصن لما استأذن عليه بئس أخو العشيرة ويأتي ما يتعلق بهذا خبر عتبان بن مالك في إنكار المنكر المظنون وفي الصحيحين في قصة تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك وقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففيه الطعن بالاجتهاد والظن وأن من ظن غلط الطاعن رد عليه ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على واحد منهما ومن الغيبة للتظلم قوله تعالى
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }
وقال ابن هبيرة في حديث معاذ واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجه البخاري ومسلم
لقدرته سبحانه على العدل الذي أمر به قال وعلى هذا أرى قوله تعالى { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }
إن الاستثناء من الجنس ليس بمنقطع كما كان يقول الشيخ محمد بن يحيى الزبيدي وذلك أن المظلوم إذا شكا إلى الله تعالى اقتضى عدل الله عز وجل الإيقاع بظالمه فيحب الله سبحانه وتعالى أن يجهر المظلوم بالشكوى ليكون المقدر والإيقاع بالظالم مبسوط العذر عند الخلق وزاجرا لأمثاله عن أمثال فاعله وإنما يمهل الظالم من جهة أن الخلق إذا ملك أحدهم مملوكين فجنى على أحدهم جناية فإن أرشها لسيده فالخلق ملك لله عز وجل فلا اعتراض عليه فلولا هذه الحالة لما كنت أطمع للظالم أن يؤخر الإيقاع به طرفة عين انتهى كلامه
____________________
(1/263)
والمروي عن ابن عباس في الآية إلا أن يدعو المظلوم على من ظلمه فإن الله تعالى قد أرخص له وعن الحسن والسدي إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه وعن مجاهد أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه وعنه أيضا إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه
وقرأ عبد الله بن عمرو وجماعة من التابعين بفتح الظاء قال ثعلب هي مردودة على { ما يفعل الله بعذابكم } إلا من ظلم وقيل المعنى إلا أن يجهر الظالم بالسوء ظلما وقيل إلا أن يجهروا بالسوء للظالم فعلى هذا الاستثناء منقطع ومعناه لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء ولكن الظالم قد يجهر بالسوء واجهروا له بالسوء
وقال ابن زيد من ظلم أي أقام على النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع ذكر ذلك ابن الجوزي ومن ذلك قول هند للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة
وقول الحضرمي أو الكندي للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لك يمينه أخرجه مسلم وأبو داود فقال يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يبالي قال في شرح مسلم وفيه أن أحد الخصمين إذا قال لصاحبه إنه ظالم أو فاجر أو نحوه يحتمل ذلك منه وما قاله ظاهر وظاهر كلام أصحابنا وغيرهم يؤاخذ بذلك ويتأول الخبر
وروى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن الشريد مرفوعا لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته أخرجه أحمد أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وإسناده حسن
قال أحمد قال وكيع عرضه شكايته وعقوبته حبسه ولعل من هذا ما جرى بين العباس وعلي لما تحاكما في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكان كل منهما متأولا معذورا في قوله للآخر فإنه أشكل على جماعة حتى أسقطه بعضهم من الحديث وهو في الصحيحين ولذلك لم ينكر
____________________
(1/264)
عمر وعثمان وسعد والزبير وعبد الرحمن ما قيل لكن كان القول في الوجه وقد تقدم كلام الإمام أحمد في الاستعانة بالجيران وغيرهم على إزالة المنكر
وفي الخبر الصحيح خير دور الأنصار بنو فلان أخرجه البخاري ومسلم الحديث قال في شرح مسلم فيه جواز تفضيل القبائل والأشخاص بغير مجازفة ولا هوى ولا يكون هذا غيبة هذا صحيح وهو كثير في كلام أحمد وغيره من الأئمة
وليست الغيرة عذرا في غيبة ونحوها في ظاهر كلام أحمد والأصحاب لعموم الأدلة ويتوجه احتمال وهو معنى كلام ابن عقيل في الفنون فإنه قال قل أن يصح رأي مع فورة طبع فوجب التوقف إلى حين الاعتدال وهو أيضا معنى ما اختاره الشيخ تقي الدين فإنه اختار أن لا يقع طلاق من غضب حتى تغير ولم يزل عقله كالمكره وذلك لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال اللهم هالة بنت خويلد فقلت وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها أخرجه البخاري تعليقا ومسلم
الغيرة بفتح الغين مصدر غار الرجل يغار غيرة وغيرا وغارا والغيرة بكسر الغين الميرة والنفع وقولها حمراء الشدقين أي لم يبق بشدقها بياض شيء من الأسنان قد سقطت من الكبر
قال الطبري وغيرة من العلماء الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم يزجر عائشة رضي الله عنها قال القاضي عياض عندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ كذا قال وهذا لا يمنع الإنكار زجرا وتأديبا كسائر
____________________
(1/265)
المحرمات
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعرف إذا كنت راضية عني وإذا كنت علي غضبى أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان قالت فقلت ومن أين تعرف ذلك قال أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت غضبى قلت لا ورب إبراهيم قلت أجل والله يا رسول الله
____________________
(1/266)
ما أهجر إلا اسمك
قال القاضي عياض مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هو مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة قال واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تدري الغيرى أعلى الوادي من أسفله رواه عبد الرزاق من طريق الحسن مرسلا
قال القاضي عياض ولولا ذلك كان على عائشة رضي الله عنها في ذلك من الحرج ما فيه لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة عظيمة ولهذا قالت لا أهجر إلا اسمك فدل على أن قلبها وحبها كما كان وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة انتهى كلامه
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعا أخرجه البخاري ومسلم
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر قالت بلى فركبت حفصة على بعير عائشة وركبت عائشة على بعير حفصة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم سار معها حتى نزلوا فافتقدته عائشة فغارت فلما نزلت جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا
قال أبو زكريا النووي في شرح مسلم هذا الذي فعلته وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه انتهى كلامه
وما قاله لا يوافق مذهب الشافعي
____________________
(1/267)
وروى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الله بن زيد بن عامر الأزرق عن عقبة مرفوعا غيرتان إحداهما يحبها الله عز وجل والأخرى يبغضها الله عز وجل الغيرة في الريبة يحبها الله والغيرة في غيرها يبغضها الله عز وجل والمخيلة إذا تصدق الرجل يحبها الله عز وجل والمخيلة في الكبر يبغضها الله عز وجل أخرجه أحمد وابن خزيمة وإسناده ضعيف
وقال ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم ودعوة الوالد ودعوة المسافر حديث حسن أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان وإسناده ضعيف
ولابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكر الغيرة فقط قيل يحيى لم يسمع من زيد فدل ذلك على أن هذه الغيرة منهي عنها ويوافقه ما رواه أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال له رجل أوصني قال لا تغضب فردد عليه قال لا تغضب
وروى أحمد غير حديث في هذا المعنى وفي بعضها من رواية حميد بن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة أن الرجل قال ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله
وروى أيضا من حديث ابن عباس علموا ويسروا ولا تعسروا وإذا غضب أحدكم فليسكت أخرجه أحمد والطيالسي والبخاري وإسناده ضعيف ثلاثا
وروى عن عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل قال لا تغضب صحيح أخرجه أحمد وصححه ابن حبان
فنهيه عنه دليل على دخوله تحت الوسع وإلا لم
____________________
(1/268)
ينه عن المحال وما كان سببه محرما أو غير محرم يترتب عليه الأحكام مع وجود العقل إلا المكره لمعنى يختص به
وظهر من هذا أن هذا السبب إن لم يكن معذورا فيه عقله كان كزواله ببنج ونحوه
على الخلاف فيه عندنا وإلا كان كسكر معذور فيه ونوم ونحوه
وقد أتى أبو موسى الأشعري النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله فوجده غضبان وحلف لا يحملهم وكفر الحديث أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وسأله رجل عن ضالة الإبل فغضب حتى احمرت وجنتاه واحمر وجهه ثم قال مالك ولها دعها الحديث وهما في الصحيحين أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان من حديث زيد بن خالد الجهني
وكان صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأهدى بعضهن إليه طعاما فضربت يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع الطعام ويقول غارت أمكم ثم أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها أخرجه البخاري والنسائي رواه البخاري من حديث أنس والدارقطني فصارت قضية من كسر شيئا فهو له وعليه مثله
ولأحمد وأبي داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها أخذتني رعدة من شدة الغيرة فكسرت الإناء ثم ندمت فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت فقال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وإسناده ضعيف
____________________
(1/269)
وروى أبو داود في باب ترك السلام على أهل الأهواء حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني عن سمية عن عائشة رضي الله عنها أنه اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب أعطيها بعيرك فقالت أنا أعطي تلك اليهودية فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر أخرجه أبو داود وأحمد وإسناده ضعيف
سمية تفرد عنها ثابت ولأنه قول ابن عباس وغيره
وقد ظهر من ذلك الجواب عما تقدم مع أنه يحتمل أن الإنكار اختصره الراوي وأنه كان قد تقدم من النبي صلى الله عليه وسلم فاكتفى به والحديث الأخير ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك
وظهر أيضا الجواب عما قال البخاري باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب أخرجه البخاري ومسلم ثم روى قصة الأنصاري لما سمع اليهودي يقول والذي اصطفى موسى على البشر فغضب فلطمه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الغضب مع وجود العقل لا يسامح بسببه في الأفعال هذا إن لم يكن جزاء هذا الفعل اختصره الراوي من هذه القصة للعلم به ووضوحه لكنه خلاف الظاهر ولهذا فهم البخاري خلافه والله سبحانه أعلم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أنه سأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر القصة أخرجه البخاري ومسلم
ودخول عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من
____________________
(1/270)
فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عز وجل عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت استأنس يا رسول الله قال نعم فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله عز وجل فاستوى جالسا ثم قال أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل على موجدته أي غضبه أخرجه البخاري ومسلم
وقال في المستوعب في موضع آخر ويكره هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث إلا أن يكون من أهل الأهواء والبدع والفساق المدمنين على ذلك انتهى كلامه والأولى التحريم كما تقدم
وقال صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وفي رواية فيصد هذا ويصد هذا متفق عليه من حديث أبي أيوب يصد بضم الصاد يعرض أي يوليه عرضه بضم العين أي جانبه
وروى أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن هشام بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على إصرارهما وأولهما فيئا يكون سبقه بالفيء كفارة له فإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه
____________________
(1/271)
الملائكة ورد عليه الشيطان وإن ماتا على إصرارهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا أخرجه أحمد والبخاري وابن حبان وإسناده صحيح
إسناده جيد
وعن أبي هريرة مرفوعا لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث فإن مر به ثلاث فلقيه فليسلم عليه فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
رواه أبو داود
حدثنا أحمد بن سعيد السرخسي أن أبا عامر أخبرهم حدثنا محمد بن هلال حدثني أبي عن أبي هريرة فذكره وقال إذا كانت الهجرة لله عز وجل فليس من هذا في شيء وإن عمر بن عبد العزيز غطى وجهه عن رجل انتهى كلامه أبو عامر هو العقدي عبد الملك بن عمرو وهلال لم يرو عنه غير ابنه ووثقه ابن حبان وباقيه جيد
ولأبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار أخرجه أبو داود وإسناده صحيح
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن خالد حدثنا ابن عثمان حدثنا عبد الله بن المسيب أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا فذكره وفيه فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرار كل ذلك لا يرد عليه باء بإثمه حديث حسن أخرجه أبو داود وإسناده حسن
وروى أبو حفص عن أبي هريرة مرفوعا السلام يقطع الهجران لم نقف على من خرجه
وذكر النووي رحمه الله أن مذهب مالك والشافعي ومن وافقهما يزول الهجر المحرم بالسلام وقال أحمد وابن القاسم المالكي إن كان يؤذيه لم يقطع السلام
____________________
(1/272)
هجرته انتهى كلامه
وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن السلام يقطع الهجران فقال قد يسلم عليه وقد صد عنه ثم قال أبو عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم يقول يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا فإذا كان قد عوده أن يكلمه وأن يصافحه ثم قال إلا أنه ما كان من هجران في شيء يخاف عليه فيه الكفر فهو جائز ثم قال أبو عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة كعب بن مالك حين خاف عليهم ولم يدر ما يقول فيهم لا تكلموهم قيل لأبي عبد الله عمر قال في صبيغ لا تجالسوه قال المجالسة الآن غير الكلام قلت لأبي عبد الله كان لي جار يشرب المسكر أسلم عليه فسكت وقد قال لي في بعض هذا الكلام لا تسلم عليه ولا تجالسه
قال القاضي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظاهر كلام أحمد أنه لا يخرج من الهجرة بمجرد السلام بل يعود إلى حاله مع المهجور قبل الهجرة وذكر رواية الأثرم وقول أحمد في رواية محمد بن حبيب وقد سئل عن الرجل لا يكلم الرجل أيجزئه السلام من الصرم فقال أتخوف من أجل أنهما يصد أحدهما عن صاحبه وقد كانا متآنسين يلقى أحدهما صاحبه بالبشر إلا أن يتخوف منه نفاقا قال وإنما لم يجعله أحمد خارجا من الهجرة بمجرد السلام حتى يعود إلى عادته معه في الاجتماع والمؤانسة لأن الهجرة لا تزول إلا بعوده إلى عادته معه انتهى كلام القاضي
وتقدم قول أحمد في الذي تشتمه ابنة عمه إذا لقيها سلم عليها أقطع المصارمة فظاهره أن السلام يقطعها مطلقا وظاهر قول أصحابنا أن الهجر محرم لا يزول بغير ذلك ونص عليه الشافعي رواه عنه البيهقي ويتوجه على قول من جعل من أصحابنا الكتابة والمراسلة كلاما أن يزول الهجر المحرم بها ثم وجدت ابن عقيل ذكره وللشافعي وجهان
قال الشيخ محيي الدين النووي وأصحهما يزول لزوال الوحشة انتهى كلامه
وأنشد بعضهم
____________________
(1/273)
( لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا % فيكشف الله سترا من مساويكا )
( واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا % ولا تعب أحدا منهم بما فيكا )
( واستغن بالله عن كل فإن به % غنى لكل وثق بالله يكفيكا )
وقال صاحب المختار من الحنفية ولا غيبة لظالم ولا لفاسق ولا آثم في السعي به ولا غيبة إلا لمعلوم ولا غيبة لأهل قرية وكذا ذكر القاضي عياض وغيره في غير المعين وخالف فيه بعضهم ذكره النووي في حديث أم زرع والأول مأثور عن إبراهيم ولم يذكر أصحابنا هذا والظاهر أنهم لا يريدون هذا فظاهر كلام بعضهم إن عرف بعد البحث لم يجز وإلا جاز فليس هذا ببعيد
وذكر في المحيط أن الغيبة حرام إلا في حال وهو أن يكون رجلا يضر الناس باللسان واليد فلا غيبة في ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم اذكروا الفاجر بما فيه وذكر الشيخ تقي الدين إن المظهر للمحرمات تجوز غيبته بلا نزاع بين العلماء قال وفي حديث آخر من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له أخرجه البيهقي والقضائي وضعفه البيهقي وهذا الخبر من رواية الربيع بن بدر عن أبان وهما ضعيفان وعن أنس مرفوعا
وسئل أيضا عن غيبة تارك الصلاة فقال إذا قيل عنه أنه تارك الصلاة وكان تاركها فهذا جائز وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي
وقال الشيخ تقي الدين في المستتر ويذكر أمره على وجه النصيحة وقال أيضا يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى وأن تصدق بعرضه على من اغتابه قبل أن يغتابه فإسقاط للحق قبل وجود سببه وحديث أبي ضمضم أنه كان يتصدق بعرضه إذا أصبح لعل المراد من غيبة وقعت مع أنا لا نسلم صحته
____________________
(1/274)
فصل في الاستعانة بأهل الأهواء وأهل الكتاب في الدولة
قال أبو علي الحسين بن أحمد بن المفضل البجلي دخلت على أحمد بن حنبل فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء فقال أحمد لا يستعان بهم قال فيستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بهم قال إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم وأصحاب الأهواء داعية عزاه الشيخ تقي الدين إلى مناقب البيهقي وابن الجوزي يعني للإمام أحمد وقال فالنهي عن الاستعانة بالداعية لما فيه من الضرر على الأمة انتهى كلامه وهو كما ذكر
وفي جامع الخلال عن الإمام أحمد أن أصحاب بشر المريسي وأهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يستعان بهم في شيء من أمور المسلمين فإن في ذلك أعظم الضرر على الدين والمسلمين
وروى البيهقي في مناقب أحمد عن محمد بن أحمد بن منصور المروذي أنه استأذن على أحمد بن حنبل فأذن فجاء أربعة رسل للمتوكل يسألونه فقالوا الجهمية يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها أولى أم اليهود والنصارى فقال أحمد أما الجهمية فلا يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها وأما اليهود والنصارى فلا بأس أن يستعان بهم في بعض الأمور التي لا يسلطون فيها على المسلمين حتى لا يكونوا تحت أيديهم قد استعان بهم السلف قال محمد بن أحمد المروذي أيستعان باليهود والنصارى وهما مشركان ولا يستعان بالجهمي قال يا بني يغتر بهم المسلمون وأولئك لا يغتر بهم المسلمون فصل في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم
قال المروذي سألت أبا عبد الله عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويكفرون قال لا تتعرضوا لهم قلت وأي شيء تكره من أن يحبسوا قال لهم
____________________
(1/275)
والدات وأخوات
قلت فإنهم قد حبسوا رجلا وظلموه وقد سألوني أن أتكلم في أمره حتى يخرج فقال إن كان يحبس منهم أحد فلا ثم قال أبو عبد الله هذا جارنا حبس ذلك الرجل فمات في السجن وأظن أنه قال غير مرة كيف حكى أبو بكر بن خلاد فقلت له قال كنت عند ابن عيينة قاعدا فجاء الفضيل فقال لا تجالسوه يعني لابن عيينة تحبس رجلا في السجن ما يؤمنك أن يقع السجن عليه قم فأخرجه فعجب أبو عبد الله وجعل يستحسنه فصل في إنكار المنكر الخفي والبعيد والماضي
قال في الرعاية ويحرم التعرض لمنكر فعل خفي على الأشهر أو مستور أو ماض أو بعيد وقيل يجهل فاعله ومحله انتهى كلامه
وقال أيضا والإنكار فيما فات ومضى إلا في العقائد والآراء قال القاضي في الماضي يشترط أن يعلم استمرار الفاعل على فعل المنكر فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل لم يجز إنكار ما وقع على الفعل كذا قال فإن كان مراده أنه ندم وأقلع وتاب فصحيح لكن هل يجوز في هذا الحال أن يرفعه إلى ولي الأمر ليقيم الحد ينبني على سقوطه بالتوبة فإن اعتقد الشاهد سقوطه لم يرفعه وإلا رفعه وبين الحال كما قاله في المغني فيمن شهد برهن الرهن ثانيا على دين أخذه الراهن من المرتهن وجعله الراهن رهنا بهما
وإما إذا كان مصرا على المحرم ولم يتب فهذا يجب إنكار الفعل الماضي وإصراره وهل يرفعه إلى ولي الأمر قد تقدم الكلام في وجوب الستر واستحبابه والتفرقة فيه ولهذا تقبل الشهادة عندنا بسبب قديم يوجب الحد في المشهور من المذهب فهذا إنكار وإقامة شهادة وعلل المنع بما روي عن عمر رضي الله عنه إنما شهد لضغن ولم يعلل بأن الشاهد فعل ما لا يجوز
وقد روي الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج آدم وموسى عليهما السلام فقال
____________________
(1/276)
موسى يا آدم خيبتنا وأخرجتنا من الجنة أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان
وفي لفظ تحاج آدم وموسى فقال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة
وفي لفظ احتج آدم وموسى عند ربهما عز وجل فقال موسى أنت آدم خلقك الله عز وجل بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله عز وجل كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم فهل وجدت فيها { وعصى آدم ربه فغوى }
قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله عز وجل علي أن أعمله قبل أن أخلق بأربعين سنة وفي الألفاظ كلها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى وللبخاري في رواية فحج آدم موسى ثلاثا
والمراد بقوله أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة هذه الكتابة في التوراة كصريح هذه الرواية لأن علم الله عز وجل وما قدره وأراده قديم وآدم مرفوع بالاتفاق أي غلب فظهر بالحجة
قال في شرح مسلم ومعنى كلام آدم إنك يا موسى تعلم أن هذا كتب وقدر علي فلا بد من وقوعه فلا تلمني على ذلك لأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي وإذ تاب الله عز وجل على آدم وغفر له زال عنه اللوم فمن لامه كان محجوجا بالشرع فإن قيل فالعاصي منا لو قال هذه المعصية قدرها الله عز وجل علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك وإن كان صادقا فيما قاله فالجواب أن هذا العاصي باق في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم وغيرهما وفي ذلك زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل وهو
____________________
(1/277)
محتاج إلى الزجر ما لم يمت فأما آدم عليه السلام فميت خارج عن دار التكليف وعن الحاجة إلى الزجر ففي القول إيذاء له وتخجيل بلا فائدة انتهى كلامه
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله رحمة الله على موسى قال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لا لأجل كونها ذنبا ولهذا احتج عليه آدم عليه السلام بالقدر وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مرادا بالحديث فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس
وأيضا فإن آدم عليه السلام احتج بالقدر وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء
وقال أيضا في كتاب الفرقان وهذا الحديث قد ضلت به طائفتان طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله عز وجل لأجل القدر وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا ومن الناس من قال إنما حجه لأنه أبوه أو لأنه قد تاب أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة فقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }
والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب قال تعالى { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك }
____________________
(1/278)
فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعايب انتهى كلامه وهو وكلام غيره يدل على أن الذنب الماضي يلام صاحبه وينكر عليه إذا لم يتب وقد تقدم ذكر الكلام الذي في شرح مسلم
ونص الإمام أحمد رحمه الله في رواية عبد الله والمروذي وأبي طالب وغيرهم في الطنبور ووعاء الخمر وأشباه ذلك يكون مغطى لا نتعرض له
ونص في رواية إسحاق ومحمد بن أبي حرب أيضا على أنه ينكره ويتلفه
وقال أبو الحسين هل يجب إنكار المغطى على روايتين أصحهما يجب لأنا تحققنا المنكر
والثانية لا يجب كأهل الذمة إذا أظهروا الخمر أنكر عليهم وإذا ستروه لم يتعرض لهم وكذا في الترغيب أنه يجب في أصح الروايتين وفي معتقد ابن عقيل ولا يكشف من المعاصي ما لم يظهر
وكذا قال ابن الجوزي من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي وإن فاحت روائح الخمر فالأظهر جواز الإنكار وسيأتي كلام ابن عقيل فيه في فصول اللباس
قال ابن الجوزي قال المفسرون والتجسس التبحث عن عيب المسلمين وعوراتهم فالمعنى لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذا ستره الله عز وجل وقيل لابن مسعود هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا فقال إنا نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذ به انتهى كلامه
وقال عبد الكريم بن الهيثم العاقولي سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار لا يعرف مكانه فقال وما عليك وما غاب عنك فلا تفتش ونقل يوسف وغيره وما عليك إذا لم تعرف مكانه
وقال محمد بن أبي حرب سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال يأمره فإن لم يقبل يجمع عليه ويهول عليه
____________________
(1/279)
ونقل جعفر فيمن يسمع صوت الغناء في طريق قال هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم ورأى أن ينكر الطبل يعني إذا سمع صوته قيل له مررنا بقوم قد أشرفوا من علية لهم يغنون فجئنا صاحب الخبر فأخبرناه فقال لم تتكلموا في الموضع الذي سمعتم فقيل لا قال كان يعجبني أن تكلموا ثم قال لعل الناس كانوا يجتمعون وكانوا يشهرون وهذا معنى ما ذكره الأصحاب في باب الوليمة أنه يلزم القادر الحضور والإنكار وإلا لم يحضر وانصرف
وقال القاضي في المعتمد ولا يجب على العالم والعامي أن يكشف منكرا قد ستر بل محظور عليه كشفه لقوله تعالى { ولا تجسسوا }
وقال الشيخ تقي الدين ومن كان قادرا على إراقة الخمر وجب عليه إراقتها ولا ضمان عليه وأهل الذمة إذا أظهروا الخمر فإنهم يعاقبون عليه أيضا بإراقتها وشق ظروفها وكسر دنانها وإن كنا لا نتعرض لهم إذا أسروا ذلك بينهم وهذا ظاهر في إنكار المنكر المستور ولم نجد فيه خلافا ومعناه كلام صاحب النظم قال في الرعاية بعد كلامه السابق وقيل من علم منكرا قريبا منه في دار ونحوها دخلها وأنكره
وقال صاحب النظم المستتر من فعله بموضع لا يعلم به غالبا إما لبعده أو نحوه غير من حضره ويكتمه وأما من فعله بموضع يعلم به جيرانه ولو في داره فإن هذا معلن مجاهر غير مستتر فصل ينبغي الإنكار على الفعل غير المشروع وإن كثر فاعلوه
وينبغي أن يعرف أن كثيرا من الأمور يفعل فيها كثير من الناس خلاف الأمر الشرعي ويشتهر ذلك بينهم ويقتدي كثير من الناس بهم في فعلهم والذي يتعين على العارف مخالفتهم في ذلك قولا وفعلا ولا يثبطه عن ذلك وحدته وقلة الرفيق وقد قال الشيخ محيي الدين النووي ولا يغتر الإنسان بكثرة الفاعلين لهذا الذي نهينا عنه ممن لا يراعي هذه الآداب وامتثل ما قاله السيد
____________________
(1/280)
الجليل الفضيل بن عياض لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها ولا تغتر بكثرة الهالكين
وقال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون من صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم }
وكان الصديق رضي الله عنه ممن يثبت على اختلاف الأحوال فلم تتقلب به الأحوال في كل مقام زلت به الأقدام إلى أن قال وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة فمن طلب به العاجلة أخطأ فصل في تمييز الأعمال وانقسام الفعل الواحد بالنوع إلى طاعة ومعصية بالنية
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى
قاعدة نافعة عامة في الأعمال وذلك أنها تشتبه دائما في الظاهر مع افتراقها في الحقيقة والباطن حتى تكون صورة الخير والشر واحدة وإنما المفرق بينهما الباطن فيفضي ذلك إلى فعل ما هو شر باعتبار الباطن مع ظن الفاعل أو غيره أنه خير وإلى ترك ما هو خير مع ظن التارك أو غيره أنه ترك شرا إلا من عصمة الله تعالى بالهداية وحسن النية وأكثر ما يبتلى الناس بذلك عند الشهوات والشبهات
وهذا الأصل هو مذهب أهل السنة وجماهير المسلمين إن الفعل الواحد بالنوع ينقسم إلى طاعة ومعصية وإن اختلفوا في الواحد بالشخص هل تجتمع فيه الجهتان وخالف أبو هاشم في الواحد بالنوع أيضا واتفق الناس على أن النوع الواحد من الحيوان كالآدمي ينقسم إلى مطيع وعاص واختلفوا في الشخص الواحد هل يجتمع فيه استحقاق الثواب والعقاب والمدح والذم
____________________
(1/281)
فذهب أهل السنة المانعون من تخليد أهل الكبائر لجواز ذلك وأباه المخلدة
وأنا أذكر لذلك أمثالا يتفطن لها اللبيب حتى تحقق النية في العمل فإنها هي الفارقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
فإن هذه كلمة جامعة عظيمة القدر فمن الأمثلة الظاهرة في الأعمال الصلاة والصدقة والجهاد والحكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك الصادر من المرائي الذي يريد العلو في الأرض ورياء الناس ومن المخلص الذي يريد وجه الله والدار الآخرة
ومن الأمثلة في الترك أن التقوى والورع الذي هو ترك المحرمات والشبهات من الكذب والظلم وفروع ذلك في الدماء والأموال والأعراض تشتبه بالجبن والبخل والكبر فقد يترك الرجل من شهادة الحق الواجب إظهارها ما يظن أنه يتركه خوفا من الكذب وإنما تركه جبنا عن الحق
ويترك الجهاد وإقامة الحدود ظنا أنه يتركه خوفا من الظلم وإنما تركه جبنا
ويترك فعل المعروف والإحسان إلى الناس ظنا أنه تركه ورعا من الظلم إذا كان المحسن إليه يخاف منه الظلم وإنما تركه بخلا إذا لم يكن في نفس ذلك إعانة على الظلم
وقد يترك قضاء الحقوق الشرعية من الابتداء بالسلام وعيادة المريض وشهود الجنائز والتواضع في الأخلاق وتحمل الشهادة وأدائها وغير ذلك ظنا منه أنه تركه لئلا يفضي إلى مخالطة الظلمة والخونة والكذبة وإنما تركه كبرا وترؤسا عليهم كما أنه يفعل ذلك ظنا أنه فعله لأجل الحقوق الشرعية ومكارم الأخلاق وإنما فعله رغبة إليهم حرصا وطمعا أو رهبة منهم وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ثم قسم الهجرة
____________________
(1/282)
الواحدة بالنوع إلى قسمين وهذا الحديث أجل حديث على وجه الأرض فصل لا ينبغي ترك العمل المشروع خوف الرياء
مما يقع للإنسان أنه إذا أراد فعل طاعة يقوم عنده شيء يحمله على تركها خوف وقوعها على وجه الرياء والذي ينبغي عدم الالتفات إلى ذلك وأن الإنسان يفعل ما أمره الله عز وجل به ورغبه فيه ويستعين بالله تعالى ويتوكل عليه في وقوع الفعل منه على الوجه الشرعي
وقد قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفا من أن يظن به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد به وجه الله عز وجل وذكر قول الفضيل بن عياض رحمه الله إن ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك
قال فلو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير انتهى كلامه
وقال أبو الفرج بن الجوزي فأما ترك الطاعات خوفا من الرياء فإن كان الباعث له على الطاعة غير الدين فهذا ينبغي أن يترك لأنه معصية وإن كان الباعث على ذلك الدين وكان ذلك لأجل الله عز وجل مخلصا فلا ينبغي أن يترك العمل لأن الباعث الدين وكذلك إذا ترك العمل خوفا من أن يقال مراء فلا ينبغي ذلك لأنه من مكايد الشيطان
قال إبراهيم النخعي إذا أتاك الشيطان وأنت في صلاة فقال إنك مراء فزدها طولا وأما ما روي عن بعض السلف أنه ترك العبادة خوفا من الرياء فيحمل هذا على أنهم أحسوا من نفوسهم بنوع تزين فقطعوا وهو كما قال ومن هذا قول الأعمش كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف فاستأذن رجل فغطى المصحف وقال لا يظن أني أقرأ فيه كل ساعة وإذا كان لا يترك العبادة خوف وقوعها على وجه الرياء فأولى أن لا يترك خوف عجب يطرأ بعدها
____________________
(1/283)
وقد تقدم شيء في العجب قبل فصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويأتي قبل فصول اللباس في الدخول على السلطان يأمره وينهاه قول داود الطائي أخاف عليه السوط قال إنه يقوى قال أخاف عليه السيف قال إنه يقوى قال أخاف عليه الداء الدفين العجب فصل في تفاوت الأجر لمن يشق عليه العمل ومن لا يشق
قال الخلال كتب إلى يوسف بن عبد الله الإسكاف حدثنا الحسن بن علي ابن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن الرجل يشرع له وجه بر فيحمل نفسه على الكراهة وآخر يشرع له فيسر بذلك أيهما أفضل قال ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم من تعلم القرآن وهو كبير يشق عليه أن له أجرين أخرجه البخاري ومسلم
وفي الصحيحين عن عائشة مرفوعا الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه له أجران أخرجه البخاري ومسلم السفرة الرسل لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله تعالى وقيل الكتبة والبررة المطيعون
والذي يتتعتع فيه له أجر بالقراءة وأجر بتعبه
قال في شرح مسلم قال القاضي عياض وغيره من العلماء والماهر أفضل وأكثر أجرا فإنه مع السفرة وله أجور كثيرة ولم يذكر هذه المنزلة لغيره وكيف يلتحق به من لم يعتن بكتاب الله عز وجل وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودراسته كاعتنائه حتى مهر فيه فظاهر هذا يناقض ما تقدم عن الإمام أحمد قال الله عز وجل { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء }
وقد يقال مراد أحمد رضي الله عنه إذا اعتنى جهده وهو يشق عليه ومراد القاضي عياض وغيره إذا حصل منه تقصير والله سبحانه أعلم
____________________
(1/284)
فصل حكم اللعن ولعن المعين
ويجوز لعن الكفار عامة وهل يجوز لعن كافر معين على روايتين قال الشيخ تقي الدين ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز وأما لعنة المعين فالأولى تركها لأنه يمكن أن يتوب
وقال في موضع آخر قيل لأحمد بن حنبل أيؤخذ الحديث عن يزيد فقال لا ولا كرامة أو ليس هو فعل بأهل المدينة ما فعل وقيل له إن أقواما يقولون إنا نحب يزيد فقال وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر فقيل له أو لا تلعنه فقال متى رأيت أباك يلعن أحدا
وقال الشيخ تقي الدين أيضا في موضع آخر في لعن المعين من الكفار ومن أهل القبلة وغيرهم ومن الفساق بالاعتقاد أو بالعمل لأصحابنا فيها أقوال
أحدها أنه لا يجوز بحال وهو قول أبي بكر عبد العزيز
والثاني يجوز في الكافر دون الفاسق
والثالث يجوز مطلقا
قال ابن الجوزي في لعنة يزيد أجازها العلماء الورعون منهم أحمد بن حنبل وأنكر ذلك عليه الشيخ عبد المغيث الحربي وأكثر أصحابنا لكن منهم من بنى الأمر على أنه لم يثبت فسقه
وكلام عبد المغيث يقتضي ذلك وفيه نوع انتصار ضعيف ومنهم من بنى الأمر على أن لا يلعن الفاسق المعين وشنع ابن الجوزي على من أنكر استجازة ذم المذموم ولعن الملعون كيزيد قال وقد ذكر أحمد في حق يزيد ما يزيد على اللعنة وذكر رواية مهنا سألت أحمد عن يزيد فقال هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل قلت فيذكر عنه الحديث قال لا يذكر عنه الحديث ولا ينبغي لأحد أن يكتب عنه حديثا قلت ومن كان معه حين فعل فقال أهل الشام قال الشيخ تقي الدين هذا أكثر ما يدل على الفسق لا على لعنة المعين
____________________
(1/285)
وذكر ابن الجوزي ما ذكره القاضي في المعتمد من رواية صالح وما لي لا ألعن من لعنه الله عز وجل في كتابه إن صحت الرواية قال وقد صنف القاضي أبو الحسين كتابا في بيان من يستحق اللعن وذكر فيهم يزيد قال وقد جاء في الحديث لعن من فعل ما لا يقارب معشار عشر ما فعل يزيد وذكر الفعل العام كلعن الواصلة والنامصة وأمثاله وذكر رواية أبي طالب سألت أحمد بن حنبل عمن قال لعن الله يزيد بن معاوية فقال لا تكلم في هذا الإمساك أحب إلي
قال ابن الجوزي هذه الرواية تدل على اشتغال الإنسان بنفسه على لعن غيره والأولى على جواز اللعنة كما قلنا في تقديم التسبيح على لعنة إبليس وسلم ابن الجوزي أن ترك اللعن أولى وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين قال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
قال ابن الجوزي وقد لعن أحمد بن حنبل من يستحق اللعن فقال في رواية مسدد قالت الواقفية الملعونة والمعتزلة الملعونة وقال عبيد الله بن أحمد الحلبي سمعت أحمد بن حنبل يقول على الجهمية لعنة الله وكان الحسن يلعن الحجاج وأحمد يقول الحجاج رجل سوء قال الشيخ تقي الدين ليس في هذا عن أحمد لعنة معين لكن قول الحسن نعم
وقال ابن الجوزي قال الفقهاء لا تجوز ولاية المفضول على الفاضل إلا أن يكون هناك مانع إما خوف فتنة أو يكون الفاضل غير عالم بالسياسة لحديث عمر في السقيفة وحديث أبي بكر في تولية عمر رضي الله عنهما وأجاب من قال بأن الحسين كان خارجيا بأن الخارجي من خرج على مستحق وإنما خرج الحسين رضي الله عنه لدفع الباطل وإقامة الحق
وقال ابن الجوزي نقلت من خط ابن عقيل قال قال رجل كان الحسين
____________________
(1/286)
رضي الله عنه خارجيا فبلغ ذلك من قلبي فقلت لو عاش إبراهيم صلح أن يكون نبيا فهب أن الحسن والحسين نزلا عن رتبة إبراهيم مع كونه سماهما إبنيه أو لا يصيب ولد ولده أن يكون إماما بعده فأما تسميته خارجيا وإخراجه عن الإمامة لأجل صولة بني أمية هذا ما لا يقتضيه عقل ولا دين قال ابن عقيل ومتى حدثتك نفسك بوفاء الناس فلا تصدق هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حقوقا على الخلق إلى أن قال { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى }
فقتلوا أصحابه وأهلكوا أولاده
وقال الشيخ تقي الدين فقد جوز ابن الجوزي الخروج على غير العادل وفسر ابن عقيل الآية بالتفسير المرجوح وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم الحديث أخرجه البخاري
وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد في خلافة أبيه معاوية وكان في الجيش أبو أيوب الأنصاري قال الشيخ تقي الدين والجيش عدد معين لا مطلق وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين فإن هذا حصر والجيش معينون ويقال إن يزيد إنما غزا القسطنطينية لأجل هذا الحديث
وقال القاضي في المعتمد من حكمنا بكفرهم من المتأولين وغيرهم فجائز لعنتهم نص عليه وذكر أنه قال في اللفظية على من جاء بهذا لعنة الله عليه غضب الله وذكر أنه قال عن قوم معينين هتك الله الخبيث وعن قوم أخزاه الله وقال في آخر ملأ الله قبره نارا قال الشيخ تقي الدين لم أره نقل لعنة معينة إلا لعنة نوع أو دعاء على معين بالعذاب أو سبا له لكن قال القاضي لم يفرق بين المطلق والمعين وكذلك جدنا أبو البركات قال القاضي فأما فساق أهل الملة بالأفعال كالزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس ونحو ذلك فهل يجوز لعنهم أم لا فقد توقف أحمد رضي الله عنه عن ذلك في رواية صالح
____________________
(1/287)
قلت لأبي الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره يلعنه فقال لا يعجبني لو عم فقال ألا لعنة الله على الظالمين
وقال أبو طالب سألت أحمد عن من نال يزيد بن معاوية قال لا تكلم في هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله قال فقد توقف عن لعنه الحجاج مع ما فعله ومع قوله الحجاج رجل سوء وتوقف عن لعنة يزيد بن معاوية مع قوله في رواية مهنا وقد سأله عن يزيد بن معاوية فقال هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قتل بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهبها لا ينبغي لأحد أن يكتب حديثه
قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي ذكره أبو عبد الله في التوقف في اللعنة فيه أحاديث كثيرة لا تخفى على أهل العلم ويتبع فيه قول الحسن وابن سيرين فهما الإمامان في زمانهما ويقول لعن الله من قتل الحسين بن علي لعن الله من قتل عثمان لعن الله من قتل عليا لعن الله من قتل معاوية بن أبي سفيان ويقول لعنة الله على الظالمين إذا ذكر لنا رجل من أهل الفتن على ما تقلده أحمد
قال القاضي فقد صرح الخلال باللعنة قال وقال أبو بكر عبد العزيز فيما وجدته في تعاليق أبي إسحاق ليس لنا أن نلعن إلا من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق الإخبار عنه
____________________
(1/288)
قال الشيخ تقي الدين المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق العام لا المقيد المعين كما قلنا في نصوص الوعيد والوعد وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة وأن الكافرين في النار ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة ولا نشهد بذلك لمعين إلا لمن شهد له النص أو شهد له الاستفاضة على قول فالشهادة في الخبر كاللعن في الطلب والخبر والطلب نوعا الكلام
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الطعانين واللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة
فالشفاعة ضد اللعن كما أن كما الشهادة ضد اللعن وكلام الخلال يقتضي أنه لا يلعن المعينين من الكفار فإنه ذكر قاتل عمر وكان كافرا ويقتضي أنه لا يلعن المعين من أهل الأهواء فإنه ذكر قاتل علي وكان خارجيا ثم استدل القاضي للمنع بما جاء من ذم اللعن وأن هؤلاء ترجى لهم المغفرة لا تجوز لعنتهم لأن اللعن يقتضي الطرد والإبعاد بخلاف من حكم بكفره من المتأولين فإنهم مبعدون من الرحمة كغيرهم من الكفار واستدل على جواز ذلك وإطلاقه بالنصوص التي جاءت في اللعن وجميعها مطلقة كالراشي والمرتشي وآكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبيه
قال الشيخ تقي الدين فصار للأصحاب في الفساق ثلاثة أقوال
أحدها المنع عموما وتعيينا إلا برواية النص
والثاني إجازتها
والثالث التفريق وهو المنصوص
لكن المنع من المعين هل هو منع كراهة أو منع تحريم ثم قال في الرد على الرافضي لا يجوز واحتج بنهيه صلى الله عليه وسلم عن لعنة الرجل الذي
____________________
(1/289)
يدعى حمارا وقال هنا ظاهر كلامه الكراهة وبذلك فسره القاضي فيما بعد لما ذكر قول أحمد لا تعجبني لعنة الحجاج ونحوه لو عم فقال ألا لعنة الله على الظالمين
قال القاضي فقد كره أحمد لعن الحجاج قال ويمكن أن يتأول توقف أحمد عن لعنة الحجاج ونظرائه أنه كان من الأمراء فامتنع من ذلك من وجهين أحدهما نهي جاء عن لعنة الولاة خصوصا الثاني أن لعن الأمراء ربما أفضى إلى الهرج وسفك الدماء والفتن وهذا المعنى معدوم في غيرهم
قال الشيخ تقي الدين والذين اتخذوا أئمة في الدين من أهل الأهواء هم أعظم من الأمراء عند أصحابهم وقد يفضي ذلك إلى الفتن
وذكر يعني القاضي ما نقله من خط أبي حفص العكبري أسنده إلى صالح بن أحمد قلت لأبي إن قوما ينسبون إلي تولي يزيد فقال يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر فقلت ولم لا تلعنه فقال ومتى رأيتني ألعن شيئا لم لا نلعن من لعنه الله عز وجل في كتابه فقلت وأين لعن الله يزيد في كتابه فقرأ { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم }
فهل يكون في قطع الرحم أعظم من القتل
قال القاضي وهذه الرواية إن صحت فهي صريحة في معنى لعن يزيد قال الشيخ تقي الدين الدلالة مبنية على استلزام المطلق للمعين انتهى كلامه
وقال في مكان آخر وقد نقل عن أحمد لعنة أقوام معينين من دعاة أهل
____________________
(1/290)
البدع ولهذا فرق من فرق من الأصحاب بين لعنة الفاسق بالفعل وبين دعاة أهل الضلال إما بناء على تكفيرهم وإما بناء على أن ضررهم أشد ومن جوز لعنة المبتدع المفكر معينا فإنه يجوز لعنة الكافر المعين بطريق الأولى ومن لم يجوز أن يلعن إلا من ثبت لعنه بالنص فإنه لا يجوز لعنة الكافر المعين فمن لم يجوز إلا لعن المنصوص يرى أن لا يجوز ذلك لا على وجه الانتصار ولا على وجه الجهاد وإقامة الحدود كالهجرة والتعزير والتحذير
وهذا مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو على أحد قنت بعد الركوع وقال فيه اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب أخرجه البخاري حتى نزلت { ليس لك من الأمر شيء }
قال وكذلك من لم يلعن المعين من أهل السنة أو من أهل القبلة أو مطلقا وأما من جوز لعنة الفاسق المعين على وجه البغض في الله عز وجل والبراءة منه والتعزير فقد يجوز ذلك على وجه الانتصار أيضا ومن يرجح المنع من لعن المعين فقد يجيب عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أجوبة ثلاثة
إما بأن ذلك منسوخ كلعن من لعن في القنوت على ما قاله أبو هريرة
وإما أن ذلك مما دخل في قوله اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس كذلك فاجعل ذلك له صلاة وزكاة ورحمة تقربه بها إليك يوم القيامة
لكن قد يقال هذا الحديث لا يدل على تحريم اللعنة وإنما يدل على أنه يفعلها باجتهاده بالتعزير فجعل هذا الدعاء دافعا عمن ليس لها بأهل
وإما أن يقال اللعن من النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بالنص فقد يكون اطلع على عاقبة الملعون
____________________
(1/291)
وقد يقال الأصل مشاركته في الفعل ولو كان لا يلعن إلا من علم أنه من أهل النار لما قال إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو شتمته أو لعنته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة فهذا يقتضي أنه كان يخاف أن يكون لعنه بما يحتاج أن يستدرك بما يقابله من الحسنات فإنه معصوم والاستدراك بهذا الدعاء يدفع ما يخافه من إصابة دعائه لمن لا يستحقه وإن كان باجتهاد إذ هو في اجتهاده الشرعي معصوم لأجل التأسي به
وقد يقال نصوص الفعل تدل على الجواز للظالم كما يقتضي ذلك القياس فإن اللعنة هي البعد عن رحمة الله ومعلوم أنه يجوز أن يدعو عليه من العذاب بما يكون مبعدا عن رحمة الله عز وجل في بعض المواضع كما تقدم فاللعنة أولى أن تجوز
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن لعن من علم أنه يحب الله ورسوله أخرجه البخاري بنحوه
فمن علم أنه مؤمن في الباطن يحب الله ورسوله لا يلعن لأن هذا مرحوم بخلاف من لا يكون كذلك انتهى كلامه
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم فقالت عائشة رضي الله عنها عليكم السام واللعنة فقال يا عائشة إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر قالت ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم
وللبخاري في رواية إن الله رفيق وفيهما أيضا أن عائشة قالت بل عليكم السام والذام فقال يا عائشة لا تكوني فاحشة فقلت ما سمعت ما قالوا فقال أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم وفي لفظ مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش وأنزل الله عز وجل { وإذا جاءوك حيوك }
____________________
(1/292)
) الذام بالذال المعجمة وتخفيف الميم الذم روي بالدال المهملة ومعناه الدائم
وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم فقالت عائشة عليكم لعنة الله وغضب الله عليكم قال مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش
ولهما أو لمسلم من حديث جابر أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا قال في شرح مسلم فيه الانتصار من الظالم وفيه الانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم انتهى كلامه
والاستدلال بهذا الخبر في جواز لعنة المعين وعدمه محتمل
وللبخاري من حديث عمر رضي الله عنه أن رجلا كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلده فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله
أخرجه البخاري في باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة فهذا ظاهر الدلالة
ولمسلم من حديث بريدة أن خالد بن الوليد لما رمى المرجومة بحجر فنضح الدم على وجهه فسبها فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له أخرجه مسلم وأبو داود
قال في النهاية اللعن من الله عز وجل الطرد والإبعاد ومن الخلق السب والدعاء انتهى كلامه
فظاهره جواز السب لولا التوبة
____________________
(1/293)
وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بثوبه ومنا من يضربه بنعله فلما انصرف قال رجل من القوم ما له أخزاه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم أخرجه البخاري وأبو داود
وفي لفظ له قال بعض القوم أخزاك الله قال لا تقولوا هكذا ولا تعينوا عليه الشيطان
وفي النهاية قاتل الله اليهود أي قتلهم وقيل لعنهم وقيل عاداهم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه بلغه عن سمرة أنه باع خمرا فقال قاتله الله لكن ذكر في النهاية أنه من الدعاء الذي لا يقصد كقوله تربت يداك
وفي الصحيحين في قنوته صلى الله عليه وسلم للنازلة اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة
قال في شرح مسلم فيه جواز لعن الكفار وطائفة منهم
وفي فنون ابن عقيل حلف رجل بالطلاق الثلاث أن الحجاج في النار فسأل فقيها فقال الفقيه أمسك زوجتك فإن الحجاج إن لم يكن مع أفعاله في النار فلا يضرك الزنى
ويجوز لعن من ورد النص بلعنه ولا يأثم عليه في تركه ويجب إنكار البدع المضلة وإقامة الحجة على إبطالها سواء قبلها قائلها أو ردها ذكره في الرعاية وقد مر
قال ابن عقيل في الفنون لا يصح ابتياع الخمر ليريقها ويصح ابتياع كتب الزندقة ليحرقها ذكره الشيخ تقي الدين في مسودة شرح المحرر ولم يزد عليه ثم وجدته في الفنون قال لأن في الكتب مالية الورق انتهى كلامه
____________________
(1/294)
ويتوجه قول إنه يجوز لأنه استنقاذ كشراء الأسير وكأن ابن عقيل إنما حكى ذلك عن غيره فإن لفظه قيل لحنبلي أيجوز شراء الخمر لإراقتها قال لا قلت فكتب الزندقة للتمزيق قال نعم قيل فما الفرق قال في الكتب مالية الورق
قال حنبلي جيد الفهم هذا باطل بآلة اللهو فإن فيها أخشابا ووترا ولا يصح بيعها بما فيها من التأليف الذي أسقط حكم مالية الآلة حتى لو أحرقت لم يضمن فهلا أسقطت حكم مالية الورق كما أسقطت حكم مالية الخشب وقال في الرعاية ويصح أن يشتري كتب الزندقة ونحوها ليتلفها فقط فصل
قال ابن عقيل في الفنون يخطر بقلوب العلماء نوع يقظة فإذا نطقوا بها وبحكمها نفرت منها قلوب غيرهم ولو من العلماء ولا أقول العوام ومثل بأشياء منها قول أبي بكر رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وأن رجلا لو صحا فقال كلمة ظاهرها يوجب عند العوام الكفر فقال لست أجد للرقيب والعتيد حشمة ولا هيبة حتى لو استفتي عليه جماعة من الفقهاء لقالوا كافر فظاهر هذا أنه ليس مصدقا بهما وهو يهون بحفظة الله تعالى على خلقه وملائكته فلو كان من المحققين فكشف عن سر واقعه لاستحيى من جهله أو كفره من العلماء فضلا عن العوام وكشف السر عن ذلك أنه قال غلبت علي هيبة ربي وحشمة من يشهدني فسقط من عيني حشمة من يشهد علي وكنت أجد الحشمة لهما لغفلة عقبها صحو وموجب اليقظة والصحو وزوال الغفلة والسهو السمع { أولم يكف بربك } { ونحن أقرب إليه منكم } والعقل فإن من شهد الحق كان كمن شهد الملك ومعه أصحاب أخيار فلا يبقى لأصحابه حكم في قلب من شهد الملك وإلا لكان وهنا في معرفته بحكم الملك وسلطانه
فاحذر من الإقدام على الطعن على العلماء مع عدم بلوغك إلى مقاماتهم واختلاف أحوالهم حتى إنهم في حال كشخص وفي حال آخر كشخص آخر
____________________
(1/295)
فإن للعبد عند كشف الحق محوا عن نفسه والعالم يتلاشى في عينه
ولهذا قالت المتصوفة للصغار يسلم للمشايخ الكبار حالهم وكلامهم سم قاتل لهم أولا ثم لمن لا يفهم ما تحت كلامهم والقاتل قد يكون معذورا والمقتول شهيدا أما المنكر فإنه جار على الظاهر وأما القائل فقال بحكم حال كشفت له خاصة وحجب عنها السامع ومن هنا كلموا الناس على قدر عقولهم فمن علم أن الخلق لا يستوون في المقال ولا في الأحوال لا يعقد الظنون ببادرة الواقع فيقع ناقصا فصل الإنكار على النساء الأجانب كشف وجوههن
هل يسوغ الإنكار على النساء الأجانب إذا كشفن وجوههن في الطريق ينبني على أن المرأة هل يجب عليها ستر وجهها أو يجب غض البصر عنها أو في المسألة قولان
قال القاضي عياض في حديث جرير رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان رواه مسلم قال العلماء رحمهم الله تعالى وفي هذا حجة على أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجل غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض صحيح شرعي ذكره الشيخ محيي الدين النووي ولم يزد عليه
وقال في المغني عقيب إنكار عمر رضي الله عنه على الأمة التستر وقوله إنما القناع للحرائر قال ولو كان نظر ذلك محرما لما منع من ستره بل أمر به وكذلك احتج هو وغيره على الأصحاب وغيرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان وإسناده ضعيف
____________________
(1/296)
وقال الشيخ تقي الدين وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز ولمن اختار هذا أن يقول حديث جرير لا حجة فيه لأنه إنما فيه وقوعه ولا يلزم منه جوازه فعلى هذا هل يشرع الإنكار ينبني على الإنكار في مسائل الخلاف وقد تقدم الكلام فيه فأما على أقوالنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم أن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة فلا ينبغي أن يسوغ الإنكار فصل في الإنكار بداعي الريبة وظن المنكر والتجسس لذلك
نص أحمد رضي الله عنه فيمن رأى إناء يرى أن فيه مسكرا أنه يدعه يعني لا يفتشه ترجم عليه الخلال ما يكره أن يفتش إذا استراب به وقطع القاضي في المعتمد أنه لا يجوز إنكار المنكر إذا ظن وقوعه وحكى عن بعضهم أنه يجب واختار ابن المنذر وغيره من الأئمة أن الميت إذا نيح عليه يعذب إذا لم يوص بتركه وكان من عادة أهله النوح وهذا معنى اختيار الشيخ فخر الدين في التلخيص
قال الشيخ مجد الدين في شرح الهداية وهو أصح الأقوال لأنه متى غلب على ظنه فعلهم له ولم يوص بتركه مع القدرة فقد رضي به فصار كتارك النهي عن المنكر مع القدرة فقد جعل ظن وقوع المنكر بمنزلة المنكر الموجود في وجوب الإنكار والمشهور عندنا في هذا الحال أنه لا يعذب
____________________
(1/297)
وذكر القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية إن غلب على الظن استسرار قوم بالمعصية لأمارة دلت وآثار ظهرت فإن كان في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها جاز أن يتجسس ويقدم على البحث والكشف هذا في المحتسب وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار كالذي كان من شأن المغيرة بن شعبة وشهوده ولم ينكر عليهم عمر رضي الله عنه هجومهم وإن حدهم للقذف عند قصور الشهادة
وإن كان دون ذلك في الريبة لم يجز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه وكذا ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية وظاهر كلام أحمد في موضع جوازه كما سيأتي في تسويته بين الحالين وعملا بالظن وهو رأي بعض المتأخرين ويتوجه أن يقال نص أحمد في هذا الفصل في ظن وقوع منكر مستور ونصه في الفصل بعده في ظن وقوع منكر ظاهر فينكر الظاهر لا المستور
وقول القاضي في انتهاك حرمة يفوت استدراكها دليل على أن المنكر المستور إذا زال لا تجوز المجاوزة بدخول الدار والمكان وغير ذلك لحصول المقصود وهو زوال المنكر
وقد قال المروذي قرأت على أبي عبد الله أن أبا الربيع الصوفي قال دخلت على سفيان بالبصرة فقلت يا أبا عبد الله إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على هؤلاء ونتسلق على الحيطان فقال أليس لهم أبواب قلت بلى ولكن ندخل عليهم لئلا يفروا فأنكره إنكارا شديدا وعاب فعلنا فقال رجل من أدخل ذا قلت إنما دخلت إلى الطبيب لأخبره بدائي فانتفض
____________________
(1/298)
سفيان وقال إنما أهلكنا أن نحن سقمى ونسمى أطباء
ثم قال لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى عدل بما يأمر عدل بما ينهى عالم بما يأمر عالم بما ينهى فإقرار أحمد هذا ولم يخالفه دل على القول به فأما إن لم يزل المنكر إلا بذلك فقد تقدم الكلام في إنكار المنكر المستور والله أعلم
وفي الصحيحين أن عتبان بن مالك عمي فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي وأتخذه مصلى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء قومه وتغيب رجل منهم يقال له مالك بن الدخشم وهو بضم الدال وسكون الخاء المعجمة وضم الشين المعجمة وبعدها ميم وقيل بزيادة ياء بعد الخاء على التصغير وورد بالألف واللام في أوله وبدونهما وروي في غير الصحيح بالنون بدل الميم مكبرا ومصغرا ويقال أيضا الدخشن بكسر الدال والشين
وفي الخبر أنه عليه السلام دخل وهو يصلي في منزله وأصحابه يتحدثون بينهم وأنهم ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شيء فقضى صلى الله عليه وسلم وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقالوا إنه يقول ذلك وما هو في قلبه قال إنه لا يشهد أحد أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه
وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل قال ابن عبد البر لن يختلفوا أنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد قال ولا يصح عنه النفاق
قال ابن الجوزي لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار ولا يتعرض للشم ليدرك رائحة الخمر ولا يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار ولا أن يستخبر جيرانه ليخبر بما جرى بل لو خبره
____________________
(1/299)
عدلان ابتداء أن فلانا يشرب الخمر فله إذ ذاك أن يدخل وينكر انتهى كلامه
وقد قال زيد بن وهب أتي ابن مسعود رضي الله عنه فقيل له هذا فلان يعني الوليد تقطر لحيته خمرا فقال عبد الله إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود ورجاله ثقات
رواه أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد فذكره ولم يقل فيه يعني الوليد الأعمش مدلس والمعروف أن المدلس لا يحتج به إذا لم يصرح بالسماع إلا ما استثني من البخاري ومسلم حملا على السماع
وبتقدير صحته غايته ظن صحابي واعتقاده أن هذا من التجسس على أن قوله أتي ابن مسعود فقيل له هذا فلان تقطر لحيته خمرا يحتمل أن يكون مراده الآن ويحتمل أن مراده من شأنه وعادته ذكره أبو داود في باب النهي عن التجسس
وروى فيه بإسناد صحيح عن سفيان عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم أخرجه أبو داود وإسناده صحيح فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله عز وجل بها
حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة وعمرو بن الأسود والمقداد بن معدي كرب وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ضمضم حمصي مختلف في توثيقه
وروى في باب الغيبة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الأسود بن عامر حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن
____________________
(1/300)
أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر من أمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عز وجل عورته ومن تتبع الله عز وجل عورته يفضحه في بيته أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي وله شاهد يتحسن به عن ابن عمر أخرجه الترمذي وابن حبان سعيد روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم مجهول ورواه أحمد من حديثه وللترمذي وقال حديث حسن غريب من حديث ابن عمر معناه وفيه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم ثم ذكر معنى ما تقدم ولأحمد بإسناد حسن من حديث ثوبان لا تؤذوا عباد الله أخرجه أحمد وإسناده ضعيف فيه من لا يعرف
وساقه بمعنى ما تقدم فصل الإنكار على الرجل والمرأة في موقف الريبة كخلوة ونحوها
فإن رأى الرجل مع امرأة فهل يسوغ الإنكار ينظر فإن كان ثم قرينه تتعلق بالواقف أو قرينه زمان أو مكان أو غير ذلك ساغ الإنكار وإلا فلا وعلى هذا كلام أحمد رضي الله عنه والقاضي
قال محمد بن يحيى الكحال للإمام أحمد رضي الله عنه الرجل السوء يرى مع المرأة قال صح به
وقال أيضا لأبي عبد الله الغلام يركب خلف المرأة قال ينهى عنه ويقال له إلا أن يقول إنها له محرم ترجم عليهما الخلال باب الرجل يرى المرأة مع الرجل السوء ويراها معه راكبة
وذكر في هذا الباب أن أبا داود قال سمعت أبا عبد الله وقيل له امرأة أرادت أن تسقط عن الدابة يمسكها الرجل قال نعم
____________________
(1/301)
قال القاضي فصل ومن عرف بالفسق منع من الخلوة بامرأة أجنبية لما يحصل فيه من الريبة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح من حديث عمر وأخرجه أحمد من حديث جابر
ثم ذكر رواية محمد بن يحيى الثانية انتهى كلامه
قال القاضي في الأحكام السلطانية فيما يتعلق بالمحتسب وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار وإن كان الوقوف في طريق خال فخلو المكان ريبة فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم وليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب وإن كانت أجنبية فأحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل وليكن زجره بحسب الأمارات وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار
وتقدم كلام القاضي أنه ينكر على من خالف مذهبه وإن جاز أن يختلف اجتهاده كما ينكر على من أكل في رمضان أو طعام غيره وإن جاز أن يكون عذر
وتقدم قوله وقول ابن عقيل من لم يعلم أن الفعل الواقع من أخيه المسلم جائز في الشرع أم غير جائز فلا يحل له أن يأمر ولا ينهى
فهذا يقتضي أنه لا إنكار إلا مع العلم والذي قبله يقتضي الإنكار بالظن إذا انبنى على أصل ومسألة النياحة كهذا والكلام المتقدم يقتضي الإنكار بأمارة وقرينة تفيد الظن فهذه أقوال والله أعلم
وذكر في شرح مسلم أن في قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى فأما مجرد الوهم
____________________
(1/302)
والشك فلا يجوز الإقدام به على الإنكار والاقتحام به على الديار أخرجه البخاري ومسلم وقد صح عنه عليه السلام أنه نهى المسافر عن قدومه على أهله ليلا أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
وفي صحيح مسلم وغيره يتخونهم أو يطلب عثراتهم والمعنيان صحيحان وهما من حديث جابر رضي الله عنه فصل في نشر السنة بالقول والعمل بغير خصومة ولا عنف
سأل الإمام أحمد رضي الله عنه رجل فقال أكون في المجلس فتذكر فيه السنة لا يعرفها غيري أفأتكلم بها فقال أخبر بالسنة ولا تخاصم عليها فأعاد عليه القول فقال ما أراك إلا رجلا مخاصما وقد تقدم كذلك
وهذا المعنى قاله مالك رضي الله عنه فإنه أمر بالإخبار بالسنة قال فإن لم يقبل منك فاسكت
وسبق في فصول الكذب ما يتعلق بالمراء والجدال ونحو ذلك
وفي مسائل صالح ابن الإمام أحمد عن أبيه قال وسألته عن رجل يبلى بأرض ينكرون فيها رفع اليدين في الصلاة وينسبونه إلى الرفض إذا فعل ذلك هل يجوز له ترك الرفع قال أبي لا يترك ولكن يداريهم
وقال أحمد حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يقول ما أغضبت رجلا قط فسمع منك
وقال الشافعي رضي الله عنه من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه
وقال في الغنية وقال أبو الدرداء رضي الله عنه من وعظ أخاه بالعلانية فقد شانه ومن وعظه سرا فقد زانه ولعله عن أم الدرداء
قال الخلال روي عنها أنها قالت من وعظ أخاه سرا فقد زانه ومن وعظه
____________________
(1/303)
علانية فقد شانه
وفي الصحيحين تأخير عثمان يوم الجمعة وجاء وعمر على المنبر فقال أية ساعة هذه
قال في شرح مسلم قاله توبيخا وإنكارا لتأخره إلى هذا الوقت ففيه تفقد الإمام رعيته وأمرهم بصلاح دينهم والإنكار على مخالف السنة وإن كان كبير القدر
وفيه جواز الإنكار على الكبار في مجمع الناس وفي قول عثمان شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت فيه الاعتذار إلى ولاة الأمور وغيرهم
قال الشيخ عبد القادر فإن فعل ذلك ولم ينفعه اظهر حينئذ ذلك واستعان عليه بأهل الخير وإن لم ينفع فبأصحاب السلطان
وتقدم في حفظ اللسان خبر ابن عباس كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما فصل في كراهة مداخل السوء
قال أحمد رضي الله عنه أكره المدخل السوء وقال في رواية صالح أكره أن يخرج إلى صيحة بالليل لأنه لا يدري ما يكون ترجم عليه الخلال ما يكره أن يخرج إلى صيحة بالليل
وروى الخلال عن عبد الرحمن بن مهدي قال قال عبد الله بن عدي بن الخيار أكره مماشاة المريب كراهة أن أعيب الرجل المسلم
وذكر ابن عبد البر قول عمر بن الخطاب من كتم سره كان الخيار بيده ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به
وقال ابن عقيل في الفنون قال الحسن من دخل مداخل التهمة لم يكن
____________________
(1/304)
أجر للغيبة انتهى كلامه
وهذا والله أعلم أنه لما فعل ما لا ينبغي فعله سقط حقه وحرمته وهذا كما قلنا تسقط حرمة الداعي إلى وليمة بفعله ما لا ينبغي وحرمة من سلم في موضع لا ينبغي وحرمة من صلى في موضع يمر فيه الناس فلا يرد من مر بين يديه ونحو ذلك ويأتي كلامه في الغيبة في لباس الشهرة فصل في حق المسلم على المسلم
ومما للمسلم على المسلم أن يستر عورته ويغفر زلته ويرحم عبرته ويقيل عثرته ويقبل معذرته ويرد غيبته ويديم نصيحته ويحفظ خلته ويرعى ذمته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافئ صلته ويشكر نعمته ويحسن نصرته ويقضي حاجته ويشفع مسألته ويشمت عطسته ويرد ضالته ويواليه ولا يعاديه وينصره على ظالمه ويكفه عن ظلمه غيره ولا يسلمه ولا يخذله ويحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ذكر ذلك في الرعاية
قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال وليس على المسلم نصح الذمي وعليه نصح المسلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم والنصح لكل مسلم أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
ومراده والله أعلم أنها فرض على الكفاية وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول قال رجل لمسعر تحب أن تنصح قال نعم أما من ناصح فنعم وأما من شامت فلا
وذكر ابن عبد البر في بهجة المجالس عن مسعر قال رحم الله من أهدى إلى عيوبي في سر بيني وبينه فإن النصيحة في الملأ تقريع
____________________
(1/305)
ولأحمد ومسلم عن تميم الداري مرفوعا إن الدين النصيحة أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن حبان قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابة ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وليس في مسلم في أوله إن ولأبي داود إن الدين النصيحة وكرره ثلاثا وذكره وللنسائي وإنما الدين النصيحة وذكره
فظاهره أن مدار الدين والإسلام على هذا الخبر وقاله بعضهم وذكر جماعة أنه أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمر الإسلام وقال الخطابي معنى الحديث قوام الدين وعماده النصيحة كقوله الحج عرفه ولأحمد بإسناد ضعيف عن أبي أمامة مرفوعا قال الله عز وجل أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
وقال جرير بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم رواه أحمد والبخاري ومسلم وزاد بعد قوله والطاعة فلقنني فيما استطعت ورواه النسائي كأحمد وزاد وعلى فراق الشرك
قيل النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب وقيل من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط
وظاهر كلام أحمد والأصحاب وجوب النصح للمسلم وإن لم يسأله ذلك كما هو ظاهر الأخبار
ولمسلم عن معقل بن يسار مرفوعا ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا
____________________
(1/306)
يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم أخرجه مسلم
فقد يقال ظاهره أن وجوب النصح يتوقف على السؤال وقد يقال لا بل خص الأمير بهذا لأنه أخص
لكن روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا حق المسلم على المسلم ست أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان وفيه فإذا استنصحك فانصح له وهذا أولى
ولأنه ليس بإقرار على محرم ولا يلزمه قبول قوله بخلاف إنكار المنكر
وقد روى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك أنه قيل له التاجر يدخل عليه رجل مفلس وأنا أعرفه ولا يعرفه أسكت أم أخبرة قال لو أن خناقا صحبك وأنت لا تعرفه وأنا أعرفه أأسكت حتى يقتلك
وعن أنس مرفوعا لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه
وإن ظن أنه لا يقبل نصحه أو خاف أذى منه فيتوجه أن يقال فيه ما سبق في الأمر بالمعروف
وروى أبو داود في باب النصيحة حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب عن سليمان يعني ابن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه أخرجه أبو داود وإسناده حسن
كثير حسن الحديث عند الأكثر
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان بن بشير مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
____________________
(1/307)
الجسد بالسهر والحمى أخرجه البخاري ومسلم
ولمسلم المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله أخرجه مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي موسى المؤمن للمؤمن كالبنيان أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وفي لفظ كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه
وصح عن أبي هريرة مرفوعا المستشار مؤتمن أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وإسناده صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وللترمذي مثله من حديث أم سلمة إسناده ضعيف ولابن ماجه وأخرجه أحمد وهو صحيح لغيره مثله من حديث أبي مسعود وله من حديث جابر وإذا استشار أحدكم أخاه فليشر إليه أخرجه ابن ماجة وسنده حسن في الشواهد
وروى مسلم عن أبي مسعود مرفوعا من دل على خير فله مثل أجر فاعله أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان
وذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر أن أحمد بن حنبل قال لولديه اكتبا من سلم علينا ممن حج فإذا قدم سلمنا عليه
قال ابن عقيل هذا محمول منه على صيانة العلم لا على الكبر
وقال ابن الصيرفي من أصحابنا في النوادر نقل عنه ولده صالح أنه قال انظروا إلى الذين جاؤوا مسلمين علينا فنمضي بعد نسلم عليهم
____________________
(1/308)
قال القاضي وذلك أنه جعل مضية إليهم في مقابلة مضيهم إليه ولم يستحب أن يبدأهم بالمضي
وقال عبد الله الحماني له الرجل يخرج إلى مكة لا يجيء يسلم علي أمضي أسلم عليه قال لا إلا أن يكون ذا علم أو هاشميا أو إنسانا يخاف شره
وقال المروذي قال لي محمد بن مقاتل قل لأبي عبد الله رق على هذا الخلق واجعلهم في حل فقد وجبت نصرتك فقلت لأبي عبد الله فجعل يقول هذا رجل صالح قال المروذي معنى كلام أبي عبد الله أني لم يستحلني أحد من العلماء غيره
وفي مسائل هذا الفصل أحاديث مشهورة
وروى أبو داود في باب من رد عن مسلم غيبة حدثنا علي بن نصر حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثنا الجريري عن أبي عبد الله الجشمي حدثنا جندب قال جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم دخل المسجد فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أثار راحلته فأطلقها ثم ركب ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقولون هو أضل أم بعيره ألم تسمعوا إلى ما قال قالوا بلى أخرجه أبو داود وأحمد وإسناده ضعيف فيه مجهول
الجشمي تفرد عنه الجريري
وظاهر كلام أصحابنا أن نصر المظلوم واجب وإن كان ظالما في شيء آخر وإن ظلمة في شيء لا يمنع نصرة على ظالمه في شيء آخر وهو ظاهر الأدلة
وقال الخلال باب ما يكره من معاونة الظالم قال الأثرم سمعت أبا
____________________
(1/309)
عبد الله يسأل عن رجل جحد آخر ميراثا له في يديه ثم عدا عليه رجل آخر وظلمه في شيء آخر غير هذا الميراث وله قرابة فاستغاثهم على ظالمه فقالوا إنا نخاف أن نعينك على ظلامتك هذه فلسنا بفاعلين حتى ترد إلى أختك ميراثها فإن فعلت أعناك على هذا الذي ظلمك قال ما أعرف ما تقولون وما لهذه عندي ميراث فقال لا ما يعجبني أن يعينوه أخشى أن يجترئ لا ولكن يدعوه حتى ينكسر فيرد على هذه قيل له وهم قرابته وقد علموا أن هذا قد ظلمه قال لا يعينونه حتى يؤدي إلى تلك لعله أن ينتهي بهذا
وقال محمد بن أبي حرب سألت أبا عبد الله عن رجل ظالم ظلمه رجل أعينه عليه قال لا حتى يرجع عن ظلمه
وروى الخلال في كتاب العلم أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الوهاب حدثنا أبو بكر بن حماد المنقري حدثنا أبو ثابت الخطاب قال لقيني أبو عبد الله فقال من أين يا أبا ثابت قلت اشتري دقيقا لأبي سليمان الجوزجاني فقال تشتري لأبي سليمان دقيقا فقلت وما بأس فقال ما يحل لك قال فقلت من أي شيء تقول يا أبا عبد الله قال لا يحل تشتري دقيقا لرجل يرد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال ابن عقيل في الفصول ويكره لأهل المروءات والفضائل التسرع إلى إجابة الطعام والتسامح بحضور الولائم غير الشرعية فإنه يورث دناءة وإسقاط الهيبة من نفوس الناس
وسلام أهل الذمة المشهور على النبي صلى الله عليه وسلم استنبط منه استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسدة
وقال الشافعي رضي الله عنه الكيس العاقل هو الفطن المتغافل
وقال بعضهم
____________________
(1/310)
( وإني لأعفو عن ذنوب كثيرة % ومن دونها قطع الحبيب المواصل )
( وأعرض عن ذي الذنب حتى كأنني % جهلت الذي يأتي ولست بجاهل )
وروى عن عبد الملك بن مروان أنه قال
( صديقك حين تستغني كثير % وما لك عند فقرك من صديق )
( وكنت إذا الصديق أراد غيظي % على حنق وأشرقني بريقي )
( غفرت ذنوبه وصفحت عنه % مخافة أن أكون بلا صديق )
وقال ابن الجوزي وأنشد في هذا المعنى
( ومن لم يغمض عينه عن صديقه % وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب )
( ومن يتتبع جاهدا كل عثرة % يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وقال أبو فراس
( لم أؤاخذك بالجفاء لأني % واثق منك بالإخاء الصحيح )
( وجميل العدو غير جميل % وقبيح الصديق غير قبيح )
وقد قيل
( لا ترج شيئا خالصا نفعه % فالغيث لا يخلو من الغثاء ) وقال أبو شعيب صالح بن عمران دعا رجل أحمد بن حنبل فقال ترى أن تعصيني بعد الإجابة قال لا
فذهب الرجل فأقعد مع أحمد من لم يشته أحمد أن يقعد معه فقال أحمد عند ذلك رحم الله ابن سيرين فإنه قال لا تكرم أخاك بما يشق عليه ولكن هذا أخي أكرمني بما يشق علي
وقال ابن الجوزي لا ندعو من تشق عليه الإجابة وإذا حضر تأذى الحاضرون بسبب من الأسباب وقال إن كان الطعام حراما فليمتنع من الإجابة وكذلك إذا كان منكر وكذلك إذا كان الداعي ظالما أو فاسقا أو
____________________
(1/311)
مبتدعا أو مفاخرا بدعوته
وذكر أيضا في موضع آخر أنه إذا كان في الضيافة مبتدع يتكلم ببدعته لم يجز الحضور معه إلا لمن يقدر على الرد عليه وإن لم يتكلم المبتدع جاز الحضور معه مع إظهار الكراهة والإعراض عنه وإن كان هناك مضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور ويجب الإنكار فإن كان مع ذلك مزح لا كذب فيه ولا فحش أبيح ما يقل من ذلك فأما اتخاذه صناعة وعادة فيمتنع منه
وقال أبو داود باب في طعام المتباريين حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء أنبأنا أبي حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن خريت سمعت عكرمة يقول كان ابن عباس يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل أخرجه أبو داود واختلف في وصله وإرساله
إسناده جيد
قال أبو داود أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس
وهارون النحوي ذكر فيه ابن عباس أيضا وحماد بن زيد لم يذكر ابن عباس
وذكر ابن الأثير أن المتباريين هما المتعارضان ففعلهما ليعجز أحدهما الآخر بصنيعه وإنه إنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء فهذا يدل لما ذكره ابن الجوزي في المفاخر بدعوته وذكر أبو داود لذلك يوافقه ثم هل يحرم أكل هذا الطعام أو يكره يحتمل وجهين نظرا إلى ظاهر النهي والمعنى
وذكر الشيخ تقي الدين في فتاويه أنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته انتهى كلامه وقطع بعض أصحابنا أنه لا تجب إجابة من يجوز هجره وقطع جماعة منهم بأنه الذي لا تجب إجابته وحكاه في المغني عن الأصحاب وقال إنه لا يأمن اختلاط طعامهم بالحرام والنجاسة فعلى مقتضى هذا التعليل لا تجب إجابة مسلم في ماله شبهة ولا سيما إذا
____________________
(1/312)
كثرت ولا من لا يتحرز من النجاسة ويلابسها كثيرا
وقد سئل أحمد رضي الله عنه عن الرجل يدعى إلى الختان أو العرس وعنده المخنثون فيدعوه بعد ذلك بيوم أو ساعة وليس عنده أولئك فقال أرجو أن لا يأثم إن لم يجب وإن أجاب فأرجو أن لا يكون آثما
وقال في المغني بعد ذكره لهذا النص فأسقط الوجوب لإسقاط الداعي حرمة نفسه باتخاذ المنكر ولم يمنع من الإجابة لكون المجيب لا يرى منكرا ولا يسمعه
وقال أحمد أيضا إنما تجب الإجابة إذا كان المكتسب طيبا ولم ير منكرا وهذا يؤيد ما تقدم من مقتضى كلامه في المغني
وقال في المغني بعد ذكره لهذا النص فعلى هذا لا تجب إجابة من طعامه من مكتسب خبيث لأن اتخاذه منكر والأكل منه منكر فهو أولى بالامتناع وإن حضر لم يأكل
وقال صالح لأبيه ما تقول في رجل شرب الخمر يدعوني إلى غدائه وعشائه أجيبه وأجالسه قال تأمره وتنهاه فإن كان كسبه كسبا طيبا وعصى الله في بعض أمره يدعو لا يجاب
وقال المروذي قيل لأبي عبد الله وأنا شاهد الرجل يكون في القرية أو الرستاق وسئل عن الشيء من العلم فأهدي له الثمار وربما استعان بقوم يعملون في أرضه فقال إن كان يكافئ وإلا فلا يقبل
وقال إسحاق بن إبراهيم سئل أبو عبد الله عن الرجل يهدى إليه الشيء أفترى له أن يقبل فقال قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب أرى له إن هو قبل أن يثيب
____________________
(1/313)
وذكر إسحاق في الأدب من مسائله أن إنسانا أهدى لأبي عبد الله مره شيئا ما يساوي ثلاثة دراهم قال فأعطاني دينارا فقال اذهب فاشتر بعشرة دراهم سكرا وبتسعة دراهم تمرا برنيا واذهب به إليه ففعلت فقال اذهب به إليه بالليل
ولأحمد وغيره كلام كثير في قبول الهدية وقد ذكرته وبعض الأخبار فيه في موضع آخر
وقال ابن عبد البر قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم الشيء الهدية أمام الحاجة وأخرجه الطبراني ورواه ابن عدي وإسناده ضعيف جدا
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم نعم العون الهدية على طلب الحاجة عزاه في كنز العمال للحاكم في تاريخه عن عائشة
وقال الهيثم بن عدي وهو وإن كان كاذبا متروكا فإنه إخباري علامة فقال كان يقال ما ارتضي الغضبان ولا استعطف السلطان ولا سلت السخائم ولا رفعت المغارم ولا توقي المحذور ولا استميل المهجور بمثل الهدية والبر
وقال ابن عبد البر وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تجاوروا وتزاوروا وتهادوا فإن الهدية تثبت المودة وتسل السخيمة أخرجه بنحوه البيهقي وأبو نعيم وإسناده ضعيف
قال الشاعر
( هدايا الناس بعضهم لبعض % تولد في قلوبهم الوصالا )
____________________
(1/314)
( وتزرع في الضمير هوى وودا % وتلبسهم إذا حضروا جمالا ) فصل الهدية لمن أهديت إليه لا لمن حضر
الهدية إن أهديت إليه يخص بها من شاء ولا يصح الخبر إنها لمن حضر ومما يستحب شرعا وعرفا الهدية أوائل الثمار والزرع ونحو ذلك منها لا سيما إلى الكبير الصالح ودعائه عند ذلك بالبركة وأنه يخص بذلك أو بعضه من يحضره من الصغار لأنه يقع لذلك موقعا عظيما بخلاف الكبار وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بأول الثمر فيقول اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مدنا وفي صاعنا وفي ثمارنا بركة مع بركة ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان أخرجه مسلم وابن ماجه فصل قبول الهدية إذا لم تكن على عمل البر
قال أبو الحارث إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يسأله الرجل الحاجة فيسعى معه فيها فيكافئه على ذلك بلطفه يهدي له ترى له أن يقبلها قال إن كان شيء من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك فهذا النص إنما فيه الكراهة لمن طلب البر والثواب وظاهره يجوز لغيره ونظيره قول أصحابنا في المعلم إن أعطي شيئا بلا شرط جاز وإنه ظاهر كلام أحمد وكرهه بعض العلماء لحديث القوسين قال في المغني يحتمل أنه قصد القربة فكرهه له أو غير ذلك
وقال صالح ولد لي مولود فأهدى إلي صديق لي شيئا فمكثت على ذلك أشهرا وأراد الخروج إلى البصرة فقال لي كلم لي أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة فكلمته فقال لولا أنه أهدى إليك كتبت فلست أكتب له
وقال صالح قلت لأبي رجل أودع رجلا وديعة فسلمها إلى الذي أودعه فأهدى إليه شيئا يقبله أم لا فقال أبي إذا علم أنه إنما أهدى إليه لأداء أمانته فلا يقبل الهدية إلا أن يكافئ بمثلها وهذا موافق لرواية أبي الحارث السابقة
____________________
(1/315)
وقال يعقوب قال أبو عبد الله لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية وظاهر هذه الرواية التحريم مطلقا أو الكراهة
واختار التحريم الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كل شفاعة فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم وفي شفاعة عند ولي أمر ليوليه ولاية أو يستخدمه في المقاتلة وهو مستحق لذلك أو ليعطيه من الموقوف على الفقراء أو القراء والفقهاء أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق ونحو ذلك وقال هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار وقد رخص بعض الفقهاء المتأخرين في ذلك وجعل هذا من باب الجعالة يعني من الشافعية قال وهذا مع مخالفته للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهو غلط لأن مثل هذا من المصالح العامة التي القيام بها فرض عين أو كفاية فيلزم من أخذ الجعل فيه ترك الأحق والمنفعة ليست للباذل بل للناس وطلب الولاية منهي عنه فكيف بالعوض فهذا من باب الفساد انتهى كلامه
وهذا المعنى الذي احتج به خاص ويتوجه لأجله قول ثالث وهو معنى كلام ابن الجوزي الآتي
وأما الخبر الذي احتج به فقال أبو داود في سننه باب الهدية للحاجة ثم روي عن أبي أمامة مرفوعا من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا أخرجه أبو داود وأحمد وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي وفي حديثه مناكير
من رواية القاسم بن عبد الرحمن وقد وثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة والفسوي والترمذي وقال أبو حاتم لا بأس به وقال الجوزجاني كان خيرا فاضلا وتكلم فيه أحمد وابن حبان وقال ابن خراش ضعيف جدا وقال ابن الجوزي ضعيف بمرة واحدة ورواه أحمد من رواية ابن لهيعة وضعفه مشهور وفي صحته نظر
وكيف يكون هذا بابا عظيما من الربا ثم يحمل على شفاعة متعينة لا سيما
____________________
(1/316)
في ولاية أو على قصد القربة ولهذا رتب الهدية على الشفاعة
ورأيت تعليقا على كلام القاضي على النسخة العتيقة لابن تيمية وعليها خط جماعة من أصحابنا منهم الحسن بن أحمد بن البنا نسخه سنة سبع وعشرين وأربع مئة رأيت على المجلدة الأخيرة لا يجوز أخذ العوض في مقابلة الدفع عن المظلوم ثم ذكر رواية أبي الحارث السابقة وقال فإذا كره ذلك فيما لا يجب عليه فعله فأولى أن يكره فيما يجب عليه من دفع المظالم ثم ذكر أن ابن بطة وصاحبه أبا حفص رويا خبر أبي أمامة ونحو ذلك
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وبإسناده عن زاذان أنه سمع عمر يقول لمسروق بن الأجدع إياك والهدية في سبب الشفاعة فإن ذلك من السحت ثم ذكر رواية يعقوب السابقة ثم قال وذكر أبو حفص في كتاب الهبات باب كراهة الهدية على تعليم القرآن قال الأثرم لأبي عبد الله الرجل يعطى عند المفصل قال لا يعجبني انتهى كلامه
وتكلم أبو مسعود لرجل في حاجة فأهدى له هدية فأمر بإخراجها وقال آخذ أجر شفاعتي في الدنيا رواه صالح عن أبيه عن إسماعيل عن ابن عون عن محمد عنه
وعن عبد الله بن جعفر في هذه المسألة أنه ردها وقال إنا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا رواه صالح عن أبيه عن علي بن عاصم وقد ضعفه جماعة عن خالد الحذاء وهشام بن حسان عن محمد عنه
وقد كان إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج صاحب التصانيف الحسان ومن أهل الفضل والعلم مع حسن الاعتقاد أدب القاسم بن عبيد الله فلما تولى القاسم الوزارة كان وظيفة أبي إسحاق عنده أنه يعرض عليه القصص ويقضي عنده الأشغال ويشارط على ذلك ويأخذ ما أمكنه وقصته مشهورة
وقال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم بعد أن ترجم أبا إسحاق بهذه
____________________
(1/317)
الترجمة وذكر قصته قال رأيت كثيرا من أصحاب الحديث والعلم يقرؤون هذه الحكاية ويتعجبون مستحسنين لهذا الفعل غافلين عما تحته من القبيح وذلك لأنه يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج فإقامة من يأخذ الأجعال على هذا القبيح حرام وهذا مما وهي به الزجاج وهيا عظيما ولا يرتفع لأنه إن كان لا يعلم ما في باطن ما قد حكاه عن نفسه فهذا جهل بمعرفة حكم الشرع وإن كان يعرف فحكايته في غاية القبح فنعوذ بالله من قلة الفقه انتهى كلامه
ولنا خلاف مشهور في أخذ الأجرة والجعالة على تحمل الشهادة وأدائها والتفرقة فغاية الشفاعة كذلك
ونص أحمد رضي الله عنه على أنه لو قال اقترض لي مئة ولك عشرة أنه يصح قال أصحابنا لأنه جعالة على فعل مباح وقالوا يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما كان أو كافرا وقاسوه على أجرة الدليل
وأما ما يروى عن ابن مسعود وقد سئل عن السحت فقال أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها فقيل له أرأيت إن كان هدية في باطل فقال ذلك كفر
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }
ففي صحته نظر والمعروف عنه وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل ثم يجاب عنه بما سبق والله سبحانه أعلم فصل حمل ما جاء عن الإخوان على أحسن المحامل
قال إسحاق بن إبراهيم إنه سأل أبا عبد الله عن الحديث الذي جاء إذا بلغك شيء عن أخيك فاحمله على أحسنه حتى لا تجد له محملا لم نقف عليه
ما يعني به قال أبو عبد الله يقول تعذره تقول لعله كذا لعله كذا
____________________
(1/318)
وقال المروذي قلت لأبي عبد الله إن أبا موسى هارون بن عبد الله قد جاء إلى رجل شتمه لعله يعتذر إليه فلم يخرج إليه وشق الباب في وجهه فعجب وقال سبحان الله أما إنه قد بغى عليه سينصر عليه ثم قال رجل نقل قدمه ويجيء إليه يعتذر لا يخرج
وروى ابن ماجه حدثنا على بن محمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن ابن جريج عن ابن مينا عن جودان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف
ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل بن سمرة عن وكيع وقال العباس بن عبد الرحمن بن مينا ورواه أبو داود في المراسيل عن سهيل بن صالح عن وكيع وقال عن ابن جودان وهو مختلف في صحبته وإسناده جيد ولم أر في العباس ضعفا ومراد هذا الخبر والله أعلم ما لم يعلم كذبه
ولهذا ذكر ابن عبد البر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره ما لم يعلم كذبه لم نقف عليه
وقال عمر رضي الله عنه لا تلم أخاك على أن يكون العذر في مثله
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره ومن النظم في معناه
( قيل لي قد أساء إليك فلان % وقعود الفتى على الضيم عار )
( قلت قد جاءنا فأحدث عذرا % دية الذنب عندنا الاعتذار )
وقال الأحنف إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبشر وقال الشاعر
____________________
(1/319)
( يلومني الناس فيما لو أخبرهم % بالعذر مني فيه لم يلوموني )
وقال آخر
( اقبل معاذير من يأتيك معتذرا % إن بر عندك فيما قال أو فجرا )
( فقد أطاعك من يرضيك ظاهره % وقد أجلك من يعصيك مستترا )
وكان يقال من وفق لحسن الاعتذار خرج من الذنب
وكان يقال اعتذار من يمنع خير من وعد ممطول وللشافعي رضي الله عنه
( يا لهف نفسي على مال أفرقه % على المقلين من أهل المروءات )
( إن اعتذاري إلى من جاء يسألني % ما ليس عندي من إحدى المصيبات )
وقال آخر
( هي المقادير فلمني أو فذر % إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر )
وقال آخر
( إذا عيروا قالوا مقادير قدرت % وما العار إلا ما تجر المقادير )
وقال الأحنف إياك وما يعتذر منه فإنه قلما اعتذر أحد فيسلم من الكذب وقال أيضا أسرع الناس في الفتنة أقلهم حياء من الفرار قال الشاعر
( العبد يذنب والمولى يقومه % والعبد يجهل والمولى يعلمه )
( إني ندمت على ما كان من زللي % وزلة المرء يمحوها تندمه )
وقد قيل
( عجبت لمن يبكي على فقد غيره % زمانا ولا يبكي على فقده دما )
( وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره % عظيما في عينيه عن عيبه عمى )
وقيل أيضا
( عجبت من الدنيا سلامة ظالم % وعزة ذي بخل وذل كريم )
____________________
(1/320)
( وأعجب من هذا كريم أصابه % قضاء فأضحى تحت حكم لئيم )
وذكر ابن عبد البر أن من كلام أبي الدرداء معاتبة الأخ أهون من فقده ومن لك بأخيك كله فأعط أخاك وهب له ولا تطع فيه كاشحا فتكون مثله
وقال موسى بن جعفر من لك بأخيك كله لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ
وقال عمر رضي الله عنه أعقل الناس أعذرهم لهم
قال الأصمعي قال أعرابي عاتب من ترجو رجوعه
وقال بعض الحكماء العتاب الوفاء وسلاح الأكفاء وحاصل الجفاء
وقال العتابي ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد وصرفة الناصح خير من تحية الشانئ
وقال بعض الحكماء من كثر حقده قل عتابه
وقال محمد بن داود من لم يعاتب على الزلة فليس بحافظ للخلة
وقال أسماء بن خارجة الإكثار من العتاب داعية إلى الملال
وسبق قريبا قول الشافعي الكيس العاقل هو الفطن المتغافل
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
( أعاتب من يحلو بقلبي عتابه % وأترك من لا أشتهي لا أعاتبه )
( وليس عتاب المرء للمرء نافعا % إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه )
وقال نصر بن أحمد
( إن كان لفظي كريها فاصبرا فعلى % كره العلاج يصح الله أبدانا )
( لولا العوارض ما طاب الشباب كذا % لولا قصارتنا للثوب ما لانا )
( إني أعاتب إخواني وهم ثقتي % طورا وقد تصقل الأسياف أحيانا )
( هي الذنوب إذا ما كشفت درست % من القلوب وإلا صرن أضغانا )
____________________
(1/321)
وقال آخر
( خذ من صديقك ما صفا % لك لا تكن جم المعايب )
( إن الكثير عتابه ال % إ خوان ليس لهم بصاحب )
وقال آخر
( إن الظنين من الإخوان يبرمه % طول العتاب وتغنيه المعاذير )
( وذو الصفاء إذا مسته معذرة % كانت له عظة فيها وتذكير )
وقال آخر
( ولست معاتبا خلا لأني % رأيت العتب يغري بالعقوق )
( ولو أني أوقف لي صديقا % على ذنب بقيت بلا صديق )
وقال آخر
( إني ليهجرني الصديق تجنبا % فأريه أن لهجره أسبابا )
( وأخاف إن عاتبته أغريته % فأرى له ترك العتاب عتابا )
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون أخرجه البخاري وأحمد وإسناده قابل للتحسين )
رواه أحمد وغيره أقماع القول هم الذين يسمعون القول ولا يعونه ولا يفهمونه
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير من لا يرحم الناس لا يرحمه الله أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان وهو لأحمد من حديث أبي سعيد أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح
وروى أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أنبأنا زياد بن مخراق حدثنا
____________________
(1/322)
- معاوية بن قرة عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها أخرجه أحمد والبخاري وإسناده صحيح
أو قال إني أرحم الشاة أن أذبحها قال والشاة إن رحمتها رحمك الله إسناد جيد
ولأحمد وأبي داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة لا تنزع الرحمة إلا من شقي أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه ابن حبان وإسناده حسن
وللترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد وإسناده ضعيف لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة أخرجه أحمد والترمذي وإسناده ضعيف
وله وقال حسن غريب عن حذيفة وابن مسعود مرفوعا لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف
الإمعة بكسر الهمزة وتشديد الميم الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعف رأيه والهاء فيه للمبالغة ويقال فيه إمع أيضا ولا يقال للمرأة إمعة وهمزته أصلية لأنه لا يكون إفعل وصفا قال في النهاية هو الذي يقول لكل أحد أنا معك قال ومنه حديث ابن مسعود لا يكون أحدكم إمعة قيل وما الإمعة قال الذي يقول أنا مع الناس
وقال الجوهري قال أبو بكر السراج هو فعل لأنه لا يكون إفعل وصفا وقول من قال امرأة إمعة غلط لا يقال للنساء ذلك وقد حكي ذلك عن أبي عبيد
____________________
(1/323)
وفي الخبر الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول ولكن يقول ما بال أقوام يقولون كذا وكذا أخرجه مسلم وابن حبان
وروي أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية سلم العلوي وهو ضعيف عن أنس أن رجلا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا بشيء يكرهه فلما خرج قال لو أمرتم هذا أن يغسل ذراعيه أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وإسناده ضعيف
ورووا أيضا من رواية بشر بن رافع وهو ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم أخرجه أبو داود والترمذي والطحاوي بسند حسن
قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه أبو داود من هذا الوجه ورواه أبو داود من رواية حجاج بن فرافصة عن رجل عن أبي سلمة
وعن أبي هريرة مرفوعا لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه وأبو داود
رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ويروى بضم الغين وكسرها فالضم على وجه الخبر معناه أن المؤمن هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى ولا يفطن والمراد في أمر الدين وأما الكسر فعلى وجه النهي يقول لا يخدعن المؤمن ولا يقربن من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر وليكن فطنا حذرا وهذا التأويل يصلح أن يكون لأمر الدين والدنيا ذكره الخطابي
____________________
(1/324)
وقال الميموني إن أبا عبد الله ذكر إبليس وقال إنما أمر بالسجود فاستكبر وكان من الكافرين فالاستكبار كفر
وعن حارثة بن وهب مرفوعا ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه
إسناده صحيح رواه ابن ماجه والترمذي وصححه
وعنه مرفوعا لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري أخرجه أبو داود وعبد بن حميد وإسناده صحيح
إسناده صحيح ورواه أبو داود والعتلة عمود حديد يهدم بها الحيطان ومنه اشتق العتل وهو الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس والجواظ الجموع المنوع وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته وقيل القصير البطين وفي سنن أبي داود هو الغليظ الفظ والجعظري الفظ الغليظ المتكبر وقيل الذي يتنفج بما ليس عنده
وفي خبر آخر في أهل النار الجعظ وهو العظيم في نفسه وقيل السيئ الخلق الذي يتسخط عند الطعام فصل في احترام الجليس وإكرام الصديق والمكافأة على المعروف
وذكر ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس عن ابن عباس قال أعز الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس إلي أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق علي
وسئل ابن عباس من أكرم الناس عليك قال جليسي حتى يفارقني
وروى الطبراني بإسناده في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ثلاثة لا أقدر على مكافأتهم ورابع لا يكافئه عني إلا الله تعالى فأما الذين لا أقدر على مكافأتهم فرجل أوسع لي في مجلسه ورجل سقاني على ظمأ ورجل اغبرت قدماه في الاختلاف إلى بابي وأما الرابع الذي لا يكافئه عني إلا الله عز وجل فرجل عرضت له حاجة فظل ساهرا متفكرا بمن ينزل
____________________
(1/325)
حاجته وأصبح فرآني موضعا لحاجته فهذا لا يكافئه عني إلا الله عز وجل وإني لأستحي من الرجل أن يطأ بساطي ثلاثا لا يرى عليه أثر من أثري فصل في إجابة الدعوة وهل يمنع وجوبها الأستار ذات التصاوير
قال المروذي قلت لأبي عبد الله الرجل يدعى فيرى سترا عليه تصاوير قال لا تنظر إليه قلت قد نظرت إليه كيف أصنع أهتكه قال تخرق شيء الناس ولكن إن أمكنك خلعه خلعته
وروى المروذي بإسناده عن يوسف بن أسباط قال قلت لسفيان من أجيب ومن لا أجيب قال لا تدخل على رجل إذا دخلت عليه أفسد عليك قد كان يكره الدخول على أهل البسطة يعني الأغنياء فصل في الهدية لذي القربى في الوليمة
قال المروذي إن أبا عبد الله قال له رجل أليس قد روي تهادوا تحابوا أخرجه البخاري وسنده حسن
قال نعم وقال سليمان القصير قلت لأحمد بن حنبل رضي الله عنه أي شيء تقول في رجل ليس عنده شيء وله قرابة لهم وليمة ترى أن يستقرض ويهدي لهم قال نعم فصل ما صح من الأحاديث في اتقاء النار باصطناع المعروف والصدقة ولو بشق تمرة
وقد ذكرت ما صح عنه عليه السلام اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وقوله عليه السلام ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق أخرجه مسلم والترمذي
____________________
(1/326)
وقوله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان
قال ابن عباس ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلا أضاء ما بينه وبيني ولا رأيت رجلا فرط إليه مني شيء إلا أظلم ما بيني وبينه
وقال ابن عباس أيضا المعروف ) أميز زرع وأفضل كنز ولا يتم إلا بثلاث خصال بتعجيله وتصغيره وستره فإذا عجل فقد هنأ وإذا صغر فقد عظم وإذا ستر فقد تمم
وقال زيد بن علي بن حسين ما شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من قدر عليه يؤذن له فيه فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمت السعادة للطالب والمطلوب منه
وقال الشاعر وهو زهير
( ومن يجعل المعروف من دون عرضه % يقيه ومن لا يتق الشتم يشتم )
وقال بعضهم لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه
وكان يقال في كل شيء إسراف إلا في المعروف وكان يقال لا يزهدنك في اصطناع المعروف دمامة من تسديه إليه ولا من ينبو بصرك عنه فإن حاجتك في شكره ووفائه لا في منظره
وكان يقال اصنع المعروف إلى كل أحد فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله قال الشاعر
( ولم أر كالمعروف أما مذاقه % فحلو وأما وجهه فجميل )
كان يقال من أسلف المعروف كان ربحه الحمد وقال عمرو بن العاص
____________________
(1/327)
رضي الله عنه في كل شيء سرف إلا في إتيان مكرمة أو اصطناع معروف أو إظهار مروءة
وقد قيل أيضا كان يقال كما يتوخى للوديعة أهل الأمانة والثقة كذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر وكان يقال إعطاء الفاجر يقويه على فجوره ومسألة اللئيم إهانة للعرض وتعليم الجاهل زيادة في الجهل والصنيعة عند الكفور إضاعة للنعمة فإذا هممت بشيء من هذا فارتد الموضع قبل الإقدام عليه أو على الفعل
وذكر ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصنيعة لا تكون إلا في ذي حسب أو دين كما أن الرياضة لا تكون إلا في نجيب
وذكر ابن عبد البر في مكان آخر خمسة أشياء أضيع شيء في الدنيا سراج يوقد في الشمس ومطر وابل في أرض سبخة وامرأة حسناء تزف إلى عنين وطعام يستجاد ثم يقدم إلى سكران أو شبعان ومعروف تصنعه عند من لا يشكرك
وفي التوراة مكتوب افعل إلى امرئ السوء يجزك شرا وكان يقال صاحب المعروف لا يقع فإذا وقع أصاب متكأ
وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها وطلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطاها إلى القلوب بالمعروف واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل فاجتهد أن لا تقول تسلم من أن تفعل
وقال معاوية رضي الله عنه ليزيد ابنه يا بني اتخذ المعروف منالا عند ذوي الأحساب تستمل به مودتهم وتعظم في أعينهم وإياك والمنع فإنه ضد المعروف فإنه يقال حصاد من يزرع المعروف في الدنيا اغتباط في الآخرة
ذم أعرابي رجلا فقال كان سمين المال مهزول المعروف
____________________
(1/328)
وقال الزهري أو الزبيري من زرع معروفا حصد خيرا ومن زرع شرا حصد ندامة
قال الشاعر
( من يزرع الخير يحصد ما يسر به % وزارع الشر منكوس على الرأس )
وقال ابن المبارك
( يد المعروف غنم حيث كانت % تحملها شكور أو كفور )
( ففي شكر الشكور لها جزاء % وعند الله ما كفر الكفور )
وقال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف
ولابن دريد وقيل إنه أنشدهما
( وما هذه الأيام إلا معارة % فما اسطعت من معروفها فتزود )
( فإنك لا تدري بأية بلدة % تموت ولا ما يحدث الله في غد )
وقال بزرجمهر خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر وارتهن فيه الشكر واسترق فيه الحر
جمع كسرى مرازبته وعيون أصحابه فقال لهم على أي شيء أنتم أشد ندامة فقالوا على وضع المعروف في غير أهله وطلب الشكر ممن لا شكر له قال الشاعر
( وزهدني في كل خير صنعته % إلى الناس ما جربت من قلة الشكر )
وقال
( ومن يجعل المعروف في غير أهله % يلاق الذي لاقى مجير أم عامر )
وقال المهلب عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه
وقال ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حرا تملكه
____________________
(1/329)
وقال المتنبي
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته % وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
وقال عبد مناف دواء من لا يصلحه الإكرام الهوان قال الشاعر
( من لم يؤدبه الجميل % ففي عقوبته صلاحه )
وقال ابن عقيل في الفنون فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار كما لا ينبغي أن يحرم الخير أهله ولا ينبغي أن يحرم الخير حقه فإن وضع الخير في غير محله ظلم للخير
كما قيل لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها كذلك البر والإنعام مفسد لقوم حسب ما يفسد الحرمان قوما قال فهو كالنار كلما أطاب لها مأكلا سطت فأفسدت قال فرقد قال المتنبي
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلا % مضر كوضع السيف في موضع الندى )
فالسياسة الكلية افتقاد محال الإنعام قبل الإنعام
وقال علي رضي الله عنه كن من خمسة على حذر من لئيم إذا أكرمته وكريم إذا أهنته وعاقل إذا أحرجته وأحمق إذا مازجته وفاجر إذا مازحته انتهى كلامه
ويأتي في آخر كراسة في الكتاب ما يتعلق بهذا فصل من لم يشكر الناس لا يشكر الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا لا يشكر الله من لا يشكر الناس أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان
إسناده صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي
قال في النهاية معناه إن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر أمرهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر
____________________
(1/330)
وقيل معناه أن من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكره لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل وترك الشكر له
وقيل معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله عز وجل وإن شكره كما تقول لا يحبني من لا يحبك أي إن محبتك مقرونة بمحبتي فمن أحبني يحبك ومن لا يحبك فكأنه لم يحبني
وهذه الأقوال مبنية على رفع اسم الله عز وجل ونصبه
وروى أحمد من حديث الأشعث بن قيس مرفوعا مثل حديث أبي هريرة ورواه أيضا بلفظ آخر إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس رواه أحمد
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا من أتي إليه معروف فليكافئ به فإن لم يستطع فليذكره فمن ذكره فقد شكره أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
رواه أحمد
وفي حديث آخر الأمر بالمكافأة فإن لم يستطع فليدع له رواه أبو داود وغيره أظنه من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود والنسائي
وعن أسامة مرفوعا من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء أخرجه الترمذي وابن حبان وإسناده صحيح
رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب قال وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أبلي بلاء فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره أخرجه أبو داود وإسناده حسن
ورواه أيضا بمعناه من طريق آخر وهو حديث حسن وهو للترمذي وقال غريب ولفظه من أعطي عطاء فليجز به
____________________
(1/331)
إن وجد وإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكره ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور صحيح أخرجه الترمذي وأبو داود
أي ذي زور وهو الذي يزور على الناس يتزيى بزي أهل الزهد رياء أو يظهر أن عليه ثوبين وليس عليه إلا ثوب واحد
وعن النعمان مرفوعا من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل والتحدث بنعمة الله عز وجل شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والخرائطي والبيهقي وإسناده قابل للتحسين
رواه أحمد وضعفه ابن الجوزي بعد ذكره الجراح بن مليح والد وكيع وأكثرهم قواه فهو حديث حسن وعن أبي سعيد مرفوعا من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل أخرجه أحمد والترمذي وإسناد ضعيف لكن صح الحديث من حديث أبي هريرة رواه أحمد وأبو داود والترمذي
رواه أحمد والترمذي وحسنه
وعن أنس قال إن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله قال لا ما دعوتم الله عز وجل لهم وأثنيتم عليهم أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب والنسائي وإسناده صحيح
رواه أبو داود والترمذي
قال مثنى بن جامع إنه سمع أبا عبد الله أحمد بن حنبل يذكر عن وهب بن منبه ترك المكافأة من التطفيف وكذا قال غير وهب من السلف
قال أحمد في رواية حنبل في رجل له على رجل معروف وأيادي ما أحسن أن يخبر بفعاله به ليشكره الناس ويدعو له قال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل والله تبارك وتعالى يحب أن يشكر ويحمد والنبي صلى الله عليه وسلم أحب الشكر
____________________
(1/332)
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
جزلة بفتح الجيم وسكون الزاي أي ذات عقل ورأي والجزالة العقل والوقار فقد توعد صلى الله عليه وسلم على كفران العشير وهو في الأصل المعاشر والمراد هنا الزوج توعد على كفران العشير والإحسان بالنار فدل على أنه كبيرة على نص أحمد رحمه الله بخلاف اللعن فإنه قال تكثرن اللعن والصغيرة تصير كبيرة بالكثرة
ولأحمد رضي الله عنه من حديث أبي هريرة ما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
وله أيضا بإسناد ضعيف من حديث معاذ بن أنس إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم قيل من أولئك قال متبر من والديه راغب عنهما متبر من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني شعر ابن الغريض اليهودي حيث قال إن الكريم فأنشدت
( إن الكريم إذا أراد وصالنا % لم يلف حبلي واهيا رث القوى )
( أرعى أمانته وأحفظ غيبه % جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى )
( أجزيه أو أثني عليه فإن من % أثنى عليك بما فعلت فقد جزى )
قال ابن عبد البر وهذا الشعر ما يصح فيه إلا ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها للغريض اليهودي وهو الغريض بن
____________________
(1/333)
السموأل ابن عادياء اليهودي من ولد الكاهن ابن هارون بن عامر بن ساعر
وأما أهل الأخبار فاختلفوا في قائله فقيل لورقة بن نوفل وقيل لزهير بن خباب الكلبي وقيل لعامر بن المجنون وقيل لزيد بن عمرو بن نفيل ومنهم من قال إنها لزيد بن عمرو ولورقة بن نوفل البيتان ولم أذكرهما أنا هنا
قال ابن عبد البر والصحيح فيهما وفي الأبيات غيرهما أنهما للغريض اليهودي والله أعلم
وقال ابن أبي ليلى أنشدني الحسين بن عبد الرحمن
( لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة % أغلى من الشكر عند الله في الثمن )
( إذن منحتكها مني مهذبة % حذوا على حذو وما أوليت من سن )
ومما أنشده الرياشي
( شكري كفعلك فانظر في عواقبه % تعرف بفعلك ما عندي من الشكر )
وقيل لسعيد بن جبير رضي الله عنه المجوسي يوليني خيرا فأشكره قال نعم وقال بعضهم
( إنني أثني بما أوليتني % لم يضع حسن بلاء من شكر )
( إنني والله لا أكفركم % أبدا ما صاح عصفور الشجر )
وقال آخر
( فلو كان يستغني عن الشكر ماجد % لعزة ملك أو علو مكان )
( لما ندب الله العباد لشكره % فقال اشكروني أيها الثقلان )
وقال عمر بن عبد العزيز ذكر النعم شكر
وقال جعفر بن محمد من لم يشك الجفوة لم يشكر النعمة
كذا ذكره ابن
____________________
(1/334)
عبد البر عنه فإن صح ففيه نظر وقال الشاعر
( وما تخفى الصنيعة حيث كانت % ولا الشكر الصحيح من السقيم )
وقال سليمان التيمي إن الله عز وجل أنعم على عباده بقدر طاعتهم وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم فقالوا كل شكر وإن قل ثمن لكل نوال وإن جل
وقال رجل من قريش لأشعب الطمع يا أشعب أحسنت إليك فلم تشكر فقال إن معروفك خرج من غير محتسب إلى غير شاكر
وقالوا لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه
وقال جعفر بن محمد رحمه الله ما من شيء أسر إلي من يد أتبعها أخرى لأن منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل
وذكر غير ابن عبد البر قول ابن شبرمة ما أعرفني بجيد الشعر
( أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا % وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها % وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وإن قال مولاهم على حمل حادث % من الأمر ردوا فضل أحلامكم ردوا )
وسأل حماد بن سلمة الأصمعي كيف تنشد هذا البيت يعني البيت الأول فأنشده وقال البناء بكسر الباء فرد عليه البنا بضم الباء وقال إن القوم إنما بنوا المكارم لا اللبن والطين وذكر غير واحد كسر الباء وضمها فالكسر جمع بنية نحو كسرة وكسر والضم جمع بنية نحو ظلمة وظلم قالوا وكان حماد بن سلمة رأى الضم لئلا يشتبه بالبناء بمعنى العمارة باللبن والطين والله سبحانه أعلم
وقال ابن هبيرة الوزير الحنبلي رحمه الله تعالى إنما يبالغ في التوسل إلى
____________________
(1/335)
البخيل لا إلى الكريم كما قال ابن الرومي
( وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله % وأطال فيه فقد أسر هجاءه )
( لو لم يقدر فيه بعد المستقى % عند الورود لما أطال رشاءه ) فصل في تحريم المن على العطاء
ويحرم المن بما أعطى بل هو كبيرة على نص أحمد رضي الله عنه فقد روى هو ومسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنهم ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ولأبي داود في رواية والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن حبان
ولأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يدخل الجنة منان أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وإسناده ضعيف
وهو لأحمد من حديث أبي سعيد رواه أحمد وإسناده ضعيف
ولهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان وإسناده حسن فصل
قال صالح ابن الإمام أحمد رضي الله عنهما في مسائله عن أبيه قلت حديث يحدث به عبد الله بن داود إن الهدية لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هل تعرفه قال لا أعرفه وأنكره وقال إنما روي عن الضحاك { ولا تمنن تستكثر }
قال الضحاك إنما
____________________
(1/336)
هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لا يهدي ليهدى إليه أكثر من ذلك وأما سائر المسلمين فليس به بأس فصل في الشماتة واستعاذته صلى الله عليه وسلم من شماتة الأعداء ومن أمور أخرى
عن مكحول عن واثلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله عز وجل ويبتليك أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف لانقطاعه
رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب عن عمر بن إسماعيل عن مجالد وهو رواه عن حفص بن غياث وعن سلمة ابن شبيب عن أمية بن القاسم عن حفص عن برد بن سنان عن مكحول أمية تفرد عنه سلمة وبرد حديثه حسن
الشماتة الفرح ببلية العدو يقال شمت به بالكسر يشمت شماتة وأشمته غيره وبات فلان بليلة الشوامت أي شمت الشوامت
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء أخرجه البخاري ومسلم
جهد بفتح الجيم وضمها لغة درك بفتح الراء الاسم وبسكونها المصدر فليس في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتعوذ من شيء سوى هذا الحديث
وحديث أبي هريرة إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان
____________________
(1/337)
الرجيم فإنه رأى شيطانا أخرجه البخاري ومسلم
وحديث أبي هريرة يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أخرجه البخاري ومسلم
وحديث أبي قتادة ويأتي في الرؤيا ولا في أحدهما سوى حديث أبي هريرة إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال أخرجه البخاري ومسلم
وحديث زيد بن ثابت قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بلغة له ونحن معه إذا حادت به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر فقال رجل أنا
فقال متى مات هؤلاء قال ماتوا في الإشراك فقال إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم عذاب القبر الذي أسمع منه ثم أقبل علينا بوجهه صلى الله عليه وسلم فقال تعوذوا بالله من عذاب القبر فقالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال تعوذوا بالله من عذاب النار قالوا نعوذ بالله من عذاب النار قال تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قالوا نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قال تعوذوا بالله من فتنة الدجال قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال أخرجه أحمد ومسلم
ويأتي حديث جابر في الرؤيا
وعن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبس علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا
____________________
(1/338)
قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عز وجل عني أخرجه مسلم
رواهن مسلم خنزب بخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة ومفتوحة ويقال أيضا بفتح الخاء والزاي ويقال بضم الخاء وفتح الزاي
وكان صلى الله عليه الصلاة والسلام يدعو اللهم لا تشمت بي عدوا حاسدا حديث حسن أخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وأخرجه ابن حبان من حديث عمر
رواه الحاكم من حديث ابن مسعود وابن حبان من حديث ابن عمر
وقد حكى الله عز وجل عن موسى عليه السلام أنه قال { فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } وقيل لأيوب عليه السلام أي شيء من بلائك كان أشد عليك قال شماتة الأعداء
وقال الكلبي لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم شمت به نساء كندة وحضرموت وخضبن أيديهن وأظهرن السرور لموته صلى الله عليه وسلم وضربن بالدف فقال الشاعر
( بلغ أبا بكر إذا ما جئته % أن البغايا رمن كل مرام )
( أظهرن من موت النبي شماتة % وخضبن أيديهن بالعنام )
( فاقطع هديت اكفهن بصارم % كالبرق أومض في متون غمام )
قال ابن عبد البر قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت أشهب بن عبد العزيز يدعو على محمد بن إدريس الشافعي بالموت أظنه قال في سجوده فذكرت ذلك للشافعي رضي الله عنه فتمثل يقول
( تمنى رجال أن أموت وإن أمت % فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
( فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى % تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد )
قال محمد بن عبد الله فمات الشافعي رضي الله عنه واشترى أشهب من تركته مملوكا ثم مات أشهب بعده بنحو من شهر أو قال خمسة عشر أو
____________________
(1/339)
ثمانية عشر يوما واشتريت أنا ذلك المملوك من تركة أشهب رحمه الله
البيت الأول لطرفة ذكره ابن الجوزي في قوله تبارك وتعالى { لا يصلاها إلا الأشقى } قال أبو عبيد الأشقى بمعنى الشقي والعرب تضع أفعل موضع فاعل قال طرفة فذكره
وأما البيت الثاني ففي ترجمة خالد بن الوليد رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره حيث يقول فذكره وذكر بعده بيتا آخر وهو
( فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي % ولا موت من قد مات قبلي بمخلدي )
وقال العلاء بن قرضة
( إذا ما الدهر جر على أناس % حوادثه أناخ بآخرينا )
( فقل للشامتين بنا أفيقوا % سيلقى الشامتون كما لقينا )
ولعبد الله بن أبي عتبة
( كل المصائب قد تمر على الفتى % فتهون غير شماتة الأعداء )
وللمبارك بن الطبري
( لولا شماتة أعداء ذوي حسد % أو اغتمام صديق كان يرجوني )
( لما طلبت من الدنيا مراتبها % ولا بذلت لها عرضي ولا ديني )
ولعدي بن زيد
( فهل من خالد إنا هلكنا % وهل بالموت يا للناس عار )
وعن خالد بن معدان عن معاذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله أخرجه الترمذي وإسناده منقطع وضعيف
قال أحمد بن منيع قالوا من ذنب قد تاب منه في
____________________
(1/340)
إسناده محمد بن الحسين بن أبي يزيد الهمداني وهو ضعيف رواه الترمذي وقال حديث غريب وليس إسناده بمتصل خالد لم يدرك معاذا
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فيجلدها الحد ولا يثرب عليها أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما
قال صاحب المنتقى من أصحابنا قال الخطابي معنى لا يثرب لا يقتصر على التثريب وهو التعبير والتوبيخ واللوم والتقريع
وقال في النهاية أي لا يوبخها بالزنى بعد الضرب قال وقيل لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد فإن زنى الإماء لم يكن عند العرب مكروها ولا منكرا فأمرهم بحد الإماء كما أمرهم بحد الحرائر
نظر بعض العباد شخصا مستحسنا فقال له شيخه ستجد غبه فنسي القرآن بعد أربعين سنة
وقال آخر عبت شخصا قد ذهب بعض أسنانه فذهبت أسناني ونظرت إلى امرأة لا تحل لي فنظر زوجتي من لا أريد
وقال ابن سيرين عيرت رجلا بالإفلاس فأفلست
قال ابن الجوزي ومثل هذا كثير وما نزلت بي آفة ولا غم ولا ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكنني أن أقول هذا بالشيء الفلاني وربما تأولت تأويلا فيه بعد فأرى العقوبة فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنب فقل أن يسلم منه وليجتهد في التوبة
وقال محمود الوراق
( رأيت صلاح المرء يصلح أهله % ويعديهم داء الفساد إذا فسد )
( ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه % ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد )
____________________
(1/341)
كذا قال ومراده كثرة ذلك لا أنه مطرد على ما لا يخفى فصل في صيغة الدعاء بالمغفرة وغيرها بعد الجواب بلا النافية
عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا ما أخذت سيوف الله عز وجل من عنق عدو الله مأخذها فقال أبو بكر تقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل فأتاهم أبو بكر فقال يا إخوتاه أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أخي أخرجه مسلم وأحمد
رواه مسلم
قال القاضي عياض روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نهى عن مثل هذه الصيغة وقال قل عافاك الله ورحمك الله لا تزد لا تقل قبل الدعاء لا فتصير صورته نفي وقال بعضهم قل لا ويغفر الله لك فصل في التزام المشورة في الأمور كلها ومعنى قوله تعالى { وشاورهم في الأمر }
قال المروذي كان أبو عبد الله لا يدع المشورة إذا كان في أمر حتى إن كان ليشاور من هو دونه وكان إذا أشار عليه من يثق به أو أشار عليه من لا يتهمه من أهل النسك من غير أن يشاوره قبل مشورته وكان إذا شاوره الرجل اجتهد له رأيه وأشار عليه بما يرى من صلاح وظاهر هذا أنه يشاور في كل ما يهم به ويأتي بالقرب من نصف الكتاب بعد ذكر حسن الخلق والحياء وغير ذلك قبل ذكر الزهد الكلام على قول أحمد رضي الله عنه كل شيء من الخير يبادر به وقول الخلال في الأدب كراهة العجلة ونحو ذلك وسبق بنحو نصف كراسة الكلام في النصح
قال ابن الجوزي في قوله تعالى
____________________
(1/342)
{ وشاورهم في الأمر }
معناه استخرج آراءهم واعلم ما عندهم ويقال إنه من شار العسل وأنشدوا
( وقاسمها بالله حقا لأنتم % ألذ من السلوى إذا ما نشورها ) وقال الزجاج يقال شاورت الرجل مشاورة وشوارا وما يكون عن ذلك اسم المشورة وبعضهم يقول المشورة الهيئة الحسنة ويقال فلان حسن الصورة والمشورة أي حسن الهيئة واللباس ومعنى قولهم شاورت فلانا أظهرت ما عندي وما عنده وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشار
وقال الأعشى
( كأن القرنفل والزنجبيل % باتا بفيها وأريا مشارا )
والأري العسل
قال الجوهري في الصحاح أشار إليه باليد أومأ وأشار عليه بالرأي وشرت العسل واشترتها أي اجتنيتها وأشرت لغة وأنكرها الأصمعي وشرت الدابة شورا عرضتها على البيع أقبلت بها وأدبرت والمكان الذي تعرض فيه الدواب مشوار يقال إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار واشتارت الإبل إذا سمنت بعض السمن يقال جاءت الإبل شيارا أي سمانا حسانا وقد شار الفرس أي سمن وحسن والمشورة الشورى وكذلك المشورة بضم الشين تقول منه شاورته في الأمر واستشرته بمعنى والمستشير السمين وقد استشار البعير مثل اشتار أي سمن والشوار فرج المرأة والرجل ومنه قيل شور به أي كأنه أبدى عورته ويقال أبدى الله شواره أي عورته والشوار والشارة اللباس والهيئة وشورت الرجل فتشور أي خجلته فخجل وشور إليه بيده أي أشار عن ابن السكيت
____________________
(1/343)
وهو رجل حسن الصورة والشورة وإنه لصير شير أي حسن الصورة والشارة وهي الهيئة عن الفراء وفلان خير شير أي يصلح للمشاورة قال الجوهري الأري هو العسل وعمل النحل أري أيضا وقد أرت النحل تأري أريا عملت العسل والله سبحانه أعلم
قال ابن الجوزي اختلف العلماء رضي الله عنهم لأي معنى أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه رضي الله عنهم مع كمال رأيه وتدبيره فقيل ليستن به من بعده قاله الحسن وسفيان بن عيينة
وقيل لتطييب قلوبهم قاله قتادة والربيع وابن إسحاق ومقاتل
وقال الشافعي رضي الله عنه نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم البكر تستأمر في نفسها أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه
إنما أراد استطابة نفسها فإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه
وقيل للإعلام ببركة المشاورة قاله الضحاك
قال ابن الجوزي ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه
____________________
(1/344)
ومنها أنه قد يعزم على أمر يتبين له الصواب في قول غيره فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح
قال علي رضي الله عنه الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم
وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ولا حصنت النعم بمثل المواساة ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر
واعلم أنه إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته به وحي وعمهم بالذكر والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم
وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان حكاهما القاضي أبو يعلى أحدهما أمر الدنيا خاصة والثاني أمر الدنيا والدين وهو أصح وقرأ ابن مسعود وشاورهم في بعض الأمر { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي لا على المشاورة والعزم عقد القلب على الشيء يريد أن يفعله
وذكر أبو البقاء أن ابن عباس قرأ { في بعض الأمر } وأن الأمر هنا جنس وهو عام يراد به الخاص
وقرأ جماعة عزمت بضم التاء أي إذا أمرتك بفعل شيء فتوكل فوضع الظاهر موضع المضمر
وذكر ابن عبد البر الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تشاور قوم
____________________
(1/345)
إلا هداهم الله عز وجل لأرشد أمورهم والمروي عنه أيضا لن يهلك امرؤ عن مشورة أوردهما ابن عبد البر
والخبر المشهور المستشار مؤتمن
رواه الترمذي من حديث أم سلمة وفي إسناده اضطراب قال الترمذي غريب من حديث أم سلمة ورواه الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة في قصة أبي الهيثم بن التيهان في الضيافة ورواه أيضا من حديثه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وهو حديث جيد الإسناد ورواه ابن ماجه من حديث أبي مسعود من رواية شريك عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عنه شريك حديثه حسن حديث صحيح أخرجه من حديث أم سلمة الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والطحاوي وقال الترمذي حسن صحيح غريب وأخرجه من حديث أبي مسعود ابن ماجه وأحمد وابن حبان
قال الحسن إن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم ولكن أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعا عزم له على الرشد ذكره ابن عبد البر دون سند
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل
____________________
(1/346)
وقيل لرجل من عبس ما أكثر صوابكم قال نحن ألف وفينا واحد حازم ونحن نشاوره ونطيعه فصرنا ألف حازم
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول رأي الشيخ خير من مشهد الغلام وقال بزرجمهر حسب ذي الرأي ومن لا رأي له أن يستشير عالما ويطيعه
مر حارثة بن زيد بالأحنف بن قيس فقال لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر قال يا حارثة أجل كانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع والعطشان حتى ينقع والأسير حتى يطلق والمضل حتى يجد والراغب حتى يمنح وكان يقال استشر عدوك العاقل ولا تستشر صديقك الأحمق فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج
وكان يقال لا تدخل في رأيك بخيلا فيقصر فعلك ولا جبانا فيخوفك ما لا يخاف ولا حريصا فيبعدك عما لا يرجى
وقال سليمان بن داود عليهما السلام لابنه يا بني لا تقطع أمرا حتى تشاور مرشدا فإنك إذا فعلت ذلك لم تندم
وقال عمرو بن العاص ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش فإن أصبت كان الحظ لي دونهم وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة
وقال بزرجمهر أفره الدواب لا غنى به عن السوط وأعقل الرجال لا غنى به عن المشورة
وقال عبد الملك بن مروان لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب من غير مشورة
وقال قتيبة بن مسلم الخطأ مع الجماعة أحب إلي من الصواب مع الفرقة
وإن كانت الجماعة لا تخطئ والفرقة لا تصيب
____________________
(1/347)
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشير في الأمر حتى إن كان ربما استشار المرأة فأبصر في رأيها فضلا
وكان يقال من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة ومن الفقهاء عند الشبهة ومن الأطباء عند المرض أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضا
قال الشاعر
( إن اللبيب إذا تفرق أمره % فتق الأمور مناظرا ومشاورا )
( وأخو الجهالة يستبد برأيه % فتراه يعتسف الأمور مخاطرا )
وقال ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه رواه ابن ماجه وإسناده ضعيف
وابن أبي ليلى ضعفه الأكثر
وقال العجلي هو جائز الحديث ومراد الخبر إذا ظهر وجه المصلحة
ويأتي استشارة المشركين في فصول الطلب بالقرب من نصف الكتاب وقبل ذلك ما يتعلق بالاستخارة بعد ما يتعلق بمكارم الأخلاق قبل ذكر الزهد فصل في عدم المبالاة بالقول
روى الخلال عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال كان يقال من لم يبال ما قال ولا ما قيل له فهو ولد شيطان
وعن محمد بن الحجاج المصفر مثله إلا أنه قال فهو لغير رشده
قال الخلال سألت ثعلبا النحوي عن السفلة فقال الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له
قال الجوهري السفل والسفل والسفول والسفال والسفالة بالضم نقيض
____________________
(1/348)
العلو والعلو والعلاء والعلاوة والسافل نقيض العالي والسفالة بالفتح النذالة وقد سفل بالضم والسفلة بكسر الفاء السقاط من الناس يقال هو من السفلة ولا تقل هو سفلة لأنها جمع والعامة تقول رجال سفلة من قوم سفل قال ابن السكيت وبعض العرب يخفف فيقول فلان من سفلة الناس
قال الخلال وروى الحاكم في تاريخه عن مالك قال لي ربيعة الرأي يا مالك من السفلة قال قلت من أكل بدينه فقال لي ومن أسفل السفلة قلت من أصلح دنيا غيره بفساد دينه فصدرني
وروي أيضا عن ابن المبارك وسئل ما حد السفلة قال هم الذين يتطيلسون ويأتون أبواب القضاة ويطلبون الشهادات
وقال ابن الصيرفي الحنبلي رحمة الله عليه قال ابراهيم ابن أحد الصوفية السفلة من يمن بما يعطيه وقال أيضا من لا يخاف الله عز وجل وقال أيضا من يعصي الله عز وجل
وقال الخلال أيضا سألت ثعلبا قلت القليل الحياء والسفيق الوجه قال ما أقربهما من القول وسألت إبراهيم الحربي قلت القليل الحياء والسفيق الوجه واحد قال نعم
وروى الخلال عن أبي موسى مرفوعا لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه أخرجه البخاري والطبراني والبيهقي
وروي أيضا عن سفيان الثوري أنه قال لعطاء أبي مسلم يا عطاء احذر الناس واحذرني
____________________
(1/349)
فصل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة وأنها فرض كفاية
تسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة بقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ويتأكد ذلك إذا ذكر صلى الله عليه وسلم وهي فرض كفاية وتجوز الصلاة على غيره تبعا له وقيل مطلقا لقوله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أوفى أخرجه البخاري ومسلم
من الرعاية الكبرى
وهذا الحديث متفق عليه
وقال بعض أصحابنا المنصوص عن أحمد رضي الله عنه في رواية أبي داود أنه يصلي على غيره منفردا واحتج أحمد بأن عليا قال لعمر صلى الله عليك
وذكر في شرح الهداية أنه لا يصلي على غيره منفردا وحكي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه سعيد واللالكائي عنه وهو قول مالك والشافعي وللشافعية خلاف هل يقال هو مكروه أو أدب قال بعض الشافعية والسلام على الغير بضمير الغائب مثل فلان عليه السلام كالصلاة في ذلك
وقال الشيخ وجيه الدين الصلاة على غير الرسول جائزة تبعا لا مقصودا لأن الله تعالى خص الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فلا يشاركه غيره فيه نعم الرسول له فعل ذلك وقال في الزكاة يستحب للوالي يعني إذا أخذ الزكاة أن يقول يعني الدعاء المشهور ولو قال اللهم صل عليه فلا بأس لأنه ظاهر نص الكتاب والسنة وقال أبو الخطاب من أصحابنا في قصيدته عن العباس وبنيه
( صلى الإله عليه ما هبت صبا % وعلى بنيه الراكعين السجد )
ورأيت بخط ابن الجوزي أنه قال عن العباس صلوات الله عليه وعن الخليفة الناصر الصلاة عليه
____________________
(1/350)
واختار الشيخ تقي الدين منصوص أحمد قال وذكره القاضي وابن عقيل والشيخ عبد القادر قال وإذا جازت أحيانا على كل أحد من المؤمنين فأما أن يتخذ شعارا لذكر بعض الناس أو يقصد الصلاة على بعض الصحابة دون بعض فهذا لا يجوز
وهو معنى قول ابن عباس قال والسلام على غيره باسمه جائز من غير تردد فصل في السلام وتحقيق القول في أحكامه على المنفرد والجماعة
السلام سنة عين من المنفرد وسنة على الكفاية من الجماعة والأفضل السلام من جميعهم ولا يجب إجماعا نقله ابن عبد البر وغيره وظاهر ما نقل عن الظاهرية وجوبه
وذكر الشيخ تقي الدين أن ابتداء السلام واجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره
ويكره في الحمام صححه في الرعاية ولم يذكر في التلخيص غيره وهو قول ابن عقيل وفيه قول لا يكره ذكر في الشرح أنه الأولى للعموم وصححه أبو البركات وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد التوقف
ويكره على من يأكل أو يقاتل لانشغالهما وفيمن يأكل نظر فظاهر التخصيص أنه لا يكره على غيرهما ومقتضى التعليل خلافه وهو ظاهر كلامه في الفصول في السلام على المصلي وصرح على المحجوم والمشتغل بمعاش أو حساب ويأتي قريبا كلام أبي المعالي وعلى امرأة أجنبية غير عجوز وبرزة فلو سلمت شابة على رجل رده عليها كذا قال في الرعاية ولعله في النسخة غلط ويتوجه لا وهو مذهب الشافعي وإن سلم عليها لم ترده عليه
وقال ابن الجوزي إذا خرجت المرأة لم تسلم على الرجل أصلا انتهى
____________________
(1/351)
كلامه وعلى هذا لا يرد عليها ويتوجه احتمال مثله عكسه مع عدم محرم وهو مذهب الكوفيين
وفي الصحيحين عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب قالت فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب قال مرحبا بأم هانئ فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات الحديث أخرجه البخاري ومسلم
قال في شرح مسلم فيه سلام المرأة ليست بمحرم على الرجل بحضرة محارمه وأنه لا بأس أن يكني الإنسان نفسه على سبيل التعريف إذا اشتهر بالكنية وأنه لا بأس بالكلام في الغسل والوضوء ولا بالسلام عليه وجواز الاغتسال بحضرة امرأة من محارمه إذا كان مستور العورة عنها وجواز تستيرها إياه بثوب ونحوه ومعنى مرحبا صادفت رحبا أي سعة
وروى ابن الجوزي من الحلية عن الزبيدي عن عطاء الخراساني يرفع الحديث قال ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام أخرجه أبو نعيم في الحلية وإسناده منقطع وفيه تدليس بقية
وهذا منه يدل على أنها لا تسلم على الرجل ولا يسلم عليها مطلقا
قال ابن منصور لأبي عبد الله التسليم على النساء قال إذا كانت عجوزا فلا بأس به
وقال حرب لأحمد الرجل يسلم على النساء قال إن كن عجائز فلا بأس
وقال صالح سألت أبي يسلم على المرأة قال أما الكبيرة فلا بأس وأما الشابة فلا تستنطق
فظهر مما سبق أن كلام أحمد الفرق بين العجوز وغيرها
وجزم صاحب النظم في تسليمهن والتسليم عليهن وأن التشميت منهن ولهن كذلك وقيل لا تسلم امرأة على رجل ولا يسلم عليها وقيل الشابة
____________________
(1/352)
البرزة كعجوز ويتوجه تخريج رواية من تشميتها وعلى ما يأتي في الرعاية في التشميت لا تسلم وإن قلنا يسلم الرجل عليها
وإرسال السلام إلى الأجنبية وإرسالها إليه لم يذكره أصحابنا وقد يقال لا بأس به للمصلحة وعدم المحظور وإن كلام أحمد المذكور يدل عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إن جبريل عليه السلام يقرأ عليك السلام أخرجه البخاري ومسلم
قال في شرح مسلم فيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة
وسيأتي زيارة الأجنبية الصالحة الأجنبي الصالح ولا محذور ومنه ما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنهما انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها أخرجه مسلم
قال في شرح مسلم فيه زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن دونه وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه وزيارة رجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها والبكاء حزنا على فراق الصالحين والأصحاب فصل في حكم السلام على المصلي والمتوضئ والمؤذن والآكل والمتخلي
وهل يكره أن يسلم على المصلي وأن يرد إشارة على روايتين
إحداهما يكره وهو الذي قدمه في الرعاية
والثانية لا يكره للعموم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أصحابه حين سلموا عليه وذلك في البخاري ومسلم أخرجه البخاري ومسلم
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رد إشارة على ابن عمر
____________________
(1/353)
وصهيب روى ذلك جماعة منهم أحمد وأبو داود والترمذي وصححهما ابن عمر روى حديثين عن بلال رواه أبو داود والترمذي وأحمد وإسناده حسن والثاني عن صهيب رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وانظر أيضا ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وهو حسن لغيره
وعنه لا يكره ذلك في النفل فقط وقيل إن علم المصلي كيفية الرد جاز وإلا كره وعنه يجب رده إشارة
وقال في المحرر له رد السلام إشارة وقال في الشرح يرد السلام إشارة وهو قول مالك والشافعي وإن رد عليه بعد فراغه من الصلاة فحسن لأن ذلك جاء في حديث ابن مسعود فإن رد في صلاته لفظا بطلت وبه قال الثلاثة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على ابن مسعود
قال ابن مسعود فسألته فقال إن الله عز وجل يحدث ما يشاء وإنه قد أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي وانظر البخاري ومسلم
رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وقال رواه جماعة من الأئمة عن عاصم بن أبي النجود وتداوله الفقهاء بينهم وكان الحسن وابن المسيب وقتادة لا يرون به بأسا
وعن أبي هريرة أنه أمر بذلك وقال إسحاق إن فعله متأولا جازت صلاته
وروى النسائي عن عمار أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فرد عليه أخرجه النسائي وإسناده صحيح
ويكره على المتوضئ كذا ذكره ابن تميم عن الشيخ أبي الفرج وذكره أيضا في الرعاية وزاد ورده منه
وروى المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني
____________________
(1/354)
كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهارة أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان وسنده حسن
إسناده جيد رواه جماعة منهم أحمد وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه وقال أراد به الفضل لأن الذكر على الطهارة أفضل لا أنه مكروه غير جائز
ويكره السلام على من يقضي حاجته ورده منه نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على الذي سلم عليه وهو يبول رواه مسلم وغيره أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي
وقدم في الرعاية الكبرى أن الرد لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد كذا رواه الشافعي أخرجه الشافعي وإسناده ضعيف جدا
من رواية إبراهيم بن أبي يحيى
وإبراهيم ضعيف عند الأكثرين
قال الشيخ وجيه الدين يكره السلام على من هو في شغل يقضيه كالمصلي والآكل والمتغوط وإن لقي طائفة فخص بعضهم بالسلام كره انتهى كلامه
وظاهره كراهة السلام على المؤذن
وقد قال أحمد في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن المؤذن يتكلم في الأذان فقال لا فقيل له يرد السلام قال السلام كلام
وجعل القاضي هذا النص مستند رواية الكلام في الأذان فإنه حكى في كراهة الكلام روايتين وأنه يكره في الإقامة فدل ذلك على أنه لا يكره على الرواية الأخرى وأن عليهما تخرج كراهة السلام عليه وإذا وجب رد المصلي إشارة واستحب بعد الفراغ فههنا أولى فصل في أحكام رد السلام المسنون
ورد السلام المسنون فرض كفاية وهو مذهب أهل الحجاز وهذا من أصحابنا يدل على أنه لا يجب رد السلام ولا يسن ولعله غير مراد لأنهم
____________________
(1/355)
أطلقوا وجوب رد السلام لا سيما وسيأتي كلام صاحب النظم أول الفصل الخامس
ويأتي كلام الشيخ وجيه الدين فيما إذا بدأ بصيغة الجواب أنه لا يستحق جوابا لكونه بدأ بالجواب فدل أنه إذا أتى بصيغة الابتداء لزم الرد اللهم إلا أن يكون الابتداء مكروها والظاهر أنه مراد الأصحاب بقولهم المسنون
وقد عرف من المسائل السابقة في الفصل قبله أن حكم الرد حكم الابتداء ولا يخالف هذا إلا كلامه في الرعاية يكره على المتخلي لا رده
وقال أبو حفص في الأدب له قال أبو عبد الله محمد بن حمدان العطار سئل أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن رجل مر بجماعة فسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام فقال يسرع في خطاه لا تلحقه اللعنة مع القوم وقيل بل سنة
وذكر ابن حزم وابن عبد البر والشيخ تقي الدين الإجماع على وجوب الرد
وذكر ابن عبد البر أن أهل العراق جعلوه فرضا متعينا على كل واحد من الجماعة المسلم عليهم وحكاه غيره عن أبي يوسف وحكاه صاحب المحرر من أصحابنا عن الحنفية ذكره في تسليم الخطيب في الجمعة
وقال الحنفية ولا يجب رد سلام السائل على باب الدار لأنه يسلم لشعار سؤاله لا للتحية ويجزى سلام واحد من جماعة ورد أحدهم وقد تقدم ويشترط أن يكونوا مجتمعين فأما الواحد المنقطع فلا يجزي سلامه عن سلام آخر منقطع كذا ذكره ابن عقيل وظاهر كلام غيره خلافه
قال علي رضي الله عنه مرفوعا يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم حديث حسن أخرجه أبو داود والبيهقي وإسناده ضعيف
رواه أبو داود من رواية
____________________
(1/356)
سعيد بن خالد الخزاعي ضعفه أبو زرعة وقال البخاري فيه نظر
وفي موطأ مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عن الجماعة أخرجه مالك ورواه عبد الرزاق
قال صاحب المحرر ورد السلام سلام حقيقة لأنه يجوز بلفظ سلام عليكم فيدخل في العموم ولأنه قد رد عليه مثل تحيته فلا تجب زيادة كزيادة القدر قال وإنما لم يسقط برد غير المسلم عليهم لأنهم ليسوا من أهل هذا الفرض كما لا يسقط الأذان عن أهل بلدة بأذان أهل بلدة أخرى
ويجوز السلام على الصبيان تأديبا لهم وهذا معنى كلام ابن عقيل وذكر القاضي في المجرد وصاحب عيون المسائل فيها والشيخ عبد القادر أنه يستحب وذكره في شرح مسلم إجماعا
قال الشيخ تقي الدين فأما الحدث الوضيء فلم يستثنوه وفيه نظر وهو كما قال وهذه المسألة تشبه مسألة النظر وهي مشهورة
وقال أنس رضي الله عنه أتانا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صبيان فسلم علينا أخرجه ابن ماجه وسنده قوي
والصبيان بكسر الصاد وضمها لغة
وعن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في نسوة فسلم علينا أخرجه ابن ماجه وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه
رواهما ابن ماجه وغيره
وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم
____________________
(1/357)
وروى حديث شهر عن أسماء أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ولفظهم قالت مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يوما ونحن عصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف أخرجه الترمذي وقال ضعيف
إسناده ضعيف رواه الترمذي وقال إسناد ضعيف ورواه ابن المبارك عن ابن لهيعة فلم يرفعه انتهى كلامه وإن صح فمحمول على الاكتفاء به بدل السلام
وتزاد الواو في رد السلام وذكر الشيخ وجيه الدين في شرح الهداية أنه واجب وهو قول بعض الشافعية والأول أشهر وأصح لأن في الصحيحين إن آدم عليه السلام قال للملائكة السلام عليكم فقالوا له السلام عليك ورحمة الله أخرجه أحمد والبخاري ومسلم
وسيأتي ذلك ولأنه دليل على الوجوب واحتج في شرح مسلم على عدم وجوبها بقوله سبحانه وتعالى { قالوا سلاما قال سلام }
انتهى ما ذكره قيل هو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي قولي سلام أو جوابي أو أمري وقيل هو مبتدأ والخبر محذوف أي سلام عليكم وأما النصب فقيل مفعول به محمول على المعنى كأنه قال ذكروا سلاما وقيل هو مصدر أي سلموا سلاما
ولا يقال سلم الله عليكم ولا سلم الله عليك وكأنه سببه أنه إخبار عن الله عز وجل بالتسليم وهو كذب وفيه نظر بل هو إنشاء كقولك صلى الله عليه وسلم ولعل مراد من ذكر المسألة أن الأولى ترك قول ذلك والإتيان بالسلام على الوجه المعروف المشهور لا أن قول ذلك يكره أو لا يجوز
____________________
(1/358)
ويأتي في الفصل الخامس أن أحمد رضي الله عنه قاله ردا لسلام غائب نظر إلى معنى السلام ولعل هذا أولى مع أنه خلاف الأولى
وآخره ورحمة الله وبركاته ابتداء وأداء ولا تستحب الزيادة على ذلك قاله ابن عقيل
قال أحمد في رواية حبيش بن سندي وسئل عن تمام السلام فقال وبركاته وفي الموطأ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السلام انتهى إلى البركة
قال القاضي ويجوز أن يزيد الابتداء على لفظ الرد والرد على لفظ الابتداء إلا أن الانتهاء في ذلك إلى البركات وهو ظاهر كلام غيره ويتوجه وهو ظاهر كلام بعضهم أنه يجب مساواة الرد للجواب أو أزيد لظاهر الآية ولعله ظاهر كلام أبي البركات السابق في أول الفصل
وروى أبو داود من حديث معاذ بن أنس أن رجلا جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته قال أربعون وقال هكذا تكون الفضائل أخرجه أبو داود وهو ضعيف كما قال المصنف
وهو خبر ضعيف وخلاف الأمر المشهور وقال ويسن أن يتركه المبتدئ بالسلام ليقوله الراد عليه ذكره ابن عقيل وابن تميم وابن حمدان
وقال أبو زكريا النووي يستحب أن يقول المبتدئ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وقد روى أبو داود والترمذي وحسنه عن عمران قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال
____________________
(1/359)
ثلاثون أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب وأحمد والنسائي وهو حسن
قال أبو داود باب كيف السلام ثم روى هذا الحديث بإسناد جيد والذي قبله بإسناد ضعيف وهذا أظهر أن يأتي به المبتدئ كاملا وهو مقتضى كلام أبي داود
وكذا قال الشيخ وجيه الدين من أصحابنا أكمله ذكر الرحمة والبركة ابتداء وكذا الجواب وأقله السلام عليك وأوسطه ذكر الرحمة أو عليكم إن كانوا جماعة فإن كان واحدا فنوى ملائكته قال سلام عليكم
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب وهو يصلي فقال يا أبي فالتفت ثم لم يجبه ثم صلى أبي فخفف ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله قال وعليك ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك أخرجه أحمد وأخرجه الترمذي
وذكر الحديث
قال ابن عبد القوي رحمه الله في كتابه مجمع البحرين وفيه دليل على جواز قول الراد للسلام وعليك بحذف المبتدأ انتهى كلامه
وكذا رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ذر وهو في الصحيحين في فضائله أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه
وهذا أحد الوجهين للشافعية قالوا وهذا فيما إذا أتى بالواو فأما إن قال عليك أو عليكم لم يجزئه
وذكره أصحابنا تصريحا وتعريضا على أنه لا يجوز
____________________
(1/360)
وقال الشيخ تقي الدين فإن اقتصر الراد على لفظ وعليك كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي وهو مقتضى الكتاب فإن المضمر كالمظهر إلا أن يقال إذا وصله بكلام فله الاقتصار بخلاف ما إذا سكت
ولولا أن الرد الواجب يحصل به لما أجزأ الاقتصار عليه في الرد على الذمي ومقتضى كلام ابن أبي موسى وابن عقيل لا يجوز وكذلك قال الشيخ عبد القادر انتهى كلامه ومقتضى أخذه من الرد على الذمي أن يجزئ ولو حذف الواو
وقال الشيخ عبد القادر فإن قال سلام لم يجبه ويعرفه أنه ليس بتحية الإسلام لأنه ليس بكلام تام وقد تقدم معناه ويتوجه من الاكتفاء برد وعليك أنه يحتمل أن يرده
وقال ابن الأثير في النهاية يقال السلام عليكم وسلام عليكم وسلام بحذف عليكم قال وكانوا يستحبون تنكير الابتداء وتعريف الجواب ويكون الألف واللام للعهد يعني السلام الأول
وقال ابن حزم اتفقوا على أن المار من المسلمين على الجالس أو الجلوس منهم أن يقول السلام عليك أو السلام عليكم واتفقوا على إيجاب الرد بمثل ذلك فصل في حديث حذف السلام سنة قال إسحاق بن إبراهيم إن أبا عبد الله سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم حذف السلام سنة أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي مرفوعا وأخرجه الترمذي والحاكم وعنه البيهقي موقوفا وإسناده ضعيف مرفوعا وموقوفا
قال أبو عبد الله هذا أن يجيء الرجل إلى القوم فيقول السلام عليكم ومد بها أبو عبد الله صوته شديدا ولكن ليقل السلام عليكم وخفف أبو عبد الله صوته قال يقول هكذا
____________________
(1/361)
قال المروذي ورأيت أبا عبد الله إذا خرج علينا سلم وإذا أراد أن يقوم سلم
وفي الخبر الصحيح المشهور من حديث أبي هريرة رضي الله عنه إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم
فليست الأولى بأحق من الآخرة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وإسناده حسن فصل في رد جواب الكتاب وأسلوب السلف في المكاتبة كالسلام
روى أبو جعفر عن ابن عباس مرفوعا إني لأرى لرد جواب الكتاب علي حقا كما أرى رد جواب السلام أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري موقوفا والقضاعي مرفوعا والبيهقي موقوفا من قول ابن عباس وأسانيده ضعيفة
قال الشيخ تقي الدين وهو المحفوظ عن ابن عباس يعني موقوفا انتهى كلامه وهو كما قال وقول صحابي لا يصح خلافه عن صحابي معمول به ويتوجه القول به استحبابا ويتوجه في الوجوب ما في المكافأة على الهدية ورد جواب كلمة طيبة ونحو ذلك أما إن أفضى ترك ذلك إلى سوء ظن وإيقاع عداوة ونحو ذلك توجه الوجوب ولا بد من رد جواب ما قصده الكاتب وإلا كان الرد كعدمه شرعا وعرفا
وقال الخطابي في قوله عليه السلام إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان وهو صحيح رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي رافع إني لا أنقض العهد ولا أفسده وأصله من خاس الشيء في الوعاء إذا فسد قال وقوله لا أحبس البرد يشبه أن المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابا والجواب لا يصل إلى المرسل إلا على لسان الرسول بعد انصرافه فصار كأنه قد عقد له العهد مدة
____________________
(1/362)
مجيئه ورجوعه انتهى كلامه وإذا أبطأ الجواب فينبغي التلطف ليزول ما حصل بسبب ذلك
قال ابن عبد البر قال الزبير بن أبي بكر كتب إلي المغيرة يستبطئ كتبي فكتبت إليه
( ما غير النأي ودا كنت تعهده % ولا تبدلت بعد الذكر نسيانا )
( ولا حمدت إخاء من أخي ثقة % إلا جعلتك فوق الحمد عنوانا )
وأظن أن الزبير بن أبي بكر هو الزبير بن بكار المشهور الإخباري صاحب كتاب النسب وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما جد جد أبيه ولم أجد من اسمه الزبير بن أبي بكر غيره
ونظير هذين البيتين ما يأتي في آخر الكتاب من قول أبي تمام الطائي في التأخر عن عيادة المريض
( ولئن جفوتك في العيادة إنني % لبقاء جسمك في الدعاء لجاهد )
( ولربما ترك العيادة مشفق % وطوى على غل الضمير العائد )
قال أبو جعفر الدارمي أحمد بن سعيد كتب إلي أبو عبد الله أحمد بن حنبل لأبي جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل
وقال حرب قلت لأحمد كيف تكتب على عنوان الكتاب قال نكتب إلى أبي فلان ولا يكتب لأبي فلان قال ليس له معنى إذا كتب لأبي فلان
وقال المروذي كان أبو عبد الله يكتب عنوان الكتاب إلى أبي فلان وقال هو أصوب من أن يكتب لأبي فلان
وقال سعيد بن يعقوب كتب إلي أحمد بن حنبل بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن محمد إلى سعيد بن يعقوب سلام عليك أما بعد فإن الدنيا داء والسلطان دواء والعالم طبيب فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فاحذره والسلام عليك
____________________
(1/363)
وقال حنبل كانت كتب أبي عبد الله أحمد بن حنبل التي يكتب بها من فلان إلى فلان فسألته عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وكتب كل ما على ذلك وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعمر كتب إلى عتبة بن فرقد وهذا الذي يكتب اليوم لفلان محدث لا أعرفه
قلت فالرجل يبدأ بنفسه قال أما الأب فلا أحب أن يقدمه باسمه ولا يبدأ ولد باسمه على والد والكبير السن كذلك يوقره به وغير ذلك لا بأس وفي معنى كبر السن العلم والشرف ونحوهما وهو مراد الإمام أحمد رحمه الله
إن شاء الله وإلا فلا وجه لمراعاة شيخ لا علم عنده وترك عالم صغير السن ولم أجد عن أحمد رحمه الله ما يخالف هذا النص صريحا ولعل ظاهر حاله اتباع طريق من مضى في بداءة الإنسان بنفسه مطلقا فيكون عنه روايتان في ذلك وهي تشبه مسألة القيام أو نظيرها وسيأتي بعد نحو ستة كراريس ما يتعلق بالكتاب والكتابة فصل
وذكر ابن الأنباري عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال الرسول والرسيل والرسالة سواء قال وينشد هذا البيت على وجهين
( لقد كذب الواشون ما بحت عندهم % بسر ولا أرسلتهم برسول وبرسيل )
وذكر ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أبردتم إلي بريدا أو بعثتم إلي رسولا فليكن حسن الوجه حسن الاسم وإذا سألتم الحوائج فاسألوها حسان الوجوه أخرجه البراز وهو صحيح
____________________
(1/364)
وقال صلى الله عليه وسلم الرجل الصالح يجيء بالخبر الصالح والرجل السوء يأتي بالخبر السوء أخرجه أبو نعيم وإسناده فيه وضاعون قالوا الرسول قطعة من المرسل
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه ثلاثة دالة على صاحبها الرسول على المرسل والهدية على المهدي والكتاب على الكاتب قال صالح بن عبد القدوس
( إذا كنت في حاجة مرسلا % فأرسل حكيما ولا توصه )
فسمع الخليل رجلا ينشد هذا البيت فقال هو الدرهم
وقال آخر
( ما أرسل الأقوام في حاجة % أمضى ولا أنفع من درهم )
( يأتيك عفوا بالذي تشتهي % نعم رسول الرجل المسلم )
وقال آخر
( ما مرسل أنجح فيما نعلم % من طبق يهدى وهذا الدرهم )
وقال منصور
( أرسلت في حاجة رسولا % يكنى أبا درهم فتمت )
( ولو سواه بعثت فيها % لم تحظ نفسي بما تمنت )
وقال أبو جعفر النحاس عن محمد بن الوليد الصواب إلى أبي فلان لأن الكتاب إليه لا له إلا على مجاز بعيد قال أبو جعفر والصواب ما قاله وأكثر العلماء من الصحابة والتابعين عليه كما روي عن ابن عمر قال يكتب الرجل من فلان إلى فلان ولا يكتب لفلان
وروى ابن عون عن محمد قال كتب رجل عند ابن عمر { بسم الله الرحمن الرحيم }
____________________
(1/365)
لفلان من فلان فقال مه إن اسم الله هو له إذا
وعن مغيرة عن إبراهيم قال كانوا يكرهون أن يكتبوا { بسم الله الرحمن الرحيم } لفلان من فلان وكانوا يكرهونه في العنوان ولا أحفظ عن أحد من المتقدمين أنه رخص في أن يكتب لأبي فلان في عنوان ولا غيره قاله أبو جعفر
وقال فأما ابتداء الإنسان بنفسه وكتبه من فلان إلى فلان ففيه اختلاف بين العلماء في العنوان وصدر الكتاب فأكثرهم يرى أن يبتدئ بنفسه لأن ذلك عنده هو السنة كما روى محمد بن سيرين أن العلاء بن الحضرمي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف انتهى كلامه
وهذا الخبر رواه شعبة عن منصور عن زاذان عن ابن سيرين رواه أحمد في المسند عن هشيم عن منصور عن ابن سيرين قال أحمد قال مرة يعني هشيما عن بعض ولد العلاء إن العلاء كان عامل النبي صلى الله عليه وسلم على البحرين فكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه ورواه أبو داود عن أحمد وابن سيرين لم يدرك العلاء وابن العلاء تفرد عنه ابن سيرين
قال أبو جعفر وعن نافع أن ابن عمر كان يقول لغلمانه وولده إذا كتبتم إلي فلا تبدؤوا بي وكان إذا كتب إلى الأمراء بدأ بنفسه
وذكر أبو جعفر أيضا أنه كتب إلى معاوية وعبد الملك فبدأ بهما
قال أبو جعفر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه إلا إلى والد أو ولده وإمام يخاف عقوبته
وقيل لسفيان الثوري اكتب إلى المهدي قال إن كتبت إليه بدأت بنفسي
____________________
(1/366)
قيل فلا تكتب إليه إذا
وقال الربيع بن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يكتبون إليه فيبدؤون بأنفسهم
وروي أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية
وعن محمد بن الحنفية لا بأس أن يبدأ بالرجل إذا كتب إليه وكتب بكر بن عبد الله إلى عامل في حاجة فبدأ باسمه فقيل له ابتدأت باسمه فقال لي إليه حاجة
وعن ابن شوذب قلت لأيوب السختياني لي إلى عبد الرحمن بن القاسم حاجة وقد أردت أن أكتب إليه قال فابدأ به ذكر ذلك أبو جعفر وذكر أيضا أن لأبي فلان إن اللام بمعنى إلى فقد قال قوم في معنى قول الله عز وجل { بأن ربك أوحى لها } معناه أوحى إليها فإن أعدت الكنية خفضت على البدل ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ والنصب بمعنى أعني وفي إعادة الكنية معنى التعظيم والتبجيل وأنشد سيبويه
( لا أرى الموت يسبق الموت شيء % نغص الموت ذا الغنى والفقيرا )
وتتريب الكتاب محمود عند العلماء قاله أبو جعفر وستأتي فيه الأخبار يقال أتربت الكتاب وتربته بمعنى ويقال ترب الرجل إذا افتقر واشتقاقه أنه صار إلى التراب وأترب استغنى معناه كثر ماله حتى صار كالتراب وأكثر الاستعمال أتربت الكتاب فوافق لفظه لفظ أترب الرجل إذا استغنى ويقال أول من ختم الكتاب سليمان عليه السلام وذلك معنى قوله تعالى { إني ألقي إلي كتاب كريم } أي مختوم ويقال فض الكتاب إذا كسر خاتمه ومعنى الفض في اللغة التفريق والكسر ومنه انفض القوم ومنه لا يفضض الله فاك وإن شئت لا يفض الله بالكسر والفتح
____________________
(1/367)
والضم وذكر بعض النحويين أن معنى لا يفضض الله فاك قال لا يجعله فضاء لا أسنان فيه لأن الفضاء المكان الواسع وهذا غلط في الاشتقاق لأن لام الفعل من الفضاء ليست ضادا ولام الفعل من فض ضاد
وفي عنوان الكتاب لغات أفصحها عنوان بكسر العين وجمعها عناوين وعلوان وجمعها علاوين وعينان تقول عنوت الكتاب أعنونة عنونة وعلونته وعننته تعنينا وعنيته تعنية وعنوت الكتاب أعنوه عنوا وتقول منه يا عان أعن كتابك مثل دعا يدعو والعنوان الأثر فالعنوان أثر الكتاب ممن هو وإلى من هو
وقيل العنوان مأخوذ من قول العرب عنت الأرض تعنو إذا أخرجت النبات وأعناها المطر إذا أخرج نباتها فعنوان على هذا فعلان ينصرف في النكرة دون المعرفة وقيل مشتق من عن يعن إذا عرض وبدا فعلى هذا ينصرف نكرة ومعرفة لأنه فعلان ومن قال علوان أبدل من النون لاما مثل صيدلاني وصيدناني والاشتقاق واحد
وقيل مشتق من العلانية لأنه خط مظهر على الكتاب واستحسن جماعة أن يصغروا أسماءهم على عنوانات الكتب ورأوا ذلك تواضعا وينبغي أن يحسن اسم الله إذا كتبه
قال أبو جعفر وكانوا يكرهون الدعاء على العنوان وينكرونه كذا قال مع أنه ذكر الدعاء عليه وقول الفضل بن سهل لا يحسن بالعنوان كثرة الدعاء
قال أبو جعفر باب ترتيبات اصطلحوا عليها فمن ذلك اصطلاحهم على أن أطال الله بقاء سيدنا أجل الدعاء ويليه أطال الله بقاء سيدي واستقبحوا الخلاف في فصول الكتابة وذلك أن يكتب أطال الله بقاء سيدنا أو سيدي ثم يقول في الكتاب بلغك الله أملك فإن رأيت فهذا خلاف في الدعاء أو يقول أيد الله سيدي ثم يقول أكرم الله سيدي واستقبحوا أيضا أن تكون الأدعية متفقة وذلك أن يقول أعزك الله ويكتب في الفصل الذي يليه مثله
____________________
(1/368)
واصطلحوا على مكاتبة النظير نظيره فإن رأيت أن تفعل كذا وكذا فعلت ولا يكتبون إليه فرأيك فإن كان دونك قليلا فرأيك وكتبوا فأحب أن تفعل فإن كان دونه أكثر من ذلك كتب فينبغي أن تفعل كذا وكذا فإن كان دون ذلك كتب فافعل كذا وكذا
قال أبو جعفر سمعت علي بن سليمان يتعجب من قول بعض الكتاب الذين ينتحلون العلم وقد فرق بين فرأيك وبين إن رأيت وجعل فرأيك لا يكتب بها إلا جليل له أمر فقال ما أعجب هذا أتراه لا يعلم أن الإنسان يخاطب الرجل الجليل فيقول انظر في أمري فيكون لفظه لفظ الأمر ومعناه السؤال والطلب
قال أبو جعفر وجعلوا أعزك الله أجل من أكرمك الله وهو من الاصطلاح المحدث قال ومن المستقيم عندهم أيضا أن يدعو له ويشتمه في كتاب واحد
ثم ذكر اصطلاحات في المكاتبات والأدعية إلى أن قال إنه يستحسن مع الرؤساء الإيجاز والاختصار لأن الإكثار يضجرهم حتى يصيرهم إلى استقباح الحسن مما يكاتبون به والرد عما يسألون وإنه قد يكتب بعضهم إلى بعض الخلفاء يعزيه أما بعد فإن أحق من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه من عظم حق الله عليه فيما أبقاه له واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون فيه
وعن المأمون سمعت الرشيد يقول البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى
وكتب الحسن بن وهب إلى مالك بن طوق في ابن أبي الشيص الشاعر كتابي إليك كتاب خططته بيميني وفرغت له ذهني فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني أتراني أقبل العذر فيها أو أقصر الشكر عليها
وعن جعفر بن يحيى قال إن استطعتم أن يكون كلامكم مثل التوقيع
____________________
(1/369)
فافعلوا
وذكر أبو جعفر أن من مجانسة الألفاظ التي تدل على البلاغة قول ثابت البناني كثيرا الحمد لله وأستغفر الله فسئل عن ذلك فقال أنا بين نعمة وذنب فأحمد الله على النعمة وأستغفره من الذنب
واعتذر رجل إلى سليمان ابن وهب فأكثر فقال له سليمان حسبك فإن الولي لا يحاسب والعدو لا يحتسب له
وقال بعض البلغاء لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا
وقال ابن السماك اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال اللهم إنه لا يسعني القليل ولا أسعه وقال عند وفاته اللهم إنك تعلم أني كنت إذ كنت أعصيك أحب أن أكون ممن يطيعك
وكان بعضهم يقول اللهم إني أستغفرك مما أملك وأستحلك لما لا أملك
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول اللهم أنت أرضى للرضى وأسخط للسخط وأقدر أن تغير ما كرهت وأعلم بما تقدر
ومن دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما اللهم ارزقني خوف الوعيد وسرور رجاء الموعود حتى لا أرجو إلا ما رجيت ولا أخاف إلا ما خوفت
وكان جعفر بن محمد يقول استلطف الله لكل عسير فإن تيسير العسير على الله يسير جل ثناؤه وتقدست أسماؤه
وكان يقول اللهم إنك بما أنت له أهل من العفو أولى مني بما أنا له أهل من العقوبة اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك ومن الذل إلا لك وحكى في مكان آخر هذه الدعوة عن محمد بن علي بن الحسين اللهم أعني على الدنيا بالغنى وعلى الآخرة بالتقوى
وذكر دعاء آخر من المأثور قال وقال غيره اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما
____________________
(1/370)
من العجز والعي والحصر
وقال الأفوه
( فينا معاشر لم يبنوا لقومهم % وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا )
ومنها
( لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم % ولا سراة إذا جهالهم سادوا )
( وإن تولى سراة القوم أمرهم % نما لذلك أمر القوم فازدادوا )
( تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت % فإن تولت فبالأشرار تنقاد )
وبلغ هشاما كلام عن رجل فأتي به فاحتج فقال له هشام أتتكلم أيضا فقال إن الله تعالى يقول { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } أفيجادل الله جل ثناؤه ولا تكلم أنت فقال تكلم بما أحببت
وقدم إلى الحجاج أسرى ليقتلوا فقدم رجل ليضرب عنقه فقال والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العقوبة فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا وأمسك عن القتل
وأتي الهادي برجل من الحبس فجعل يقرره بذنوبه فقال الرجل اعتذاري رد عليك وإقراري يوجب لي ذنبا ولكني أقول
( إذا كنت ترجو في العقوبة راحة % فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر )
فعفا عنه
( ودخل رجل على المنصور فقال له تكلم بحجتك فقال لو كان لي ذنب تكلمت بعذري وعفوك أحب إلي من براءتي
____________________
(1/371)
واعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له فقال له الحسن تقدمت لك طاعة وحدثت لك توبة وكانت بينهما منك نبوة ولن تغلب سيئة حسنتين
وقال إبراهيم بن المهدي
( وعفوت عمن لم يكن عن مثله % عفو ولم يشفع إليك بشافع )
( إلا العلو عن العقوبة بعد ما % ظفرت يداك بمستكين خاضع )
( ورحمت أطفالا كأفراخ القطا % وحنين والهة كقوس النازع )
وقال عبد الرحمن بن المبارك اليزيدي وكان معلما حذاء دار أبي العلاء وقيل له اليزيدي لأنه كان يؤدب ولد يزيد بن منصور الحميري قال في أبيات
( أنا المذنب الخطاء والعفو واسع % ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو )
قال ذلك يعتذر إلى المأمون لأنه امتن عليه بتأديبه إياه
ووقف أعرابي على حلقة الحسن فقال رحم الله من تصدق من فضل أو واسى من كفاف أو آثر من قوت فقال الحسن ما ترك أحدا إلا وقد سأله
وقال أعرابي آخر لعبد الملك قد جهد الناس وأحاطت بهم السنون جاءت سنة فذهبت بالمال ثم ردفتها سنة برت اللحم ثم ردفتها سنة كسرت العظم وعندك أموال فإن تكن لله فاقسمها بين عباده وإن تكن لهم فلا تخزنها دونهم فإن الله عز وجل بالمرصاد وإن تكن لك فتصدق فإن الله يجزي المتصدقين
وسئل بعض الحكماء عن أعدل الناس وأجور الناس وأكيس الناس وأحمق الناس وأسعد الناس فقال أعدل الناس من أنصف من نفسه وأجور الناس من رأى جوره عدلا وأكيس الناس من أخذ أهبة الأمر قبل نزوله وأحمق الناس من باع آخرته بدنيا غيره وأسعد الناس من ختم له في عاقبة أمره
____________________
(1/372)
بخير
وقيل للعتابي فلان بعيد الهمة فقال إذن لا يكون له غاية دون الجنة
وقال بعض الأعراب إن الله عز وجل رفع درجة اللسان فأنطقه بتوحيده من بين الجوارح
وضحك المعتصم من عبد العزيز المكي وكان مفرط القبح فقال المكي للمأمون مم يضحك هذا والله ما اصطفى يوسف لجماله وإنما اصطفاه لبيانه قال عز وجل { فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين }
فبياني أحسن من وجه هذا فضحك المأمون وأعجبه كلامه
وقال بعضهم الكلام الجزل أغنى المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل فإذا اجتمعا فذاك البلاغة
وقال بعض الحكماء البلاغة أن يظهر المعنى صريحا والكلام صحيحا وقال غيره أفضل اللفظ بديهة امرئ وردت في مكان خوف
قال أبو جعفر النحاس يستحسن الكتاب أن تكون الألفاظ غير ناقصة عن المعاني في المقدار والكثرة فإذا كتبوا حسن عندهم أن تكون الألفاظ غير ناقصة عن المعاني ولا زائدة عليها إلا في موضع يحتاج فيه إلى الإسهاب
ويستحسن في هذا ما قاله جعفر بن يحيى إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا
ودخل عمر بن سعد على معاوية بعد موت أبيه فقال له يا عمر إلى من أوصى بك أبوك فقال أوصى إلي ولم يوص بي
وقيل لقيس بن عاصم ما البلاغة قال الإيجاز
وقيل للأصمعي ما حد الاختصار قال حذف الفضول وتقريب البعيد
وسئل رجل عن البلاغة فقال سهولة اللفظ وحسن البديهة
____________________
(1/373)
وقال آخر أحسن القول أوجزه وأحسن المعروف أنجزه
وقال معن بن زائدة لرجل من بني شيبان ما هذه الغيبة المنساة قال أبقى الله الأمير في نعم زائدة وكرامة دائمة ما غاب أيها الأمير عن العين من ذكره القلب وما زال شوقي إلى الأمير شديدا وهو دون ما يجب له علي وذكري له كثير وهو دون قدره عندي ولكن جفوة الحجاب وقلة بشر الغلمان يمنعاني من الإتيان فأمر بتسهيل أمره وأحسن مثواه
وقال أعرابي لعمر بن عبد العزيز ساقتني إليك الحاجة وانتهت في الغاية والله مسائلك عن مقامي هذا فبكى عمر وقال ما سمعت كلاما أبلغ من هذا ولا وعظا أوجع منه
قال أبو جعفر النحاس البلاغة في المعاني ألطف من البلاغة في الألفاظ فيستحسن منها صحة التقسيم من ذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم يقول ابن آدم مالي وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت أخرجه مسلم والترمذي والنسائي
وعن النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى أخرجه أحمد
ومن حسن البلاغة في المعاني صحة المقال يؤتى في الموافق بموافقة وفيه المضاد بمضاد كقول بعض الكتاب فإن أهل الرأي والنصح لا يساويهم ذوو الأفن والغش وليس من جمع إلى الكفاية الأمانة كمن أضاف إلى العجز الخيانة قال بعض الكتاب إذا تأملت هذه المقالة وجدت غاية المعادلة لأنه جعل بإزاء الرأي الأفن والأفن سوء الرأي وبإزاء النصح الغش وقابل العجز
____________________
(1/374)
بالكفاية والأمانة بالخيانة
قال الجوهري في الصحاح الأفن بالتحريك ضعف الرأي وقد أفن الرجل بالكسر وأفن إفنا مأفون وأفين وأفنه الله يأفنه أفنا فهو مأفون
قال أبو جعفر ومن هذا ما دعت به هند بنت النعمان وقد أحسن إليها فقالت شكرتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة
وعن عمر أنه قال لابن عباس رضي الله عنهم وقد ذكر أمر الخلافة ومن يصلح لها فقال يصلح لها من كان فيه لين في غير مهانة وشدة في غير عنف وكتب إلى أبي موسى إن أسعد الولاة من سعدت به رعيته وأشقاهم من شقيت به رعيته
وعن داود أنه قال للقمان عليهما السلام بعد ما كبرت سنة ما بقي من عقلك قال لا أنطق فيما لا يعنيني ولا أتكلف ما كفيته
وكان الأحنف رجلا دميما أعور قصيرا أحنف فقال له رجل بأي شيء بلغت ما بلغت فوالله ما أنت بأشرف قومك ولا أشجعهم ولا أجودهم فقال يا ابن أخي بخلاف ما أنت فيه فقال وما خلاف ما أنا فيه قال تركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك
قال أبو جعفر صحة التقسيم في البلاغة أن تضع معاني ثم تشرح فلا تزيد عليها ولا تنقص قال ولبعضهم من صنف كتابا فقد استشرف للمدح والذم لأنه إن أحسن فقد استهدف للحسد وإن أساء فقد تعرض للشتم
وذكر أبو جعفر من التكافؤ في البلاغة وهي المماثلة ما قيل لبعض القراء إن أخا لك قد ولي ولاية فلم لا تهنئه قال ما سرتني له فأهنيه ولا ساءته فأعزيه وقال رجل لرجل قد كثرت علينا المؤن فقال ما أحد لله عليه نعمة إلا وللناس عليه مؤنة فإن ضجرهم تعرض لزوالها وذكر لمالك بن أنس رجل
____________________
(1/375)
شريف لا يفيق من الشراب فقال العجب لمن فقد عقله مرة كيف لا يشغله الاهتمام بما فقد عن معاودة مثله
وذكر أبو جعفر من الاستعارة من اللغة في البلاغة قول الطم والرم إذا أرادوا المبالغة في كثرة ماله وهذا من الاستعارة البليغة لأن الطم البحر والرم الثرى وهذا لا يملكه إلا الله وليس هو كذبا لأنه قد عرف معناه
وقال ومحفوظ عن مالك بن أنس أنه سئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن كان هذا الطائر يسكت فقال لا يحنث لأن معناه التكثير
ومنه ما له سبد ولا لبد أي ما له شيء والسبد الشعر واللبد الصوف
ومنه ما يعرف قبيله من دبيره فالقبيل ما أقبلت به المرأة عن غزلها حين تفتله والدبير ما أدبرت به وذهب الأصمعي إلى أنه استعارة من الإقبالة والإدبارة وهو شق في الأذن يفتل فإذا أقبل فهو الإقبالة وإذا أدبر به فهو الإدبارة وذكر الجوهري في الصحاح قال يعقوب القبيل ما أقبلت به إلى صدرك والدبير ما أدبرت به عن صدرك يقال فلان ما يعرف قبيلا من دبير والجلدة المعلقة من الأذن هي الإقبالة والإدبارة كأنها زنمة
قال أبو جعفر ويستحسن من هذا ما كتب به عبد الله بن المغيرة يصف القلم يخدم الإرادة ولا يمل الاستزادة ويسكت واقفا وينطق سائرا على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء
ومن الكتاب من يستحسن السجع ومنهم من كرهه لقول حمل بن مالك يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
____________________
(1/376)
قال في شرح مسلم قال العلماء إنما ذم سجعه لأنه عارض به حكم الشرع فإن لم يتكلفه فحسن ولهذا قال في الرواية الأخرى أسجع كسجع الأعراب
واختار أبو جعفر النحاس أنه حسن إذا خلا من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمرو وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث علي وأسانيدها حسنة
وقوله للحسن والحسين أعيذكما من السامة والهامة ومن كل عين لامة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري من حديث ابن عباس
وعن بعض الأمراء وهو ابن زياد وقال لأصحابه من أنعم الناس عيشا قالوا الأمير وأصحابه قال كلا أنعم الناس عيشا رجل في دار لا يجري عليه كراء له زوجة قد قنع بها وقنعت به لا يعرفنا ولا نعرفه إنا إن عرفناه أفسدنا عليه دينه ودنياه وأتعبنا ليله ونهاره
قال عبيد الله بن الحسن العنبري هذا والله كلام من ذهب فمن أحب أن يسمع كلاما من ذهب فليسمع هذا
وعن بعض الحكماء بقدر السمو في الرفعة تكون وحية الوقعة
وقال الأحنف بن الحارث بن معاوية المازني كتب لا تحقر ضعيفا ولا تحسد شريفا
____________________
(1/377)
وعن بعض الحكماء من عرف الناس داراهم ومن جهلهم ماراهم وقال رجل لأبيه ما المروءة قال إذا أنعم عليك شكرت وإذا ابتليت صبرت وإذا قدرت غفرت
ووصف رجل رجلا فقال ظاهره مروءة وباطنه فتوة
وعن علي رضي الله عنه قيمة كل امرئ ما يحسن قال أبو جعفر النحاس هذا إذا تدبر كان فيه أعظم الحكمة لأن الفرق بين الإنسان والبهيمة ما يحسن
وعنه أيضا الفرص تمر مثل السحاب
وعاتب عثمان عليا رضي الله عنهما فقال عثمان ما لك لا تقول فقال إن قلت لم أقل إلا ما تكره وليس لك عندي إلا ما تحب
وعنه أيضا من لانت كلمته وجبت محبته
ورأى بعض أصحابه جزعا فقال عليك بالصبر فبه يأخذ الحازم وإليه يرجع الجزع
وقيل له صف لنا الدنيا فقال أولها عناء وآخرها فناء حلالها حساب وحرامها عذاب من صح فيها أمن ومن مرض فيها ندم ومن استغنى فيها فتن ومن افتقر فيها حزن من ساعاها فاتته ومن قعد عنها أتته ومن نظر إليها أعمته ومن تهاون بها بصرته
وعنه الدنيا دار ممر لا دار مقر الناس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها ورجل باع نفسه فأعتقها
وعنه مثل الدنيا كمثل الحية لين لمسها وفي جوفها السم الناقع يهوي إليها الصبي الجاهل ويحذرها ذو اللب الحاذر وعنه إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه
____________________
(1/378)
فصل في طائفة أخرى من نوابغ الكلم ونوابغ الحكم وكتب البلغاء
قال أبو جعفر النحاس عن الكتاب قال وهم يعيبون تكرير الألفاظ وليس ذلك عند كثير من أهل اللغة كما يذهبون إليه وقد يقع من ذلك التوكيد وغيره
قال بشر بن النعمان إياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقد والتعقد هو الذي يستهلك معانيك ويمنعك مراميك
وممن كان يستعمل حوشي الكلام أبو علقمة النحوي وهذا مستثقل من كل متعمد فأما من لا يتعمده من الفصحاء والمتقدمين فإن ذلك مستحسن منهم
وأنشد عمرو بن بحر
( حمار في الكتابة يدعيها % كدعوى آل حرب من زياد )
( فدع عنك الكتابة لست منها % ولو غرقت ثوبك بالمداد )
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أما بعد فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فما نلت من دنياك فلا تكن به فرحا وما فاتك فلا تأس عليه حزنا وليكن سرورك فيما قدمت وأسفك على ما أخرت وهمك لما بعد الموت
وكتب سالم إلى بعض الولاة أما أنا فمعترف بالتقصير في شكرك عند ذكرك ليس ذاك لتركي إياه في مواضعه ولكن لزيادة حقك على ما يبلغه جهدي وأهدى بعضهم طيبا وكتب الثقة بك سهلت السبيل إليك فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم وأهدى بعضهم إلى المأمون قارورة فيها دهن أترج وكتب إليه إذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت كانت أبلغ وأوصل فإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت كان أجزل لها وأخطر
____________________
(1/379)
وكتب الحسن بن سهل إلى أخ له يعزيه مد الله في عمرك موفورا غير منتقص وممنوحا غير ممتحن ومعطى غير مستلب
وعزى أبو العتاهية الفضل بن الربيع بابنه فقال الحمد لله الذي جعلنا نعزيك عنه ولا نعزيه عنك فدعا بالطعام وقد كان امتنع منه
وكتب بعضهم أطال الله في دوام العز والكرامة بقاءك وأسبغ النعمة مدتك وحاط الدين والمروءة بحفظه دولتك وجعل إلى خير عواقب الأمور عاقبة أمرك وعلى الرشد والتوفيق واقع قولك وفعلك ولا أخلى من السلطان مكانك ومن الرفعة منزلتك
وكتب أيضا وأنا أسأل الله الذي يعلم السر وأخفى راغبا إليه بسريرة يعلم صحتها ونية يشهد على صدقها أن يشفع إحسانه إلي وجميل بلائه لدي بطول بقائك إمتاعي بما وهب لي من ربك على الاستحقاق دون الهوى وتمام شروط الود دون التجاوز والإغضاء
وكتب أيضا أراك الله في وليك ما يسرك به وفي عدوك ما يعطفك عليه
قال أبو جعفر ومن المتقدمين في البلاغة محمد بن مهران الكاتب ولقد كان علي بن سليمان يقول إن رسائله تطربني كما يطربني الغناء فمن مستحسن فصوله ورسائله فصل له يعزيه
ومن صدق نفسه هانت عليه المصائب وعلم أن الباقي تبع للماضي حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وله إلى أبي نجدة الشاعر أما الشعر فلسنا نساجلك فيه ولا نركب مضمارك فيما قل أو كثر منه إلى أن قال لأنا نرى الاعتراف للمبرز فضيلة وغموض حقه نقيصة
وله أيضا قد انقضت أيام أهل الأدب وأفلت نجومهم حتى صاروا غرباء في أوطانهم منقطعي الوصل والوسائل ترتد عنهم الأبصار وتنبو عنهم
____________________
(1/380)
القلوب وإذا شاموا مخيلة مثلك ممن يحسن تألفهم ورفدهم ويرعى وسائلهم ثلجت صدورهم وانبسطت آمالهم وأمسك ذلك بحشاشات قد نهكها سوء بلاء الزمان فزادك الله من فضله وزاد بك
وله أيضا وأنا منتظر من نصر الله عز وجل على هذا الباغي وانتقامه من الظالم ما ليس ببعيد وإن كان قوم مستدرجين بالإمهال فإن وعد الله عز وجل ناجز وهو من وراء كل ظالم
وكتب بعض من ينتسب إلى إيجاز القول وحسن النظم والبلاغة في السجع إلى بعضهم كتابي إليك ليس باستبطاء وإمساكي عنك ليس باستغناء لكنه تذكرة لك وإمساكي ثقة بك
وكتب هذا الرجل إلى المأمون إنك ممن إذا أسس بنى وإذا غرس سقى ليستتم بناء أسه ويجتني ثمار غرسه وأسك في بري قد وهى وقارب الدروس وغرسك في حفظي قد عطش وشارف اليبوس فتدارك ما أسست واسق ما غرست فأمر له بمئة ألف درهم
قال جعفر بن خالد رسائل المرء في كتبه أدل على مقدار عقله وأصدق شاهد على غيبة لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة
كتب رجل إلى أخ له قد كنت أحب أن لا أفتتح مكاتبتك بذكر حاجة إلا أن المودة إذا خلصت سقطت الحشمة واستعملت الدالة
ولآخر إن من صغر الهمة الحسد للصديق على النعمة
وكتب آخر كفاك من القطيعة لي سوء ظنك بي
وكتب آخر قد سبق جميل وعدك إياي ما أنت أهله وتأخر الأمر تأخرا دلني على زهدك في الصنيعة عندي ولولا أن النفس اللجوج تطالبني ببلوغ آخر الأمر لتنصرف عن الطمع بواضح العذر لكان فيما عاينت من التقصير أدل دليل على ضعف العناية ولقد حمدت الله إذ لم أخبر بمسألتي وضمانك أحدا
____________________
(1/381)
فأكون في وقتي هذا إما كاذبا فيما حكيته وإما شاكيا بعد أن عرفت لك شاكرا ولست أنتقل من شكر إلى ذم ولا أرغب من خلق علي إلى خلق دني فيسر حسود ويساء ودود ولكني أركب طريقا بين شكرك على ما يسره المقدار على يدك وبين عذرك على ما عسره عليك غير مخلف ولا مجحف
ولغيره فإن الله بحمده نزه الإسلام عن كل قبيحة وأكرمه عن كل رذيلة ورفعه عن كل دنيئة وشرفه بكل فضيلة وجعل سيما أهله الوقار والسكينة
وكتب آخر قد أغنى الله عز وجل بكرمك عن ذريعة إليك وما تنازعني نفسي إلى استعانة عليك إلا أبى ذلك حسن الظن بك وتأميل نجح الرغبة إليك دون الشفاعة عندك
ولغيره حتى إذا نزل الجمعان تبرأ الشيطان من حزبه وأزهق الله باطلهم بحقه وجعل الفتح والظفر لأولى الحزبين به وبذلك جرت سنة الله عز وجل في الماضين من خلقه وبذلك وعد من تمسك بأمره وطاعته
ولغيره أما بعد فإن أولى نعمة تشكر سلامة شملت عز فيها الحق فوقع موقعه وذل الباطل فقمع أشياعه وتقلب في سربها وأمنها خاصة وعامة وانبسط في تأميل فضلها وعاقدتها رعية حاضرة وقاصية
وكتب آخر كتبت وأنا ذو صبابة توهي قوى الصبر إلى لقائك واستراحة ليس إلا إلى طيب أخبارك منتهاها
وكتب آخر كتبت عن سلامة ووحشة لفراقك وبعد البلد الذي يجمع السادة والإخوان والأهل والجيران على حسب الأمر كان بمكاني فيه والسرور به ولكن المقدار يجري فينصرف معه وقع ذلك بالهوى أو خالفه ولئن كانت هذه حالي في الوحشة إن أكثر ذلك وأوفره لفراقك وما بعدنا عنه من الأنس بك فأسأل الله أن يهب لنا اجتماعا عاجلا في سلامة من الأبدان والأديان وغبطة من الحال وغنى عن المطالب برحمته وله كتابي والله عز وجل يعلم وحشتي ولا أوحشك الله من نعمة ولا فرق بينك وبين عافيته وكان مما زاد
____________________
(1/382)
في الوحشة أنها جاوزت الأمل المتمكن في الأنس بقرب الدار وتداني المزار نحمد الله على نعمه ونستديمه لنا فيك أجمل بلائه ونسأله أن لا يخلينا وإياك من شكره ومزيده ولو كتبت في كل يوم كتابا بل لو شخصت نحوك قاصدا لكان ذلك دون الحق لك ولكني عالق بما تعلمه من العمل وأكره أن أتابع كتبي وأسلك سبيلا من الثقل فأنا واقف بمنزلة متوسطة أرجو أن أسلم من الجفاء والإبرام وأنا وإن أبقيته عليك من الزيادة في شغلك فلست بممتنع من سؤالك التطول بتعريفي جملة من خبرك أسكن إليها وأعتد بالنعمة فيها وأحمد الله عليها
وكتب آخر أما بعد فإن من قضى الحاجات لإخوانه واستوجب الشكر عليهم فلنفسه عمل لا لهم لأن المعروف إذا وضع عند من شكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده أو لعقبه من بعده
وكتب آخر لا تتركني معلقا بحاجتي فالصبر الجميل خير من المطل الطويل تعزيه
إذا استوى المعزي والمعزى في النائبة استغنى عن الإكثار في الوصف لموضع الرزية وكان ظهوره يغني عن التنبيه عليه وإنا لله وإنا إليه راجعون إقرارا بالملك له واعترافا بالمرجع إليه وتسليما لقضائه ورضا بمواقع أقداره وأسأل الله أن يصلي على محمد صلوات متصلة بركاتها وأن يوفق لما يرضيه عنك قولا وفعلا حتى يكمل لك ثواب الصابرين المحتسبين وأجر المطيع الممتحن للوعد فرحم الله فلانا وأنزله منازل أوليائه الذين يرضى سعيهم ويطول بفضله عليهم إنه ولي قدير
وكتب آخر إن الله عز وجل بتمكينه إياك في النعمة وإعلائه يدك بالقدرة وصل بك آمال المؤملين وخص بجميل الحظ منك أهل المروءة والدين وقد حللنا بفنائك وأملنا حسن عائدتك ورجونا أن تودعنا من معروفك ما تجد
____________________
(1/383)
عندنا شكره والوفاء بما تسدي إلينا منه وأنت بين صنيعة مشكورة ومثوبة مذخورة فإن رأيت أن تصغي إلينا بكرمك وتخلطنا بعددك وتجعل لنا من لحظات برك بحيث يشملنا فضلك ويسعنا طولك فعلت إن شاء الله انتهى ما ذكره أبو جعفر النحاس فصل يتعلق بالمكاتبة
وينبغي في المكاتبة تحري طريق السلف وما قاربها فأما ما أحدثه الكتاب من تقبيل اليد أو الكف أو القدم أو الباسطة أو الباسط ونحو ذلك فإن ذلك غير محرم لا سيما إن كان في أمر ديني أو ترتب على تركه مفسدة أعظم منه
فأما تقبيل الأرض فيتلطف في تركها مطلقا حسب الإمكان وإن أتى بها فينبغي أن يقرن بذلك نية وتأويلا كما في لفظ الإتيان بالعبد أو العبد الأصغر أو العبد الرق أو المملوك أو الخادم ونحو ذلك
وقد رأيت بخط الشيخ أبي الفرج بن الجوزي كتاب سيرة الخلفاء كأنه صنعه لبعض الخلفاء أو لبعض الأكابر وقال في آخره فرغ من تصنيفه العبد في خمسة أيام وهو يقبل الأرض بسمعه وبصره أو بوجهه ويده ونحو ذلك
فأما المكاتبة بمثل هذا إلى الكفار فينبغي الجزم بأنه لا يجوز وقد رأيت من يفعله من المسلمين معهم ولكن ليس هو ممن يعتد به في علم ولا عمل ورأيت من حال من يعتد به من أصحابنا العلماء الأخيار أنه ينظر إلى مفسدة هذا وما يشبهه وما يترتب عليه من حصول المصلحة أو دفع المفسدة لأن الشارع ينظر في درء أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما وهذا فيه تسهيل وقد يحتاج إليه في مثل هذه الأزمان والاحتياط الكف عن ذلك والتلطف بالقول والعمل إلى سلوك طريق الشرع وما يقاربها والله تعالى أعلم
وذكر أبو جعفر أنهم كرهوا أن يقال عبدك ويا مولاي ومنهم من كره أن يقال يا سيدي وأجاز هذا بعضهم قال أبو جعفر والقول في هذا أنه لا يجوز أن يقال لمنافق ولا كافر ولا فاسق يا سيدي ويقال لغيرهم واحتج
____________________
(1/384)
بأخبار تأتي في المدح في الوجه قبل فصول اللباس
قال وينبغي أن لا يرضى أحد أن يخاطب يا سيدي وأن ينكر ذلك كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السيد الله أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري وإسناده صحيح
انتهى كلامه
وعن الحسن سمعت أبا بكرة يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي
رواه البخاري
وعن أبي هريرة مرفوعا لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي فكلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي وفي رواية ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي وفي رواية لا يقل العبد لسيده مولاي فإن مولاكم الله عز وجل أخرجه مسلم
وعنه أيضا مرفوعا لا يقولن أحدكم اسق ربك أطعم ربك وضيء ربك وليقل سيدي مولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي أخرجه البخاري ومسلم
روى ذلك مسلم وروى البخاري الخبر الأخير
وفي الصحاح في أشراط الساعة قول النبي صلى الله عليه وسلم أن تلد الأمة ربتها أو ربها أخرجه البخاري ومسلم
فقيل هذا يدل على أن النهي للتنزيه وقيل النهي عن كثرة استعمالها لا في النادر والنهي عن لفظ الأمة والعبد للكراهة جزم به في شرح مسلم
____________________
(1/385)
وجزم أيضا بأنه لا بأس بسيدي وذكر ما في الصحاح من قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار قوموا إلى سيدكم أخرجه البخاري ومسلم
يعني سعد بن معاذ وقوله اسمعوا ما يقول سيدكم أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه
يعني سعد بن عبادة
ونقل القاضي عن مالك أنه كره دعاء الله بسيدي ويأتي استعمال ذلك في كراهة المدح
وقال أبو جعفر النحاس أيضا لا نعلم بين العلماء خلافا أنه لا ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك ولا عبدي وإن كان مملوكا وقد حظر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على المملوكين فكيف الأحرار كذا قال
وجزم في شرح مسلم وغيره بأنه لا بأس بمولاي وأن النهي من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة واختلف الرواة عن الأعمش وحذفها أصح انتهى كلامه ثم هي لترك الأولى جمعا بينه وبين الإذن في استعمالها
وفي الصحيحين ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين عبد أدى حق الله وحق مواليه أخرجه بنحوه البخاري ومسلم
ومن انتمى إلى غير مواليه بغير إذنهم فعليه لعنة الله قطعه من حديث رواه البخاري ومسلم
ويأتي في الاستئذان هل يكني الرجل نفسه قال أبو جعفر النحاس ويكتب من أخيه إن كانت الحال بينهما توجب ذلك ودونه من وليه قال ومحظور أن يكتب من عبده وإن كان الكاتب غلامه
والمستعمل في أول الكتاب سلام لأنه لم يتقدمه معرفة وفي آخر الكتاب والسلام عليك لأنه مشار به إلى الأولى وما ذكره متجه وكذا كان يكتب عمر وغيره أول الكتاب سلام عليك
____________________
(1/386)
فصل مذهب عامة العلماء ألا يبدأ أهل الذمة بالسلام
ولا يجوز بداءة أهل الذمة بالسلام هذا هو الذي عليه عامة العلماء سلفا وخلفا لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بداءتهم بالسلام وذلك في الصحيحين وغيرهما رواه مسلم ولم يخرجه البخاري
قال أحمد في رواية أبي داود وسئل عمن يبتدئ الذمي بالسلام إذا كانت حاجته إليه قال لا يعجبني وقال في رواية أبي الحارث وسأله قال مررت بقوم جلوس وفيهم نصراني أسلم عليهم قال سلم عليهم ولا تنوه
وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه أخلاط من اليهود فسلم عليهم أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي
وقال أحمد بن الحسين سئل أبو عبد الله عن رجل له قرابة ذمي أيسلم عليه قال لا يبدؤه بالسلام يقول ابدراتم ولا يبدأ بالسلام وكذا نقل إسماعيل بن إسحاق قال سئل أحمد بن حنبل عن رجل له قرابات مجوس من أهل الذمة يدخل عليهم أيسلم عليهم قال لا فقيل له كيف يقول قال يقول ابدراتم ولا يبدأ بالسلام
قال الشيخ تقي الدين فقد نهى عن الابتداء مطلقا ورخص عند قدوم المسلم أن يحيى بمثل ابدراتم
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم وهو وجه لبعض الشافعية وذهب بعض العلماء إلى جوازه للحاجة
وذكر بعض أصحابنا المتأخرين احتمالا رأيته بخط القاضي تقي الدين الزيداني البغدادي وسبق قول أحمد لا يعجبني
____________________
(1/387)
ولأصحابنا وجهان في هذا اللفظ هل يحمل على التحريم أو الكراهة قال ابن عبد البر قيل لمحمد بن كعب القرظي إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة بالسلام قال يرد عليهم ولا يبدؤهم بالسلام فقال له لم فقال لقوله عز وجل { فاصفح عنهم وقل سلام } كذا قال وهو غريب
قال السدي قال خيرا بدلا من شرهم
وقال مقاتل أردد عليهم معروفا
وقال بعضهم قل ما تسلم به من شرهم
وتأول ابن عبد البر النهي عن بداءتهم عن أن معناه ليس عليكم أن تبدؤوهم قال بدليل ما روى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم قال رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمي ويقول هي تحية لأهل ملتنا واسم من أسماء الله نفشيه بيننا قال ومحال أن يخالف أبو أمامة السنة في ذلك كذا قال وأبو أمامة إن صح ذلك عنه فقد خالفه غيره بلا شك والنهي ظاهر في التحريم والأصل عدم الإضمار وفي تتمة الخبر وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها وهذا السياق يقتضي النهي وقد خالف ابن عبد البر مالكا في هذه المسألة والله أعلم ولأن في ذلك ودا ولطفا وقد أمر الله بمجاهدتهم والغلظة عليهم وكذلك نهى الله تعالى عن موالاتهم ومودتهم كما يأتي الكلام عليه في آخر الكتاب ومن ذلك مواكلتهم
قال ابن عبد البر وروى ابن المبارك عن شريك عن أبي إسحاق كان يقال من الجفاء أن تواكل غير أهل دينك فأما إن خاف من ذلك على نفس أو
____________________
(1/388)
مال فإنه يجوز أو يستحب أو يجب نظرا إلى ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما فأما الحاجة إليه يسهل تركها بلا مشقة مثل كثير من حوائج الدنيا المعتادة فهذا والله أعلم الذي أراد أحمد في رواية أبي داود وكلامه فيه متردد بين التحريم والكراهة وظاهر كلام الأصحاب التحريم والمسألة فيه محتملة فأما الحاجة بالمعنى الأول فتبعد إرادته كما يبعد المنع منه والله تعالى أعلم
فإن سلم أحدهم وجب الرد عليه عند أصحابنا وعند عامة العلماء لصحة الأحاديث عنه صلى الله عليه السلام بالأمر بالرد وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك وصفة الرد عليكم أو وعليكم أخرجه البخاري ومسلم
بحذف الواو وإثباتها
صحت هذه الألفاظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واختار أصحابنا الواو وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد حذفها قطع به قال القاضي عياض اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف الواو لئلا تقتضي التشريك
وقال غيره بإثباتها كما هو في أكثر الروايات
وقال الخطابي عامة المحدثين يروونه وعليكم بالواو وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو وهو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم فإدخال الواو يوجب الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو للعطف والجمع بين الشيئين
وقال غيره الواو أجود كما هو في أكثر الروايات ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم
وقيل الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وقوله وعليكم ما يستحقونه من الذم ولا يجوز الزيادة على ذلك نص عليه
____________________
(1/389)
وللشافعية وجه يجوز أن يقال وعليكم السلام
وقال بعض العلماء يقول عليكم السلام بكسر السين وهي الحجارة وذكر في آخر الرعاية أنه إذا كسر سين السلام وهي حجارة رد عليه مثله وذكره ابن أبي موسى والأول أولى عملا بالأحاديث الواردة فيه
وقال الشيخ تقي الدين إذا سلم الذمي على المسلم فإنه يرد عليه مثل تحيته وإن قال أهلا وسهلا فلا بأس كذا قال وجزم في مواضع آخر بمثل قول الأصحاب وسلم أحمد على ذمي ولم يعلم أنه ذمي وذكر بعض أصحابنا أنه يقول له رد علي سلامي فعله ابن عمر فصل السلام والدعاء لأهل الذمة ومصافحتهم
قيل للإمام أحمد رضي الله عنه نعامل اليهود والنصارى ونأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون أسلم عليهم قال نعم تنوي السلام على المسلمين فيؤخذ منه وجوب النية لذلك وسبق في الفصل قبله يسلم عليهم ولا ينويه فيؤخذ منه أن هذه النية لا تجب لكن لا ينوي السلام عليه وهاتان الروايتان هما نظير الروايتين فيمن حلف لا يسلم على رجل فسلم على قوم هو فيهم هل يحنث إن لم ينو إخراجه أو يحنث إن قصده فقط
وسئل أحمد عن مصافحة أهل الذمة فكرهه
وروى أبو حفص حديث أبي هريرة في النهي عن مصافحتهم وابتدائهم بالسلام وقال له أبو داود يكره أن يقول الرجل للذمي كيف أصبحت أو كيف أنت أو كيف حالك قال أكرهه قال هذا عندي أكبر من السلام
وقال الشيخ وجيه الدين من أصحابنا في شرح الهداية أهل الذمة لا تبدأهم بالسلام ويجوز أن يحييهم هداك الله وأطال الله بقاءك ونحوه وكذا قال بعض الشافعية واختار بعضهم أنه يقول ذلك للحاجة فقط
ولم يصرح أصحابنا بخلاف قول الشيخ تقي الدين لكن ذكروا قول أحمد
____________________
(1/390)
رحمه الله في كيف أصبحت ونحوه واقتصروا عليه فيحتمل أن يؤخذ منه منع غيره كالسلام ويحتمل جواز منع الدعاء بالبقاء ونحوه إلا بنية الجزية أو الإسلام أو الإخبار بالواقع وهذا قد يقال هو نظير نص أحمد في أكرمك الله ينوي الإسلام فيكون هو مذهبه فيهما ويحتمل مع الحاجة فقط وأما الدعاء بالهداية ونحوها فهذا جوازه واضح
وقال الشيخ تقي الدين إن خاطبه بكلام غير السلام مما يؤنسه به فلا بأس بذلك
وقال صاحب المحيط من الحنفية إن نوى بقلبه أن الله يطيل بقاءه لعله يسلم أو يؤدي الجزية عن ذل وصغار فلا بأس به لأنه دعا له بالإسلام في الأول وفي الثاني منفعة للمسلمين وإن لم ينو شيئا لا يجوز قال ولو قال للذمي أرشدك الله أو هداك الله فحسن
وقال إبراهيم الحربي سئل أحمد بن حنبل عن الرجل المسلم يقول للرجل النصراني أكرمك الله قال نعم يقول أكرمك الله يعني بالإسلام
ويتوجه فيه ما سبق من الدعاء بالبقاء أو أنه كالدعاء بالهداية ويشبه هذا أعزك الله وذكر أبو جعفر النحاس عن الشافعي أنه قاله لنصراني وأنه عوتب فقال أخذته من عز الشيء إذا قل
قال أحمد بن القاسم الطوسي كان أحمد بن حنبل إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه فقيل له في ذلك فقال لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه
وقال ابن هبيرة في الحديث الرابع من حديث أبي موسى وروي عن أحمد بن حنبل أنه كان إذا رأى يهوديا أو نصرانيا غمض عينيه ويقول لا تأخذوا
____________________
(1/391)
عني هذا فإني لم أجده عن أحد ممن تقدم ولكني لا أستطيع أن أرى من كذب على الله وكنى أحمد نصرانيا واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل عمر رضي الله عنه فصل من يبدأ بالسلام وتبليغه بالكتاب وحكم الجواب
يسن أن يسلم الصغير على الكبير والماشي على الجالس ويسلم الراكب عليهما لخبر أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري ومسلم
في ذلك وهو متفق عليه خلا ذكر الصغير على الكبير فإنه انفرد به البخاري
وذكر صاحب النظم ذلك كما ذكره الأصحاب ثم قال وإن سلم المأمور بالرد منهم فقد حصل المسنون إذ هو مبتدئ وظاهر هذا أو صريحه أنه إذا بدأ بالسلام من قلنا يبدأ غيره أنه تحصل السنة بسلامه ويكون مبتدئا وهذا خلاف ظاهر كلامه السابق وكلام الأصحاب والأخبار ويكون فهم من كلام الأصحاب والأخبار أن ذلك كمال السنة وأفضلها وهذا يقتضي أن غيره سنة مفضولة بالنسبة لاشتراكهما في الأمر بإفشاء السلام وامتياز أحدهما وهذا محتمل
____________________
(1/392)
وقد قال في شرح مسلم كما جاء في الأخبار للاستحباب قال ولو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل قال وقد يكون مراده أنه يأتي بالجواب بصيغة الابتداء كما تأتي المسألة لكن فكيف يقول حصل المسنون وإنما حصل المفروض ويقول إذ هو مبتدئ إنما يكون مجيبا والله أعلم
قال ابن هبيرة من سلم على رجل فقد أمنه فالفارس أقوى من الراجل فأمر صلى الله عليه السلام بسلام الأقوى على الأضعف وسلام القليل على الكثير أقل حرجا ولو سلم الغائب على العين من وراء جدار أو ستر السلام عليك يا فلان أو سلم الغائب عن البلد برسالته أو كتابه وجبت الإجابة عند البلاغ عندنا وعند الشافعية لأن تحية الغائب كذلك
ويستحب أن يسلم على الرسول قيل لأحمد إن فلانا يقرئك السلام قال عليك وعليه السلام
وقال في موضع آخر وعليك وعليه السلام وقال وكذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل أبي يقرئك السلام قال عليك وعلى أبيك السلام أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن السني والبيهقي وإسناده ضعيف
وقال الخلال أخبرني يوسف بن أبي موسى قيل لأبي عبد الله إن فلانا يقرئك السلام قال سلم الله عليك وعليه وهو معنى ما سبق عندنا ولهذا يجب رد السلام
وقال ابن عبد البر قال رجل لأبي ذر فلان يقرئك السلام فقال هدية حسنة ومحمل خفيف
قال الشافعية ويستحب بعث السلام ويجب على الرسول تبليغه وهذا ينبغي أن يجب إذا تحمله لأنه مأمور بأداء الأمانة وإلا فلا يجب وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائش هذا جبريل
____________________
(1/393)
يقرأ عليك السلام أخرجه البخاري ومسلم
فقالت وعليه السلام ورحمة الله
زاد البخاري في رواية وبركاته زاد أحمد جزاه الله خيرا من صاحب ودخيل فنعم الصاحب ونعم الدخيل فيه دليل على أنه لا يجب الرد على مبلغ السلام وهو الرسول وفيه ترخيم المنادى ويجوز فتح آخره وهو الشين هنا وضمه ومعنى يقرأ عليك السلام يسلم عليك قال في شرح مسلم وفيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة
وعن أبي هريرة قال أتى جبريل صلى الله عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب أخرجه البخاري ومسلم
متفق عليه
ولأحمد ومسلم فاقرأ عليها السلام من ربها ومني
وليس في الحديث سوى هذا وكأنه اختصر إبلاغه لها ذلك وردها الجواب مع أني لم أجد من صرح بوجوب رد سلام الملك ووجوب الرد منه
وليس رد سلام الله تعالى كرد سلام جبريل عليه السلام ولهذا لما كانوا يقولون في الصلاة قبل الأمر بالتشهد السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان وفلان فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن حبان
الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والداقطني من حديث ابن مسعود فنهى صلى الله عليه السلام عن السلام على الله لأن الله هو السلام ولم ينه عن السلام على غيره
وأظن أن في غريب ما روي أن خديجة رضي الله عنها لما قيل لها قالت الله السلام ومنه السلام وهذا كما في الخبر الصحيح المشهور
____________________
(1/394)
أنه صلى الله عليه السلام كان يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان
وقال ابن الأثير في قرأ وفيه إن الرب عز وجل يقرئك السلام يقال أقرئ فلانا السلام واقرأ عليه السلام كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ عليه السلام ويرده وإذا قرأ الرجل القرآن أو الحديث على الشيخ يقول أقرأني فلان أي حملني على أن أقرأ عليه وقد تكرر في الحديث انتهى كلامه
وعن ابن عباس قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي ما أحجك عليه فقالت أحججني على جملك فلان قال ذلك حبيس في سبيل الله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك فقالت أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما عندي ما أحجك عليه قالت أحججني على جملك فلان فقلت ذلك حبيس في سبيل الله فقال أما أنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله
وإنما أمرتني ما تعدل حجة معك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة يعني عمرة في رمضان
رواه أبو داود أخرجه أبو داود وابن خزيمة وإسناده حسن
ويسلم من انصرف بحضرة أحد أو أتى أهله أو غيرهم أو دخل بيتا مسكونا له أو لغيره أو خرج منه أو لقي صبيا أو رجلا وإن لم يعرفه وقد سبق بعض ذلك للأخبار في ذلك منها
ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام
____________________
(1/395)
على من عرفت ومن لم تعرف أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن حبان
وكان ابن عمر يدخل إلى السوق فلا يمر بأحد إلا سلم عليه فقال له الطفيل بن أبي بن كعب ما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل على السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق فقال يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن إنما نغدو من أجل السلام ونسلم على من لقينا رواه مالك في الموطأ أخرجه في الموطأ
ويأتي بالقرب من نصف الكتاب قول ابن مسعود إن من التواضع أن تسلم على من لقيت
ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم أخرجه مسلم
ولعل المراد من السلام على من عرفه ومن لم يعرف أنه يكثر منه ويفشيه ويشيعه لا أنه يسلم على كل من رآه فإن هذا في السوق ونحوه يستهجن عادة وعرفا ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بمثل هذه المحافظة والمواظبة عليه لشاع وتواتر ونقله الجم الغفير خلفا عن سلف والله أعلم روى ابن ماجه عن عائشة مرفوعا ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين أخرجه ابن ماجه وسنده صحيح
وقال الشاعر
( قد يمكث الناس دهرا ليس بينهم % ود فيزرعه التسليم واللطف )
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم
____________________
(1/396)
عليهم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك رواه الترمذي وإسناده ضعيف
وقال حسن غريب
وقال ابن حمدان إن سلم بالغ على بالغ وصبي رده البالغ ولم يكف رد الصبي وكذا في شرح الهداية لأبي المعالي بناء على أن فرض الكفاية لا يحصل به ويتوجه أن يخرج من الاكتفاء بأذانه وصلاته على الجنازة قال أبو المعالي والسلام على الصبي لا يستحق جوابا لعدم أهليته للجواب والأمر به كذا قال ويتوجه أن يستحق الجواب ويرده الصبي لكنه لا يجب عليه
وسبق كلامهم أنه يسلم عليه وكيف يشرع السلام على من لا يرده وكيف يجب رد سلام من ليس أهلا لرده ولعل مراد أبي المعالي لا يستحق جوابا على طريق الوجوب لأنه ليس من أهله
وقد قال أبو المعالي فإن سلم صبي على بالغين فوجهان في وجوب الرد مخرجان من صحة إسلامه وعلى هذا المراد من قولهم يسلم على الصبي أي المميز وإلا فلا يسلم على من لا عقل له ولا تمييز كالمجنون لأنه إذا لم يشرع السلام على من لا يشرع منه الرد لعارض فهنا مثله وأولى
ويتوجه على كلام أبي المعالي يشرع ويرد عليه المجنون وقد يلتزمه لأنه دعاء
ومن سلم على جماعة في دخوله أعاده في خروجه وهو قول الشافعية وقطع به ابن عقيل وهو معنى كلام القاضي والشيخ عبد القادر وغيرهما وقد تقدم نص أحمد قال ابن عقيل والدخول آكد استحبابا
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا وإسناده جيد إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه
____________________
(1/397)
فليسلم عليه أخرجه أبو داود موقوفا ومرفوعا وإسناد الموقوف فيه جهالة والمرفوع حسن الإسناد
وكلامه في الرعاية في هذه المسألة فيه نظر وحاصله أنه تقدم أنه لا يعيد السلام ثانيا وقيل بلى ومن دخل بيتا خاليا سلم على نفسه وعلى الملائكة ورد هو السلام على نفسه ولم يذكر غيره ويعايا بهذه المسألة أن المسلم هو يرد السلام
ويتوجه منه تخريج فيمن عطس وليس بحضرته أحد أنه يرد على نفسه كما يأتي وظاهر كلام بعضهم أنه إذا دخل بيتا مسكونا يسلم لا خاليا واختاره ابن العربي المالكي
وروى سعيد بإسناد جيد عن نافع عن ابن عمر كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ولم يرد ابن عمر السلام على نفسه أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده لا بأس به
وقال الشيخ وجيه الدين في شرح الهداية إذا دخل بيتا خاليا أو مسجدا خاليا فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لقوله تعالى { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } كذا قال
وقال ابن الجوزي في الآية أقوال قيل بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم وقيل المساجد فسلموا على من فيها وقيل المعنى إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم وقال كقول الشيخ وجيه الدين من قال من المالكية والشافعية وذكره القرطبي في تفسير الآية عن ابن عباس وجابر وعطاء
وإن دخل على جماعة فيهم علماء سلم على الكل ثم سلم على العلماء
____________________
(1/398)
سلاما ثانيا ذكره ابن تميم وابن حمدان وظاهر كلام بعضهم خلافه ويتوجه كما ذكر القريب والصالح ونحوهما
ويجوز تعريف السلام بالألف واللام وتنكيره على الأحياء والأموات نص عليه وقدمه في الرعاية وغيرها
وقيل تنكيره أفضل
وقال ابن البنا سلام التحية منكر وسلام الوداع معرف
وقال ابن عقيل سلام الأحياء منكر وسلام الأموات معرف كذلك روي عن عائشة رضي الله عنها
وقيل عكسه أما سلام الرد فمعرف وجعله صاحب النظم أصلا في المسألة فدل أن تعريفه للاستحباب وهو واضح
وعن أبي جري الهجيمي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت عليك السلام يا رسول الله قال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وإسناده حسن
إسناده جيد رواه أبو داود وترجم عليه باب كراهية أن يقول عليك السلام ورواه الترمذي وقال حسن صحيح
وقال بعض الشافعية يكره أن يبتدئ بهذا قال بعضهم ويجب الرد لأنه سلام
وقد روى أبو داود في الخبر المذكور إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم رد على النبي صلى الله عليه وسلم قال وعليك ورحمة الله فهذا من كلام أبي داود وهو من أصحابنا يدل على كراهة الابتداء به
ويجاب لكن لا على الوجوب لعدم دليله لأنها ليست بتحية شرعية وردها النبي صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لا يكره الرد أو استحبابا لكن في حق من لا يعرف
____________________
(1/399)
لا مطلقا ويأتي في الفصل بعده كلام أبي المعالي
وقال أبو البركات إنما قال ذلك إشارة منه إلى ما جرت به عادة العرب بينهم في تحية الأموات كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور كثير في أشعارهم كقول الشاعر
( عليك سلام الله قيس بن عاصم % ورحمته ما شاء أن يترحما )
قال في النهاية وإنما فعلوا ذلك لأن المسلم على القوم يتوقع الجواب وأن يقال له عليك السلام فلما كان الميت لا يتوقع منه جواب جعلوا السلام عليه كالجواب وقيل أراد بالموتى كفار الجاهلية قال وهذا في الدعاء بالخير والمدح فأما في الشر والذم فيقدم الضمير كقوله تعالى { وإن عليك لعنتي }
وقوله ( عليهم دائرة السوء )
وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر مر بعبد الله بن الزبير وهو بعقبة بمكة وهو مقتول فقال السلام عليك أبا خبيب وكرره ثلاثا أخرجه مسلم
قال في شرح مسلم فيه استحباب السلام على الميت في قبره ثلاثا كما كرره ابن عمر انتهى كلامه
ولم يذكر أصحابنا هذا السلام في حق الميت بل ذكروا كما في الأخبار ولا شك أنها أولى ولم يذكروا أيضا تكراره ولعل هذا رأي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع أنه قد ورد تكراره في المهاجرين وقد تقدم
وللبخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجة قال فأتيته فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي ما الله أعلم به فقلت في نفسي لعله وجد علي أن أبطأت عليه ثم سلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى ثم سلمت عليه فرد علي وقال إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي أخرجه البخاري
وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة
____________________
(1/400)
ولمسلم أنه أومأ بيده
وفي هذا الخبر وغيره أنه يستحب لمن منعه من رد السلام مانع أن يعتذر إلى المسلم ويذكر المانع له وكذا نظائره
وروى سعيد حدثنا أبو شهاب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال إن السلام اسم من أسماء الله وضع في الأرض فأفشوه بينكم فإن العبد إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة أنه ذكرهم السلام وإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب أخرجه البزار والطبراني
وقال أبو داود باب في فضل من بدأ بالسلام حدثنا محمد بن يحيى الذهلي حدثنا أبو عاصم عن أبي خالد وهب عن أبي سفيان الحمصي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولى الناس من بدأهم بالسلام أخرجه أبو داود وأحمد وإسناده جيد كما قال في المصنف
حديث جيد وأبو عاصم الضحاك بن مخلد وأبو خالد وهب بن خالد وأبو سفيان محمد بن زياد الألهاني
ورواه الترمذي من طرق ضعيفة وحسنه ورواه أحمد فصل في فروع السلام ورده باللفظ وبالإشارة
إذا التقيا فكل واحد منهما بدأ صاحبه بالسلام فعلى كل واحد منهما الإجابة ذكره الشيخ وجيه الدين في شرح الهداية وهو قول بعض الشافعية
وقال الشاشي منهم إذا كان أحدهما بعد الآخر كان جوابا قال النووي وهذا هو الصواب
وما قاله صحيح وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب كما هو ظاهر الآية
____________________
(1/401)
وقد سبق كلام صاحب المحرر وصاحب النظم
قال وجيه الدين وبعض الشافعية ولو قال كل واحد منهما لصاحبه وعليكم السلام ابتداء لا جوابا لم يستحق الجواب لأن هذه صيغة جواب فلا يستحق جوابا ولو سلم على أصم جمع بين اللفظ والإشارة فإن لم يجمع لم يجب الجواب فإن سلم عليه أصم جمع بين اللفظ والإشارة في الرد والجواب
فأما الأخرس فسلامه بالإشارة وكذلك جواب الأخرس ويؤخذ من المسألة قبلها أن من سلم على أخرس أو رد سلامه جمع بين اللفظ والإشارة وهو متوجه والواجب منه رفع الصوت به قدر الإبلاغ وقد ورد ما يدل على خلاف هذا
قال قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال السلام عليكم ورحمة الله أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي وإسناده منقطع
فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذره ثم ذكر كلمة معناها يكثر علينا من السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه سعد فقال يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام وذكر تمام الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي فوجه منه أنه اكتفى صلى الله عليه وسلم برد سعد هذا حيث لم يأمره برد يسمعه ولم ينكر عليه هذا الرد وينبغي في هذا أن ينظر إلى الحال فإن افضى الرد بهذه الصفة إلى مفسدة تعين ما قال الأصحاب
وقد روى أحمد عن حارثة بن النعمان قال مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه
____________________
(1/402)
جبريل جالس في المقاعد فسلمت عليه ثم أجزت فلما رجعت وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال هل رأيت الذي كان معي قلت نعم قال فإنه جبريل وقد رد عليك السلام أخرجه أحمد وعبد بن حميد والطبراني وصححه ابن حجر
وينبغي أن لا يرفع صوته بالسلام بلا فائدة وربما آذى وقد روى مسلم من حديث المقداد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان أخرجه مسلم والترمذي
قال المروذي إن أبا عبد الله لما اشتد به المرض كان ربما أذن للناس فيدخلون عليه أفواجا أفواجا فيسلمون عليه فيرد عليهم بيده
واختلف في معنى السلام فقال بعضهم هو اسم من أسماء الله تعالى وهو نص أحمد في رواية أبي داود وسيأتي فقوله السلام عليك أي اسم الله عليك ومعنى اسم الله عليك أي أنت في حفظه كما يقال الله يصحبك والله معك وقال بعضهم السلام بمعنى السلامة أي السلامة ملازمة لك فصل في قول كيف أمسيت كيف أصبحت بدلا من السلام
قال الإمام أحمد رضي الله عنه لصدقة وهم في جنازة يا أبا محمد كيف أمسيت فقال له مساك الله بالخير
وقال أيضا للمروذي وقت السحر كيف أصبحت يا أبا بكر وقال إن أهل مكة يقولون إذا مضى من الليل يريد بعد النوم كيف أصبحت فقال له المروذي صبحك الله بخير يا أبا عبد الله
وظاهر هذا أنه اكتفى به بدلا من السلام وترجم عليه الخلال قوله في السلام كيف أصبحت
____________________
(1/403)
وروى عبد الله بن أحمد عن الحسن مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الصفة كيف أصبحتم
وروى ابن ماجه بإسناد لين من حديث أبي أسيد الساعدي أنه عليه السلام دخل على العباس فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته قال كيف أصبحتم قالوا بخير نحمد الله كيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله قال أصبحت بخير أحمد الله أخرجه ابن ماجه وقال البوصيري هذا إسناد ضعيف
وروى أيضا عن جابر قال قلت كيف أصبحت يا رسول الله قال بخير من رجل لم يصبح صائما ولم يعد سقيما أخرجه ابن ماجه وضعف البوصيري إسناده
وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف
وفي حواشي تعليق القاضي الكبير عند كتاب النذور روى أبو بكر البرقاني بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو لقيت رجلا فقال بارك الله فيك لقلت وفيك فقد ظهر من ذلك الاكتفاء بنحو كيف أصبحت وكيف أمسيت بدلا من السلام وأنه يرد على المبتدئ بذلك وإن كان السلام وجوابه أفضل وأكمل
وقد استحب ابن الجوزي القيام لمن يصلح القيام له لما صار ترك القيام كالإهوان بالشخص
واستحب ابن عقيل وغيره الدعاء للمتجشئ إذا حمد الله وقال إنه لا سنة فيه بل هو عادة موضوعة
ومعلوم أن مسألتنا لو لم يكن فيها سنة كانت كذلك أو أولى لشهرة
____________________
(1/404)
الاستعمال هنا من غير نكير فأما مع السنة السابقة واللاحقة والاستعمال المتقدم فالأمر واضح ثم هل يجب رد ذلك يتوجه أن يقال ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة أنه لا يجب فإنهم خصوا الوجوب برد السلام لأن الأمر برد السلام وإفشائه يخصه فلا يتعداه
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام قال له اذهب إلى أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله
فظاهر هذا الخبر الصحيح أن الاقتصار على ما سوى هذا ليس بتحية شرعية ويتوجه أن يقال ظاهر تسوية الإمام أحمد رحمه الله بين ذلك وبين السلام على الذمي في المنع أنه يجب رده لأنه في معناه من التحية والدعاء والإكرام أو أولى كما سبق كلام الإمام أحمد في ذلك وهذا أخص من مأخذ عدم الوجوب مما سبق وقد ذكره الأصحاب وعملوا به فكان أولى وقد قال تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها }
ومثل هذا تحية لوروده في كلام الشارع وحملة الشرع ولأن العرف جار بذلك والأصل التقرير وعدم التغيير على ما ذكر العلماء إلا أن يظهر خلافه وقد قال بعض المفسرين المراد بالآية السلام والدعاء وقد قال تعالى { ويل للمطففين }
قال مقاتل وعمرو بن مرة ترك المكافأة من التطفيف ورواه أحمد عن عمرو بن مرة ولم ينص أحمد رحمه الله على ما يخالفه وقد قال عليه السلام من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والحاكم وإسناده صحيح وإخراج
____________________
(1/405)
مسألتنا من ظواهر هذه الأوامر دعوى تفتقر إلى دليل والأصل عدمه ولأن في ترك الرد لا سيما مع التكرار عداوة وإساءة ووحشة ونفرة على ما لا يخفى فيجب الرد لذلك والله سبحانه قد أمر بالمحبة والائتلاف ونهى عن التفرق والاختلاف
فإن قيل يزول ما ذكر من المحذور بإعلام قائل ذلك أن ما قاله ليس بتحية شرعية وأنه بدعة محدثة ليتوطن المكلفون على فعل السنن واجتناب البدع قيل فهذا الإعلام واجب فإن لم يجب جاز تركه وبقي المحذور وإن وجب فمن أوجبه من العلماء وما دليله شرعا ثم ما الدليل على أنه ليس بتحية شرعية وأنه بدعة ولو صح هذا لكان ضلالة لقوله عليه السلام وكل بدعة ضلالة أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو صحيح وصححه ابن حبان
فيكون محرما ولم يقل هذا أحد من العلماء فدل على بطلانه
ثم قد سبق الدليل على أنه تحية شرعية لا بدعة
وإن من المعلوم أنه من الكلام الطيب والمعروف وكلاهما صدقة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الإحسان والشرع قد أمر بمجازاة ذلك ومكافأته والأمر للوجوب إلا ما دل دليل شرعي على خلافه والأصل عدمه ويؤيد ما سبق أن الشارع لم ينه عنه مع وقوعه ولهذا لما تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة قالوا له بالرفاء والبنين فقال لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لهم وبارك عليهم أخرجه ابن ماجه والنسائي وأحمد والدارمي وإسناده منقطع وأخرجه أحمد
رواه النسائي وابن ماجه ولأحمد معناه
وله في رواية لا تقولوا
____________________
(1/406)
ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك قولوا بارك الله لها فيك وبارك لك فيها قال في النهاية الرفاء الالتئام والاتفاق والبركة والنماء ومنه قولهم رفأت الثوب رفأ ورفوته رفوا وإنما نهى عنه كراهية لأنه كان من عادتهم ولهذا سن فيه غيره انتهى كلامه مع أن في هذا الخبر كلاما وبعضه في حواشي الأحكام وقد قال عبد الله بن وهب دعوت يونس بن يزيد في عرسي فسمعته يقول سمعت ابن شهاب يقول في عرس لصاحبه بالجد الأسعد والطائر الأيمن قال وهذه تهنئة أهل الحجاز
ولأن الشارع نهى عن الابتداء بقول عليكم السلام ومع هذا رده أبو داود وقد قال في شرح مسلم فيه يستحق الجواب على الصحيح المشهور وأوجب بعض الشافعية رده مع أنه منهي عنه ولم يجر به عرف لا عنه ولا عن حملة الشرع فما نحن فيه أولى وهذا القول بالوجوب ظاهر كلام الشيخ تقي الدين فإنه قال يجب العدل على كل أحد في كل شيء ويجب لكل أحد في كل شيء قال ولشمول العدل لكل أحد قال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان }
قال بعض السلف أظنه محمد بن الحنفية هي للبر والفاجر يعني أن المحسن يستحق أن يجزى بالإحسان وإن كان فاجرا لأنه من العدل والعدل واجب ولهذا قال تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها }
فرد مثلها عدل والعدل واجب والتحية بأحسن منها فضل والفضل مستحب
وقد قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في عليكم السلام ما سبق وقال في مسألتنا لا يستحق الجواب مع اعترافه بصحة النهي في عليكم السلام ولا نهي في مسألتنا وإن كان فللتأديب ليتعلم السلام المشهور ولهذا
____________________
(1/407)
لا يقال بالكراهة في مسألتنا بل قد يقال ترك الأولى
فقد ظهر أن المسألة على قولين مأخوذين من كلام الإمام والأصحاب رحمهم الله وأنها محتملة لوجهين من جهة الدليل والله أعلم فصل في النهي عن تحية الجاهلية وما هي
قال أبو داود في الأدب من سننه حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أو غيره عن عمران بن حصين قال كنا نقول في الجاهلية أنعم الله بك عينا وأنعم صباحا فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك أخرجه أبو داود وإسناده منقطع
قال عبد الرزاق قال معمر يكره أن يقول الرجل أنعم الله بك عينا ولا بأس أن يقول أنعم الله عينيك فهذه من أبي داود تدل على اختياره لذلك وهو من أصحاب إمامنا أحمد فاختياره يعد من مذهبه كاختيار غيره ولم أجد من أصحابنا من ذكر هذا غيره فإن كان ذكر قتادة محفوظا فهو لم يسمع من عمران وغير قتادة مجهول
وقد قال ابن الأثير في النهاية في حديث مطرف لا تقل نعم الله بك عينا فإن الله لا ينعم بأحد عينا ولكن قل أنعم الله بك عينا قال الزمخشري الذي منع منه مطرف صحيح فيصيح في كلامهم وعينا نصب على التمييز من الكاف والباء للتعدية والمعنى نعمك الله عينا أي نعم عينك وأقرها وقد يحذفون الجار ويوصلون الفعل فيقولون نعمك الله عينا وأما أنعم الله بك عينا فالباء فيه زائدة لأن الهمزة كافية في التعدية تقول نعم زيد عينا وأنعمه الله عينا ويجوز أن يكون من أنعم إذا دخل في النعيم فيعدى بالباء قال ولعل مطرفا خيل إليه أن انتصاب المميز في هذا الكلام عن الفاعل فاستعظمه كما يقولون نعمته بهذا الأمر عينا والباء للتعدية فحسب أن الأمر في نعم الله بك عينا كذلك انتهى كلامه
____________________
(1/408)
وقال الجوهري أنعم الله صباحك من النعومة وأنعم الله بك عينا أي أقر الله عينك بمن تحبه وكذلك نعم الله بك عينا نعمة مثل غلم غلمة ونزه نزهة ونعمك عينا مثله انتهى كلامه
ويتوجه أن النهي في حديث عمران إما أنه كلام جاهلي فينبغي هجره وتركه وإما أنهم ربما جعلوه عوضا وبدلا من تحية الإسلام السلام لاعتيادهم له وإلفهم إياه فنهوا عن ذلك والله أعلم فصل يكره قول أبقاك الله في السلام
قال الخلال في الأدب كراهية قوله في السلام أبقاك الله أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال رأيت أبي إذا دعي له بالبقاء يكرهه ويقول هذا شيء قد فرغ منه
وقال إسحاق جئت أبا عبد الله بكتاب من خراسان فإذا عنوانه لأبي عبد الله أبقاه الله فأنكره وقال أيش هذا
وذكر الشيخ تقي الدين أنه يكره ذلك وأنه نص عليه أحمد وغيره من الأئمة واحتج الشيخ تقي الدين وغيره في هذا بحديث أم حبيبة لما سألت أن يمتعها الله بزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبيها أبي سفيان وبأخيها معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة لا يعجل منها شيئا قبل حله ولا يؤخر منها شيئا بعد حله ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان خيرا لك أخرجه مسلم
رواه مسلم في كتاب القدر من حديث ابن مسعود وله في رواية وأيام معدودة وفي أخرى وآثار مبلوغة حله بفتح الحاء وكسرها
وعن ثوبان مرفوعا إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وإنه لا يرد
____________________
(1/409)
القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان وهو حديث حسن
رواه أحمد عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع كلهم ثقات وعبد الله بن عيسى هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى
وروى الترمذي عن محمد بن حميد الرازي وسعيد بن يعقوب الطالقاني عن يحيى بن الضريس عن أبي مودود عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر أخرجه الترمذي
إسناد جيد قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى وأبو مودود هذا اسمه فضة
قال أبو جعفر النحاس في ما يحتاج إليه الكتاب ومن الاصطلاح المحدث كتبهم أطال الله بقاء سيدنا قال علي بن سليمان لا أدري ممن أخذوا هذا وزعموا أنه أجل الدعاء ونحن ندعو رب العالمين على غير هذا ومع هذه ففيه انقلاب المعنى قال أبو جعفر لم أر أحدا من النحويين أعرف بهذه الأشياء منه يعني من علي بن سليمان قال لأنه من أهل الكتابة
وقال أبو جعفر أيضا ومن الاصطلاح المحدث كتبهم أطال الله بقاءك وقد حكى إسماعيل بن إسحاق أنه دعاء محدث واستدل على هذا بأن الكتب المتقدمة كلها لا يوجد فيها هذا الدعاء غير أنه ذكر أن أول من أحدثه الزنادقة
وقال أبو جعفر أيضا رأيت علي بن سليمان ينكر كتبهم أطال الله بقاء سيدي وقال هذا دعاء الغائب وهو جهل باللغة ونحن ندعو الله عز وجل بالمخاطبة وقال أبو جعفر منهم من قال أطال الله بقاءك أجل الدعاء لأن
____________________
(1/410)
العز وما بعده إنما ينتفع به مع طول البقاء وقال بعضهم هو أفخم الدعاء فلذلك قدموه واتبعوه وأدام عزك لأنه إذا ديم عزه كان محفوظا مصونا غالبا لعدوه آمنا غنيا فاتبعوه وتأييدك لأن معناه وزاد مما دعوت لك به وأصله من أيده أي قواه وسعادتك أصله من المساعدة أي أن يساعد على ما يريده وهذا كله أجل من وأكرمك لأنه قد يكرم ولا يساعد وقد قيل إنه كان أعزك جليلا ثم حدث وتأييدك
وقال أبو جعفر أيضا منهم من كره أن يكتب أطال الله بقاءك واحتج بحديث أم حبيبة يعني المذكور ومنهم من رخص في ذلك واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر كعب بن عمرو اللهم أمتعنا به أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
ومات سنة خمس وخمسين وهو آخر أهل بدر وفاة
وبحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أمتعني بسمعي وبصري أخرجه ابن السني وأبو نعيم وفي سنده هشام بن زياد أبو المقدام ضعيف وتابعه بكر بن سليم الصواف عن ابن عدي وهو ضعيف
كذا قال في حديث عائشة ولا يحضرني الآن إلا من حديث أبي هريرة رواه الترمذي وفيه واجعله الوارث مني أخرجه الترمذي وسقط من مطبوع سنن الترمذي والبخاري والحاكم وصححه على شرط مسلم
ومن حديث ابن عمر اللهم امتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا وذكر الحديث رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وإسنادهما يقوي أحدهما الآخر
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم عافني في جسدي وعافني في بصري واجعله الوارث مني أخرجه الترمذي وقال حسن غريب وإسناده ضعيف
وذكر الحديث رواه
____________________
(1/411)
الترمذي وقال غريب وسمعت محمدا يقول حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا
وعن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك أخرجه مالك وابن أبي شيبة وهو مرسل
رواه مالك في الموطأ مرسلا
قال أبو جعفر فأما ما أشكل من هذا لأن العمر قد فرغ منه فالجواب أن الدعاء معلق بما فيه الصلاح بمشيئة الله عز وجل وكذا أنسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك قال وقيل الدعاء بهذا معناه التوسعة والغنى
وروي عن حماد بن سلمة أن مكاتبة المسلمين كانت من فلان إلى فلان سلام عليك أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله ثم إن الزنادقة أحدثوا هذه المكاتبات أولها أطال الله بقاءك
وقال غيره كان يدعى للخلفاء الغابرين أما بعد حفظ الله أمير المؤمنين وأمتع به وأما بعد أبقى الله أمير المؤمنين ورضي عنه وأما بعد أكرم الله أمير المؤمنين وحفظه وزعم أن أول من رسم الدعاء معاوية كتب إلى أمير المؤمنين عافانا الله وإياك من السوء ثم زاد الناس
فمما يكاتب به ما ذكرناه فمن يستحسن أن يكاتب بطول البقاء فإنه لا يأتي بذلك مطلقا ولكن يضمنه بشيء آخر فيكتب أطال الله بقاءك في طاعته وسلامته وكفايته وأعلى جدك وصان قدرك وكان معك ولك حيث لا تكون لنفسك
____________________
(1/412)
وكذا يكتب أطال الله بقاءك في أسر عيش وأنعم بال وخصك منه بالتوفيق بما تحب وترضى وحباك برشده وقطع بينك وبين معاصيه بلطفه
ومنه أطال الله بقاءك بما أطال به بقاء المطيعين وأعطاك من العطاء بما أعطى المصلحين
ومنهم من لا يضمنه بشيء إلا أنه يدعو بغير دعاء الكتاب فيقول أطال الله بقاءك وأكرم مثواك
ومنهم من لا يستجيز الدعاء بطول البقاء ويكتب أكرمك الله بطاعته وتولاك بحفظه وحسن كلاءته وأسعدك بمغفرته وأيدك بنصره وجمع لك خير الدنيا والآخرة برحمته
وفي مثله تولاك من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وكان لك من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم ومثله أكرمك الله وأكرم عن النار وجهك وزين بالتقوى عملك
ومثله أكرمك الله كرامة تكون لك في الدنيا عزا وفي الآخرة من النار حرزا
وسئل أبو إسحاق عن معنى أما بعد فذكر قول سيبويه مهما يكن من شيء قال أبو إسحاق إذا كان الرجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال أما بعد وعلى هذا النحويون ولهذا لم يجيزوا في أول الكلام أما بعد وقيل أما بعد فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام وأنه أول من تكلم به وقيل بل هو علم القضاء وقيل أول من تكلم به كعب بن لؤي وهو أول من سمى يوم الجمعة يوم الجمعة وكان يقال له العروبة
وأجاز الفراء أما بعدا بالنصب والتنوين وأما بعد بالرفع والتنوين وأجاز ابن هشام أما بعد بفتح الدال ويقول أما بعد أطال الله بقاءك فإني نظرت في كذا وأجود منه أما بعد فإني نظرت أطال الله بقاءك ولك أن تقول أما
____________________
(1/413)
بعد فأطال الله بقاءك إني وفإني وإني وثم إني وأما بعد أطال الله بقاءك فإني وأما بعد ثم أطال الله بقاءك ثم إني
وبقاءك مصدر من بقي وإن أخذته من أبقى قلت أبقاك الله فإن ثنيت بقاء أو جمعته قلت بقاءكما وبقاءكم وبقاءكن لأنه مصدر وإن جعلت بقاء مخالفا لبقاء قلت بقاءكما وأبقيتم
ويكتب في الدعاء الآخر وأطال الله بقاءك بالواو والفائدة في المجيء بالواو الإعلام بأنك لم تضرب عن الأول ولو حذفتها جاز أن يتوهم أنك قد أضربت عن الأول وهذا من جنس قول النحويين في الفائدة في المجيء بواو العطف مع الجمل وأن حذفها أيضا جائز لأنه قد عرف المعنى وكذا وحسبي الله وإن شئت حذفت الواو فأما حسبنا الله فإنما يكتب به الجليل من الناس والأحسن أن يكتب حسبي الله تواضعا لله عز وجل
ويستعمل ابن عقيل في فنونه معنى هذا فيقول حضرت بمجلس الأجل قاضي القضاة حرس الله نعمه وأطال عمره
وروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسنادهم عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكروا العزل فقالوا لا بأس به فقال رجل إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى فقال علي لا يكون موءودة حتى تمر عليه التارات السبع حتى يكون من سلالة من طين ثم تكون نطفة ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم تكون عظاما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر فقال عمر صدقت أطال الله بقاءك
قال بعض متأخري أصحابنا وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء
____________________
(1/414)
فصل في كراهية قول أمتع الله بك في الدعاء
قال الخلال كراهية قوله في الدعاء أمتع الله بك قال إسحاق بن منصور لأبي عبد الله سمعت سفيان يكره أن يقول أمتع الله بك قال أحمد لا أدري ما هذا قال إسحاق بن منصور قال إسحاق بن راهويه كما قال فصل قولهم في السلام والكتاب جعلت فداك وفداك أمي وأبي ونحوه
قال الخلال كراهية قوله في السلام جعلت فداك قال بشر بن موسى سأل رجل وأنا أسمع لأبي عبد الله فقال جعلت فداك فقال لا تقل هكذا فإن هذا مكروه
وقال أبو جعفر النحاس منهم من كرهه وهو قول مالك بن أنس واحتج بحديث يروى عن الزبير أنه قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جعفر وأجاز بعضهم ذلك واحتج بأن هذا الحديث أولى منه لصحة سنده ثم رواه بسنده عن عبد الله بن عمرو أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم جعلني الله فداك وذكره أيضا عن غيره قال وقد قال حسان
( فإن أبي ووالده وعرضي % لعرض محمد منكم وقاء )
انتهى كلامه
وفي الصحيحين عن أبي ذر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة جعلني الله فداك مرتين في الخبر الذي فيه أن جبريل عليه السلام قال له بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فقلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى قال نعم قال أبو ذر قالت يا رسول الله وإن سرق وإن زنى قال نعم قلت وإن سرق وإن زنى قال نعم وإن شرب الخمر أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
____________________
(1/415)
وقال الخلال قوله في السلام فداك أبي وأمي قال ابن منصور لأبي عبد الله تكره أن يقول الرجل للرجل فداك أبي وأمي قال أكره أن يقول جعلني الله فداك ولا بأس أن يقول فداك أبي وأمي وذلك لأن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير وسعد فداك أبي وأمي أخرجه البخاري ومسلم
وهو قول جمهور العلماء لأنه ليس بفداء حقيقة وإنما هو بر وإعلام بمحبته ومنزلته عنده وكرهه عمر بن الخطاب والحسن قال في شرح مسلم وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه
وقال أبو داود باب الرجل يقول جعلني الله فداك ثم روى عن موسى بن إسماعيل عن حماد وعن مسلم عن هشام جميعا عن حماد بن أبي سليمان عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر فقلت لبيك وسعديك يا رسول الله وأنا فداؤك أخرجه أبو داود وإسناده حسن
إسناد جيد
ونادى النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وقال لبيك وسعديك وإنا فداؤك رواه أحمد وأبو داود من رواية أبي همام
عبد الله بن يسار تفرد عنه يعلى بن عطاء ووثقه ابن حبان عن أبي عبد الرحمن الفهري قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
وصح أن أبا قتادة لزم النبي صلى الله عليه وسلم فقال حفظك الله بما حفظت به نبيه أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خزيمة
وقد صح أن بعض الصحابة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضحك فقال أضحك الله سنك أخرجه أبو داود وابن ماجه وعبد الله بن أحمد وإسناده ضعيف رواه البخاري ومسلم
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عباس بن مرداس
____________________
(1/416)
فصل في سنة الاستئذان في الدخول على الناس
يسن أن يستأذن في الدخول على غيره ثلاثا فقط قدمه في الرعاية ويجوز ثلاثا وهو ظاهر كلام جماعة وقيل يجب ذلك وهو الذي ذكره ابن أبي موسى والسامري وابن تميم ولا وجه لحكاية الخلاف فيجب في الجملة على غير زوجه وأمه ثم قال الأصحاب على القريب والبعيد
وقد روى سعيد حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن أبي قلابة عن أبي موسى الأشعري قال إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن ثم روى عن ابن عباس وابن مسعود نحو ذلك وروى عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على أمي قال نعم فأمر أن يستأذن عليها مرسل جيد وهو في الموطأ
وصح عن ابن عباس قال لم يؤمر بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي أخرجه أبو داود وإسناده صحيح
وصح عنه أيضا وقيل كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى { والله عليم حكيم } قال إن الله حكيم رؤوف بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد أخرجه أبو داود وإسناده حسن
الحجال جمع حجلة بالتحريك بيت كالقبة يستر الثياب وله أزرار كبار
____________________
(1/417)
قال ابن الجوزي أكثر المفسرين على أن هذه الآية محكمة وأنه أصح من قول من قال هي منسوخة بقوله تعالي { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } لأن البالغ يستأذن في كل وقت والطفل والمملوك يستأذن في العورات الثلاث
وذكر ابن الجوزي أيضا في البيوت الخالية هل دخلت في آية الاستئذان ثم نسخ بقوله تعالى { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } أم لم تدخل لأن الإذن لا يتصور من غير آذن فإذا بطل الاستئذان لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى على قولين وأن الثاني أصح
وقال ابن الجوزي أيضا لا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان لهذه الآية يعني قوله { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها }
ومعنى تستأنسوا تستأذنوا وفي الآية تقديم وتأخير
ولا يواجه الباب في استئذانه لأن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقام مستقبل الباب فقال له عليه السلام هكذا عنك وهكذا فإنما الاستئذان من النظر أخرجه أبو داود والبيهقي وإسنادهما ضعيف
وفي حديث أبي هريرة إذا دخل البصر فلا إذن أخرجه أبو داود والبيهقي وحسنه الحافظ
حديثان حسنان رواهما أبو داود وغيره فإن سمع أحد صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سمع فإن أذن له وإلا رجع قال ابن الجوزي وغيره فلا يقف على الباب ويلازمه للآية
وفي الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعا إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن
____________________
(1/418)
له فليرجع أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
وقيل لا يزيد على ثلاث مطلقا قاله بعض العلماء عملا بظاهر الحديث وهو ظاهر كلام بعض الأصحاب وقد قال علي بن سعيد سألت أبا عبد الله عن الاستئذان فقال إذا استأذن ثلاثا والاستئذان السلام فظاهره كهذا القول ومن قال بالأول حمل الحديث على من لم يظن
وحجب معاوية أبا الدرداء رضي الله عنهما يوما وأجلسه عند بابه فقيل له يا أبا الدرداء يفعل هذا بك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يأتي أبواب السلطان يقوم ويقعد
واستأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنهما فأبطأ إذنه فقيل حجبك أمير المؤمنين فقال لا عدمت من قومي من إذا شاء حجب
وقال مروان لابنه عبد العزيز حين ولاه مصر يا بني مر حاجبك يخبرك من حضر بابك كل يوم فتكون أنت تأذن وتحجب وآنس من دخل إليك بالحديث فينبسط إليك ولا تعجل بالعقوبة إذا أشكل عليك الأمر فإنك على العقوبة أقدر منك على ارتجاعها
وأقام رجل على باب كسرى فلم يؤذن له فقال له الحاجب اكتب كتابا وخففه أوصله لك فقال لا أزيد على أربعة أسطر فكتب في السطر الأول الضرورة والأمل أقدماني على الملك وفي السطر الثاني ليس لي صبر على الطلب وفي السطر الثالث الرجوع بلا إفادة شماتة الأعداء وفي السطر الرابع إما نعم مثمرة وإما لا مؤيسة فوضع كسرى تحت كل سطر زه فانصرف بستة عشر ألف درهم
قال الشاعر
( يزدحم الناس على بابه % والمشرب العذب كثير الزحام )
____________________
(1/419)
وقال آخر
( وإني لأرثي للكريم إذا غدا % على طمع عند اللئيم يطالبه )
( وأرثي له من وقفة عند بابه % كمرثيتي للطرف والعلج راكبه )
كتب رجل إلى عبد الله بن طاهر
( إذا كان الجواد له حجاب % فما فضل الجواد على البخيل ) ( فأجابه عبد الله بن طاهر
إذا كان الجواد قليل مال % ولم يعذر تعلل بالحجاب )
وقيل لحاجب
( سأترك بابا أنت تملك إذنه % وإن كنت أعمى من جميع المسالك )
( فلو كنت بواب الجنان تركتها % وحولت رحلي مسرعا نحو مالك )
وقال محمود الوراق
سأترك هذا الباب ما دام إذنه % كعهدي به حتى يلين قليلا )
( وما خاب من لم يأته متعمدا % ولا فاز من قد نال منه وصولا )
( وما جعلت أرزاقنا بيد امريء % حمى بابه من أن ينال دخولا )
( إذا لم أجد فيه إلى الإذن سلما % وجدت إلى ترك المجيء سبيلا )
قال ابن عبد البر قال صلى الله عليه وسلم من رفع حاجة ضعيف إلى ذي سلطان لا يستطيع رفعها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة أخرجه ابن حبان والطبراني وإسناده ضعيف جدا
وقال صلى الله عليه وسلم إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا وفي سنده متروك
____________________
(1/420)
وقال صلى الله عليه وسلم اطلبوا الخير عند حسان الوجوه أخرجه ابن أبي الدنيا والخطيب أسانيده ضعيفة جدا
كذا يذكر ابن عبد البر رحمه الله مثل هذه الأخبار وأحسن أحوالها أن تكون ضعيفة إن لم تكن موضوعة لكن لو اعتقد ابن عبد البر أنها موضوعة لم يذكرها في الترغيب والفضائل واعلم أن في الكتاب والسنة الصحيحة ما فيه كفاية في ذلك كقوله تعالى
{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وكقوله تعالى { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }
وقوله تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وغير ذلك من الآيات
وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وعن أبي مسعود الأنصاري أن رجلا قال يا رسول الله احملني قال لا أجد ما أحملك عليه ولكن إئت فلانا فلعله أن يحملك فأتاه فحمله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من دل على خير فله مثل أجر فاعله أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان
رواه مسلم
والخبر الأول ذكره ابن عبد البر في حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي
____________________
(1/421)
في الشمائل وكان يقول أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها فإنه من بلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة
وسبق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإنكار على ولاة الأمور ما يتعلق بهذا ويأتي في الشفاعة بالقرب من نصف الكتاب ما يتعلق بهذا
والدعاء إلى الوليمة إذن في الدخول وفي الأكل ذكره في المغني وغيره وظاهر كلام أكثرهم يستأذن للدخول والمعنى يقتضيه
وروى أبو داود وغيره وذكره البخاري تعليقا جازما به عن قتادة عن أبي رافع ولم يسمع منه قاله أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فذلك إذن له علقه البخاري وأبو داود وابن حبان بسند صحيح
وروى قبله الحديث الصحيح المشهور عن أبي هريرة مرفوعا رسول الرجل إلى الرجل إذنه
وترجم عليهما في الاستئذان باب في الرجل يدعى أيكون ذلك إذنه وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا رواه أبو داود وغيره وإن دخل سلم مرة ثانية
وصفة الاستئذان سلام عليكم زاد في الرعاية الكبرى والشيخ عبد القادر أأدخل وهو الذي ذكره ابن الجوزي عن المفسرين لأن رجلا من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له قل السلام عليكم أأدخل فسمعه فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل إسناده جيد رواه
____________________
(1/422)
أحمد وأبو داود وغيرهما حديث صحيح وأخرجه أبو داود وأحمد
وقد ظهر من هذا تقديم السلام على الاستئذان خلافا لبعضهم وادعى في شرح مسلم أن استحباب الجمع بينهما صرح به القرآن ولم يذكره غيره وقد تقدم قول أحمد الاستئذان السلام قال أبو داود حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بسر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم السلام عليكم وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور حديث حسن وأخرجه أحمد والبخاري وأبو داود
بقية حديثه حسن إذا صرح بالسماع ولم يدلس ورواه أحمد حدثنا الحكم بن موسى حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن اليحصبي فذكره ومحمد ثقة وقد روى الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أدخل أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وإسناده حسن
وذلك بعد ما أسلم صفوان حديث جيد وعمرو بن صفوان هو ابن عبد الله بن صفوان ورواه أبو داود وفي لفظه بلبن ولم يقل ولم أستأذن ولم يزد أدخل ورواه النسائي والترمذي وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن جريج والجداية من أولاد الظباء ما بلغ ستة أشهر أو سبعة بمنزلة الجدي في أولاد المعز والضغابيس صغار القثاء واحدتها ضغبوس وقيل هو نبت ينبت في أصل الثمام يسلق بالخل والزيت ويؤكل
____________________
(1/423)
قال المروذي قال أبو عبد الله ما أكثر ما نلقي من الناس يدقون الباب فيقولون أنا أنا ألا يقول أنا فلان لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول للمستأذن عليه وهو جابر أنا أنا أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
كأنه كرهها وليزول اللبس يذكر ما يميزه من كنية أو غيرها كقول أم هانىء أم هانىء وقول أبي قتادة أبو قتادة للنبي صلى الله عليه وسلم
وقال عبد الله دق أبي الباب فقيل من هذا قال أبو عبد الله وسأل إسحاق بن إبراهيم الإمام أحمد عن شيء فذكره وقال له تقول قال لي أبو عبد الله وهذا والله أعلم إذا لم ينسب الإنسان إلى ما لا يليق وإلا فلا يتعدى ما قال أبو جعفر النحاس ولا يتكنى الرجل على اسمه إلا أن تكون كنيته أشهر من اسمه فيكنى على نظيره ويتسمى لمن فوقه ثم يلحق المعروف أبا فلان أو بأبي فلان ولا يدق الباب بعنف لنسبة فاعله عرفا إلى قلة الأدب وسبق قول أحمد في أوائل الكتاب في سعة الكلام ذا دق الشرط وفي معناه الصياح العالي ونحو ذلك
فإن قيل للمستأذن ادخل بسلام فهل يدخل كان طلحة بن مصرف إذا قيل له ذلك قال إن شاء الله وكان ابن عمر إذا قيل له ذلك لم يدخل حكاه الإمام أحمد وعلله ابن عمر بأنه اشترط شرطا لم يدر يفي به أم لا وقال إنما أنا بشر
ويستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته قال أحمد إذا دخل على أهله يتنحنح وقال مهنا سألت أحمد عن الرجل يدخل إلى منزله ينبغي له أن يستأذن قال يحرك نعله إذا دخل
وقال الميموني أنه سأل أبا عبد الله يستأذن الرجل على أهله أعني زوجته
____________________
(1/424)
قال ما أكره ذلك إن استأذن ما يضره قلت زوجته وهو يراها في جميع حالاتها فسكت عني
فهذه نصوص أحمد رحمه الله لم يستحب فيها الاستئذان على زوجته بالسلام أو قوله أدخل لأنه بيته ومنزله واستحب إذا دخل النحنحة أو تحريك النعل لئلا يراها على حالة لا يعجبها ولا تعجبه ويقول ما ورد في دخوله
قال ابن أبي موسى ويستحب لمن دخل منزله أن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويسلم على أهل بيته وإذا دخل يكثر خير بيته وعن أنس مرفوعا يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تكون بركة عليك وعلى أهل بيتك
رواه الترمذي وقال حسن غريب
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا أخرجه البخاري ومسلم
وللبخاري عن أبي موسى مرفوعا مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت أخرجه البخاري
ولمسلم مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت أخرجه مسلم
ولأحمد عن أبي سعيد مرفوعا اذكروا الله حتى يقولوا مجنون أخرجه أحمد والحاكم وصححه ابن حبان وإسناده ضعيف
وفي معنى هذا الحديث ما روى أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس سمعت عبد الله بن بسر يقول جاء
____________________
(1/425)
أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله وقال الآخر يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به فقال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله عز وجل أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان وإسناده جيد
إسناد جيد ومعاوية حديثه حسن ورواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن
وعن أبي مالك الأشعري مرفوعا إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ثم ليسلم على أهله أخرجه أبو داود والطبراني وإسناده ضعيف
رواه أبو داود من رواية إسماعيل بن عياش عن الحمصيين فهو حديث حسن
وعن أبي أمامة مرفوعا ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل رجل خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وإسناده جيد
رواه أبو داود بإسناد جيد
قال الخطابي ضامن على الله معناه مضمون فاعل بمعنى مفعول يريد كل واحد منهم قال وقوله عليه السلام دخل بيته بسلام يحتمل وجهين
أحدهما أن يسلم إذا دخل منزله كما قال تعالى { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة }
والثاني أن
____________________
(1/426)
يكون أراد لزوم البيت طلب السلامة من الفتن يرغب بذلك في العزلة ويأمر بإقلال من الخلطة
ويجلس حيث أجلسه صاحب البيت وقيل حيث انتهى إليه منه كذا في الرعاية
ودخل خارجة بن زيد النحوي على محمد بن سيرين بيته زائرا له قال فوجدته جالسا على الأرض إلى وسادة فقلت له إني قد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك فقال إني لا أرضى لك في بيتي بما أرضى به لنفسي فاجلس حيث تؤمر فلعل الرجل أن يكون في بيته شيء يكره أن يستقبله ذكره ابن عبد البر
وقال الخلال ما يكره إذا دخل الرجل إلى منزل رجل أن يقعد إلا في موضع يقعده قال ابن منصور لأبي عبد الله قوله لا يؤمن الرجل في أهله ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه قال أرجو أن يكون الاستثناء على كله وأما التكرمة فلا بأس إذا أذن له
وحاصل ذلك وتحقيقه أنه إن أمره صاحب المنزل بالجلوس في مكان منه لم يجز أن يتعداه لأنه ملكه وسلطانه وتكرمته ولهذا لو لم يأذن في الدخول لم يجز ولو أمره بالخروج لم يجز له المقام فيه وهذا واضح وإن لم يأمره بالجلوس في مكان منه فهل يجلس وأين يجلس ينبغي أن ينظر إلى عرف صاحب المنزل وعادته في ذلك فلا يجوز أن يتعداه لأنه خاص فيتقيد المطلق كالكلام فإن خالف صاحب المنزل عادته معه بأن أمره أو أذن له في شيء وافقه إن ظن ذلك منه ظاهرا وباطنا وكذا إن شك حملا لحال المكلف على الصحة والسلامة وإن ظن أنه فعل معه ذلك ظاهرا لا باطنا لمعنى من المعاني لم يجبه لأن المقاصد معتبرة فلم يأذن ثم يجلس فيما يظن إذنه فيه ظاهرا أو باطنا ويعمل في ذلك بالقرائن والأمارات وظواهر الحال فإن لم يكن له عرف وعادة في ذلك فالعرف والعادة في ذلك الجلوس بلا إذن خاص فيه لحصوله بالإذن في الدخول ثم إن شاء جلس أدنى المجلس من محل الجلوس
____________________
(1/427)
لتحقق جوازه مع سلوك الأدب ولعل هذا أولى ولعل هذا مراد صاحب القول الذي ذكره في الرعاية والمراد ما لم يكن جلوسه هناك مستهجنا عادة وعرفا بالنسبة إلى مرتبته أو يحصل لصاحب المنزل بذلك خجل أو استحياء وأنه يعجبه خلاف ذلك وربما ظن شيئا لا يليق ونحو ذلك وإن شاء عمل بالظن في جلوسه فيما يأذن فيه صاحب المنزل وهو أقرب إلى عوائد الناس وأبعد من التهمة وأقل للكلام والله أعلم وسيأتي ما يشبه هذا بعد آداب الصباح والمساء والنوم في فصل المشي مع غيره
ويعمل بعلامة كرفع ستر أو إرخائه في الإذن وعدمه لقوله عليه السلام لابن مسعود رضي الله عنه إذنك علي أن يرفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك أخرجه مسلم
قال في شرح مسلم السواد بكسر السين وبالدال أي السرار وهو السر والمساررة يقال ساودت الرجل مساودة إذا ساررته وهو مأخوذ من إدناء سوادك من سواده عند المساررة أي شخصك من شخصه والسواد اسم لكل شخص انتهى كلامه والمراد بذلك أنه يعمل بذلك إذا علم أن صاحب المنزل قد علم به وكذلك إن ظن أنه علم به والأولى التأني احتياطا وإن لم يظن تأكد للتثبت والتأني وينبغي لصاحب المنزل أن لا يأذن بالعلامة من غير أن يتحقق المستأذن فقد يكون المستأذن غير من ظنه فيترتب على ذلك ما لا يليق ويحصل به شر ومحذور ومن أذن له في الدخول فإن شاء دخل في الحال ويتثبت إن اقتضى الحال توقفه
ولهذا في مسلم أو في الصحيحين عن أبي وائل قال غدونا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوما بعد ما صلينا الغداة فسلمنا بالباب فأذن لنا فمكثنا بالباب هنية قال فخرجت الجارية فقالت ألا تدخلون فدخلنا فإذا هو جالس يسبح فقال ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم فقلنا لا إلا
____________________
(1/428)
أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم قال ظننتم بآل أم عبد غفلة قال ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت قال يا جارية انظري هل طلعت فنظرت فإذا هي قد طلعت فقال الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا قال مهدي بن ميمون أحسبه قال ولم يهلكنا بذنوبنا فقال رجل من القوم قرأت المفصل البارحة كله قال فقال عبد الله هذا كهذ الشعر أخرجه البخاري ومسلم
وذكر الحديث
ففيه التلبث عن الدخول بعد الإذن لاحتمال عذر وعرض الدخول ثانيا والسؤال عن سبب التلبث عن الدخول وذكر سبب ذلك ولم ينكر عبد الله التوقف للعذر لكن ذكر أن مثل هذا السبب لا يظن بآله ففيه المؤاخذة بالسبب ونفي التهمة والنقص عن الإنسان وعن أهله وفي معنى ذلك من يعاشره ويلازمه وربما قيل وعمن يبعد منه وقوع مثل ذلك وفيه أن هذا الوقت لا يغفل عنه وأن النوم حينئذ يكره وأن من استؤذن عليه وهو في عمل طاعة يمكنه تركها لا يتركها لئلا يكون ذلك وسيلة في ترك الطاعات ويتخذه الشيطان سببا يصد به عنها وإن خاف رياء أو إعجابا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم وحاسب نفسه وإن قوي الخوف من ذلك وربما قوي الخوف جدا في وقت دون وقت فحينئذ يتركه ظاهرا ويأتي به خفية إن أمكن وإلا قضاه ولا يفوته دفعا للمفسدة وتحصيلا للمصلحة وفيه الإخبار بالطاعة لكن للمصلحة وإلا فلا وجه لذلك والرد على فاعلها بما تقتضيه المصلحة
قال في شرح مسلم عن قولهم فقلنا لا معناه لا مانع لنا إلا أنا توهمنا أن بعض أهل البيت نائم فنزعجه ومعنى قولهم ظننا توهمنا وجوزنا لا أنهم أرادوا الظن المعروف وهو رجحان الاعتقاد قال وفي هذا الحديث مراعاة الرجل لأهل بيته ورعيته في أمور دينهم والله أعلم
وروى أبو داود في باب ما جاء في المزاح حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس
____________________
(1/429)
الخولاني عن عوف بن مالك الأشجعي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فسلمت فرد وقال ادخل فقلت أكلي يا رسول الله قال كلك فدخلت أخرجه أبو داود وابن ماجه والطبراني وإسناده صحيح
ورواه ابن ماجه عن دحيم عن أبيه عن الوليد ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم عن أبيه عن الوليد عن عبد الله عن زيد بن واقد عن بشر وهو حديث صحيح قال أبو داود حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة قال إنما قال أدخل كلي من صغر القبة ويأتي قريبا في آداب السفر قدوم المسافر ليلا فصل في الجلوس وسط الحلقة والتفرقة بين الرجلين
قال الخلال كراهية الجلوس في وسط الحلقة أنبأنا أبو داود قال رأيت أحمد بن حنبل إذا كان في الحلقة فجاء رجل فقعد خلفه يتأخر يعني يكره أن يكون وسط الحلقة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى كلامه
ويتوجه تحريم ذلك ولعله مراد الخلال فإنه عليه السلام لعن من جلس وسط الحلقة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وغيرهم من رواية أبي مجلز عن حذيفة ولم يسمع منه
قال في النهاية لأنه إذا جلس في وسطها استدبر بعضهم بظهره فيؤذيهم بذلك ويسبونه ويلعنونه ومنه الحديث أنه عليه السلام قال لا حمى إلا في ثلاث أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي وهو مرسل
وذكر منها حلقة القوم أي لهم أن يحموها حتى لا يتخطاهم أحد ولا يجلس وسطها ويستحب أن يجلس حيث انتهى به المجلس للأخبار فإن قام له أحد عن مجلسه ففي كراهة إيثاره خلاف مشهور فإن كره ففي كراهة
____________________
(1/430)
القبول خلاف بين الأصحاب ويتوجه احتمال يحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه في حديث ابن عمر وأبي بكرة رواهما أحمد وأبو داود أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف وفي خبر ابن عمر زياد بن عبد الرحمن تفرد عنه عقيل بن طلحة وفي حديث أبي بكرة أبو عبد الله مولى لآل أبي بردة تفرد عنه عبد ربه بن سعيد
ولا يفرق بين اثنين بغير إذنهما روى عامر الأحوال عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما أخرجه أبو داود وإسناده حسن
وروى أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وإسناده حسن
رواهما أبو داود وهما حديثان حسنان وروى الترمذي الثاني وحسنه فصل في القيام للقادم وأدب السنة ومراعاة العادة فيه
ويكره القيام لغير سلطان وعالم ووالد ذكره السامري وقيل سلطان عادل وزاد في الرعاية الكبرى ولغير ذي دين وورع وكريم قوم وسن في الإسلام وقال ابن تميم لا يستحب القيام إلا للإمام العادل والوالدين وأهل العلم والدين والورع والكرم والنسب وهو معنى كلامه في المجرد والفصول وكذا ذكر الشيخ عبد القادر وقاسه على المهاداة لهم قال ويكره لأهل المعاصي والفجور وهذا كله معنى كلام أبي بكر وزاد والذي يقام إليه ينبغي له أن لا تستشرف نفسه إليه ولا يطلبه والنهي قد وقع على السرور بذلك الحال فإذا لم يسر بالقيام إليه وقاموا له فغير ممنوع منه ومن
____________________
(1/431)
يقام إليه لإعظامه الرجل الكبير على ما رسمناه وكذا قال بعض أصحابنا وغيرهم في النهي عن ذلك إنما هو تحذير من الفتنة والعجب والخيلاء قالوا مع أن ابن قتيبة قد قال إنما معناه ما يفعله الأعاجم والأمراء في زماننا هذا أنه يجلس والناس قيام بين يديه تكبرا وعجبا وقال صاحب النظم وكذا قال ابن مسعود وغيره فيمن يمشي الناس خلفه إكراما إنها ذلة للتابع فتنة للمتبوع
ويأتي ذلك في فصول آداب الطعام وكلام أبي المعالي في فصول المصافحة
وقال الشيخ تقي الدين فأبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر قال وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا خطأ وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك وما أراد أبو عبد الله والله أعلم إلا لغير القادم من سفر فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث فإن القادم يتلقى لكن هذا قام فعانقهم والمعانقة لا تكون إلا بالقيام وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب هذا كلامه
وقال أيضا لا يجوز أن يكون قاعدا وهم قيام قال النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار أخرجه أحمد والبخاري والترمذي وأبو داود وإسناده صحيح
وفي الصحيح أنهم لما قاموا خلفه في الصلاة قال لا تعظموني كما يعظم
____________________
(1/432)
الأعاجم بعضهم بعضا لفظ مسلم ولأبي داود وصححه ابن حبان
انتهي كلامه
وأما القيام لمصلحة وفائدة كقيام معقل بن يسار يرفع غصنا من شجرة عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت البيعة أخرجه مسلم وأحمد
رواه مسلم وقيام أبي بكر يظله من الشمس فمستحب أخرجه البخاري
وذكر ابن هبيرة يجوز ولا يكره وقال عن الأنبار والأعاجم القيام على رؤوسهم شديد الكراهية قال فأما وقوف من يذهب في شغل ويعود كقيام الحجاب والمستخدمين فإن الفرق بين من ينفذ في الأشغال ويتردد فيها وبين من ليس كذلك معنى ظاهر وستأتي نصوص الإمام أحمد بعضها يؤخذ منه موافقة الأصحاب وبعضها يدل على الكراهة إلا للوالدين وبعضها يكره إلا لقادم من سفر وقال إسحاق بن إبراهيم خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له فقال لا تقوموا لأحد فإنه مكروه فهذه ثلاث روايات
وقال ابن الجوزي وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لا يقومون له لما يعرفون من كراهته لذلك أخرجه أحمد والبخاري والترمذي وإسناده صحيح
وهذا كان شعار السلف ثم صار ترك القيام كالإهوان بالشخص فينبغي أن يقام لمن يصلح
وكذا قال الشيخ تقي الدين في الفتاوي المصرية ينبغي ترك القيام في اللقاء المتكرر المعتاد ونحوه لكن إذا اعتاد الناس القيام وقدم من لا يرى كرامته إلا به فلا بأس به فالقيام دفعا للعداوة والفساد خير من تركه المفضي
____________________
(1/433)
إلى الفساد وينبغي مع هذا أن يسعى في الإصلاح على متابعة السنة
وروى ابن القاسم في المدونة قيل لمالك فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال أكره ذلك وصح عنه عليه السلام قال ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا ولفظ الترمذي شرف كبيرنا وللترمذي هذا المعنى من حديث ابن عباس ومن حديث أنس
وعن عبادة مرفوعا ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا أخرجه أحمد والحاكم وإسناده حسن
رواه أحمد حدثنا هارون حدثنا ابن وهب حدثني مالك بن الخير الزبادي عن أبي قبيل المعافري عن عبادة حديث حسن الزبادي بفتح الزاي والباء الموحدة تحت وروى عنه جماعة ولم يتكلم فيه أحد قال بعضهم وهذا كاف عند الجمهور وقال ابن القطان لم تثبت عدالته
ولأبي داود بإسناد جيد من حديث أبي موسى إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط أخرجه أبو داود والبخاري وحسنه النووي والعراقي وابن حجر
وسيأتي في أهل القرآن ولا يلزم من هذا القيام له وإنما فيه إكرامه واحترامه وتوقيره فقال ابن حزم اتفقوا على توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الخليفة والفاضل والعالم
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أرسل إليه فجاء راكبا على حمار وكان مجروحا فقال قوموا إلى سيدكم وفي البخاري قال للأنصار قوموا إلى سيدكم واعترض على هذا بأنه عليه السلام
____________________
(1/434)
لم يأمر بالقيام له بل إليه لتلقيه لضعفه وجراحته
وفي الصحيحين لما تاب الله على كعب بن مالك رضي الله عنه وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك فذهب الناس يبشروننا وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع قبلي فأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه والله ما أملك غيرهما يومئذ يعني من الثياب واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة وذكر الحديث وفيه فوائد وآداب كثيرة أخرجه البخاري ومسلم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البركة مع أكابركم أخرجه ابن حبان والحاكم وأبو نعيم وإسناده صحيح
إسناده جيد رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن سلم عن عمرو بن عثمان عن الوليد بن مسلم عن عبد الله بن المبارك عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا
ورواه أبو يعلى الموصلي عن محمد بن عبد الرحمن بن سهم الأنطاكي حدثنا ابن المبارك فذكره ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال ابدؤوا بالكبراء أو بالأكابر أخرجه أبو يعلى وإسناده صحيح
وذكرهما في المختارة وقال ابن حبان إنما حدث به ابن المبارك بدرب الروم فسمع منه أهل الشام وليس هذا الحديث في كتب ابن المبارك مرفوعا وقال الحسن بن محمد بن الحارث إنه سأل أبا عبد الله عن القيام في السلام فكأنه كرهه إذا لم يقدم من سفر أن يقوم كذا إلى
____________________
(1/435)
الرجل فيعانقه قلت لأبي عبد الله إذا قام يعني للرجل حتى يجله لكبره فأقول له إما أن تقعد وإما أن تقوم فقال إذا كان لكبره أو لكذا وأما الحديث الذي يحب أن يتمثل له الناس قياما قال إسحاق بن إبراهيم قلت لأبي عبد الله ما معنى الحديث لا يقوم أحد لأحد قال إذا كان على جهة الدنيا مثل ما روى معاوية فلا يعجبني من الأدب للخلال ثم روى الخلال حديث معاوية مرفوعا من سره أن يتمثل له بنو آدم قياما فليتبوأ مقعده من النار
وقال حنبل قلت لعمي ترى للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه قال لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو لأمه فأما لغير الوالدين فلا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوموا حتى تروني أخرجه البخاري ومسلم
إنما ذلك في الصلاة لحرمة الصلاة إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم قاموا للصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار
وقال مثنى إنه سأل أبا عبد الله ما تقول في المعانقة وهل يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه قال لا يقوم أحد لأحد وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسا إذا كان على التدين يحبه في الله أرجو لحديث جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقبل ما بين عينيه أخرجه الحاكم وأبو داود والطبراني وأبو يعلى وإسناده ضعيف
ونقل غيره أن أبا إبراهيم الزهري بن أحمد بن سعد جاء إلى أحمد يسلم عليه فلما رآه وثب إليه وقام إليه قائما وأكرمه فلما أن مشى قال له ابنه
____________________
(1/436)
عبد الله يا أبت أبو إبراهيم شاب وتعمل به هذا وتقوم إليه فقال له يا بني لا تعارضني في مثل هذا ألا أقوم إلى ابن عبد الرحمن بن عوف ذكره ابن الأخضر في من روى عن أحمد
وقال أبو داود باب ما جاء في القيام ثم روى حديث أبي سعيد وقوله عليه السلام للأنصار قوموا إلى سيدكم وهذا اللفظ في الصحيح ثم قال حدثنا الحسن بن علي وابن بشار قالا حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا إسرائيل عن ميسرة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا وقال الحسن حديثا وكلاما ولم يذكر الحسن السمت والهدي والدل برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها قامت فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وإسناده حسن
إسناد صحيح رواه النسائي والترمذي وقال صحيح غريب من هذا الوجه
وقال باب في قبلة ما بين العينين ثم روى من رواية أجلح وهو مختلف فيه عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل ما بين عينيه هو في سننه
وقال أيضا باب في قيام الرجل للرجل ثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ
____________________
(1/437)
مقعده من النار إسناد جيد ورواه أحمد والترمذي وحسنه وحمله الخطابي على ما إذا أمرهم بذلك وألزمهم على طريق الكبر
قال أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن مسعر عن أبي العنبس عن أبي العدبس عن أبي مرزوق عن أبي غالب عن أبي أمامة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجه وأسانيده مضطربة وضعيفة
أبو العدبس بفتح العين والدال المهملتين وبفتح الباء الموحدة وتشديدها وبالسين المهملة تفرد عنه أبو العنبس وأبو غالب مختلف فيه وحديثه حسن ورواه أحمد وابن ماجه
ومنع ابن هبيرة القيام وأنه لا يحل وعن أنس قال لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك
رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح غريب حديث صحيح وأخرجه أحمد والبخاري والترمذي
وعن عبادة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
رواه أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أن رجلا سمع عبادة فذكره الرجل مجهول وابن لهيعة ضعيف
وروى ابن عساكر من طريق البيهقي بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي عن مجاهد أبي الأسود عن واثلة بن الخطاب وهو صحابي سكن دمشق
____________________
(1/438)
قال دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فتحرك له النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل أن في المكان سعة فقال للمؤمن أو للمسلم حق حديث غريب رواه البيهقي رواه البيهقي وإسناده ضعيف مجاهد
أخبرنا أبو طاهر الفقيه حدثنا أبو بكر القطان حدثنا أحمد بن يوسف حدثنا محمد بن يوسف الفريابي حدثنا مجاهد فذكره ولم يتكلم عليه
وقال ابن عبد البر جائز للرجل أن يكرم القاصد إليه إذا كان كريم قوم أو عالمهم أو من يستحق البر منهم بالقيام إليه وغير جائز للرئيس وغيره أن يكلف الناس القيام إليه أو يرضى بذلك منهم
وروى أبو داود ثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو عامر حدثنا محمد بن هلال سمع أباه يحدث قال قال أبو هريرة وهو يحدثنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجلس يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه فحدثنا يوما فقمنا حين قام فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجبذه بردائه فحمر رقبته قال أبو هريرة وكان رداء خشنا فالتفت فقال له الأعرابي أحمل لي على بعيري هذين فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا وأستغفر الله لا وأستغفر الله لا وأستغفر الله لا أحمل لك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وإسناده ضعيف
فكل ذلك يقول له الأعرابي والله لا أقيدكها فذكر الحديث قال ثم دعا رجلا فقال له احمل له على بعيريه هذين على بعير شعيرا وعلى الآخر تمرا ثم التفت إلينا فقال انصرفوا على بركة الله تعالى ورواه النسائي بنحوه عن محمد بن علي بن ميمون عن القعنبي عن محمد بن هلال وهلال تفرد عنه ابنه محمد ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم ليس بمشهور رواه أحمد عن زيد بن
____________________
(1/439)
الحباب أخبرني محمد بن هلال عن أبيه أنه سمع أبا هريرة فذكر بعضه وفيه فهموا به فقال دعوه وكانت يمينه أن يقول لا وأستغفر الله
وقال البيهقي باب القيام لأهل العلم على وجه الإكرام ثم ذكر قيام طلحة إلى كعب وقوله عليه السلام لما جاء سعد قوموا إلى سيدكم
وقال مسلم لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا
وقال أبو زكريا النواوي بعد أن ذكره محتجا به وقد احتج العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على القيام بهذا الحديث وممن احتج به أبو داود في سننه فترجم له باب ما جاء في القيام واحتج به بشر بن الحارث الحافي الزاهد ومسلم وأبو زرعة وأبو بكر بن أبي عاصم والخطابي والبيهقي والخطيب وأبو محمد البغوي والحافظ أبو موسى المديني وآخرون لا يحصون
وروى أبو داود من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن السائب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه أبوه من الرضاعة فأجلسه على بعض ثوبه ثم أقبلت أمه فوضع شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه مرسل جيد أخرجه أبو داود ورجاله ثقات لكنه منقطع
وروى البيهقي من طريق الواقدي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه عكرمة بن أبي جهل مسلما مهاجرا قام إليه فرحا بقدومه ورواه مالك عن الزهري مرسلا أخرجه البيهقي
وعن جرير أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى له كساءه ثم أقبل على أصحابه فقال إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه فأكرموه أخرجه الخطيب والطبراني وابن عدي والبيهقي
رواه البيهقي من رواية
____________________
(1/440)
حصين بن عمر الأحمسي وهو ضعيف عندهم قال البيهقي وقد روي هذا من أوجه أخر كلها ضعيفة وروي مرسلا عن الشعبي بإسناد صحيح إليه
وقال أبو هشام الرفاعي قام وكيع لسفيان الثوري فأنكر عليه قيامه له فقال له وكيع أنت حدثتني عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم
فأخذ سفيان بيده فأجلسه إلى جانبه
وقال الخليلي الحافظ أخبرني عثمان بن إسماعيل حدثنا أبو نعيم بن عدي قال كان أبو زرعة لا يقوم لأحد ولا يجلس أحد في مكانه إلا ابن وارة فإني رأيته يفعل ذلك
وروى الترمذي وقال حديث حسن عن عائشة قالت دخل زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف
ويأتي في المصافحة
وقال الخطابي في باب الضرير يولي من كتاب الإمارة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم لابن أم مكتوم كلما أقبل ويقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز وجل ذكره ابن العربي
ذكر جماعة غير الخطابي ذلك سوى القيام وذكر بعضهم أنه كان يقول له هل لك حاجة أخرجه ابن جرير وإسناده ضعيف
____________________
(1/441)
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى جالسا وصلى من صلى وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال كدتم والذي نفسي بيده تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وأمرائهم أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان ولم يروه البخاري في صحيحه فصل في استحباب الفخر والخيلاء في الحرب
قال صاحب المحرر من أصحابنا في أحكامه المنتقى عن قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف في صلح الحديبية أخرجه البخاري
فيه استحباب الفخر والخيلاء في الحرب لإرهاب العدو وأنه ليس بداخل في ذمه لمن أحب أن يتمثل له الناس قياما وكذا قال غيره وقال الخطابي فيه دليل على أن إقامة الرئيس الرجال على رأسه في مقام الخوف ومواطن الحروب جائز وأن قوله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يتمثل له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار إنما هو فيمن قصد به الكبر وذهب مذهب النخوة والجبرية انتهى كلامه ولعل المراد أن من فعل ذلك لمقصود شرعي لا بأس به والله أعلم فصل في إكرام كريم القوم كالشرفاء وإنزال الناس منازلهم
قال المروذي سئل أبو عبد الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه أخرجه ابن ماجه والطبراني والخطيب وأبو نعيم والحاكم والبزاز
قال نعم هكذا يروي قلت يا أبا عبد الله الرجل السوء
____________________
(1/442)
والرجل الصالح في هذا واحد قال لا قلت فإن كان رجل سوء يكرمه قال لا ورأيت أبا عبد الله وقد حضر غلام من بني هاشم ومعه إبراهيم سبلان فرأيته قدم الغلام ورأيت رجلا من ولد الزبير في المسجد فرأيت أبا عبد الله قد قدمه في الخروج من المسجد وكان حديث السن فجعل الفتى يمتنع وجعل أبو عبد الله يأبى حتى قدمه والخبر المذكور رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر وفيه سعيد بن مسلمة وهو ضعيف عندهم وقال ابن عدي أرجو أنه لا يترك وسبق في الفصل قبله من حديث جرير
وقال عبد الله رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم فيكونوا هم يتقدمونه ثم يخرج من بعدهم وقال المروذي رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى له مخدة وأكرمه
وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه يأخذ المخدة من تحته فيلقيها له قال المروذي وكان أبو عبد الله من أشد الناس إعظاما لإخوانه ومن هو أسن منه لقد جاءه أبو همام راكبا على حمار فأخذ له أبو عبد الله بالركاب ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ
وقال أبو داود باب في تنزيل الناس منازلهم حدثنا يحيى بن إسماعيل وابن أبي خلف أن يحيى بن يمان أخبرهم عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل فقيل لها في ذلك فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلوا الناس منازلهم أخرجه أبو داود
قال أبو داود ميمون لم يدرك عائشة وحديث يحيى مختصر ورواه الحاكم في المستدرك ويحيى بن يمان مختلف فيه وحديثه حسن إن شاء الله تعالى
وقد ذكر في الفصل قبله الخبر الصحيح ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا
____________________
(1/443)
قال القاضي أبو يعلى في الخلاف في قوله من لم يوتر فليس منا أخرجه أحمد وأبو داود والطحاوي وإسناده ضعيف منقطع
قال المراد به ليس من خيارنا كما قال من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا كذا قال
وسبق قوله ليس من أمتي وكلام ابن حزم وسبق في صحة توبة غير العاصي كلام ابن عقيل يوافق معنى ما ذكره القاضي وفيه اعتراف بأن مقتضاها التحريم وكذا ذكر الأصحاب أن مقتضى هذه الصيغة وهو قول الشارع عليه الصلاة والسلام ليس منا من قال أو فعل كذا مقتضاه التحريم ومنهم من جعله كبيرة ومعلوم أن الخروج عن مقتضى الدليل دعوى تفتقر إلى دليل والأصل عدمه وقوله يوقر كبيرنا رواه الترمذي من غير وجه ورواه غيره فصل
عن سلمان مرفوعا ما من مسلم يدخل على أخيه فيلقي له وسادته إكراما له إلا غفر الله له أخرجه الطبراني وضعفه الهيثمي
وعن ابن عمر مرفوعا ثلاثة لا ترد الطيب والوسادة واللبن أخرجه الترمذي والطبراني والبغوي وسنده قوي
رواهما الطبراني
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن عمرو فألقى له وسادة من أدم حشوها ليف فجلس على الأرض وصارت الوسادة بينه وبينه أخرجه البخاري ومسلم
متفق عليه
____________________
(1/444)
فصل في الاستئذان في القيام من المجلس
قال الخلال الرجل يستأذن إذا أراد أن يقوم من المجلس قال ابن منصور لأبي عبد الله إذا جلس رجل إلى قوم يستأذنهم إذا أراد أن يقوم قال قد فعل ذلك قوم ما أحسنه قال إسحاق بن راهويه كما قال
وينبغي للعالم إذا جلسوا إليه فأراد القيام استئذانهم قال المروذي كنا عند أبي عبد الله إذا أراد أن يقوم كان يضع يده على فخذه مرتين أو ثلاثا فكنت ربما غمزت بعض أصحابنا فأقول قم فإنه يريد أن يقوم وقال أبو داود رأيت أبا عبد الله وكنا نقعد إليه كثيرا فيقوم ولا يستأذننا وقال البخاري باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه أو تهيأ للقيام ليقوم الناس وذكر وليمة النبي صلى الله عليه وسلم على زينب وجلوسهم يتحدثون أخرجه البخاري
وقال باب من اتكأ بين يدي أصحابه وذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري
وروى أبو داود من رواية تمام بن نجيح ضعفه الأكثر عن كعب الإيادي تفرد عنه تمام قال كنت أختلف إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف فصل في تعلم الأدب وحسن السمت والسيرة والمعاشرة والاقتصاد
ويسن أن يتعلم الأدب والسمت والفضل والحياء وحسن السيرة شرعا وعرفا قال أحمد حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الهدي الصالح والسمت
____________________
(1/445)
الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف قابوس مختلف فيه ورواه أبو داود عن النفيلي عن زهير قال في النهاية الهدي السيرة والهيئة والطريقة ومعنى الحديث أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء ومن جملة خصالهم وأنها جزء معلوم من أجزاء أفعالهم وليس المعنى أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة فإن النبوة غير مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب وإنما هي كرامة من الله تعالى
ويجوز أن يكون أراد بالنبوة ما جاءت به النبوة ودعت إليه وتخصيص هذا العدد مما يستأثر النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفته
وهذا الخبر في الموطأ ولفظه القصد والتؤدة وحسن السمت أخرجه مالك بلاغا موقوفا
وذكره ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد جيد وقال حسن غريب وفيه جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وإسناده لا بأس به
وترجم أبو داود على الحديثين الصحيحين المشهورين قول أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف
وقول أبي الطفيل كان إذا مشى كأنما يهوي في صبوب إسناده صحيح باب في هدي الرجل
يروي صبوب بالفتح وهو اسم لما يصب على الإنسان من ماء وغيره كالطهور والغسول وبالضم جمع صبب أي في موضع منحدر وقيل الصبب والصبوب تصوب نهر أو طريق
وعن إبراهيم النخعي قال كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله ثم يأخذون عنه وقد روي هذا المعنى عن جماعة وأن يحسن خلقه وصحبة والديه وغيرهما وأن يقول ما ورد إذا ركب
____________________
(1/446)
دابة أو غيرها أو سافر أو ودع مسافرا ويقول للسائل رزقنا الله وإياك وروي عن أحمد أنه كان يقول للسائل ذلك وروى اللفظ الأول عنه جعفر والثاني الفضل بن زياد وروى الخلال عن عائشة أنها كانت تقول لا تقولوا للسائل بورك فيك فإنه قد يسأل الكافر والمسلم ولكن قولوا رزقنا الله وإياك
وعن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحد عنده فدعا له بدأ بنفسه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد
إسناد جيد رواه أبو داود والنسائي والترمذي واللفظ له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك وظاهره يقتضي أمر الدنيا والآخرة
وقال أبو داود في باب الأدب كتب أحمد معي كتابا إلى رجل فأمرني الرجل فقرأته فكان فيه وكفاك وإيانا كل مهم من أمر الدنيا والآخرة وذكر في شرح مسلم قوله رحمة الله علينا وعلى موسى أنه يستحب تقديم نفسه فيما يتعلق بأمر الآخرة وإن في أمر الدنيا المستحب تقديم غيره وإيثاره
وقد قال تعالى { وأما السائل فلا تنهر }
قيل طالب العلم وجمهور المفسرين المراد به سائل البر والمعنى لا تنهره إما أن تعطيه وإما أن ترده ردا لينا قال ابن الجوزي والبغوي يقال نهره ينتهره إذا استقبله بكلام يزجره انتهى كلامهما فهذا المراد والله أعلم
أما لو رده بلين فلم يقبل وألح كفعل بعض السؤال سقط احترامه ويؤدب بحسب ما يقتضيه الحال والمصلحة ثم قد يقال هو أولى من تركه والصبر
____________________
(1/447)
عليه لا سيما إن قال أو فعل ما لا ينبغي لما فيه من زجره وتهذيبه وتقويمه فهو إحسان إليه مع إقامة الشرع في عقوبة المتعدي وقد يقال الصبر عليه أولى والله أعلم
وقد قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى } إن ابن دريد قصد بعض الوزراء في حاجة فلم يقضها وظهر منه ضجر فأنشده
( لا يدخلنك ضجرة من سائل % فلخير دهرك أن ترى مسؤولا )
( لا تجبهن بالرد وجه مؤمل % فبقاء عزك أن ترى مأمولا )
( تلقى الكريم فيسبقنك بشره % وترى العبوس على اللئيم دليلا )
( واعلم بأنك عن قليل صائر % خبرا فكن خبرا يروق جميلا )
ويقول للمسافر سفرا مباحا أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وزودك الله التقوى وقال صالح لأبيه المرأة تقول لأبيها الله خليفتي عليك قال لو استودعته الله كان أحب إلي فأما خليفتي فما أدري انتهى كلامه وفي حديث الدجال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله خليفتي على كل مسلم أخرجه مسلم والترمذي
في حواشي تعليق القاضي أبي يعلى قال عيسى بن جعفر ودعت أحمد بن حنبل حين أردت الخروج إلى بابل فقال لا جعله الله آخر العهد منا ومنك
وروى أبو داود والترمذي عن عمر رضي الله عنه قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن وقال لا تنسنا يا أخي من دعائك أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وإسناده ضعيف
فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا وفي رواية قال أشركنا يا أخي في دعائك
وعن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة مرفوعا ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد حسن أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجه
رواه أبو
____________________
(1/448)
داود والترمذي وحسنه وزاد على ولده وكذا رواه أحمد ولفظ ابن ماجه لولده وأبو جعفر تفرد عنه يحيى
وعن أبي هريرة مرفوعا ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وعنده قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق قال من الماء
وروى أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء قال كل شيء خلق من ماء أخرجه أحمد وصححه ابن حبان
إسناد جيد
وعن ابن عمر أنه كان يقول للرجل أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا فيقول أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك أخرجه الترمذي وأبو داود وهو صحيح
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح معناه من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي رضي الله عنه أخرجه أبو داود وهو صحيح
والمراد بالأمانة هاهنا أهله ومن يخلفه منهم وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينه ووكيله وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر قد يكون سببا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونة والتوفيق فيها ذكر ذلك الخطابي وغيره
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أريد سفرا فزودني فقال زودك الله التقوي قال زدني قال وغفر ذنبك قال زدني قال
____________________
(1/449)
ويسر لك الخير حيث ما كنت أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب
رواه الترمذي وحسنه من حديث أنس
وقال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس إذا خرج أحدكم إلى سفر فليودع إخوانه فإن الله جاعل في دعائهم بركة قال وقال الشعبي السنة إذا قدم رجل من سفر أن يأتيه إخوانه فيسلموا عليه وإذا خرج إلى سفر أن يأتيهم فيودعهم ويغتنم دعاءهم
وقد قيل
( فراقك مثل فراق الحياة % وفقدك مثل افتقاد الديم )
( عليك السلام فكم من وفاء % أفارق منك وكم من كرم )
وقيل
( لم أنس يوم الرحيل موقفها % وطرفها في دموعها غرق )
( وقولها والركاب واقفة % تتركني هكذا وتنطلق ) وقيل
( ليس شيء من الفراق وإن كان % أخو الوجد والها كلفا )
( احرق من وقفة المشيع للقلب % يريد الرجوع منصرفا )
وقيل
( أقول له حين ودعته % وكل بعبرته مبلس )
( لئن رجعت عنك أجسامنا % لقد سافرت معك الأنفس )
وقيل
( يا راحل العيس عرج كي أودعهم % يا راحل العيس في ترحالك الأجل )
( إني على العهد لم أنقض مودتهم % يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا )
( صاح الغراب بوشك البين فارتحلوا % وقربوا العيس قبل الصبح واحتملوا )
( وغادروا القلب ما تهدا لواعجه % كأنه بضرام النار يشتعل )
____________________
(1/450)
( وفي الجوانح نار الحب تقدحها % أيدي النوى بزناد الشوق إذ رحلوا
وقيل
( أهدي إليه سفرجلا فتطيرا % منه وظل مفكرا مستعبرا )
( خوف الفراق لأن شطر هجائه % سفر وحق له بأن يتطيرا )
ودع أعرابي رجلا فقال كبت الله لك كل عدو إلا نفسك وجعل خير عملك ما ولي أجلك
قال الشاعر
( وكل مصيبات الزمان وجدتها % سوى فرقة الأحباب هينة الخطب )
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } اللهم أنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما تحب وترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل أخرجه مسلم
وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون لربنا حامدون رواه مسلم معنى مقرنين مطيقين
واحتج أبو داود وغيره على كراهة أول الليل بحديث جابر الآتي فيما يتعلق بالصباح والمساء لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء أخرجه مسلم وأبو داود
وقال باب في أي يوم يستحب السفر وذكر حديث كعب بن مالك وقال قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس أخرجه البخاري وأبو داود
ولأحمد والبخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس إلى غزوة تبوك
____________________
(1/451)
وكان يحب أن يخرج يوم الخميس أخرجه البخاري وأحمد
وقال باب في الابتكار في السفر وذكر حديث صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك لأمتي في بكورها أخرجه أحمد وعبد الله بن أحمد حديث حسن لغيره
وعن أبي سعيد مرفوعا إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم وعن أبي هريرة مرفوعا مثله أخرجه أبو داود ورجال إسناده ثقات
رواهما أبو داود وإسنادهما جيد وفيهما ابن عجلان وحديثه حسن
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم رواه أحمد قال صاحب المحرر في أحكامه باب وجوب نصبه ولاية القضاء والإمارة وغيرهما وذكر هذه الأخبار
وقال حفيد الشيخ مجد الدين فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع انتهى كلامه
ووجوب هذا يخرج على ولاية القضاء وفيه روايتان أشهرهما يجب وقال أبو داود باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا وذكر خبر ابن عباس المشهور خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربع مئة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة أخرجه أبو داود والترمذي والدرامي ورجاله ثقات
____________________
(1/452)
قال الخلال أخبرني محمد بن موسى أن أبا عبد الله سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تأتوا النساء طروقا قال نعم يؤذنهم قيل بكتاب قال نعم أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان
وهذا الخبر في الصحيحين من حديث جابر وفي آخره كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة وفي مسلم يتخونهم أو يطلب عثراتهم
وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا بضم الطاء أي ليلا يقال لكل من أتاك ليلا طارق ومنه قوله تعالى { والسماء والطارق } أي النجم لأنه يطرق بطلوعه ليلا
وقوله تستحد أي تصلح من شأن نفسها والاستحداد مشتق من الحديد ومعناه الاحتلاق بالموسى يقال استحد الرجل إذا احتلق بالحديد واستعان معناه إذا حلق عانته ويتوجه أن من يعمله طلبا للعثرات حرم لأنه من التجسس وإلا كره
وإنما خص عليه السلام الليل بذلك لأنه الغالب لا لاختصاص الحكم وقول أحمد يؤذنهم بكتاب يقتضي ذلك وإلا قال يدخل نهارا
والمعنى يقتضي ذلك والله أعلم
قال المروذي ذكرت لأبي عبد الله رجلا من المحدثين فقال إنما أنكرت عليه أن لبس غير زيه زي النساك فصل فيما يستحب في السفر والعودة منه من ذكر وعمل
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم
____________________
(1/453)
إلى بعض أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي
إسناده جيد رواه أبو داود وغيره
والمراد بحيث لا يضيق بعضهم على بعض وترجم عليه أبو داود باب ما يؤمر من انضمام العسكر ثم روى بعد هذا الخبر حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي عن فروة بن مجاهد اللخمي عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال غزوت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في الناس أن من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده حسن
إسماعيل حديثه حسن عن الشاميين وأسيد من الرملة وسهل روى عنه أئمة وهو في ثقات ابن حبان وضعفه ابن معين والمراد لا جهاد له كامل لفعله المحرم وعن أنس مرفوعا الأرض تطوى بالليل أخرجه أبو داود والحاكم
حديث حسن رواه أبو داود
وعن جابر مرفوعا إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب أسنانها ولا تجاوزوا المنازل وإذا سرتم في الجدب فاستجدوا وعليكم بالدلج فإن الأرض تطوى بالليل وإذا تغول لكم الغيلان فنادوا بالأذان وإياكم والصلاة على جواد الطريق والنزول عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة فإنها الملاعن أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة
رواه أحمد
وعن أنس رضي الله عنه قال كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا رواه البخاري
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا
____________________
(1/454)
كبروا وإذا هبطوا سبحوا أخرجه أبو داود وإسناده صحيح
وعن أنس رضي الله عنه قال كنا إذا نزلنا منزلا نسبح حتى تحل الرحال أخرجه أبو داود والنسائي وسنده صحيح
إسنادهما جيد رواهما أبو داود وغيره
وقد ورد التكبير والتسبيح عند التعجب وقال البخاري باب التكبير والتسبيح عن التعجب وذكر قول عمر قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أطلقت نساءك قال لا قلت الله أكبر أخرجه البخاري ومسلم
وقول أم سلمة استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن أخرجه البخاري وابن حبان
وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاريين إنها صفية بنت حيي قالا سبحان الله أخرجه البخاري ومسلم
وعن عبد الله بن جعفر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بالصبيان من أهل بيته قال وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة إما حسن وإما حسين فأردفه خلفه قال فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة أخرجه مسلم وأبو داود
رواه مسلم وغيره وترجم عليه أبو داود باب في ركوب ثلاثة على دابة
وفي البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته أخرجه البخاري
وفيه أيضا عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه أخرجه البخاري
وقد روى أبو داود في المراسيل عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن
____________________
(1/455)
أبي العنبس عن زاذان قال رأي علي ثلاثة على بغل فقال لينزل أحدكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
إسناد جيد وهو محمول على أن الدابة لم تطق بالثالث
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك أخرجه مسلم
رواه مسلم من حديث خولة رضي الله عنها
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفر فليعجل إلى أهله أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
متفق عليه نهمته مقصوده فصل فيما يحرم من سفر المرأة مع غير ذي رحم محرم منها
قال في المستوعب لا يجوز أن تسافر المرأة مع غير ذي رحم محرم منها سفر يوم وليلة فأكثر وقيل ثلاثة أيام فأكثر لا في حج فريضة ولا نافلة ولا غير ذلك إلا عند ضرورة وخوف على نفسها وقال في التلخيص وفي اعتبار المحرم في السفر القصير روايتان
وقدم في المستوعب والرعاية اعتبار المحرم في السفر القصير
ومعلوم أن السفر القصير عندنا ما دون اليومين
وعن أحمد لا يعتبر المحرم في سفر الحج الواجب والمذهب اعتباره وهل له أن يردفها معه على الدابة مع الأمن وعدم سوء الظن يتوجه خلاف بناء على أن إرادته عليه السلام أن يردف أسماء يختص به واختار أبو زكريا النووي الجواز واختار القاضي عياض المنع والله أعلم
____________________
(1/456)
فصل في كراهة سفر الرجل ومبيته وحده
قال الخلال ما يكره أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده أنبأنا عبد الله سمعت أبي يقول لا يسافر الرجل وحده ولا يبيت في بيت وحده
وقال جعفر سألت أحمد عن الرجل يبيت وحده قال أحب إلي أن يتوقى ذلك قال وسألت أحمد عن الرجل يسافر وحده قال لا يعجبني
وقال في رواية الحسن بن علي بن الحسن ما أحب ذلك يعني في المسألتين إلا أن يضطر مضطر وقال في رواية صالح في الرجل يسير وحده مع الجماعة أحب إلي وقال قال القاسم بن محمد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد إلى رجل
وقال أبو داود باب في الرجل يسافر وحده حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
حديث حسن ورواه النسائي والترمذي وحسنه من حديث مالك ورواه أحمد فصل فيما يقول من انفلتت دابته أو ضل الطريق
وروى ابن السني في كتابه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليقل يا عباد الله احبسوا فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه أخرجه ابن السني والطبراني
قال عبد الله ابن إمامنا أحمد سمعت أبي يقول حججت خمس حجج منها اثنتين راكبا وثلاثا ماشيا أو ثلاثا راكبا واثنتين ماشيا فضللت الطريق في
____________________
(1/457)
حجة وكنت ماشيا فجعلت أقول يا عباد الله دلونا على الطريق فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق أو كما قال أبي فصل فيما يقال عند أخذ الرجل شيئا من لحية الرجل
قال الخلال في الأدب الرجل يأخذ الشيء من لحية الرجل قال أبو حامد الخفاف أخذ أبو عبد الله من لحية رجل شيئا فقال يا أبا عبد الله أيش أحسن شيء في هذا فقال فيه شيء عن ابن عمر لا عدمت نافعا قال الخلال وأخبرني العباس المديني قال سمعت عباس بن صالح يقول وقد أخذ رجل من لحيته شيئا فقال له عباس لا عدمت نافعا قال يعني كل شيء نفعه لا عدمه انتهى كلامه
وذكر ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس له عن الحسن قال لو أن إنسانا أخذ من رأسي شيئا قلت صرف الله عنك السوء وعن عمر قال إذا أخذ أحد عنك شيئا فقل أخذت بيدك خيرا
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي أيوب الأنصاري وقد أخذ عنه أذى نزع الله عنك ما تكره يا أبا أيوب أخرجه الطبراني
وفي الأدب لأبي حفص العكبري ما يستحب إذا أخذ من لحية الرجل شيئا أن يريه إياه ثم روى أن رجلا أخذ من لحية عمر رضي الله عنه شيئا وكان لا يزال يفعل ذلك فأخذ عمر يده ذات يوم فلم يجد فيها شيئا فقال أما اتقيت الله أما علمت أن الملق كذب وروى أيضا عن الحسن عن عمر قال إذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئا فليره إياه قال الحسن نهى أمير المؤمنين عن
____________________
(1/458)
الملق فصل في كراهة السياحة إلى مكان غير معلوم ولا غرض مشروع
قال ابن الجوزي السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف منهي عنه فقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا رهبانية في الإسلام ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام
وقال الإمام أحمد ما السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين ولأن السفر يشتت القلب فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدى به انتهى كلامه
وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد أخرجه ابن جرير وأبي هريرة
وفي حديث آخر عنه أيضا قال سياحة أمتي الجهاد ورهبانيتهم الجلوس في المسجد وانتظار الصلاة أخرجه البغوي وأبو داود
فأما الحديث في أن السياحة الصوم فرواه ابن جرير في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا قال بعضهم والموقوف أصح ورواه ابن جرير أيضا بإسناده عن عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وإسناده جيد
وأما الحديث في أن السياحة الجهاد فرواه أبو داود بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/459)
أحسبه من حديث عائشة
وروى ابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رهبانية أمتي الجهاد أخرجه ابن أبي عاصم سنده ضعيف
وعن عكرمة في قوله تعالى { السائحون }
قال هم طلبة الحديث وقال محمد بن موسى الخياط سألت أحمد بن حنبل ما تقول في السياحة قال لا التزويج ولزوم المسجد ذكره ابن الأخضر في من روى عن أحمد فصل في طاعة الوالد وولي الأمر والزوج والسيد ومعلم الخير وغير ذلك
قال في المستوعب ومن الواجب بر الوالدين وإن كانا فاسقين وطاعتهما في غير معصية الله تعالى فإن كانا كافرين فليصاحبهما في الدنيا معروفا ولا يطعهما في كفر ولا في معصية الله وعلى الوالدين أن يعلما ولدهما الكتابة وما يتقن به دينه من فرائضه وسننه والسباحة والرمي وأن يورثه طيبا
وعلى المؤمن أن يستغفر الله لوالديه المؤمنين وأن يصل رحمه وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم وفرض عليه النصيحة لإمامه وطاعته في غير معصية الله والذب عنه والجهاد بين يديه إذا كان فيه فضل لذلك واعتقاد إمامته وإن بات ليلة لا يعتقد فيها إمامته فمات على ذلك كانت ميتة جاهلية انتهى كلامه
قال أحمد في رواية هارون بن عبد الله في غلام يصوم وأبواه ينهيانه ما يعجبني أن يصوم إذا نهياه لا أحب أن ينهياه يعني عن التطوع وقال في رواية أبي الحارث في رجل يصوم التطوع فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر قال يروي عن الحسن أنه قال يفطر وله أجر البر وأجر الصوم إذا أفطر
____________________
(1/460)
وقال في رواية يوسف بن موسى إذا أمره أبواه لا يصلي إلا المكتوبة قال يداريهما ويصلي قال الشيخ تقي الدين ففي الصوم كره الابتداء فيه إذا نهاه واستحب الخروج منه وأما الصلاة فقال يداريهما ويصلي انتهى كلامه
وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه ذكره غير واحد
وقال في رواية علي بن الحسن البصري وسأله عن رجل يكون له والد يكون جالسا في بيت مفروش بالديباج يدعوه ليدخل عليه قال لا يدخل عليه قلت يا أبا عبد الله والده أبي إلا أن يدخل قال يلف البساط من تحت رجليه ويدخله
وقال في رواية أبي بكر بن حماد المقرىء في الرجل يأمره والده بأن يؤخر الصلاة ليصلي به قال يؤخرها قال القاضي في الجامع الكبير فلو كان تأخيرها لا يجوز لم تجب طاعته لأنه قد قال في رواية أبي طالب في الرجل ينهاه أبوه عن الصلاة في جماعة قال ليس له طاعة في الفرض
وقال القاضي في التعليق في بحث مسألة فصول القربات عقيب رواية أبي بكر بن حماد فقد أمر بطاعة أبيه في تأخير الصلاة وترك فضيلة أول الوقت والوجه فيه أنه قد ندب إلى طاعة أبيه في ترك صوم النفل وصلاة النفل وإن كان ذلك قربة وطاعة ثم ذكر رواية هارون المذكورة
وقال أحمد في رواية صالح وأبي داود إن كان له أبوان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج إذا كان شابا يخاف على نفسه العنت أمرته أن يتزوج
وقال الشيخ موفق الدين في حج التطوع إن الوالد يمنع من الخروج إليه لأن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات والتطوع أولى وقال في مسألة لا يجاهد من أبواه مسلمان إلا بإذنهما يعني تطوعا إن ذلك يروى
____________________
(1/461)
عن عمر وعثمان وإنه قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم واحتج بالأحاديث المشهورة في ذلك قال ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما وكذلك كل فرائض الأعيان وكذلك كل ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة وظاهر هذا التعليل أن التطوع يعتبر فيه إذن الوالدين كما يقوله في الجهاد وهو غريب والمعروف اختصاص الجهاد بهذا الحكم والمراد والله أعلم أنه لا يسافر لمستحب إلا بإذنه كسفر الجهاد وأما ما يفعله في الحضر كالصلاة النافلة ونحو ذلك فلا يعتبر فيه إذنه ولا أظن أحدا يعتبره ولا وجه له والعمل على خلافه والله أعلم
ويتوجه أن يراد بالسفر ما فيه خوف كالجهاد مع أن الجهاد يراد به الشهادة ومثله الدخول فيما يخاف فيه في الحضر كإطفاء حريق ونحو ذلك ولهذا ذكره بعض أصحابنا في المدين يدخل في ذلك بغير إذن الغريم والله أعلم
قال أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يغزو وله والدة قال إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها وقال في رواية أبي داود يظهر سرورها قال هي تأذن لي قال إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرج وإلا فلا تغز وقال الميموني قلت لأبي عبد الله كان الشافعي يقول بر الوالدين فرض قال لا أدري قلت فمالك قال ولا أدري قلت فتعلم أن أحدا قال فرض قال لا أعلمه قلت ما تقول أنت فرض قال فرض هكذا ولكن أقول واجب ما لم يكن معصية ثم قال أبو عبد الله قال الله تبارك وتعالى { فلا تقل لهما أف } وقال { أن اشكر لي ولوالديك }
قال الميموني قال لي حديث ابن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل
____________________
(1/462)
أفضل قال الصلاة لأول وقتها وبر الوالدين أخرجه البخاري والترمذي وابن حبان
ويقول في الجهاد الزمها فإن الجنة عند رجلها حديث حسن وأخرجه الإمام أحمد وابن ماجه
ويقول ارجع فأضحكهما من حيث أبكيتهما قلت فيه تغليظ من كتاب وسنة قال نعم
وقال ابن حزم في كتاب الإجماع قبل السبق والرمي اتفقوا على أن بر الوالدين فرض واتفقوا على أن بر الجد فرض كذا قال ومراده والله أعلم واجب ونقل الإجماع في الجد فيه نظر ولهذا عندنا يجاهد الولد ولا يستأذن الجد وإن سخط وقال في رواية المروذي بر الوالدين كفارة للكبائر وكذا ذكر ابن عبد البر عن مكحول وذكر القاضي في المجرد وغيره أيضا أن بر الوالدين واجب
وقال أبو بكر في زاد المسافر من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما
وقال في رواية أبي عبد الله روى عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه فقال جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان قال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما
وقال الشيخ تقي الدين بعد قول أبي بكر هذا يقتضي قوله أن يبرا في جميع المباحات فما أمراه ائتمر وما نهياه انتهى
وهذا فيما كان منفعة لهما ولا ضرر عليه فيه ظاهر مثل ترك السفر وترك المبيت عنهما ناحية والذي ينتفعان به ولا يستضر هو بطاعتهما فيه قسمان قسم يضرهما تركه فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه بل عندنا
____________________
(1/463)
هذا يجب للجار وقسم ينتفعان به ولا يضرهما أيضا يجب طاعتهما فيه على مقتضى كلامه فأما ما كان يضره طاعتهما فيه لم تجب طاعتهما فيه لكن إن شق عليه ولم يضره وجب وإنما لم يقيده أبو عبد الله لأن فرائض الله من الطهارة وأركان الصلاة والصوم تسقط بالضرر فبر الوالدين لا يتعدى ذلك
وعلى هذا بنينا أمر التملك فإنا جوزنا له أخذ ماله ما لم يضره فأخذ منافعه كأخذ ماله وهو معنى قوله أنت ومالك لأبيك حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والطحاوي فلا يكون الولد بأكثر من العبد ثم ذكر الشيخ تقي الدين نصوص أحمد التي تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض وهي صريحة في عدم ترك الجماعة وعدم تأخير الحج
وقال في رواية أبي الحارث في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج قال إن كان خروجها في باب من أبواب البر كعيادة مريض أو جار أو قرابة لأمر واجب لا بأس وإن كان غير ذلك فلا يعينها على الخروج وقال في رواية جعفر بن محمد وقيل له إن أمرني أبي بإتيان السلطان له علي طاعة قال لا
وذكر أبو البركات أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة وكذا المكري والزوج والسيد وقد تقدم نص أحمد والأول أقيس
ومقتضى كلام صاحب المحرر هذا أن كل ما تأكد شرعا لا يجوز له منع ولده فلا يطيعه فيه وكذا ذكر صاحب النظم لا يطيعهما في ترك نفل مؤكد كطلب علم لا يضرهما به وتطليق زوجة برأي مجرد قال لقوله عليه السلام لا ضرر ولا ضرار حديث حسن وأخرجه الدارقطني والبيهقي
وطلاق زوجته لمجرد هوى ضرر بها وبه
____________________
(1/464)
وظاهر ما سبق وجوب طاعة الوالد وإن كان كافرا وجزم به صاحب النظم وظاهر كلامه في المستوعب السابق في قوله وإن كانا فاسقين أن الكافرين لا تجب طاعتهما ويوافقه ما ذكره الأصحاب أنه لا إذن لهما في الجهاد تعين عليه أم لا ويعاملهما بما ذكره الأصحاب اتباعا لما ذكره الله تعالى
وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما جاءتني أمي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها قال نعم أخرجه البخاري ومسلم
متفق عليه
وروى الإمام أحمد من رواية مصعب بن ثابت وقد ضعفه الأكثرون عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه نزل فيها { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } إلى آخر الآية فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها أخرجه الإمام أحمد
قال ابن الجوزي قال المفسرون وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم وإن كانت الموالاة منقطعة وذكر عن بعضهم نسخها
والتي بعدها بآية السيف قال وقال ابن جرير لا وجه له لأن بر المؤمنين للمحاربين قرابة كانوا أو غير قرابة لا يحرم إذا لم يكن فيه تقوية على الحرب بكراع أو سلاح أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء
ولنا قول لا تصح الوصية لحربي وهو مذهب أبي حنيفة واحتج في المغني عليهم بإهداء عمر الحلة الحرير إلى أخيه المشرك وبحديث أسماء قال وهذان فيهما صلة أهل الحرب وبرهم
وقال في شرح مسلم في حديث أسماء وفيه جواز صلة القريب المشرك
____________________
(1/465)
وهذه العبارات تدل على أنه لا تجب طاعة الكافر كالمسلم لا سيما في ترك النوافل والطاعات وهذا أمر ظاهر لكن يعامل بما ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز والله أعلم وقد قال الخطابي لا سبيل للوالدين الكافرين إلى منعه من الجهاد فرضا كان أو نفلا وطاعتهما حينئذ معصية لله معونة للكفار وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية كذا قال ولعل مراده بقوله وإنما عليه على سبيل الاستحباب وقد قال جماعة من الأصحاب إن للزوج الاستمتاع بزوجته ما لم يشغلها عن الفرائض إذا لم يضر بها وقال حنبل سمعت أبا عبد الله وسئل عن المرأة تصوم فيمنعها زوجها ترى لها أن تصوم قال لا تصوم ولا تحدث في نفسها من صلاة ولا صيام إلا أن يأذن لها إلا الواجب الفرض فأما غير ذلك فلا تصوم إلا بإذنه وتطيعه
ونقل حنبل أيضا معنى ذلك قال وتطيعه في كل ما أمرها به من الطاعة وقال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم في العبد يرسله مولاه في حاجة فتحضر الصلاة قال إذا علم أنه إذا قضى حاجة مولاه أصاب مسجدا يصلي فيه قضى حاجة مولاه فإن علم أنه لا يجد مسجدا يصلي فيه صلى ثم قضى حاجة مولاه وقال في رواية صالح إن وجد مسجدا يصلي فيه قضى حاجة مواليه وإن صلى فلا بأس
وذكر ابن عقيل أنه كما يجب الإغضاء عن زلات الوالدين يجب الإغضاء عن زلات القرون الثلاثة الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان ومسلم وإذا شبهناهم بالوالدين يجب توقيرهم واحترامهم كما في الوالدين
وما ذكره في المستوعب من أن طاعة الإمام فرض في غير معصية ذكره
____________________
(1/466)
القاضي عياض وآخرون بالإجماع ولعل مراد أصحاب هذا القول ما يرجع إلى السياسة والتدبير
وقطع بعض أصحابنا بأنه تجب طاعته في الطاعة وتحرم في المعصية وتسن في المسنون وتكره في المكروه ولا نزاع أنه يجب على العبد طاعة سيده فلو قلنا ليست صلاة الجمعة واجبة عليه لم تلزمه وإن أذن له السيد أو أجبره عليها لأن ما لا يجب بالشرع لا يملك السيد إجباره عليه على وجه التعبد كالنوافل ذكره ابن عقيل
وذكر ابن عقيل وأبو المعالي ابن المنجا أن الإمام لو نذر الاستسقاء من الجدب انعقد نذره وليس له أن يلزم غيره بالخروج معه لأن نذره انعقد في حق نفسه دونهم وحكى ابن حزم عن علي رضي الله عنه أنه كان يأمر الشهود إذا شهدوا على السارق أن يلوا قطع يده ثم قال وليس هذا بواجب بل طاعة الإمام أو الأمير في هذا واجبة لأنه أمر بمشروع وقال أبو زكريا النواوي في قول مروان لعبد الرحمن بن الحارث عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول يعني من أصبح جنبا فلا صوم له أخرجه البخاري ومسلم
قال أي أمرتك أمرا جازما عزيمة مجتمعة وأمر ولاة الأمور تجب طاعته في غير معصية وقال في قول عمار لما حدث بتيمم الجنب قال له عمر اتق الله يا عمار قال إن شئت لم أحدث رواه بنحوه البخاري ومسلم
معنى قول عمر تثبت فلعلك نسيت أو اشتبه عليك ومعنى قول عمار إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحديث به راجحة على مصلحة تحديثي أمسكت فإن طاعتك واجبة علي في غير المعصية وأصل تبليغ هذه السنة والعلم قد حصل ويحتمل أنه أراد إن شئت لم أحدث به تحديثا شائعا
انتهى كلامه
وعن ابن عمر مرفوعا السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره
____________________
(1/467)
ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة أخرجه البخاري ومسلم
وعن علي رضي الله عنه مرفوعا إنما الطاعة في المعروف أخرجه البخاري ومسلم
مختصر متفق عليهما
وإن أخذ القول الأول على ظاهره توجه أن تخرج مسألة ما لو أمر بالصيام لأجل الاستسقاء هل يجب على قولين
وقد قال الشيخ تقي الدين رحمه الله إذا وجب العشر على فلاح أو غيره وأمر ولي الأمر بصرفه إلى من يستحق الزكاة وجبت طاعته في ذلك ولم يكن لأحد أن يمتنع من ذلك انتهى كلامه
وينبغي احترام المعلم والتواضع له وكلام العلماء في ذلك معروف ويأتي ذلك بعد نحو كراس في الفصول المتعلقة بفضائل أحمد وبعد ذلك في الكلام في العلم والعالم وبعد فصول آداب الإنسان فيمن مشى مع إنسان ونحو ذلك
وقد قال ابن حزم قبل السبق والرمي في الإجماع اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الخليفة والفاضل والعالم
وذكر بعض الشافعية في كتابه فاتحة العلم أن حقه آكد من حق الوالد لأنه سبب لتحصيل الحياة الأبدية والوالد سبب لحصول الحياة الفانية وعلى هذا تجب طاعته وتحرم مخالفته وأظنه صرح بذلك وينبغي أن يكون فيما يتعلق بأمر العلم لا مطلقا والله أعلم فصل في الحلال والحرام والمشتبه فيه وحكم الكثير والقليل من الحرام
هل تجب طاعة الوالدين في تناول المال المشتبه وهو ما بعضه حلال وبعضه حرام ينبني ذلك على مسألة تحريم تناوله وفيها أقوال في المذهب
أحدهما التحريم مطلقا قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب في كتابه
____________________
(1/468)
المنتخب ذكره قبيل باب الصيد وعلل القاضي وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك لاختلاط الأموال لأخذه من غير جهته ووضعه في غير حقه قال الأزجي في نهايته هو قياس المذهب كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني وقد قال أحمد لا يعجبني أن يأكل منه
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن الذي يتعامل بالربا يؤكل عنده قال لا قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة
وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
وفي البخاري عن أنس بن مالك قال إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه أخرجه البخاري
وعن الحسن بن علي مرفوعا دع ما يريبك إلى ما لا يريبك صحيح أخرجه أحمد والنسائي
رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه
والثاني إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا قدمه في الرعاية لأن الثلث ضابط في مواضع والثالث إن كان الأكثر حرام حرم وإلا فلا إقامة للأكثر مقام الكل لأن القليل تابع قطع به ابن الجوزي في المنهاج
____________________
(1/469)
وذكر الشيخ تقي الدين أنه أحد الوجهين وقد نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالا ينبغي إن عرف شيئا بعينه أن يرده وإذا كان الغالب في ماله الفساد تنزه عنه أو نحو هذا ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالا إن كان غالبه نهبا أو ربا ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه إلا أن يكون يسيرا لا يعرف ونقل عنه أيضا هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالا مضاربة ينفعهم وينتفع قال إن كان غالبه الحرام فلا
والرابع عدم التحريم مطلقا قل الحرام أو كثر وهو ظاهر ما قطع به وقدمه غير واحد لكن يكره وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته قدمه الأزجي وغيره وجزم به في المغني
وعن أبي هريرة مرفوعا إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه أخرجه الإمام أحمد وصححه الحاكم
رواه أحمد
وروى جماعة من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني فقال مهنؤه لك وإثمه عليه قال الثوري إن عرفته بعينه فلا تأكله ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا وروى جماعة أيضا من حديث معمر أيضا عن أبي إسحاق عن الزبير بن الحارث عن سلمان قال إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله فإن مهنأه لك وإثمه عليه
قال معمر وكان عدي بن أرطأة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد فيأكل منها ويطعم أصحابه وبعث عدي إلى الشعبي وابن سيرين والحسن فقبل الحسن والشعبي ورد ابن سيرين قال وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم كانوا يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم
____________________
(1/470)
وقال منصور قلت لإبراهيم النخعي عريف لنا يصيب من الظلم ويدعوني فلا أجيبه فقال إبراهيم للشيطان غرض بهذا ليوقع عداوة قد كان العمال يهمطون ويصيبون ثم يدعون فيجابون قلت نزلت بعامل فنزلني وأجازني قال اقبل قلت فصاحب ربا قال اقبل ما لم تره بعينه
قال الجوهري الهمط الظلم والخبط يقال همط الناس فلان يهمطهم إذ ظلمهم حقهم والهمط أيضا الأخذ بغير تقدير ولأن الأصل الإباحة وكما لو لم يتيقن محرما فإنه لا يحرم بالاحتمال وإن كان تركه أولى وقد احتج لهذا بحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة في الطريق فقال لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها أخرجه البخاري ومسلم
متفق عليه وفي الاحتجاج بهذا نظر لكن إن قوي سبب التحريم فظنة فينبغي أن يكون حكم المسألة كآنية أهل الكتاب وثيابهم وينبني على هذا الخلاف حكم معاملته وقبول ضيافته وهديته ونحو ذلك
قال ابن الجوزي بناء على ما ذكره أنه يحرم الأكثر ويجب السؤال وإن لم يكن أكثر فالورع التفتيش ولا يجب فإن كان هو المسؤول وعلمت أن له غرضا في حضورك وقبول هديته فلا ثقة بقوله وينبغي أن تسأل غيره انتهى كلامه
وقد يكون ذلك عذرا في ترك الإجابة إلى الدعوة ولو قلنا بالكراهة كما صرح الشيخ موفق الدين أن ستر الحيطان بستور لا صور فيها أو فيها غير صور الحيوان تكون عذرا في ترك الإجابة على رواية الكراهة وسبق هذا المعنى بعد فصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما للمسلم على المسلم وقد كره أحمد معاملة الجندي وإجابة دعوته وقد قال المروذي قلت لأبي عبد الله هل للوالدين طاعة في الشبهة فقال في مثل الأكل قلت نعم قال ما أحب أن يقيم معهما عليها وما أحب أن يعصيهما يداريهما ولا
____________________
(1/471)
ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه
وذكر المروذي له قول الفضيل كل ما لم تعلم أن حرام بعينه فقال أبو عبد الله وما يدريه أيها الحرام وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة فقال لا قال أبو عبد الله هذا شديد قلت لأبي عبد الله فللوالدين طاعة في الشبهة فقال إن للوالدين حقا قلت فلهما طاعة فيها قال أحب أن تعفيني أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي قلت لأبي عبد الله إني سألت محمد بن مقاتل العباداني عنها فقال لي بر والديك فقال أبو عبد الله هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال وهذا بشر بن الحارث قد قال ما قال ثم قال أبو عبد الله ما أحسن أن يداريهم
وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة فقال أطع والديك وسئل عنها بشر بن الحارث فقال لا تدخلني بينك وبين والديك وذكر الشيخ تقي الدين رواية المروذي ثم قال وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل فقال إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل
قال الشيخ تقي الدين مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل لأنه لا ضرر عليه فيه وهو يطيب أنفسهما انتهى كلامه
وإن أراد من معه حلال وحرام أن يخرج من إثم الحرام فنقل جماعة عن أحمد التحريم إلا أن يكثر الحلال واحتج بخبر عدي بن حاتم في الصيد وعن أحمد أيضا إنما قلته في درهم حرام مع آخر وعنه في عشرة فأقل لا تجحف به
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون معه ثلاثة دراهم منها درهم حرام لا يعرفه فقال لا يأكل منها شيئا حتى يعرفه واحتج أبو عبد الله بحديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا
____________________
(1/472)
آخر فقال لا تأكل حتى تعلم أن كلبك قتله أخرجه البخاري ومسلم
قلت له فإن كانت دراهم كثيرة فقال ثلاثين أو نحوها فيها درهم حرام أخرج الدرهم قلت إن بشرا قال تخرج درهما من الثلاثة فقال بشر بن الوليد قلت لا بشر بن الحارث قال ما ظننته إلا قول بشر بن الوليد وهذا قول أصحاب الرأي
وقال القاضي في الخلاف في مسألة اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة ظاهر مقالة أصحابنا يعني أبا بكر وأبا علي النجاد وأبا إسحاق يتحرى في عشرة طاهرة فيها إناء نجس لأنه قد نص على ذلك في الدراهم فيها درهم حرام فإن كانت عشرة أخرج قدر الحرام منها وإن كانت أقل امتنع من جميعها قال ويجب أن لا يكون هذا حدا
وإنما الاعتبار بما كثر عادة واختيار القاضي في موضع آخر والأصحاب والشيخ وغيرهم أن كلام أحمد ليس على سبيل التحديد وأن الواجب إخراج قدر الحرام لأنه لم يحرم لعينه إنما حرم لتعلق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم عنه كما لو كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه فظاهر هذا ولو علم صاحبه إو استهلك فيه كزيت اختلط بزيت
وقيل للقاضي في الخلاف في مسألة الأواني قد قلت إذا اختلط درهم حرام بدراهم يعزل قدر الحرام ويتصرف في الباقي فقال إذا كان للدرهم مالك معين لم يجز أن يتصرف في شيء منها منفردا وإلا عزل قدر الحرام وتصرف في الباقي وكان الفرق بينهما أنه إذا كان معروفا فهو شريك معه فهو يتوصل إلى مقاسمته وإذا لم يكن معروفا فأكثر ما فيه أنه مال للفقراء فيجوز له أن يتصدق به
وذكر ابن عقيل وابن الصيرفي في النوادر أنه إذا اختلط زيت حرام بمباح تصدق به هذا مستهلك والنقد يتحرى قاله أحمد
وذكر الخلال عن أبي طالب أنه نقل عن أحمد في الزيت أعجب إلي أن
____________________
(1/473)
يتصدق به هذا غير الدراهم وذكر الأصحاب في النقد أن الورع ترك الجميع وذكر الشيخ تقي الدين أنه لم يتبين له أن ذلك من الورع ومتى جهل قدر الحرام تصدق به بما يراه حراما قاله أحمد فدل هذا أنه يكتفي بالظن وقاله ابن الجوزي
قال أحمد لا يبحث عن شيء ما لم يعلم فهو خير وبأكل الحلال تطمئن القلوب وتلين وذلك مذكور في الفقه أول كتاب الشركة ومآل بيت المال في آخر كتاب الزكاة والله أعلم فصل ليس للوالدين إلزام الولد بنكاح من لا يريد
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله إنه ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا امتنع لا يكون عاقا وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه انتهى كلامه
وقال أحمد في رواية أبي داود إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثا إن فعل لم آمره أن يفارقها وإن كان له والدان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج وإن كان شابا يخاف العنت أمرته أن يتزوج وإذا قال له والده تزوج فلانة فإنه يمكنه أن يتزوج غيرها
وهذا معنى ما نقله الفضل بن زياد
وقال الشيخ تقي الدين في مسائل له في العقود كان يأمر بالورع احتياطا أن لا يأتي الشبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه إلا إذا أمره الشارع بالتزوج إما لحاجته أو لأمر أبويه فهنا إن ترك ذلك كان عاصيا فلا تترك الشبهة بركوب معصية وهذا كما أن رجلا سأله إن أبي مات وعليه دين وله مال فيه شبهة وأنا أكره أو أوفيه قال أتدع ذمة أبيك مرتهنة يعني أن قضاء الدين واجب فلا تتقى شبهة بترك واجب
____________________
(1/474)
فصل لا تجب طاعة الوالدين بطلاق امرأته
فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب ذكره أكثر الأصحاب قال سندي سأل رجل أبا عبد الله فقال إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي فقال لا تطلقها قال أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته قال حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه
واختار أبو بكر من أصحابنا أنه يجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
ونص أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا أمرته أمه بالطلاق لا يعجبني أن يطلق لأن حديث ابن عمر في الأب
ونص أحمد أيضا في رواية محمد بن موسى أنه لا يطلق لأمر أمه فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلا وقول أحمد رضي الله عنه لا يعجبني كذا هل هو يقتضي التحريم أو الكراهة فيه خلاف بين أصحابه
وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته قال لا يحل له أن يطلقها بل عليه أن يبرها وليس تطليق امرأته من برها انتهى كلامه فصل حكم أمر الوالدين الولد بالزواج أو بيع سريته
قال أحمد في رواية أبي داود إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج
وقال في رواية جعفر والذي يحلف بالطلاق أنه لا يتزوج أبدا قال إن أمره أبوه تزوج قال الشيخ تقي الدين كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح
____________________
(1/475)
كذا قال أو أنه كان مزوجا فحلف أن لا يتزوج أبدا سوى امرأته
وقال في رواية المروذي إذا كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك وقال له رجل لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها قال تتخوف أن تتبعها نفسك قال نعم قال لا تبعها قال إنها تقول لا أرضى عنك أو تبيعها قال إن خفت على نفسك فليس لها ذلك قال الشيخ تقي الدين لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجبا أو لأن عليه في ذلك ضررا ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزويج وفي بيع الأمة لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه لا دينا ولا دنيا
وقال أيضا قيد أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه لأن بيع السرية ليس بمكروه ولا ضرر عليه فيه فإنه يأخذ الثمن بخلاف الطلاق فإنه مضر في الدين والدنيا وأيضا فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية فصل في أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر
قال أحمد في رواية يوسف بن موسى يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر وقال في رواية حنبل إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه ليس الأب كالأجنبي وقال في رواية يعقوب بن يوسف إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما وخرج عنهما
وقال في رواية ابن هانىء إذا كان له أبوان ولهما كرم يعصران عنبه ويجعلانه خمرا يسقونه يأمرهما وينهاهما فإن لم يقبلا خرج من عندها ولا يأوي معهما ذكره أبو بكر في زاد المسافر وذكر المروذي أن رجلا من أهل حمص سأل أبا عبد الله أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها قال إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمرا فلا تعاونه
____________________
(1/476)
فصل فيمن تأمره أمه بالمقام في موضع فيه مناكير
قال المروذي لأبي عبد الله فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره قال يستأذنها فإن أذنت له خرج فصل في اتقاء غضب الأم إذا ساعد قريبه
قال المروذي سألت أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته يسألني أن أشتري له ثوبا أو أسلم له غزلا فقال لا تعنه ولا تشتر له إلا بأمر والدتك فإن أمرتك فهو أسهل لعلها أن تغضب فصل فيما يجوز من ضرب الأولاد بشرطه
قال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عما يجوز فيه ضرب الولد قال الولد يضرب على الأدب قال وسألت أحمد هل يضرب الصبي على الصلاة قال إذا بلغ عشرا وقال حنبل إن أبا عبد الله قال اليتيم يؤدب ويضرب ضربا خفيفا
وقال الأثرم سئل أبو عبد الله عن ضرب المعلم الصبيان فقال على قدر ذنوبهم ويتوقى بجهده الضرب وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه وقال الخلال أخبرني محمد بن يزيد الواسطي عن أيوب قال سألت أبا هاشم عن الغلام يسلمه أبوه إلي الكتاب فيبعثه المعلم في غير الكتابة فمات في ذلك العمل قال هو ضامن انتهى كلامه وهذا يتوجه على أصل مسألتنا كما ذكره الإمام أحمد فيمن استقضى غلام الغير في حاجة أنه يضمن فصل في صلة الرحم وحد ما يحرم قطعه منها
قد تقدم أن عليه صلة رحمه قال المروذي أدخلت على أبي عبد الله رجلا
____________________
(1/477)
قدم من الثغر فقال لي قرابة بالمراغة فترى لي أن أرجع إلى الثغر أو ترى أن أذهب فأسلم على قرابتي وإنما جئت قاصدا لأسألك فقال له أبو عبد الله قد روي صلوا أرحامكم ولو بالسلام أخرجه البزار وابن عدي
استخر الله واذهب فسلم عليهم
وقال مثنى قلت لأبي عبد الله الرجل يكون له القرابة من النساء فلا يقومون بين يديه فأيش يجب عليه من برهم وفي كم ينبغي أن يأتيهم قال اللطف والسلام
وقد ذكر أبو الخطاب وغيره في مسألة العتق بالملك قد توعد الله سبحانه بقطع الأرحام باللعن وإحباط العمل ومعلوم أن الشرع لم يرد صلة كل ذي رحم وقرابة إذ لو كان ذلك لوجب صلة جميع بني آدم فلم يكن بد من ضبط ذلك بقرابة تجب صلتها وإكرامها ويحرم قطعها وتلك قرابة الرحم المحرم وقد نص عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها وأختها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان
وهذا الذي ذكره من أنه لا يجب إلا صلة الرحم المحرم اختاره بعض العلماء ونص أحمد الأول أنه تجب صلة الرحم محرما كان أولا وقد عرف من كلام أبي الخطاب أن لا يكفي في صلة الرحم مجرد السلام وكلام أحمد محتمل قال الفضل بن عبد الصمد لأبي عبد الله رجل له إخوة وأخوات بأرض غصب ترى أن يزورهم قال نعم ويزورهم ويراودهم على الخروج منها فإن أجابوا إلى ذلك وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم
____________________
(1/478)
قد سبق الكلام في بر الوالدين وقد قال تعالى { وبالوالدين إحسانا } وقال تعالى { أن اشكر لي ولوالديك }
والأم أولى بالبر وفي ذلك وصلة الرحم أحاديث كثيرة وفيها شهرة ومن صحيحها إن من أتم البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد ما يولي أخرجه مسلم
وذكر ابن عبد البر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يصل أباه بعد موته فليصل إخوان أبيه
وقوله صلى الله عليه وسلم الود يتوارث والبغض يتوارث أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد والذهبي
وقوله عليه السلام ثلاث يطفئن نور العبد أن يقطع ود أهل أبيه ويبدل سنة صالحة ويرمي ببصره في الحجرات
ومكتوب في بعض كتب الله تعالى لا تقطع من كان أبوك يصله فيطفأ نورك
وقال محمد بن المنكدر بت أغمز رجلي أمي وبات عمي يصلي ليلته فما سرني ليلته بليلتي
وعن ابن عباس قال إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره بأمه
ورأى أبو هريرة رجلا يمشي خلف رجل فقال من هذا قال أبي قال لا تدعه باسمه ولا تجلس قبله ولا تمش أمامه وقد قال الشاعر في ابنه
( يود الردى لي من سفاهة رأيه % ولو مت بانت للعدو مقاتله )
____________________
(1/479)
( إذا ما رآني مقبلا غض طرفه % كأن شعاع الشمس دوني تقابله )
وسبق قريبا تأديب الولد
وينبغي الصب على البنات والإحسان إليهن وأن لا يفضل عليهن الذكور بغير سبب شرعي وفي ذلك أخبار كثيرة في الصحاح وغيرها
وقد دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده بنت له فقال أبعدها الله عنك يا أمير المؤمنين فوالله ما علمت إنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن فقال معاوية لا تقل هذا يا عمرو فوالله ما مرض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعون على الأحزان منهن ولرب ابن أخت قد نفع خاله
وقال محمد بن سليمان البنون نعم والبنات حسنات والله عز وجل يحاسب على النعم ويجازي على الحسنات
وقال منصور الفقيه
( أحب البنات وحب البنات % فرض على كل نفس كريمه )
( لأن شعيبا من أجل البنات % أخدمه الله موسى كليمه )
قال قتادة رضي الله عنه رب جارية خير من غلام قد هلك أهله على يديه
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عجلوا بكنى أولادكم لا تسرع إليهم الألقاب السوء
وكتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأمصار علموا أولادكم العوم والفروسية وما سار من المثل وما حسن من الشعر
وكان يقال من تمام ما يجب للأبناء على الآباء تعليم الكتابة والحساب والسباحة
قال الحجاج لمعلم ولده علم ولدي السباحة قبل أن تعلمهم الكتابة فإنهم
____________________
(1/480)
يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الدعاء عليهم أخرجه مسلم
وكان يقال الدعاء على الولد والأهل بالموت يورث الفقر
وفي صحيح مسلم أن رجلا قال يا رسول الله أن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال إن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك أخرجه مسلم وأحمد
وصح عنه عليه السلام ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها
قال ابن عبد البر روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على الولد
قال الشاعر
( وجدت قريب الود خيرا وإن نأى % من الأبعد الود القريب المناسب )
( ورب أخ لم يدنه منك والد % أبر من ابن الأم عند النوائب )
( ورب بعيد حاضر لك نفعه % ورب قريب شاهد مثل غائب )
وقال منصور الفقيه
( ولا خير في قربى لغيرك نفعها % ولا في صديق لا تزال تعاتبه )
( يخونك ذو القربى مرارا وإنما % وفى لك عند الجهد من لا تناسبه )
____________________
(1/481)
وقال الفضل بن العباس في بني أمية
( لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم % وإن نكف الأذى عنكم وتؤذونا )
( مهلا بني عمنا مهلا موالينا % لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا )
بعونه تعالى تم الجزء الأول من الآداب الشرعية ويليه الجزء الثاني وأوله فصل في حسن الملكة وسوء الملكة
____________________
(1/482)
فصل في حسن الملكة وسوء الملكة
في الصحيحين أو في الصحيح (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة سيئ الملكة وهو الذي يسيء إلى مماليكه وكان يقال التسلط على المملوك دناءة
وقال بعض الحكماء اذكر عند قدرتك وغضبك قدرة الله عليك وعند حكمك حكم الله فيك
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أكثروا شراء الرقيق فرب عبد يكون أكثر مالا من سيده
وقال بعض الحكماء أفضل المماليك الصغار لأنهم أحسن طاعة وأقل خلافا وأسرع قبولا كان يقال استخدم الصغير حتى يكبر والأعجمي حتى يفصح قالت ابنة الفتح
( بطرتم فطرتم والعصا زجر من عصى % وتقويم عبد الهون بالهون رادع )
كان يقال الحر حر وإن مسه الضر والعبد عبد وإن مشي على الدر
وقال الشاعر
( إن العبيد إذا ذللتهم صلحوا % على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا )
____________________
1-
(2/5)
وقال المتنبي
( لا تشتر العبد إلا والعصا معه % إن العبيد لأنجاس مناكيد )
وقال آخر
( إذا أبرم المولى بخدمة عبده % تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب )
وعن علي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال الشاهد يرى ما لا يرى الغائب رواه أحمد في المسند (1) فصل في الإنفاق على الإخوان وسؤال بعضهم لبعض
قال ابن وهب أنفق ربيعة على إخوانه أربعين ألف دينار ثم كان بعد يسأل إخوانه في إخوانه وقال المروذي قال ابن وهب سمعت بشر بن الحارث يقول ولقد جاءني صديق لي وعندي عشرون درهما فأعطيته تسعة عشر درهما وبقيت لنفسي درهما ففيهم اليوم من يفعل هذا بصاحبه
وأبلغ من هذا ما قال هارون المستملي لقيت أحمد فقلت ما عندنا شيء فأعطاني خمسة دراهم وقال ما عندنا غيرها
وقال يحيى بن هلال الوراق جئت إلى محمد بن عبد الله بن نمير فشكوت إليه فأخرج أربعة دراهم أو خمسة وقال هذا نصف ما أملك وجئت مرة إلى أبي عبد الله بن حنبل فأخرج إلي أربعة دراهم وقال هذا جميع ما أملك
____________________
1- أخرجه أحمد وهو حديث حسن
(2/6)
فصل في الأدب والتواضع ومكارم الأخلاق وحظ الإمام أحمد منها
روى الخلال أن أحمد جاء إلى وكيع وعنده جماعة من الكوفيين فجلس بين يديه من أدبه وتواضعه فقيل يا أبا عبد الله إن الشيخ ليكرمك فما لك لا تتكلم فقال وإن كان يكرمني فينبغي لي أن أجله
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام ما استأذنت قط على محدث كنت أنتظره حتى يخرج إلي وتأولت قوله تعالى ( ^ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ) الحجرات 5
وقال المروذي كان أبو عبد الله لا يجهل وإن جهل عليه احتمل وحلم ويقول يكفيني الله ولم يكن بالحقود ولا العجول ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله إلى عمه ولا يغضب لعمه ويلقاهم بما يعرفونه من الكرامة وكان أبو عبد الله كثير التواضع يحب الفقراء لم أر الفقير في مجلس أحد أعز منه في مجلسه مائل إليهم مقصر عن أهل الدنيا تعلوه السكينة والوقار إذا جلس في مجلسه بعد العصر لم يتكلم حتى يسأل وإذا خرج إلى مجلسه لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس وكان لا يقطن الأماكن ويكره إيطانها وكان إذا انتهى إلى مجلس قوم جلس حيث انتهى به المجلس وصحبته في السفر والحضر وكان حسن الخلق دائم البشر لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ وكان يحب في الله ويبغض في الله وكان إذا أحب رجلا أحب له ما يحب لنفسه وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه له أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم أو إثم أو مكروه إن كان منه وكان إذا بلغه عن رجل صلاح أو زهد أو اتباع الأثر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة وكان رجلا وطيئا إذا كان حديث لا يرضاه اضطرب لذلك وتبين التغير في وجهه غضبا لله ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها فإذا كان في أمر من الدين اشتد غضبه له وكان أبو
____________________
(2/7)
عبد الله حسن الجوار يؤذي فيصبر ويحتمل الأذى من الجيران
وقال إسحاق بن إبراهيم بن يونس رأيت أحمد بن حنبل رضي الله عنه وقد صلى الغداة فدخل منزله وقال لا تتبعوني مرة أخرى وكان يمشي وحده متواضعا وقال ابن هاني رأيت أبا عبد الله إذا لقي امرأتين في الطريق وكان طريقه بينهما وقف ولم يمر حتى تجوزا
وعن أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق (1) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به رواه أبو داود من رواية شداد بن أبي عمرو بن حماس تفرد عنه أبو اليمان الرحال المدني وقد وثقه ابن حبان قال في النهاية هو أن يركبن حقها وهو وسطها يقال سقط على حاق القفا وحقه
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يمشي الرجل بين المرأتين + أخرجه أبو داود وقال أبو حاتم مجهول حدث بحديث منكر يريد هذا الحديث + رواه أبو داود والخلال من رواية داود بن أبي صالح قال أبو زرعة لا أعرفه إلا بهذا الخبر وهو منكر وقال البخاري لا يتابع عليه
وقال إبراهيم الحربي كان أحمد بن حنبل كأنه رجل قد وفق للأدب وسدد بالحلم وملئ بالعلم أتاه رجل يوما فقال عندك كتاب زندقة فسكت ساعة ثم قال إنما يحرز المؤمن قبره
وقال الخلال حدثنا إسحاق بن إبراهيم يعني المعروف بلؤلؤ قال حضر مجلس أبي عبد الله كبش الزنادقة فقلت له أي عدو الله أنت في مجلس أبي عبد الله ما
____________________
1- أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
(2/8)
تصنع فسمعني أحمد فقال مالك فقلت هذا عدو الله كبش الزنادقة قد حضر المجلس فقال من أمركم بهذا عمن أخذتم هذا دعوا الناس يأخذون العلم وينصرفون لعل الله ينفعهم به ذكره ابن الأخضر في ترجمته وقد تقدم ذكره
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي سمعت جدي يقول كان أبو عبد الله من أحيا الناس وأكرمهم نفسا وأحسنهم عشرة وأدبا كثير الإطراق والغض معرضا عن القبيح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث والرجال والطرق وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه وكان يتواضع تواضعا شديدا وكانوا يكرمونه ويعظمونه ويحبونه
وقال الطبراني كنا في مجلس أبي علي بشر بن موسى يعني ابن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي ومعنا أبو العباس بن سريج الفقيه القاضي فخاضوا في ذكر محمد بن جرير الطبري وأنه لم يدخل ذكر أحمد بن حنبل في كتابه الذي ألفه في اختلاف الفقهاء فقال أبو العباس بن سريج وهل أصول الفقه إلا ما كان يحسنه أحمد بن حنبل حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعرفة بسنته واختلاف الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
وقال الحسن بن أحمد بن الليث الرازي كنت في مجلس أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقام إليه رجل من أهل الري يقال له بشر فقال يا أبا عبد الله عندنا شاب بالري يقال له أبو زرعة نكتب عنه فنظر أحمد إليه كالمنكر لقوله شاب فقال نعم الثقة المأمون أعلى الله كعبه نصره الله على أعدائه فلما قدمت الري أخبرت أبا زرعة فاستعبر وقال والله إني لأكون في الأمر العظيم من أذى الجهمية فأتوقع الفرج بدعاء أبي عبد الله
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول جاءني أبو علي بن يحيى بن خاقان فقال لي إن كتابا جاء فيه إن أمير المؤمنين يعني المتوكل يقرئك السلام ويقول لك لو سلم أحد من الناس لسلمت أنت هاهنا رجل قد رفع عليك وهو
____________________
(2/9)
في أيدينا محبوس رفع عليك أن علويا قد توجه من أرض خراسان وقد بعثت برجل من أصحابك يتلقاه فإن شئت ضربته وإن شئت حبسته وإن شئت بعثته إليك قال أبو عبد الله فقلت له ما أعرف مما قال شيئا وأرى أن تطلقوه ولا تعرضوا له
وقال لما سير عامر بن عبد قيس إلى الشام اجتمعوا عليه وحوله بالمربد فقال إني داع فأمنوا ثم قال اللهم من سعى لي فأكثر ماله وولده وأطل عمره واجعله موطأ العقبين
وقال المروذي أخبرت أبا عبد الله عن رجل سفيه يتكلم ويؤذي قال لا تعرضوا له إنه من لم يقر بقليل ما يأتي به السفيه أقر بالكثير
وروي الخلال عن أبي جعفر الخطمي عن جده عمرو بن حبيب وكانت له صحبة أنه أوصى بنيه فقال إياكم ومجالسة السفهاء فإن مجالستهم داء وإنه من لم يقر بقليل ما يأتي به السفيه يقر بالكثير قال ابن الجوزي قالت الحكماء السفه نباح الإنسان وقال الشاعر
( ومن يعض الكلب إن عضا % )
وأنت ترى السبع إذا مر به السباع في السوق كيف تنبحه الكلاب وتقرب منه ولا يلتفت ولا يعدها شيئا إذ لو التفت كان نظيرا ومتى أمسك عن الجاهل عاد ما عنده من العقل موبخا له على قبح ما أتى به وأقبل عليه الخلق لائمين له على سوء أدبه في حق من لا يجيبه وقد قال الشاعر
( وأغيظ من ناداك من لا تجيبه % )
وما ندم حليم ولا ساكت وإنما يندم المقدم على المقابلة والناطق فإن شئت فاحتسب سكوتك عن السفيه أجرا لك وإن شئت فاعدده احترازا من أن تقع في إثم وإن شئت كان احتقارا له وإن شئت كان سكوتك سببا لمعاونة الناس لك
____________________
(2/10)
وإن تلمحت القدر علمت أنه ما يسلط إلا مسلط فرأيت الفعل ما غيره إما عقوبة وإما مثوبة
وروى أبو داود حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب أنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل في أبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر فقال أبو بكر أوجدت علي يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم نزل ملك من السماء يكذبه لما قال لك فلما انتصرت وقع الشيطان فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان (1) حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رجلا كان يسب أبا بكر وساق نحوه
قال أبو داود وكذلك رواه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان كما قال سفيان إسناد جيد والذي قبله من مراسيل سعيد بن المسيب وبشير تفرد عنه المقبري
ثم روى أبو داود في هذا الباب وهو باب الانتصار عن عبيد الله بن معاذ والقواريري عن معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون قال كنت أسأل عن الانتصار ( ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) الشوري 41 فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون وزعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين قالت قالت أم المؤمنين دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش فجعل يصنع شيئا بيده حتى فطنته لها فأمسك فأقبلت زينب تقحم لعائشة فأبت أن تنتهي فقال لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها فانطلقت زينب إلى علي فقالت إن عائشة وقعت بكم وفعلت فجاءت فاطمة فقال لها إنها حبة أبيك ورب الكعبة فانصرفت فقالت لهم إني قلت له كذا
____________________
1- أخرجه أبو داود
(2/11)
وكذا فقال لي كذا وكذا قالت وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك (1) أم محمد تفرد عنها علي بن زيد وعلي حديثه حسن + كلا ليس بحسن فقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني +
ولأبي داود بإسناد حسن من حديث جابر بن سليم وإن امرؤ شتمك أو عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه يكن وبال ذلك عليه + أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي حسن صحيح + ولأحمد هذا المعنى وفيه فيكون أجره لك ووزره عليه
وروى أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن النعمان بن مقرن المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب رجل رجلا عنده فجعل الرجل المسبوب يقول عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن ملكا بينكما يذب عنك كلما شتمك هذا قال له بك أنت وأنت أحق به وإذا قلت له عليك السلام قال لا بل أنت أحق به + أخرجه أحمد + وكلهم ثقات وأبو بكر هو ابن عياش والظاهر أن أبا خالد لم يدرك النعمان
وروى أبو حفص العكبري في الأدب له عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم من يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه وروى أيضا عن عبد الملك بن أبجر قال انتهى الشعبي إلى رجلين وهما يغتابانه ويقعان فيه فقال
( هنيئا مريئا غير داء مخامر % لعزة من أعراضنا ما استحلت )
وروى أيضا عن عمر رضي الله عنه قال لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وحدته ومن ينصف الناس من نفسه يعط الظفر من أمره والذل في الطاعة أقرب إلى المؤمن من التقرب في المعصية
____________________
1- أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
(2/12)
وروى أيضا عن ابن عباس قال ما بلغني من أحد مكروه إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل إن كان فوقي عرفت له قدره وإن كان نظيري تفضلت عليه وإن كان دوني لم أحفل به هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة قال ابن عقيل في الفنون وذكر قول المجنون
( حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا % هنيئا ومغفورا لليلى ذنوبها )
قال ابن عبد البر وكان يقال الغالب في الشر مغلوب شتم رجل أبا ذر فقال له يا هذا لا تغرقن في شتمنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه أعطى الحسن بن علي رضي الله عنهما شاعرا فقيل له لم تعطي من يقول البهتان ويعصي الرحمن فقال إن خير ما بذلت به من مالك ما وقيت به من عرضك ومن ابتغى الخير اتقى الشر
قال الشاعر
( وما يقي عنك قوما أنت خائفهم % كمثل دفعك جهالا بجهال )
( فاقعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا % ووزان الشر مثقالا بمثقال )
القعس خروج الصدر ودخول الظهر وهو ضد الحدب يقال رجل قعس وقعيس ومتقاعس وقال آخر
( لعمرك ما سب الأمير عدوه % ولكنما سب الأمير المبلغ )
وقال آخر
( حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا % هنيئا ومغفورا لليلى ذنوبها )
ويأتي ما يتعلق بهذا بالقرب من نصف الكتاب فيما يتعلق بمكارم الأخلاق قبل ذكر الزهد
وقال ابن هبيرة الحنبلي الوزير ليكن غاية أملك من عدوك الإنصاف فمتى
____________________
(2/13)
طلبته منه كان سائر الخلق عونا لك فأما أخوك وصديقك فعاملهما بالفضل والمسامحة لا بالعدل
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في الإمام أحمد في أثناء كلام له فبارك الله فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم وإنه لكما قال مطريه
( يزينك إما غاب عنك فإن دنا % رأيت له وجها يسرك مقبلا )
( يعلم هذا الخلق ما شذ عنهم % من الأدب المجهول كهفا ومعقلا )
( ويجسر في ذات الإله إذا رأى % مضيما لأهل الحق لا يسأم البلا )
( وإخوانه الأدنون كل موفق % بصير بأمر الله يسمو إلى العلا )
وقال الخلال ثنا المروذي قال قال لي أحمد ما كتبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا (1) فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت
وقال الحسين بن إسماعيل سمعت أبي يقول كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون أقل من خمس مئة يكتبون والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت
وقال محمد بن مسلم كنا نهاب أن نراد أحمد بن حنبل في الشيء أو نحاجه في شيء من الأشياء يعني لجلالته ولهيبة الإسلام الذي رزقه
وقال الميموني ما رأيت أحدا أنظف ثوبا ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبا وأشد بياضا من أحمد بن حنبل وقالت فاطمة بنت أحمد بن حنبل وقع الحريق في بيت أخي صالح وكان قد تزوج إلى قوم مياسير فحملوا إليه جهازا شبيها بأربعة آلاف دينار فأكلته النار فجعل صالح يقول ما غمني ما ذهب مني إلا ثوب أبي كان يصلي فيه أتبرك به وأصلي فيه قالت فطفئ
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/14)
الحريق ودخلوا فوجدوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حوله والثوب سالم
قال ابن الجوزي وهكذا بلغني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم فاحترق ما فيها إلا كتابا كان فيه شيء بخط أحمد
قال ابن الجوزي ولما وقع الغرق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمس مئة وغرقت كتبي سلم لي مجلد فيه ورقتان من خط الإمام أحمد رحمه الله انتهى كلامه
وفي قصيدة إسماعيل بن فلان الترمذي التي أنشدها للإمام أحمد بن حنبل وهو في السجن في المحنة يقول فيها
( إذا ميز الأشياخ يوما وحصلوا % فأحمد من بين المشايخ جوهر )
( إذا افتخر الأقوام يوما بسيد % ففيه لما والحمد الله مفخر )
( فيا أيها الساعي ليدرك شأوه % رويدك عن إدراكه ستقصر )
( حمى نفسه الدنيا وقد سمحت له % فمنزله إلا من القوت مقفر )
( فإن يك في الدنيا مقلا فإنه % من الأدب المحمود والعلم مكثر )
وروي من غير طريق أن الشافعي رضي الله عنه كتب من مصر كتابا وأعطاه للربيع ابن سليمان وقال اذهب به إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب فجاء به إليه فلما قرأه تغرغرت عيناه بالدموع وكان الشافعي ذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام وقل له إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن ولا تجبهم يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة فقال له الربيع البشارة فأعطاه قميصه الذي يلي جلده وجواب الكتاب فقال له الشافعي أي شيء دفع إليك قال القميص الذي يلي جلده قال ليس نفجعك به ولكن بله وادفع إلينا الماء حتى نشركك فيه وفي بعض الطرق قال الربيع فغسلته وحملت ماءه إليه فتركه في قنينة وكنت أراه في كل يوم يأخذ منه فيمسح على وجهه تبركا بأحمد بن حنبل رضي الله عنهما
وقد قال الشيخ تقي الدين كذبوا على الإمام أحمد حكايات في السنة والورع وذكر هذه الحكاية وحكاية امتناعه من الخبز الذي خبز في بيت ابنه صالح لما تولى
____________________
(2/15)
القضاء ودفع إلى الإمام أحمد كتاب من رجل يسأله أن يدعو له فقال فإذا دعونا لهذا فنحن من يدعو لنا فصل في حسن الجوار
وروى المرذوي عن الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى حسن الجوار الصبر على الأذى ورواه أبو حفص العكبري في الأدب له عن الشعبي وفي الصحيحين من حديث عائشة ومن حديث ابن عمر ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (1)
وفيهما من حديث أبي هريرة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه + أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان + ولمسلم أيضا فليحسن إلى جاره + صحيح مسلم + ورواه أيضا من حديث أبي شريح العدوي ولأحمد فليكرم جاره ولأحمد من حديث عبد الله بن عمر فليحفظ جاره
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه + أخرجه البخاري وأحمد + ولمسلم أيضا لا يدخل الجنة + صحيح مسلم + وروى أبو داود حدثنا الربيع بن نافع بن توبة حدثنا سليمان بن حيان عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال اذهب فاصبر فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق فطرح متاعه في الطريق فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه فعل الله به وفعل فجاء إليه جاره فقال له ارجع لا ترى مني شيئا
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/16)
تكرهه (1) إسناده جيد ومحمد حسن الحديث
وله أيضا وللترمذي وقال حسن غريب عن عبد الله بن عمرو أنه ذبح شاة فقال أهديتم لجارنا اليهودي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما زال جبريل الحديث + أخرجه أبو داود والترمذي وإسناده قوي +
وقال البخاري في التاريخ في الكنى أبو عمر هو البجلي قال علي بن حكيم الأودي حدثنا شريك عن أبي عمر عن أبي جحيفة قال شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاره فقال احمل متاعك فضعه على الطريق فمن مر به يلعنه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما لقيت من الناس فقال إن لعنة الله فوق لعنتهم + أخرجه البخاري وإسناده ضعيف +
وقال ابن عبد البر كان داود عليه السلام يقول اللهم إني أعوذ بك من جار سوء عينه تراني وقلبه لا ينساني وقال أبو الدرداء مكتوب في التوراة إن أحسد الناس للعالم وأبغاهم عليه قرابته وجيرانه وقال عكرمة إن أزهد الناس في عالم جيرانه وقال البيهقي وغيره عن كعب الأحبار في الكتاب المنزل الأول أزهد الناس في عالم جيرانه وقال الحسن البصري وروي مرفوعا ولا يصح
قال ابن عبد البر وقال رجل لسعيد بن العاص والله إني أحبك فقال ولم لا تحبني ولست لي بجار ولا ابن عم كان يقال الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب قال الشاعر
( أنت خلي وأنت حرمة جاري % وحقيق على حفظ الجوار )
( إن للجار إن تغيب عينا % حافظا للمغيب والأسرار )
( ما أبالي أكان للباب ستر % مسبل أم بقي بغير ستار )
____________________
1- أخرجه أبو داود وسنده حسن
(2/17)
وقال آخر
( ناري ونار الجار واحدة % وإليه قبلي تنزل القدر )
( ما ضر جارا لي أجاوره % أن لا يكون لبابه ستر )
( أعمى إذا ما جارتي برزت % حتى تواري جارتي الجدر )
وقال آخر
( أقول لجاري إذ أتاني معاتبا % مدلا بحق أو مدلا بباطل )
( إذا لم يصل خيري وأنت مجاور % إليك فما شري إليك بواصل )
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق أخذه الشاعر فقال
( يقولون قبل الدار جار موافق % وقبل الطريق النهج أنس رفيق )
وقال آخر
( اطلب لنفسك جيرانا تجاورهم % لا تصلح الدار حتى يصلح الجار )
وقال آخر
( يلومونني إذ بعت بالرخص منزلا % ولم يعرفوا جارا هناك ينغص )
( فقلت لهم كفوا الملام فإنها % بجيرانها تغلو الديار وترخص )
وقال الحسن البصري رحمه الله إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حق الجار أن تبسط إليه معروفك وتكف عنه أذاك
وقال علي بن أبي طالب للعباس ما بقي من كرم إخوانك قال الإفضال على الإخوان وترك أذى الجيران قال الشاعر
( سقيا ورعيا لأقوام نزلت بهم % كأن دار اغترابي عندهم وطني )
( إذا تأملت من أخلاقهم خلقا % علمت أنهم من حلية الزمن وقال آخر )
____________________
(2/18)
( إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي % له مركب فضل فلا حملت رحلي )
( ولم يك من زادي له نصف مزودي % فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل )
( شريكين فيما نحن فيه وقد أرى % علي له فضلا بما نال من فضلي )
وقال آخر
( نزلت على آل المهلب شاتيا % غريبا عن الأوطان في بلد محل )
( فما زال بي إكرامهم وافتقادهم % وبرهم حتى حسبتهم أهلي )
وذكر ابن عبد البر ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه
كدر العيش في ثلاث الجار السوء والولد العاق والمرأة السيئة الخلق ثلاثة لا يأنف الكريم من القيام عليهن أبوه وضيفه ودابته ويأتي هذا المعنى في مخالطة السلطان قبل فصول اللباس
خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف الحدة في السلطان وقلة الحياء في ذوي الأحساب والبخل في ذوي الأموال والفتوة في الشيوخ والحرص في العلماء والقراء
وفيهما أيضا من حديثه يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة (1)
وللترمذي تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة + أخرجه الترمذي وأحمد وهو ضعيف وفي الباب عن أبي هريرة رفعه تهادوا تحابوا رواه البخاري وسنده حسن +
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/19)
الفرسن العظم قليل اللحم وهو خف البعير أيضا كالحافر للدابة وقد يستعار للشاة وهو الظلف ونونه زائدة وقيل أصلية ووحر الصدر بالتحريك غشه ووسواسه
ولأحمد من حديث عمر لا يشبع الرجل دون جاره
قال في المستوعب وحسن الجوار مأمور به فإن للجار حقا وحرمة ثم ذكر كما ذكر الحسن وزاد في آخره ما لم يعص الله تعالى
وجاء رجل إلى أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب يشاوره في الانتقال من محلة إلى أخرى لتأذي الجوار فقال العرب تقول صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه وكان الشيخ تقي الدين يقول هذا المعنى أيضا
وروى البيهقي في مناقب الإمام أحمد عن عثمان بن زائدة قال العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل فحدثت به أحمد بن حنبل فقال العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل
وروى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ما كثرت النعم على قوم قط إلا كثر أعداؤها وقد ذكرت خبر حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا يا رسول الله وكيف يذل نفسه قال يتعرض من البلاء ما لا يطيق (1) وقال بعضهم
____________________
1- أخرجه ابن ماجه والترمذي وله شاهد من حديث ابن عمر يتقوى به بسند حسن عند الطبراني
(2/20)
( إن الهوان حمار الموت يألفه % والحر ينكره والفيل والأسد )
( ولا يقيم بدار الذل يألفها % إلا الذليلان عبد السوء والوتد )
( هذا على الخسف مربوط برمته % وذا يشج فلا يرثي له أحد )
وقال آخر
( إذا كنت في دار يهينك أهلها % ولم تك مكبولا بها فتحول )
وقال آخر
( لا تأسفن على خل تفارقه % إن الأقاصي قد تدنو فتأتلف )
( فالناس مبتدل والأرض واسعة % فيها مجال لذي لب ومنصرف )
وقال آخر
( إذا ما الحر هان بأرض قوم % فليس عليه في هرب جناح )
( وقد هنا بأرضكم وصرنا % لقى في الأرض تذروه الرياح )
وقال آخر
( وإذا الديار تنكرت عن حالها % فدع الديار وأسرع التحويلا )
( ليس المقام عليك حقا واجبا % في منزل يدع العزيز ذليلا )
وقال آخر
( وكنت إذا ضاقت علي محلة % تيممت أخرى ما علي تضيق )
( وما خاب بين الله والناس عامل % له في التقى أو في المحامد سوق )
( ولا ضاق فضل الله عن متعفف % ولكن أخلاق الرجال تضيق )
وقال آخر
____________________
(2/21)
( إذا كنت في دار فحاولت رحلة % فدعها وفيها إن أردت معاد )
وقال آخر
( اصبر على حدث الزمان فإنما % فرج الشدائد مثل حل عقال )
( فإذا خشيت تعذرا في بلدة % فاشدد عليك بعاجل الترحال )
( إن المقام على الهوان مذلة % والعجز آفة حيلة المحتال )
وقيل
( لا يمنعنك خفض العيش في دعة % نزوع نفس إلى أهل وأوطان )
( تلقى بكل بلاد إن نزلت بها % أهلا بأهل وجيرانا بجيران )
وقال ابن عبد البر حين رحل من إشبيلية
( وقائلة مالي أراك مرحلا % فقلت لها صبرا واسمعي القول مجملا )
( تنكر من كنا نسر بقربه % وعاد زعافا بعد ما كان سلسلا )
( وحق لجار لم يوافقه جاره % ولا لاءمته الدار أن يترحلا )
( أليس بحزم من له الظل مقعدا % إذا أدركته الشمس أن يتحولا )
( بليت بحمص والمقام ببلدة % طويلا لعمري مخلق يورث البلا )
( إذا هان حر عند قوم أتاهم % ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا )
( ولم تضرب الأمثال إلا لعالم % ولا غرب الإنسان إلا ليعقلا )
قال ابن عبد البر قيل للأوزاعي رجل قدم إلى ضيفه الكامخ والزيتون وعندهم اللحم والعسل والسمن فقال لا يؤمن هذا بالله ولا باليوم الاخر
قال الشاعر
( طعامي طعام الضيف والرحل رحله % ولم يلهني عنه غزال مقنع )
( احدثه إن الحديث من القرى % وتعلم نفسي أنه سوف يهجع )
وقال آخر
____________________
(2/22)
( يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا % فليس يعلم خلق أينا الضيف )
وقال حسان
( يغشون حتى ما تهر كلابهم % لا يسألون عن السواد المقبل )
وقال آخر
( وقد عرفت كلابهم ثيابي % كأني منهم ونسيت أهلي )
وقال آخر
( أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله % ويخصب عندي والمحل جديب )
( وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى % ولكنما وجه الكريم خصيب )
وقيل
( وضيفك قابله ببشرك وليكن % له منك أبكار الحديث وعونه )
وقيل
( تراهم خشية الأضياف خرسا % يصلون الصلاة بلا أذان )
وقيل
( ذريني فإن الشح يا أم مالك % لصالح أخلاق الرجال سروق )
( ذريني وحظي في هواني إنني على الحسب العالي الرفيع شفيق ) فصل في حب الفقر والموت والحذر من الدنيا
قال المروذي قال أبو عبد الله كأنك بالموت وقد فرق بيننا أنا لا أعدل بالفقر شيئا أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء إني لأتمنى الموت صباحا ومساء أخاف أن أفتن في الدنيا قال مسروق إنما تحفة المؤمن قبره
وقال إسحاق بن هانئ قال أبو عبد الله قال الحسن أهينوا الدنيا فوالله لأهنأ ما تكون حين تهان
____________________
(2/23)
وقال أحمد أيضا الغنى من العافية وقال له رجل أوصني قال أعز أمر الله حيثما كنت يعزك الله
وقال يحيى الجلا سمعت أحمد بن حنبل يقول عزيز علي أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت صدورهم القرآن
وقال إبراهيم بن هانئ اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال ثم قال لي اطلب لي موضعا حتى أدور قلت إني لا آمن عليك يا أبا عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم اختفى في الغار ثلاثة أيام (1) وليس ينبغي أن تتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء وتترك في الشدة وطلبه المأمون فمات قبل أن يصل إليه
قال صالح قال أبي وكنت أدعو الله أن لا أراه فحدثني أبي حدثنا معمر بن سليمان عن فرات بن سليمان عن ميمون عن مهران قال ثلاثة لا تبلون نفسك بهن لا تدخلن على سلطان وإن قلت آمره بطاعة ولا تدخلن على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله ولا تصغين سمعك لذى هوى فإنك لا تدري ما يعلق قلبك منه
قال صالح سمعت أبي رحمه الله يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي
وروى الخلال عن محمد بن موسى عن أبي جعفر محمد بن زهير أن رجلا أتى أحمد فسأله عن شيء فأجابه فقال له جزاك الله عن الإسلام خيرا فغضب وقال له من أنا حتى يجزيني الله عن الإسلام خيرا أنت في غير حل من جلوسك قال رجل لعمر بن عبد العزيز جزاك الله عن الإسلام خيرا
وقال إبراهيم بن عبد الله عن أحمد ما سمعت كلمة كانت أقوى لقلبي وأقر لعيني في المحنة من كلمة سمعتها من فقير أعمى في رحبة طوق قال لي يا أحمد إن تهلك في الحق مت شهيدا وإن عشت عشت حميدا
____________________
1- أخرجه البخاري
(2/24)
وقال إسحاق بن حنبل عم أحمد يا أبا عبد الله قد أعذرت فيما بينك وبين الله تعالى وقد أجاب أصحابك واليوم بقيت في الحبس والشر فقال لي يا عم إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق فأمسكت عنه
وقال ابن المنادي دخل أحمد بن داود الحداد على أبي عبد الله الحبس قبل الضرب فقال له في بعض كلامه يا أبا عبد الله عليك رجال ولك صبيان وأنت معذور كأنه يسهل عليه الإجابة فقال له أحمد بن حنبل إن كان هذا عقلك فقد استرحت
وقال أبو جعفر الرازي كان إسحاق بن إبراهيم يقول أنا والله رأيت يوم ضرب أحمد وقد ارتفع من بعد انخفاضه وانعقد من بعد انحلاله ولم يفطن لذلك لذهول عقل من حضره وما رأيت يوما كان أعظم من ذلك اليوم
وقال الحسن بن الصباح البزار أحد الأئمة الأعلام حدثنا سيدنا وشيخنا أحمد ابن حنبل وقال قد كان ها هنا أحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وكنا نرجو أن يحفظنا الله تعالى بهما إنهما ماتا وبقي سري فإني أرجو أن يحفظنا الله بسري
وقد قال أبو الفضل الحسن بن محمد ابن أعين سمعت أحمد ابن حنبل يقول لولا بشر يعني الحافي وما نرجوه من استغفاره لكنا في عضلة
وقال أبو زرعة قلت لأحمد بن حنبل كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق فقال لو وضع الصدق على جرح لبرئ
وقال خلف جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة فاجتهدت ان أرفعه فأبى وقال لا أجلس إلا بين يديك أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه
وقال محمد بن محمد بن عمر أبو الحسن العطار إنه رأى أحمد بن حنبل أخذ لداود بن عمر بالركاب ذكره الحافظ تقي الدين بن الأخضر فيمن روى عن أحمد
وذكر أيضا أن أحمد بن سعيد الرباطي لأنه تولى الرباطات فنسب إليها قال سمعت أحمد ابن حنبل يقول أخذنا هذا العلم بالذل فلا ندفعه إلا بالذل
____________________
(2/25)
وقال الرباطي قدمت على أحمد ابن حنبل فجعل لا يرفع رأسه إلي فقلت يا أبا عبد الله إنه يكتب عني بخراسان وإن عاملتني بهذه المعاملة رموا بحديثي فقال لي أحمد وهل بد يوم القيامة أن يقال أين عبد الله بن طاهر وأتباعه انظر أين تكون منهم فقلت يا أبا عبد الله إنما ولاني أمر الرباط لذلك دخلت قال فجعل يكرر ذلك علي
وينبغي أن يخفض صوته عنده قال الشيخ تقي الدين من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له انتهى كلامه
ولما رفع صوته سعد على أبي جهل قال له بعض قريش لا ترفع صوتك على أبي الحكم وقد قال تعالى ( ^ واغضض من صوتك ) لقمان 19 أي انقص منه ومنه قوله غضضت بصري وفلان يغض بصره من فلان ( ^ إن أنكر الأصوات ) لقمان 19 أي أقبح تقول أتانا فلان بوجه منكر أي قبيح
وقال المبرد تأويله أن الجهر بالصوت ليس بمحمود وأنه داخل في باب الصوت المنكر
وقال ابن قتيبة عرفه قبح رفع الأصوات في المخاطبة بقبح أصوات الحمير لأنها عالية
قال ابن زيد لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله الله للحمير وقال سفيان الثوري صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار فإنه ينهق بلا فائدة ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره
وقال ابن عقيل في الفنون مما وجدته في آداب أحمد رضي الله عنه أنه كان مستندا وذكر عنده ابن طهمان فأزال ظهره عن الاستناد وقال لا ينبغي أن يجري ذكر الصالحين ونحن مستندون قال ابن عقيل فاخذت من هذا حسن الأدب فيما يفعله الناس عند إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته وقد ذكر هذا الحافظ ابن الآخضر فيمن روى عن أحمد بن ترجمة أبي زرعة الرازي قال سمعت أحمد ابن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان متكئا من علة فاستوى جالسا وقال لا
____________________
(2/26)
ينبغي أن نذكر الصالحين فنتكئ
وقال الشافعي لا يطلب هذا العلم أحد بالملك وعزة النفس فيفلح لكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم وتواضع النفس أفلح
وقال أبو توبة البغدادي رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام فقلت له يا أبا عبد الله هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث فقال هذا يفوت وذاك لا يفوت
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير قال واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم قال فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب فيخرج فيقول يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ألا أرسلت إلي فآتيك فأقول أنا أحق أن آتيك فأسأله عن الحديث قال فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي فيقول هذا الفتى كان أعقل مني
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على أبي بن كعب ( ^ لم يكن الذين كفروا ) البينة 1 وأن الله أمره بذلك (1)
قال بعضهم قرأ عليه لتعليمه وقال بعضهم ليسن التواضع في أخذ الإنسان من العلوم عن أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك ولينبه الناس على فضيلة أبي وتقديمه فيجتهدون في الأخذ عنه وإنما خص هذه السورة لاقتضاء الحال الاختصار مع أنها جامعة
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/27)
وكان علي بن الحسين زين العابدين يدخل المسجد فيشق الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم فعوتب في ذلك فقال إن العلم يبتغى ويؤتى ويطلب من حيث كان
وكان عروة بن الزبير يقول لبنيه إنا كنا صغار قوم وإنا اليوم كبار وإنكم ستكونون مثلنا إن بقيتم ولا خير في كبير لا علم عنده
وقال عبد الملك بن عمير لقد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى في حلقة فيها نفر من الصحابة يستمعون لحديثه وينصتون له منهم البراء بن عازب
وعن الأصمعي قال من لم يحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبدا
وقال عبد الله بن المعتز المتواضع في طلب العلم أكثرهم علما كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء وقد نظم هذا أبو عامر النسوي فقال
( العلم يأتي كل ذي % خفض ويأبى كل آبي )
( كالماء ينزل في الوهاد % وليس يصعد في الروابي )
وكذلك ينبغي أن يتحمل الطالب ما يكون من الشيخ أو من بقية الطلبة لئلا يفوته العلم فتفوته الدنيا والآخرة مع حصول العدو طلبه وشماته الأعداء من الأربعة المأمور بالاستعاذة منهن في الصحيحين في قوله عليه السلام تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء (1) وقد قيل
( لمحبرة تجالسني نهاري % أحب إلي من أنس الصديق )
( ورزمة كاغد في البيت عندي % أعز إلي من عدل الدقيق )
( ولطمة عالم في الخد مني % ألذ إلي من شرب الرحيق )
وقال الشافعي غضب الأعمش يوما على رجل من الطلبة فقال آخر لو غضب علي مثلك لم أعد إليه فقال له الأعمش إذا هو أحمق مثلك يترك ما ينفعه لسوء
____________________
1- أخرجه البخاري والنسائي
(2/28)
خلقي ذكره البيهقي فصل في الوحدة والعزلة والتواضع في سيرة أحمد
قال عبد الله كان أبي أصبر الناس على الوحدة وقال لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وكان يكره المشي في الأسواق وقال الميموني عنه رأيت الوحدة أروح لقلبي
وقال المروذي ذكرت لأبي عبد الله عبد الوهاب على أن يلتقيا فقال أليس قد كره بعضهم اللقاء وقال يتزين لي وأتزين له وكفى بالعزلة علما والفقيه الذي يخاف الله
وقال لي أبو عبد الله قل لعبد الوهاب أخمل ذكرك فإني أنا قد بليت بالشهرة
وقال غيره عن أحمد طوبى لمن أخمل الله ذكره ونقل غيره عن أحمد أنه قال أشتهي ما لا يكون أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس
وقال أبو عبد الله أحمد بن محمد المسيبي قلت لأبي عبد الله إني أحب أن آتيك فأسلم عليك ولكن أخاف أن يكره الرجل فقال إنا لنكره ذلك
وقال الأثرم سمعت الهيثم بن خارجة قال لأبي عبد الله أنت عروس تزار ولا تزور
ومن نظر في سيرة أبي عبد الله وترجمة ما سبق وما يأتي وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم وأنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي أن دغفلا دخل على معاوية فقال له أي بيت أفخر قال قول الشاعر
( له همم لا منتهى لكبارها % وهمته الصغرى أجل من الدهر )
( له راحة لو أن معشار جودها % على البر كان البر أندى من البحر )
وقال صالح كان أبي إذا دعا له رجل يقول الأعمال بخواتيمها
____________________
(2/29)
وقال عامر للإمام أحمد يا أبا عبد الله بلغني أنك رجل من العرب فمن أي العرب أنت فقال لي يا أبا النعمان نحن قوم مساكين وما نصنع بهذا فكان ربما جاءني أريده على أن يخبرني فيعيد علي مثل ذلك الكلام ولا يخبرني بشيء
وقال عبد الله بن الرومي كنت كثيرا ما أرى أبا عبد الله أحمد ابن حنبل يعني وهو بالبصرة يأتي إلى مسجد بني مازن فيصلي فيه فقلت له يا أبا عبد الله إني أراك كثيرا تصلي في هذا المسجد قال إنه مسجد آبائي
وقال الخلال حدثنا المروذي قال حضرت أبا ثور سئل عن مسألة فقال قال أبو عبد الله إمامنا أو قال شيخنا أحمد بن حنبل فيها كذا وكذا فجعل السائل يدعو له ولم يسأله عن رأيه فلما مضى التفت إلينا فقال هذا لو أخبرته عن رأيي لكان يعني يطول فحيث قلت له أحمد ابن حنبل مر وسكت وجاء رجل إلى أبي عبد الله فقال إن لي والدة مقعدة تسألك أن تدعو لها قال فغضب وقال كيف قصدتني قل لوالدتك تدعو لي هذه مبتلاة وأنا معافى ثم دعا لها وعوفيت
وجاء رجل إلى أبي عبد الله من سمرقند بكتاب عبيد الله بن عبد الرحمن يجعل له مجلسا فأهدى إلى أبي عبد الله يوما ثوبا فأعطاه رجلا فقال اذهب به إلى السوق فقومه فذهب فجاء نيف وعشرون درهما فحجبه أبو عبد الله حتى اشترى له ثوبين ومقنعة أو ثوبا ومقنعة وبعث به إليه ثم أذن له فحدثه وقال عبد الله رأيت أبي إذا اختفى أكثر ذلك يقرأ القرآن
وقال الأثرم ربما يترك أصحاب أحمد بن حنبل أشياء ليس لها تبعة عند الله مخافة أن يعيروا بأحمد بن حنبل رضي الله عنه
وقال أحمد بن الحسن الترمذي رأيت أبا عبد الله يشتري من السوق الخبز ويحمل بنفسه في الزنبيل ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة ويجعله في زبدية أو شيء آخر فيحمله وهو آخذ بيد عبد الله ابنه وقال صالح كان أبي ربما خرج إلى البقال فيشتري جرزة حطب فيحملها
وقال الخلال أخبرنا المروذي سمعت أبا عبد الله يقول كان يحيى بن يحيى
____________________
(2/30)
قد أوصى لي بجبة قال ففرحت بها وأردت أن آخذها قال وكانت أعجبتني الجبة فقلت رجل صالح وقد صلى فيها قال فجاؤو بها ومعها شيء آخر فرددته كله
وقال الفضل بن زياد عن أحمد بن حنبل ما أعظم بركة المغزل
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول الخوف منعني أكل الطعام والشراب فما أشتهيته
وقال الخلال أخبرني أبو بكر بن صدقة سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال أتيت أحمد بن حنبل أنا وعبد الله بن سعيد الحمال وذلك في آخر سنة المئتين فقال أبو عبد الله لعبد الله بن سعيد يا أبا محمد إن أقواما يسألوني أن أحدث فهل ترى ذلك قال فسكت أبو عبد الله وأطال السكوت قال فقلت أنا لأبي عبد الله أجيبك أنا قال تكلم قال قلت له إن كنت تشتهي أن تحدث فلا تحدث وإن كنت تشتهي أن لا تحدث فحدث قال فكأن أبا عبد الله استحسن ذلك قال فلما انبسط في الحديث قال فظننت أنه كان لا يشتهي أن يحدث
وقيل لبشر بن الحارث يا أبا نصر الرجل يكون عنده علم من القرآن فترى له أن يجلس فيعلم الناس قال إن كان يحب ذلك فلا يجلس فصل الخوف والرجاء وما قيل في تساويهما وعدمه
قال الإمام أحمد رضي الله عنه سبحانك ما أغفل هذا الخلق عما أمامهم الخائف منهم مقصر والراجي متوان
وقال المروذي سمعت الإمام أحمد قال الخوف منعني عن أكل الطعام فما أشتهيه فإذا ذكرت الموت هان علي كل شيء وقد تقدم
وقال إبراهيم الحربي سمعت أحمد يقول إن أحببت أن يدوم الله لك على ما تحب فدم له على ما يحب والخير فيمن لا يرى لنفسه خيرا
وروى الحاكم في تاريخه عن وكيع سمعت سفيان يقول لا يتقي الله أحد إلا اتقاه الناس شاؤوا أم أبوا
____________________
(2/31)
وعن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العالم ابن العالم ابن العالم قال سمعت سفيان بن عيينة يقول من استغنى بالله أحوج الله عز وجل إليه الناس
وقال ابن هانئ قال لي أبو عبد الله ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدا قال غيره عنه فأيهما رجح صاحبه هلك انتهى كلامه
وينبغي أن يكون رجاء المريض أكثر وقطع به صاحب النظم وقال أحمد لرجل لو صححت ما خفت أحدا وقد قيل
( فما في الأرض أشجع من بريء % ولا في الأرض أخوف من مريب )
قال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس كان يقال من خاف الله ورجاه أمنه خوفه ولم يحرمه رجاءه قال بعض العلماء إلى بعض إخوانه أما بعد فإنه من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء
وللحسن بن وهب وينسب إلى الشافعي رضي الله عنه والله أعلم
( خف الله وارجوه لكل عظيمة % ولا تطع النفس اللجوج فتندما )
( وكن بين هاتين من الخوف والرجا % وابشر بعفو الله إن كنت مسلما )
( فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي % جعلت الرجا مني لعفوك سلما )
وقال آخر
( وإني لأرجو الله حتى كأنما % أرى بجميل الظن ما الله صانع )
وقال منصور الفقيه
____________________
(2/32)
( قطعت رجائي من بني آدم طرا % فأصبحت من رق الرجاء لهم حرا )
( وعدل يأسي بينهم فأجلهم % إذا ذكروا قدرا كأدناهم قدرا )
( غنى عنهم بالله لا متطاولا % على أحد منهم ولا قائلا هجرا )
( وكيف يعيب الناس بالمنع مؤمن % يرى النفع ممن يملك النفع والضرا )
( عليه اتكالي في الشدائد كلها % وحسبي به عند الشدائد لي ذخرا )
وأنشد بعضهم وهو عبد الله بن محمد بن يوسف رحمه الله تعالى
( أسير الخطايا عند بابك واقف % على وجل مما به أنت عارف )
( يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها % ويرجوك فيها فهو راج وخائف )
( فمن ذا الذي يرجى سواك ويتقى % وما لك في فصل القضاء مخالف )
( فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي % إذا نشرت يوم الحساب الصحائف )
( وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما % يصد ذوو القربى ويجفو الموالف )
( لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي % أرجي لإسرافي فإني لتالف ) فصل في طلب العلم وما يبدأ به منه وما هو فريضة منه وفضل أهله
قال الميموني سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث قال لا بالقرآن قلت أعلمه كله قال إلا أن يعسر فتعلمه منه ثم قال لي إذا قرأ أولا تعود القراءة ثم لزمها وعلى هذا أتباع الإمام أحمد عملا إلى زمننا هذا وسيأتي قريبا قول ابن المبارك إن العلم يقدم على نفل القرآن وهذا متعين إذا كان مكلفا لأنه فرض فيقدم على النفل وكلام أحمد والله أعلم إنما هو في الصغير كما هو ظاهر السياق والذي سأل ابن المبارك كان رجلا فلا تعارض
وأما الصغير فيقدم حفظ القرآن لما ذكره أحمد من المعنى ولأنه عبادة يمكن إدراكها والفراغ منها في الصغر غالبا والعلم عبادة العمر لا يفرغ منه فيجمع بينهما حسب الإمكان وهذا واضح وقد يحتمل أن يكون العلم أولى لمسيس الحاجة إليه
____________________
(2/33)
لصعوبته وقلة من يعتني به بخلاف القرآن ولهذا يقصر في العلم من يجب عليه طلبه ولا يقصر في حفظ القرآن حتى يشتغل بحفظه من يجب عليه الاشتغال في العلم كما هو معلوم في العرف والعادة
وقال ابن هانئ لأحمد ما معنى لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار (1) قال هذا يرجى لمن القرآن في قلبه أن لا تمسه النار في إهاب يعني في قلب رجل وقال أيضا في جلد
وقال إسماعيل الشالنجي عن أبي عبد الله قال والذي يجب على الإنسان من تعلم القرآن والعلم ما لا بد له منه في صلاته وإقامة دينه وأقل ما يجب على الرجل من تعلم القرآن فاتحة الكتاب وسورتان كذا وجدته ولعله وسورة وإلا فلا أدري ما وجهه مع أنه إنما يجب حفظه ما بلغ أن يجزئه في صلاته وهو الفاتحة خاصة في الأشهر عن أحمد والمسألة معروفة في الفقه
وقد قال ابن حزم في الإجماع قبل السبق والرمي اتفقوا على أن حفظ شيء من القرآن واجب ولم يتفقوا على ماهية ذلك الشيء ولا كميته بما يمكن ضبط إجماع فيه إلا أنهم اتفقوا على أنه من حفظ أم القرأن ببسم الله الرحمن الرحيم وسورة أخرى معها فقد أدى فرض الحفظ وانه لا يلزمه أكثر من ذلك واتفقوا على استحباب حفظ جميعه وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية لا متعين
وروى الخلال عنه أنه سئل عن رجل حفظ القرآن وهو يكتب الحديث يختلف إلى مسجد يقرأ ويقرئ ويفوته الحديث أن يطلبه فإن طلب الحديث فاته المسجد وإن قصد المسجد فاته الحديث فما تأمره قال بذا وبذا فأعدت عليه القول مرارا كل ذلك يجيبني جوابا واحدا بذا وبذا
وسأل رجل ابن المبارك يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي في
____________________
1- حديث حسن أخرجه أحمد والدارمي والبغوي
(2/34)
تعلم القرآن أو في تعلم العلم فقال هل تحسن من القرآن ما تقوم به صلاتك قال نعم قال عليك بالعلم
وقال أحمد في رواية أحمد بن الحسين وقيل له طلب العلم فريضة قال نعم لأمر دينك وما تحتاج إليه من أن ينبغي أن تعلمه
وقال في رواية أبي الحارث يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ولا يفرط في ذلك قلت فكل العلم يقوم به دينه قال الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه قلت مثل أي شيء قال الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه ونحو ذلك
وقال عبد الله سألت أبي عن الرجل يجب عليه طلب العلم قال أما ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام فقال ينبغي أن يتعلم ذلك وقال ابن منصور لأبي عبد الله تذاكر بعض ليلة أحب إليك من إحيائها قال العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم قلت الصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا قال نعم
قال ابن منصور قال لي إسحاق بن راهويه طلب العلم واجب لم يصح الخبر فيه إلا أن معناه قائم يلزمه طلب ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إذا وقعت فلا حاجة للوالدين في ذلك وأما من خرج يبتغي علما فلا بد له من الخروج بإذن الأبوين لأنه فضيلة فالنوافل لا تبتغى إلا بإذن الآباء
وقال المروذي لأبي عبد الله الرجل يطلب العلم ويستأذن والدته فتأذن له وهو يعلم أن المقام أحب إليها قال إذا كان جاهلا لا يدري كيف يطلق ولا يصلي فطلب العلم أحب إلي
وإن كان قد عرف فالقيام عليها أحب إلي وروى الخلال عنه أن رجلا سأله إني أطلب العلم وإن أمي تمنعني من ذلك تريد حتى أشتغل في التجارة قال لي دارها وأرضها ولا تدع الطلب
____________________
(2/35)
وقال له رجل غريب عن بلده طلب العلم أحب إليك أم أرجع إلى أمي فقال له إذا كان طلب العلم مما لا بد أن تطلبه فلا بأس
وسأله رجل قدمت الساعة وليس أدري شيئا ما تأمرني فقال أبو عبد الله عليك بالعلم
وقال إسحاق بن إبراهيم سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون له أبوان موسران يريد طلب الحديث ولا يأذنان له قال يطلب منه بقدر ما ينفعه العلم لا يعدله شيء
وفي الصحيحين عن معاوية مرفوعا من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) وعن عمر مرفوعا إن الله يرفع بهذا العلم أقواما ويضع به آخرين + أخرجه مسلم وابن ماجه وابن حبان + وعن أبي هريرة مرفوعا من سلك طريقا يبتغي به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة + أخرجه مسلم وصححه ابن حبان + رواهما مسلم
وقال ابن مسعود إن أحدكم لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم وقال أيضا اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة بين ذلك
وقال أيضا اغد عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك
وقال حماد بن حميد عن الحسن قال أبو الدرداء كن عالما أو متعلما أو محبا أو متبعا ولا تكن الخامس فتهلك قال الحسن هو المبتدع قال البيهقي وروي مثله عن ابن مسعود وروي مرفوعا وهو ضعيف
وقال أبو الدرداء العالم والمتعلم في الآجر سواء وسائر الناس همج لا خير فيهم
وقال الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/36)
لا يدري متى يحتاج إليه
وقال عبد الرزاق عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن مسعود عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله وعليكم بالعلم وإياكم والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق فإنه سيجيء أقوام يتلون كتاب الله وينبذونه وراء ظهورهم
وقال الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا رآها الناس اقتدوا بها وإذا عميت عليهم تحيروا (1)
وعن أبي أمامة مرفوعا فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب + أخرجه الترمذي والطبراني وهو صحيح +
وعن أبي الدرداء مرفوعا إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بنحوه + أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وإسناده ضعيف +
وأما ما يذكره بعض الناس علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فلم أجد له أصلا ولا ذكر له في الكتب المشهورة المعروفة ولا يصح
وروى الخلال عن أنس رضي الله عنه قال طلب العلم فريضة
وروى ابن شاهين حدثنا سليمان الأشعث حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن قرم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه
____________________
1- وأخرجه أحمد وإسناده ضعيف
(2/37)
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم كلهم ثقات إلا سليمان فإنه مختلف فيه قال أحمد لا أرى به بأسا لكنه يفرط في التشيع وضعفه ابن معين وقال أبو زرعة ليس بذاك وقال أبو حاتم ليس بالمتين وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن عدي أحاديثه حسان ورواه حسان بن سياه عن ثابت لكن حسان ضعيف قال ابن شاهين وهذا حديث غريب من أصح حديث في هذا الباب ورواه ابن ماجه من رواية حفص بن سليمان القارئ وهو متروك عندهم وفيه وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر والذهب قال ابن عبد البر هذا حديث يروى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها معلولة ولا حجة في شيء منها عند أهل العلم بالحديث من جهة الإسناد (1)
قال الترمذي حدثنا محمد بن حاتم المؤدب حدثنا علي بن ثابت حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان سمعت عطاء بن فروة سمعت عبد الله سمعت أبا هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما إسناد جيد وعبد الرحمن حديثه حسن قواه الأكثر وقال الترمذي حسن غريب ورواه ابن ماجه من حديثه + أخرجه ابن ماجه والترمذي +
ورأى ابن الشخير ابن أخ له يتعبد فقال أي بني فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وقال مهنا قلت لأحمد حدثنا ما أفضل الأعمال قال طلب العلم قلت لمن قال لمن صحت نيته قلت وأي شيء يصحح النية قال ينوي يتواضع فيه وينفي عنه الجهل
وقال الحسن بن ثواب قال لي أحمد ابن حنبل ما أعلم الناس في زمان أحوج منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان قلت ولم قال ظهرت بدع فمن لم
____________________
1- أخرجه ابن ماجه وهو حديث حسن
(2/38)
يكن عنده حديث وقع فيها
وقال بشر الحافي لا أعلم على وجه الأرض عملا أفضل من طلب العلم والحديث لمن اتقى الله وحسنت نيته
وقال سفيان ما أعلم شيئا يراد الله به أفضل من طلب العلم وقد روي عن مجاهد قال طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد وروي هذا المعنى عن جماعة منهم حبيب بن أبي ثابت وسماك بن حرب
وقال يزيد بن هارون طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يردنا إلا إلى الله
وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر قال كان يقال إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله
وروى الخلال أخبرني حرب حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا يحيى بن يمان قال قالوا لسفيان إن أصحاب الحديث يطلبون الحديث بغير نية قال طلبهم له نية إسناد صحيح
وعن سفيان قال إنما فضل العالم على غيره لأنه يتقي ربه وعن الحسن قال يبقي الله لهذا العلم قوما يطلبونه ولا يطلبونه خشية وليس لهم نية يبعثهم الله تعالى كي لا يضيع العلم فيبقى عليهم حجة
وعن ابن المبارك قال ما من شيء أفضل من طلب العلم لله وما من شيء أبغض إلى الله من طلب العلم لغير الله
وقال أحمد حدثنا يونس وسريج بن النعمان قالا حدثنا فليح عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة ورواه أبو داود عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سريج (1) فليح وإن كان
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان
(2/39)
من رجال الصحيحين فقد تكلم فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم
وفي معناه عن ابن عمر مرفوعا من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار رواه الترمذي وقال حسن غريب (1)
وعن جابر مرفوعا لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحدثوا به في المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار + أخرجه ابن ماجه وهو حديث حسن بشواهده وصححه ابن حبان + رواه جماعة منهم البيهقي وانفرد به ابن ماجه عن الكتب الستة فرواه عن محمد بن يحيى عن سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر ورواه ابن وهب عن ابن جريج مرسلا ويحيى بن أيوب هو الغافقي وإن كان من رجال الصحيحين فقد تكلم فيه أحمد وأبو حاتم والدارقطني وابن القطان وغيرهم وذكر جماعة هذا الخبر من مناكيره
وعن كعب بن مالك مرفوعا من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار رواه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسحاق بن يحيى بن طلحة ليس بالقوي عندهم + أخرجه الترمذي وهو حسن +
وفي مسلم عن أبي هريرة مرفوعا حديث الثلاثة الذين يؤمر بهم إلى النار وهم المجاهد المرائي ليقال إنه جريء والمنفق المباهي ليقال إنه جواد والرجل يقول تعلمت العلم وقرأت القرآن فيقول الله كذبت إنما أردت أن يقال فلان جريء وفلان قارئ وقد قيل ثم يسحب على وجهه حتى يلقى في النار + أخرجه مسلم والنسائي وابن حبان +
وعن زيد بن أرقم مرفوعا كان يقول اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع
____________________
1- أخرجه الترمذي
(2/40)
وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعوة لا يستجاب لها (1) ورواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس مرفوعا وفيه وعمل لا يرفع بدل نفس لا تشبع + إسناده صحيح +
وكان ابن مسعود يقول تعلموا فمن علم فليعمل وكان يقول إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم للخطيئة يعملها
وعن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة مرفوعا لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه + أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح + إسناده جيد وسعيد روى عنه غير واحد ووثقه ابن حبان ولا وجه لقول أبي حاتم مجهول وروى حديثه هذا الترمذي وقال حسن صحيح وروى البيهقي هذا المعنى من حديث معاذ
وقال ابن وهب أخبرني يحيى بن سليم وفي نسخة سلام عن عثمان بن مقسم وهو كذاب متروك عندهم عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه + وأخرجه الطبراني وهو حديث ضعيف الإسناد جدا +
وأما ما روى الطبراني والبيهقي وغيرهما من حديث ابن المبارك عن الثوري عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إني لم أجعل حكمي وعلمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي + وراه الطبراني وهو متروك + فالظاهر أنه غير صحيح وتدل عليه الأخبار
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/41)
السابقة ولو صح فالمراد به العلماء الأخيار وقد قال البيهقي ولا أراه محفوظا
وروى ابن عدي والبيهقي وغيرهما من رواية صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد وهو كذاب متروك بالاتفاق عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري مرفوعا يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم (1)
وقال يقول الله عز وجل لا تحقروا عبدا آتيته علما فإني لم أحقره حين علمته
قال ابن عدي هذا الحديث بهذا الإسناد باطل وذكره في ترجمة طلحة بن زيد قال البيهقي وإنما يعرف بعض هذا عن أبي عمرو الصنعاني قال إذا كان يوم القيامة عزلت الملائكة العلماء فإذا فرغ من الحساب قال لم أجعل حكمي فيكم إلا خيرا أريده فيكم ادخلوا الجنة بما فيكم + رواه الطبراني وهو ضعيف جدا +
وقال ابن المبارك إذا لم يكن عند الرجل مال فليس عليه واجبا أن يتعلم الزكاة فإذا كان عنده مئتا درهم وجب عليه أن يتعلم كيف يخرج وأين يضع وسائر الأعمال على هذا
وعن عطاء قال من جلس مجلسا للذكر كفر سبعين مجلسا من مجالس الباطل فإن كان ذلك المجلس في سبيل الله يكفر سبعين ألفا من مجالس الباطل قال عطاء ومجالس الذكر كيف أصلي كيف أزكي كيف أحج كيف أنكح
____________________
1- أخرجه ابن عدي
(2/42)
كيف أطلق كيف أبيع كيف أشتري
وقال إسحاق بن إبراهيم لأبي عبد الله إن قوما يكتبون الحديث ولا أرى أثره عليهم ولا يرى لهم وقار فقال أبو عبد الله يؤولون في الحديث إلى خير وقال دخلت عليه يوما ومعي كتاب له فرميت به من قامتي فانتهرني وقال ترمي بكلام الأبرار
وقال الشعبي زين العلم حلم أهله وقال أيضا إن هذا العلم لا يصلح إلا لمن فيه عقل ونسك فاليوم يطلبه من لا عقل له ولا نسك فيه
وقال ابن وهب عن الثوري عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال لم نر شيئا إلى شيء أزين من حلم إلى علم
وقال أبو داود لأحمد كتبت الحديث بنية قال شرط النية شديد ولكن حبب إلي فجمعته وقال عبد الله سألت أبي عن رجل ملك خمس مئة درهم وهو رجل جاهل أيحج بها أو يطلب العلم قال يحج لأن الحج فريضة وينبغي له أن يطلب العلم
وقال المروذي قيل لأبي عبد الله رجل له خمس مئة درهم ترى أن يصرفه في الغزو والجهاد أو يطلب العلم قال إذا كان جاهلا يطلب العلم أحب إلي وقال في رواية يوسف بن موسى عجبت لمن يتثبط عن طلب العلم ويحتجون بالفضيل ولعل الفضيل قد اكتفى ليس يتثبط عن طلب العلم إلا جاهل
وقال الربيع سمعت الشافعي يقول طلب العلم أفضل من صلاة النافلة
وذكر البيهقي قال مطرف بن عبد الله بن الشخير فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع (1) وروي مرفوعا بأسانيد ضعيفة وهو صحيح عن
____________________
1- رواه أبو خيثمة ورواه البيهقي وروي مرفوعا من أوجه ضعيفة
(2/43)
مطرف ذكره البيهقي
وقال عبد الرزاق عن قتادة عن معمر عن مطرف قال حظ من علم أحب إلي من حظ عبادة سمعت ابن عباس يقول مذاكرة العلم ساعة أحب إلي من إحياء ليلة وروى من طريق أخرى عن ابن عباس مثله
وقال ابن وهب أخبرني عتبة بن نافع عن زيد بن أسلم أن ابن مسعود كان يقول لأن أجلس مجلس فقه ساعة أحب إلي من صيام يوم وقيام ليلة
وقال الأوزاعي سأل رجل ابن مسعود أي الأعمال أفضل قال العلم فكرر عليه ثلاثا كل ذلك يقول العلم ثم قال ويحك إن مع العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره
وقال أبو نضرة عن أبي سعيد مذاكرة الحديث أفضل من قراءة القرآن
وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ما عبد الله بمثل الفقه ذكر ذلك البيهقي
وقال البخاري في التاريخ في ترجمة عمرو بن مرة قال أحمد حدثنا يحيى بن سعيد سمعت الأعمش حدثني عمرو بن مرة سمعت أبا عبيدة قال قال أبو موسى لمقعد كنت أقعده من عبد الله أحب إلي من عمل سنة في نفسي وكان يحيى يقول فيه سمعت أبا موسى فلم يقله لنا وقال يعلى عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبي موسى
وهذا إنما قاله لما يحصل له من علمه وهديه وسمته
قال ابن شهاب العلم أفضل من العمل لمن جهل والعمل أفضل من العلم لمن علم
وقال حرب سمعت أحمد يقول الناس محتاجون إلى العلم قبل الخبز والماء
____________________
(2/44)
لأن العلم يحتاج إليه الإنسان في كل ساعة والخبز والماء في اليوم مرة أو مرتين
وقال ابن هانئ قيل له يطلب الرجل الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به قال العلم لا يعدله شيء
وقال في رواية المروذي ليس قوم عندي خيرا من أهل الحديث ليس يعرفون إلا الحديث وقال في رواية أبي الحارث أهل الحديث أفضل من تكلم في العلم
وقال أبو إسماعيل الترمذي سمعت أحمد وقال له رجل إن رجلا قال إن أصحاب الحديث قوم سوء فقال هذا زنديق
وقال الثوري أكثروا من الحديث فإنه سلاح
وقال ابن المبارك إني لأسمع الحديث ما أريد أن أحدث به ولا أعمل به ولكن أعده لأخ من إخواني يقع في الشيء فأجد له مخرجا
وقيل لأحمد إلى متى يكتب الرجل قال حتى يموت وقال نحن إلى الساعة نتعلم
وللترمذي من حديث أبي سعيد وقال حسن غريب لن يشبع المؤمن من خبر يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة (1)
وروى الخلال بإسناد صحيح عن عمر قال تفقهوا قبل أن تسودوا وذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم + أخرجه ابن أبي شيبة وغيره بسند صحيح + قال الخطابي في كتاب العزلة يريد من لم يخدم العلم في صغره يستحي أن يخدمه بعد كبر السن وإدراك السؤدد قال وبلغني عن سفيان الثوري رحمه الله قال من ترأس في حداثته كان أدنى عقوبته أن يفوته حظ
____________________
1- أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف
(2/45)
كثير من العلم وعن أبي حنيفة رحمه الله قال من طلب الرياسة بالعلم قبل أوانه لم يزل في ذل ما بقي
وقيل للمبرد لم صار أبو العباس يعني ثعلبا أحفظ منك للغريب والشعر قال لأني ترأست وأنا حدث وترأس وهو شيخ انتهى كلام الخطابي
وروى البيهقي قول عمر المذكور من حديث وكيع عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس عنه قيل معناه قبل أن تزوجوا وقال الشافعي إذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه
وروى الحاكم في تاريخه عن زفر قال قال أبو حنيفة يا زفر لا تحدث قبل وقتك فيستخف بك
وروى الخلال عن أيوب قال ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله
وقال المروذي قيل لأبي عبد الله قيل لابن المبارك كيف تعرف العالم الصادق قال الذي يزهد في الدنيا ويقبل على آخرته فقال أبو عبد الله نعم هكذا يريد أن يكون
وقال الفضيل يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد وقال أحمد حدثنا سفيان بن عيينة سمعت فضيل بن عياض قال يغفر لجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد
وقال أحمد أيضا حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء (1) وذكر الحافظ الذهبي هذا الخبر في ترجمة جعفر من المناكير قال وقيل أخطأ من حدث به عن جعفر وسيار وثقه ابن حبان وغيره وقال الأزدي عنده مناكير قال البيهقي محمول إن صح على العالم الفاجر
____________________
1- أخرجه أبو نعيم وهو ضيعف
(2/46)
ونقل المروذي عن أحمد قال العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل وهذا معنى ما روي عن ابن المبارك وغيره ونقل عن أحمد أيضا أنه قيل له من نسأل بعدك فقال عبد والوهاب يعني الوراق فقيل إنه ضيق العلم فقال رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق
وقال ابن عقيل في الفنون لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام فإن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الكعبة وقال لولا حدثان قومك بالجاهلية (1) وقال عمر لولا أن يقال عمر زاد في القرآن لكتبت آية الرجم وترك أحمد الركعتين قبل المغرب لإنكار الناس لهما وذكر في الفصول عن الركعتين قبل المغرب وفعل ذلك إمامنا أحمد ثم تركه واعتذر بتركه بأن قال رأيت الناس لا يعرفونه وكره أحمد قضاء الفوائت في مصلى العيد وقال أخاف أن يقتدي به بعض من يراه
وروى البيهقي وغيره من طريق شعيب عن نافع عن أسلم أن عمر رأى على طلحة ثوبا مصبوغا فقال ما هذا قال إنما هو مدر فقال إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس وإن جاهلا لو رأى هذا لقال على طلحة ثوب مصبوغ فلا يلبس أحد منكم من هذه الثياب شيئا إنه محرم وقال الأوزاعي كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم وقال الثوري لو صلح القراء لصلح الناس وقال أيضا يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفيا لأن
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان
(2/47)
الآفات أسرع إليهم وألسنة الناس إليهم أسرع وإذا احتاج ذل
وقال أبو داود السجستاني من اقتصر على لباس ومطعم دون أراح جسده
وقال الأعمش عن زيد بن وهب رأيت بين كتفي عمر أربع عشرة رقعة بعضها من أدم
وقال مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس رأيت عمر رضي الله عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين قد رقع بين كتفيه ثلاث رقاع لبد بعضها فوق بعض
وقال سليمان بن حرب لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تسوى عشرة دراهم إزاره ورداؤه وقميصة كان شيخا كثير الصدقة
وقال علي بن ثابت رأيت الثوري في طريق مكة فقومت كل شيء عليه حتى نعله درهما وأربعة دوانق
وقال الثوري ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون ونهاره إذ الناس مفطرون وبكائه إذ الناس يضحكون وبحزنه إذ الناس يفرحون
وقال الثوري العالم طبيب هذه الأمة والمال الداء فإذا كان الطبيب يجر الداء إلى نفسه كيف يعالج غيره
وعن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا
وروى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى إن الفقه ليس بسعة الهذر وكثرة الرواية إنما الفقه خشية الله وروى أيضا عن أبي حازم قال لا يكون العالم عالما حتى يكون فيه ثلاث خصال لا يحقر من دونه في العلم ولا يحسد من فوقه ولا يأخذ على عمل دنيا وروى أيضا عن الحسن قال الفقيه الورع الزاهد المقيم على سنة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يسخر بمن أسفل منه ولا يهزأ بمن فوقه
____________________
(2/48)
ولا يأخذ على علم علمه الله عز وجل حطاما وقال أيضا ما رأيت فقيها قط
وروى البيهقي عنه كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده وقال ابن المبارك عن مالك بن دينار سألت الحسن ما عقوبة العالم قال موت القلب قلت وما موت القلب قال طلب الدنيا بعمل الآخرة
وقال الأوزاعي بلغني أنه يقال ويل للمتفقهين لغير العبادة والمستحلين المحرمات بالشبهات وقال إن حقا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية وأن يكون متبعا لأثر من مضى قبله وقال الربيع سمعت الشافعي يقول أخشى أن أطلب العلم بغير نية أن لا ينتفع به
وقال الشافعي رضي الله عنه زينة العلم الورع والحلم وقال أيضا لا يجمل العلم ولا يحسن إلا بثلاث خلال تقوى الله وإصابة السنة والخشية وقال أيضا ليس العلم ما حفظ العلم ما نفع وقال أبو قلابة لأيوب إذا حدث لك علم فأحدث فيه عبادة ولا يكن همك أن تحدث به الناس
وقال أحمد بن محمد سمعت وكيعا يقول قالت أم سفيان الثوري اذهب فاطلب العلم حتى أعولك أنا بمغزلي فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل في نفسك زيادة فابتغه وإلا فلا تتعنى
وقال الفضيل بن عياض بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا وإذا عملوا شغلوا وإذا شغلوا فقدوا وإذا فقدوا طلبوا وإذا طلبوا هربوا
وقال عمر تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن يعلمكم وتواضعوا لمن تعلمون ولا تكونوا من جباري العلماء فلا يقوم عملكم مع جهلكم وقالت عائشة تغفلون عن أعظم العبادة التواضع وقال الشعبي اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين فإنهما آفة كل مفتون وقال
____________________
(2/49)
الثوري نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ذكر ذلك البيهقي
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار ويأتي الخبر في فصول كسب المال في الأئمة المضلين
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا إني أخاف على أمتي من بعدي زلة العالم ومن حكم جائر وهوى متبع (1) وفي لفظ بهذا الإسناد اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته + أخرجه ابن عدي وإسناده ضعيف + كثير كذاب متروك وهذا مذكور في ترجمته وقد صحح له الترمذي
وعن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم + وهو متروك الحديث + يزيد ضعيف ولم يترك
وقال داود بن أبي هند قال عمر بن الخطاب يفسد الناس ثلاثة أئمة مضلون وجدال منافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم
وقال منصور عن شقيق عن أبي الدرداء رضي الله عنه إني لآمركم بالأمر وما أفعله ولكن لعل الله أن يأجرني فيه قال البيهقي محمول على المستحبات أو أنه قاله على وجه التواضع
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله
____________________
1- أخرجه أبو نعيم والبزار
(2/50)
أتدري أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال فإن أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه (1) قال البخاري في عقيل منكر الحديث يروي عن أبي إسحاق وتكلم فيه ابن حبان وقال البيهقي غير معروف قال ويمكن إجراء الخبر على ظاهره ويكون تركه العمل زلة منه تنتظر فيئته
ولما حج سالم الخواص لقي ابن عيينة في السوق فأنكر عليه كونه في السوق فأنشد ابن عيينة
( فخذ بعلمي وإن قصرت في عملي % ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري )
وأما قول بعض المتأخرين
( خذ من علومي ولا تنظر إلى عملي % واقصد بذلك وجه الواحد الباري )
( وإن مررت بأشجار لها ثمر % فاجن الثمار وخل العود للنار )
فالمراد إذا كان أهلا لأخذ العلم عنه ولكنه مقصر في العمل وإلا كان مردودا على قائله
وقال في الرعاية في كتاب الجهاد ومن لزمه تعلم شيء وقيل أو كان في حقه فرض كفاية وقيل أو نفلا ولا يحصل له في بلده فله السفر في طلبه بغير إذن أبويه وبقية أقاربه انتهى كلامه وكلام أحمد السابق في رواية إسحاق بن إبراهيم يدل لهذا القول وغيرها عن أحمد يخالفها
قال القاضي ومما يجب إنكاره ترك التعليم والتعلم لما يجب تعليمه وتعلمه نحو ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وبمعرفة الصلوات وجملة الشرائع وما يتعلق بالفرائض ويلزم النساء الخروج لتعلم ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصبيان واضربوهم على تركها لعشر + أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي وهو حديث حسن + فأولى أن يضرب المكلف على تعلم ذلك
____________________
1- أخرجه الطبراني وإسناده ضعيف
(2/51)
وواجب على الإمام أن يتعاهد المعلم والمتعلم كذلك ويرزقهما من بيت المال لأن في ذلك قواما للدين فهو أولى من الجهاد لأنه ربما نشأ الولد على مذهب فاسد فيتعذر زواله من قلبه
وروى البيهقي من حديث الثوري عن منصور عن ربعي عن علي ( ^ قوآ أنفسكم وأهليكم نار ) التحريم 6 قال علموهم الخير
وقد روى الخلال في أخلاق الإمام أحمد أنه قال خرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة فحممت فرجعت إلى أمي ولم أكن استأذنتها
وقال الفضيل العلماء ربيع الناس إذا رآهم المريض لا يشتهي أن يكون صحيحا وإذا رآهم الفقير لا يشتهي أن يكون غنيا
وعن الشعبي قال شرار كل ذي دين علماؤهم غير المسلمين
وروى الخلال أنبأنا محمد حدثنا وكيع عن المسعودي عن القاسم قال قال عبد الله كفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا
وعن أبي الدرداء قال لا يكون الرجل عالما حتى يكون به عاملا
وقالت عائشة ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينسب أحدا إلا إلى الدين رواه أبو داود (1)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم رواه الخلال
وروى ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من رواية معاوية بن سلمة البصري عن نهشل وهو كذاب متروك عندهم عن الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود قال لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم ولكنهم أتوا به أهل الدنيا فاستخفوا بهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول من جعل همومه هما واحدا
____________________
1- أخرجه أبو داود
(2/52)
كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم وأحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك (1)
وفي حواشي تعليق القاضي أبي يعلى ذكر المدائني في كتاب السلطان عن علي رضي الله عنه قال لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله عز وجل وملائكته وأهل طاعته من خلقه ولكن حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس
وقال مالك وجه إلي الرشيد ان أحدثه فقلت يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى ولا يأتي فصار إلى منزلي فاستند معي على الجدار فقلت له يا أمير المؤمنين إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم فقام فجلس بين يدي فقال بعد مدة يا أبا عبد الله تواضعنا لعلمك فانتفعنا به وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم ننتفع به وروي نحو ما روي عن مالك عن سليمان بن حرب مع طاهر بن عبد الله
وروي أن طاهر بن عبد الله كان ببغداد فطمع أن يسمع من أبي عبيد وطمع أن يأتيه في منزله فلم يفعل أبو عبيد فقدم علي بن المديني وعباس العنبري فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما فيه
وروى البيهقي وغيره أن المهدي لما قدم المدينة حاجا جاءه مالك فسلم عليه فأمر المهدي ابنيه موسى الهادي وهارون الرشيد أن يسمعا منه فطلباه إليهما فامتنع فعاتبه المهدي في ذلك فقال يا أمير المؤمنين إن للعلم نضارة يؤتى أهله وفي رواية العلم أهل أن يوقر ويؤتى أهله فأمرهما والدهما بالمصير إليه فسأله مؤدبهما أن يقرأ عليهما فقال إن أهل هذه البلدة يقرؤون على العالم كما يقرأ
____________________
1- أخرجه ابن ماجه وسنده تالف نهشل بن سعيد كذبه أبو داود الطيالسي وإسحاق بن راهويه وقال أبو حاتم والنسائي متروك الحديث ويغني عنه حديث زيد بن ثابت رفعه من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة أخرجه ابن ماجه وإسناده صحيح
(2/53)
الصبيان على المعلم فإذا أخطؤوا أفتاهم فرجعوا إلى الخليفة فعاتبه المهدي في ذلك فقال يا أمير المؤمنين سمعت ابن شهاب يقول سمعنا هذا العلم من رجال في الروضة وهم يا أمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ونافع مولى ابن عمر وابن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد وابن شهاب كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرؤون فقال المهدي في هؤلاء قدوة صيروا إليه فاقرؤوا عليه ففعلوا
وقال سفيان بن عيينة لو أن أهل العلم طلبوه لما عند الله لهابهم الناس ولكن طلبوا به الدنيا فهانوا على الناس
وقال سفيان ما زال العلم عزيزا حتى حمل إلى أبواب الملوك وأخذوا عليه أجرا فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العمل به قال ابن الجوزي ينبغي للعالم أن يصون العلم ولا يبذله ولا يحمله إلى الناس خصوصا إلى الأمراء
وروي عن القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه أنشد لنفسه
( يقولون لي فيك انقباض وإنما % رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما )
( أرى الناس من داناهم هان عندهم % ومن لزمته عزة النفس أكرما )
( ولم أقض حق العلم إن كان كلما % بدا طمع صيرته لي سلما )
( وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من في الأرض أرضاه منعما )
( إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى % ولكن نفس الحر تحتمل الظما )
( ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي % لأخدم من لاقيت لكن لأخدما )
( أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة % إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما )
( ولو أن أهل العلم صانوه صانهم % ولو عظموه في النفوس لعظما )
( ولكن أذلوه فهان ودنسوا % محياه بالأطماع حتى تجهما )
وأرسل محمد بن سليمان أمير البصرة إلى حماد بن سلمة يطلب منه الحضور إليه لأجل مسألة وقعت له فأرسل إليه حماد إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا
____________________
(2/54)
فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك والقصة مشهورة وفيها أن محمد بن سليمان جاء فجلس بين يديه ثم ابتدأ فقال مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا فقال حماد سمعت ثابتا البناني يقول سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإذا أراد أن يكثر به الكنوز هاب من كل شيء (1) والقصة طويلة وفيها أنه عرض عليه أربعين ألف درهم فلم يقبلها لنفسه ولا ليقسمها ويفرقها وأنشد بعضهم
( إذا شئت أن تستقرض المال منفقا % على شهوات النفس في زمن العسر )
( فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها % عليك وإرفاقا إلى زمن اليسر )
( فإن فعلت كنت الغني وإن أبت % فكل منوع بعدها واسع العذر )
وقال أبو الحارث لأبي عبد الله فترى للرجل أن يرحل لطلب العلم قال نعم قد رحل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم وروى عنه الخلال أنه سئل عن رجل يقيم ببلدة وينزل في الحديث درجة قال ليس طلب العلم هكذا لو طلب العلم هكذا مات إنما يؤخذ العلم عن الأكابر
وعن سعيد بن المسيب قال إن كنت لأسافر مسيرة الليالي والأيام في الحديث الواحد
وقال أبو قلابة لقد أقمت بالمدينة ثلاثة أيام ما لي حاجة إلا رجل يقدم عنده حديث فأسمعه
وعن الشعبي قال لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فسمع كلمة تنفعه فيما يستقبل من أمره ما رأيت سفره ضاع
وفي الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل من
____________________
1- أورده السيوطي وهو ضعيف
(2/55)
أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها (1) ثم قال الشعبي خذها بغير شيء فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة يعني من الكوفة
وأشار البخاري إلى حديث عبد الله بن أنيس وأن جابرا رحل إليه شهرا في حديث واحد وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه ابتاع بعيرا وسار شهرا إلى عبد الله بن أنيس والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى يوم القيامة أنا الله أنا الملك أنا الديان + أخرجه أحمد وهو حديث حسن + وذكر الحديث وقد رحل الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قديما وحديثا تقبل الله تعالى منهم
وعن عمران بن حصين قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت فأتاه ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا بشرتنا فأعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء + أخرجه البخاري وأحمد + ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يتقطع دونها وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم
قال ابن هبيرة فيه الرحلة في طلب العلم وجواز السؤال عن كل ما لا يعلمه وجواز العدول عن سماع العلم إلى ما يخاف فواته لأن عمران قام عن المجلس لأجل ناقته فلم ينكر عليه وجواز إيثار العلم على ذلك لقول عمران وددت أنها
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
(2/56)
ذهبت ولم أقم
وقال مهنا سألت أحمد عن حديث معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وإبطال المبطلين وتأويل الغالين (1) فقلت لأحمد هو كلام موضوع قال لا هو صحيح فقلت له سمعته أنت قال من غير واحد قلت من قال حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن ثم رواه الخلال من حديث معان عن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أبو أحمد بن عدي الحافظ عن عبد الله البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد حدثنا بقية بن الوليد حدثنا معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال البيهقي وتابعه إسماعيل بن عياش عن معان ورواه الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن الثقة من أشياخهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي من أوجه أخر ضعيفة قاله البيهقي
واعتنى ابن عبد البر بهذا الحديث وحاول تصحيحه واحتج به في أن كل من حمل العلم فهو عدل والله أعلم ومعان بن رفاعة مختلف فيه قال أحمد ومحمد بن عوف وأبو داود لا بأس به وقال ابن المديني ودحيم ثقة وقال الفسوي لين الحديث وضعفه ابن معين وقال الجوزجاني ليس بحجة وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابع عليه وقال ابن حبان منكر الحديث
ونقل المروذي ويوسف بن موسى عن أحمد أنه قيل له رجل أراد أن يصوم يوما تطوعا فأفطر لطلب العلم فقال إذا احتاج إلى طلب العلم فهو أحب إلي فقيل له لأن طلب العلم أفضل فسكت
____________________
1- أخرجه العقيلي وابن عدي وقد حسنه بعضهم
(2/57)
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يصف كيف يؤخذ العلم قال ننظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن فعن أصحابه فإن لم يكن فعن التابعين
وقال أبو داود سمعت أبا عبد الله يسأل إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم يلزم الرجل أن يأخذ به قال لا ولكن لا يكاد يجيء شيء عن التابعين إلا ويوجد فيه شيء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال الفضل بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فأومأ إليها وقال هذه سرج الإسلام يعني المحابر
وقال ابن الجوزي قال الشافعي لولا المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر
وروى بإسناده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال رآني الشافعي وأنا في مجلس وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه فقال لما تخفيه وتستره فإن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد وفي البصائر بياض
قال ابن الجوزي وينبغي تجويد الخط وتحقيقه دون المشق والتعليق ويكره تضييق السطور وتدقيق القلم فإن النظر إلى الخط الدقيق يؤذي قال حنبل بن إسحاق رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطا دقيقا فقال لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك قال ابن الجوزي وقد كان بعضهم يضيق السطور لعدم الكاغد وقد رأيت في وجهة من خط أبي عبد الله الصوري أحدا وثمانين سطرا
وقال البغوي عن أحمد أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر وقال صالح رأى رجل مع أبي محبرة فقال له يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين فقال معي المحبرة إلى المقبرة وقال أحمد في موضع آخر إظهار المحبرة من الرياء وذكر له الصدق والإخلاص فقال بهذا ارتفع القوم
وروى ابن الجوزي بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي قال كان الرجل إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه وإذا لقي من دونه تواضع له وعلمه قال ابن عبد البر في بهجة
____________________
(2/58)
المجالس وقال الأحنف مذاكرة الرجال تلقيح لعقولها ويأتي بنحو كراسة ما يتعلق بهذا فصل موعظة العلماء المتقين بالشعر
قال أبو يعلى الموصلي سمعت أحمد بن حنبل يقول خرجت في وجه الصبح فإذا أنا برجل مسبل منديله على وجهه فناولني رقعة فلما أضاء الصبح قرأتها فإذا فيها مكتوب
( عش موسرا إن شئت أو معسرا % لا بد في الدنيا من الغم )
( وكلما زادك من نعمة % زاد الذي زادك في الهم )
( إني رأيت الناس في عصرنا % لا يطلبون العلم للعلم )
( إلا مباهاة لأصحابهم % وعدة للخصم والظلم )
قال فظننت أن محمد بن يحيى الذهلي ناولني فلقيته فقلت له الرقعة التي ناولتني فقال ما رأيتك ما ناولتك رقعة فعلمت أنها عظة لي وقال الحافظ تقي الدين بن الأخضر فيمن روى عن أحمد بن محمد بن مروان قاضي تكريت قال كتب رجل من إخوان أبي عبد الله أحمد بن حنبل إليه أيام المحنة
( هذي الخطوب ستنتهي يا أحمد % فإذا جزعت من الخطوب فمن لها )
( الصبر يقطع ما ترى فاصبر لها % فعسى بها أن تنجلي ولعلها )
فأجابه أحمد
( صبرتني ووعظتني فأنا لها % فستنجلي بل لا أقول لعلها )
( ويحلها من كان يملك عقدها % ثقة به إذ كان يملك حلها ) فصل العلم مواهب من الله يؤتيه من يشاء ينال بالتقوى والعمل لا بالحسب
وقال أبو الحارث سمعت أبا عبد الله يقول إنما العلم مواهب يؤتيه الله من
____________________
(2/59)
أحب من خلقه وليس يناله أحد بالحسب ولو كان بالحسب كان أولى الناس به أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال أحمد بن أبي الحواري قال لي أحمد بن حنبل يا أحمد حدثنا بحكاية سمعتها من أستاذك أبي سليمان الداراني فقال أحمد سبحان الله بلا عجب فقال أحمد بن حنبل سبحان الله وطولها بلا عجب فقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول إذا عقدت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما فقام أحمد بن حنبل ثلاثا وقعد ثلاثا وقال ما سمعت في الإسلام بحكاية أعجب من هذه إلي
ثم ذكر أحمد بن حنبل عن يزيد بن هارون عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عمل بما يعلم ورثة الله تعالى علم ما لم يعلم (1)
ثم قال أحمد بن حنبل لأحمد بن أبي الحواري صدقت يا أحمد وصدق شيخك قال أبو نعيم عقب ذلك ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعين عن عيسى ابن مريم عليه السلام فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم فوضع هذا الإسناد عليه لسهولته وقربه وهذا الحديث لا يحتمل بهذا الإسناد عن أحمد بن حنبل ذكره ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد في ترجمة أحمد بن أبي الحواري فصل الحذر من القول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن
نقل الميموني عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن حديث فقال سلوا أصحاب الغريب فإني أخاف أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ وقال أبو الوليد الطيالسي سمعت شعبة قال سألت الأصمعي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي + أخرجه مسلم وأبو داود + ما معنى يغان قال فقال لي هذا الحديث عن
____________________
1- أخرجه أبو نعيم ولا يصح
(2/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نعم فقال لو كان عن غير النبي صلى الله عليه وسلم لفسرت ذلك ولكن عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أجترئ عليه
وعن الأصمعي عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال كانوا يتقون حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما يتقون تفسير القرآن وكان أحمد يجيء إلى أبي عبيد يسأله في الغريب روى ذلك الخلال وقال أبو داود قلت لأحمد كتابه كتاب الغريب الذي وضعه القاسم بن سلام قال قد كثره جدا يشغل الإنسان عن معرفة العلم لو كان تركه على ما كان أولا فصل في قول العالم لا أدري واتقاء التهجم على الفتوى
قال ابن عباس رضي الله عنهما إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وكذا قال علي بن حسين
وقال مالك كان يقال إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله وقال أيضا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء وقال الشعبي لا أدري نصف العلم
وقال أحمد في رواية المروذي كان مالك يسأل عن الشيء فيقدم ويؤخر يبهت وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون قال مالك
وبإسناد حسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال من علم الرجل أن يقول لما لا يعلم الله أعلم لأن الله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه الصلاة والسلام ( ^ قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ص 86
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري وقال أحمد في رواية المروذي ليس كل شيء ينبغي أن يتكلم فيه وذكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل فيقول لا أدري حتى أسأل جبريل
____________________
(2/61)
وقال عبد الله سمعت أبي يقول كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق ويقول من يحسن ذا من يحسن ذا وقال في رواية أبي الحارث وددت أنه لا يسألني أحد عن مسألة أو ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل البلاء يخرجه الرجل عن عنقه ويقلدك وخاصة مسائل الطلاق والفروج نسأل الله العافية
ونقل الأثرم عنه أنه سأله عن شيء فقلت كيف هو عندك فقال وما عندي أنا وسمعته يقول إنما هو يعني العلم ما جاء من فوق
وقال سفيان لقد كان الرجل يستفتي فيفتي وهو يرعد وقال سفيان من فتنة الرجل إذا كان فقيها أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت
وقال المروذي قلت لأبي عبد الله إن العالم يظنونه عنده علم كل شيء فقال قال ابن مسعود رضي الله عنه إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون وأنكر أبو عبد الله على من يتهجم في المسائل والجوابات وسمعت أبا عبد الله يقول ليتق الله عبد ولينظر ما يقول وما يتكلم فإنه مسؤول وقال من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم
وقال في رواية ابن القاسم إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البين الذي لا شك فيه وليت الناس إذا أمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه ونقل محمد بن أبي طاهر عنه أنه سئل عن مسألة في الطلاق فقال سل غيري ليس لي أن أفتي في الطلاق بشيء وقال في رواية ابن منصور لا ينبغي أن يجيب في كل ما يستفتى
وصح عن مالك أنه قال ذل وإهانة للعلم أن تجيب كل من سألك وقال أيضا كل من أخبر الناس بكل ما يسمع فهو مجنون
وقال أحمد في رواية أحمد بن علي الأبار وقال له رجل حلفت بيمين لا أرى أيش هي قال ليت أنك إذا دريت دريت أنا وقال في رواية الأثرم إذا هاب الرجل
____________________
(2/62)
شيئا فلا ينبغي أن يحمل على أن يقول
وعن ابن المسيب قال قال عمر رضي الله عنه إذا رأيتم القارئ يغشى السلطان فهو لص وإذا رأيتموه يخالط الأغنياء فهو مراء
وقال الميموني جلست مع أبي عبد الله في المقبرة وكنا نتحدث وكنت أسائله ويجيبني قال الخلال وكنت أمضي مع المروذي إلى المقابر ويصلي على الجنائز فأقرأ عليه ونحن قعود بين القبور إلى أن يفرغ من دفن الميت
وقال في رواية المروذي إن الذي يفتي الناس يتقلد أمرا عظيما أو قال يقدم على أمر عظيم ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتي وقال في رواية الميموني من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ
وقال الثوري لا نزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا وقال أحمد نحن إلى الساعة نتعلم وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار (1) ما معناه قال أبو عبد الله يفتي بما لم يسمع
وقال محمد بن أبي حرب سمعت أبا عبد الله وسئل عن الرجل يفتي بغير علم قال يروي عن أبي موسى قال يمرق من دينه ونقل المروذي أن رجلا تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبد الله قال هذا من حبه الدنيا يسأل عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب أو نحو هذا عن حماد
وقال كنت أسائل إبراهيم عن الشيء فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم روى ذلك الخلال وغيره
وقال ابن وهب عن يونس عن الزهري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدث رجلا بحديث فاستفهمه الرجل فقال الصديق هو كما حدثتك أي أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم وروي نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعا
____________________
1- أخرجه الدارمي وهو ضعيف
(2/63)
من أفتى بفتيا غير ثبت فيها فإنما إثمه على الذي أفتاه (1) وفي لفظ من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه رواهما أحمد وروى الثاني أبو داود والأول ابن ماجه وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي المنتقى
وقال مسلم البطين عن عزرة التميمي قال قال علي وأبردها على الكبد ثلاثا أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول الله أعلم
وعن علي أيضا خمس لو سافر الرجل فيهن إلى اليمن لكن عوضا من سفره لا يخشى عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم ولا يستحي من تعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد وإذا قطع الرأس توي الجسد
وقال الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله
قال الزهري عن خالد بن أسلم أخي زيد بن أسلم قال كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أترث العمة فقال لا أدري قال أنت لا تدري قال نعم اذهب إلى العلماء فاسألهم فلما أدبر الرجل قبل ابن عمر يده فقال نعما قال أبو عبد الرحمن سئل عن ما لا يدري فقال لا أدري
وقال سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى هذا لفظ رواية الثوري ولفظ ابن عيينة إذا سئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول
____________________
1- أخرجه ابن ماجه وأحمد والحاكم
(2/64)
وقال أبو حصين عثمان بن عاصم التابعي الجليل إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر
وقال القاسم وابن سيرين لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم
وقال مالك عن القاسم بن محمد إن من إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه
وقال سعيد بن جبير ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم
وقال مالك من فقه العالم أن يقول لا أعلم فإنه عسى أن يهيأ له الخير
وقال أحمد بن حنبل سمعت الشافعي رضي الله عنهما سمعت مالكا سمعت محمد بن عجلان يقول إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله ورواه إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة عن داود بن أبي زبير الزبيري عن مالك عن ابن عجلان قال قال ابن عباس فذكره وقد سبق
وقال عبد الرزاق عن معمر قال سأل رجل عمرو بن دينار عن مسألة فلم يجبه فقال الرجل إن في نفسي منها شيئا فأجبني فقال أن يكون في نفسك منها مثل أبي قبيس أحب إلي من أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة
وقال ابن مهدي سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة فطال ترداده إليه فيها وألح عليه فقال ما شاء الله يا هذا إني لم أتكلم إلا فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق وكان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان كذا وجدت هذه الكلمة الخرق فإن كانت كذلك فقال الجوهري الخرق بالتحريك الدهش من الخوف أو الحياء وقد خرق بالكسر فهو خرق وأخرقته أنا أي أدهشته والخرق أيضا مصدر الأخرق وهو ضد الرفيق وقد خرق بالكسر يخرق خرقا والاسم الخرق وإن كانت هذه الكلمة التخرق فالتخرق لغة في التخلق من الكذب والله
____________________
(2/65)
أعلم
ثم روى البيهقي من حديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان وهو ضعيف عندهم وحسن له الترمذي عن أنس مرفوعا التأني من الله والعجلة من الشيطان (1)
وقال محمد بن المنكدر العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم
وقال يحيى بن سعيد كان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئا إلا قال اللهم سلمني وسلم مني ذكره البيهقي وغيره ولا سيما إن كان من يفتي يعلم من نفسه أنه ليس أهلا للفتوى لفوات شرط أو وجود مانع ولا يعلم الناس ذلك منه فإنه يحرم عليه إفتاء الناس في هذه الحال بلا إشكال فهو ساع إلى ما يحرم لا سيما إن كان الحامل على ذلك غرض الدنيا وأما السلف فكانوا يتركون ذلك خوفا ولعل غيره يكفيه وقد يكون أدنى لوجود من هو أولى منه وقال ابن معين الذي يحدث بالبلدة وبها من هو أولى منه بالحديث فهو أحمق
وقال أيضا إذا رأيتني أحدث في بلدة فيها مثل علي بن مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق وأمر يده على عارضيه ويأتي بنحو كراسين هذا المعنى قبل فصل قال جعفر بن درستويه
وقال مالك ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك
وقال ابن عيينة وسحنون أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما قال سحنون أشقى الناس من باع آخرته بدنيا غيره وقال فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال
وقال سفيان أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا وقال أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم
____________________
1- أخرجه الترمذي وحسنه
(2/66)
فيها
وبكى ربيعة فقيل ما يبكيك فقال استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم وقال ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السارق
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1)
وفيهما أيضا عن ابن مسعود مرفوعا إن بين يدي الساعة أياما يكثر فيها الجهل ويترك فيها العلم ويكثر فيها الهرج + أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه + والهرج القتل
وفيهما عن أنس مرفوعا إن من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل والزنى وشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد + أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه +
وعن أبي هريرة مرفوعا يتقارب الزمان ويقبض العلم وفي لفظ وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
وعن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء فقال هذا أوان يرفع العلم من الناس فقال زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف وقد قرأنا القرآن والله لنقرأنه ولنقرئنه أنباءنا ونساءنا فقال ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من أفقه أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود فماذا يغني عنهم + أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان +
وعن أبي الدرداء هذا المعنى وفيه هذا أوان يختلس العلم حديثان جيدا
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
(2/67)
الإسناد وروى الأول النسائي وغيره وروى الثاني الترمذي (1) وغيره وقال حسن غريب
وقال شعبة عن حصين عن سالم بن أبي الجعد قال قال أبو الدرداء ما لي أرى علماءكم يذهبون ولا أرى جهالكم يتعلمون ما لي أراكم تحرصون على ما قد تكفل لكم وتدعون ما أمرتم به تعلموا قبل أن يرفع العلم ورفع العلم ذهاب العلماء لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالفرس هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا ولا يقرؤون القرآن إلا هجرا ولا يعتق محرروهم
وقال الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربوا فيها الصغير ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا غيرت السنة قالوا متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة
وقال الأوزاعي عن الزهري كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا ونعش العلم ثبات الدين والدنيا في ذهاب العلم ذلك كله ذكره البيهقي
وقال نعيم بن حماد حدثنا عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك مرفوعا تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال + رواه البزار والطبراني والحاكم والبيهقي وهو حديث ضعيف +
ورواه البيهقي وقال تفرد به نعيم بن حماد وقد سرقه منه جماعة من الضعفاء وهو منكر وفي غيره من الأحاديث الصحاح كفاية
____________________
1- أخرجه الحاكم
(2/68)
وقد قال محمد بن حمزة المروذي سألت يحيى بن معين عن هذا فقال ليس له أصل قلت فنعيم قال ثقة قلت كيف يحدث ثقة بباطل قال شبه له وقال الخطيب وافقه على روايته سويد وعبد الله بن جعفر عن عيسى وقال ابن عدي رواه الحكم ابن المبارك الخواشتي ويقال لا بأس به عن عيسى قال بعض المتأخرين هؤلاء أربعة لم يتفقوا عادة على باطل فإن كان خطأ فمن عيسى بن يونس
وروى البيهقي من رواية نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو مرفوعا لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئتكم به (1) قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح
وروى البيهقي أن عمر كان يقول اتقوا الرأي في دينكم وكان ينهى عن المكايلة يعني المقايسة
وفي الصحيحين أو في الصحيح أن عمر رضي الله عنه كان يقول يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت لرددت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره والله ورسوله أعلم + أخرجه البخاري ومسلم والطبراني وإسناده ضعيف + وعن سهل بن حنيف نحو ذلك
وقال علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف + أخرجه أبو داود وهو صحيح + وقال الشعبي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس
وقال النخعي إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم وقال
____________________
1- إسناده ضعيف
(2/69)
ابن سيرين لا تجالس أصحاب الرأي وقال سفيان الثوري إنما العلم كله بالآثار
وقال الأوزاعي عليك بالأثر وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه بالقول فإن الأمر ينجلي وأنت فيه على طريق مستقيم
وقال الأوزاعي إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك أن تأخذ بغيره فإنه كان مبلغا عن الله عز وجل
وقال أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الأعمش عن الفضيل بن عمرو قال أراه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول نهى أبو بكر وعمر (1) حديث حسن ورواه في المختارة من طريقه
وفي البخاري أن عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلبى علي بهما وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد + أخرجه البخاري +
وقال رجل لابن عمر إن أباك نهى عنها فقال للرجل أمر أبي يتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرجل بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي + أخرجه الترمذي وإسناده صحيح + فصل في الوصية بالفهم في الفقه والتثبت وعلم ما يختلف فيه
قال المروذي قال أبو عبد الله يعجبني أن يكون الرجل فهما في الفقه وقال
____________________
1- أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
(2/70)
عبد الله سمعت أبي يقول سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول عليك بالفهم في الفقه مرتين
وقال أبو بكر بن محمد بن يزيد المستملي سألت أحمد عن عبد الرزاق كان له فقه فقال ما أقل الفقه في أصحاب الحديث
وقال إبراهيم بن هانئ قال لي أبو عبد الله يا أبا إسحاق ترك الناس فهم القرآن
وقال مالك ربما كانت المسألة أو نزلت المسألة فلعلي أسهر فيها عامة ليلي وقال صالح سألت أبي عن الرجل يكون في القرية وقد روى الحديث ووردت عليه مسألة فيها أحاديث مختلفة كيف يصنع قال لا يقل فيها شيئا
وقال إسحاق بن إبراهيم قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في القرية فيسأل عن الشيء الذي فيه اختلاف قال يفتي بما يوافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه قيل له فيخاف عليه قال لا
وعن أبي موسى قال من علمه الله علما فليعلمه الناس وإياه أن يقول ما لا علم له به فيصير من المتكلفين ويمرق من الدين
وقال مهنا قلت لأحمد في مسألة فقال لي قد ترك هذا الناس اليوم ومن يعمل بهذا اليوم فقلت له وإن ترك الناس هذا فلا يترك معرفة علم لا يعرفه الناس حتى لا يموت قال نعم حدثني بقية بن الوليد قال قال لي الأوزاعي تعلم من الأحاديث ما لا يؤخذ به كما تعلم ما يؤخذ به فقال أحمد يقول تعرفها
وقال أحمد قال سعيد بن جبير من علم اختلاف الناس فقد فقه وعن قتادة قال قال سعيد بن المسيب ما رأيت أحدا أسأل عما يختلف فيه منك قال قلت إنما يسأل من يعقل عما يختلف فيه فأما ما لا يختلف فيه فلم نسأل عنه
وروى أحمد عن سعيد بن جبير قال أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف وعن ابن عمر قال من رق وجهه رق علمه وعن الشعبي مثله وروى الخلال
____________________
(2/71)
ذلك وقال الثوري الكلام الأخير وقال مجاهد لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر وعن عمر رضي الله عنه لا تعلم العلم لتماري به ولا لتباهي به ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ولا رضى بالجهالة ذكر ذلك البيهقي فصل في كراهة السؤال عن الغرائب وعما لا ينتفع به ولا يعمل به وما لم يكن
قال المروذي قال أبو عبد الله سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم فقلت له أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا
وقال أيضا قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال يا صبي أنت تسأل عن ذا
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله وسأله ابن الشافعي الذي ولي قضاء حلب قال له يا أبا عبد الله ذراري المشركين أو المسلمين لا أدري أيهما سأل عنه فصاح به أبو عبد الله وقال له هذه مسائل أهل الزيغ ما لك ولهذه المسائل فسكت وانصرف ولم يعد إلى أبي عبد الله بعد ذلك حتى خرج
ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد أنه سئل عن مسألة في اللعان فقال سل رحمك الله عما ابتليت به ونقل عنه أبو داود وسأله رجل عن مسألة فقال له دعنا من هذه المسائل المحدثة وسألته عن أخرى فغضب وقال خذ ويحك فيما تنتفع به وإياك وهذه المحدثة وخذ في شيء فيه حديث وقال الأثرم سمعت أحمد سئل عن مسألة قال دعنا ليت أنا نحسن ما جاء فيه الأثر
وقال مهنا سألت أحمد عن رجل استأجر من رجل داره سنة بعبد فلم يسكن الدار وأبق العبد فقال لي أعفنا من هذه المسائل
وسألت أحمد عن المريض يضعف عن الصوم قال يفطر فقلت يأكل قال نعم قلت ويجامع امرأته قال لا أدري فأعدت عليه فحول وجهه عني
____________________
(2/72)
وقال أحمد بن جيان القطيعي دخلت على أبي عبد الله فقلت أتوضأ بماء النورة فقال ما أحب ذلك فقلت أتوضأ بماء الباقلاء قال ما أحب ذلك قال ثم قمت فتعلق بثوبي وقال أيش تقول إذا دخلت المسجد فسكت فقال أيش تقول إذا خرجت من المسجد فسكت فقال اذهب فتعلم هذا
وعن ابن شبرمة قال قال لي إياس بن معاوية إياك وما يستشنع الناس من الكلام وعليك بما يعرف الناس من القضاء وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يكره أن يفتي برأيه أو في أمر خصومة
وروى أحمد من رواية ليث عن طاووس عن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر ينهى أن يسأل عما لم يكن
وروى أيضا بإسناد حسن عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم (1)
وروى أيضا من رواية مجالد عن عامر عن جابر قال ما أنزل البلاء إلا كثرة السؤال روى ذلك الخلال وقد تضمن ذلك أنه يكره عند أحمد السؤال عما لا ينفع السائل ويترك ما ينفعه ويحتاجه وأن العامي يسأل عما ابتلي به وقد قال الله تعالى ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم ) المائدة 101
واحتج به الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه وفي حديث اللعان فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها + أخرجه مسلم وأبو داود +
____________________
1- أخرجه الدارمي
(2/73)
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة مرفوعا كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وفي لفظ إن الله كره لكم ذلك متفق عليه (1)
وفيهما عن سعد مرفوعا قال أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
وقال في شرح مسلم قال الخطابي وغيره هذا الحديث فيمن سأل تكلفا أو تعنتا عما لا حاجة به إليه فأما من سأل لضرورة بأن وقعت له مسألة فسأل عنها فلا إثم عليه ولا يحنث لقوله تعالى ( ^ فأسألوا أهل الذكر ) الأنبياء 7
وقال البيهقي في كتاب المدخل كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة وإنما سأل بالاجتهاد لأنه إنما يباح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة وقد يتغير اجتهاده عندها واحتج بحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه + أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان +
وقال طاووس عن عمر لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن
وقال ابن وهب أخبرني الفتح بن بكر عن عبد الرحمن بن شريح أن عمر قال إياكم وهذه العضل فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها أو يفسرها وروي عن أبي بن كعب نحو ذلك
وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن الصلت بن راشد قال سألت طاووسا عن شيء فقال أكان هذا قلت نعم فحلفني فحلفت له فقال إن أصحابنا حدثونا عن معاذ أنه قال أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم هاهنا وإنكم إن لم تعجلوا لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
(2/74)
سدد أو قال وفق (1)
وروى أسامة بن زيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذا الكلام
وقال البيهقي وبلغني عن أبي عبد الله الحليمي أنه أباح ذلك للمتفقهة ليرشدوا إلى طريق النظر قال والرأي قال وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد وأخبروا بآرائهم فيها
وقال عكرمة قال لي ابن عباس انطلق فأفت الناس فمن سألك عما يعنيه فافته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس
ورواه الحاكم في تاريخه وفيه انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم
وقد روى أحمد ومسلم من حديث أبي سعيد لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار + أخرجه أحمد ومسلم والترمذي +
وقد أذن صلى الله عليه السلام في الكتابة ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه السلام اكتبوا لأبي شاه + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
____________________
1- أخرجه أبو داود والطبراني وإسناده منقطع
(2/75)
ولأحمد وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه السلام أومأ بأصبعه إلى فيه وقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق (1) وأمر صلى الله عليه وسلم بالكتابة في غير حديث
فأما قول العالم للناس سلوني ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سلوني فهابوا أن يسألوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال يا رسول الله ما الإسلام الحديث + أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان + أي سلوني عما تحتاجون إليه فلا تعارض بينه وبين ما في الصحيحين عن أنس قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله الحديث + أخرجه مسلم وابن حبان +
وفي البخاري وغيره في تفسير سورة الكهف أن ابن عباس قال سلوني + صحيح البخاري +
وأما جلوس العالم في حلقة فهو كثير في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولمسلم عن أبي هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع الحديث + أخرجه مسلم +
يقال قعدنا حوله وحوليه وحواليه وحواله بفتح الحاء واللام في جميعها أي جوانبه قال أهل اللغة ولا يقال حواليه بكسر اللام ويقال نحن بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون أي بينكم والفزع يكون بمعنى الروع وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به وبمعنى الإغاثة
قالوا وفي هذا الخبر اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم والاعتناء بتحصيل مصالحه ودفع المفاسد عنه وفيه أن أبا هريرة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا للأنصار وهو البستان وأنه صلى الله عليه السلام أعطاه نعليه وقال اذهب بنعلي أي
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح
(2/76)
علامة فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة وأنه لقي عمر فأخبره قال فضرب عمر بين ثديي فخررت لاستي فقال ارجع يا أبا هريرة وقوله فأجهشت بكاء وفي بعض النسخ فجهشت أي تغير وجهه وتهيأ للبكاء وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة أي بكذا قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وفي هذا الخبر فوائد فصل في النهي عن الأغلوطات والمغالطة وسوء القصد بالأسئلة
روى الأوزاعي عن عبد الله بن سعد ولم يرو عنه غير الأوزاعي فلهذا قيل مجهول وقال ابن حبان في الثقات يخطئ عن الصنابحي عن معاوية مرفوعا عنه نهى صلى الله عليه السلام عن الغلوطات (1) رواه أبو داود ورواه غيره الأغلوطات
قال الأوزاعي شذاذ المسائل وصعابها واحدة الأغلوطات أغلوطة وهي التي يغالط بها وتجمع أيضا على أغاليط لقول حذيفة عن عمر حدثته حديثا ليس بالأغاليط
قال الحسن البصري شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يعمون بها عباد الله وقال مالك قال رجل للشعبي إني خبأت لك مسائل فقال أخبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها
وقال مالك العلم والحكمة نور يهدي الله به من يشاء وليس بكثرة المسائل وقال مالك قال بعضهم ما تعلمت العلم إلا لنفسي ما تعلمته ليحتاج إلي الناس
وذكر ابن عبد البر أن صاحب الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أفضل الكلام وما
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وعبد الله بن سعد قال أبو حاتم وغيره مجهول وقال الساجي ضعفه أهل الشام في الحديث
(2/77)
هو والثاني والثالث والرابع وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله عز وجل وعن أكرم الإماء على الله وعن أربعة من الخلق لم يركضوا في رحم وعن قبر سار بصاحبه وعن المجرة وعن القوس وعن مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع فيه قبل ذلك ولا بعده فلما قرأ معاوية الكتاب قال أخزاه الله وما علمي بما هاهنا قيل اكتب إلى ابن عباس فكتب إليه يسأله عن ذلك فكتب إليه ابن عباس
أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الإخلاص لا عمل إلا بها والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الخلق والتي تليها الحمد لله كلمة الشكر والتي تليها الله أكبر فاتحة الصلوات والركوع والسجود وأكرم الخلق على الله آدم عليه السلام وأكرم الإماء على الله مريم عليها السلام
وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء والكبش الذي فدي به إسماعيل وعصا موسى حيث ألقاها فصارت ثعبانا مبينا
وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو الحوت الذي التقم يونس وأما المجرة فباب السماء وأما القوس فإنها أمان لأهل الأرض من الغرق بعد نوح
وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس ولم تطلع فيه قبله ولا بعده فالمكان الذي انفجر من البحر لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام فلما قدم عليه الكتاب أرسله إلى ملك الروم فقال لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم وما أصاب هذا إلا رجل من أهل بيت النبوة كذا ذكر ابن عبد البر هذا الأثر وبعضه صحيح وبعضه باطل وما ذكره في آدم ومريم فبعضه الله به وبغيره أعلم
وبعث ملك الروم إلى معاوية بقارورة فقال ابعث لي فيها من كل شيء فبعث إلى ابن عباس فقال تملأ ماء فلما ورد به على ملك الروم قال له أخوه ما أهداه فقيل لابن عباس كيف اخترت ذلك قال لقوله تعالى ( ^ وجعلنا من الماء كل شيء حي ) الأنبياء 30 والله أعلم
وعن يحيى بن أكثم قال قال لي المأمون من تركت بالبصرة فوصف له مشايخ منهم سليمان بن حرب فقلت هو ثقة حافظ للحديث عاقل في نهاية الستر والصيانة
____________________
(2/78)
فأمرني بحمله إليه فكتبت إليه فقدم فأدخلته إليه وفي المجلس ابن أبي دؤاد وثمامة وأشباه لهما فكرهت أن يدخل مثله بحضرتهم فلما دخل سلم فأجابه المأمون ورفع مجلسه ودعا له سليمان بالعز والتوفيق فقال ابن أبي دؤاد يا أمير المؤمنين نسأل الشيخ عن مسألة فنظر إليه المأمون نظرة تخيير له فقال يا أمير المؤمنين حدثنا حماد بن زيد قال قال رجل لابن شبرمة أسألك قال إن كانت مسألتك لا تضحك الجليس ولا تزري بالمسؤول فسل وحدثنا وهيب قال قال إياس بن معاوية من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها ولا للمجيب أن يجيب عنها فإن كانت مسألته من غير هذا فليسأل قال فهابوه فما نطق أحد منهم حتى قام وولاه قضاء مكة فخرج إليها
وفي الصحيحين (1) أن عبد الله بن مسعود سأله رجل كيف تقرأ هذا الحرف ألفا أم ياء ( ^ من ماء غير آسن ) محمد 15 أو ياسن فقال عبد الله وكل القرآن قد أحصيت غير هذا الحرف قال إني لأقرأ المفصل في ركعة فقال هذا كهذ الشعر إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع
وقال في شرح مسلم هذا محمول على أنه فهم منه أنه غير مسترشد في سؤاله إذ لو كان مسترشدا لوجب جوابه وهذا ليس بجواب
وفي البخاري عن يوسف بن ماهك أن رجلا عراقيا قال لعائشة أي الكفن خير قالت ويحك وما يضرك قال يا أم المؤمنين أرني مصحفك قالت لم قال لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك أية قرأت قبل إلى أن قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور + صحيح البخاري +
فأما رمي الشيخ المسألة بين أصحابه ومن يحضره من الطلبة ليختبر ما عندهم فحسن لحديث طرح النبي صلى الله عليه وسلم شجرة لا ترمي ورقها هي مثل المؤمن وأنه وقع في
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/79)
نفس ابن عمر رضي الله عنهما أنها النخلة ولم يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هي النخلة متفق عليه (1)
ثم إن أصاب واحد وأخطأ غيره جاز مدح المصيب لتزداد رغبته وحرصه ويجتهد أيضا المخطئ وإن كان الأولى تركه ويكره عيب المخطئ لحصول المصلحة بدونه مع ما فيه من كثرة الأذى وهذه المسألة تشبه مدح الأمين والشهود للمصيب في السبق وعيب المخطئ وهو مكروه وقال ابن عقيل لا يجوز
وروى مسلم عن ابن أبي عتيق واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال تحدثت أنا والقاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق عند عائشة حديثا وكان القاسم رجلا لحانا وروي لحانة بفتح اللام وتشديد الحاء أي كثير اللحن في كلامه وروي لحنة بضم اللام وإسكان الحاء وروي بفتح الحاء أيضا وهو بمعنى التسكين وقيل بل هو الذي يخطئ الناس قال ابن أبي عتيق وكان القاسم لأم ولد فقالت له عائشة ما لك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا أما إني قد علمت من أين أتيت هذا أدبته أمه وأنت أدبتك أمك قال فغضب القاسم وأضب عليها وهو بفتح الهمزة وفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء أي حقد فلما رأى مائدة عائشة قد أتي بها قام قالت أين قال أصلي قالت اجلس قال إني أصلي قالت اجلس غدر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين
غدر بضم الغين المعجمة وفتح الدال أي يا غادر وهو ترك الوفاء ويقال لمن غدر غادر وغدر وأكثر ما يستعمل في النداء بالشتم
قال في شرح مسلم وإنما قالت له غدر لأنه مأمور باحترامها لأنها أم المؤمنين وعمته وأكبر منه وناصحة له ومؤدبة فكان حقه أن يحتملها ولا يغضب عليها انتهى كلامه وعلى هذا ينبغي للتلميذ أن يصبر ويحتمل ولا يغضب لئلا يفوته العلم ولا تكثر مخالفته
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/80)
قال الزهري كان أبو سلمة بن عبد الرحمن بحرا وكان كثيرا ما يخالف ابن عباس فحرم لذلك من ابن عباس علما كثيرا
وسأل ابن سيرين ابن عمر عن إطالة القراءة في سنة الفجر فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة قلت لست عن هذا أسألك فقال به به إنك لضخم ألا تدعني أستقرئ لك الحديث ثم ذكره وفيه تأديب السائل والتلميذ
وقوله به به بموحدة مفتوحة وهاء ساكنة مكرر قيل معناه مه مه زجر وكف قال ابن السكيت هي لتفخيم الأمر معناه بخ بخ وقوله إنك لضخم إشارة إلى الغباوة وقلة الأدب لأن هذا الوصف يكون غالبا وإنما قال ذلك لأنه قطع كلامه وعاجله وقوله أستقرئ بالهمزة من القراءة ومعناه أذكره على وجهه بكماله
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت الله ورسوله أعلم قال يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم قلت ( ^ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) البقرة 255 فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر (1) رواه مسلم فصل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التنبيه وصراحته في التعليم
ذكر أبو العالية البراء بتشديد الراء وبالمد كان يبري النبل تأخير ابن زياد الصلاة ذكر ذلك لعبد الله بن الصامت فعض على شفتيه فضرب فخذي وقال سألت أبا ذر كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال صل الصلاة لوقتها فإن أدركت الصلاة معهم فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي + أخرجه مسلم والنسائي + وقال في شرح مسلم قوله فضرب فخذي أي للتنبيه وجمع الذهن على ما يقوله له
____________________
1- أخرجه مسلم وأبو داود
(2/81)
وفي قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه لما بدأ بعائشة وقالت أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا رواه مسلم (1) من حديث جابر
وفي الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت له لا تخبر نساءك أني اخترتك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا + أخرجه البخاري ومسلم + فصل كراهة الكلام في الوساوس وخطرات المتصوفة
قال المروذي سئل أبو عبد الله عمن تكلم في الوساوس والخطرات فنهى عن مجالستهم وقال للسائل احذرهم وقال سمعت أبا عبد الله يقول جاءني الأرمينيون بكتاب ذكر الوسواس والخطرات وغيره قلت فأي شيء قلت لهم قال قلت هذا كله مكروه وقال في موضع آخر للمروذي عليك بالعلم عليك بالفقه
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أحمد بن حنبل يقول من تكلم في الخطرات التابعون تابعو التابعين
وقال أحمد بن القاسم سمعت أبا عبد الله ورجل يسأله من أهل الشام رجل غريب فذكر أن ابن أبي الحواري وقوما معه هناك يتكلمون بكلام قد وضعوه في كتاب ويتذاكرونه بينهم فقال ما هو قال يقولون المحبة لله أفضل من الطاعة وموضع الحب درجة كذا فلم يدعه أبو عبد الله يستتم كلامه وقال هذا ليس من كلام العلماء لا يلتفت إلى من قال هذا وأنكر ذلك وكرهه
وقال أبو زرعة الرازي وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/82)
قيل له في هذه الكتب عبرة فقال من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع انتهى كلامه
ومحفوظ عن الإمام أحمد النهي عن كتب كلام منصور بن عمار والاستماع للقاص به
قال القاضي أبو الحسين إنما رأى إمامنا أحمد الناس لهجين بكلامه وقد اشتهروا به حتى دونوه وفصلوه مجالس يحفظونها ويلقونها ويكثرون فيما بينهم دراستها فكره لهم أن يلهوا بذلك عن كتاب الله ويشتغلوا به عن كتب السنة وأحكام الملة لا غير فصل في وعظ القصاص ونفعهم وضررهم وكذبهم
قال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول يعجبني القصاص لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر قلت لأبي عبد الله فترى الذهاب إليهم فقال إي لعمري إذا كان صدوقا لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر قلت له كنت تحضر مجالسهم أو تأتيهم قال لا قال وشكا رجل إلى أبي عبد الله الوسوسة فقال عليك بالقصاص ما أنفع مجالسهم وقال في رواية جعفر بن محمد ما أحوج الناس إلى قاص صدوق
وقال في رواية علي بن زكريا التمار وسئل عن القصاص والمعبر فقال يخرج المعبر ولا يخرج القصاص وقال لنا يعجبني القاص في هذا الزمان لأنه يذكر الشفاعة والصراط وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يتحدثون به كذبا وقال في رواية أبي الحارث أكذب الناس القصاص والسؤال وسئل عن مجالسة القصاص فقال إذا كان القاص صدوقا فلا أرى
____________________
(2/83)
بمجالسته بأسا
وروى الخلال عنه أنه صلى في مسجد فقام سائل فسأل فقال أبو عبد الله أخرجوه من المسجد هذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال مهنا إن أبا عبد الله سألوه عن القصص فرخص فيه فقلت له حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه كان يخرج من المسجد يقول ما أخرجني إلا القصاص ولولاهم ما خرجت فقال لي يعجبني القصاص اليوم لأنهم يذكرون عذاب القبر ويخوفون الناس فقلت له حدثنا ضمرة قال جاءنا سفيان هاهنا فقلنا نستقبل القصاص بوجوهنا فقال ولوا البدع ظهوركم فقال أحمد نعم هذا مذهب الثوري
وقال أحمد حدثنا هاشم حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة سمعت كردوس بن قيس وكان قاص العامة بالكوفة يقول أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب (1) قال شعبة فقلت أي مجلس تعني قال كان قاصا لم أجد في كردوس كلاما وعبد الملك من الثقات الكبار
وقال أيضا حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن الحارث بن معاوية الكندي أنه ركب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ثلاث خلال فقدم المدينة فسأله عمر ما أقدمك قال لأسألك عن ثلاث وسأله الثالثة عن القصص فإنهم أرادوني على القصص فقال ما شئت كأنه كره أن يمنعه قال إنما أردت أن أنتهي إلى قولك قال أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله عز وجل تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك إسناد جيد + أخرجه أحمد وإسناده قوي +
وروى الخلال عن يونس بن عبيد أنه رأى رجلا في حلقة المعتزلة فقال تعال
____________________
1- أخرجه أحمد والدارمي
(2/84)
فقال فجئت فقال إن كنت لا بد فاعلا فعليك بحلقة القصاص
وروى أيضا عن زياد النميري وهو ضعيف أنه أتى أنس بن مالك قال فقال لي قص فقلت كيف والناس يزعمون أنه بدعة فقال لو كان بدعة ما أمرناك به ليس شيء من ذكر الله عز وجل بدعة قال فقصصت فجعلت أكثر قصصي دعاء رجاء أن يؤمن قال فجعلت أقص وهو يؤمن
وقال الأوزاعي كان الحسن إذا قص القاص لم يتكلم فقيل له في ذلك فقال إجلالا لذكر الله عز وجل
وروى أبو داود عن محمود بن خالد عن علي بن أبي مسهر عن عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعا لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال (1) عمرو تفرد عنه يحيى ووثقه ابن حبان وباقيه جيد تابعه صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن عوف وتابعه عبد الله بن زيد ويقال ابن يزيد قاص مسلمة بالقسطنطينية عن عوف
قال في النهاية أي لا ينبغي ذلك إلا لأمير يعظ الناس ويخبرهم بما مضى ليعتبروا أو مأمور بذلك فحكمه كالأمير ولا يقص تكسبا أو يكون القاص مختالا يفعل ذلك تكبرا على الناس أو مرائيا وقيل أراد الخطبة لأن الأمراء كانوا يلونها ويعظون الناس فيها ويقصون عليهم أخبار الأمم السالفة قال ومنه الحديث القاص ينتظر المقت + هو موضوع + لما يعرض في قصصه من الزيادة والنقصان قال ومنه حديث إن بني إسرائيل لما قصوا هلكوا + حديث حسن أخرجه الطبراني وأبو نعيم + وفي رواية لما هلكوا
____________________
1- أخرجه أبو داود وأحمد وهو صحيح
(2/85)
قصوا أي اتكلوا على القول وتركوا العمل فكان ذلك سبب هلاكهم أو بالعكس لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص
وسئل الأوزاعي عن القوم يجتمعون فيأمرون رجلا فيقص عليهم قال إذا كان ذلك يوما بعد الأيام فليس به بأس وقال حبيب بن الشهيد قال إنسان لابن سيرين إن أبا مجلز كان لا يقعد إلى القاص قال قعد إليه من هو خير منه وعن الحسن قال القصص بدعة ونعم البدعة كم من دعاء مستجاب أو أخ مستفاد وقال حنبل قلت لعمي في القصاص قال القصاص الذين يذكرون الجنة والنار والتخويف ولهم نية وصدق الحديث فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه قال أبو عبد الله ولو قلت أيضا إن هؤلاء يسمعهم الجاهل والذي لا يعلم فلعله ينتفع بكلمة أو يرجع عن أمر كان أبو عبد الله يكره أن يمنعوا وقال ربما جاؤوا بالأحاديث الصحاح
وروى أحمد عن غضيف بن الحارث قال بعث إلي عبد الملك بن مروان قال يا أبا أسماء إنا جمعنا الناس على أمرين فقال وما هما قال رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر فقال أما إنهما أفضل بدعتكم ولست بمجيبكم إلى شيء منها قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة (1) وقال أبو عبد الله لا أحب أن يمل الناس ولا يطيل الموعظة إذا وعظ
وروى حنبل من رواية أبي جعفر الرازي ماهان عن الربيع بن أنس قال مر علي رضي الله عنه على قاص فقام إليه فقال هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هل تعرف المحكم من المتشابه قال لا قال هل تعرف الزجر من الأمر قال لا فأخذ بيده فرفعها وقال إن هذا يقول اعرفوني اعرفوني
وبإسناد صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال انتهى علي إلى رجل وهو
____________________
1- أخرجه أحمد وهو ضعيف
(2/86)
يقص فقال علمت الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت وعن ابن عباس معناه
وعن عائذ بن عمرو أنه قال لقاص هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال فعلام تقص على الناس وتغرهم عن دينهم وأنت لا تعرف حلال الله من حرامه
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إذا سمعتم السائل يحدث بأحاديث الجاهلية يوم الجمعة فاضربوه بالحصى روى ذلك الخلال
قال الشيخ تقي الدين قال الإمام أحمد رحمه الله أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال والقصاص فيجب منع من يكذب مطلقا فكيف إذا كان يكذب ويسأل ويتخطى وكيف من يكذب على رؤوس الناس في مثل يوم الجمعة فنهي من يكذب من أعظم الواجبات بل وينهى من روى ما لا يعرف أصدق هو أم كذب انتهى كلامه
وقال ابن عقيل في الفنون ولا يصلح للكلام على العوام ملحد ولا أبله وكلاهما يفسد ما يحصل لهم من الإيمان
وقال المرء مخبوء تحت لسانه ولا بد أن ينكشف قصده من صفحات وجهه وقلبه أو لسانه وقال ما أخوفني على من كانت الدنيا أكبر همه أن تكون غاية حظه
قال وسئل عن قوم يجتمعون حول رجل يقرأ عليهم أحاديث وهو غير فقيه فقال هذا وبال على الشرع أو نحو ذلك فإن جماعة من العوام تفرقوا عن مجلس مثل هذا وبعضهم يقول لبعض أستغفر مما فعلت كثيرا ولم أعلم أن الشرع قد نهى عنه قيل له وما هو قال كنت أبذل ماء قراحي وأبذل حقي من الماء وإذا هو قد نهى الشرع عنه فإنه قد روى لنا الشيخ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسقين أحدكم ماءه زرع
____________________
(2/87)
غيره (1) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط + رواه الطبراني والحاكم قال الدارقطني متروك الحديث + وقد كنت أشرط الخيار لنفسي فأستغفر الله من ذلك فهذا وأمثاله إذا ورد وسمعه العوام كان نسخا عندهم لأحكام الشرع وإنما الراوي إذا كان قادرا أن يبين خصوص العام المخصص وتقييد المطلق بتقييده وإلا فمخاطرة وربما قرأ نفس الرحمن من اليمن + أخرجه أحمد والطبراني وسنده ضعيف + والحجر الأسود يمين الله + أخرجه الخطيب وهو حديث باطل + ومعلوم أن من اعتقد ظاهر هذا كفر
قال ابن الجوزي في كتاب السر المكتوم لا يصلح لإيداع الأسرار كل أحد ولا ينبغي لمن وقع بكنز أن يكتمه مطلقا فربما ذهب هو ولم ينتفع بالكنز وكما أنه لا ينبغي للعالم أن يخاطب العوام بكل علم فينبغي أن يخص الخواص بأسرار العلم لاحتمال هؤلاء ما لا يحتمله أولئك وقد علم تفاوت الأفهام وقد قال تعالى ( ^ ولو ردوه إلى الرسول ) النساء 83 وقال ( ^ وما يعقلها إلا العالمون ) العنكبوت 43 وقال ( ^ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) النحل 125 وقال صلى الله عليه السلام ليلني منكم أولو الأحلام والنهى + أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه +
____________________
1- أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وهو صحيح
(2/88)
وقال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين بثثت أحدهما ولو بثثت الآخر لقطع هذا الحلقوم وهذا يشكل فيقال كيف كتم العلم ولا أحسب هذا المكتوم إلا مثل قوله إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا (1) ومثل ذكر قتل عثمان وما سيظهر من الفتن
ومن التغفيل تكلم القصاص عند العوام الجهلة بما لا ينفعهم وإنما ينبغي أن يخاطب الإنسان على قدر فهمه ومخاطبة العوام صعبة فإن أحدهم ليرى رأيا يخالف فيه العلماء ولا ينتهي وقد رأينا أن امرأة قالت لولدها من غير زوجها هذا زوجي كافر قال وكيف قالت طلقني بكرة وضاجعني في الليل فقال أنا أقتله وما علم أن الرجعية زوجة وأنه قد أشهد على ارتجاعها من غير علمها أو أنه يعتقد أن الوطء رجعة ورأى رجل رجلا يأكل في رمضان فهم بقتله وما علم أنه مسافر فالويل للعلماء من مقاساة الجهلة
ثم روى بإسناده وهو ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما أنت بمحدث قوما حديثا لم تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة + أخرجه ابن عساكر في وهو ضعيف +
وكان ابن عباس يسر إلى قوم ولا يحدث قوما
وقال عمن وعظ العوام ليحذر الخوض في الأصول فإنهم لا يفهمون ذلك لكنه يوجب الفتن وربما كفروه مع كونهم جهلة
وينبغي أن يمدح جميع الصحابة رضي الله عنهم ولا يتعرض بتخطئة أحد منهم فقل أن يرجع ذو هوى عن عصبيته وإن كان عاميا فما يستفيد مكلم الناس بما قد
____________________
1- صحيح أخرجه أحمد وأخرجه أبو يعلى وأخرجه الحاكم
(2/89)
رسخ في قلوبهم غيره إلا البغض والوقيعة فيه فإن سأله ذو هوى تلطف في الأمر وأشار له إلى الصواب وذكرت مرة أن جماعة من العلويين خرجوا على الخلفاء فعاداني العلويون وقلت ما أسلم أبو طالب فزادت عدواتهم ولا ينبغي للواعظ أن يتعرض لغير الوعظ فإنه يعادى وما يتغير ذو عقيدة
واعلم أن أغراض العوام لا يقدر العلماء على تغييرها فقد رأينا من الوعاظ من كان معروفا بالتشيع ذكر ويوما أن علي بن أبي طالب يوما شرب الخمر حين كانت مباحة فهجروه وسبوه وسئل آخر هل يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة صلاة من يصلي عليه فقال ليس هذا بصحيح فضجوا بلعنته وقال آخر أول من أسلم من الصبيان علي فغضب قوم وقالوا كأنه لم يخلق مسلما
فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل وقد جرت فتن بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة سنين قتل فيها من الفريقين خلق كثير لا يدري القاتل لم قتل ولا المقتول وإنما كانت لهم أهواء مع الصحابة فاستباحوا بأهوائهم القتل فاحذر العوام كلهم والخلق جملة فقد قال الشاعر
( فسد الزمان فلا كريم يرتجى % منه النوال ولا مليح يعشق ) فصل في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام
قال أبو داود باب الهدي في الكلام حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثني محمد يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عمر بن عبد العزيز عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء (1) ابن إسحاق مدلس
ثم روى من حديث مسعر سمعت شيخا في المسجد سمعت جابر بن عبد الله يقول كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل + سنن أبي داود وفي سنده رجل مبهم +
____________________
1- في سنن أبي داود
(2/90)
ثم روى من حديث سفيان عن أسامة هو ابن زيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من يسمعه وقالت كان يحدثنا حديثا لو عده العاد لأحصاه وقالت إنه لم يكن يسرد الحديث كسردكم متفق عليه (1)
وللبخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم ثلاثا + أخرجه البخاري + فصل كراهة التشدق في الكلام
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل ببغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها + أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حسن كما قال الترمذي + إسناده جيد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه
قال في النهاية هو الذي يتشدق في الكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفا
وروى الترمذي عن أحمد بن منيع عن يزيد بن هارون عن أبي غسان محمد بن مطرف عن حسان بن عطية عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق + أخرجه الترمذي وأحمد وهو حسن كما قال الترمذي + كلهم ثقات
وفي أطراف الحافظ ابن عساكر حسان لم يسمع من أبي أمامة قال الترمذي حسن غريب وإنما جعل الحياء وهو غريزة من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي فصار كالإيمان الذي يقطع بينها وبينه وإنما جعله بعضه لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار ما أمر الله به وانتهاء عما نهى
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(2/91)
الله عنه فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان والعي قلة الكلام والبذاء الفحش في الكلام
وروى الترمذي ثنا أحمد بن الحسن بن خراش البغدادي حدثنا حسان بن هلال حدثنا مبارك بن فضالة حدثني عبد ربه بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون قال المتكبرون (1) مبارك ثقة تكلم فيه جماعة من جهة التدليس وقد زال قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه ورواه بعضهم عن مبارك عن محمد بن المنكدر عن جابر ولم يذكر عبد ربه وهذا أصح
قال في النهاية الثرثار الذي يكثر الكلام تكلفا وخروجا عن الحق والثرثرة كثرة الكلام وترديده والمتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز وقيل المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم قال والمتفيهق الذي يتوسع في الكلام ويفتح فاه به مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع يقال أفهقت الإناء ففهق يفهق فهقا
ثم روى أبو داود في هذا الباب وهو باب ما جاء في المتشدق في الكلام حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن الضحاك بن شرحبيل عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا + أخرجه أبو داود وسنده ضعيف + عبد الله بن المسيب تفرد عنه ابن وهب ووثقه ابن حبان
وصرف الحديث ما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه على قدر الحاجة وإنما كره لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد يقال فلان لا
____________________
1- أخرجه الترمذي وأحمد وهو حسن كما قال الترمذي
(2/92)
يحسن صرف الكلام أي فضل بعضه على بعض وهو من صرف الدراهم وتفاضلها ذكره في النهاية
والصرف التوبة وقيل النافلة والعدل الفدية وقيل الفريضة وتكررت هاتان اللفظتان في الحديث
وروى أيضا حدثنا سليمان بن عبد الحميد أنه قرأ في أصل إسماعيل بن عياش وحدث محمد بن إسماعيل ابنه قال حدثني أبي حدثني ضمضم عن شريح بن عبيد حدثنا أبو طيبة أن عمرو بن العاص قال يوما وقال رجل فأكثر القول فقال عمرو لو قصد في قوله لكان خيرا له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير (1) محمد بن إسماعيل ليس بذاك وضمضم مختلف فيه
وعن معاوية رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الكلام تشقيق الشعر رواه أحمد + أخرجه أحمد وسنده ضعيف +
وعن ابن عمر قال قدم رجلان من المشرق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال إن من البيان لسحرا أو إن من بعض البيان لسحرا رواه أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم + أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود وصححه ابن حبان +
وقال في النهاية أي منه ما يصرف قلوب السامعين وإن كان غير حق وقيل معناه إن من البيان ما يكتسب به من الإثم ما يكتسبه الساحر بسحره فيكون في معرض الذم ويجوز أن يكون في معرض المدح لأنه تستمال به القلوب ويترضى به الساخط ويستنزل به الصعب والسحر في كلامهم صرف الشيء عن وجهه وقال ابن عبد البر تأولته طائفة على الذم لأن السحر مذموم وذهب أكثر أهل
____________________
1- أخرجه أبو داود وهو ضعيف
(2/93)
العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله عز وجل مدح البيان وأضافه إلى القرآن قال وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله فقال هذا والله السحر الحلال قال علي بن العباس الرومي
( وحديثها السحر الحلال لو أنها % لم تجن قتل المسلم المتحرز )
وقال الحسن الرجال ثلاثة رجل بنفسه ورجل بلسانه ورجل بماله ونظر معاوية إلى ابن عباس فأتبعه بصره ثم قال متمثلا
( إذا قال لم يترك مقالا لقائل % مصيب ولم يثن اللسان على هجر )
( يصرف بالقول اللسان إذا انتحى % وينظر في أعطافه نظر الصقر )
ولحسان في ابن عباس رضي الله عنهما
( إذا قال لم يترك مقالا لقائل % بملتقطات لا ترى بينها فصلا )
( شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع % لذي إربة في القول جدا ولا هزلا )
قال أبو داود حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن محمد حدثنا أبو تميلة حدثني أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا وإن من الشعر حكما وإن من القول عيالا (1)
فقال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم
أما قوله إن من البيان سحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق
وأما قوله إن من العلم جهلا فتكلف العالم إلى علمه مالا يعلم فيجهله ذلك
وأما قوله من الشعر حكما فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس
وأما قوله من القول عيالا فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده
____________________
1- أخرجه أبو داود وأبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت مجهول
(2/94)
وقد نهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون (1) وقوله لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم + أخرجه بنحوه الدارمي موقوفا + قال وقد ضرب لذلك مثل أنه كتعليق اللآلئ في أعناق الخنازير ويأتي بنحو كراسة من حدث الناس بما لا تحتمله عقولهم أبو جعفر تفرد عنه أبو تميلة وأما صعصعة فثقة شهد صفين مع علي أميرا
وقال في النهاية في إن من العلم جهلا قيل هو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل ويدع ما يحتاجه في دينه من علم القرآن والسنة
قال والحكم العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم يحكم
وروى أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي بن كعب إن من الشعر حكمة + أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان + قال في النهاية وهي بمعنى الحكم ومنه الحديث الصمت حكم وقليل فاعله + أخرجه القضاعي وسنده ضعيف + وقال إن من القول عيالا يقال علت الضالة أعيل عيلا إذا لم تدر أي جهة تبغيها كأنه لم يهتد لمن يطلب كلامه فعرضه على من لا يريده
وللشافعي عن عروة مرسلا الشعر كلام فحسنه حسن وفبيحه فبيح + أخرجه من حديث عائشة مرفوعا أبو يعلى من طريق عبد الرحمن بن ثابت عن هشام عن عروة عن عائشة وعبد الرحمن فيه كلام وقد تابعه عليه عبد العظيم بن حبيب بن رغبان عند الدارقطني ولكنها متابعة لا يفرح بها فإن عبد العظيم هذا متروك وأخرجه مرقوفا من قول عائشة البخاري في الأدب المفرد وسنده حسن وحديث عبد الله بن عمرو رواه البخاري في الأدب المفرد والدارقطني وفي سنده أكثر من ضعيف وأخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا وإسناده ضعيف + وصله
____________________
1- علقه البخاري
(2/95)
الدارقطني بذكر عائشة رضي الله عنها ورواه أيضا من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي هريرة
ولأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أبي هريرة لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا (1)
ولأحمد ومسلم من حديث أبي سعيد بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا + أخرجه أحمد ومسلم +
ولأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار + أخرجه أحمد وسنده ضعيف +
وعن الشريد قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت قلت نعم فأنشدته بيتا فقال هيه فأنشدته بيتا فقال هيه فأنشدته بيتا قال هيه حتى أنشدته مئة بيت فقال لقد كاد أن يسلم في شعره + أخرجه مسلم وابن ماجه + رواه أحمد ومسلم وغيرهما
ولما دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يقول
( خلوا بني الكفار عن سبيله % اليوم نضربكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله % ويذهل الخليل عن خليله )
فقال عمر رضي الله عنه يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله عز وجل تقول الشعر قال خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل + أخرجه الترمذي والنسائي + رواه النسائي والترمذي وصححه من حديث أنس
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
(2/96)
قال وقد روي في غير هذا الحديث أنه دخل مكة في عمرة القضاء وبين يديه كعب بن مالك وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عمرة القضاء كانت بعد موته وقال له الأسود بن سريع إني قد حمدت ربي بمحامد مدح وإياك فقال أما إن ربك يحب المدح فهات ما امتدحت به ربك عز وجل فأنشدته فاستأذن رجل فاستنصتني له فتكلم ساعة ثم خرج فأنشدته ثم رجع فاستنصتني فقلت من هذا فقال هذا رجل لا يحب الباطل هذا عمر بن الخطاب (1) رواه أحمد حدثنا حسن بن موسى ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عنه علي بن زيد مختلف فيه وأكثرهم لينه وروى له مسلم واقتصر ابن الجوزي على ذكر من ضعفه عقب هذا الخبر
ورواه النسائي عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن عنه قال ابن معين وابن المديني لم يسمع الحسن من الأسود وعن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان يوم قريظة اهج المشركين فإن جبريل معك + أخرجه البخاري ومسلم + رواه أحمد والبخاري ومسلم وفي الصحيحين من حديث عائشة هجاهم حسان فشفى وأشفى
وروى أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل + أخرجه أحمد وهو صحيح + حديث صحيح
حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن محمد بن عبد الله المرادي عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال عمار لما هجانا المشركون شكونا ذلك إلى
____________________
1- أخرجه أحمد وسنده ضعيف
(2/97)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قولوا لهم كما يقولون لكم قال فلقد رأيتنا نعلمه إماء أهل المدينة (1) محمد لم أجد له ترجمة وباقيه حسن وسبق ما يتعلق بالوعظ أيضا في أوائل الأمر بالمعروف في الإنكار على الولاة
وعن أبي هريرة مرفوعا إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة وفي لفظ سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة والقصد القصد تبلغوا رواهما البخاري + أخرجه البخاري والنسائي وابن حبان +
الدين مرفوع على ما لم يسم فاعله وروي منصوبا ولن يشاد الدين أحد وقوله إلا غلبه أي غلبه الدين لكثر طرقه والغدوة أول النهار والروحة آخره والدلجة آخر الليل والمراد العمل وقت النشاط والفراغ كما أن المسافر يسير في هذه الأوقات لليسر
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هلك المتنطعون قالها ثلاثا رواه أحمد ومسلم + أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود + المتنطعون المبالغون في الأمور
وروى أبو داود في باب الحسد حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك في المدينة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم + أخرجه أبو داود + إسناد جيد
____________________
1- أخرجه أحمد وسنده ضعيف
(2/98)
وفي الصحيحين عن عائشة ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله زاد مسلم وما ضرب شيئا بيده ولا أمرأة ولا خادما إلا أن يكون يجاهد في سبيل الله (1)
وفي الصحيحين من حديث أنس يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا + أخرجه البخاري ومسلم +
ورى أحمد حدثنا أبو سلمة الخزاعي أنبأنا أبو هلال عن حميد بن هلال العدوي عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع رسول الله يقول إن خير دينكم أيسره + حديث صحيح أخرجه أحمد والبخاري والطيالسي +
وروى أيضا حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال قيل يا رسول الله أي الأديان أحب إلى الله قال الحنيفية السمحة + حديث صحيح أخرجه أحمد + وذكره في المختارة من طريقه ابن إسحاق مدلس
وعن أبي هريرة مرفوعا مثل الذي يجلس ليسمع الحكمة ثم لا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما يسمع كمثل رجل أتى راعيا فقال يا راعي اختر لي شاة من غنمك قال اذهب فخذ بأذن خيرها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم رواه ابن ماجه + أخرجه ابن ماجه وضعفه البوصيري +
عن وسهل بن سعد مرفوعا اللهم لا يدركني زمان ولا تدركوا زمانا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيى فيه من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب + أخرجه أحمد وسنده ضعيف +
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(2/99)
وعن أبي هريرة مرفوعا إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما كتب له من أمنيته (1) رواهما الإمام أحمد فصل في قراءة التوراة والإنجيل والزبور ونحو ذلك كما يفعله بعض القصاص
سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن هذه المسألة في رواية إسحاق بن إبراهيم فغضب فقال هذه مسألة مسلم وغضب وظاهره الإنكار وذكره القاضي ثم احتج بأنه صلى الله عليه الصلاة والسلام لما رأى في يد عمر قطعة من التوراة غضب وقال ألم آت بها بيضاء نقية + حديث حسن أخرجه أحمد وابن أبي عاصم + الحديث وهو مشهور رواه أحمد وغيره وهو من رواية مجالد وجابر الجعفي وهما ضعيفان ولأنها كتب مبدلة مغيرة فلم تجز قراءتها والعمل عليها قال وهذه مسألة جرت بين شيوخنا العكبريين فكان ابن هرمز والد القاضي أبي الحسين يقص بهذه الكتب وكانت معربة فأنكر عليه أبو عبد الله بن بطة ذلك وصنف فيه جزءا ذكر فيه ما حكينا من رواية إسحاق وذكر فيه أيضا عن أحمد رواية أبي يحيى الناقد قال سمعت أحمد يقول الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم وذكر حديث عمر
وذكر أيضا بإسناده أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجد دمشق فإذا كعب يقص فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قص بغير كتاب الله وسنة نبيه فاضربوا رأسه + أخرجه أحمد وفي سنده مجهول + فما رئي كعب في ذلك المجلس بعد
____________________
1- أخرجه أحمد وسنده حسن
(2/100)
وبإسناده أن رجلا أهدى إلى عائشة رضي الله عنها هدية فقالت لا حاجة لي في هديته بلغني أنه يتتبع الكتب الأول والله تعالى يقول ( ^ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) العنكبوت 51
ذكره القاضي في الجزء الثاني من الجامع عند الكلام على القراءة والمصحف وسبق أول الكتاب في بيان الكذب قوله صلى الله عليه السلام حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وكلام أحمد رضي الله عنه فصل في التخول بالموعظة خشية الملل
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يذكر كل يوم خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم فقال ما يمنعني أن احدثكم إلا كراهية أن أملكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا (1)
وذكر البيهقي وغيره عن ابن مسعود قال حدث الناس ما أقبلت عليك قلوبهم إذا حدقوك بأبصارهم وإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم وذلك إذا اتكأ بعضهم على بعض
وقال عكرمة عن ابن عباس حدث الناس كل جمعة مرة فإن أكثرت فمرتين فإن أكثرت فثلاثا ولا تمل الناس من هذا القرآن ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه وإياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلونه رواه البخاري + صحيح البخاري +
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/101)
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول وهو على المنبر أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده فقيل كيف ذاك أصلحك الله قال يجلس أحدكم قاصا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه ويقوم أحدكم إماما فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه
وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير إياك وإملال الناس وتقنيطهم
وكان الزهري إذا سئل عن الحديث يقول أحمضوا اخلطوا الحديث بغيره حتى تنفتح النفس
وقال الزهري نقل الصخر أيسر من تكرير الحديث
قال ابن عبد البر كان يقال ستة إذا أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها وطالب الفضل من اللئام والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه والمستخف بالسلطان والجالس مجلسا ليس له بأهل والمقبل حديثه على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه قال ابن عبد البر في بهجة المجالس كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أريحوا القلوب فإن القلب إذا كره عمي
وقال أيضا إن للقلوب شهوة وإقبالا وفترة وإدبارا فخذوها عند شهوتها وإقبالها وذروها عند فترتها وإدبارها
وفي صحف إبراهيم عليه السلام وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون له على سائر الساعات
وقال عمر بن عبد العزيز تحدثوا بكتاب الله وتجالسوا وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسن جميل
وقال أيضا لابنه عبد الملك يا بني إن نفسي مطيتي وإن حملت عليها فوق
____________________
(2/102)
الجهد قطعتها
وقال بعض الحكماء حادثوا هذه القلوب بالذكر فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قالوا فما جلاؤها يا رسول الله قال تلاوة القرآن (1) وكان يقال التفكر نور والغفلة ظلمة
وفي البخاري من حديث أبي جحيفة قول سلمان لأبي الدرداء إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه وقول النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان + أخرجه البخاري +
وروى الحاكم في تاريخه بإسناد عن سنيد قال لا تنسى شيئا فتقول ( ^ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) البقرة 32
إلا ذكرته وكان مالك بن أنس إذا جلس مجلسه لا ينطق بشيء حتى يقولها
وروي أيضا عن الأعمش جواب الأحمق السكوت عنه وقال الأعمش السكوت جواب والتغافل يطفئ شرا كثيرا ورضى المتجني غاية لا تدرك واستعطاف المحب عون للظفر ومن غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه فصل في حكم اجتماع الناس للذكر والدعاء ورفع الصوت به ومتى يكون بدعة
قال مهنا سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم فيدعو هذا ويدعو هذا ويقولون له أدع أنت فقال لا أدري ما هذا
وقال ابن منصور لأبي عبد الله يكره أن يجتمع القوم يدعون ويرفعون أيديهم فقال ما أكرهه للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا
____________________
1- أخرجه البيهقي وسنده ضعيف
(2/103)
قال ابن منصور قال إسحاق ابن راهويه كما قال وإنما معنى إلا أن يكثروا إلا أن يتخذوها عادة حتى يكثروا
وقال أبو العباس الفضل بن مهران سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت إن عندنا قوما يجتمعون فيدعون ويقرؤون القرآن ويذكرون الله تعالى فما ترى فيهم قال فأما يحيى بن معين فقال يقرأ في المصحف ويدعو بعد صلاة ويذكر الله في نفسه قلت فأخ لي يفعل هذا قال انهه قلت لا يقبل قال عظه قلت لا يقبل أهجره قال نعم ثم أتيت أحمد وحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضا يقرأ في المصحف ويذكر الله تعالى في نفسه ويطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت فأنهاه قال نعم قلت فإن لم يقبل قال بلى إن شاء الله تعالى فإن هذا محدث الاجتماع والذي تصف قلت فإن لم يفعل أهجره فتبسم وسكت
وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز كان حسن الصوت بالقرآن قال فخرج يوما وقرأ وجهر بصوته فاجتمع الناس له فقال له سعيد بن المسيب فتنت الناس قال فدخل
وسأله المروذي عن القوم يجتمعون فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا قال أرجو أن لا يكون به بأس
وقال المروذي قال لي أبو عبد الله كنت أصلي فرأيت إلى جنبي رجلا عليه كساء ومعه نفسان يدعون فدنوت فدعوت معهم فلما قمت رأيت جماعة يدعون فأردت أن أعدل إليهم ولولا مخافة الشهرة لقعدت معهم
____________________
(2/104)
وروى الخلال عنه أنه قال وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس فيصلوا ويذكروا ما أنعم الله عليهم كما قالت الأنصار
وقال في رواية عبد الله حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا وذكر الحديث وفيه أنهم اجتمعوا يوم الجمعة في بيت أسعد بن زرارة وذبحت لهم شاة وكفتهم
قال الشيخ تقي الدين فقيد أحمد الاجتماع على الدعاء إذا لم يتخذ عادة
وعن ابن مسعود أنه لما اتخذ أصحابه مكانا يجتمعون فيه للذكر فخرج إليهم فقال يا قوم لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو لأنتم على شعبة ضلالة
ومذهب الشافعي والجمهور أنه يستحب الاجتماع لتلاوة القرآن للخبر المشهور وقال مالك يكره وتأوله بعض أصحابه وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قرئ عليه القرآن يسقط إلى الأرض حتى يكاد يذهب عقله وكان عبد الرحمن بن مهدي يبكي وينكر سقوط يحيى
قال أحمد في رواية المروذي لو قدر أن يدفع هذا أحد لدفعه يحيى ويأتي في آداب القراءة قبل فصول الطب وقال عبد الله ما رأيت أبي يبكي قط إلا في حديث توبة كعب فصل في صفة المحدث الذي يؤخذ عنه
قال المروذي قال أبو عبد الله لا ينبغي للرجل إذا لم يعرف الحديث أن يحدث به ثم قال صار يحدث به من لا يعرفه واسترجع
وقال مالك لا يؤخذ العلم من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث
وقال الأثرم قال لي أبو عبد الله الحديث شديد سبحان الله ما أشده أو كما قال ثم قال يحتاج إلى ضبط وذهن وكلام يشبه هذا ثم قال ولا سيما إذا أراد
____________________
(2/105)
أن يخرج منه إلى غيره قال إذا حدث ثم قال هو ما لم يحدث مستور فإذا حدث خرج منه إلى غيره بدا ما كان فيه وكلام نحو هذا
وعن جعفر بن برقان قال كتب إلينا عمر بن عبد العزيز وقال في كتابه ومر أهل الفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم والسلام
وقال أحمد لابنه عبد الله أفد أصحاب الحديث وأكرمهم فإن إبراهيم بن بكر بن عياش لم يكن يفيد أصحاب الحديث ويجفوهم فلم يفلح
ومشهور عن أنس أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول سلوا مولانا الحسن فإنه حضر وغبنا وحفظ ونسينا
وقال الصاحب أبو القاسم بن عباد ما عبر الإنسان عن فضل نفسه بمثل ميله إلى الفضل وأهله وكان أبو الحسن عمر بن محمد النوقاتي بنون مفتوحة وقاف بعدها ألف ثم بتاء باثنتين من فوق نسبة إلى نوقات موضع بسجستان ويشتبه بالنوقاني بنون بعد الألف بلدة من مدن طوس كان حاضرا فنظم المعنى وقال
( وما عبر الإنسان عن فضل نفسه % بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل )
( وإن أخس النقص أن يتقي الفتى % قذى النقص عنه بانتقاص الأفاضل )
وهذا لما سعى بعض الناس إلى أبي القاسم بن عباد وقال عن الحافظ أبي عبد الله بن منده إنه جمع كتابا في التشبيه فاستدعاه وبحث عنه فأنصف وكان ابن عباد معتزليا وقال كيف ينقم على رجل ما أودع كتابه إلا آية محكمة أو أخبارا صحيحة ودخل ابن منده على ابن عباد فقام له وأكرمه فلما خرج قيل له قمت لرجل من معاندينا لا يحسن شيئا إنما يعرف جماعة من محمد وأحمد قال ابن عباد أليس يعرف جماعة من محمد وأحمد لا أعرفهم فله علي بذلك مزية
وقد قال الصاحب بن عباد من لم يكتب الحديث لم يعرف حلاوة الإسلام ولما أراد أن يملي ويروي الحديث امتنع من حضور الديوان وأظهر التنسك والتورع فلما شاع ذلك عنه أحضر الفقهاء واستفتاهم بالكتابة عن مثله فأفتوا
____________________
(2/106)
بجوازها فأفتى مجالس ذكر ذلك الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتاب تاريخ المادح والممدوح
ولما حج يحيى بن عمار السجزي ونزل بظاهر الري فأرسل إليه الصاحب بن عباد ضيافة فأبى أن يقبلها فقال وددت أني ضربت بكل سوط ضرب به أحمد بن حنبل عشرة أسواط واسترحت من عداوة هؤلاء القوم
وروى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك قال من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما أن يموت فيذهب علمه وإما أن ينسى حديثه وإما أن يبتلى بالسلطان وقال ابن المبارك الحبر خلوق العلماء فصل في إنصاف طلاب العلم ومن كان يحابي في التحديث
قال مهنا سمعت أبا عبد الله يقول كان إسماعيل بن علية يضع في الحديث ما لا يحل له في الشفاعات ونحن على الباب نتضور وقال في رواية الفضل بن زياد كان لا ينصفهم في الحديث يعني إسماعيل قلت كيف كان لا ينصف قال كان يحدث بالشفاعات قلت فإن كان رجل له إخوان يخصهم بالحديث لا ترى ذلك قال ما أحسن الإنصاف ما أرى يسلم أهل الحديث من هذا قلت وإن كان رجل يقرئ رجلا مئتي آية ويقرئ آخر مئة آية ما تقول فيه فقال ينبغي أن ينصف بين الناس وقلت له إنه يأخذ على هذا مئتي آية لأنه يرجو أن يكون عاملا به ويأخذ على هذا أقل لأنه لا يبلغ هذا في العمل ما ترى فيه قال ما أحسن الإنصاف في كل شيء وقال في رواية المروذي عيسى كان منتصبا للناس وحفص كان يحدث بالشفاعة
وروى الخلال أخبرني العباس بن محمد الدوري ثنا أبو سليمان الأشقر قال كنا عند حماد بن زيد بالبصرة فجعل يقبل على أهل البصرة ويحدثهم فقلنا تقبل على هؤلاء وتدعنا قال أهل بلدي أحق بالحديث منكم وسمعت العباس بن محمد الدوري يقول ربما كنا عند أحمد بن حنبل أيام الحج فيجيئه أقوام من الحجاج فيقبل عليهم ويحدثهم فربما قلنا له في ذلك فيقول هؤلاء قوم غرباء
____________________
(2/107)
وإلى أيام يخرجون
وعن سفيان الثوري أنه جاء إلى يونس فأخذ يسأله ويملي عليه ومعه ألواح فلما قام قالوا نسألك فلا تحدثنا وتحدث سفيان قال سفيان غريب وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال لن تزالوا بخير ما دام العالم يعدل بينكم بعلمه لا يحيف وعن أبي العالية في قوله تعالى ( ^ ولا تصعر خدك للناس ) لقمان 18 قال يكون الغني والفقير عندك في العلم سواء
وقال ابن عون كلموا محمدا في رجل يحدثه فقال لو كان رجل من الزنج لكان عندي وعبد الله بن محمد في هذا سواء
وقال جعفر بن محمد من أنصف الناس من نفسه قضى به حكما لغيره قال الشاعر
( إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته % على طرف الهجران إن كان يعقل )
وقالوا ثلاثة من حقائق الإيمان الاقتصاد في الإنفاق والابتداء بالسلام والإنصاف من نفسك
وقال مالك بن دينار وليس في الناس شيء أقل من الإنصاف
وقال جعفر بن سعد ما أقل الإنصاف وما أكثر الخلاف والخلاف موكل بكل شيء حتى القذاة في رأس الكوز فإذا أردت أن تشرب الماء حارت إلى فيك وإذا أردت أن تصب من رأس الكوز لتخرج رجعت قال الشاعر
( آخ الكرام المنصفين وصلهم % واقطع مودة كل من لا ينصف )
وقال أبو العتاهية
( إذا ما لم يكن لك حسن فهم % أسأت إجابة وأسأت سمعا )
وعن أبي عوانة أنه حدث قوما ومنع آخرين وأسمع هشيم رجلا بشفاعة أحمد وعن أبي عاصم أنه كان إذا جاءه إنسان من قبل السلطان أو شفاعة حدثه مع أصحاب
____________________
(2/108)
الحديث ولم يحدثه دونهم ولم يخصه فصل
جاء رجلان إلى أحمد فقال لو جئتكم إلى المنزل وحدثتكم لكنتم أهلا لذلك وقال عروة ائتوني فتلقوا مني وصح عنه أيضا أنه كان يتألف الناس على حديثه وقال في رواية حبيش جاء زهير إلى ابن أبي زائدة برجل فقال حدثه قال حتى أسأل عنه فقال له زهير متى عهدت الناس يفعلون هذا فقال له ابن أين زائدة ومتى عهدت الناس يسبون أبا بكر وعمر
وقال أيوب سأل رجل سعيد بن جبير عن حديث فمنعه فقال له الرجل تؤجر فقال له ليس كل الأجر نقوى عليه وكذا روي عن أحمد
وعن أحمد قال فيما روي عن أيوب قال لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون أو لا يعرفون فتضروهم
وصح عن مسروق قال لا تنشر بزك إلا عند من يبغيه رواه أحمد في رواية عبد الله وقال يعني الحديث
وقال شعبة أتاني الأعمش وأنا أحدث قوما فقال ويحك تعلق اللؤلؤ في أعناق الخنازير وقال مهنا لأحمد ما معنى قوله فقال معنى قوله لا ينبغي أن يحدث من لا يستأهل
وقال عبد الله حدثني أبي قال قال سفيان قال عيسى عليه السلام للحكمة أهل فإن وضعتها في غير أهلها ضيعت وإن منعتها من أهلها ضيعت كن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي
وقال عبد الملك بن عمير كان يقال إضاعة الحديث أن يحدث به من ليس بأهل وعن دغفل قال آفة العلم أن تخزنه ولا تحدث به ولا تنشره وقال إبراهيم النخعي حدث حديثك من تشتهيه ومن لا تشتهيه فإنك تحفظه حتى كأنه أمامك تقرؤه روى ذلك الخلال
____________________
(2/109)
وقال عبد الرزاق عن معمر عن رجل هو عمرو بن عبد الله عن عكرمة قال قال عيسى عليه السلام لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا ولا تعط الحكمة من لا يريدها فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير
وقال مالك ذل للعلم وإهانة للعلم أن يتكلم به عند من لا يطيقه وقال كثير ابن مرة الحضرمي لا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك ولا تمنع العلم أهله فتأثم ولا تحدث به غير أهله فتجهل إن عليك في علمك حقا كما أن عليك في مالك حقا ذكره البيهقي وغيره
وروى الخلال في الأخلاق أن إبراهيم بن شماس قال كنا بعبادان فجرى تشاجر بين طلبة الحديث فلم يحدثهم يعني وكيع بن الجراح سبعة أيام فقال إنما أردت أؤدبهم ثم حدثهم
وفي الصحيحين قول ابن عباس لعمر رضي الله عنهما إن الموسم يجمع الرعاع والغوغاء فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه فقدمنا المدينة وذلك أن عمر قبل مشورة ابن عباس فلم يتكلم بذلك حتى قدم المدينة (1)
قال ابن الجوزي في هذا تنبيه على أن لا يودع العلم عند غير أهله ولا يحدث القليل الفهم ما لا يحتمله فهمه قال والرعاع والسفلة والغوغاء نحو ذلك وأصل الغوغاء صغار الجراد قال ابن عقيل قوله تعالى ( ^ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران 159 ذلك مع المعجز صلى الله عليه وسلم شهد الحق له لولا تخلقه الخلق الجميل لانفضوا عنك ولم يقنع بالمعجز في تحصيلهم لا تقنع أنت بالعلوم وتظن أنها كافية في حوش الناس إلى الدين بل حسن ذلك وحله بالأخلاق الجميلة
____________________
1- صحيح البخاري ومسند أحمد
(2/110)
فصل في أخذ العلم عن أهله وإن كانوا صغار السن
قال الإمام أحمد بلغني عن ابن عيينة قال الغلام أستاذ إذا كان ثقة وقال علي ابن المديني لأن أسأل أحمد بن حنبل عن مسألة فيفتيني أحب إلي من أن أسأل أبا عاصم وابن داود إن العلم ليس بالسن
وروى الخلال من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال قال عمر رضي الله عنه إن العلم ليس عن حداثة السن ولا قدمه ولكن الله تعالى يضعه حيث يشاء وقال وكيع لا يكون الرجل عالما حتى يسمع ممن هو أسن منه ومن هو مثله ومن هو دونه في السن هذه طريقة الإمام أحمد علي ما ذكره البيهقي في مناقبه وغيره
وفي فنون ابن عقيل وجدت في تعاليق محقق أن سبعة من العلماء مات كل واحد منهم وله ست وثلاثون سنة فعجبت من قصور أعمارهم مع بلوغهم الغاية فيما كانوا فيه فمنهم الإسكندر ذو القرنين وقد ملك ما ذكره الله وأبو مسلم الخراساني صاحب الدولة العباسية وابن المقفع صاحب الخطابة والفصاحة وسيبويه صاحب التصانيف والتقدم في العربية وأبو تمام الطائي في علم الشعر وإبراهيم النظام في علم الكلام وابن الراوندي في المخازي وله كتاب الدافع مما غر به أهل الخلاعة وله الجدل انتهى كلامه
وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا وكان وقافا عند كتاب الله رواه البخاري وغيره
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف (1)
قال ابن الجوزي في كشف المشكل فيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن
____________________
1- صحيح البخاري
(2/111)
صغرت أسنانهم أو قلت أقدارهم وقد كان حكيم بن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له تقرأ على هذا الغلام الخزرجي فقال إنما أهلكنا التكبر فصل
قال ابن عقيل في الفنون من أكبر ما يفوت الفوائد ترك التلمح للمعاني الصادرة عمن ليس بمحل للحكمة أترى يمنعني من أخذ اللؤلؤة وجداني لها في مزبلة كلا سمعت كلمة بقيت من قلقها مدة وهي أن امرأة كانت تقول على شغلها وتترنم بها كم كنت بالله أقول لك إن للتواني غائلة وللقبيح خميرة تبين بعد قليل فما أوقعها من تخجيل على إهمالنا الأمور غدا تبين خمائرها بين يدي الله سبحانه وتعالى
وروى الترمذي وابن ماجه والإسناد ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها (1) فصل خير الناس من شهد له بالخير أهله وجيرانه
قال الفضل سمعت أبا عبد الله وسئل عن أحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي فقال هذا يسأل عنه جيرانه فإذا أثنوا عليه قبل منهم
وروى الخلال من حديث إسماعيل عن أيوب عن أبي قلابة قال خير الناس خيرهم في أهله وخيرهم في جيرانه قال هم أعلم به
وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت + أخرجه ابن ماجه وأحمد والبيهقي وصححه ابن حبان + إسناد جيد
____________________
1- أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
(2/112)
ورواه أيضا من حديث جامع بن شداد عن كلثوم الخزاعي
وروى أحمد الحديث الأول ولفظه إذا سمعتم ولم يقل جيرانك
وقد سبق ما يتعلق بهذا بنحو كراسين وقال سفيان الثوري إذا رأيت الرجل محببا إلى جيرانه فاعلم أنه مداهن فصل فيمن يتلقى العلم ممن ينتفع منه بغير العلم
قال أبو داود سمعت أبا عبد الله قيل له الرجل يكتب عن الرجل لكي يقضي له حاجة فقال إذا كان عنده ثقة يكتب عنه قلت ليس هو عنده في موضع يكتب عنه يقول اكتب ثم ارم به فكره ذلك قلت أتخاف أن تكون ممن يأكل بالعلم فقال أخاف
وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله قيل له الرجل لا يكون ثقة في الحديث فتعرض للرجل الحاجة أيكتب عنه لمكان حاجته فقال إن كان ثقة يكتب عنه وإن لم يك ثقة فلا يكتب عنه
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني (1)
قال ابن هبيرة فيه دليل على جواز محادثة الرجل بشيء من الذكر والقرآن لقصد يقصده الإنسان يستجلب به نفعا له أو يدفع به ضرورة قال ولم ينكره على أبي هريرة منكر
وقيل لأبي زرعة كتبت عن يحيى بن أكثم فقال ما أطمعته في هذا قط ولقد كان شديد الإيجاب لي لقد مرضت مرضة ببغداد فما أحسن أصف ما كان يوليني من التعاهد والافتقاد
وحدث ذات يوم عن الحارث بن مرة الحنفي بحديث الأشربة فقال يعيش
____________________
1- أخرجه البخاري
(2/113)
وصحف فيه فقلت له نفيس فقال نفيس من أسامي العبيد وخجل فقلت له حدثنا أحمد بن حنبل والقواريري قالا حدثنا الحارث بن مرة فرجع لما ورد عليه أحمد والقواريري قال أبو زرعة جبلان فصل في محو كتب الحديث أو دفنها إذا كانت لا ينتفع بها
قال بكر عن أبيه عن أبي عبد الله سمعه وسئل عن رجل أوصى إليه رجل أن يدفن كتبه قال ما أدري ما هذا وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله دفن دفاتر الحديث قال أرجو أن لا يكون به بأس وقال في رواية أبي طالب وقد سأله عن محو كتب الحديث فقال سبحان الله تمحى السنة والعلم قلت ما تقول قال لا
وقال أبو طالب سألت أبا عبد الله ما ترى في دفن العلم إذا كان الرجل يخاف أن ليس له خلف يقوم به ويخاف عليه الضيعة قال لا يدفن ولعل ولده ينتفع به عبيدة أوصى أن تدفن والثوري لم يكن له ولد ولعل غير ولده ينتفع به قلت يباع قال لا يباع العلم ولكن يدعه لولده ينتفع به أو غير ولده ينتفع به وقال في رواية المروذي وسأله عمن أوصى أن تدفن كتبه قال ما يعجبني دفن العلم
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن رجل أمر بدفن كتبه وله أولاد فأطرق مليا ثم قال لعله ينتفع بها ثم قال إن كان فيها منفعة عرضت فما أعطي بها من شيء حسبت من ثلثه
وحمل أحمد بن أبي الحواري كتبه إلى البحر ففرقها وقال لم أفعل هذا تهاونا بك ولا استخفافا بحقك ولكن كنت أطلب أن أهتدي بك إلى ربي فلما اهتديت بك استغنيت عنك
وقال صالح سألت أبا عبد الله عن رجل أوصاه أبوه إذا هو مات أن يدفن كتبه
____________________
(2/114)
قال الابن بعد موت أبيه ما أشتهي أن أدفنها قال إني أرجو إذا كانت مما ينتفع بالنظر فيها ورثته رجوت إن شاء الله تعالى
وسأله المروذي عمن أوصى أن تدفن كتبه وله أولاد قال فيهم من أدرك قلت نعم قال وعمن كتب هذه الكتب قلت عن قوم صالحين قال أحب العافية منها أكره أن أتكلم فيها واستعفى من أن يجيب من أن تترك أو تدفن
قال الخلال والذي أذهب إليه من قوله في هذا أنه إن كانت صحفا أو حديثا أنها لا تباع ولا تمحى ولا تحسب من الثلث لأني لا أعرف لحسابه من الثلث معنى لعله قد أوصى بثلثه في أبواب البر وقد توقف عنه أبو عبد الله والأحوط في هذا أن تدفن فهو أشبه في هذا الزمان فصل في كتابة الحديث والعلم والأحاديث المتعارضة فيها
روى الخلال أخبرنا أبو العباس الدوري سمعت يحيى يقول قال يحيى بن سعيد القطان ما رأيت مثل سفيان الثوري كنت إذا سألته عن الحديث لم يكن عنده اشتد عليه وكان مسعر لا يبالي أن لا يكون عنده وقال رجل لأحمد أريد أعرف الحديث قال إن أردت أن تعرف الحديث فأكثر من الكتابة
وقد دل هذا النص وغيره على كتابة الحديث بل وكتابة العلم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة اكتبوا لأبي شاه وفيهما أيضا قول علي رضي الله عنه وما في هذه الصحيفة (1)
وفي البخاري عن أبي هريرة لم يكن أحد أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب وفي رواية استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأذن
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(2/115)
له (1)
وفي السنن أن عبد الله بن عمرو قال يا رسول الله أكتب عنك في الغضب والرضا فقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق + أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح + وأشار بيده إلى فيه صلى الله عليه وسلم
وعن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم قيدوا العلم بالكتاب
وقال حنبل حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عبد الله بن المؤمل عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيدوا العلم قلت وما تقييده قال الكتاب + أخرجه الحاكم والخطيب وفي سنده عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف وفي الباب عن أنس عند الخطيب في تقييد العلم وأخرجه الدارمي موقوفا على عمر رضي الله عنه + ابن المؤمل ضعيف
وللنسائي عن عمرو بن عثمان عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج أخبرني عطاء عن عبد الله بن عمرو قال يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث فتأذن لنا أن نكتبها قال نعم + وأخرجه أحمد والحاكم وسنده حسن وله إسناد آخر سلف عند المصنف قريبا وهو صحيح + وذكر الحديث قال النسائي منكر وهو عندي خطأ
وسمع أنس وكتب من النبي صلى الله عليه وسلم وعرضها عليه
وأملى واثلة بن الأسقع على الناس الأحاديث وهم يكتبون بين يديه
وقال أبو المليح يعيبون علينا الكتاب والله يقول ( ^ قال علمها عند ربي في كتاب ) طه 52
وكان ابن عمر لا يخرج من بيته غدوة حتى ينظر في كتبه وقال بشير بن نهيك
____________________
1- أخرجه البخاري
(2/116)
كتبت عن أبي هريرة ما كنت أسمعه منه ثم أتيته به فقلت هذا سمعته منك قال نعم
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه أمر بنيه وبني أخيه بكتابة العلم حتى يرووه أو يضعوه في بيوتهم
وكتب ابن عباس كثيرا وكتب الناس عن زيد بن ثابت وجابر والبراء وغيرهم من الصحابة وخلق من التابعين لا يحصون
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع له السنن والآثار فإني خشيت ذهاب العلم
وروى مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا من كتب عني سوى القرآن فليمحه (1)
وروى البيهقي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف احفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم قال البيهقي فدل ذلك على أن النهي إنما كان خشية أن يختلط بكتاب الله شيء ثم روى من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستشار الصحابة رضي الله عنهم فأشاروا عليه بذلك ثم استخار الله شهرا ثم قال إني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله عز وجل وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا
وعن ابن مسعود أنه كره كتابة العلم وكذا روي عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري والزهري وغير واحد أنهم كرهوا ذلك وقال أبو هريرة لا نكتب ولا نكتم وقال ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان ينهى عن كتابة العلم وقال إنما أضل من كان قبلكم الكتب قال البيهقي وإنما ذلك للمعنى الذي أشرنا إليه أو نحوه وقال أيضا لعله صلى الله عليه وسلم أذن في الكتابة لمن خشي
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/117)
عليه النسيان ونهى عن الكتابة لمن وثق بحفظه أو نهى عن الكتابة حين خاف الاختلاط وأذن في الكتابة حين أمن منه فقال الأوزاعي كان هذا العلم كريما يتلافاه الرجال بينهم فلما دخل في الكتب دخل فيه من ليس من أهله
وقال أبو كريب كان عيسى عليه السلام لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي
قال في شرح مسلم أجمعت الأمة على استحباب كتابة العلم بعد ذلك وأجابوا عن أحاديث النهي بخوف اختلاط القرآن بغيره قبل اشتهاره فلما اشتهر وأمن ذلك جاز
والجواب الثاني أنه نهي تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة
وقال الثوري معرفة معاني الحديث وتفسيره أشد من حفظه وقال وكيع قال إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وكان ثقة كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به
وسأل مهنا أحمد ما الحفظ قال الإتقان هو الحفظ
وقال عبد الرحمن بن مهدي الحفظ الإتقان ولا يكون إماما في العلم من يحدث بكل ما سمع ولا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ من العلم
وقال المروذي إن أبا عبد الله قال ما أنفع مجالس أصحاب الحديث قلت كيف مجالستهم وهم يغتابون قال ما أنفع مجالستهم يعرف الرجل الحديث بهم
وروى الخلال عن ابن سيرين قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حلقا يتذاكرون الحديث ويتراجزون الشعر
وروى أحمد عن عبد الله هو ابن مسعود قال تذاكروا الحديث فإن حياته المذاكرة
وعن علقمة قال أطيلوا ذكر الحديث لا يدرس
____________________
(2/118)
وعن وهب بن منبه قال مجلس يتنازع فيه العلم أحب إلي من قدره صلاة روى ذلك الخلال
وذكر البيهقي في كتاب المدخل من حديث شعبة عن علي بن الحكم عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا كان حديثهم يعني الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا أحدهم أن يقرأ سورة
وعن علي رضي الله عنه قال تذاكروا الحديث فإنكم إن لم تفعلوا ذلك اندرس العلم
وقال أبو سعيد تذاكروا الحديث فإن الحديث يهيج الحديث
وقال عمر المهاجري عن ابن عباس إن له لسانا سؤولا وقلبا عقولا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه وروى أحمد عن جرير عن مغيرة قال قال رجل لابن عباس بم أصبت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
وقال ابن وهب عن يونس قال الزهري العلم خزائن وتفتحها المسألة
وروي عن الزهري أنه كان يرجع إلى منزله وقد سمع حديثا كثيرا فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره كما سمعه ويقول لها إنما أردت أن أحفظه وكان غيره يعيده على صبيان المكتب ليحفظه
وقال الأوزاعي عن الزهري آفة العلم النسيان وقلة المذاكرة
وعن محمد بن كعب مرسلا ما تجالس قوم فلم ينصت بعضهم لبعض إلا نزع الله من ذلك المجلس البركة
وعن ابن مسعود أنه كان إذا قعد يقول إنكم في ممر الليل والنهار إلى آجال منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة فمن زرع خيرا يوشك أن يحصد رغبة ومن زرع شرا يوشك أن يحصد ندامة ولكل زارع ما زرع لا يفوت بطيء حظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له فمن أعطي خيرا فالله أعطاه ومن وقي شرا
____________________
(2/119)
فالله وقاه المتقون سادة والفقهاء قادة مجالستهم زيادة قال البيهقي وروي عن الحارث عن علي مرفوعا وهو ضعيف
وقال علي بن المديني حدثنا جندب بن عبد الرحمن الرواسي حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة قال جالسوا الكبراء وسائلوا العلماء وخالطوا الحكماء قال البيهقي روي مرفوعا وهو ضعيف
وقال لقمان يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الأرض بوابل المطر قال البيهقي وروي مرفوعا وهو ضعيف
وعن أنس مرفوعا منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا (1) رواه الترمذي قال البيهقي وروي عن كعب من قوله
وروى الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي أخبرنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الغفار بن أبي الطيب المؤدب حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج حدثنا جدي قال سألت أحمد بن حنبل قلت يا أبا عبد الله أيما أحب إليك الرجل يكتب الحديث أو يصوم ويصلي قال يكتب الحديث قلت فمن أين فضلت كتابة الحديث على الصوم والصلاة قال لأنه يقول إني رأيت قوما على شيء فاتبعتهم
____________________
1- رواه ابن أبي خيثمة وسنده ضعيف وأخرجه الدارمي وسنده ضعيف أيضا
(2/120)
فصل في فضل الجمع بين الحديث وفقهه وكراهة طلب الغريب والضعيف منه
قال أحمد بن الحسن الترمذي سمعت أبا عبد الله يقول إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إلي من حفظ الحديث لا يكون معه فقه
وقال الأثرم سأل رجل أبا عبد الله عن حديث فقال أبو عبد الله الله المستعان تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب ما أقل الفقه فيهم
وقال الحسن بن محمد سمعت أحمد بن حنبل سئل عن أحاديث غرائب فقال شيء غريب أي شيء يرجى به قال يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه ما ينفعه وقال في رواية أبي داود يطلبون حديثا من ثلاثين وجها أحاديث ضعيفة قال شيء لا ينتفعون به ونحو هذا الكلام
وقال أيضا شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها
وقال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون غريب الحديث ذكره الخلال
وروى أحمد عن الربيع بن خثيم قال إن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل تنكره وإن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار تعرفه
وقال علي بن الحسين زين العابدين العلم ما تواطأت عليه الألسن
وقال مالك شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رآه الناس وقال أبو يوسف القاضي من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غريب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس وعن مالك مثله
وقال ابن المبارك لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه
وقال ابن مهدي لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة الحديث الضعيف فأقل ما في ذلك أن يفوته من الصحيح بقدره
____________________
(2/121)
وقال ابن الجوزي قال أحمد بن حنبل الاشتغال بالأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فرض علينا طلبه
وقال مالك ما أكثر أحد من الحديث فأنجح
قال ابن الجوزي وإنما الإشارة إلى ما ذكرت من التشاغل بكثرة الطرق والغرائب فيفوت الفقه وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال وقد أوغل خلق من المتأخرين في كتابه طرق المنقولات فشغلهم عن معرفة الواجبات حتى إن أحدهم يسأل عن أركان الصلاة فلا يدري لا بل قد أثر هذا في القدماء ثم روى بإسناده أن امرأة وقفت على مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث فسألتهم عن الحائض تغسل الموتى وكانت غاسلة فلم يجبها منهم أحد وجعل بعضهم ينظر إلى بعض فأقبل أبو ثور فقالوا لها عليك بالمقبل فسألته فقال نعم تغسل الميت لحديث عائشة رضي الله عنها أما إن حيضتك ليست في يدك (1) ولقولها كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وأنا حائض + أخرجه البخاري + قال أبو ثور فإذا فرقت رأس الحي فالميت به أولى قالوا نعم رواه فلان وحدثنا به فلان ونعرفه من طريق كذا وخاضوا في الطرق والروايات فقالت المرأة فأين كنتم إلى الآن
قال وقد كان بعض أكابرهم يستحي من رد الفتيا فيفتي بما لا يحسن ذكره إن امرأة سألت علي بن داود المحدث وفي مجلسه نحو ألف رجل فقالت إني حلفت بصدقة إزاري فقال بكم اشتريته فقالت باثنين وعشرين درهما قال صومي اثنين وعشرين يوما فلما ذهبت جعل يقول آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار حكاه إبراهيم الحربي
ثم روى بإسناده عن أبي زرعة قال كتب إلى أبي ثور لم يزل هذا الأمر في أصحابك حتى شغلهم عنه إحصاء عدد رواة من كذب علي
____________________
1- أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما
(2/122)
متعمدا (1) فغلبهم هؤلاء القوم عليه قال ابن الجوزي في صيد الخاطر فهو كما قال الحطيئة
( زوامل للأخبار لا علم عندها % بمتقنها إلا كعلم الأباعر )
( لعمرك ما يدري البعير إذا غدا % بأوساقه أو راح ما في الغرائر )
ثم ذكر العلوم وقال إن الفقه عليه مدار العلوم فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع وقال فيه ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالا فحضر بعض المتفقهة فسأله عن الحديث المعروف لو طعنت في فخذها أجزأك + أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف + فقال هذا للمبالغة فقال له الصبي أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه ففكر الشيخ ساعة ثم قال صدقت
وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة فلم يدر ما يقول وأدركنا من برع في علوم الفقه فكان إذا سئل عن حديث لا يدري ما يقول وأدركنا من برع في علم التفسير فقال له رجل يوما إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فما تقول فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب وأدركنا من برع في علوم القراءات فكان إذا سئل عن مسألة يقول عليك بفلان هذه كلها محن قبيحة فلما رأيت في الصبا أن كل من برع من أولئك في فنه ما استقصى وإنما عوقته فضوله عن المهم وما بلغ الغاية رأيت أن أخذ المهم من كل علم هو المهم فإنه من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد وحسن التصانيف فيقرأ المصنفات الكبار ويطلب الأسانيد العوالي ويكتب فيذهب العمر ويرجع كما كان ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يدري ما فيها وقد سهر وتعب
( وإذا ساءلته عن علمه % قال علمي يا خليلي في سفط )
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/123)
( في كراريس جياد أحكمت % وبخط أي خط أي خط )
( وإذا ساءلته عن مشكل % حك لحييه جميعا وامتخط )
ويتفقه صبي صغير فيفتي في مسألة قد عجز ذلك الشيخ عنها وإنما أشرح هذه الأشياء للتعليم انتهى كلامه
ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة (1)
وللترمذي وقال حسن غريب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال يا بني وذلك من سنتي من أحيا سنتي فقد أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة + أخرجه الترمذي وهو ضعيف +
وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه
وقال ابن الجوزي في كتاب العلم الفقه عمدة العلوم
وأملى الشافعي على مصعب بن عبد الله بن الزبير أشعار هذيل ووقائعها وأيامها حفظا فقال له يا أبا عبد الله أين أنت بهذا الذهن عن الفقه فقال إياه أردت
وقال محمد بن الحسن كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه ونهانا عن الكلام وكان يقول لعن الله عمرو بن عبيد لقد فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم
وقال الربيع مر الشافعي بيوسف بن عمرو وهو يذكر شيئا من الحديث فقال يا يوسف تريد تحفظ الحديث وتحفظ الفقه هيهات
وقال صاحب المحيط من الحنفية أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام
____________________
1- أخرجه أبو داود وابن ماجه وهو ضعيف
(2/124)
وروى الحاكم في تاريخه عن عبد العزيز بن يحيى قال قال لنا سفيان بن عيينة يا أصحاب الحديث تعلموا معاني الحديث فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة قال فتركوه وقالوا عمرو بن دينار عمن
وقال أبو حيان النحوي المتأخر المشهور في أثناء كلام له وأما إن كان صاحب تصانيف وينظر في علوم كثيرة فهذا لا يمكن أن يبلغ الإمامة في شيء منها وقد قال العقلاء ازدحام العلوم مضلة للمفهوم ولذلك تجد من بلغ الإمامة من المتقدمين في علم من العلوم لا يكاد يشتغل بغيره ولا ينسب إلى غيره وقد نظمت أبياتا في شأن من ينهز بنفسه ويأخذ العلم من الصحف بفهمه
( يظن الغمر أن الكتب تهدي % أخا فهم لإدراك العلوم )
( وما يدري الجهول بأن فيها % غوامض حيرت عقل الفهيم )
( إذا رمت العلوم بغير شيخ % ضللت عن الصراط المستقيم )
( وتلتبس العلوم عليك حتى % تصير أضل من توما الحكيم )
أشرت إلى قول بعضهم
( قال حمار الحكيم توما % لو أنصفوني لكنت أركب )
( لأنني جاهل بسيط % وصاحبي جاهل مركب )
وقال بعضهم
( إذا لم تكن حافظا واعيا % فجمعك للكتب لا ينفع )
( وتحضر بالجهل في موضع % وعلمك في الكتب مستودع )
( ومن كان في عمره هكذا % يكن دهره القهقرى يرجع )
ومن المشهور
( فدع عنك الكتابة لست منها % ولو سودت وجهك بالمداد )
ومثله
( وللعلوم رجال يعرفون بها % وللدواوين كتاب وحساب )
____________________
(2/125)
فصل
قال ابن الجوزي ومن علوم الحديث معرفة علله وذلك بجمع طرقه وقال أحمد بن حنبل إذا لم يجمع طرق الحديث لم يفهم والحديث يفسر بعضه بعضا وقال عبد الرحمن بن مهدي لأن أعرف علة الحديث هو عندي أحب ألي من أن أكتب عشرين حديثا ليست عندي انتهى كلامه
وقال سفيان الثوري عن أبيه عن منذر أبي يعلى الثوري عن الربيع قال إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل ننكره
وقال نعيم بن حماد قلت لعبد الرحمن بن مهدي كيف تعرف صحيح الحديث من خطئه فقال كما يعرف الطبيب المجنون
وذكر البخاري عن ابن المديني عن ابن مهدي وسأله رجل عن ذلك فقال عبد الرحمن أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا ستوق وهذا مبهرج أكنت تسأله عن ذلك أو كنت تسلم الأمر له قال بل كنت أسلم الأمر إليه قال فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبرة
وعن ابن مهدي قال علمنا بصحة الحديث كهانة عند الجاهل
وجاء رجل إلى أبي زرعة فقال ما الحجة في تعليلكم الحديث فقال الحجة في ذلك أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته ثم تقصد محمد بن مسلم بن وارة فتسأله عنه فيعلله ثم تقصد أبا حاتم الرازي فيعلله ثم تنظر فإن وجدت بيننا اختلافا في علته فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم فقال أشهد أن هذا العلم إلهام رواه الحاكم والبيهقي والخطيب وغيرهم
____________________
(2/126)
وقال أبو زرعة الدمشقي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي يقول كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم المزيف فما عرفوا منه أخذنا وما أنكروا منه تركنا
وقال الأعمش كان إبراهيم صيرفي الحديث فكنت إذا سمعت الحديث من بعض أصحابنا أتيته فعرضته عليه
وقال قبيصة بن عقبة رأيت زائدة يعرض كتبه على سفيان الثوري ثم التفت إلى رجل في المجلس فقال ما لك لا تعرض كتبك على الجهابذة كما نعرض
وقال زائدة كنا نأتي الأعمش فيحدثنا بكثير ثم نأتي سفيان الثوري فنذكر له تلك الأحاديث فيقول ليس هذا من حديث الأعمش فنقول صدق سفيان ليس هذا من حديث الأعمش فنقول هو حدثناه الساعة فيقول اذهبوا فقولوا له إن شئتم فنأتي الأعمش فنخبره فيقول صدق سفيان ليس هذا من حديثنا
وقال ابن معين لولا الجهابذة كثرت الستوق والزيوف في رواة الشريعة أما تحفظ قول شريح إن للأثر جهابذة كجهابذة الورق
وقال الربيع قال الشافعي لا تستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه إلا في الخاص القليل من الحديث وذلك أن تستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو يخالفه من هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه
قال البيهقي ومن ذلك حديث يحيى ابن آدم يعني ما يأتي في العمل بالحديث الضعيف في آداب الدعاء والقراءة قال وإن كانت رواته ثقات فهو مما لا يجوز أن يكون مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بتصديق من أخبر عنه ما لم يقله وقد تفرد عنه يحيى بن آدم وهو ثقة ولكن اختلف عليه فيه وأرسله بعضهم وهو أشبه والخطأ في مراسيل المقبري متوهم
ثم ذكر البيهقي أحاديث أخر معللة إلى أن ذكر الحديث المذكور في آخر الكتاب
____________________
(2/127)
في كفارة المجلس والله أعلم وسبق قبل هذا بنحو كراسة في طلب العلم حديث يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فصل في علم الإعراب لصاحب الحديث
قال ابن الجوزي ومن العلوم التي يلزم صاحب الحديث معرفته الإعراب لئلا يلحن وليورد الحديث على الصحة كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن انتهى كلامه وكذا قال ابن عبد البر كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن
قال وكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما أما بعد فتفقهوا في السنة وتعلموا العربية أما الأول فرواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس عن نافع عن ابن عمر إسناد جيد وروى الثاني عن عيسى بن يونس عن ثور عن يحيى بن سعيد قال كتب عمر فذكره وهو منقطع
وروى ابن أبي شيبة عن عمر أنه قال تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة وإسناده ضعيف
قال ابن عبد البر وقال شعبة مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له
وقال عبد الملك اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه
وقال ابن شبرمة إذا سرك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا أو يصغر في عينك من كان فيها كبيرا فتعلم العربية فإنها تجرئك على المنطق وتدنيك من السلطان قال الشاعر
( اللحن يصلح من لسان الألكن % والمرء تعظمه إذا لم يلحن )
( لحن الشريف محطة من قدره % فتراه يسقط من لحاظ الأعين )
( وترى الدني إذا تكلم معربا % حاز النهاية باللسان المعلن )
( وإذا طلبت من العلوم أجلها % فأجلها منها مقيم الألسن )
وذكر ابن عبد البر في مكان آخر أن قائل هذا لو كان مهتديا لقال
____________________
(2/128)
فأجلها منها مقيم الأدين
وما قاله حق قال وقالوا العربية تزيد في المروءة وقالوا من أحب أن يجد في نفسه الكبر فليتعلم النحو كذا قال
وقال أبو جعفر النحاس ويروى أن المأمون كان يتفقد ما يكتب به الكتاب فيسقط من لحن ويحط مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربية فكان الكتاب يثابرون على النحو لما كان الرؤساء يتفقدون هذا منهم ويقربون العلماء كما قال الفضل بن محمد جاءني رسول الرشيد فنهضت ودخلت وسلمت عليه فأومأ بيده ومحمد عن يمينه والمأمون عن يساره والكسائي بين يديه يطارحهم معاني القرآن والشعر فقال لي الرشيد كم اسم في ( ^ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) البقرة 137 فقلت ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين اسم الله عز وجل والكاف الثانية اسم النبي صلى الله عليه وسلم والهاء مع الميم اسم الكفار قال الرشيد كذا قال الرجل وأوما بيده إلى الكسائي ثم التفت إلى محمد فقال أفهمت قال نعم قال فأردده علي إن كنت صادقا فرده على ما لفظت به فقال أحسنت أمتع الله بك ثم أقبل علي فقال من يقول
( نفلق هاما لم تنله أكفنا % بأسيافنا هام الملوك القماقم )
فقلت الفرزدق يا أمير المؤمنين قال كيف يفلق هاما لم تنله كفه قلت على التقديم والتأخير كأنه قال نفلق بأسيافنا من الملوك القماقم هاما لم تنله أكفنا على التعجب والاستفهام فقال أصبت ثم أقبل على الكسائي فحادثه ساعة ثم التفت إلي فقال أعندك مسألة قلت نعم لصاحب هذا البيت قال هات فقلت
( أخذنا بآفاق السماء عليكم % لنا قمراها والنجوم الطوالع )
قال الرشيد قد أفادنا هذا الشيخ في هذه المسألة قالا نعم علمنا علي بن حمزة أن القمرين هاهنا الشمس والقمر كما قالوا سيرة العمرين يريدون أبا بكر وعمر كما قيل ما اطرد الأسودان يريدون الليل والنهار قلت أزيد يا أمير المؤمنين في السؤال قال زد قلت فلم استحسنوا هذا قال لما اجتمع شيئان
____________________
(2/129)
من جنس واحد فكان أحدهما أشهر من الآخر غلب الأشهر لأن القمر أشهر عند العرب لأنسه وكثرة بروزهم فيه ومشاهدتهم إياه دون الشمس في أكثر الأوقات وتلك القصة في قولهم العمران لطول خلافة عمر وكثرة الفتوح فيها وكذلك الليل لأنهم فيه أفزع وسمرهم فيه أكثر قلت أفيه يا أمير المؤمنين غير هذا قال ما أعلمه ثم التفت إلى الكسائي فقال أتعرف في هذا غير ما قلنا مما أفدتناه قال لا يا أمير المؤمنين وهو وفاء المعنى فأمسك عني قليلا ثم قال أتعرف فيه أنت أكثر من هذا قلت نعم يا أمير المؤمنين بقيت الغاية التي افتخر بها قائل هذا الشعر قال فقل قلت الشمس أراد بها إبراهيم الخليل والقمر ابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والنجوم أنت والخلفاء من آبائك ومن يكون من ولدك إلى يوم القيامة قال فتهلل وجهه وقال حسن والله والعلم كثير لا يحاط به ولعل هذا الشيخ لم يسمع هذا فيفيدناه وإن هذا لعمري لأبلغ إلى غاية الفخر ثم رفع رأسه إلى الفضل بن الربيع فقال تحمل إلى منزل الشيخ عشرة آلاف درهم فتقدم بها من ساعته
قال أبو جعفر النحاس وغيره وممن امتنع من النحويين من ملازمة السلطان إجلالا للعلم وغنى نفس الخليل بن أحمد وبكر بن محمد المازني وقال بعض العلماء كان الخليل من الزهاد المنقطعين إلى العلم ومن خيار عباد الله المتقشفين في العبادة أرسل إليه سليمان بن حبيب المهلبي لما ولي فنثر بين يدي رسوله كسرا وامتنع أن يأتيه وكتب إليه
( أبلغ سليمان أني عنه في سعة % وفي غنى غير أني لست ذا مال )
( شحا بنفسي أني لا أرى أحدا % يموت هزلا ولا يبقى على حال )
( والرزق عن قدر لا الضعف ينقصه % ولا يزيدن فيه حول محتال )
( والرزق يغشى أناسا لا طباخ لهم % كالسيل يغشى أصول الديدن البالي )
( كل امرئ بسبيل الموت مرتهن % فاعمل لبالك إني شاغل بالي )
( والفقر في النفس لا في المال نعرفة % ومثل ذاك الغني في النفس لا المال )
وأما المازني فأشخصه الواثق إلى سر من رأى لأن جارية غنت وراء ستارة
____________________
(2/130)
( أظليم إن مصابكم رجلا % أهدى السلام تحية ظلم )
فقال لها الواثق رجل فقالت لا أقول إلا كما علمت فقال للفتح كيف هو يا فتح فقال هو خبر إن كما قلت فقالت الجارية علمني أعلم الناس بالعربية المازني فأمر بإشخاصه فأشخص قال أحمد بن يحيى فلقيني يعقوب بن السكيت فسألني فأجبته بالنصب فقال فأين خبر إن قلت ظلم ثم أتى المازني فأجابه بمقالة الجارية قال المازني قلت لابن قادم ولابن سعدان لما كابراني كيف تقول نفقتك دينارا أصلح من درهم فقال دينارا قلت كيف تقول ضربك زيدا خير لك فنصب قلت فرق بينهما فانقطع وكان ذلك عند الواثق وحضر ابن السكيت فقال لي الواثق هات مسألة فقلت ليعقوب ( ^ فأرسل معنا أخانا نكتل ) يوسف 63 ما وزنه من الفعل قال نفعل قال الواثق غلطت ثم قال لي فسره فقلت نكتل تقديره نفتعل نكتيل فانقلبت الياء ألفا لفتح ما قبلها فصار لفظها نكتال فأسكنت اللام للجزم لأنه جواب الأمر وحذفت الألف لالتقاء الساكنين فقال هذا هو الجواب فلما خرجنا عاتبني يعقوب فقلت والله ما قصدت تخطئتك ولكن كانت في نفسي هينة الجواب ولم أظن أنها تعزب عليك
قال وحضر يوما آخر واجتمع جماعة نحويي الكوفة فقال لي الواثق يا مازني هات مسألة فقلت ما تقولون في قول الله تعالى ( ^ وما كانت أمك بغيا ) مريم 28 ولم يقل بغية وهي صفة لمؤنث فأجابوا بجوابات ليست مرضية فقال لي الواثق هات الجواب فقلت لو كانت بغي على تقدير فعيل بمعنى فاعلة لحقتها الهاء إذا لكانت مفعولة بمعنى امرأة قتيل وكف خضيب وتقدير بغي هاهنا ليس بفعيل إنما هو فعول وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث نحو إمرأة سكون وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرشاء وتقدير بغي بغوي قلبت الواو ياء ثم أدغمت الياء في الياء نحو سيد وميت فاستحسن الجواب ثم استأذنته في الخروج فقال إلا أقمت عندنا فقلت يا أمير المؤمنين إن لي بنية أشفق أغيب عنها قال كأني بها قد قالت ما قالت ابنة الأعشى للأعشى
____________________
(2/131)
( أرانا إذا أضمرتك البلاد % نجفى وتقطع منا الرحم )
وقلت أنت
( تقول بنتي وقد قربت مرتحلا % يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا )
( عليك مثل الذي صليت فاغتمضي % يوما فإن بجنب المرء مضطجعا )
فوالله ما أخطأ ما في نفسي فأمر لي بجائزة وأذن لي في الانصراف
قال أبو جعفر النحاس وفر أبو عمرو بن العلاء من الحجاج قال فبينما أنا أسير إذ سمعت رجلا ينشد
( ربما تجزع النفوس من الأمر % له فرجة كحل العقال )
قد مات الحجاج فلم أدر بأيهما كنت أشد فرحا أبموت الحجاج أو قوله فرجة
قال أبو جعفر وعبيد الله بن إسحاق أحد القراء والنحويين كان ممتنع الجانب قليل الغشيان للسلطان حتى ذكره الفرزدق وغيره بالكبر وهجاه قال أبو جعفر ومن النحويين من سارع إلى السلاطين ولم يحمد العاقبة منهم سيبويه وابن السكيت كما حدثنا علي بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد قالا لما ورد سيبويه إلى العراق شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيى والفضل بن يحيى فقال أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب محلي قالا فاحتل لنفسك فسنجمع بينكما فجمعا عند البرامكة وحضر سيبويه وحده وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه فسألوه كيف تقول كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو هو إياها فقال أقول فإذا هو هي فقال له أخطأت ولحنت فقال يحيى هذا موضع مشكل فمن يحكم بينكم قالوا هؤلاء الأعراب بالباب فأدخل أبو الجراح وجماعة معه فسئلوا فقالوا نقول فإذا هو إياها فانصرم المجلس على أن سيبويه قد أخطأ وحكم عليه فأعطاه البرامكة وأخذ له من الرشيد وبعث به إلى بلده فيقال إنه ما لبث إلا
____________________
(2/132)
يسيرا ثم مات كمدا
وقال علي بن سليمان وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب على ما قال سيبويه وهو فإذا هو هي وهذا موضع الرفع
قال أبو جعفر وأما ابن السكيت فحدثني محمد بن الحسين بن أبي الحسن حدثني عبد الله بن عبد العزيز النحوي قال قال لي يعقوب بن السكيت أريد أشاورك في شيء قلت قل قال إن المتوكل قد أدناني وقربني وندبني إلى منادمته فما ترى قلت لا تفعل وكرهت له النهاية فدافع به يعقوب ثم تطلعت نفسه إليه فشاورني فقلت يا أخي أحذرك على نفسك فإنه سلطان وأكره أن تزل بشيء فحمله حب ذلك على أن خالفني فقتله في أول مرة لشيء جرى بينه وبينه في أمر الحسن والحسين عليهما السلام وكان أوله مزاحا وكان ابن السكيت يتشيع فقتله
قال أبو جعفر ومن النحويين من قرب من السلاطين فحظي عندهم منهم علي بن حمزة قال يونس بن حبيب أقام الكسائي بالبصرة عشرين سنة ثم رحل إلى الكوفة فأخذ عن أعراب ليسوا بفصحاء فأفسد الحق بالباطل فقد صار النحو كله من البصرة لأن الكسائي منهم تعلم ثم قرأ على الأخفش كتاب سيبويه ويحكى أنه دفع إليه مئتي دينار قال أبو جعفر وليس أحد من الرؤساء المتقدمين في النحو إلا بصري حتى أنهم حجج في اللغة يؤخذ عنهم لفصاحتهم وكانوا لا يأخذون إلا عن الفصحاء من الأعراب ولهم السبق والتقديم منهم أبو الأسود وأبو عمرو
وسمعت علي بن سليمان يقول ساءني أن خلفا البزار على جلالته ومحله ترك الكسائي وهو أستاذه فلم يرو عنه حرفا واحدا مع حاجته إليه في تصنيفه كتاب القراءات قال أبو جعفر ثم عرفني غير أبي الحسن أنه إنما ترك الرواية عنه لأنه سمعه يقول قال لي سيدي الرشيد فتركه وقال إن إنسانا مقدار الدنيا عنده أن يجعل من أجلها هذا الإجلال لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم
قال أبو جعفر وقد كان الأصمعي متصلا بالرشيد وكان يقدمه ويتكلم في
____________________
(2/133)
مجلسه وقد ذكر أبو جعفر عن القاسم بن مخيمرة أنه قال النحو أوله شغل وآخره بغي ورد أبو جعفر على ذلك وسبق في فصول السلام الكلام في الكتابة ويأتي بعد نصف كراسة أيضا
وذكر أبو جعفر في باب الاصطلاح المحدث الذي استعماله خطأ قال واستعملوا يفعل ذلك بغير لام الأمر وهذا من الخطأ القبيح الذي ينقلب معه المعنى فيصير خبرا والمراد الأمر وإن جزم أيضا فخطأ لأن الأمر لا يكون بغير لام إلا في شذوذ واضطرار على أنه حكي عن علي بن سليمان أنه لا يجوز عنده ولا عند أصحابه حذف اللام من الأمر للغائب لأن الحروف لا تضمر ولأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء وأن ما أنشد فيه من الشعر ليس بحجة لأنه لا يعرف قائله وهو
( محمد تفد نفسك كل نفس % )
كذا قال وقد قال الله تعالى ( ^ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم ) التوبة 64
قيل هو خبر من الله على حالهم وقال الزجاج إنه أمر من الله لهم بالحذر فتقديره ليحذر المنافقون قال ابن الأنباري والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر فيقولون يرحم الله المؤمن ويعذب الكافر يريدون ليرحم وليعذب فيسقطون اللام ويجرونه مجرى الخبر في الرفع وهم لا ينوون إلا الدعاء والدعاء مضارع للأمر وأما الجزم بلام الأمر مقدرة فيجوز كثيرا مطردا بعد أمر كقوله تعالى ( ^ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) إبراهيم 31
والأشهر أنه جواب قل والتقدير قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا أي إن تقل لهم يقيموا ورده قوم بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا يوجب أن يقيموا واختار ابن مالك هذا الرد ولم يره أبو البقاء لأنه لم يرد بالعباد الكفار بل المؤمنين يدل عليه ( ^ قل لعبادي الذين آمنوا ) وإذا أمرهم الرسول أقاموا وقيل يقيموا جواب أقيموا المحذوفة أي إن يقيموا يقيموا ورد بوجوب مخالفة جواب الشرط له في الفعل والفاعل أو فيهما فلا يجوز قم تقم وبأن المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ
____________________
(2/134)
الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا ويجوز الجزم بلام الأمر مقدرة قليلا بعد قول بلا أمر ذكره ابن مالك ولا يجوز الجزم بها بلا أمر ولا قول ولا ضرورة والله أعلم وإنما ذكرت ذلك لكثرة كتابة يعتمد ذلك ونحوها وكثرة من لا يعرف إلا إنكاره فينكره ويوافقه عليه من لا يعلم والله أعلم فصل في إصلاح اللحن العارض لمتن الحديث ومتى يجوز التحديث ومن يقدم
قال إسحاق بن إبراهيم سمعت ابن زنجويه يسأل أبا عبد الله يجيء الحديث فيه اللحن وشيء فاحش فترى أن يغير أو يحدث به كما سمع قال يغيره شديدا إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يلحنون وإنما يجيء اللحن ممن هو دونهم
وقال ابن الجوزي وينبغي لصاحب الحديث أن يصلح اللحن في كتابه وذكر ذلك عن جماعة وكان أحمد يفعله قال ويصلح الغلط الذي لا يشك فيه وذكره عن جماعة
والأولى أن لا يحدث حتى يتم له أربعون سنة إلا أن يحتاج إليه فقد حدث بندار وله ثلاث عشرة سنة وحدث البخاري وما في وجهه شعرة
ويكره أن يحدث بحضرة من هو أسن منه أو أعلم فقد كان الشعبي إذا حضر مع إبراهيم لم يتكلم إبراهيم وقال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة ما لك لا تحدث فقال أما وأنت حي فلا
وقال سمرة بن جندب لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالا هم أسن مني متفق عليه
قال ابن هبيرة فيه أنه يتعين على الحدث أن يوقر الشيوخ وأنه إذا رأى عندهم ما عنده لم يزاحمهم بالرواية له فإنه يعرض أن يعيش بعدهم فيروي في حالة عدمهم فيكون ذلك في موقعه وإن مات قبلهم لم تكن تغني روايته لما يعرفه الشيوخ طائلا والله أعلم وسبق هذا المعنى بنحو كراسين في فصل قال ابن
____________________
(2/135)
عباس إذا ترك العالم لا أدري
وقد ظهر من ذلك أنه يرد على القارئ الغلط والخطأ كما عليه عادة العلماء
وقد قال ابن طاهر المقدسي الحافظ سمعت أبا إسحاق الحبال بمصر يقول لم يكن في الدنيا مثل أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني في الفضل وكان يحضر معنا المجالس ويقرأ الخطأ بين يديه فلا يرد على أحد شيئا ولو قرئ بين يديه الكفر إلا أن يسأل فإذا سئل عن شيء أجاب وأرى اليوم بعض الصبيان يتبعون الأغلاط ويبادرون بالرد على المقرئ ولا يحسنون الأدب ومراد أبي إسحاق والله أعلم أن أبا القاسم لا يبادر بالرد ولعله يكتفي بغيره ولهذا قال ولو قرئ بين يديه الكفر ومعلوم أن مثل هذا لا يحل عدم بيانه والسكوت عنه
قال ابن طاهر سمعت الفقيه أبا محمد هياج بن عبيد إمام الحرم ومفتيه يقول يوم لا أرى فيه سعد بن علي الزنجاني لا أعتد أني عملت خيرا قال ابن طاهر وكان هياج يعتمر كل يوم ثلاث عمر ويواصل الصوم ثلاثة أيام ويدرس عدة دروس ومع هذا كله كان يعتقد أن نظره إلى الشيخ سعد والجلوس بين يديه أجل من سائر عمله
قال ابن طاهر سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد الكرخي يقول لما عزم الشيخ سعد على الإقامة بالحرم والمجاورة به عزم على نفسه نيفا وعشرين عزيمة أنه يلزم نفسه من المجاهدات والعبادات ومات بعد ذلك بأربعين سنة ولم يخل منها عزيمة واحدة رحمه الله فصل في مكانة حفاظ الحديث وإقبال الألوف على مجالسهم وحسد الخلفاء لهم
قال جعفر بن درستويه كنا نأخذ المجلس في مجلس على ابن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد فنقعد طول الليل مخافة أن لا نلحق من الغد موضعا نسمع فيه فرأيت شيخا في المجلس يبول في طيلسانه ويدرج الطيلسان مخافة أن
____________________
(2/136)
يؤخذ مكانه إن قام للبول
وذكر غير واحد أنه كان في مجلس يزيد بن هارون يحزر بسبعين ألفا وأمر المعتصم بحزر مجلس عاصم بن علي فحزروا المجلس عشرين ألفا ومئة ألف وأملى البخاري ببغداد فاجتمع له عشرون ألفا
وقال أبو الفضل الزهري كان في مجلس جعفر الفريابي من أصحاب الحديث من يكتب حدود عشرة آلاف ما بقي منهم غيري سوى من لا يكتب
وأملى أبو مسلم الكجي في رحبة غسان فكان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه وكتب الناس عنه قياما بأيديهم المحابر ثم مسحت الرحبة وحسب من حضر بمحبرة فبلغ ذلك نيفا وأربعين ألف محبرة سوى العطارة
قال ابن الجوزي قد كانت الهمم في طلب العلم كما قد ذكرنا ثم ما زالت تقل الرغبات حتى اضمحلت فحكى شيخنا أبو جعفر عمر بن ظفر المغازلي قال كنا في حلقة ابن يوسف نسمع الحديث فطلبنا محبرة نكتب بها السماع فما وجدنا قال وقد كان الخلفاء والكبراء يغبطون المحدثين على هذه المرتبة ثم روى بإسناده عن محمد بن سلام الجمحي أنه قال قيل للمنصور هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله قال بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث فيقول المستملي من ذكرت رحمك الله قال فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر فقال لستم بهم إنما هم الدنسة ثيابهم المتشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق ونقلة الحديث
وقال يحيى بن أكثم قال لي الرشيد ما أنبل المراتب قلت ما أنت فيه يا أمير المؤمنين قال فتعرف أجل مني قلت لا قال لكني أعرفه رجل في حلقة يقول حدثنا فلان عن فلان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا أمير المؤمنين هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عهد المسلمين قال نعم ويلك هذا خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبدا ونحن نموت ونفنى
____________________
(2/137)
والعلماء باقون ما بقي الدهر
وقال المأمون ما طلبت مني نفسي شيئا إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال لي من حدثك فأقول حدثني فلان قيل له يا أمير المؤمنين فلم لا تحدث قال لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث
وقال يحيى بن أكثم وليت القضاء وقضاء القضاء والوزارة وكذا وكذا ما سررت لشيء كسروري بقول المستملي من ذكرت رضي الله عنك فصل في تقديم النية الصالحة والإخلاص قبل القول والعمل
تقدم الكلام في النية للعلم والحذر من الرياء وقال في صيد الخاطر يا قوم قد علمتم أن الأعمال بالنيات وقد فهمتم قوله تعالى ( ^ ألا لله الدين الخالص ) الزمر 3 وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعلمون ولا يقولون حتى تتقدم النية وتصح أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل والصياح وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون المغالبة ثم يقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها وقد كان السلف يتدافعونها
ويا معشر المتزهدين إنه يعلم السر وما يخفى أتظهرون الفقر في لباسكم وأنتم تشتهون شهوات وتظهرون التخشع والبكاء في الجلوات دون الخلوات كان ابن سيرين يضحك ويقهقه فإذا خلا بكى فأكثر وقال سفيان لصاحبه ما أوقحك تصلي والناس يرونك
( أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها % مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب )
آه للمرائي من يوم يحصل ما في الصدور وهي النيات والعقائد فالجزاء عليهما لا على الظواهر فأفيقوا من سكرتكم وتوبوا من زلتكم واستقيموا على الجادة ( ^ أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ) الزمر 56
____________________
(2/138)
فصل في جرح رواة الحديث لبيان الحقيقة ومعرفة الصحيح من غيره
سأل رجل أبا عبد الله عن أبي البختري فقال كان كذابا يضع الحديث فقال الرجل أنا ابن عمه لحا قال أبو عبد الله الله المستعان ولكن ليس في الدين محاباة
وقال مهنا سألت ابن معين عن الواقدي قال أنت تعرفه وأحب أن تعفيني قلت لم قال إن ابنه أخ لي قلت فدعه
وسأل أحمد رجلا عن موت ابن المبارك فقال ما تصنع بهذا يا أبا عبد الله قال نعرف به الكذابين
وقال يحيى بن سعيد سألت شعبة وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس عن الرجل يحدث بالحديث يخطئ فيه أو يكذب فيه فقالوا جميعا بين أمره
قال أحمد في رواية مهنا هو كما قالوا فقلت له أما تخاف أن يكون هذا من الفاحشة قال لا هذا دين ونقل غيره عن أحمد أنه سأله عن معنى الغيبة فقال إذا لم ترد عيب الرجل قلت قد جاء يقول فلان لم يسمع وفلان يخطئ قال لو ترك هذا لم يعرف الصحيح من غيره
وقال شعبة وقيل له تمسك عن أبان بن أبي عياش فقال ما أرى يسعني السكوت عنه وقد سبق هذا المعنى في أول الكتاب وفي فصول الهجرة من الأمر بالمعروف
وقيل ليحيى بن سعيد أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله قال ذاك أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب
____________________
(2/139)
وقال بعض الصوفية لابن المبارك وقد تكلم في المعلى بن هلال يا أبا عبد الرحمن تغتاب فقال له اسكت إذا لم نبين كيف نعرف الحق من الباطل وقال الشافعي ليس هذا من الغيبة وفي هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة
وقال أبو الحارث سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس وكانت له مجالس وكان صحيح الحديث إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد فذهب حديثه وذكره
وقال في رواية الأثرم وذكر الأفطس واسمه عبد الله بن سلمة قال إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحدا يذكره وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر فدعا عليه قال أحمد فأراه استجيب له والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق
وقال أبو زرعة عبد الله بن سلمة الأفطس كان عندي صدوقا لكنه كان يتكلم في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان وذكر له يونس بن أبي إسحاق فقال لا ينتهي يونس حتى يقول سمعت البراء قال أبو زرعة فانظر كيف يرد أمره قال أبو زرعة كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم وكل من يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه
قال أبو زرعة وذكر أبا قتادة الحراني فقال سمعت ابن نفيل يقول قرأ يعني أبا قتادة كتاب مسعر فبلغ وشك أبو نعيم فقال ما هذا فقال أبو زرعة وذكر ابن نفيل يوما مات فلان سنة كذا لشيوخه فقيل له متى مات أبو قتادة فقال إنما نسأل عن تاريخ العلماء فظننت أنه سلط عليه وذلك أن ابن نفيل حدث فقيل لأبي قتادة حدث ابن نفيل فقال ابن أخت ذاك الصبي يعني سعيد بن حفص فجعلت أعجب من استخفافه هذا به ثم سلط عليه كما ترى انتهى كلامه
واعلم أن أبا قتادة واسمه عبد الله بن واقد ضعيف متروك عند الأئمة وكذبه بعضهم وقواه أحمد وكذا ابن معين في رواية ولا رواية له في الكتب الستة
____________________
(2/140)
ومات سنة عشر ومئتين فمن هذا حالة لا يحل له أن يتكلم في الجرح والتعديل لا سيما بغير إنصاف فيمن عظمة الأئمة وأثنوا عليه واتفقوا عليه وهو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي الحراني وسعيد بن حفص ثقة وتوفيا سنة بضع وثلاثين ومئتين فلم يضرهما كلام أبي قتادة وانضر هو فنسأل الله العفو والستر وقال أبو زرعة ذكرت لأبي جعفر النفيلي أن أحمد بن حنبل حدثنا عن أبي قتادة فاغتم وقال قد كتبت إليه أن لا يحدث عنه وإنما كان أحمد حدثنا عنه في المذاكرة فصل في خطأ الثقات وكونه لا يسلم منه بشر
قال أحمد في رواية الأثرم ليس ينبغي لأحد أن ينكر حديثا يلقى عليه كان وكيع لا يقول ليس هذا عندنا ولا يقول لم أسمعه يسكت قال أبو عبد الله وكان ابن مهدي ذكر له عن ابن المبارك عن ورقاء عن سعيد بن جبير إذا أقر بالحد ثم أنكر لم يقم عليه فأنكره إنكارا شديدا ثم نظر فوجده في كتابه وقال مهنا لأحمد كان غندر يغلط قال أليس هو من الناس
وقال البويطي سمعت الشافعي يقول قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولا بد أن يوجد فيها الخطأ إن الله تعالى يقول ( ^ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) النساء 82
فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه وقال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما رأيت أحدا أقل خطأ من يحيى بن سعيد يعني القطان ولقد أخطأ في أحاديث قال أبو عبد الله ومن يعرى من الخطأ والتصحيف
ونقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد كان وكيع يحفظ عن المشايخ ولم يكن يصحف وكل من كتب يتكل على الكتاب يصحف ونقل إسحاق أيضا عن أحمد ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي وقال عباس الدوري سمعت يحيى يقول من
____________________
(2/141)
لا يخطئ في الحديث فهو كذاب وقال عبد الرحمن بن مهدي من يبرئ نفسه من الخطأ فهو مجنون وقال مالك ومن ذا الذي لا يخطئ فصل في صفات من يؤخذ عنهم الحديث والدين ومن لا يؤخذ عنهم
قال الصاغاني رأيت أحمد بن حنبل عند أبي سلمة الخزاعي وكنت قائما فقال أبو سلمة يا أبا عبد الله هاهنا فأبى حتى كتب المجلس وهو قائم
وقال أبو النضر العجلي سمعت أبا عبد الله يقول بلغني أن حماد بن زيد سئل عن حديث فقال أي شيء تسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت قائم وقال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إنما يحيا الناس بالمشايخ فإذا ذهب المشايخ فماذا بقي
وقال الحافظ تقي الدين بن الأخضر في تسمية من روى عن أحمد قال البخاري سمعت أحمد بن حنبل يقول إنما الناس بشيوخهم فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش
وصح عن ابن سيرين قال هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ذكره مسلم في مقدمة صحيحه
وعن أبي سعيد الأشج عن وكيع عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن عامر بن عبدة قال قال عبد الله هو ابن مسعود إن الشيطان ليتمثل في صورة فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث عامر تفرد عنه المسيب
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم (1) وفي
____________________
1- أخرجه مسلم وابن حبان
(2/142)
لفظ يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم (1)
وقال مالك لرجل اطلب هذا الأمر من عند أهله وقال مالك أيضا لسفيان بن عيينة إنك امرؤ ذو هيئة وكبر فانظر عمن تأخذ
وقال مالك لا يؤخذ العلم عن أربعة ويؤخذ عمن سواهم لا يؤخذ عن معلن بالسفه ولا عمن جرب عليه الكذب ولا عن صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا عن شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به
وقال مالك أيضا إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركنا في هذا المسجد سبعين ممن يقول قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا عليه فما أخذت منهم شيئا لم يكونوا من أهل هذا الشأن ويقدم علينا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وهو شاب فنزدحم على بابه
وقال يحيى القطان كم من رجل صالح لو لم يحدث لكان خيرا له وقال أيضا ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير قال البيهقي لأنهم اشتغلوا بالعبادة عن ضبط الحديث وإتقانه فأدخل عليهم الكذابون ما ليس من حديثهم ومنهم قوم توهموا أن في وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب أجرا وجهلوا ما في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كبير الإثم
وروى الخلال عن ابن عباس مرفوعا لا تأخذوا العلم إلا ممن تجيزون شهادته + ضعيف جدا أخرجه الخطيب + وروي عن الحسن وابن سيرين مرسلا
وقال بهز بن أسد دين الله أحق أن يطلب عليه العدول وقال هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله ثم يأخذون عنه
____________________
1- صحيح مسلم
(2/143)
وقال الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بطلب العلم وقال ربيعة إن من أخواننا من نرجوا بركة دعائه ولو شهد عندنا على شهادة ما قبلناها
واشترط الشافعي أن يكون حافظا إن حدث من حفظه حافظا لكتابه إن حدث من كتابه وروي عن مالك نحو هذا لئلا يدخل عليه ما ليس من حديثه
وقال الإمام أحمد يكتب الحديث عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة صاحب هوى يدعو إليه أو كذاب أو رجل يغلط في الحديث فيرد عليه فلا يقبل
وقال سفيان الثوري لا يؤخذ الحلال والحرام إلا عن الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ وقال سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى قال كانوا يقولون لا تأخذوا العلم عن الصحفيين
وقال عبد الله بن المبارك قال أبو حنيفة تكتب الآثار ممن كان عدلا في هواه إلا الشيعة فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أتى السلطان طائعا حتى انقادت العامة له فذاك لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين وقال حرملة سمعت الشافعي يقول ما في أهل الأهواء قوم أشهد بالزور من الرافضة
وقال شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن علمائهم وأمنائهم فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا
وقال ابن طاهر المقدسي سمعت أبا محمد السمرقندي الحافظ الحسن بن أحمد سمعت أبا العباس المستغفري الحافظ سمعت أبا عبد الله محمد بن إسحاق
____________________
(2/144)
بن منده الحافظ يقول إذا رأيت في إسناد حدثنا فلان الزاهد فاغسل يدك من ذلك الإسناد فصل في سمت العلماء الذين يؤخذ عنهم الحديث والعلم وهديهم
روى الخلال في أخلاق الإمام أحمد عن إبراهيم قال كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى صلاته وإلى سمته وإلى هيئته ثم يأخذون عنه وقد سبق وعن الأعمش قال كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء حتى لباسه ونعليه وقيل لابن المبارك أين تريد قال إلى البصرة فقيل له من بقي فقال ابن عون آخذ من أخلاقه آخذ من آدابه
وقال عبد الرحمن بن مهدي كنا نأتي الرجل ما نريد علمه ليس إلا أن نتعلم من هديه وسمته ودله وكان علي بن المديني وغير واحد يحضرون عند يحيى بن سعيد القطان ما يريدون أن يسمعوا شيئا إلا أن ينظروا إلى هديه وسمته
وقال عبد الله بن أحمد سمعت ابن علي بن المديني يقول رأيت في كتب أبي ستة أجزاء مذهب أبي عبد الله وأخلاقه ورأيت أحمد يفعل كذا ويفعل كذا وبلغني عنه كذا وكذا قال الشاعر
( إذا أعجبتك طباع امرئ % فكنه يكن منك ما يعجبك )
( فليس على الجود والمكرمات % حجاب إذا جئته يحجبك ) فصل في الإقامة في بلاد العلم والرحلة عن غيرها
قال الفربري سمعت البخاري يقول دخلت بغداد آخر ثمان مرات في كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل فقال لي في آخر ما ودعته يا أبا عبد الله تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان قال البخاري فأنا الآن أذكر قوله وقال إبراهيم بن خرزاد دخل أحمد بن حنبل وخلف بن سالم حلب فقال أحمد بن حنبل لخلف ارحل بنا عن هذا البلد فإن هذا بلد يضيع فيه العلم
____________________
(2/145)
فصل في خطر كتمان العلم وفضل التعليم وما قيل في أخذ الأجر عليه
قال مثنى إنه سأل أبا عبد الله عن الحديث الذي جاء من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فرفعه ولم ير إذا سئلت عن شيء أن لا أجيب فيه إذا علمت ولم ير الجلوس في مسجد الجامع لمكان الشهرة ولم يكره أن أحدث فيه من أراد ذلك مني وإن كنت متعلما وقال الخلال سمعت أبا بكر أحمد بن محمد بن صدقة يقول قال أبو عبد الله الأحاديث فيمن كتم علما ألجمه الله بلجام من نار لا يصح منها شيء
قال أبو داود باب كراهية منع العلم حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (1)
ورواه ابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث علي بن الحكم له طرق عن علي بن الحكم وعلي من رجال البخاري ووثقه ابن سعد وأبو داود وغيرهما وقال أبو حاتم لا بأس به صالح الحديث وقد رواه صدقة بن موسى وهو ضعيف عندهم عن مالك بن دينار عن عطاء
وقال ابن الجوزي في قوله تعالى ( ^ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) البقرة 159
قال وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كانت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب
____________________
1- صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند ابن حبان وسنده حسن في الشواهد
(2/146)
فعله كذا قال ابن الجوزي وقد يستحق الأجر على ما يجب فعله كأداء الشهادة ونحو ذلك على خلاف مشهور فيه ثم ذكر ابن الجوزي ما في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت بشيء أبدا ثم تلا ( ^ إن الذين يكتمون ما أنزلنا ) إلى أخرها (1)
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة أن يتعلم المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم + أخرجه ابن ماجه وفيه ضعيفان + وعن أبي الدرداء والحسن البصري وغيرهما هذا المعنى
وقد ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله ذلك في بعض كلامه وقال إن كاتم العلم يلعنه الله ويلعنه اللاعنون ومراد هؤلاء إذا لم يكن عذر وغرض صحيح في كتمانه والله أعلم
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه وروي مرفوعا ولا يصح
وقال الضحاك أول باب من العلم الصمت ثم استماعه ثم العمل به ثم نشره
وعن المسيح من تعلم وعمل فذاك يسمى عظيما في ملكوت السماء وعن المسيح عليه السلام علم مجانا كما علمت مجانا
وقال الزهري إياكم وغلول الكتب
وقال ابن المبارك إذا كتم العالم علمه ابتلي إما بموت القلب أو ينسى أو يتبع السلطان ذكر ذلك البيهقي وغيره وسبق هذا المعنى بنحو كراسة في فصل جاء رجلان وقبله بنحو كراسة في فصل قال المروذي
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأحمد
(2/147)
ويشرط فهم المتعلم والسائل ويسقط الفرض بذلك على هذا يدل كلام إمامنا وأصحابنا وهو مذهب الشافعي واشترط الحنفية حفظه وضبطه أيضا لأنه افترض عليهم التعليم بقدر ما يحتاج إليه لإقامة فرائضه ولا يتمكن إلا بالحفظ
وقال مهنا سألت أحمد قال قال يحيى بن سعيد ربما جاءني من يستأهل فلا أحدثه ويجيء من لا يستأهل أن أحدثه فأحدثه
وعن أحمد أنه سئل عن شيء بعد ما ضرب فقال هذا زمان حديث فقال له السائل يا أبا عبد الله يحل لك أن تمنعني حقي وتمنع هذا حقه لرجل آخر سأله عن شيء فقال وما حقكم قال ميراث محمد قال فسكت أبو عبد الله
وعنه أيضا وقال له جماعة نسألك عن مسألة قال قد قلت اليوم لا أجيب في مسألة ولكن ترجعون فأجيبكم إن شاء الله تعالى
وقال الأثرم أتينا أبا عبد الله في عشر الأضحى فقال قال أبو عوانة كنا ناتي الجريري في العشر فيقول هذه أيام شغل وللناس حاجات فابن آدم إلى الملال ما هو
وقال محمد بن يحيى الكحال قلت لأبي عبد الله كأني أردت أن أحثه على الحديث قال ليس لهم إكرام للشيوخ
وقال عبد الله جاء رجل إلى بابنا فقال لي أبي اخرج إليه فقل له لست أحدثك ولا أحدث قوما أنت فيهم فقلت ما شأنه يا أبت قال رأيته يمجن على باب عفان
وعن أحمد أنه أخرج الكتاب ليحدث قال الراوي فأخرجنا الكتب فاطلع رجل صاحب هيئة ولباس فنظر إليه أحمد فأطبق الكتاب وغضب وقام فقال الرجل أنا أذهب فحدث القوم فقال ليس أحدث اليوم
وعن مغيرة قال كنت أحدث الناس رغبة في الأجر فأنا أمنعهم اليوم رغبة في الأجر
____________________
(2/148)
وعن الميموني أنه سمع أبا عبد الله قال وخرج إلينا فرأى جماعتنا فشكا ذلك إلينا وأخبرنا بما يكره من ذلك لمكان السلطان قال ولولا ذلك الحق علي أن آتيهم في منازلهم
وقال ابن منصور قلت لأحمد أيسعك ألا تحدث قال لم لا يسعني أنا قد حدثت وقال له محمد بن مسلم بن واره يا أبا عبد الله لم قطعت الحديث والناس يحتاجون فمن فعل هذا فسمى رباح بن زيد وحبان أبو حبيب يعني ابن هلال حدثا ثم قطعا
وقال المروذي قال أبو عبد الله سألوني يعني في المسائل التي وردت عليه من قبل الخليفة فلم أجب قلت فلأي شيء امتنعت أن تجيب قال خفت أن تكون ذريعة إلى غيرها قال وسمعت أبا عبد الله وسأله علي بن الجهم عن شيء فلم يجبه وقال قد فقدت بعض ذهني وسأله عبد الرحمن بن خاقان عن شيء فلم يجبه وقال قد فقدت بعض ذهني
وقال ابن الجوزي في أوائل صيد الخاطر أنا لا أري ترك التحديث بعلة قول قائلهم إني أجد في نفسي شهوة للتحديث لأنه لا بد من وجود شهوة الرياسة فإنها جبلة في الطباع وإنما ينبغي مجاهدتها ولا يترك حق لباطل فصل مخاطبة الناس على قدر عقولهم
قال المروذي سألت أبا عبد الله عن شيء من أمر العدل فقال لا تسأل عن هذا فإنك لا تدركه قال ابن عقيل في الفنون حرام على عالم قوي الجوهر أدرك بجوهريته وصفاء نحيزته علما أطاقه فحمله أن يرشح به إلى ضعيف لا يحمله ولا يحتمله فإنه يفسده ولهذا قال صلى الله عليه السلام نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (1) انتهى كلامه وهذا الخبر رواه أبو الحسن التميمي من أصحابنا في كتاب العقل له بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
1- ضعيف إسناده
(2/149)
أنه قال نحن معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم
وقال ابن عقيل واكمداه من مخافة الأغيار واحصراه من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار والله ما زال خواص عباد الله يتطلبون لتروحهم بمناجاتهم رؤوس الجبال والبراري والقفار لما يرونه من المنكرين لشأنهم من الأغمار والسفير الأكبر يهرب من فرش الزوجات إلى خلوة بمسجد للتروح بتلك المناجاة فلا ينبغي للعاقل أن ينكر تكدير عيشه وقال أيضا وقد يكون الإنسان مسلما إلى أن يضيق به عيش وإنما ديننا مبني على شعث الدنيا وصلاح الآخرة فمن طلب به العاجلة أخطأه
وروى الحافظ ضياء الدين في المختارة من رواية أحمد بن زياد العتكي ثنا الأسود بن سالم أنبأنا أبو عبد الرحمن يزيد بن يزيد الزراد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرنا معشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم ثم قال الحافظ الضياء الزراد لم يذكره ابن أبي حاتم ولا الحاكم أبو أحمد في كتابه الكنى
وقال ابن الجوزي ولا ينبغي أن يملي ما لا يحتمله عقول العوام
وقال البخاري قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله (1)
وقال ابن مسعود ما أنت بمحدث قوما حدثيا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة رواه مسلم في المقدمة + أخرجه مسلم + وعزاه بعضهم إلى البخاري
وروى البخاري عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم ما يعزب عنهم ويشق عليهم + أخرجه ابن عدي والبيهقي والطبراني + وسبق بنحو كراسة الكلام في القصاص
____________________
1- علقه البخاري
(2/150)
وما يتعلق بهم وله تعلق بهذا
وروى الحاكم في تاريخه بإسناده عن أبي قدامة عن النضر بن شميل قال سئل الخليل عن مسألة فأبطأ بالجواب فيها قال فقلت ما في هذه المسألة كل هذا النظر قال فرغت من المسألة وجوابها ولكني أريد أن أجيبك جوابا يكون أسرع إلى فهمك قال أبو قدامة فحدثت به أبا عبيد فسر به
وفي تاريخ عبد الله بن أحمد بن جعفر السرخسي أبو محمد الفقيه أخبرني محمد بن حامد حدثنا عبد الله بن أحمد سمعت الربيع سمعت الشافعي يقول لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه لكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه
وروى مسلم عن قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري وهو مكثور عليه أي عنده ناس كثيرون فلما تفرق الناس عنه قلت أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما لك في ذلك من خير فأعاد عليه فأجابه وذكر الحديث (1)
قال في شرح مسلم معناه أنك لا تستطيع الإتيان بمثلها وإن تكلفت ذلك شق عليك ولم تحصله فتكون قد علمت السنة وتركتها وسبق ما يتعلق بهذا في رمي العالم المسألة وسؤال الناس له
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرت الشافعي يوما بحديث وأنا غلام فقال من حدثك فقلت أنت قال ما حدثتك من شيء فهو كما حدثتك وإياك والرواية عن الأحياء
____________________
1- في صحيحه
(2/151)
فصل في وضع العالم المحبرة بين يديه وجواز استمداد الرجل من محبرة غيره
وضع أبو عبد الله رحمه الله بين يديه محبرة فقيل له أستمد منها فتبسم وقال قد روي عن زهير بن أبي خيثمة أنه كانت معه محبرة فقالوا نستمد منها فقال إنها عارية نقله المروذي وقال حرب قلت لإسحاق بن راهويه يستمد الرجل من محبرة الرجل قال لا يستمد إلا بإذنه
قال الخلال كراهية أن يستمد الرجل من محبرة الرجل إلا بإذنه وذكر ذلك وقال محمد بن إبراهيم المعروف بمربع كنت عند أحمد بن حنبل وبين يديه محبرة فذكر أبو عبد الله حديثا فأستأذنته بأن أكتب من محبرته فقال لي اكتب يا هذا فهذا ورع مظلم
وقال محمد بن طارق البغدادي كنت جالسا إلى جانب أحمد بن حنبل فقلت يا أبا عبد الله أستمد من محبرتك فنظر إلي وقال لم يبلغ ورعي ورعك هذا
وعن وكيع وجاء إليه رجل فقال له إني أمت إليك بحرمة قال وما حرمتك قال كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش فوثب فدخل منزله فأخرج صرة فيها دنانير وقال له اعذرني فإني لا أملك غيرها
وقال يحيى بن زكريا بن يحيى الأحول جئت يوما وأحمد بن حنبل يملي فجلست أكتب فاستمددت من محبرة إنسان فنظر إلي أحمد فقال يا يحيى استاذنه
وقال إبراهيم الحربي لزمت أحمد بن حنبل سنين فكان إذا خرج ليحدثنا يخرج معه محبرة مجلدة بجلد أحمر وقلما فإذا مر به سقط أو خطأ في كتابه أسقطه بقلمه من محبرته يتورع أن يأخذ من محبرة أحدنا شيئا وحكى ابن عقيل في باب الغصب من الفصول عن القاضي أنه قال روي عن أحمد أنه منع الكتب من محبرة غيره بغير إذنه وفي رواية قال لمن استأذنه هذا من الورع المظلم فحملنا
____________________
(2/152)
الأول على كتب يطول والثاني على غمسه قلما لكتب كلمة أو في حق من ينبسط إليه ويأذن له حكما وعرفا انتهى كلامه
والأولى أن يقال يحمل الأول على كتب يطول والثاني على كتب قليل لأنه يتسامح به عادة وعرفا أو يحمل الأول على من يغلب على ظنه أنه لا يطيب قلبه ولا يأذن فيه ويحمل الثاني على من يطيب به ويأذن فيه فصل في الكتابة والكتب والكتاب وأدواتهم الكتابية
قال الخلال التوقي أن لا يترب الكتاب إلا من المباحات ثم روى عن المروذي أن أبا عبد الله كان يجيء معه بشيء ولا يأخذ من تراب المسجد
قال المروذي سمعت عبد الصمد بن مقاتل سمعت أبي يقول رأيتهم يكتبون الكتاب في دور السبيل فإذا أرادوا أن يختموه أرسلوا إلى البحر فأخذوا الطين
وذكر بعض الشافعية في كتاب فاتحة العلم ما يدل على أن هذا لا يحرم
وعن جابر مرفوعا تربوا صحفكم أنجح لها فإن التراب مبارك (1)
وعن زيد بن ثابت مرفوعا ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملي + أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهو إسناد ضعيف + رواهما الترمذي وضعفهما وروى ابن ماجه الأول
قال ابن عبد البر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تربوا الكتب واسحوها من أسفلها فإنه أنجح للحاجة وذكر أيضا الخبر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
____________________
1- أخرجه الترمذي وابن ماجه وإسناده ضعيف وقال الترمذي هذا حديث منكر
(2/153)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويفيض المال ويكثر التجار ويظهر القلم يعني الكتابة كذا ذكره ابن عبد البر والصحيح المشهور يرفع العلم ويفيض المال (1) حسب
قال الحسن البصري لقد أتى علينا زمان وإنما يقال تاجر بني فلان وكاتب بني فلان ما يكون في الحي إلا التاجر الواحد والكاتب الواحد وقال الحسن أيضا لقد كان الرجل يأتي الحي العظيم فما يجد به كاتبا
وفي الحديث المرفوع أيضا فشو القلم وفشو التجارة من أشراط الساعة + أخرجه أحمد والبخاري وإسناده حسن +
وعن بعض المفسرين في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام ( ^ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) يوسف 55 قال كاتب حاسب
وقد كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعلي وعثمان وحنظلة الأسدي ومعاوية وعبد الله بن الأرقم وكان كاتبه المواظب على الرسائل والأجوبة وهو الذي كتب الوحي كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتاب السريانية ليجيب عنه من كتب إليه بها فتعلمها في ثمانية عشر يوما
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع إذا كتبت فألق دواتك وأطل سن قلمك وفرج السطور وقارب بين الحروف وقالت العرب القلم أحد اللسانين وقالوا الخط الحسن يزيد الحق وضوحا
وقال المأمون الخط لسان اليد وهو أفضل أجزاء اليد وأمر أبو جعفر
____________________
1- أخرجه البخاري
(2/154)
المنصور بسجن طائفة من الكتاب عتب عليهم فكتب إليه بعضهم من طريق السجن
( أطال الله عمرك في صلاح % وعز يا أمير المؤمنينا )
( بعفوك نستجير فإن تجرنا % فإنك رحمة للعالمينا )
( ونحن الكاتبون وقد أسأنا % فهبنا للكرام الكاتبينا )
قال فعفا عنهم وأمر بتخليتهم واسم الكتاب بالفارسية ديوان أي شياطين لحذقهم بالأمور ولطفهم فسمي الديوان باسمهم كذا ذكره ابن عبد البر
وقال أبو جعفر النحاس واسمه أحمد بن محمد توفي في سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة قال معنى الديوان الأصل الذي يرجع إليه ويعمل بما فيه كما قال ابن عباس إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب أي أصله ويقال دون هذا أي أثبته واجعله أصلا
وزعم بعض أهل اللغة أن أصله عجمي وبعضهم يقول عربي وقد ذكره سيبويه في كتابه وتكلم على أن أصله دوان واستدل على ذلك بقولهم في الجمع دواوين وهذا قول حسن أبدلوا من أحد الواوين ياء ونظيره دينار الأصل فيه دنار وكذا قيراط الأصل فيه قراط فأما الفراء فيزعم أنك إذا سميت رجلا بديوان وأنت تريد كلام الأعاجم لم تصرفه وهذا عندي غلط لأنك إذا سميت رجلا ديوانا على أنه أعجمي لم يجز إلا صرفه لأن الألف واللام لا يدخلان فيه فقد صار بمنزلة طاووس وراقود وما أشبههما وإن جعلته عربيا صرفته أيضا لأنه فعال الدليل على ذلك قولهم دواوين وديوان بالفتح غلط ولو كان بالفتح لم يجز قلب الواو ياء فإن قيل الياء أصل قيل هذا خطأ ولو كان كذا لقيل في الجمع دياوين فديوان لا يقال كما لا يقال دينار ولا قيراط وزعم الأصمعي أن أصله أعجمي وروي أن كسرى أمر الكتاب أن يجتمعوا في دار فيعلموا حساب السواد في ثلاثة أيام فاجتمعوا في الدار واجتهدوا فأشرف عليهم وبعضهم يعقد وبعضهم يكتب فقال إيشان ديواشد أي هؤلاء مجانين فلزم موضع الكتابة هذا الاسم من ذلك الدهر ثم عربته العرب فقالت ديوان انتهى ما ذكره أبو جعفر
____________________
(2/155)
قال والدفتر اسم عربي لا نعلم له اشتقاقا وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن كل اسم عربي فهو مشتق إلا أنه ربما غاب عن العالم شيء وعرفه غيره يقال له دفتر ودفتر وتفتر ثلاث لغات وقال الجوهري الدفتر واحد الدفاتر وهي الكراريس قال أبو جعفر والكراسة معناها الكتب المضمومة بعضها إلى بعض والورق الذي ألصق بعضه إلى بعض مشتق من قولهم رسم مكرس إذا ألصقت الريح التراب به وقال الخليل الكراسة مأخوذة من كراس الغنم وهو أن يبول في الموضع شيئا بعد شيء فيتلبد انتهى كلامه
وقال الماوردي أصل الكراس والكراريس العلم ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسة
وقال الجوهري والكراسة واحدة الكراس والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف قال أبو جعفر وقيل مصحف لأنه مجمع الورق الذي يصحف فيه من أصحف كمكرم ومن قال مصحف بفتح الميم جعله من صحفت مصحفا مثل جلست مجلسا ومن كسر الميم شبهه بمنقل
وأما السفر فمشتق من أسفر الشيء إذا تبين فهو الذي فيه البيان ومنه أسفر الصبح إذا تبين وأسفر وجه المرأة إذا أضاء
وسمي القلم قلما لأنه يقلم أي يقطع منه ومنه قلمت أظفاري وقبل قطعه ليس بقلم ولكنه أنبوب وقيل القلم مشتق من القلام وهو نبت ضعيف واهي الأصل فقيل قلم لأنه جف وأضعف بما أخذ منه ورجل مقلم الأظفار من هذا أي ضعيف في الحرب ناقص ويقال رعف القلم إذا قطر وأرعف الرجل القلم إذا أخذ فيه مدادا كثيرا حتى يقطر ويقال استمد ولا ترعف أي لا تكثر المداد حتى يقطر ويقال ذنبت القلم فهو مذنب فأما الرطب فيقال فيه مذنب من ذنب هو ويقال حفي القلم يحفى حفوة وحفوة وحفية وحفاية وحفى مقصور فأما الحفاء ممدود فمشي الرجل بلا نعل
ويقال للقطعة التي تقطع من الأنبوبة شظية مشتق من شظي القوم تفرقوا
____________________
(2/156)
ويقال قلم ذنوب إذا كان طويل الذنب كما يقال فرس ذنوب وللقلم سنان فإذا كان الأيمن أرفع قيل محرف وإن استويا قيل قلم مستوي السنين
وأشحمت القلم تركت شحمه فلم آخذه فإن أخذت شحمه قلت بطنته تبطينا
يقال بريت القلم بريا وما سقط براية وقد يقال للقلم نفسه براية لأن العرب تجعل فعالة لكل ما نقص منه فيقولون قطاعة وقوارة ذكره أبو جعفر وقال الجوهري قوره واقتوره واقتاره بمعنى قطعة مدورا ومنه قوارة القميص والبطيخ وقال والقطاعة بالضم ما سقط عن القطع قال أبو جعفر يقال قططت القلم أي قطعت منه والقلم مقطوط وقطيط والمقط الذي يقط القلم عليه والمقط بفتح الميم الموضع الذي يقط من رأس القلم وهو مشتق من قططت أي قطعت وما رأيته قط أي انقطعت الرؤية بيني وبينه والقط الكتاب بالجائزة لأنه يقطع ومنه يعطي القطوط وثائق وقط بمعنى حسب
والدواة جمعها دويات في العدد القليل كذا قال أبو جعفر وفي الكثير دوي بضم الدال ويقال بكسرها ودوى ودوايا ويقال أدويت دواة إذا اتخذتها وقد دوي الدواة أي عملها فهو مدو مثل مقن للذي يعمل القنا ويقال لمن يبيعها دواء مثل تبان للذي يبيع التبن والذي يحملها ويمسكها داو ومثله رامح للذي يحمل الرمح واشتقاق المداد من المدد للكاتب وهي جمع مدادة يذكر ويؤنث
قال الفراء واسمه يحيى بن زياد الكوفي توفي سنة تسع ومئتين إن جعلت المداد مصدرا لم تثنه ولم تجمعه ويقال أمددت الدواة إذا جعلت فيها المداد فإن زدت على مدادها قلت مددتها واستمددت منها أي أخذت فإن أخذت مدادها كله قلت قعرت الدواة أقعرها قعرا واشتقاقه أنك بلغت إلى قعرها وقد سمع أقعرت الإناء إقعارا إذا جعلت له قعرا وإذا ألصق القطن يعني أو غيره بالدواة فهو ليقة مشتق من قولهم ما يليق فلان بقلبي أي ما يلصق به ويقال
____________________
(2/157)
ألقت الدواة إلاقة ولقتها ليقا وليوقا وليقانا إذا ألصقت مدادها وقد أنعمت ليقة الدواة إنعاما أي زدت في ليقها وأنعم الشيء إذا زاد ومنه الحديث وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما (1) أي زاد على ذلك ومنه سحقت المداد سحقا نعما قيل للفراء لم سمي المداد حبرا قال يقال للعالم حبر وحبر وإنما أرادوا مداد حبر فحذفوا مدادا ثم جعلوا مكانه حبرا كقوله تعالى ( ^ واسئل القرية ) يوسف 82
وقال الأصمعي ليس هذا بشيء وإنما هو لتأثيره يقال على أسنانه حبرة يقال إذا كثرت فيها الصفرة حتى تضرب إلى السواد قال محمد بن يزيد وأنا أحسب أنه إنما سمي حبرا لأنه تحبر به الكتب
قال أبو جعفر النحاس من حسن تقدير الكاتب ألا يفرق بين المضاف والمضاف إليه في سطر وكذا أعزه الله وكذا أحد عشر لأنه كاسم واحد
ويستحسن المشق في الشين والسين إلا في أواخر الكلم نحو الناس وأصل المشق في اللغة الخفة يقال مشق بالرمح ومشق الرجل الرغيف إذا أكله أكلا خفيفا فمعنى مشق الكاتب إذا خفف يده وهذا اختيار محدث وأما رؤساء الكتاب المتقدمين فكانوا يكرهون المشق كله وإرسال اليد ويقول بعضهم هو للمبتدئ مفسدة لخطه ودليل على تهاونه بما يكتبه وقد ذكره الفقهاء أن يكتب بسم الله بغير سين
ويستحسنون إذا توالت السين والشين في كلمة أن يقدر الكاتب فصلا بمدة ويستحسنون في كتابة نحو بين أن يرفع الوسطى من الثلاث فرقا بين ذلك وبين السين والشين ويستحبون أن تكون الكاف غير مشقوقة إذا كانت طرفا عندهم ويحبون تعليمها إذا كانت متوسطة ولا تعلم إذا كانت طرفا ويستحبون أن تكون الألفاظ سهلة سمحة غير بشعة
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف
(2/158)
ومما يستحسنون لإبراهيم بن مهدي توقيعه إلى كاتبه إياك والتتبع لحوشي الكلام طمعا في نيل البلاغة فإن ذلك العي الأكبر وعليك بما يسهل مع تجنبك للألفاظ السفل وكذا ما روي من صفة يحيى بن زياد الكاتب فإنه قال أخذ بزمام الكلام فقاده أسهل مقاد وساقه أحسن مساق فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف به الأبصار الطامحة
وقال الجاحظ لم أر قوما أمثل طبقة في البلاغة من الكتاب وذلك لأنهم التمسوا ما لم يكن متوعرا من الألفاظ حوشيا ولا ساقطا عاميا
وقال محمد بن الفضل صاحب كتاب الديباج يجب للكاتب أن يعدل بكلامه عن الغريب الحوشي والعامي السوقي والرذل السليقي ويجانب التقعير ويجب أن يعمل نفسه في تنزيل الألفاظ وسئل أعرابي من أبلغ الناس قال أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة وقد سبق في فصول رد السلام رد جواب الكتاب وما يتعلق بذلك
وروى أبو داود في الخراج عن عمرو بن عثمان عن محمد بن حرب عن أبي مسلمة سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده وفي نسخة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على منكبه ثم قال له أفلحت يا قديم إن مت ولم تكن أميرا ولا كاتبا ولا عريفا (1) ورواه أحمد عن أحمد بن عبد الملك الحراني عن محمد بن حرب الأبرش عن سليمان عن صالح عن جده صالح قال البخاري فيه نظر وقال ابن حبان في الثقات يخطئ فصل في نظر الرجل في كتاب غيره بإذنه أو رضاه
قال الخلال كراهية النظر في كتاب الرجل إلا بإذنه قال أبو بكر بن عسكر كنت عند أبي عبد الله وعنده الهيثم بن خارجة فذهبت أنظر في كتاب أبي عبد الله فكره أبو عبد الله أن أنظر في كتابه
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود
(2/159)
واطلع عبد الرحمن بن مهدي في كتاب أبي عوانة بغير أمره فاستغفر الله مرتين
وقال أحمد في رواية مهنا في رجل رهن مصحفا هل يقرأ فيه قال أكره أن ينتفع من الرهن بشيء وقال في رواية عبد الله في الرجل يكون عنده مصحف رهن لا يقرأ إلا بإذنه
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم في الرجل يرهن عنده المصحف يستأذنه في القراءة فيه فإن أذن له قرأ فيه
قال القاضي في الجامع الكبير أما منعه من القراءة إلا بإذن صاحبه مع قولنا إنه يلزمه بذله إذا طلبه الغير للقراءة فهو محمول على أنه كان يجد مصحفا غيره وإنما يلزمه بذله عند الحاجة وقال في الرعاية عند مسألة رهن المصحف ولا يقرأ أحد في المصحف بلا إذن ربه وقيل بلى إن لم يضر ماليته وإن طلبه أحد ليقرأ فيه لم يجب بذله وقيل يجب وقيل عند الحاجة إليه وذكر بعض الشافعية ما هو ظاهر في أن النظر في كتاب الغير من كتب العلم لا يحرم وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار (1)
قال ابن الأثير في النهاية وهذا محمول على الكتاب الذي فيه سر وأمانة يكره صاحبه أن يطلع عليه قال وقيل هو عام في كل كتاب
وقال البخاري باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره + صحيح البخاري وصحيح مسلم + وذكر كتاب حاطب بن أبي بلتعة وقصته وهذا متوجة في العلم ومع الظن فيه نظر ويحرم مع الشك والقصة قضية عين
قال في شرح مسلم فيه هتك ستر المفسد إذا كان فيه مصلحة أو كان في الستر مفسدة وإنما يندب الستر إذا لم يكن فيه مفسدة ولا تفوت به مصلحة
____________________
1-
(2/160)
فصل في بذل العلم ومنه إعارة الكتب
قال الخلال كراهية حبس الكتاب قال المروذي قلت لأبي عبد الله رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث فوائد فأخذتها ترى أن أنسخها وأسمعها قال لا إلا بإذن صاحبها وقال يونس بن يزيد قال لي الزهري إياك وغلول الكتب قال حبسها عن أهلها انتهى ما ذكره الخلال
وقال الطحاوي كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة فكتب إليه
( قل للذي لم % تر عين من رآه مثله )
( حتى كأن من رآه % قد رأى من قبله )
( العلم ينهى أهله % أن يمنعوه أهله )
( لعله يبذله % لأهله لعله )
فوجه إليه به في الحال هدية لا عارية
وقال ابن الجوزي ينبغي لمن ملك كتابا أن لا يبخل بإعارته لمن هو أهله وكذلك ينبغي إفادة الطالبين بالدلالة على الأشياخ وتفهيم المشكل فإن الطلبة قليل وقد عمهم الفقر فإذا بخل عليهم بالكتاب والإفادة كان سببا لمنع العلم
قال سفيان تعجلوا بركة العلم ليفد بعضكم بعضا فإنكم لعلكم لا تبلغون ما تؤملون وقال وكيع أول بركة الحديث إعارة الكتب وقال ابن المبارك من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما أن يموت فيذهب علمه أو ينساه أو يتبع السلطان فصل في قيام أهل الحديث الليل وخشوعهم
بات عند الإمام أحمد رجل فوضع عنده ماء قال الرجل فلم أقم بالليل ولم
____________________
(2/161)
أستعمل الماء فلما أصبحت قال لي لم لا تستعمل الماء فاستحييت وسكت فقال سبحان الله سبحان الله ما سمعت بصاحب حديث لا يقوم بالليل وجرت هذه القصة معه لرجل آخر فقال له أنا مسافر قال وإن كنت مسافرا حج مسروق فما نام إلا ساجدا قال الشيخ تقي الدين فيه أنه يكره لأهل العلم ترك قيام الليل وإن كانوا مسافرين
وقال بشر بن الحارث ينبغي لأصحاب الحديث أن ينزلوه بمنزلة الدراهم يعلمون من كل مئتين خمسة
وقال سفيان في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما قد علمتم
وصح عن الحسن قال كان الرجل يسمع الباب من أبواب العلم فيعلمه فيعمل به فيكون خيرا له من الدنيا وما فيها لو كانت له فوضعها في الآخرة
وقال أبو جعفر بن بديل لقد رأيتنا ونحن نكتب الحديث فما يسمع إلا صوت قلم أو باك
وقال عبد الله كان أبي ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو
وقال إبراهيم بن شماس كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيى الليل فصل في الأدب مع المحدث ومنه التجاهل والإقبال والاستماع
قال الخلال أخبرنا الدوري قال سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول إن من شكر العلم أن يجلس مع رجل فيذاكره بشيء لا يعرفه فيذكر له الحرف عند ذلك فيذكر ذلك الحرف الذي سمعه من ذلك الرجل فيقول ما كان عندي من هذا شيء
____________________
(2/162)
حتى سمعت فلانا يقول فيه كذا وكذا فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم ولا توهمهم أنك قلت هذا من نفسك
وقال ابن الجوزي وإذا روى المحدث حديثا قد عرفه السامع فلا ينبغي أن يداخله فيه قال عطاء بن أبي رباح إن الشاب ليحدثني بحديث فأستمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد ثم روى بإسناده عن خالد بن صفوان قال إذا رأيت محدثا يحدث حديثا قد سمعته أو يخبر بخبر قد علمته فلا تشاركه فيه حرصا على أن يعلم من حضرك أنك قد علمته فإن ذلك خفة فيك وسوء أدب
وروى أبو حفص العكبري في الأدب له عن ابن وهب قال إني لأسمع من الرجل الحديث قد سمعته قبل أن يجتمع أبواه فأنصت له كأني لم أسمعه ثم روى ما تقدم عن عطاء ثم قال سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله جليس أبي أحمد الفقيه البغدادي يقول يروى عن سفيان الثوري أنه قال وتراه يعجب من حديثه ولعله أدري به وروي ما تقدم عن خالد بن صفوان وروى ذلك ابن بطة
قال ابن الجوزي ومتى أشكل شيء من الحديث على الطالب صبر حتى ينتهي الحديث ثم يستفهم الشيخ بأدب ولطف ولا يقطع عليه في وسط الحديث قال وفي أصحاب الحديث من ينزل جزءا في جزء ويوهم الشيخ أنه جزء واحد ومثل هذه الأفعال لا يجوز اعتمادها
وروى ابن بطة عن إبراهيم بن الجنيد قال حكيم لابنه تعلم حسن الاستماع كما تعلم حسن الكلام فإن حسن الاستماع إمهالك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه والإقبال بالوجه والنظر وترك المشاركة له في حديث أنت تعرفه وأنشد
( ولا تشارك في الحديث أهله % وإن عرفت فرعه وأصله )
وروي أيضا عن الهيثم بن عدي قال قالت الحكماء إن من الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه لقطع حديثه
وروي أيضا عن مجاهد قال لقمان لابنه إياك إذا سئل غيرك أن تكون أنت
____________________
(2/163)
المجيب كانك أصبت غنيمة أو ظفرت بعطية فإنك إن فعلت ذلك أزريت بالمسؤول وعنفت السائل ودللت السفهاء على سفاهة حلمك وسوء أدبك يا بني ليشتد حرصك على الثناء من الأكفاء والأدب النافع والإخوان الصالحين
قال ابن بطة كنت عند أبي عمر الزاهد فسئل عن مسألة فبادرت أنا فأجبت السائل فالتفت إلي فقال لي تعرف الفضوليات المنتقبات يعني أنت فضولي فأخجلني وذكر ذلك أيضا أبو جعفر العكبري في الأدب له فصل
في طبقات القاضي أبي الحسين زهير بن أبي زهير نقل عن إمامنا أشياء منها قال قلت لأحمد إن فلانا يعني أبا يوسف ربما سعى في الأمور مثل المصانع والمساجد والآبار فقال لي أحمد لا لا نفسه أولى به وكره أن يبذل الرجل وجهه ونفسه لهذا وذكره أيضا الخلال وأبو يوسف هو الغسولي
وقال مهنا سمعت بشر بن الحارث وذكر له رجل يسأل الناس فقال بشر من يقتدي به في هذا فقال مالك بن دينار فقال له بشر أريد أرفع من مالك بن دينار فسمعت بشرا يقول له لا تفعل ولا تطلب من صاحب دنيا حاجة دعه حتى يكون هو يطلب إليك
وكان المتوكل على الله يبعث يحيى بن خاقان إلى الإمام أحمد كثيرا ويسأله عن أشياء قال المروذي وقال لي أبو عبد الله قد جاءني يحيى بن خاقان ومعه شوى فجعل يقلله أبو عبد الله فقلت له قالوا إنها ألف دينار قال هكذا فرددتها عليه فبلغ الباب ثم رجع فقال إن جاءك لأحد من أصحابك شيء تقبله قلت لا قال إنما أريد ان أخبر الخليفة بهذا قلت لأبي عبد الله أي شيء كان عليك لو أخذتها فقسمتها فكلح في وجهه وقال إذا أنا قسمتها أي شيء كنت أريد أن أكون له قهرمانا
____________________
(2/164)
وقال أبو طالب لأبي عبد الله رجل جاءني ومعه دراهم فقال لي خذ هذه الدراهم فتصدق بها في جيرانك فأبيت فلم يزل يطلب إلي فأبيت فقال لا يحل لك ولا يسعك أن تمنع المساكين والفقراء فلم آخذها أكون قد أثمت إذا رددتها قال لم تأثم من يسلم من هذا قد أحسنت لو أخذتها لم تسلم وروى يعقوب عنه إن لم يتعرض له كان أسلم له
وروى الخلال عن أبي الدرداء قال ما أحب أن معاوية بعث إلي ثلاثة آلاف دينار فأتصدق بها فقيل له أولم تؤجر ولا ترد شيئا فقال إني أخاف وساوس نفسي وعواذل قومي فيحبط ذلك أجري والسلامة أحب إلي
وقال الخلال في الأخلاق حدثنا إبراهيم بن جعفر بن حاتم حدثني محمد بن الحسين بن الجنيد عن هارون بن سفيان المستملي قال جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد أن يفرق الدراهم التي جاءته من المتوكل قال فأعطاني مئتي درهم فقلت لا تكفيني قال ليس ها هنا غيرها ولكن هو ذا أعمل بك شيئا أعطيك ثلاث مئة تفرقها قال فلما أخذتها قلت يا أبا عبد الله ليس والله أعطي أحدا منها شيئا فتبسم
وقال صالح لأبيه ما تقول في امرأة مسكينة تكون معي في داري فربما أتوني بشيء للمساكين فأعطيها منه إذا قسمت فقال لا تحابها وأعطها كما تعطي غيرها فصل في الاشتغال بالمذاكرة عن النوافل وفضل أهل السنة والأصدقاء
قال عبد الله بن أحمد لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي فكان كثير المذاكرة له فسمعت أبي يوما يقول ما صليت غير الفرائض استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على
____________________
(2/165)
نوافلي
وروى الخلال في أخلاق أحمد أن إسحاق قال كنا عند عبد الرزاق أنا وأحمد بن حنبل قال فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد قال فلم يكبر عبد الرزاق ولا أنا ولا أحمد بن حنبل قال فقال لنا رأيت معمرا والثوري في هذا اليوم كبرا فكبرت ورأيتكما لا تكبران فلم أكبر أو قال ورأيتكما لا تكبران فهبت قال عبد الرزاق فلم لم تكبرا قال فقلنا نحن نرى التكبير ولكن شغلنا بأي شيء نبتدئ من الكتب
وقال صالح بن موسى أبو الوجيه سمعت أبا عبد الله يقول ومن يفلت من التصحيف لا يفلت أحد منه
وقال الخلال أخبرنا طالب بن حرة الأذني قال حضرت أحمد بن حنبل فقال علامة المريد قطيعة كل خليط لا يريد ما تريد
وفي طبقات القاضي أبي الحسين أخبرنا محمد بن أبي الصقر حدثنا هبة الله الشيرازي حدثنا علي بن محمد بن طلحة أنبأنا سليمان الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا أبي قال قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة وقبور أهل البدع من الزنادقة حفرة فساق أهل السنة أولياء الله وزهاد أهل البدعة أعداء الله وقال عبد الله بن أحمد سئل أبي لم لا تصحب الناس قال لوحشة
____________________
(2/166)
الفراق وروى ابن بطة عن محمد بن الحنفية قال وحشة الانفراد أبقى للغر من مؤانسة اللقاء
وقال عبد الله بن جعفر سمعت أحمد بن حنبل يقول وسئل عن الرجل يكتب الحديث فيكثر قال ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب ثم قال سبيل العلم مثل سبيل المال إن المال إذا زاد زادت زكاته
وفي طبقات القاضي أبي الحسين وأنبأنا يوسف بن محمد المهرواني حدثنا عبد الواحد بن عبد العزيز سمعت المطيع الخليفة على المنبر يقول في يوم عيد سمعت شيخي عبد الله البغوي يقول سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول إذا مات أصدقاء الرجل ذل
وقال عبد الله حدثني أبي حدثنا سفيان بن عيينة قال قال لي أيوب إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني فكأنما سقط عضو من أعضائي فصل في قضاء الحوائج والشفاعة فيها لدى الأئمة والسلاطين
قد سبق في الاستئذان كلام يتعلق بقضاء الحوائج والمساعدة عليها وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن بن سهل علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة وفي لفظ ونحن نرى أن كتب الشفاعات زكاة مروءاتنا ثم أنشأ يقول
( فرضت علي زكاة ما ملكت يدي % وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا )
( فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع % فاجهد بوسعك كله أن تنفعا )
وقال القاضي المعافى بن زكريا ولله در القائل
( وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة % من جاهه فكأنما من ماله )
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن ماجه من حديث موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف عن جمهان عن أبي هريرة مرفوعا لكل شيء زكاة وزكاة
____________________
(2/167)
الجسد الصوم (1) وقال بعضهم
( وإذا السعادة أحرستك عيونها % نم فالمخاوف كلهن أمان )
( واصطد بها العنقاء فهي حبائل % واقتد بها الجوزاء فهي عنان )
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء رواه البخاري ومسلم + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد + وفي لفظة تؤجروا رواه أحمد ولأبي داود اشفعوا إلي لتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء
وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشفعوا تؤجروا رواه النسائي عن هارون بن سعيد الأيلي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن معاوية إسناد جيد + أخرجه النسائي +
وقال ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال استعينوا على حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود + ضعيف أخرجه ابن حبان والسهمي +
____________________
1- أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجه وضعفه البوصيري
(2/168)
وقال محمد بن واسع لقتيبة بن مسلم إني أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك فإن يأذن الله فيها قضيتها وحمدناك وإن لم يأذن الله فيها لم تقضها وعذرناك وقال يونس
( أنزلت بالحر إبراهيم مسألة % أنزلتها قبل إبراهيم بالله )
( فإن قضى حاجتي فالله يسرها % هو المقدرها والآمر الناهي )
( إذا أبى الله شيئا ضاق مذهبه % عن الكبير العريض القدر والجاه )
قال أبو العتاهية
( خير المذاهب في الحاجات أنجحها % وأضيق الأمر أدناه إلى الفرج )
وكتب سوار بن عبد الله بن سوار القاضي إلى محمد بن عبد الله بن طاهر
( لنا حاجة والعذر فيها مقدم % خفيف ومعناها مضاعفة الأجر )
( فإن تقضها فالحمد لله ربنا % وإن تكن الأخرى ففي واسع العذر )
( على أنه الرحمن معط ومانع % وللرزق أسباب إلى قدر يجري )
فأجابه محمد بن طاهر
( فسلها تجدني موجبا لقضائها % سريعا إليها لا يخاطبني فكر )
( شكور بإفضالي عليك بمثلها % وإن لم يكن فيما حوته يدي شكر )
( فهذا قليل للذي قد رأيته % لحقك لا من لدي ولا ذخر )
وقال جعفر بن محمد حاجة الرجل إلى أخيه فتنة لهما إن أعطاه شكر من لم يعطه وإن منعه ذم من لم يمنعه وقال خالد بن صفوان لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها ولا تطلبوها في غير حينها ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان
وقال رجل للعباس بن محمد أو لعبد الله بن العباس أتيتك في حاجة صغيرة
____________________
(2/169)
قال فاطلب لها رجلا صغيرا
وقيل لأخر أتيتك في حاجة صغيرة قال اذكرها فإن الحر يقوم بصغير الحاجات وكبيرها كان يقال لا تستعن على حاجة بمن هي طعمته ولا تستعن بكذاب فإنه يقرب البعيد ويباعد القريب ولا تستعن على رجل بمن له إليه حاجة
وقال بعضهم أصل العبادة أن لا تسأل سوى الله حاجة فلكل أحد في الله عوض من كل أحد وليس لأحد من الله عوض بأحد وقال أبو الأسود
( وإذا طلبت إلى كريم حاجة % فلقاؤه يكفيك والتسليم )
( وإذا طلبت إلى لئيم حاجة % فألح في رفق وأنت مديم )
وقال آخر
( لا تطلبن إلى لئيم حاجة % واقعد فإنك قائم كالقاعد )
( يا خادع البخلاء عن أموالهم % هيهات تضرب في حديد بارد )
وقال أبو العتاهية
( اقض الحوائج ما استطعت % وكن لهم أخيك فارج )
( فلخير أيام الفتى % يوم قضى فيه الحوائج )
وقال بعضهم قالوا من صبر على حاجته ظفر بها ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له وقال علي بن أبي طالب
( اصبر على مضض الإدلاج في السحر % وفي الرواح إلى الحاجات والبكر )
( لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها % فالنجح يتلف بين العجز والقصر )
( إني رأيت وفي الأيام تجربة % للصبر عاقبة محمودة الأثر )
( وقل من جد في شيء تطلبه % واستشعر الصبر إلا فاز بالظفر )
وقال سفيان الإلحاح لا يصلح ولا يجمل إلا على الله عز وجل وقال مورق العجلي سألت ربي حاجة عشرين سنة فما انقضت لي ولا يئست منها وقال أبو
____________________
(2/170)
العتاهية
( في الناس من تسهل المطالب أحيانا % عليه وربما صعبت )
( ما كل ذي حاجة بمدركها % كم من يد لا تنال ما طلبت )
( من لم يسعه الكفاف معتدلا % ضاقت عليه الدنا بما رحبت )
وقال بعضهم استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل فذلك نجح لكم
وقال آخر
( من عف خف على الصديق لقاؤه % وأخو الحوائج وجهه مملول )
وكتب أبو العتاهية إلى بعض أصحابه يعاتبه فقال
( لئن عدت بعد اليوم إني لظالم % سأصرف نفسي حين تبغى المكارم )
( متى ينجح الغادي إليك بحاجة % ونصفك محجوب ونصفك نائم )
وسئل بعض الحكماء حاجة فامتنع فعوتب في ذلك فقال لأن يحمر وجهي مرة خير من أن يصفر مرارا وقال منصور الفقيه
( من قال لا في حاجة % مطلوبة فما ظلم )
( وإنما الظالم من % يقول لا بعد نعم )
وقال آخر
( إن لا بعد نعم فاحشة % فبلا فابدأ إذا خفت الندم )
( وإذا قلت نعم فاصبر لها % بنجاز الوعد إن الخلف ذم )
وسبق ما يتعلق بهذا في الاستئذان وقبله في فصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإنكار على ولاة الأمور
وفي ترجمة عبد الله بن عثمان عبدان شيخ البخاري أنه قال ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي فإن تم وإلا قمت له بمالي فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان
____________________
(2/171)
وينبغي أن لا يندم من ردت شفاعته ولا ينادي على من لم يقبلها ويفتح باب العذر وسيد الخلائق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم حقا وأولى بكل مؤمن من نفسه بإجماع العلماء
وقد روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان زوج بريرة عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعتيه فإنه أبو ولدك قالت يا رسول الله تأمرني قال لا إنما أشفع قالت فلا حاجة لي فيه (1) والناس في هذا الأمر ورد شفاعتهم وعدم قبولها متفاوتون جدا كما هو معلوم من أحوالهم والله أعلم
قال ابن الجوزي رحمه الله كان هارون الرقي قد عاهد الله أن لا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل فجاءه رجل فأخبره أن ابنه قد أسر بالروم وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه فقال له ويحك ومن أين يعرفني وإذا سأل عني قيل هو مسلم فكيف يقضي حقي فقال له السائل اذكر العهد مع الله تعالى فكتب له إلى ملك الروم فلما قرأ الكتاب قال من هذا الذي قد شفع إلينا قيل هذا قد عاهد الله لا يسأل كتاب شفاعة إلا كتبه إلى أي من كان فقال ملك الروم هذا حقيق بالإسعاف أطلقوا أسيره واكتبوا جواب كتابه وقولوا له اكتب بكل حاجة تعرض فإنا نشفعك فيها ويأتي الكلام في الكرم والبخل
وقال الإمام أحمد حدثني الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم + حديث حسن أخرجه ابن أبي يعلى + ذكره الحافظ بن الأخضر فيمن روى عن أحمد في ترجمة أحمد بن محمد
____________________
1- أخرجه البخاري وابن ماجه
(2/172)
ابن نصر اللباد أبي نصر رواه عن أحمد فصل
قال أبو بكر محمد بن عبيد الله الخلال المذكور عن أحمد إذا سألتم الله حاجة فقولوا في عافية
قال سليمان القصير قلت لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله أيش تقول في رجل ليس عنده شيء وله قرابة ولهم وليمة ترى أن يستقرض ويهدي لهم قال نعم رواه الخلال فصل في كراهة الشكوى من المرض والضير واستحباب حمد الله قبل ذكرهما
قال القاضي أبو الحسين في الطبقات (1) في ترجمة أبي الفضل عبد الرحمن المتطبب وقال أبو العباس محمد بن أحمد بن الصلت سمعت عبد الرحمن المتطبب يعرف بطبيب السنة يقول دخلت على أحمد بن حنبل أعوده فقلت كيف تجدك فقال أنا بعين الله ثم دخلت على بشر بن الحارث فقلت كيف تجدك قال أحمد الله إليك أجد كذا أجد كذا فقلت أما تخشى أن يكون هذا شكوى فقال حدثنا المعافي بن عمران عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا سمعنا عبد الله بن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك فدخلت على أحمد بن حنبل فحدثته فكان إذا سألته قال أحمد الله إليك أجد كذا أجد كذا
قال الخلال في عبد الرحمن هذا كان يأنس به أحمد وبشر بن الحارث ويختلف إليهما وأظن أن أبا الحسين نقل هذا من كتاب الخلال وهذا الخبر السابق متفق عليه
____________________
1- وفي إسناده من لا يعرف
(2/173)
وقال الشيخ مجد الدين في شرح الهداية ولا بأس أن يخبر بما يجده من ألم ووجع لغرض صحيح لا لقصد الشكوى واحتج أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت وارأساه قال بل أنا وارأساه (1)
واحتج ابن المبارك بقول ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم إنك لتوعك وعكا شديدا فقال أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم متفق عليه + أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان +
وقال ابن عقيل في الفنون قوله تعالى ( ^ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) الكهف 62 يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند مساس البلوى ونظيره ( ^ يا أسفى على ) يوسف 84 ( ^ مسني الضر ) الأنبياء 83 ما زالت أكلة خيبر تعاودني + أخرجه أبو داود والدارمي وهو مرسل + انتهى كلام ابن عقيل
وقال رجل للإمام أحمد كيف تجدك يا أبا عبد الله قال بخير في عافية فقال حممت البارحة قال إذا قلت لك أنا في عافية فحسبك لا تخرجني إلى ما أكره قال ابن الجوزي إذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها فكتمانها من أعمال الله الخفية
وقال ابن الجوزي في موضع آخر شكوى المريض مخرجة من التوكل وقد كانوا يكرهون أنين المريض لأنه يترجم عن الشكوى وذكر هذا النص عن أحمد وقال فأما وصف المريض للطبيب ما يجده فإنه لا يضره انتهى كلامه
وقال عبد الله إن أخت بشر بن الحارث قالت للإمام أحمد يا أبا عبد الله أنين المريض شكوى قال أرجو أنه لا يكون شكوى ولكنه اشتكى إلى الله وذكر غير واحد في كراهة الأنين للمريض روايتين ورويت الكراهة عن طاووس
وذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما ذكر غيره من أن الصبر واجب قال والصبر لا تنافيه الشكوى وقال في مسألة العبودية والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى
____________________
1- أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان
(2/174)
المخلوق ثم حكي عن أحمد تركه الأنين لما حكي له عن طاووس كراهته ثم قال أما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل وقال ابن الجوزي في قوله تعالى ( ^ يا أسفى على يوسف ) يوسف 84 فإن قيل هذا لفظ الشكوى فأين الصبر فالجواب من وجهين أحدهما أنه شكا إلى الله لا منه
والثاني أنه أراد به الدعاء فالمعنى يا رب أرحم أسفي على يوسف وقال قال ابن الأنباري والحزن ونفور النفوس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشك من ربه فلما كان قوله يا أسفا شكوى إلى ربه كان غير ملوم فصل في شكر النعم والصبر على البلاء وفوائده في الالتجاء إلى الله
قال ابن عقيل في الفنون النعم أضياف وقراها الشكر والبلايا أضياف وقراها الصبر فاجتهد أن ترحل الأضياف شاكرة حسن القرى شاهدة بما تسمع وترى وقال من حسن ظني به أنه بلغ من لطفه أن وصى ولدي إذا كبرت فقال ( ^ فلا تقل لهما أف ) الإسراء 23 فأرجو إذا صرت عنده رميما أن لا يعسف لأن أفعاله تشاكل أقواله
وقال الشيخ تقي الدين من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدا سواه فتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو الضر وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين أعظم من أن يعبر عنه مقال ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه ولهذا
____________________
(2/175)
قيل يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك وقال بعض الشيوخ إنه ليكون لي إلى الله حاجة فادعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي أن ينصرف عني ذلك لأن النفس لا تريد إلا حظها وقد قال صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا (1)
وقال أيضا وجد طعم الإيمان فوجود المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه وذوق طعمه أمر يعرفه من حصل له هذا الوجه وهذا الذوق فالذي يحصل لأهل الإيمان عند تجريد التوحيد يجذب قلوبهم إلى الله وإقبالهم عليه دون ما سواه بحيث يكونون حنفاء لله مخلصين له الدين إلى أن قال وهذا هو حقيقة الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه والله أعلم فصل في الصبر والصابرين وفوائد المصائب والشدائد
قال الله تعالى
( ^ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) البقرة 155 157
وقال تعالى
( ^ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) آل عمران 200 إلى غير ذلك من الآيات
وصح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالصبر في أحاديث وروى أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول ( ^ إنا لله وإنا إليه راجعون ) اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته
____________________
1- أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان
(2/176)
وأخلف له خيرا منها (1)
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود + وخير مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خير وروي خيرا
وقال صلى الله عليه وسلم واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا + قطعة من حديث صحيح أخرجه أحمد +
فإذا علم العبد أنه وما يملكه لله سبحانه حقيقة لأنه أوجده من عدم ويعدمه أيضا ويحفظه في حال وجوده ولا يتصرف فيه العبد إلا بما يتاح له وأن مرجعه إلى الله ولا بد فردا كما قال تعالى ( ^ ويأتينا فردا ) مريم 80 وقوله ( ^ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الأنعام 94
وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كما قاله صلى الله عليه وسلم وكما قال تعالى ( ^ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) الحديد 22 23
وأن الله لو شاء جعل مصيبته أعظم مما هي وأنه إن صبر أخلف الله عليه أعظم من فوات مصيبته وأن المصيبة لا تختص به فيتأسى بأهل المصائب ومصيبة بعضها أعظم وأن سرور الدنيا مع قلته وانقطاعه منغص
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/177)
وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لكل فرحة ترحة وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا
وقال ابن سيرين رحمه الله ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء وقد شاهد الناس من تغير الدنيا بأهلها في أسرع ما يكون العجائب
وقالت هند بنت النعمان بن المنذر لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكا ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن من أقل الناس وإنه حق على الله أن لا يملأ دارا حبرة ألا ملأها عبرة
وبكت أختها حرقة بنت النعمان يوما وهي في عزها فقيل ما يبكيك لعل أحدا آذاك قالت لا ولكن رأيت غضارة في أهلي وقلما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا والغضارة طيب العيش تقول بنو فلان مغضورون وقد غضرهم الله وإنهم لفي غضارة من العيش وفي غضراء من العيش أي في خصب وخير قال الأصمعي لا يقال أباد الله خضراءهم ولكن أباد الله غضراءهم أي هلك خيرهم وغضارتهم
وقالت حرقة أيضا ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس إنا نجد في الكتب إنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلا سيعقبون بعدها عبرة وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ثم قالت
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا % إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها % تقلب تارات بنا وتصرف )
تنصف أي خدم
وعلم العبد أن الجزع لا يرد المصيبة بل هو مرض يزيدها وأنه يسر عدوه ويسيء محبه وإن فوات ثوابها بالجزع أعظم منها ومنه بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده واسترجاعه
وفي البخاري عن أبي هريرة مرفوعا يقول الله تعالى ما لعبدي المؤمن عندي
____________________
(2/178)
جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة (1)
وفي الترمذي وقال غريب عن جابر مرفوعا يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء + أخرجه الترمذي وفي الباب عن ابن عباس عند الطبراني وفي سنده أكثر من ضعيف +
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه + أخرجه البخاري ومسلم +
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وليس عليه خطيئة
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة + أخرجه من حديث سعد الترمذي وقال حديث حسن صحيح + صححهما الترمذي وروى الثاني مالك وأحمد ورويا أيضا والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا من يرد
____________________
1- أخرجه البخاري وأحمد
(2/179)
الله به خيرا يصب منه (1)
وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن رواه مسلم + أخرجه مسلم وابن حبان +
ولأحمد عن أنس مرفوعا عجبت للمؤمن إن الله تبارك وتعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له + أخرجه أحمد والقضاعي وصححه ابن حبان +
وعن أبي سعيد مرفوعا أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء مختصر من ابن ماجه + أخرجه ابن ماجه وسنده حسن وصححه البوصيري +
وعن شداد مرفوعا يقول الله عز وجل إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا رواه أحمد + أخرجه أحمد وسنده حسن +
وعن محمد بن إسحاق عن رجل من أهل الشام يقال له منظور عن عمه عامر مرفوعا إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه رواه أبو داود + أخرجه أبو داود وفي سنده من لا يعرف +
ولمسلم من حديث عائشة ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة + أخرجه البخاري ومسلم + وما كفى أن فات حتى عصى بذلك لأنه أسخط ربه وفوات لذة عاقبة الصبر واحتسابه أعظم مما أصيب به لو بقي وعلم أن في الله خلفا
____________________
1- أخرجه البخاري ومالك وأحمد وابن حبان
(2/180)
ودركا فرجا الخلف منه
وقد روى الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي سمعوا قائلا يقول إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب وعلم العبد أن حظه من المصيبة ما يحدثه من خير وشر (1)
وعن محمود بن لبيد مرفوعا إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط + أخرجه الترمذي وأخرجه أحمد وأخرجه الترمذي وحسنه + إسناده جيد وهو إسناد حديث إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا + أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان + ولذاك إسناد آخر قال البخاري وغيره في محمود له صحبة وقال أبو حاتم وغيره لا صحبة له رواه الترمذي وأحمد وزاد ومن جزع فله الجزع
وعن أنس مرفوعا إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط
وعنه أيضا إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه حتى يوافي ربه يوم القيامة رواهما الترمذي + أخرجه الترمذي وهو حسن + وقال حسن غريب وروى ابن ماجه الأول وروى أحمد الثاني من حديث عبد الله بن مغفل وعلم أن آخر أمره الصبر وهو مثاب
وفي الصحيحين من حديث أنس إنما الصبر عند الصدمة الأولى + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
وقال الأشعث بن قيس إنك إن صبرت إيمانا واحتسابا وإلا سلوت سلو
____________________
1- أخرجه البيهقي وسنده ضعيف
(2/181)
البهائم وعلم أن الذي ابتلاه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ليمتحن صبره ويسمع تضرعه ويخوفه قال تعالى
( ^ ولقد آخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) المؤمنون 76
وقال تعالى ( ^ وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون ) الزخرف 48
قال الشيخ عبد القادر يا بني المصيبة ما جاءت لتهلك وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك يا بني القدر سبع والسبع لا يأكل الميتة فالمصيبة كير العبد فإما أن يخرج ذهبا أو خبثا كما قيل
( سبكناه ونحسبه لجينا % فأبدى الكير عن خبث الحديد )
اللجين الفضة جاء مصغرا مثل الثريا وكميت
وعلم أنه لولا المصائب لبطر العبد وبغى وطغى فيحميه بها من ذلك ويطهره مما فيه فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه كما قيل
( قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت % ويبتلي الله بعض القوم بالنعم )
وعلم أن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس ولهذا قال صلى الله عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (1)
وقال حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات (1) ومعلوم أن العاقل من احتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد وذل ساعة لعز الأبد هذا من لطف الله به حتى نظر في العواقب والغايات والناس إلا من عصم الله آثروا العاجل لمشاهدته وضعف الإيمان
وعلم أنه يحب ربه وأن المحب إن أسخطه فهو كاذب في محبته ولهذا كان عمران بن حصين رضي الله عنه يقول في مرضه أحبه إلي أحبه إليه وكذا أبو
____________________
1- أخرجه مسلم والترمذي وابن حبان
(2/182)
العالية وقال أبو الدرداء رضي الله عنه إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به
وعلم أن مراتب الكمال منوطة بالصبر والعكس بالعكس وأقل الأحوال أن لا يتهم ربه في قضائه له كما روى أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول سمعت عبادة بن الصامت يقول إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أي العمل أفضل قال الإيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله قال أريد أهون من ذلك يا رسول الله قال السماحة والصبر قال أريد أهون من ذلك يا رسول الله قال لا تتهم الله في شيء قضي لك (1) ابن لهيعة فيه كلام مشهور
وعن محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده مرفوعا إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها ابتلاه الله تعالى في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل رواه أحمد وأبو داود + أخرجه أحمد وأبو داود وسنده حسن +
وعن شيخ من بني مرة عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى مرفوعا لا يصيب المؤمن نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر رواه الترمذي وقال غريب + أخرجه الترمذي وقال حديث غريب أي ضعيف +
فإذا علم العبد هذه الأمور ونظر فيها وتاملها صبر واحتسب وحصل له من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه والناس في هذا متفاوتون كغيره من الأمور وسيأتي آخر فصول التداوي فصل في داء العشق له مناسبة وتعلق بهذا والله أعلم وليس بجيد ما أنشده محمد بن داود الظاهري لنفسه
____________________
1- أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
(2/183)
( يقولون لي في الصبر روح وراحة % ولا عهد لي بالصبر مذ خلق الحب )
( ولا شك أن الصبر كالصبر طعمه % وأن سبيل الصبر ممتنع صعب )
وقد قال أبو الفرج بن الجوزي في كتابه السر المصون اعلم أن من طلب أفعاله من حيث العقل المجرد فلم يجد يعترض وهذه حالة قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال أولهم إبليس فإنه نظر بمجرد عقله فقال كيف يفضل الطين على جوهر النار وفي ضمن اعتراضه أن حكمتك قاصرة وأن رأيي أجود فلو لقيت أنا إبليس كنت أقول له حدثني عن فهمك هذا الذي رفعت به أمر النار على الطين أهو وهبه لك أم حصل لك من غير موهبته فإنه سيقول وهبه لي فأقول أفيهب لك كمال الفهم الذي لا تدركه حكمته فترى أنت الصواب ويرى هو الخطأ وتبع إبليس في تغفيله واعتراضه خلق كثير مثل ابن الراوندي والمعري ومن قوله
( إذا كان لا يحظى برزقك عاقل % وترزق مجنونا وترزق أحمقا )
( فلا ذنب يا رب السماء على امرئ % رأي منك ما لا يشتهي فتزندقا )
وكان أبو علي بن مقلة يقول
( أيا رب تخلق أقمار ليل % وأغصان بان وكثبان رمل )
( وتبدع في كل طرف بسحر % وفي كل قد رشيق بشكل )
وتنهى عبادك أن يعشقوا % أبا حاكم العدل ذا حكم عدل )
وكان أبو طالب المكي يقول ليس على المخلوق أضر من الخالق قال ابن الجوزي دخلت على صدقة بن الحسين الحداد وكان فقيها غير أنه كان كثير الاعتراض وكان عليه جرب فقال هذا ينبغي أن يكون على جمل لا علي
وكان يتفقده بعض الأكابر بمأكول فيقول بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر آكله وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة كثير الصلاة والصوم فمرض واشتد به المرض فقال لي إن كان يريد أن أموت فيميتني فأما هذا التعذيب فما له معنى والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورا
____________________
(2/184)
ورأيت آخر يتزيى بالعلم إذا ضاق عليه رزقه يقول أيش هذا التدبير وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا وربما قالوا ما نريد نصلي وإذا رأوا رجلا صالحا يؤذى قالوا ما يستحق قد جافى القدر وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة فقال بعض من يتزيى بالدين هذا حكم بارد وما فهم ذاك الأحمق أن الله يملي للظالم
وفي الحمقى من يقول أي فائدة في خلق الحيات والعقارب وما علم أن ذلك أنموذج لعقوبة المخالف وبلغني عن بعض من يتزيى بالعلم أنه قال اشتهيت أن يجعلني وزيرا فأدبر وهذا أمر قد شاع فلهذا مددت النفس فيه
واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا وعلا على الخالق بالتحكم عليه وهؤلاء كلهم كفرة لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة وإذا كان توقف القلب عن الرضا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن الإيمان قال تعالى ( ^ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) النساء 65 فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على الله تعالى
وكان في زمن ابن عقيل رجل رأي بهيمة على غاية من السقم فقال وا رحمتي لك وا قلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك فقال له ابن عقيل إن لم تقدر على حمل هذا الأمر لأجل رقتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية فعندك عقل تعرف به تحكم الصانع وحكمته توجب عليك التأويل فإن لم تجد استطرحت لفاطر العقل حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك واعلم أن رضا العقل بأفعال الخالق سبحانه وتعالى أوفى العبادات وأشدها وأصعبها ثم ذكر كلام ابن عقيل وفيه وقد نبهنا على العجز عن ملاحظة العواقب فقال تعالى ( ^ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) البقرة 216
ففي عقولنا قوة التسليم وليس فيها قدرة الاعتراض عليه وقد يدعو الإنسان فلا يجاب فيندم وهو يدعى إلى الطاعة فيتوقف فالعجب من عبيد يقتضون الموالي اقتضاء الغريم ولا يقتضون أنفسهم بحقوق الموالي
____________________
(2/185)
قال ابن الجوزي ومن تأمل دقائق حكمته ومحاسن صفاته أخرجه حبه إلى الهيمان فيه فإن المعاني المستحسنة تحب أكثر من الصور ولهذا نحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم لمعانيهم لا لصورهم فكيف لا تقع المحبة المختصة بالكامل المنزه عن نقص فوا أسفا للغافلين عنه وواحسرتا للجاهلين به وقال ابن الجوزي قبل ذلك من نظر إلى أفعاله بمجرد العقل أنكر فأما من علم أنه مالك وحكيم وأن حكمته قد تخفى سلم لما لم يعلم علته فأفعاله مسلمة إلى حكمته
وقد قال بعض الحكماء من لم يحترز بعقله من عقله هلك بعقله وهذا كلام في غاية الحسن فإنا إذا قلنا للعقل هو حكيم قال لا شك في ذلك لأني قد رأيت عجائب أفعاله المحكمة فعلمت أنه حكيم فإذا رأيت فيما يصدر ما ظاهره ينافي الحكمة نسبت العجز إلي ولو لم يكن في ذلك إلا أن المراد تسليم العقول لما ينافيها وذلك عبادة العقول قال وصار هذا كما خفي عن موسى حكمة فعل الخضر وقد يخفى على العامي ما يفعله الملك فقد قال المتنبي
( يدق عن الأفكار ما أنت فاعل % )
وقال ابن عقيل في الفنون الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة ودورا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال انظر إلى ما أعطاهم مع سوء فعالهم ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم ويشفق حتى يقول فلان يصلي الجماعات والجمع ولا يذوق قطرة خمر ولا يؤذي الذر ولا يأخذ ما ليس له ويؤدي الزكاة إذا كان له مال ويحج ويجاهد ولا ينال خلة بقلة ويظهر الإعجاب كأنه ينطق عن تخايله أنه لو كانت الشرائع حقا لكان بخلاف ما نرى وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا ما ذاك إلا لأنه لحظ أن الله أعطى هذا أموال الأيتام والوقوف بأن يأكل الربا ويفاسد العقود وهذا افتئات وتجوز ونسخط في غير موضعه فإن لله كتابا قد ملأه بالنهي وحرمان أخذ المال الحرام وأكله بغير حق فلو كان منصفا لقال له تدبر هذا كتاب الله مملوء بالنهي والوعيد فصار الفريقان ملعونين هذا بكفره
____________________
(2/186)
وهذا بارتكاب النهي
ومن الفساد في هذا الاعتقاد أنه لا يبقى في العقل ثقة إلى دلالة قامت على شريعة أو حكم فإن ينبوع الثقة ومصدرها إنما هو من قبيل أنه سبحانه لا يؤيد غير الصادق ولا يلبس الحق بالباطل فإذا لم تستقر هذه القاعدة فلا ثقة
وقال أيضا إذا تأمل المتدين أفعال الخلق في مقابلة إنعام الحق استكثر لهم شم الهواء واستقل لهم من الله سبحانه أكثر البلاء إذا رأى هذه الدار المزخرفة بأنواع الزخاريف المعدة لجميع التصاريف واصطباغا وأشربة وأدوية وأقواتا وإداما وفاكهة إلى غير ذلك من العقاقير ثم إرخاء السحاب بالغيوث في زمن الحاجات ثم تطييب الأمزجة وإحياء النبات وخلق هذه الأبنية على أحسن إتقان وتسخير الرياح والنسيم المعد للأنفاس إلى غير ذلك من النعم ثم نعمة العقل والذهن ثم سائر الآيات الدالة على الصانع ثم إنزال الكتب التي تحث على الطاعات وتردع عن المخالفة ثم اللطف بالمكلف وإباحة الشرك مع الإكراه وأمر بالجمعة فضايقوه في ساعة السعي بنفس ما نهى عنه من البيع في أبواب العبادات وعظموا كل ما هونه وارتكبوا كل ما هوله حتى استخفوا بحرمة كتابه فأنا استقل لهم كل محنة
وقال أيضا لا تتم الرجلة في العبد حتى يكون في مقام اختلال أحواله وإشتطاط أخلاطه وأفراحه وتسلط أعدائه ثابتا بثبوت المتلقي والمتوقي فيتلقى النعم بالشكر لا بالبطر متماسكا عن تحرك الرعن وعند المصائب مستسلما ناظرا إلى المبتلي بعين الكمال وعند اشتطاط الغضب متلقيا بالحكم وعند الشهوات مستحضرا للوعد والوعيد فسبحان من كمن جواهر الرجال في هذه الأجساد ثم أظهرها بابتلائه ليعطي عليها جزيل ثوابه ويجعلها حجة على بقية عباده
وقال زنوا أنفسكم من المبادي ماء وطين وفي الثواني ماء مهين وفي الوسط عبيد محاويج لو حبس عنكم نسيم الهواء لأصبحتم جيفا ولو مكنت منكم البقوق فضلا عن السباع لأكلتكم كونوا متعرفين لا عارفين
وقال لنا عندك ذخائر
____________________
(2/187)
وودائع بالله لا تضعها في الترهات ودموع ودماء ونفوس بالله لا تجري الدموع إلا على ما فات ويفوت ولا ترق الدماء إلا في مكافحة الأعداء وإعلاء كلمتنا وأنفاس من نفائس الذخائر فبحقنا لا تتنفس الصعداء إلا في الشوق إلينا والتأسف علينا كم نخلع عليك خلعة نفيسة تبذلها في الأقذار وتخلقها في خدمة الأغيار اشتغلت بالصور شغل الأطفال باللعب فاتتك أوقات لا تتلافى إلى أن قال فإن كسرنا عليك لعبة مثل أن نسلبك ولدا منحناه أخذت تضيع الدموع وتخرق الجيوب واأسفا على أوقات فاتت أما رأيت المتداركين هذا يقول هلكت وأهلكت وهذا يقول زنيت فطهرني زاهدا في مصاحبة نفس خائنة فيما عاهدت وصاحب الشرع يقيم لها التأويل ويقول لعلك قبلت وذاك مصر على التشفي من النفس المخالفة للحق أتراه سلط هذه البلاوي إلا ليظهر هذه الجواهر في الصبر عليه والغيرة ترى لو دام الخليل والذبيح في كتم العزم كان وجد لأحد قدم إلى أن قال فصار الولد كالشاة المعدة للذبح أخجل والله هذا الجوهر الذي أظهره الامتحان ملائكة الرحمن ( ^ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) البقرة 30
أين التسبيح من عزم الذابح وبذل الذبيح لقد تركت هذه المكارم رؤوس الكل منكسة خجلا ببخلهم شاة من أربعين ونصف دينار من عشرين وتعجب من قول الدبوسي الحنفي إن الدنيا دار جزاء لحق الآدمي فأما لحقه فيتأخر إلى الآخرة وإن هذا خلاف العقل والشرع انتهى كلامه
قال تعالى ( ^ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) النحل 61
وقال تعالى ( ^ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )
____________________
(2/188)
الشورى 30
وقيل لأبي سليمان الداراني ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساءهم قال إنهم علموا أن الله إنما ابتلاهم بذنوبهم وقرأ هذه الآية
ولابن ماجه والترمذي من حديث أنس كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (1)
ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا ما من أحد إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا + أخرجه أحمد وهو ضعيف +
وللترمذي وقال حسن صحيح عن ابن عباس ( ^ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) النجم 32 قال قال النبي صلى الله عليه وسلم
( إن تغفر اللهم تغفر جما % وأي عبد لك لا ألما + أخرجه الترمذي وإسناده صحيح + فصل في عيادة المريض
تستحب عيادة المريض قال بعض الأصحاب وتكره وسط النهار نص عليه وقال الأثرم قيل لأبي عبد الله فلان مريض وكان عند ارتفاع النهار في الصيف فقال ليس هذا وقت عيادة قال القاضي وظاهر هذا كراهية العيادة في ذلك الوقت انتهى كلام الأصحاب
____________________
1- أخرجه ابن ماجه والترمذي وأحمد والحاكم وسنده قابل للتحسين
(2/189)
والأولى أن يقال تستحب العيادة بكرة أو عشية لما فيه من تكثير صلاة الملائكة وقال المروذي عدت مع أبي عبد الله مريضا بالليل وكان في شهر رمضان ثم قال لي في شهر رمضان يعاد بالليل
وروى أبو داود عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن أم العلاء عمة حزام بن حكيم الأنصاري قالت عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة فقال أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد (1) حديث حسن وأنشد الشافعي رضي الله عنه
( مرض الحبيب فعدته % فمرضت من حذري عليه )
( فأتى الحبيب يعودني % فشفيت من نظري إليه ) فصل في التقاط ما يقع على الأرض
قال الحسن بن عبد الوهاب الوراق كان أبي إذا وقعت منه قطعة فأكثر لا يأخذها ولا يأمر أحدا أن يأخذها فقلت له يوما يا أبت الساعة سقطت منك هذه القطعة فلم لا تأخذها فقال رأيتها ولكني لا أعود نفسي أخذ شيء من الأرض كان لي أو لغيري وهذا رأي من عبد الوهاب رحمه الله والأولى أخذ ما يجب التقاطه لما فيه من حصول النفع له أو لغيره من غير ضرورة وكذا أخذ ما وقع منه بل ينهى عن تركه لما فيه من إضاعة المال فصل في أدب الصحبة واتقاء أسباب الملل والقطيعة
قال علي بن المديني قال لي أحمد بن حنبل إني لأحب أن أصحبك إلى مكة فما يمنعني من ذلك إلا أني أخاف أملك أو تملني فلما ودعته قلت يا أبا عبد الله توصيني بشيء قال نعم ألزم التقوى قلبك واجعل الآخرة أمامك
____________________
1- أخرجه أبو داود ورجاله إسناده ثقات
(2/190)
وروى الخلال في الأدب عن مكحول قال قلت للحسن إني أريد أن أخرج إلى مكة قال فلا تصحب رجلا يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه
وعن مجاهد قال قلت لصديق لي من قريش تعال أواضعك الرأي فانظر أين رأيي من رأيك فقال لي دع المودة على حالها قال فغلبني القرشي بعقله وعن طاووس أنه أقام على صاحب له مرض حتى فاته الحج
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول قد كنت وافقت يحيى ونحن بالكوفة فمرض قال فتركت سماعي ورجعت معه إلى بغداد قال فكان يحيى يشكر لي ذلك فصل في حسن الخلق
قال ابن منصور سألت أبا عبد الله عن حسن الخلق قال أن لا تغضب ولا تحتد قيل له المعاملة بين الناس في الشراء والبيع فلم ير ذلك قال إسحاق بن راهويه هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك ذكره الخلال
وروى البيهقي في مناقب الإمام أحمد عن إسحاق بن منصور أنه سأل أحمد بن حنبل عن حسن الخلق فقال هو أن يحتمل من الناس ما يكون إليه وروى الخلال عن سلام بن أبي مطيع في تفسير حسن الخلق فأنشد هذا البيت
( تراه إذا ما جئته متهللا % كأنك معطيه الذي أنت سائله )
وروي أيضا عن الفضيل أنه قال من ساء خلقه ساء دينه وحسبه ومودته وقال مهنا سألت أحمد عن رجل ظلمني وتعدى علي ووقع في شيء عند السلطان أعين عليه عند السلطان قال لا بل اشفع فيه إن قدرت قلت سرقني في المكيال والميزان أدس إليه من يوقفه على السرقة قال إن وقع في شيء فقدرت أن تشفع له فاشفع له انتهى كلامه
وروى غير واحد وإسناده ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا إنكم لن تسعوا
____________________
(2/191)
الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق (1)
وروى أبو حفص العكبري في الأدب له بإسناده عن عائشة مرفوعا إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم طلاقة الوجه وحسن البشر وفي حسن الخلق أحاديث كثيرة
ففي الصحيحين أو أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا + أخرجه البخاري ومسلم والترمذي + وفي بعض طرق للبخاري إن خياركم أحسنكم أخلاقا بإسقاط من + أخرجها البخاري في صحيحه +
وقال أبو داود حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهر حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه + أخرجه أبو داود وهو حديث حسن + أيوب تفرد عنه أبو الجماهر لكنه ثقة
وعن سلمة بن وردان عن أنس مرفوعا من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها ومن حسن خلقه بني له
____________________
1- أخرجه البزار والحاكم والبيهقي وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو متروك وأخرجه البزار من طريق آخر وفي سنده طلحة بن عمرو المكي وهو عضيف وروي من وجه آخر ضعيف عن عائشة
(2/192)
في أعلاها (1) سلمة ضعيف عندهم رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي وعن عائشة مرفوعا مثله رواهما أحمد ومسلم + رواه من حديث ابن مسعود أحمد وأبو يعلى والطيالسي وصححه ابن حبان ورواه من حديث عائشة أحمد وهو صحيح +
وصحح ابن حبان خبر ابن مسعود ورواه البيهقي في كتاب الدعوات وقال فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى وجهه في المرآة وذكره ورواه أبو بكر بن مردويه في كتاب الأدعية من حديث أبي هريرة وعائشة وفي آخره وحرم وجهي على النار
وقال الحسن والقرظي في قوله تعالى ( ^ وثيابك فطهر ) المدثر 4 أي وخلقك فحسن
وعن عائشة مرفوعا الشؤم سوء الخلق رواه أحمد + أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا وأبو نعيم وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف + والشؤم ضد اليمن يقال تشاءمت بالشيء وتيمنت به
وعن ابن مسعود مرفوعا حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس رواه أحمد والترمذي + أخرجه أحمد والترمذي وهو حديث حسن +
وقال البراء رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم
____________________
1- أخرجه الترمذي وابن ماجه وسلمة بن وردان ضعيف ومع ذلك حسنه الترمذي
(2/193)
خلقا رواه البخاري وغيره (1) قال تعالى ( ^ وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم 4 قيل دين الإسلام وقيل أدب القرآن وقال الماوردي الطبع الكريم فسمي خلقا لأنه يصير كالخلقة في صاحبه فأما ما طبع عليه فيسمى الخيم فيكون الخيم الطبع الغريزي والخلق الطبع المتكلف انتهى كلامه قال الجوهري الخلق والخلق السجية وفلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلفه وقال الشاعر
( يا أيها المتحلي غير شيمته % إن التخلق يأتي دونه الخلق )
قال والخيم بالكسر السجية والطبيعة لا واحد له من لفظه فدل على الترادف خلاف ما قاله الماوردي
وقال في النهاية الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة ولهذا تكررت الأحاديث في حسن الخلق وذم سوء الخلق
ولمسلم عن عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن + هو في صحيح مسلم وصححه ابن حبان + أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف
وفي حديث أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر لما لحقهم وقد عطشوا فقال لا هلك عليكم بضم الهاء وهو الهلاك ثم قال اطلقوا إلي غمري بضم الغين المعجمة وفتح الميم وبالراء وهو القدح الصغير ودعا بالميضأة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم يعد أن رأي الناس ماء في الميضاة تكابوا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا الملأ كلكم سيروى قال ففعلوا فجعل
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم ابن حبان
(2/194)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي اشرب فقلت لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله قال إن ساقي القوم آخرهم شربا قال فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم (1)
الملأ بفتح الميم واللام وآخره همزة منصوب مفعول أحسنوا والملأ الخلق والعشرة يقال ما أحسن ملأ فلان أي خلقه وعشرته وما أحسن ملأ بني فلان أي عشرتهم وأخلاقهم كان يقال من ساء خلقه قل صديقه قال محمد بن حازم
( وما اكتسب المحامد طالبوها % بمثل البشر والوجه الطليق )
وقال آخر
( وخالق الناس بخلق حسن % لا تكن كلبا على الناس تهر )
وقال آخر
( وما حسن أن يمدح المرء نفسه % ولكن أخلاقا تذم وتمدح )
ولأبي داود عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عائشة مرفوعا إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم + حديث صحيح أخرجه أبو داود وابن حبان + كلهم ثقات والمطلب حسن الحديث ووثقه الأكثر وقال أبو زرعة أرجو أن يكون سمع من عائشة وقال أبو حاتم لم يدركها
وعن أبي الدرداء مرفوعا ما من شيء أثقل من الميزان من خلق حسن إسناد جيد رواه أبو داود والترمذي وصححه + أخرجه الترمذي وأبو داود وصححه ابن حبان + وللترمذي في رواية بإسناد حسن معنى حديث عائشة وقال غريب من هذا الوجه
وعن أبي هريرة مرفوعا أنه سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/195)
الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار قال الفم والفرج (1) رواه جماعة منهم الترمذي وصححه
وعن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله المرأة تتزوج الاثنين والثلاثة والأربعة ثم تدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها قال إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ثم قال يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة + في إسناده سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف
وعن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ وأبي ذر مرفوعا اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن + حديث حسن أخرجه أحمد والترمذي + سنده جيد إلى ميمون وميمون حسن الحديث وضعفه ابن معين ولم يسمع منهما رواه الترمذي وحسنه ورواه أحمد من حديث ميمون عن معاذ
وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة + أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان +
ولمسلم من حديث أبي ذر لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق + أخرجه مسلم وابن حبان والترمذي + روي بسكون اللام وكسرها وبزيادة ياء طليق
ولابن ماجه من حديث ابن عمر إن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا + أخرجه ابن ماجه وفي سنده مجهولان وضعفه البوصيري +
____________________
1- أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان والترمذي
(2/196)
وعن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده فكأن على رؤوسهم الطير الحديث وفي آخره قالوا ما خير ما أعطي الناس يا رسول الله قال خلق حسن (1) حديث صحيح رواه أحمد وابن ماجه
ولابن ماجه بإسناد ضعيف من حديث أبي ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق + أخرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف وضعفه البوصيري +
قال الحسن البصري حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه ورواه الترمذي عن عبد الله بن المبارك
وحكى في شرح مسلم في باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم إن القاضي عياضا قال حكى الطبري خلافا للسلف هل هو غريزة أم مكتسب وتقدم قول الماوردي فيكون هذا وهذا كما قيل إن العقل غريزة ومنه ما يستفاد بالتجارب وغير ذلك وهو متوجه
وعن الزهري عن أبي الدرداء مرفوعا إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوا به فإنه سيصير إلى ما جبل عليه + أخرجه أحمد وفي سنده انقطاع بين الزهري وبين أبي الدرداء + منقطع وهو ثابت إلى الزهري رواه أحمد
وروى هذا المعنى أبو حفص العكبري في الأدب له عن عبد الله بن مسعود وقال فإنكم لا تستطيعون أن تغيروا خلقه
وروى أبو حفص أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال مكتوب في الحكمة ليكن وجهك بسطا وكلمتك طيبة تكن أحب إلى الناس من الذي يعطيهم العطاء
وذكر ابن عبد البر قول سفيان بن عيينة من حسن خلقه ساء خلق خادمه وكان بين سعيد بن العاص وقوم من أهل المدينة منازعة فلما ولاه معاوية رضي الله عنهما
____________________
1- أخرجه أحمد وابن ماجه وإسناده صحيح وصححه ابن حبان
(2/197)
المدينة ترك المنازعة وقال لا أنتصر لنفسي وأنا وال عليهم قال ابن عقيل في الفنون هذه والله مكارم الأخلاق
وروى الخلال عن سهل بن سعد مرفوعا إن الله كريم يحب الكريم ومعالي الأخلاق ويكره سفسافها
وروى أيضا عن جابر مرفوعا إن الله يحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها (1)
السفساف الأمر الحقير والرديء من كل شيء ضد المعالي والمكارم وقد قيل
( إذا أنت جازيت المسيء بفعله % ففعلك من فعل المسيء قريب )
وقيل أيضا
( وإذا أردت منازل الأشراف % فعليك بالإسعاف والإنصاف )
( وإذا بغى باغ عليك فخله % والدهر فهو له مكاف كاف )
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي + أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان + وصححه في رواية عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه ولم يرو عنه غير ابنه عيينة ووثقه أبو زرعة عن أبي بكرة مرفوعا
ولمسلم وأبي داود وغيرهما عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد + أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه +
____________________
1- أخرجه الحاكم وأبو نعيم وقال الحاكم صحيح الإسناد
(2/198)
قال الشيخ تقي الدين في اقتضاء الصراط المستقيم فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين نوعي الاستطالة لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر وإن استطال بغير حق فهو الباغي فلا يحل لا هذا ولا هذا
ولمسلم من حديث أبي هريرة ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله (1) ويأتي في أحاديث اللباس أواخر الكتاب لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا + أخرج الفقرة الأولى منه لمسلم وأبو داود وابن حبان وأخرج الفقرة الثانية البخاري +
وقال محمد بن علي بن حسين عليهم السلام يا عجبا من المختال الفخور الذي خلق من نطفة ثم يصير جيفة لا يدري بعد ذلك ما يفعل به
وقيل لعيسى عليه السلام طوبى لبطن حملك فقال طوبى لمن علمه الله كتابه ولم يكن جبارا عنيدا
وقال مالك بن دينار كيف يتيه من أوله نطفه مذرة وآخره جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة وقال منصور
( تتيه وجسمك من نطفة % وأنت وعاء لما تعلم )
وكان يقول لولا ثلاث سلم الناس شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما علم الله أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك لما ابتلي مؤمن بذنب وقال الشاعر
( ومن أمن الآفات عجبا برأيه % أحاطت به الآفات من حيث يجهل )
وذكر ابن عبد البر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حسب إلا في التواضع ولا نسب إلا بالتقوى ولا عمل إلا بالنية ولا عبادة إلا باليقين
____________________
1- أخرجه مسلم وأحمد والترمذي
(2/199)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من عظمت نعمة الله عليه فليطلب بالتواضع شكرها وإنه لا يكون شكورا حتى يكون متواضعا
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن من التواضع الرضا بالدون من شرف المجلس وأن تسلم على من لقيت
وقال عبد الله بن المبارك التعزز على الأغنياء تواضع كان يقال الغنى في النفس والكرم في التقوى والشرف في التواضع
وكان سليمان بن داود عليهما السلام يجيء إلى أوضع مجالس بني إسرائيل ويقول مسكين بين ظهراني مساكين
وكان يقال ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة
وقال لقمان لابنه يا بني تواضع للحق تكن أعقل الناس
وقال أبو الدرداء ليس الذي يقول الحق ويفعله بأفضل من الذي يسمعه فيقبله
وقال بعض الحكماء إذا نسك الشريف تواضع وإذا نسك الوضيع تكبر وقال بعض الفلاسفة أظلم الناس لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ورغب فيمن يبعده
وقال بزرجمهر وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء
وقال ابن السماك للرشيد تواضعك في شرفك أشرف من شرفك
قال ابن عبد البر روي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبنكم إيمان الرجل حتى تعلموا ما عقدة عقله (1) وهو الخبر من رواية إسحاق بن أبي فروة
____________________
1- أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عدي وهو ضعيف جدا وفي سنده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك
(2/200)
مذكور في ترجمته وهو متروك
قال ابن عبد البر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صحف موسى وحكمة داود عليهما السلام حق على العاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يناجي فيها ربه وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يخلي فيها بين نفسه ولذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون له (1)
قال وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه مالكا للسانه مقبلا على شأنه
وقال بعضهم أوحى الله إلى موسى عليه السلام أتدري لم رزقت الأحمق قال لا قال ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال
وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث من حرمهن فقد حرم خير الدنيا والآخرة عقل يداري به الناس وحلم يرد به السفيه وورع يحجزه عن المحارم + أخرجه ابن أبي الدنيا وهو متروك +
افتخر رجلان عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أتفتخران بأجساد بالية وأرواح في النار إن يكن لكما عمل فلكما أصل وإن يكن لكما خلق فلكما شرف وإن يكن لكما تقوى فلكما كرم وإلا فالحمار خير منكما ولستما خيرا من أحد
وقال أيضا رضي الله عنه العاقل الذي لم يحرمه نصيبه من الدنيا حظه من الآخرة
وقال أيضا في وصيته لابنه لا مال أعود من العقل ولا فقر أشد من الجهل ولا وحدة أوحش من العجب ولا مظاهرة كالمشاورة ولا حسب كحسن الخلق
____________________
1- أخرجه ابن أبي الدنيا
(2/201)
وكان يقال إذا كان علم الرجل أكثر من عقله كان قمنا أن يضره علمه قال الشاعر
( ولا خير في حسن الجسوم وطولها % إذا لم يزن حسن الجسوم عقول )
وقال مطرف بن الشخير عقول كل قوم على قدر زمانهم
كان يقال خصال ست تعرف في الجاهل الغضب في غير شيء والكلام في غير نفع والعطية في غير موضعها وإفشاء السر والثقة بكل أحد ولا يعرف صديقه من عدوه
وقال يحيى بن خالد ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها الكتاب على مقدار عقل كاتبه والرسول على مقدار عقل مرسله والهدية على مقدار عقل مهديها
وقيل لابن هبيرة ما حد الحمق قال لا حد له وقال بعضهم الحمق الكساد يقال انحمقت السوق إذا كسدت ومنه الرجل الأحمق لأنه كاسد العقل لا ينتفع برأيه ولا بعقله والحمق أيضا الغرور يقال سرنا في ليال محمقات إذا كان القمر فيهن يسير بغيم أبيض دقيق فيغتر الناس بذلك يظنون أن قد أصبحوا فيسيرون حتى يملوا قال ومنه أخذ الاسم الأحمق لأنه يغرك في أول مجلسه بتغافله فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبين حمقه
وقال الجوهري في الصحاح الحمق والحمق قلة العقل وقد حمق الرجل بالضم حماقة فهو أحمق وحمق أيضا بالكسر يحمق حمقا مثل غنم غنما فهو حمق وامرأة حمقاء وقوم ونسوة حمق وحمقى وحماقى وحمقت السوق بالضم أي كسدت وأحمقت المرأة أي جاءت بولد أحمق فهي محمق ومحمقة فإن كان من عادتها أن تلد الحمقى فهي محماق ويقال أحمقت الرجل إذا وجدته أحمق وحمقته تحميقا نسبته إلى الحمق وحامقته إذا ساعدته على حمقه واستحمقته أي عددته أحمق وتحامق فلان إذا تكلف الحماقة ويقال انحمقت السوق أي كسدت وانحمق الثوب أي أخلق
ذكر المغيرة بن شعبة يوما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال كان والله أفضل
____________________
(2/202)
من أن يخدع وأعقل من أن يخدع
وقال الحجاج يوما العاقل من يعرف عيب نفسه فقال له عبد الملك فما عيبك قال أنا حسود حقود فقال له عبد الملك ما في إبليس شر من هاتين
وقال الحسن البصري صلة العاقل إقامة دين الله وهجران الأحمق قربة إلى الله وإكرام المؤمن خدمة لله وتواضع له كان يقال إذا تم العقل نقص الكلام قال الشاعر
( ألا إنما الإنسان غمد لعقله % ولا خير في غمد إذا لم يكن له نصل )
( فإن كان للإنسان عقل فإنه % هو النصل والإنسان من بعده فضل )
وقال آخر
( وليس عتاب المرء للمرء نافعا % إذا لم يكن للمرء عقل يعاتبه )
وقال آخر
( تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم % ولا تلقهم بالعقل إذا كنت ذا عقل )
( فإني رأيت المرء يشقى بعقله % كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل )
وكان الحسن البصري إذا أخبر عن أحد بصلاح قال كيف عقله ما يتم دين امرئ حتى يتم عقله
وقال الأوزاعي قيل لعيسى عليه السلام يا روح الله أنت تبرئ الأكمه والأبرص وتحيي الموتى بإذن الله فما دواء الأحمق قال ذلك أعياني
وقال زيد بن أسلم قال لقمان لابنه يا بني لأن يضربك الحليم خير من أن يدهنك الأحمق
وقال عمر بن عبد العزيز خصلتان لا تعدمك من الأحمق أو قال من الجاهل كثرة الالتفات وسرعة الجواب
وقال سهل بن هارون ثلاثة من المجانين وإن كانوا عقلاء الغضبان
____________________
(2/203)
والعريان والسكران
سمع الأحنف رجلا يقول ما أبالي أمدحت أم هجيت فقال استرحت من حيث تعب الكرام وقالت العرب استراح من لا عقل له وقالت الفرس مات من لا عقل له قال الشاعر
( كم كافر بالله أمواله % تزداد أضعافا على كفره )
( ومؤمن ليس له درهم % يزداد إيمانا على فقره )
( لا خير فيمن لم يكن عاقلا % يمد رجليه على قدره )
وروى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك وقيل له ما خير ما أعطي الإنسان قال غريزة عقل قلت فإن لم يكن قال حسن أدب قلت فإن لم يكن قال أخ شفيق يستشيره فيشير عليه قلت فإن لم يكن قال صمت طويل قلت فإن لم يكن قال موت عاجل
ومن كلام الحمقى استعمل معاوية رضي الله عنه رجلا من كلب فذكر المجوس يوما فقال لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم والله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي فبلغ ذلك معاوية فقال قبحه الله أترونه لو زيد فعل
قيل لبردعة الموسوس أيما أفضل غيلان أم معلى قال معلى قال ومن أين قال لأنه لما مات غيلان ذهب معلى إلى جنازته فلما مات معلى لم يذهب غيلان إلى جنازته
رفع رجل من العامة ببغداد إلى بعض ولاتها على جار له أنه يتزندق فسأله الوالي عن قوله الذي نسبه به إلى الزندقة فقال هو مرجئ ناصبي رافضي من الخوارج يبغض معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص فقال له ذلك الوالي ما أدري على أي شيء أحسدك أعلى علمك بالمقالات أم على بصرك بالأنساب
دخل رجل من العامة الجهلة الحمقى على شيخ من شيوخ أهل العلم فقال له أصلح الله الشيخ قد سمعت في السوق الساعة شيئا منكرا ولا ينكره أحد قال وما
____________________
(2/204)
سمعت قال سمعتهم يسبون الأنبياء قال الشيخ ومن المشتوم من الأنبياء قال سمعتهم يشتمون معاوية قال يا أخي ليس معاوية بنبي قال فهبه نصف نبي لم يشتم
وقال عمرو بن بحر ذكر لي بعض الإباضية أنه جرى عنده ذكر الشيعة يوما فغضب وشتمهم وذكر ذلك كالمنكر عليهم نحلتهم إنكارا شديدا قال فسألته يوما عن سبب إنكاره على الشيعة ولعنه لهم فقال لمكان الشين في أول كلمة لأني لم أجد ذلك قط إلا في مسخوطة مثل شؤم وشر وشيطان وشيخ وشعث وشعب وشرك وشتم وشقاق وشطرنج وشين وشن وشانئ وشوصة وشوك وشكوى وشنان فقلت له إن هذا كثير ما أظن أن هذا لقوم يقيم الله لهم علما أبدا
سلم فزارة صاحب المظالم بالبصرة على يساره في الصلاة فقيل له في ذلك فقال كان على يميني إنسان لا أكلمه
قال فزارة يوما في مجلسه لو غسلت يدي مئتي مرة ما تنظفت حتى أغسلها مرتين وفيه يقول الشاعر
( ومن المظالم أن تكون % على المظالم يا فزاره )
ولي رجل مقل قضاء الأهواز فأبطأ عليه رزقه وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق فشكا ذلك إلى زوجته فقالت لا تغتم فإن عندي ديكا جليلا قد سمنته فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه
فلما كان يوم الأضحى وأرادوا الديك للذبح طار على سقوف الجيران فطلبوه وفشا الخبر في الجيران وكانوا مياسير فرقوا للقاضي ورقوا لقلة ذات يده فأهدى إليه كل واحد كبشا فاجتمعت في داره أكبش كثيرة وهو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته من أين هذا فقالت أهدى إلينا فلان وفلان حتى سمت جماعتهم ما ترى قال ويحك احتفظي بديكنا هذا
____________________
(2/205)
فما فدي إسحاق بن إبراهيم إلا بكبش واحد وقد فدي ديكنا بهذا العدد
قال الحسن رحمه الله الأخلاق للمؤمن قوة في لين وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة وبذل في السعة وقناعة في الفاقة ورحمة للمجهود وإعطاء في كرم وبر في استقامة
وقال الأشعث بن قيس يوما لقومه إنما أنا رجل منكم ليس في فضل عليكم ولكني أبسط لكم وجهي وأبذل لكم مالي وأقضي حقوقكم وأحوط حريمكم فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي ومن زاد علي فهو خير مني ومن زدت عليه فأنا خير منه قيل له يا أبا محمد ما يدعوك إلى هذا الكلام قال أحضهم على مكارم الأخلاق
وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن السؤدد فقال الحلم السؤدد وقال أيضا نحن معشر قريش نعد الحلم والجود السؤدد ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة
وقال أبو عمرو بن العلاء كان أهل الجاهلية لا يسودون إلا من كانت فيه ست خصال وتمامها في الإسلام سابعة السخاء والنجدة والصبر والحلم والبيان والحسب وفي الإسلام زيادة العفاف
ذكر لعبد الله بن عمر أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم فقال كان معاوية أسود منهم وكانوا خيرا منه
وذكر ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رزقه الله مالا فبذل معروفه وكف أذاه
____________________
(2/206)
فذلك السيد
وقال صلى الله عليه وسلم يوما للأنصار من سيدكم قالوا الجد بن قيس على بخل فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح (1) فقال شاعرهم في ذلك
( وقال رسول الله والحق قوله % لمن قال منا من تسمون سيدا )
( فقالوا له الجد بن قيس على التي % نبخله فيها وإن كان أسودا )
( فتى ما تخطى خطوة لدنية % ولا مد في يوم إلى سوأة يدا )
( فسود عمرو بن الجموح بجوده % وحق لعمرو بالندى أن يسودا )
( إذا جاءه السؤال أنهب ماله % وقال خذوه إنه راجع غدا )
( فلو كنت يا جد بن قيس على التي % على مثلها عمرو لكنت مسودا )
وقال بعضهم السؤدد بالبخت كم من فقير ساد وليس له بالمال إلى غيره كعتبة بن ربيعة وغيره
سب الشعبي رجل فقال له إن كنت كاذبا يغفر الله لك وإن كنت صادقا يغفر الله لي
وقال خالد بن صفوان شهدت عمرو بن عبيد ورجل يشتمه فقال له آجرك الله على ما ذكرت من خطأ قال فما حسدت أحدا حسدي عمرو بن عبيد على هاتين الكلمتين
وقال الأحنف بن قيس ما نازعني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال إن كان فوقي عرفت له قدره وإن كان دوني كرمت نفسي عنه وإن كان مثلي تفضلت عليه أخذ هذا المعنى محمود الوراق فقال
____________________
1- أخرجه البخاري وإسناده صحيح
(2/207)
( سألزم نفسي الصبر عن كل مذنب % وإن كثرت منه علي الجرائم )
( وما الناس إلا واحد من ثلاثة % شريف ومشروف ومثل مقاوم )
( فأما الذي فوقي فأعرف فضله % وألزم فيه الحق والحق لازم )
( وأما الذي دوني فإن قال صنت عن % مقالته نفسي وإن لام لائم )
( وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا % تفضلت إن الفضل بالعز حاكم )
وقال عبيد بن الأبرص
( إذا أنت لم تعمل برأي ولم تطع % أولي الرأي لم تركن إلى أمر مرشد )
( ولم تجتنب ذم العشيرة كلها % وتدفع عنها باللسان وباليد )
( وتحلم عن جهالها وتحوطها % وتقمع عنها نخوة المتهدد )
( فلست ولو عللت نفسك بالمنى % بذي سؤدد باد ولا قرب سؤدد )
وقال آخر
( إذا هلكت أسد العرين ولم يكن % لها خلف في الغيل ساد الثعالب )
( كذا القمر الساري إذا غاب لم يكن % له خلف في الجو إلا الكواكب )
وقال بعض الحكماء من ابتغى المكارم فليتجنب المحارم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس فيك خلتان يحبهما الله ورسوله أو قال يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة قال يا رسول الله أشيء جبلني الله عليه أم شيء اخترعته من نفسي قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله الذي جبلني على شيء أو على خلق يرضاه الله ورسوله (1) والحديث صحيح في الصحيحين أو في الصحيح
____________________
1- أخرجه مسلم والترمذي
(2/208)
قال الشعبي زين العلم حلم أهله وقال رجاء بن أبي سلمة الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به
كان الأحنف إذا عجبوا من حلمه قال إني لأجد ما تجدون ولكني صبور وقال معاوية إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أرجح من حلمي
وقال عمر بن عبد العزيز ما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة وقال أبو العتاهية
( فيا رب هب لي منك حلما فإنني % أرى الحلم لم يندم عليه حليم )
( ويا رب هب لي منك عزما على التقى % أقيم به ما عشت حيث أقيم )
( ألا إن تقوى الله أكرم نسبة % تسامى بها عند الفخار كريم )
وقال آخر
( أرى الحلم في بعض المواطن ذلة % وفي بعضها عزا يسود فاعله )
وقال آخر
( وإنك تلقى صاحب الجهل نادما % عليه ولا يأسى على الحلم صاحبه )
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سافر سافر معه بسفيه فقيل له في ذلك فقال إن جاءنا سفيه لأنا ما ندري ما نقابل به السفهاء
قال عمرو بن كلثوم
( ألا لا يجهلن أحد علينا % فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
وقال بعضهم
( ولربما اعتضد الحليم بجاهل % لا خير في اليمنى بغير يسار )
____________________
(2/209)
ومر قوم بدير راهب وفيهم عالم كبير مشار إليه فأنزلهم الراهب في صومعة ورحب بهم وتلقاهم بالبشر والكرامة فأقاموا عنده كل النهار إلى الليل فقام رجل منهم في حالهم وإصلاح شأنهم فلما أن أراد أن يضيء لهم جاء بالقداح فقدح لهم فلما أضاء الضوء التفت إلى أحدهم فقال أيكم الشيخ المشار إليه فأشار أحدهم إلى الشيخ فتكلم حينئذ الراهب بكلام فصيح ثم قال للشيخ يا سيدي هذه النار التي طلعت وأشعلت منها أهي من الصوانة أم من الحراقة أم من الحديدة فسكت الشيخ فلم يتكلم وكان في جمع الشيخ رجل سفيه فتكلم وأبلغ وقال أيها الراهب لقد تهجمت على مقام لم يكن لك ألا سألتني عن هذا السؤال فقال لم أعرف أن عندك علما من ذلك فقال بلى فعند ذلك تكلم الراهب فلما فرغ من ذلك قال له السفيه وكانوا في قبة ما هذا الذي على صدرك فطأطأ الراهب رأسه ينظر إلى ما أشار إليه السفيه فصفعه السفيه صفعة علا حسها علوا شديدا ثم قال للراهب أهذا الحس من ساحلك أم من يدي أم من القبة قال فأفحم الراهب فلم يستطع جوابا
واعلم أن الحلم بضم الحاء ما يراه النائم تقول منه حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته ايضا والحلم بالكسر الأناة تقول منه حلم الرجل بالضم وتحلم تكلف الحلم قال الشاعر
( تحلم عن الأدنين واستبق ودهم % ولن تستطيع الحلم حتى تحلما )
وتحالم أي رأى من نفسه ذلك وليس به وحلمت الرجل تحليما جعلته حليما والمحلم الذي يأمر بالحلم والحلم بالتحريك ديدان تفسد الإهاب تقول منه حلم الأديم بالكسر
وينبغي لمن استعان بسفيه أن يأخذ على يديه ولا يطلق عنانه ويسلطه فإن ذلك في الغالب يكون ضرره أكثر من نفعه لا سيما بالنسبة إلى الآخرة وربما انتشر الفساد وعظم وتعب الكبير في استدراكه وقد لا يمكنه ذلك فقطع هذا من الابتداء هو الواجب وهذا أمر واضح معلوم لا يخفى على عاقل نظر فيه وقد قال
____________________
(2/210)
جرير الشاعر المشهور
( أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم % إني أخاف عليكم أن أغضبا )
وسبق ما يتعلق بهذا بكراريس في ذكر مناقب الإمام أحمد بعدما يتعلق بطاعة الوالي وغيره وفي الأمر بالمعروف في الإنكار على السلطان
وذكر ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حسب المرء دينه وكرمه تقواه ومروءته عقله ويروى نحو هذا عن عمر
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل من ثقيف ما المروءة قال الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وسخاء النفس وصلة الرحم فقال صلى الله عليه وسلم هكذا هي عندنا في حكمة آل داود
تذاكروا المروءة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما مروءتنا فأن نعفو عمن ظلمنا ونعطي من حرمنا ونصل من قطعنا
سئل عبد الله بن عمر عن المروءة فقال العفاف وإصلاح المال
سأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنه عن المروءة والكرم والنجدة فقال أما المروءة فحفظ الرجل نفسه وإحرازه دينه وحسن قيامه بصنعته وترك المنازعة وإفشاء السلام وأما الكرم فالتبرع بالمعروف وإعطاؤك قبل السؤال والإطعام في المحل وأما النجدة فالذب عن الجار والصبر في المواطن والإقدام على الكريهة
قال طلحة بن عبيد الله جلوس الرجل ببابه من المروءة وليس من المروءة حمل الكيس في الكم
وسئل الأحنف عن المروءة فقال التفقه في الدين وبر الوالدين والصبر على النوائب
____________________
(2/211)
ويروى عن الأحنف قال لا مروءة لكذوب ولا إخاء لملول ولا سؤدد لسيئ الخلق
سئل ابن شهاب الزهري عن المروءة فقال اجتناب الريب وإصلاح المال والقيام بحوائج الأهل وقال الزهري أيضا الفصاحة من المروءة
وقال إبراهيم النخعي ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق
وقال غيره من كمال المروءة أن تصون عرضك وتكرم إخوانك وتقيل في منزلك
وذكرت الفتوة عند سفيان الثوري فقال ليست الفتوة بالفسق ولا الفجور ولكن الفتوة كما قال جعفر بن محمد طعام موضوع وحجاب مرفوع ونائل مبذول وبشر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف
قال محمد بن داود من كان ظريفا فليكن عفيفا قال منصور الفقيه فضل التقى أفضل من فضل اللسان والحسب إذا هما لم يجمعا إلى العفاف والأدب وقال آخر
( وليس فتى الفتيان من راح واغتدى % لشرب صبوح أو لشرب غبوق )
( ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى % لضر عدو أو لنفع صديق )
وروى الخلال عن أحمد وجماعة من السلف الممازحة في بعض الأوقات وحديث ابن عمر مرفوعا إني لأمزح ولا أقول إلا حقا (1)
ولأحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة إني لا أقول إلا حقا + أخرجه أحمد والترمذي والبغوي وسنده حسن وقال الترمذي حسن صحيح + فقال
____________________
1- أخرجه الطبراني وفي سنده المبارك بن فضالة وهو مدلس وقد عنعن ومع ذلك فقد حسنه الهيثمي
(2/212)
بعض أصحابه فإنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا هو حديث ابن المبارك عن أسامة بن زيد الليثي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وأسامة وإن كان من رجال مسلم فقد ضعفه الأكثر
وعن أنس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله فقال إنا حاملوك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال وهل تلد الإبل إلا النوق رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال صحيح غريب (1)
ولأبي داود والترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ذا الأذنين + صحيح أخرجه أبو داود والترمذي وإسناده صحيح + يعني يمازحه
وكان رجل من أهل البادية اسمه زاهر يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه إذا أراد أن يخرج فقال إن زاهرا بادينا ونحن حاضرته وكان دميما فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل فقال أرسلني من هذا فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يشتري العبد فقال يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا فقال لكن عند الله لست بكاسد أو قال لكن عند الله أنت غال رواه أحمد من حديث أنس + أخرجه أحمد والبيهقي والبغوي وابن حبان وإسناده صحيح +
الدميم بالدال المهملة في الخلق بفتح الخاء القصر والقبح وبالذال المعجمة في الخلق بضمها
____________________
1- أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وإسناده صحيح
(2/213)
وقال محمود بن الربيع إني لأعقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم والبخاري (1) وزاد في وجهي
قال في شرح مسلم قال العلماء المج طرح الماء من الفم بالتزريق وهذا في ملاطفة الصبيان وتأنيسهم وإكرام آبائهم بذلك وجواز المزح
وروى الترمذي عن زياد بن أيوب عن عبد الرحمن المحاربي عن ليث عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه + أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم + عبد الملك هو ابن جريج لم يسمع من عكرمة قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسبق ما يتعلق بهذا في فصول الكذب
وذكر ابن عبد البر قول ابن عباس المزاح بما يحسن مباح وقد مزح النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل إلا حقا
قال غالب القطان أتيت محمد بن سيرين وكان مزاحا فسألته عن هشام بن حسان فقال توفي البارحة أما شعرت ( ^ إنا لله وإنا إليه راجعون ) البقرة 156 وقال ( ^ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) الزمر 42
وفي الحديث المأثور أن عيسى عليه السلام كان يبكي ويضحك وكان يحيى عليه السلام يبكي ولا يضحك فكان خيرهما المسيح
وقال الخليل بن أحمد الناس في سجن ما لم يتمازحوا
مزح الشعبي يوما فقيل له يا أبا عمرو أتمزح قال إن لم يكن هذا متنا من الغم
وكان محمد بن سيرين يداعب ويضحك حتى يسيل لعابه فإذا أردته على شيء
____________________
1- أخرجه مسلم والبخاري
(2/214)
من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك
قال ابن عبد البر وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض واستجلاب الضغائن وإفساد الإخاء كان يقال لكل شيء بدء وبدء العداوة المزاح وكان يقال لو كان المزاح فحلا ما ألقح إلا الشر
قال سعيد بن العاص لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترئ عليك
وقال ميمون بن مهران إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام
وقال جعفر بن محمد إياكم والمزاح فإنه يذهب بهاء الوجه كان خالد بن صفوان يكره المزاح ويقول يسعط أحدهم أخاه بأحر من الخردل ويفرغ عليه أشد من غلي المرجل ويقول مازحته
وقال إبراهيم النخعي لا يكون المزاح إلا في سخف أو بطر السخف بضم السين رقة العقل وقد سخف الرجل بالضم سخافة فهو سخيف وساخفته مثل حامقته قال أبو هفان
( مازح صديقك ما أحب مزاحا % وتوق منه في المزاح جماعا )
( فلربما مزح الصديق بمزحة % كانت لباب عداوة مفتاحا )
وقال آخر
( لا تمزحن فإذا مزحت فلا يكن % مزحا تضاف به إلى سوء الأدب )
( واحذر ممازحة تعود عداوة % إن المزاح على مقدمة الغضب )
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إياكم وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه (1)
____________________
1- صحيح دون الجملة الأخيرة أخرجه ابن ماجه وأحمد والترمذي والطبراني والبيهقي من طرق عن أبي هريرة مرفوعا
(2/215)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كثر ضحكه استخف به وذهب بهاؤه
وقال بعض الحكماء إياك والمشي في غير أرب والضحك من غير سبب وقال بعض الشعراء
( الكبر ذل والتواضع رفعة % والمزح والضحك الكثير سقوط )
( والحرص فقر والقناعة عزة % واليأس من صنع الإله قنوط )
وقال آخر
( فإياك إياك المزاح فإنه % يجري عليك الطفل والدنس النذلا )
( ويذهب ماء الوجه بهائه % ويورثه من بعد عزته ذلا )
وقال محمود الوراق
( تلقى الفتى يلقى أخاه وخدنه % في لحن منطقه بما لا يغفر )
( ويقول كنت ممازحا وملاعبا % هيهات نارك في الحشا تتسعر )
( ألهبتها وطفقت تضحك لاهيا % مما به وفؤاده يتفطر )
( أوما علمت ومثل جهلك غالب % أن المزاح هو السباب الأكبر )
قال الجوهري المزح الدعابة وقد مزح يمزح والاسم المزاح والمزاحة أيضا وأما المزاح بالكسر فهو مصدر مازحه وهما يتمازحان
قال ابن عبد البر قالوا من أراد أن يدوم له ود أخيه فلا يمازحه ولا يعده موعدا فيخلفه
وسبق الكلام في ضحكه صلى الله عليه السلام حتى بدت نواجذه في فصول التوبة في أن سيئة التائب هل تبدل حسنة وقد ضحك المقداد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقي إلى الأرض رواه مسلم (1) من حديث المقداد في قصة طويلة في آداب الأطعمة
وروى ابن الأخضر فيمن روى عن أحمد بإسناده عن أبي مسعود الأصبهاني أحمد
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/216)
بن الفرات قال كنا نتذاكر الأبواب فخاضوا في باب فجاؤوا فيه بخمسة أحاديث قال فجئتهم بسادس فنخس أبو عبد الله أحمد بن حنبل في صدري لإعجابه به
وقال أبو الفرج في أوائل صيد الخاطر ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزا ولا شرفا ولا راحة وسلامة أفضل من العزلة فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم ولا يعظم عندهم قول المخالط لهم ولهذا عظم عليهم قدر الخلفاء لاحتجابهم وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصا في أمر مباح هان عندهم فالواجب عليه صيانة علمه وإقامة قدر العلم عندهم
فقد قال بعض السلف كنا نمزح ونضحك فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا
وقال سفيان تعلموا هذا العلم واكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر فقد قال عليه السلام لعائشة رضي الله عليه وسلم لعائشة لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين (1)
وقال أحمد في الركعتين قبل المغرب رأيت الناس يكرهونها فتركتها فلا نسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء إنما هذه صيانة للعلم إلى أن قال فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية فلا ينبغي للعالم أن يتبسط عند العوام حفظا لهم ومتى أراد مباحا فليستتر به عنهم وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب قد قدم الشام راكبا على حمار ورجلاه من جانب فقال يا أمير المؤمنين يلقاك عظماء الناس فما أحسن ما لاحظ إلا أن عمر رضي الله عنه أراد به تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العز في غيره أذلكم والمعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال وإن كانت الصور تلاحظ انتهى كلامه وقد سبق
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
(2/217)
هذا المعنى بنحو ثلاث كراريس في فصول العلم فصل مدح الحياء وكونه خلق الإسلام
عن عمران مرفوعا الحياء لا يأتي إلا بخير الحياء خير كله (1)
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء يقول إنك تستحيي حتى كأنه يقول قد أضر بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن الحياء من الإيمان رواهما أحمد والبخاري ومسلم + أخرجه البخاري ومسلم والترمذي +
وفي الصحيحين أن عمران لما حدث قال له بشير بفتح الباء الموحدة والشين المعجمة ابن كعب إنه مكتوب في الحكمة إن منه وقارا ومنه سكينة فقال عمران أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحيفتك + أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود +
ولمسلم أن بشيرا قال إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة إن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف بفتح الضاد وضمها فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وفي بعض النسخ ورواه أبو داود وغيره احمرت وقال ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارضني فيه فأعاد عمران الحديث فأعاد بشير فغضب عمران فما زلنا نقول إنه منا يا أبا نجيد لا بأس به
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه + أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان + وعن أنس مرفوعا ما كان الفحش في شيء إلا شانه وما كان الحياء في شيء إلا زانه رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب + صحيح أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان +
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/218)
وعن أبي هريرة مرفوعا الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح (1) ولابن ماجه من حديث أبي بكرة مثله + أخرجه البخاري وابن ماجه +
وفي الموطأ مرسلا إن لكل دين خلقا وإن خلق الإسلام الحياء + حسن لغيره أخرجه ابن ماجه والخطيب وأخرجه مالك مرسلا + ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس ومن حديث أنس والحياء ممدود الاستحياء
وقال الواحدي قال أهل اللغة الاستحياء من الحياء واستحيا الرجل من قوة الحياء فيه لشدة علمه بمواقع العيب
قال غير واحد قد يكون الحياء تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر وقد يكون غريزة واستعماله على مقتضى الشرع يحتاج إلى كسب ونية وعلم وإن حمل شيء على ترك الأمر والنهي والإخلال بحق فهو عجز ومهانة وتسميته حياء مجاز وحقيقة الحياء خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح والله أعلم
وذكر ابن عبد البر عن سليمان عليه السلام الحياء نظام الإيمان فإذا انحل النظام ذهب ما فيه
وفي التفسير ( ^ ولباس التقوى ) الأعراف 26 قالوا الحياء وقالوا الوقار من الله فمن رزقه الله الوقار فقد وسمه بسيما الخير وقالوا من تكلم بالحكمة لاحظته العيون بالوقار
وقال الحسن أربع من كن فيه كان كاملا ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه دين يرشده وعقل يسدده وحسب يصونه وحياء يقوده
وفي الصحيحين أو في الصحيح عن عائشة قالت رحم الله نساء الأنصار
____________________
1- صحيح أخرجه البخاري وأحمد والترمذي والحاكم وابن حبان
(2/219)
لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن وأن يتفقهن في الدين (1)
وقالت أيضا رأس مكارم الأخلاق الحياء
وفي الصحيحين عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت + أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجه وابن حبان + وقال حبيب
( إذا لم تخش عاقبة الليالي % ولم تستحي فافعل ما تشاء )
( فلا والله ما في العيش خير % ولا الدنيا إذا ذهب الحياء )
( يعيش المرء ما استحيا بخير % ويبقى العود ما بقي اللحاء )
وقال أبو دلف العجلي
( إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا % ولم ترع مخلوقا فما شئت فاصنع )
وقال صالح بن جناح
( إذا قل ماء الوجه قل حياؤه % ولا خير في وجه إذا قل ماؤه )
وقال آخر
( إذا رزق الفتى وجها وقاحا % تقلب في الوجوه كما يشاء )
وقال آخر كأنه الفرزدق
( يغضي حياء ويغضى من مهابته % فلا يكلم إلا حين يبتسم )
وقال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه
____________________
1- أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه
(2/220)
فصل في البصيرة والنظر في العواقب
كان ملوك فارس يعتبرون أحوال الحواشي بإيفاد التحف على أيدي مستحسنات الجواري ويأمرونهن بالتدريج حتى إذا أطالوا الجلوس فتدب بوادي الشهوة قتلوا أولئك وإذا أرادوا مطالعة عقائد النساك دسوا من يتابعهم على ذم الدولة فإذا أظهروا ما في نفوسهم استأصلوهم قال ابن عقيل في الفنون فينبغي الحذر من هذه الأحوال ومن مخض الرأي كانت زبدته الصواب
وذكر ابن الجوزي هذا المعنى في غير موضع وذكر من ذلك حكايات وقال ليحذر الحازم من الاشتراك وقال الرجل من عمل بالحزم وحذر الجائزات والأبله الذي يعمل على الظواهر ويثق بمن لم يجرب
وقال أيضا أبو الفرج في كتابه السر المصون فصل مهم إنما فضل العقل على الحس بالنظر في العواقب فإن الحس لا يرى إلا الحاضر والعقل يلاحظ الآخرة ويعمل على ما يتصور أن يقع فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمح العواقب
فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يوجب حسرات دائمة لا تفي لذة البطالة بمعشار تلك الحسرة ولقد كان يجلس إلي أخي وهو عامي فقير فأقول في نفسي قد تساوينا في هذه اللحظة فأين تعبي في طلب العلم وأين لذة بطالته
ومن ذلك أن الإنسان قد يجهل بعض العلم فيستحي من السؤال والطلب لكبر سنه ولئلا يرى بعين الجهل فيلقى من الفضيحة إن سئل عن ذلك أضعاف ما آثر من الحياء
ومن ذلك الطبع يطالب بالعمل بمقتضى الحالة الحاضرة مثل جواب جاهل وقت الغضب ثم يقع الندم في ثاني الحال على أن لذة الحلم أوفى من الانتقام وربما آثر ذلك الحقد من الجاهل فتمكن فبالغ في الأذى له
ومن ذلك أن يعادي الناس وما يأمن أن يرتفع المعادى فيؤذيه وإنما ينبغي أن
____________________
(2/221)
يضمر عداوة العدو
ومن ذلك أن يحب شخصا فيفشي إليه أسراره ثم تقع بينهما عداوة فيظهر ذلك عليه
ومن ذلك أن يرى المال الكثير فينفق ناسيا أن ذلك يفنى فيقع له في ثاني الحال حوائج فيلقى من الندم أضعاف ما التذ به في النفقة فينبغي لمن رزق مالا أن يتصور السن والعجز عن الكسب ويمثل ذهاب الجاه في الطلب من الناس ليحفظ ما معه
ومن ذلك أن ينبسط ذو دولة في دولته فإذا عزل ندم على ما فعل وإنما ينبغي أن يتصور العزل ويعمل بمقتضاه
ومن ذلك أن يؤثر لذة مطعم فيشبع فيفوته قيام الليل أو يؤثر لذة النوم فيفوته التهجد أو يأكل أو يجامع بشره فيمرض أو يشتهي جماع سوداء وينسى أنها ربما حملت فجاءت ببنت سوداء فكم من حسرة تقع له على مدى الزمان كلما رأى تلك البنت وقد كان في زماننا من جامع سوداء فجاءت له بولد فافتضح به منهم صاحب المخزن وقاضي القضاة الدامغاني وكان تاجرا قد ولد له ابن أسود فلما رآه قال لعن الله شهوتي
ومن ذلك اشتغال العالم بصورة العلم وإنما يراد العمل به والإخلاص في طلبه فيذهب الزمان في حب الصيت وطلب مدح الناس فيقع الخسران إذا حصل ما في الصدور
ومن ذلك اقتناع العالم بطرف من العلم فأين مزاحمة الكاملين والنظر في عواقب أحوالهم وقد يؤثر الأسهل كإيثار علم الحديث على الفقه ومعاناة الدرج تسهل عند العلو
ومن ذلك الإكثار من الجماع ناسيا مغبته وأنه يضعف البدن ويؤذي فالطبع
____________________
(2/222)
يرى اللذة الحاضرة والعقل يتأمل وشرح هذا يطول لكن قد نبهت على أصوله ولقد جئت يوما من حر شديد فتعجلت راحة البرودة فنزعت ثوبي فأصابني زكام أشرفت منه على الموت ولو صبرت ساعة ربحت ما لقيت فقس كل لذة عاجلة ودع العقل يتلمح عواقبها والله أعلم
وقال أيضا تأملت اللذات فرأيتها بين حسي ومعنوي فأما الحسيات فليست بشيء عند النفوس الشريفة إنما تراد لغيرها كالنكاح للولد ولزوال الفضول المؤذية والطعام للتغذي والتداوي والمال للإعداد وللحوائج والاستغناء عن الخلق وإنما جعلت اللذات في تحصيل هذه الأشياء كالبرطيل حتى يحصلها وإن طلب منها شيء لنفس الالتذاذ فإن للطبع حظا إلا أن كل لذة حسية تلازمها آفات لا تكاد تفي باللذة فإن النكاح لذة ساعة فيلازمه عاجلا ذهاب القوة وتكلف الغسل ومداراة المرأة والنفقة عليها وعلى الأولاد فاللذة خطفت خطف البرق وما لازمها صواعق وما يلازم المطعم معلوم من الطهارة وغير ذلك ومعلوم ما يلازم حب المال من معاناة الكسب والخوض في الشبهات وصرف القلب عن الفكر في الآخرة شغلا بالاكتساب وعلى هذا جميع اللذات الحسية فينبغي أن يتناول منها الضروري فتقع معاناة ضرورية فتحصل قناعة بمقدار الكفاية والعفة عن فضول الشهوات
وإنما اللذة الكاملة الأمور المعنوية وهي العلم والإدراك لحقائق الأمور والارتفاع بالكمال على الناقصين والانتقام من الأعداء إلا أنه قد تكون لذة العفو أطيب لأنها لا تقع إلا في حق ذليل قد قهر والصبر على نيل كل فضيلة وعن كل رذيلة والملاحظة لعواقب الأمور وعلو الهمة فلا تقصر عن بلوغ غاية تراد بها فضيلة ومن علم أن الدنيا تزول وأن مراتب الناس في الجنة على قدر أعمالهم في الدنيا نافس أولئك قبل أن يصل إلى هناك ليقدم على مفضولين له ومن تفكر علم أن كثيرا من أهل الجنة في نقص بالإضافة إلى من هو أعلى منهم غير أنهم لا يعلمون ينقصهم قد رضوا بحالهم وإنما اليوم نعلم ذلك فالبدار البدار إلى تحصيل أفضل الفضائل واغتنام الزمن السريع مرة قبل أن تجرع شراب الندم الفظيع مره
____________________
(2/223)
وقل لنفسك أي شيء إلى فلان وفلان من الموتى فلهم فنافس
( إذا أعجبتك خصال امرئ % فكنه تكن مثل ما يعجبك )
( فليس على الجود والمكرمات % إذا جئتها حاجب يحجبك )
وقال أيضا لذات الحس شهوانية وكلها معجون بالكدر وأما اللذات النفسانية فلا كدر فيها كالأراييج الطيبة والصوت الحسن والعلم وأعلاه معرفة الخالق سبحانه فمن غلب عليه شهوات الحس شارك البهائم ومن غلب عليه شهوات النفس زاحم الملائكة
وقال أيضا تفكرت يوما فرأيت أننا في دار المعاملة والأرباح والفضائل فمثلها كمثل مزرعة من أحسن بذرها والقيام عليها واتفقت الأرض زكية والشرب متوفرا كثر الريع ومتى اختل شيء من ذلك أثر يوم الحصاد فالأعمال في الدنيا منها فرض وقد وقع فيه تفريط كثير من الناس ومنها فضيلة وأكثر الناس متكاسل عن طلب الفضائل
والناس على ضربين عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل وجاهل يظن أنه على الصواب وهذا الأغلب على الخلق فالأمير يراعي سلطنته ولا يبالي بمخالفة الشرع أو يرى بجهله جواز ما يفعله والفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم والقاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين والزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لتقبل يده يتبرك به والتاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود والمغرى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم وتارة بالوطء وغير ذلك فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء وكان القلب مشغولا بالفكر في تحصيلها فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه ومحاسبة النفس في أفعالها ودفع الكدر عن باطن السر وجمع الزاد للرحيل والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي
فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل فالله الله يا أهل الفهم اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع
____________________
(2/224)
الاستلاب بغتة على شتات القلب وضياع الأمر فصل
لما صعد أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله من واسط إلى بغداد في سنة خمس وتسعين خلع عليه وجلس للناس يوم السبت وأحسن الكلام وكان مما أنشده قول الرضي الموسوي
( لا تعطش الروض الذي نبته % بصوب إنعامك قد روضا )
( لا تبر عودا أنت قد رشته % حاشا لباني المجد أن ينقضا )
( إن كان لي ذنب تجرمته % فاستأنف العفو وهب ما مضى )
( قد كنت أرجوك لنيل المنى % فاليوم لا أطلب إلا الرضا )
ثم أنشد أيضا
( شقينا بالنوى زمنا فلما % تلاقينا كأنا ما شقينا )
( سخطنا عندما جنت الليالي % وما زالت بنا حتى رضينا )
( ومن لم يحي بعد الموت يوما % فإنا بعد ما متنا حيينا ) فصل إنكار أحمد للتبرك به وتواضعه وثناؤه على معروف الكرخي
روى الخلال في أخلاق أحمد عن علي بن عبد الصمد الطيالسي قال مسحت يدي على أحمد بن حنبل ثم مسحت يدي على بدني وهو ينظر فغضب غضبا شديدا وجعل ينفض يده ويقول عمن أخذتم هذا وأنكره إنكارا شديدا
وقال المروذي في كتاب الورع سمعت أبا عبد الله يقول قد كان يحيى بن يحيى أوصى لي بجبته فجاءني بها ابنه فقال لي فقلت رجل صالح قد أطاع الله فيها أتبرك بها قال فذهب فجاءني بمنديل ثياب فرددتها مع الثياب
____________________
(2/225)
وقال محمد بن الحسن بن هارون رأيت أبا عبد الله إذا مشى في طريق يكره أن يتبعه أحد يعني الإمام أحمد قال عبد الكريم بن الهيثم أبو يحيى القطان العاقولي قال أبو بكر الخلال جليل القدر قال وأخبرني أنه قال كنت مع أحمد جعلت أتأخر عنه في الصف إجلالا له فوضع يده على يدي فقدمني إلى الصف
وقال أحمد بن داود المصيصي كنا عند أحمد بن حنبل وهم يذكرون الحديث فذكر محمد بن يحيى النيسابوري حديثا فيه ضعف فقال له أحمد لا تذكر مثل هذا فكأن محمد بن يحيى دخله خجلة فقال له أحمد إنما قلت هذا إجلالا لك يا أبا عبد الله
وعن أحمد أنه قال كان معروف الكرخي من الأبدال مجاب الدعوة وذكر في مجلس أحمد فقال بعض من حضر هو قصير العلم فقال له أحمد أمسك عافاك الله وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف
وقال عبد الله قلت لأبي هل كان مع معروف شيء من العلم فقال لي يا بني كان معه رأس العلم خشية الله تعالى وقد أثنى معروف على الإمام أحمد وقال سمعت منه كلمتين أزعجتاني من علم أنه إذا مات نسي فليحسن ولا يسيء فصل في دعاء المظلوم على ظالمه وشيء من مناقب أحمد
قال هشام بن منصور سمعت أحمد بن حنبل يقول تدري ما قال لي يحيى بن آدم قلت لا قال يجيئني الرجل ممن أبغضه وأكره مجيئه فأقرأ عليه كل شيء معه حتى أستريح منه ويجيء الرجل الذي أوده فأرده حتى يرجع إلي
وقال يحيى بن نعيم لما خرج أبو عبد الله أحمد بن حنبل إلى المعتصم يوم ضرب قال له الملعون الموكل به ادع على ظالمك قال ليس بصابر من دعا على ظالمه يعني الإمام أحمد أن المظلوم إذا دعا على من ظلمه فقد انتصر كما رواه الترمذي من رواية أبي حمزة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة مرفوعا من دعا
____________________
(2/226)
على من ظلمه فقد انتصر (1) قال الترمذي حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي حمزة وهو ميمون الأعور ضعفوه لا سيما فيما رواه عن إبراهيم النخعي وإذا انتصر فقد استوفى حقه وفاته الدرجة العليا
قال تعالى ( ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) إلى قوله ( ^ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) الشورى 41 43
وقال ابن الزاغوني رأيت في المنام كأني أمضي إلى قبر الإمام أحمد فإذا به جالس على قبره وهو شيخ كبير السن فقال لي يا فلان قل أنصارنا ومات أصحابنا ثم قال لي إذا أردت أن تنصر فإذا دعوت فقل يا عظيم يا عظيم كل عظيم وادع بما شئت تنصر
وقال يحيى بن أكثم ذكرت لأحمد بن حنبل يوما بعض إخواننا وتغيره علينا فأنشأ أبو عبد الله يقول
( وليس خليلي بالملول ولا الذي % إذا غبت عنه باعني بخليل )
( ولكن خليلي من يدوم وصاله % ويحفظ سري عند كل خليل )
ونقل غيره عن أحمد أنه كان يقول
( تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها % من الحرام ويبقى الإثم والعار )
( تبقى عواقب سوء في مغبتها % لا خير في لذة من بعدها النار )
وقد رأيت هذين البيتين لمسعر بن كدام الإمام المشهور
قال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس كان المتمني بالكوفة إذا تمنى يقول أتمنى أن يكون لي فقه أبي حنيفة وحفظ سفيان وورع مسعر بن كدام وجواب شريك
وقال أبو عبد الله بن أبي هشام يوما عند أحمد فذكروا الكتاب ودقة ذهنهم فقال
____________________
1- أخرجه الترمذي وإسناده ضعيف
(2/227)
إنما هو التوفيق
وقال عبد الله بن أحمد ولد لأبي مولود فأعطاني عبد الأعلى رقعة إلى أبي يهنئه فرمى بالرقعة إلي وقال ليس هذا كتاب عالم ولا محدث هذا كتاب كاتب
وقال احمد أقامت أم صالح معي عشرين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة
وقال المروذي دخلت يوما على أحمد فقلت كيف أصبحت قال كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض ونبيه يطالبه بأداء السنة والملكان يطالبانه بتصحيح العمل ونفسه تطالبه بهواها وإبليس يطالبه بالفحشاء وملك الموت يطالبه بقبض روحه وعياله يطالبونه بنفقتهم
وقال رجل لبشر بن الحارث يا أبا نصر إني والله أحبك فقال وكيف لا تحبني ولست لي بجار ولا قرابة
وقال إبراهيم بن جعفر قلت لأحمد بن حنبل الرجل يبلغني عنه صلاح أفأذهب أصلي خلفه قال لي أحمد انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله فصل في الاستخارة وهل هي فيما يخفى أو في كل شيء
قال جعفر بن الصائغ سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول كل شيء من الخير يبادر به
وقال محمد بن نصر العابد سمعت أحمد بن حنبل يقول كل شيء من الخير يبادر فيه وقال وشاورته في الخروج إلى الثغر فقال لي بادر بادر وهذا يحتمل أنه لا استخارة فيه كما قاله بعض الفقهاء لظهور المصلحة ويحتمل أن مراده بعد فعل ما ينبغي فعله من صلاة الاستخارة وغيره
وقول جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها حديث
____________________
(2/228)
صحيح رواه البخاري وغيره (1)
وقد استخارت زينب لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها قال في شرح مسلم فيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان الأمر ظاهر الخير أم لا قال ولعلها استخارت لخوفها من تقصيرها في حقه صلى الله عليه وسلم
وقال شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الأنصاري أخبرنا أحمد بن علي الأصبهاني أحفظ من رأيت من البشر أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن إبراهيم القطان حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن خالد الصنعاني حدثني عمر بن عبد الرحمن سمعت وهب بن منبه يقول قال داود عليه السلام يا رب أي عبادك أبغض إليك قال عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض الظاهر أنه إسناد حسن
وقال الخلال في الأدب كراهة العجلة في الأمور وروي عن عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع سمعت مالك بن أنس عاب العجلة في الأمور ثم قال قرأ ابن عمر البقرة في ثمان سنين وظاهر هذا من الخلال مخالفته لما تقدم
وقد قال أبو داود حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الأعمش عن مالك بن الحارث قال الأعمش وقد سمعتهم يذكرون عن مصعب بن سعد عن أبيه قال الأعمش ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال التودة في كل شيء إلا في عمل الآخرة + أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وإسناده صحيح + كلهم ثقات
واتاد في مشيه وتوأد في مشيه وهو افتعل وتفعل من التودة وأصل التاء في اتئد واو يقال اتئد في أمرك
وقد سبق التثبت والتأني في الفتيا في فصول العلم وقول مالك إنه نوع من
____________________
1- أخرجه البخاري وابن ماجه
(2/229)
الجهل والخرق وما رواه البيهقي وغيره عن سعد بن سنان وهو ضعيف عندهم وحسن له الترمذي عن أنس مرفوعا التأني من الله والعجلة من الشيطان (1) وذكرت في مكان آخر ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله رفيق يحب الرفق + أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان + وقوله من يحرم الرفق يحرم الخير + أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبان + فصل في حقيقة الزهد
قال الخلال بلغني أن أحمد سئل عن الزاهد يكون زاهدا ومعه مئة دينار قال نعم على شريطة إذا زادت لم يفرح وإذا نقصت لم يحزن قال وبلغني أن أحمد قال لسفيان حب الرياسة أعجب إلى الرجل من الذهب والفضة ومن أحب الرياسة طلب عيوب الناس أو عاب الناس أو نحو هذا
قال أبو طالب سئل أحمد وأنا شاهد ما الزهد في الدنيا قال قصر الأمل والإياس مما في أيدي الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا المال حلوة خضرة فمن آخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع + أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان +
وعن أبي ذر مرفوعا ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها نفيت عنك + أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو ضعيف + لأن الله تعالى يقول ( ^ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) الحديد 22 23
رواه الترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن واقد منكر
____________________
1- أخرجه أبو يعلى والبيهقي وهو ضعيف
(2/230)
الحديث يعني الذي في إسناده وكذا قال البخاري منكر الحديث وقال النسائي والدارقطني متروك وضعفه أيضا غيرهم ورواه ابن ماجه من حديثه
قال الشيخ تقي الدين إذا سلم فيه القلب من الهلع واليد من العدوان كان صاحبه محمودا وإن كان معه مال عظيم بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع كما قيل للإمام أحمد وذكر ما سبق في أول الفصل وذكر الخبرين السابقين وما رواه الترمذي وحسنه وإسناده جيد عن الحسن عن أبي سعيد مرفوعا التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء (1)
وعن سفيان أنه قيل له يكون الرجل زاهدا وله مال قال نعم إن ابتلي صبر وإن أعطي شكر
وقال سفيان إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة وبالمغرب صاحب سنة فابعث إليهما بالسلام وادع الله لهما فما أقل أهل السنة والجماعة
قال القاضي أبو يعلى وذكر أبو القاسم القشيري في كتاب الرسالة إلى الصوفية وقال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث ترك ما يشغل العبد عن الله عز وجل وهو زهد العارفين
قال وسمعت محمد بن الحسين يقول سمعت علي بن عمر الحافظ سمعت أبا سهل بن زياد يقول سمعت عبد الله بن أحمد يقول سئل أبي ما الفتوة فقال ترك ما تهوى لما تخشى وقال أبو العتاهية قد قلت عشرين ألف بيت في الزهد ووددت أن لي الأبيات الثلاثة التي لأبي نواس
( يا نواسي توقر % وتعزر وتصبر )
____________________
1- أخرجه الترمذي والدارمي وإسناده ضعيف
(2/231)
( إن يكن ساءك دهر % فلما سرك أكثر )
( يا كثير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر % )
ورأى بعض إخوان أبي نواس له في النوم بعد موته بأيام فقال له ما فعل الله بك قال غفر لي بأبيات قلتها وهي الآن تحت وسادتي فنظروا فإذا برقعة تحت وسادته في بيته مكتوب فيها
( يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة % فلقد علمت بأن عفوك أعظم )
( إن كان لا يرجوك إلا محسن % فمن الذي يدعو إليه المجرم )
( أدعوك رب كما أمرت تضرعا % فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم )
( ما لي إليك وسيلة إلا الرجا % وجميل ظني ثم أني مسلم )
وروي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الزهد قال قصر الأمل ورواه في موضع آخر عن سفيان عن الزهري أنه قال ذلك
وقال عبد الله بن أحمد حدثني أبي سمعت سفيان يقول ما ازداد رجل علما فازداد من الدنيا قربا إلا ازداد من الله بعدا
وقال أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان المعروف بابن أسد سئل أحمد بن حنبل عن مسألة في الورع فقال أنا أستغفر الله لا يحل لي أن أتكلم في الورع وأنا آكل من غلة بغداد لو كان بشر بن الحارث صلح أن يجيبك عنه لأنه كان لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد ذكره ابن الأخضر في من روى عن أحمد
وروى الترمذي عن زيد بن أخزم عن إبراهيم بن أبي الوزير عن عبد الله بن جعفر المخرمي عن محمد بن عبد الرحمن بن نبيه عن ابن المنكدر عن جابر قال ذكر رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد وذكر آخر برعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل بالرعة شيء (1) ابن نبيه تفرد عنه المخرمي وباقيه جيد قال الترمذي غريب
____________________
1- أخرجه الترمذي ومحمد بن عبد الرحمن بن نبيه مجهول
(2/232)
لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وروى الخلال عن الفضيل قال علامة الزهد في الناس إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم وإن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك ألا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل ومن أحب أن يذكر لم يذكر ومن كره أن يذكر ذكر
وقال إسحاق بن بنان قال أحمد سمعته يقول يعني بشرا قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله عبد أحب الشهرة
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول من بلي بالشهرة لم يأمن أن يفتنوه إني لأفكر في بدء أمري طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة
قال ابن عقيل في الفنون هجران الدنيا في عصرنا هذا ليس من الزهد في شيء وإنما المنقطع آنف من الذل فإن مخالطة القذراء والتخلي عنهم نزاهة ومن طلق عجوزا مناقرة فلا عجب
وقال ما قطع عن الله وحمل النفس على محارم الله فهو الدنيا المذمومة وإن كان إملاقا وفقرا وما أوصل إلى طاعة الله فذاك ليس بالدنيا المذمومة وإن كان إكثارا
وقال الواجب شكرها من حيث هي نعمة الله وطريق إلى الآخرة وذريعة إلى طاعة الله وكل خير يعود بالإفراط فيه شرا كالسخاء يعود إسرافا والتواضع يعود ذلا والشجاعة تعود تهورا وقال بعضهم في قوله تعالى ( ^ فلنحيينه حياة طيبة ) النحل 97 قال القناعة
قال ابن عقيل لو علمت قدر الراحة في القناعة والعز الذي في مدارجها علمت أنها العيشة الطيبة لأن القنوع قد كفي تكلب طباعه والطبع كالصبيان الرعن ومن
____________________
(2/233)
بلي بذلك أذهب وقته في أخس المطالب وفاتته الفضائل فأصبح كمربي طفل يتصابى له ويجتهد في تسكين طباعه تارة بلعبة تلهيه وتارة بشهوة وتارة بكلام الأطفال ومن كان دأبه التصابي متى يذوق طعم المرجلة ومن كان في طبعه كذا فمتى يستعمل عقله قال ابن عقيل والحياة الطيبة التفويض إلى الله كالصبي حال التربية يفوض أمره إلى والديه ويثق بهما مستريحا من كد التخير فلا يتخير لنفسه مع تفويضه إلى من يختار له المفوض وثق بالمفوض إليه قال ابن عقيل وعندي أنها في الجنة أعني الحياة الطيبة لأن الطيب الصافي والصفاء في الجنة
وقال أيضا من عجيب ما نقدت أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه وقد رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي فلا أحد منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا تأسى على فائت دهره ولا أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين انتهى كلامه
وقد تقدم في أول فصول طلب العلم حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها (1)
ولمسلم من حديث أبي هريرة الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر + أخرجه مسلم والترمذي وابن حبان +
وعن عائشة مرفوعا الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له + أخرجه أحمد وإسناده ضعيف +
وأخذ ابن لعمر خاتما فأدخله في فيه فانتزعه عمر منه ثم بكى عمر وعنده نفر من المهاجرين الأولين فقالوا له لم تبكي وقد فتح الله لك وأظهرك على عدوك وأقر عينك فقال عمر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله عز وجل بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
____________________
1- سلف تخريجه
(2/234)
القيامة (1) وأنا مشفق من ذلك
وعن الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ضحاك ما طعامك قال اللحم واللبن قال ثم يصير إلى ماذا قال إلى ما قد علمت قال فإن الله عز وجل ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا (1)
وعن أبي بن كعب مرفوعا إن مطعم ابن آدم مثل للدنيا وإن قزحه وملحه فانظر إلى ماذا يصير + حديث صحيح أخرجه أحمد +
وعن مطرف بن الشخير عن رجل من الصحابة كان بالكوفة أميرا فخطب يوما فقال إن أعطاء هذا المال فتنة وإن إمساكه فتنة وبذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته حتى فرغ ثم نزل + أخرجه أحمد + إسناده جيد
وعن أبي موسى مرفوعا من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى + أخرجه أحمد والبيهقي وابن حبان وإسناده ضعيف +
وعن أبي مالك الأشعري مرفوعا حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة + أخرجه أحمد وصححه الحاكم +
وعن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا
____________________
1- أخرجه أحمد وإسناده ضعيف
(2/235)
بالمتنعمين (1)
وعن معاوية مرفوعا إن ما بقي من الدنيا بلاء وفتنة + أخرجه أحمد وابن ماجه وإسناده جيد +
وعن ابن مسعود مرفوعا أنه نهى عن التبقر في الأهل والمال + أخرجه أحمد وإسناده ضعيف + التبقر التوسع وأصله من البقر الشق
وعن عتبة بن عبد السلمي مرفوعا لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله تعالى لحقره يوم القيامة + أخرجه أحمد وإسناده ضعيف + رواهن أحمد
وأنشد ابن هبيرة الوزير الحنبلي لنفسه
( يلذ بذي الدنيا الغني ويطرب % ويزهد فيها الألمعي المجرب )
( وما عرف الأيام والناس عاقل % ووفق إلا كان في الموت يرغب )
( إلى الله أشكو همة لعبت بها % أباطيل آمال تغر وتخلب )
( فوا عجبا من عاقل يعرف الدنا % فيصبح فيها بعد ذلك يرغب )
وأنشد أيضا
( الحمد لله هذى العين والأثر % فما الذي باتباع الحق ينتظر )
( وقت يفوت وأشغال معوقة % وضعف عزم ودار شأنها الغير )
( والناس ركضى إلى مأوى مصارعهم % وليس عندهم من ركضهم خبر )
( تسعى بهم حادثات من نفوسهم % فيبلغون إلى المهوى وما شعروا )
( والجهل أصل فساد الناس كلهم % والجهل أصل عليه يخلق البشر )
في أبيات ذكرها وأنشد أيضا
____________________
1- أخرجه أحمد وسنده ضعيف
(2/236)
( يا أيها الناس إني ناصح لكم % فعوا كلامي فإني ذو تجاريب )
( لا تلهينكم الدنيا بزهرتها % فما تدوم على حسن ولا طيب )
وأنشد أيضا
( إذا قل مال المرء قل صديقه % وقبح منه كل ما كان يجمل )
وأنشد
( والوقت أنفس ما عنيت بحفظه % وأراه أسهل ما عليك يضيع )
وقد قال ابن هانئ الشاعر في قصيدته التي يرثي فيها ولده
( حكم المنية في البرية جار % ما هذه الدنيا بدار قرار )
( بينا يرى الإنسان فيها مخبرا % حتى يرى خبرا من الأخبار )
( طبعت على كدر وأنت تريدها % صفوا من الأقذار والأكدار )
( ومكلف الأيام ضد طباعها % متطلب في الماء جذوة نار )
( العيش نوم والمنية يقظة % والمرء بينهما خيال سار )
( ليس الزمان وإن حرصت مساعدا % خلق الزمان عداوة الأحرار )
ومنها
( وتلهب الأحشاء شيب مفرقي % هذا الضياء شواظ تلك النار )
( لا حبذا الشيب الوفي وحبذا شرخ الشباب الخائن الغدار )
( وطري من الدنيا الشباب وروقه % فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري )
ومنها
( ذهب التكرم والوفاء من الورى % وتصرما إلا من الأشعار )
وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى يتمثل كثيرا بالبيت الثالث
____________________
(2/237)
والرابع وذكرهما القاضي السروجي الحنفي في شرحه في الجنائز في المصاب ولابن هانئ أيضا مما قد يتعلق بغير هذا الموضع
( لا أنت عند اليسر من زواره % يوما ولا في العسر من عواده )
وله منها
( أفدي الكتاب بناظري فبياضه % ببياضه وسواده بسواده )
وله
( قد كان يرجف في ليالي وصله % قلبي فكيف يكون يوم صدوده )
وله
( كم عاهد الدمع لا يغر بجريته الواشي % فلما استقلت ظعنهم غدرا )
وللترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن عوف قال ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر (1) فصل في أخبار العابدات والعابدين والزهاد
قال الحسن بن الليث الرازي قيل لأحمد يجيئك بشر يعنون ابن الحارث قال تعنون الشيخ نحن أحق أن نذهب إليه قيل له نجيء به قال لا أكره أن يجيء إلي أو أذهب إليه فيتصنع لي وأتصنع له فنهلك
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله وذكر بشر بن الحارث فقال لقد كان فيه أنس وقال ما كلمته قط نقلته من الورع
وقد قال البيهقي في مناقب الإمام أحمد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة حدثني أبو محمد المقرئ البغدادي حدثنا جعفر بن محمد صاحب بشر قال اعتل بشر بن الحارث فعادته آمنة الرملية من
____________________
1- أخرجه الترمذي وإسناده صحيح
(2/238)
الرملة فإنها لعنده إذ دخل أحمد بن حنبل يعوده فقال من هذه فقال هذه آمنة الرملية بلغها علتي فجاءت من الرملة تعودني فقال فسلها تدعو لنا فقالت اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيرانك من النار فأجرهما قال أحمد فانصرفت فلما كان في الليل طرحت إلي رقعة فيها مكتوب باسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ولدينا مزيد
وقال المروذي قال أبو عبد الله جاءتني امرأة من هؤلاء المتعبدات فأخبرتني عن امرأة أخرى أنها عمدت إلى شيئها ففوتته على نفسها واقتصرت على قرصين وتركت الدنيا وهي تسألك أن تدعو لها قال فقلت لها قولي لصاحبة القرصين تدعو لي
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول ما أعدل بفضل الفقر شيئا أتدري إذا سألك أهلك حاجة لا تقدر عليها أي شيء لك من الأجر ما قل من الدنيا كان أقل للحساب
وقال المروذي سمعت أحمد يقول إن لكل شيء كرما وكرم القلب الرضا عن الله تعالى سمعت أبا عبد الله يقول لشجاع بن مخلد يا أبا الفضل إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنها أيام قلائل
وقال أيضا عن أحمد ما أعدل بالصبر على الفقر شيئا كم بين من يعطى من الدنيا ليفتتن إلى آخر تزوى عنه قال وذكرت لأبي عبد الله عن بعض المفتين شيئا في الورع فشدد على السائل وهو عبد الوهاب فقال أبو عبد الله ليس ينبغي للرجل أن يحمل الناس على ما يفعل أو كلاما ذا معناه إذا كان يفتي وقال سمعت أبا عبد الله وذكر قوما من المترفين فقال الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة
وروى الترمذي وقال غريب عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلفي
____________________
(2/239)
ثوبا حتى ترقعيه (1)
وعن مكحول قال قلت للحسن إني أريد الخروج إلى مكة قال إياك أن تصحب رجلا يكرم عليك فيفسد الذي بينه وبينك
وقال أحمد إنما قوي بشر لأنه كان وحده ولم يكن له عيال ليس من كان معيلا كمن كان وحده لو كان إلي ما باليت ما أكلت
وقال أيضا لو ترك الناس التزويج من كان يدفع العدو لبكاء الصبي بين يدي أبيه متسخطا يطلب منه خبزا أفضل من كذا وكذا يراه الله بين يديه أين يلحق المتعبد الأعزب
وقال في الفنون حديث مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا طلب إلى ذي العيلة عيلته شهوة فأين يلحقه القائم الصائم
وذكر أبو عبد الله من المحدثين على بن المديني وغيره كم تمتعوا من الدنيا إني لأعجب من هؤلاء المحدثين حرصهم على الدنيا قال المروذي وذكرت رجلا من المحدثين فقال أنا أشرت به أن لا يكتب عنه وإنما أنكرت عليه حبه الدنيا وقد سبق معنى هذا في فصول العلم وأن العالم ليس كغيره لأنه يقتدى به
قال المروذي وسمعت أبا عبد الله يقول قد تفكرت في هذه الآية
( ^ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) طه 131
ثم قال تفكرت في وفيهم وأشار نحو العسكر وقال ( ^ ورزق ربك خير وأبقى ) قال رزق يوم بيوم خير قال ولا يهتم لرزق غد وقال أبو داود كانت مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر شيئا من أمر الدنيا وما رأيته ذكر الدنيا قط
____________________
1- أخرجه الترمذي والحديث ضعيف جدا
(2/240)
وقال أحمد لرجل لو صححت ما خفت أحدا وسبق بنحو أربعة كراريس في فضائله
وسئل عن الحب في الله فقال هو أن لا يحبه لطمع دنيا وفيه أخبار كثيرة
منها ما روى مسلم من حديث أبي هريرة يقول الله يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي (1)
وللترمذي وقال حسن صحيح عن معاذ مرفوعا قال الله المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء + أخرجه الترمذي ومالك وصححه ابن حبان +
ولأبي داود هذا المعنى من حديث عمر وفيه قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها + أخرجه أبو داود وأبو نعيم وسنده جيد +
ولمالك وأحمد من حديث معاذ إن الله يقول وجبت جنتي للمتحابين في والمتجالسين في + أخرجه مالك وأحمد وإسناده صحيح +
ولمسلم من حديث أبي هريرة أن الملك قال للذي زار أخاه إني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما أحببته فيه (1)
ولأحمد من حديث أبي أمامة ما أحب عبد عبدا إلا أكرمه ربه + أخرجه أحمد وسنده حسن +
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود وغيره أن رجلا قال يا رسول الله
____________________
1- أخرجه مسلم وأحمد
(2/241)
الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال المرء مع من أحب (1)
وذكر أحمد الدنيا فقال قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ وقال لو أن الدنيا تكون في مقدار لقمة ثم أخذها امرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفا فصل
قال محمد بن عمران أبو جعفر الخياط سمعت أحمد بن حنبل يقول بلغني عن أخي منصور بن عمران أنه كان يقول اللهم قد أحاطت بنا الشدائد وأنت ذخر لها
فلا تعذبنا وأنت قادر على العفو سيدي قد أريتنا قدرتك ولم تزل قادرا فأرنا عفوك فلم تزل عفوا
قال أبو جعفر أحمد بن الحسين المنادي فلو كان عند أبي عبد الله في منصور أدنى شيء من التهمة في البدعة لما حكى عنه شيئا ولا خصه بالأخوة
قال ابن المنادي إن أبا عبد الله النواء قال قلت لبشر بن الحارث إن منصور بن عمار يقول في بعض كلامه يا عبيد ما يفنى كيف رأيتم ذل مملكة الدنيا ألم تصحبوها بالائتمان لها فأذاقتكم الغش من مكروهها قال فوجم لذلك بشر وسكت فأردت أن أزيده فقال قد أشغلت علي قلبي فصل في تعبد الجهل وتقشف الرياء وتزهد الشهرة وعبودية العلم والحكمة
قال محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون وسأله البرقاني أيها الشيخ تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والترك لها وتلبس أحسن الثياب وتأكل أطيب الطعام فكيف هذا قال كل ما يصلحك مع الله فافعله إذا صلح حالك مع الله تلبس لين الثياب وتأكل طيب الطعام فلا يضرك
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان
(2/242)
وقال ابن الجوزي قد تقع لكثير من الناس يقظة عند سماع المواعظ وأخبار الزهاد والصالحين فيقومون على أقدام العزائم على الزهد وانتظار الموت بما يصلح لهم ففيهم من يقتدي بجاهل من المتزهدين أو يعمل على ما في كتاب بعض الزهاد فيرى فيه التقلل من الطعام بالتدريج وترك الشهوات وأشياء قد وضعها من قلة علمه بالشريعة والحكمة فيديم الصوم والسهر والتقلل ويدوم على المآكل الردية فتجف المعدة وتضيق وتقوى السوداء وتنصب الأخلاط إلى الكبد والطحال وربما تصاعدت إلى الدماغ فيبس أو فسد الطبع وربما تغير ذهنه فاستوحش من الخلق وحشة يعتقدها أنسا بالحق فأعرض عن مجالسة العلماء ظنا منه أنه قد بلغ المقصود فهذه الأشياء تعكر أولا المطلوب من التعبد فينقطع الإنسان بضعف القوة عنه ويبقى معالجا للأمراض فيشتغل الفكر فيها عما هو أهم
ولقد تخبط في هذا الأمر خلق كثير من الصالحين صحت مقاصدهم وجهلوا الجادة فمشوا في غيرها وفي هؤلاء الذين حملوا على أنفسهم من عاجله المرض والموت وفيهم من رجع القهقرى ومنهم من تخبط فلا من هؤلاء ولا من هؤلاء فأما العلماء الفهماء فإنهم على قانون الحكمة وسبيل العلم فإياك أن تعرض عن الجادة السليمة واحذر من الاقتداء بجهال المتصوفة والمتزهدين الذين تركوا الدنيا على زعمهم فالصادق منهم في تركها عامل بواقعه لا بالعلم والمبهرج منهم خسر الدنيا والآخرة
ومن جهل هؤلاء أنهم لو رأوا عالما يرفق بنفسه عابوه ولو رأوا عليه قميص كتان قال زاهدهم هذا ما يعمل بعلمه ولو رأوه راكبا فرسا قالوا هذا جبار فإياك أن تحملك وثبة عزم على أن تروم ما لا تناله فتزلق وإن نلته أثمر تلفا أو رد إلى وراء واستضئ بمصباح العلم فإن قل علمك فاقتد بعالم محكم وراع بدنك مراعاة المطية وليكن همك تقويم أخلاقك والمقصود صدق النية لا تعذيب الأبدان وأكثر الكلام في هذا المعنى في مواضع وأن الجادة طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/243)
وقال أيضا أما ترى زهاد زماننا إلا من عصمه الله باتباع السنة يغشاهم أبناء الدنيا والظلمة فلا ينهونهم عما هم فيه إلا بطرف اللسان أين هؤلاء من سفيان حيث كان لا يكلم من يكلم ظالما ولو قيل لزهاد زمامما اخرجوا فاشتروا حاجة من السوق صعب عليهم حفظا لرياستهم كأنهم ما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتري حاجته ويحملها بنفسه ولو قيل لزهادنا كلوا معنا لقمة لخافوا من انكسار الجاه لأن الناس يعتقدون فيهم دوام الصوم وأين هم من معروف أصبح يوما صائما فسمع ساقيا يقول رحم الله من شرب فشرب فقيل له أما كنت صائما فقال بلى ولكن رجوت دعوته
( أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها % مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب )
( ولا خرجن من الحمام مائلة % أوراكهن صقيلات العراقيب )
( حسن الحضارة مجلوب بتطرية % وفي البداوة حسن غير مجلوب )
والله لا يبقى في القيامة إلا الإخلاص وقبل القيامة لا يبقى إلا ذكر المخلصين كم قول معروف من عالم لا يعرف قبره ومن زاهد لا يدرى أين هو ومعروف معروف بالله عليكم اقبلوا نصحي يا أخواني عاملوا الله سبحانه وتعالى في الباطن حتى لا يدرى أنكم أهل معاملة إلى أن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه يأس الزهاد وحده ولا الانبساط في الدنيا وحده بل حاله جامعة لكل خلق صالح إلى أن قال الرياء يكون في التعبدات فالعلم أصل كل خير ومعدنه أخلاق الرسول وآدابه صلى الله عليه وسلم
وقال أيضا أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدئ ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد فالله الله عليكم بملاحظة سير القوم ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم كما قال
( فاتني أن أرى الديار بطرفي % فلعلي أرى الديار بسمعي )
____________________
(2/244)
وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز فلو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في طلب الكتب فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعاداتهم وغرائب علوم لا يعرفها من لم يطالع فصل
روى أبو حفص البرمكي بإسناد عن عمر رضي الله عنه قال من خاف من الله عز وجل لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة كان غير ما ترون فصل
قال أبو حفص العكبري سمعت أبا بكر بن مليح يقول بلغني عن أحمد أنه قال إذا أراد الرجل أن يزوج رجلا فأراد أن يجتمع له الدنيا والدين فليبدأ فيسأل عن الدنيا فإن حمدت سأل عن الدين فإن حمد فقد اجتمعا وإن لم يحمد كان فيه رد الدنيا من أجل الدين ولا يبدأ فيسأل عن الدين فإن حمد ثم سأل عن الدنيا فلم تحمد كان فيه رد الدين لأجل الدنيا
وقال إسحاق بن حسان كتبت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أشاوره في التزويج فكتب إلي تزوج ببكر واحرص على أن لا يكون لها أم
____________________
(2/245)
فصل في سنة المصافحة بين الرجال والنساء وما قيل في التقبيل والمعانقة
وتسن المصافحة في اللقاء للخبر قال الفضل بن زياد صافحت أبا عبد الله غير مرة وابتدأني بالمصافحة ورأيته يصافح الناس كثيرا
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري دخلت على أحمد بن حنبل أسلم عليه فمددت يدي إليه فصافحني فلما خرجت قال ما أحسن أدب هذا الفتى لو انكب علينا كنا نحتاج أن نقوم وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه
واحتج البخاري يقول ابن مسعود علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه (1)
فتصافح المرأة المرأة والرجل الرجل والعجوز والبرزة غير الشابة فإنه يحرم مصافحتها للرجل ذكره في الفصول والرعاية وقال ابن منصور لأبي عبد الله تكره مصافحة النساء قال أكرهه قال إسحاق بن راهويه كما قال
وقال محمد بن عبد الله بن مهران إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يصافح المرأة قال لا وشدد فيه جدا قلت فيصافحها بثوبه قال لا قال رجل فإن كان ذا محرم قال لا قلت ابنته قال إذا كانت ابنته فلا بأس
فهاتان روايتان في تحريم المصافحة وكراهتها للنساء والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين وعلل بأن الملامسة أبلغ من النظر ويتوجه تفصيل بين المحرم وغيره فأما الوالد فيجوز
وفي صحيح البخاري في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر اشترى من عازب رحلا
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/246)
فحمله معه ابنه البراء رضي الله عنهم قال البراء فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى فرأيت أباها يقبل خدها وقال كيف أنت يا بنية ورواه أحمد ومسلم (1)
وذكر صاحب النظم تكره مصافحة العجوز
وتجوز مصافحة الصبي لمن يعلم من نفسه الثقة إذا قصد تعليمه حسن الخلق ذكره في الفصول والرعاية وقال الشيخ تقي الدين كلام الثوري وغيره يمنع ذلك والمصافحة شر من النظر
وتباح المعانقة وتقبيل اليد والرأس تدينا وإكراما واحتراما مع أمن الشهوة وظاهر هذا عدم إباحته لأمر الدنيا واختاره بعض الشافعية والكراهة أولى وكذا عند الشافعية تقبيل رجله
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن قبلة اليد فقال إن كان على طريق التدين فلا بأس قد قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وإن كان على طريق الدنيا فلا إلا رجلا يخاف سيفه أو سوطه
وقال المروذي أيضا وكرهها على طريق الدنيا وقال تميم بن سلمة التابعي القبلة سنة وقال مهنا بن يحيى رأيت أبا عبد الله كثيرا يقبل وجهه ورأسه وخده ولا يقول شيئا ورأيته لا يمتنع من ذلك ولا يكرهه ورأيت سليمان بن داود الهاشمي يقبل وجهه ورأسه وخده ولا يمتنع من ذلك ولا يكرهه ورأيت يعقوب بن إبراهيم يقبل وجهه وجبهته
وقال عبد الله بن أحمد رأيت كثيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين وبني هاشم وقريش والأنصار يقبلونه يعني أباه بعضهم يده وبعضهم رأسه ويعظمونه تعظيما لم أرهم يفعلون ذلك بأحد من الفقهاء غيره لم أره يشتهي أن يفعل به ذلك
____________________
1- أخرجه البخاري وأبو داود
(2/247)
وقال الخلال أخبرني إسماعيل بن إسحاق السراج قال قلت لأبي عبد الله أول ما رأيته يا أبا عبد الله ائذن لي أن أقبل رأسك قال لم أبلغ أنا ذاك وقال إسحاق بن منصور لأبي عبد الله تقبل يد الرجل قال على الإخاء
وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي سألت أبا عبد الله قلت ترى أن يقبل الرجل رأس الرجل أو يده قال نعم
وقال الشيخ تقي الدين تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلا وذكر ما رواه أبو داود وغيره عن ابن عمر أنهم لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عام موته قبلوا يده (1) ورخص فيه أكثر العلماء كأحمد وغيره على وجه الدين وكرهه آخرون كمالك وغيره
وقال سليمان بن حرب هي السجدة الصغرى وأما ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها وقصده لذلك فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائنا من كان بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ بذلك انتهى كلامه
وقال ابن عبد البر كان يقال تقبيل اليد إحدى السجدتين وتناول أبو عبيدة يد عمر رضي الله عنهما ليقبلها فقبضها فتناول رجله فقال ما رضيت منك بتلك فكيف بهذه
وقبض هشام بن عبد الملك يده من رجل أراد أن يقبلها وقال مه فإنه لم يفعل هذا من العرب إلا هلوع ومن العجم إلا خضوع
وقال الحسن البصري قبلة يد الإمام العادل طاعة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبلة الوالد عبادة وقبلة الولد رحمة وقبلة المرأة شهوة وقبلة الرجل أخاه دين
وفي ترجمة هشام بن عروة بن الزبير أنه أراد أن يقبل يد المنصور فمنعه وقال
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
(2/248)
نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك وصرح ابن الجوزي بأن تقبيل يد الظالم معصية إلا أن يكون عند خوف
وقال في مناقب أصحاب الحديث ينبغي للطالب أن يبالغ في التواضع للعالم ويذل نفسه له قال ومن التواضع للعالم تقبيل يده وقبل سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض أحدهما يد حسين بن علي الجعفي والآخر رجله
وقال إسحاق بن إبراهيم إن أبا عبد الله احتج في المعانقة بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم عانقه (1) قال وسألت أبا عبد الله عن الرجل يلقى الرجل يعانقه قال نعم فعله أبو الدرداء وقال في الإرشاد المعانقة عند القدوم من السفر حسنة وقال الشيخ تقي الدين فقيدها بالقدوم من السفر والقاضي أطلق والمنصوص في السفر انتهى كلامه
وروى البيهقي في السنن الكبير أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو الحسن ابن إسماعيل السراج حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن غالب التمار قال كان محمد بن سيرين يكره المصافحة فذكرت ذلك للشعبي فقال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا صافحوا فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضا إسناد جيد + سنن البيهقي + +
وتكره مصافحة الكافر وذكر أبو زكريا النواوي معانقة القادم من السفر مستحبة وأن الانحناء مكروه وأن تقبيل يد الرجل الصالح مستحب
وقال الشيخ وجيه الدين أبو المعالي في شرح الهداية تستحب زيارة القادم ومعانقته والسلام عليه قال وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنة مستحبة قال ويكره أن يطمع في قيام الناس له لقوله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يتمثل الناس قياما له فليتبوا مقعده من النار + أخرجه الترمذي وأبو داود والبخاري وأحمد وإسناده صحيح + وفي بعض ألفاظه صفوفا كذا قال
____________________
1- أخرجه أحمد وأبو داود وإسناده ضعيف
(2/249)
وسبق في القيام ما ظاهره أو صريحه التحريم لهذا الخبر قال أبو المعالي وهذا محمول على ما يفعله الملوك من استدامة قيام الناس لهم لأنه يراوح بين رجليه كما تقف الدابة على ثلاث وتريح واحدة قال فأما تقبيل يد العالم والكريم لرفده والسيد لسلطانه فجائز فأما إن قبل يده لغناه فقد روي من تواضع لغني لغناه فقد ذهب ثلثا دينه وقال التحية بانحناء الظهر جائز وقيل هو سجود الملائكة لآدم وقيل السجود حقيقة ولما قدم ابن عمر الشام حياه أهل الذمة كذلك فلم ينههم وقال هذا تعظيم للمسلمين انتهى كلامه وفي بعضه نظر
وأما السجود إكراما وإعظاما فلا يجوز كما دلت عليه الأخبار المشهورة
وأما تقبيل الأرض فقال صاحب النظم يكره كراهة شديدة لأنه يشبه السجود لكنه ليس بسجود لأن السجود الشرعي وضع الجبهة بالأرض على طهارة لله تعالى وحده إلى جهة مخصوصة وهذا إنما يصيب الأرض منه فمه وذلك لا يجزئ في السجود انتهى كلامه وهذا لا يفعل غالبا إلا للدنيا وهو أشد من الانحناء ومن تقبيل اليد للدنيا وقد ذكر صاحب النظم أنه يكره الانحناء مسلما
وذكر أبو بكر ابن الأنباري الحنبلي المشهور في قوله تعالى ( ^ وخروا له سجدا ) يوسف 100 أنهم سجدوا ليوسف إكراما وتحية وأنه كان يحيي بعضهم بعضا بذلك وبالانحناء فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الخبر الآتي أينحني له قال لا (1) ذكره ابن الجوزي ولم يخالفه فدل على الموافقة فهذه ثلاثة أقوال
وجزم في كتاب الهدي بتحريم السجود والانحناء والقيام على الرأس وهو
____________________
1- أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وإسناده ضعيف
(2/250)
جالس
وفي مسلم عن جابر قال اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلوا قياما فصلوا قياما وإن صلوا قعودا فصلوا قعودا (1)
فهذا نهي وظاهره التحريم لا سيما ومذهب الإمام أحمد أنه لا يجوز أن يصلي قائما خلف قاعد واحتجوا بهذا النهي
وقال الحافظ تقي الدين ابن الأخضر في من روى عن أحمد محمد بن أحمد بن المثنى أبو جعفر البزاز قال أتيت أحمد بن حنبل فجلست على بابه أنتظر خروجه فلما خرج قمت إليه فقال لي أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار + سلف تخريجه + فقلت إنما قمت إليك فاستحسن ذلك انتهى كلامه
ومدلول هذا واضح فإن النهي دل على القيام له ومن قام إليه لم يتناوله النهي مع أن النهي لمن أحب ذلك وسبق الكلام في القيام وقد تقدم بعد فصول السلام فصل في ذكر القيام
ويكره تقبيل الفم لأنه قل أن يقع كرامة ونزع يده من يد من صافحه قبل نزعه هو إلا مع حياء أو مضرة التأخير ذكره في الفصول والرعاية وقال الشيخ عبد القادر ولا ينزع يده حتى ينزع الآخر يده إذا كان هو المبتدئ
قال الشيخ تقي الدين الضابط أن من غلب على ظنه أن الآخر سينزع أمسك وإلا فلو استحب الإمساك لكل منهما أفضى إلى دوام المعاقدة لكن تقييد عبد
____________________
1- أخرجه مسلم
(2/251)
القادر حسن أن النازع هو المبتدئ انتهى كلامه
وقال أبو داود حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو قطن أخبرنا مبارك عن ثابت عن أنس قال ما رأيت رجلا التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه وما رأيت رجلا أخذ بيده فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده (1) مبارك هو ابن فضالة ثقة مدلس
وقال أيضا باب في المعانقة ثم روى من رواية أيوب بن بشير بن كعب عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه قال ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي يوما فلم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود + ضعيف + هذا الرجل مجهول وأيوب روى عنه جماعة وقال ابن خراش مجهول ورواه أحمد
وروى الترمذي وحسنه عن أنس قال قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقاه أخوه أو صديقه أينحني له قال لا قال أفيلتزمه ويقبله قال لا قال فيأخذ بيده ويصافحه قال نعم ورواه أحمد وابن ماجه + حديث حسن +
وعن عبد الله بن سلمة المرادي وحديثه حسن عن صفوان بن عسال قال قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فذكر الحديث إلى قوله فقبلوا يده ورجله وقالا نشهد إنك نبي رواه أحمد والنسائي والترمذي وغيرهم بأسانيد صحيحة وصححه الترمذي + أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وإسناده حسن +
وقال أبو داود حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مطر بن عبد الرحمن الأعنق
____________________
1- أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
(2/252)
حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال لما جئنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله قال وانتظرنا المنذر الأشج حتى أتى من عيبته فلبس ثوبيه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن فيك خلتين يحبهما الله تعالى الحلم والأناة (1) الحديث أم أبان تفرد عنها مطر
وروى أيضا حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني فقال اصطبر قال إن عليك قميصا وليس علي قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه قال إنما أردت هذا يا رسول الله + أخرجه أبو داود ورجاله ثقات لكنه منقطع + إسناده ثقات
ومات أسيد ولعبد الرحمن نحو ثلاث سنين ترجم عليه أبو داود باب في قبلة الجسد أصبرني أي أقدني من نفسك قال استقد يقال صبر فلان من خصمه واصطبر أي اقتص منه وأصبره الحاكم أي أقصه من خصمه
وعن عائشة قالت قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله رواه الترمذي وحسنه + أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب +
____________________
1- أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف
(2/253)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي فقال الأقرع بن حابس إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم متفق عليه (1)
وعن البراء مرفوعا ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي + أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وإسناده حسن + وقال غريب من حديث أبي إسحاق عن البراء وهو من رواية الأجلح عن أبي إسحاق وهو مختلف فيه
وعن البراء مرفوعا إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله عز وجل واستغفرا غفر لهما إسناده حسن رواه أبو داود + أخرجه أبو داود وأحمد وإسناده ضعيف +
وفي الحديث الصحيح عن حميد عن أنس قال لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة رواه أبو داود + أخرجه أبو داود + وسأله قتادة أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه البخاري + أخرجه البخاري +
وفي الموطأ عن عطاء الخراساني تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا تذهب الشحناء + مرسل أخرجه مالك وأخرجه ابن وهب +
وقال ابن عبد البر قال أبو مجلز المصافحة تجلب المودة وقد قال أبو الحسين الرازي فيما ألفه في ابتداء الشافعي ولقيه مالكا أخبرني أبو رافع أسامة بن
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(2/254)
علي بن سعد بمصر حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سألت الشافعي عن الاعتناق في الحمام للغائب فقال لا يجوز لا داخل ولا خارج وقال كان مالك يكره المصافحة فكيف الاعتناق وقال ابن حزم اتفقوا أن مصافحة الرجل الرجل حلال
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال أثم لكع أثم لكع يعني حسنا فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه (1)
قوله في طائفة من النهار أي قطعة منه وقينقاع مثلث النون ولكع هنا الصغير والخباء بكسر الخاء والمد بيتها والسخاب بكسر السين جمعه سخب القلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري وقيل هو خيط سمي سخابا لصوت خرزة عند حركته من السخب بفتح السين والخاء ويقال الصخب وهو اختلاط الأصوات وفيه جواز لباس الصبيان القلائد والسخب من الزينة وتنظيفهم ولا سيما عند لقاء أهل الفضل وملاطفة الصبي والتواضع
وكره مالك معانقة القادم من سفر وقال بدعة واعتذر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بجعفر حين قدم بأنه خاص له فقال له سفيان ما تخصه بغير دليل فسكت مالك قال القاضي عياض وسكوته دليل لتسليم قول سفيان وموافقته وهو الصواب حتى يقوم دليل على التخصيص
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/255)
فصل في تقبيل المحارم من النساء في الجبهة والرأس
قال ابن منصور لأبي عبد الله يقبل الرجل ذات محرم منه قال إذا قدم من سفر ولم يخف على نفسه وذكر حديث خالد بن الوليد قال إسحاق بن راهويه كما قال وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من الغزو فقبل فاطمة (1) ولكن لا يفعله على الفم أبدا الجبهة أو الرأس
وقال بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله وسئل عن الرجل يقبل أخته قال قد قبل خالد بن الوليد أخته وهذه المسألة تشبه مسألة المصافحة لذي محرم وقد تقدم في القيام حديث عائشة في تقبيله صلى الله عليه السلام لفاطمة فصل في التناجي وكلام السر وأمانة المجالس
ويكره أن يتناجي اثنان دون ثالثهما قاله في الرعاية وقال في المجرد ولا يتناجى اثنان دون واحد وقد يؤخذ منه التحريم وجزم به النواوي
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا لا يحل لثلاثة يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون الثالث رواه أحمد + أخرجه أحمد وإسناده ضعيف والحديث صحيح +
والنهي عام وفاقا للمالكية والشافعية وخصه بعض العلماء بالسفر وزعم بعضهم أنه منسوخ وأنه كان في أول الإسلام ومرادهم جماعة دون واحد وأنه إن أذن فلا نهي لأن الحق له وقد قال صاحب النظم يكره أن يتناجي الجمع دون مفرد وقال في الرعاية وأن يدخل أحد في سر قوم لم يدخلوه فيه والجلوس والإصغاء إلى من يتحدث سرا بدون إذنه وقيل يحرم وظاهره عوده إلى ما تقدم والأول هو الذي ذكره في المجرد والفصول وعيون المسائل
____________________
1- أخرجه أبو داود والنرمذي
(2/256)
وإن كان إذنه استحياء فذكر صاحب النظم يكره وقد ذكر ابن الجوزي أن من أعطى مالا حياء لم يجز الأخذ قال في الرعاية وهو معنى ما في الفصول
ولا يجوز الاستماع إلى كلام قوم يتشاورون ويجب حفظ سر من يلتفت في حديثه حذرا من إشاعته لأنه كالمستودع لحديثه
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن عطاء وهو ثقة وقال البخاري فيه نظر عن عبد الملك بن جابر بن عتيك عن جابر بن عبد الله مرفوعا إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة (1)
ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن ابن أخي جابر بن عبد الله عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق + أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف +
ولأحمد من حديث أبي الدرداء من سمع من رجل حديثا لا يشتهي أن يذكر عنه فهو أمانة وإن لم يستكتمه + أخرجه أحمد وإسناده ضعيف + وهو من رواية عبيد الله بن الوليد الوصافي بتشديد الصاد وهو ضعيف عندهم
وله عن أنس قال ما خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له + أخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي +
____________________
1- حديث حسن أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والطحاوي وأخرجه أبو يعلى وإسناده ضعيف
(2/257)
وللبخاري من حديث أبي هريرة أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها يا رسول الله قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (1) وسبق في أول الكتاب عند ذكر الغيبة والكذب أنه يحرم إفشاء السر زاد في الرعاية المضر
وفي مسند أحمد والصحيحين أن بلالا رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن زينب امرأة ابن مسعود والمرأة الأنصارية لما سأله من هما + أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي + بعد قولهما لا تخبره من نحن وكانتا ذهبتا تستفتيانه
قال في شرح مسلم جوابه صلى الله عليه وسلم واجب ولا يقدم عليه غيره وإذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها وذكر ابن عبد البر الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسر إلى أخيه سرا لم يحل له أن يفشيه عليه + أخرجه أحمد والبخاري ومسلم +
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لابنه عبد الله رضي الله عنه يا بني إن أمير المؤمنين يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدنيك فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يطلعن منك على كذبة وقال أكثم بن صيفي إن سرك من دمك فانظر أين تريقه وكان يقال أكثر ما يتم التدبير الكتمان ولهذا كان عليه السلام إذا أراد غزوة ورى بغيرها
قال الشاعر
( وسرك ما كان عند امرئ % وسر الثلاثة غير الخفي )
وقال آخر
____________________
1- أخرجه أحمد والبخاري
(2/258)
( فلا تخبر بسرك كل سر % إذا ما جاوز الإثنين فاش )
وذهبت طائفة إلى أن السر ما أسررته في نفسك ولم تبده إلى أحد قال عمرو بن العاص ما استودعت رجلا سرا فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدرا منه حيث استودعته إياه وإلى هذا ذهب القائل
( إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه % فصدر الذي يستودع السر أضيق )
وأنشد بعض الأعراب
( ولا أكتم الأسرار لكن أبثها % ولا أدع الأسرار تقتلني غما )
( وإن سخيف الرأي من بات ليله % حزينا بكتمان كأن به حمى )
( وفي بثك الأسرار للقلب راحة % وتكشف بالإفشاء عن قلبك الهما )
وقال آخر
( ولا أكتم الأسرار لكن أذيعها % ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي )
( وإن ضعيف القلب من بات ليله % تقلبه الأسرار جنبا على جنب )
وكان يقال لا تطلعوا النساء على سركم يصلح لكم أمركم وكان يقال كل شيء تكتمه عن عدوك فلا تظهر عليه صديقك
قال الشاعر
( إذا كتم الصديق أخاه سرا % فما فضل العدو على الصديق )
وقال آخر
( أداري خليلي ما استقام بوده % وأمنحه ودي إذا يتجنب )
( ولست بباد صاحبي بقطيعة % ولا أنا مبد سره حين يغضب )
وقال آخر
( إذا ما ضاق صدرك عن حديث % فأفشته الرجال فمن تلوم )
( إذا عاتبت من أفشى حديثي % وسري عنده فأنا الظلوم )
____________________
(2/259)
( وإني حين أسأم حمل سري % وقد ضمنته صدري سؤوم )
( ولست محدثا سري خليلا % ولا عرسي إذا خطرت هموم )
( وأطوي السر دون الناس إني % لما استودعت من سري كتوم )
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون الثالث وعن ابن مسعود مرفوعا إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه متفق عليه (1) فصل ما يستحب فعله لإسكات الغضب
قال القاضي ويستحب لمن غضب إن كان قائما جلس وإذا كان جالسا اضطجع
وقال ابن عقيل ويستحب لمن غضب أن يغير حاله فإن كان جالسا قام واضطجع وإن كان قائما مشى وقول القاضي هو الصواب قاله الشيخ تقي الدين وهو كما قال
ولأحمد وأبي داود من حديث أبي ذر إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع + أخرجه أحمد وصححه ابن حبان وإسناده صحيح + إسناده صحيح
وقد استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم واشتد غضب أحدهما فقال صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ففي خبر معاذ اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وفي خبر سليمان بن صرد أعوذ بك من الشيطان الرجيم قال في خبر معاذ فأبى ومحك وجعل يزداد غضبا وفي خبر سليمان فقال الرجل هل ترى بي من جنون رواهما أبو داود
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/260)
وروى البخاري ومسلم خبر سليمان (1) وروى أحمد والترمذي خبر معاذ + أخرجه أحمد والترمذي والنسائي ورجاله ثقات وإسناده ضعيف +
ويستحب أن يتوضأ لخبر عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ رواه أبو داود وغيره + أخرجه أبو داود وأحمد وسنده حسن + فصل في الدعاء وآدابه والإسرار والجهر به
يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا قال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول ينبغي أن يسر دعاءه لقوله تعالى ( ^ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) الإسراء 110
قال هذا الدعاء قال وسمعت أبا عبد الله يقول وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء لا سيما عند شدة الحرب وحمل الجنازة والمشي بها وقيل يسن أن يسمع المأموم الدعاء قدمه ابن تميم وقيل مع قصد تعليمه ولا يجب له الإنصات في أصح الوجهين ذكره ابن تميم وابن حمدان وقيل خفض الصوت بالدعاء أولى قال في المستوعب يكره رفع الصوت بالدعاء وينبغي أن يخفى ذلك لأن الله تعالى قال ( ^ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) الأعراف 55 فأمر بذلك
وعن سعد مرفوعا خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي رواه أحمد + أخرجه أحمد وابن حبان وهو ضعيف +
وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا
____________________
1- البخاري ومسلم
(2/261)
ذكرني (1)
ولأحمد وابن ماجه أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه + أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبغوي وهو حديث صحيح +
ولأحمد أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرا فله وإن ظن بي شرا فله
وله عن أنس مرفوعا أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني + أخرجه أحمد وهو حديث صحيح +
وعن أبي صالح الخوزي ولم يرو عنه غير أبي المليح الفارسي وضعفه ابن معين
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا من لم يسأل الله يغضب عليه + أخرجه أحمد والبخاري وابن ماجه والترمذي وسنده ضعيف +
وعنه أيضا مرفوعا ليس شيء أكرم على الله من الدعاء + أخرجه احمد والبخاري وابن ماجه والترمذي وان حبان والحاكم وهو حديث حسن + وفيه عمران القطان مختلف فيه قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديثه رواهما الترمذي وابن ماجه وروى أحمد الثاني من حديث عمران
وروى أبو يعلى الموصلي حدثنا مسروق بن المرزبان حدثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجز الناس من عجز بالدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام + أخرجه الطبراني والبيهقي وهو الصحيح + حديث حسن ومسروق وثقه ابن حبان وقال أبو حاتم ليس بقوي يكتب حديثه
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/262)
ويكره رفع الصوت عند حمل الجنازة وعند شدة القتال ولا يكره الإلحاح به للأثر ذكره في الرعاية ودعاء الرغبة ببطن الكف ودعاء الرهبة بظهره مع قيام السبابة كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء قال القاضي أبو يعلى تستحب الإشارة إلى نحو السماء في الدعاء قال صالح في مسائله سألت أبي عن الاعتداء في الدعاء قال يدعو بدعاء معروف فصل في الدعاء والتوكل ومراعاة الأسباب وسؤال المخلوق
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله الله الذي خلق السبب والمسبب والدعاء من جملة الأسباب التي يقدرها فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغير ذلك ما يشاء والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى
ومن ذلك طلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء وذكر الأخبار في ذلك الأخبار في ذلك إلى أن قال فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له فمن قال ادع لي قصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى فهو نبة المسؤول وأشار إليه بما ينفعهما والمسؤول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى فيثاب المأمور على فعله والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه لكونه دعاه إليه إلى أن قال
ولم يأمر الله مخلوقا أن يسأل مخلوقا شيئا لم يأمر الله المخلوق المسؤول بما أمر الله العبد به أمر إيجاب أو استحباب إلى أن قال
____________________
(2/263)
والمقصود أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق المسؤول إما واجب وإما مستحب فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد مسألة إلا عند الضرورة وإن كان إعطاء المال مستحبا ثم من طلب من غيره واجبا أو مستحبا إن كان قصده مصلحة المأمور أيضا فهذا مثاب على ذلك وإن كان قصده حصول مطلوبه مع قصد منه لانتفاع المأمور فهذا مثاب على ذلك وإن كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه أتي
ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط بل قد نهى عنه إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته والله تعالى يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه ويأمرنا أن نحسن إلى عباده وهذا لم يقصد هذا ولا هذا إلى أن قال وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال لكن فرق بين ما يؤمر العبد به وما يؤذن له فيه ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب إنهم لا يسترقون (1) وإن كان الاسترقاء جائزا إلى أن قال
الأصل في سؤال الخلق أن يكون محرما فإنما يباح للحاجة فإن فيه الظلم المتعلق بحق الله تعالى وظلم العباد وظلم العبد لنفسه إلى أن قال الطاعة والإيتاء لله ورسوله والخشية والتحسب لله وحده إلى أن قال ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور
أحدها أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب بل لا بد معه من أسباب أخرى ومع هذا فلها موانع فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود
الثاني أنه لا يجوز أن الشيء سبب إلا بعلم كمن يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/264)
الثالث أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ شيء منها سببا إلا أن تكون مشروعة فإن العبادات مبناها على التوقيف والله أعلم فصل في كون التوكل والدعاء نافعين في الدنيا لا عبادتين لنفع الآخرة وحده
قال الشيخ أيضا ظن طائفة أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل ما كان مقدورا بدون التوكل فهو مقدور معه ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضاء وقول هؤلاء يشبه قول من قال إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل هو عبادة يثاب عليها إلى أن قال
الذي عليه الجمهور أن المتوكل والداعي يحصل له من جلب المنفعة ودفع المضرة ما لا يحصل لغيره والقرآن يدل على ذلك ثم هو سبب عند الأكثرين وعلامة وأمارة عند من ينفي الأسباب ويقول إن الله يفعل عندها لا بها ويقولون ذلك في جميع العبادات وذكر كلاما كثيرا واحتج بالآيات المشهورة
وذكر في التحفة العراقية أن التوكل واجب باتفاق أئمة الدين
وقال في شرح مسلم قال العلماء رحمهم الله استعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضا تعليما لأمته وفي هذه الأحاديث دليل
____________________
(2/265)
لاستحباب الدعاء والاستعاذة من هذه الأشياء المذكورة وما في معناها وهذا هو الصحيح والذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار
وذهب طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء
وقال آخرون منهم إن دعا للمسلمين فحسن وإن دعا لنفسه فالأولى تركه
وقال آخرون منهم إن وجد في نفسه باعثا للدعاء استحب وإلا فلا
ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله والإخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله
وقال الشيخ تقي الدين في مواضع أعمال القلوب كمحبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك واجبة على جميع الخلق مأمورون بها باتفاق أئمة الدين لا يكون تركها محمودا في حال أحد وإن ارتقى مقامه والذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم
قال وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين كقوله ( ^ ولا تهنوا ولا تحزنوا ) آل عمران 139 ( ^ لا تحزن إن الله معنا ) التوبة 40 ( ^ فلا يحزنك قولهم ) عيسى 76 ( ^ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) الحديد 23
وذلك لأنه لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به نعم ولا يأثم به صاحبه إذا
____________________
(2/266)
لم يقترن بحزنه محرم وقد يقترن بما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محمودا من تلك الجهة لا من جهة الحزن كالحزين على مصيبة في دينه وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على قدر ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهي عنه وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن وأما إذا أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر به الله ورسوله كان مذموما ومردودا عليه من تلك الجهة وإن كان محمودا من جهة أخرى
وأما المحبة له والتوكل عليه والإخلاص له فهذه كلها خير محض وهي محبوبة ومن قال إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط إن أراد خروج الخاصة عنها فإن هذه لا يخرج منها مؤمن قط إنما يخرج عنها الكافر والمنافق وذكر كلاما كثيرا
وقال ابن عقيل في الفنون العقلاء يعلمون أن الاحتراز لا يقدح في التوكل وإن دقيق الحيل من الأعداء يدفع بلطيف التحرز والمبالغة في التحفظ
وروى ابن عقيل في الفنون العقلاء يعلمون أن الاحتراز لا يقدح في التوكل وإن دقيق الحيل من الأعداء يدفع بلطيف التحرز والمبالغة في التحفظ
وروى الخلال في الجامع في آخر الجنائز عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما قال أحدهما لصاحبه إن لقيت ربك فأخبرني ما لقيت وإن لقيته قبلك أخبرتك فذكر سعيد أن أحدهما توفي فلقي صاحبه في المنام فقال له الميت توكل وأبشر فإني ما رأيت مثل التوكل
وروى فيه أيضا في التجارة والتكسب أخبرنا محمد بن أحمد بن منصور قال سأل المازني بشر بن الحارث عن التوكل فقال المتوكل لا يتوكل على الله ليكفى ولو حلت هذه القصة في قلوب المتوكلة لضجوا إلى الله بالندم والتوبة ولكن المتوكل يحل بقلبه الكفاية من الله فيصدق الله عز وجل فيما ضمن ولم يذكر الخلال ما يخالف كلام بشر لا من عنده ولا من عند غيره فبشر رحمه الله يقول من توكل ليكفى لم يخلص التوكل لله فيقدح فيه ويكون لغير الله
ونظيره من اتقى الله ليجعل الله له مخرجا ومن اتقى الله ليجعل له فرقانا ومن
____________________
(2/267)
تواضع ليرتفع ولهذا قال صلى الله عليه السلام وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله (1) ولهذا قال بعضهم لبعض من تواضع ليرتفع لا يرتفع بالتواضع أي لا يقصد هذا وهو نظير الكلام المشهور من أخلص لله أربعين يوما نطق بالحكمة
وفعل بعض الناس له لينطق بالحكمة وأنه لم ينطق بها وسأل بعض المشايخ عن هذا فقال له لم تخلص إنما فعلت هذا لأجل هذا وهذا الكلام من أخلص لله + أخرجه أبو نعيم وهو حديث ضعيف + يروى عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وسبق في فصول التوبة ما يتعلق بهذا وهو مذكور في الفقه في باب ما يبطل الصلاة فصل التسليم لله في استجابة الدعاء وقضاء الحوائج
قال ابن عقيل في الفنون قد ندب الله إلى الدعاء وفيه معان الوجود والغنى والسمع والكرم والرحمة والقدرة فإن من ليس كذلك لا يدعى ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها كفي ولا النجم لا يقال له أصلح مزاجي لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا فشرع الدعاء والاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع وقال ( ^ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) الحجر 21
حتى لا يطلب إلا منه ثم أحب أن يظهر جواهر أهل الابتلاء فقال لذا اذبح ولدك وقرن هذا بالبلاء ليحملهم على الدعاء واللجاء
وقال أيضا في الفنون تستبطئ الإجابة من الله تعالى لأدعيتك في أغراضك التي يجوز أن يكون في باطنها المفاسد في دينك ودنياك وتتسخط بإبطاء مرادك مع القطع على أنه سبحانه لا يمنعك شحا ولا بخلا ولا نسيانا وقد شهد لصحة ذلك مراعاته لك ولا لسان ينطق بدعاء ولا أركان لعبده ولا قوة تتحرك بها في طاعة
____________________
1- أخرجه أحمد والدارمي ومسلم والترمذي وابن خزيمة
(2/268)
من طاعاته فكيف وجملتك وأبعاضك وقف على خدمته ولسانك رطب بأذكاره لكن إنما أخر رحمة لك وحكمة ومصلحة وقد تقدم إليك بذلك تقدمة فقال سبحانه ( ^ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) البقرة 216
وأنت العبد المحتاج تتخلف عن أكثر أوامره ولا تستبطئ نفسك في أداء حقوقه هل هذا إنصاف أن يكون مثلك يبطئ عن الحقوق ولا تنكر ذلك من نفسك ثم تستبطئ الحكيم الأزلي الخالق في باب الحظوظ التي لا تدري كيف حالك فيها هل طلبها عطب وهلاك أو غبطة وصلاح
وقال أيضا بعد أن تكلم على قوله تعالى ( ^ وابتلوا اليتامى ) النساء 6
والله سبحانه ينبهك على الاحتياط لنفسك وسرك ومالك بالاحتياط لمال غيرك لقد أوجب عليك ذلك التحرز والتحفظ والارتياد والمبالغة في الانتقاد لكل محل تودعه سرا أو مالا أو ترجع إليه أو مشورة تقتبس بها رأيا ونبهك على ما هو أوكد من ذلك وهو أن تعلم بأنك وإن بلغت الغاية من الفهم والعقل والتجربة يجوز أن يعلم الباري سبحانه تقصيرك عن تدبير نفسك فإذا بالغت في الدعاء المحبوب لنفسك جاز له سبحانه أن يعطيك بحسب ما طلبت ولا يرخي لذلك العنان بحكم ما له أردت بل يحبس عنك لصلاحك ويضيق عليك ما وسعه على غيرك نظرا لك لأنه في حجر الربوبية ما دمت عبدا فإذا أخرجك عن ربقة التكليف سرحك تسريحا ولا تطلب التخلية حال حبسك ولا التصرف بحسب مرادك حال حجرك فلست رشيدا في مصالحك فكن بالله كاليتيم مع الولي الحميم تسترح من كد التسخط وتنجو من مأثم الاعتراض والتحير وليس يمكنك هذا إلا بشدة بحث ونظر في حبك وقدرك
فإذا علمت أنك بالإضافة إلى الحكمة الربانية والتدبير الإلهي دون اليتيم بالإضافة إلى الولي بكثير صح لك التفويض والتسليم واسترحت من كد الاعتراض ومرارة التسخط والتدبير وقد أشار إلى ذلك بقوله ( ^ وكفى بربك وكيلا )
____________________
(2/269)
الإسراء 65
واعلم بأنك في أسر الأقدار تصرف فإن اعترضت صرت في أسر الشيطان فلأن تكون في أسر من لا يتهم عليك خير من أن تكون في أسرين أحدهما لا محيص لك عنه والآخر أنت أوقعت نفسك فيه ولا أقبح من عاقل حماه الله وحجر عليه حميمه نظرا له أدخل على نفسه عدوا يقبح آثار وليه عنده ويسخطه عليه ليفسد عليه حاله مع الولي وذكر كلاما كثيرا
وقال أيضا كل حال حضر الله تعالى في قلب المؤمن فينبغي أن يغتنم تلك اللحظة فإنها ساعة إجابة فحضور ذكر الله تعالى بقلب العبد حضور واستحضار وخير أوقات الطلب استحضار الملوك ومن اشتدت فاقته فدعا أو اشتد خوفه فبكى فذلك الوقت الذي ينبغي أن يدعو فيه فإنه ساعة إجابة وساعة صدق في الطلب وما دعا صادق إلا أجيب
وسبق ما يستعمل لإزالة الهم والغم قبيل فصول الأمر بالمعروف وفي الكلام على دعوة ذي النون عليه السلام ويأتي أدعية في فصول التداوي
____________________
(2/270)
الفصول الخاصة بالقرآن والمصحف
____________________
(2/271)
صفحة فارغة
____________________
(2/272)
فصل في حكم نقط المصحف وشكله وكتابة الأخماس والأعشار
في كراهية نقط المصحف وشكله وكتابة الأخماس والأعشار وأسماء السور وعدد الآيات فيه روايتان وعنه يستحب نقطه وقال ابن حمدان ومثله شكله ويكره التعشير فيه وعنه لا بأس به وتحرم مخالفة خط عثمان في واو وياء وألف أو غير ذلك نص عليه
ويجوز تقبيل المصحف قدمه في الرعاية وغيرها وعنه يستحب لأن عكرمة بن أبي جهل كان يفعل ذلك رواه جماعة منهم الدارمي وأبو بكر عبد العزيز وعنه التوقف فيه وفي جعله على عينيه
قال القاضي في الجامع الكبير إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعة وإكرام لأن ما طريقه القرب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحب فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ألا ترى أن عمر لما رأى الحجر قال لا تضر ولا تنفع ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك (1) وكذلك معاوية لما طاف فقبل الأركان كلها أنكر عليه ابن عباس فقال ليس في البيت شيء مهجور فقال إنما هي السنة فأنكر عليه الزيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وسبق بنحو ثلاثة كراريس أن أحمد استوى جالسا لما ذكر عنده إبراهيم بن طهمان وقول ابن عقيل أخذت من هذا أحسن الأدب فيما يفعله الناس عند إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته ومعلوم أن القيام للمصحف أولى من ذلك
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم
(2/273)
وكلام القاضي السابق يدل على العمل بالتوقيف وقال الشيخ تقي الدين إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض فقيامهم لكتاب الله أحق فصل في أسماء السور وما تجب صيانة المصحف عنه
توقف أحمد أن يقال سورة كذا قال الخلال لا بأس به وهو الذي قدمه في الرعاية وقال القاضي الأشبه أن يكره بل يقال السورة التي يذكر فيها كذا ويحرم أن يكتب القرآن وذكر الله تعالى بشيء نجس أو عليه أو فيه فإن كتبا به أو عليه أو فيه غسلا
وقيل إن نجس ورقه المكتوب فيه أو كتب بشيء نجس أو بل واندرس أو غرق دفن كالمصحف نص عليه في المصحف إذا بلي
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال لا يكتب القرآن على شيء منصوب ولا ستر ولا غيره ويكره توسد المصحف ذكره ابن تميم وذكره في الرعاية وقال بكر بن محمد كره أبو عبد الله أن يضع المصحف تحت رأسه فينام عليه
قال القاضي إنما كره ذلك لأن فيه ابتذالا له ونقصانا من حرمته فإنه يفعل به كما يفعل بالمتاع واختار ابن حمدان التحريم وقطع به في المغني والشرح كما سيأتي في الفصل بعده وكذا سائر كتب العلم إن كان فيها قرآن وإلا كره فقط
وقال أحمد في رواية نعيم بن ناعم وسأله أيضع الرجل الكتب تحت رأسه قال أي كتب قلت كتب الحديث قال إذا خاف أن تسرق فلا بأس وأما أن تتخذه وسادة فلا
وروى الخلال في الأخلاق عنه أنه كان في رحلته إلى الكوفة أو غيرها في بيت ليس فيه شيء وكان يضع تحت رأسه لبنة ويضع كتبه فوقها
____________________
(2/274)
وقال ابن عبد القوي في كتابه مجمع البحرين إنه يحرم الاتكاء على المصحف وعلى كتب الحديث وما فيه شيء من القرآن اتفاقا انتهى كلامه ويقرب من ذلك مد الرجلين إلى شيء من ذلك وقال الحنفية يكره لما فيه من أسماء الله تعالى وإساءة الأدب
قال أبو زكريا النواوي رحمه الله أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته وأجمعوا على أن من جحد حرفا أو زاد حرفا لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر
وقال القاضي عياض اعلم أن من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه أو جحد حرفا منه أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو ثبت ما نفاه أو نفي ما أثبته وهو عالم بذلك أو شك في شيء من ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين وكذلك إن جحد التوراة أو الإنجيل أو كتب الله المنزلة أو كفر بها أو سبها أو استخف بها فهو كافر
وقد أجمع المسلمون على أن القرآن المتلو في جميع الأقطار المكتوب في المصحف الذي بأيدي المسلمين ما جمعه الدفتان من أول ( ^ الحمد لله رب العالمين ) إلى آخر ( ^ قل أعوذ برب الناس ) كلام الله وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما فيه حق وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع عليه الإجماع وأجمع عليه أنه ليس بقرآن عامدا بكل هذا فهو كافر
قال أبو عثمان بن الحذاء جميع من ينتحل التوحيد متفقون على أن الجحد بحرف من القرآن كفر
____________________
(2/275)
وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة ابن شنبوذ المقرئ أحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد لقراءته وإقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف وعقدوا عليه للرجوع عنه والتوبة سجلا أشهد فيه على نفسه في مجلس الوزير ابن علي بن مقلة سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة وأفتى محمد بن أبي زيد فيمن قال لصبي لعن الله معلمك وما علمك وقال أردت سوء الأدب ولم أرد القرآن قال يؤدب القائل قال وأما من لعن المصحف فإنه يقتل انتهى كلامه
وكذا محمد بن الحسن بن مقسم أبو بكر المقرئ النحوي أحد الأئمة استتيب من قراءته بما لا يصح نقله فكان يقرأ بذلك في المحراب ويعتمد على ما يسوغ في العربية وإن لم يعرف له قارئ توفي بعد الخمسين وثلاث مئة
ويحرم السفر به إلى أرض العدو للخبر المتفق عليه (1) وقيل إن كثر العسكر وأمن استيلاء العدو عليه فلا لقوله في الخبر مخافة أن تناله أيديهم
وقال في المستوعب يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلا أن يكون العسكر كثيرا فيكون الغالب فيه السلامة والأول هو الذي ذكره في الشرح وقدمه في الرعاية
وللإمام ونائبه أن يكتبا في كتبهما إلى الكفار آيتين أو أقل كالتسمية في الرسالة وهل للذمي نسخة بين يديه بدون حمله ولمسه على روايتين ويمنع من قراءته نص عليه وقيل لا يمنع منها بل يمنع من لمسه وتملكه ويمنع المسلم من تمليكه له فإن ملكه بإرث أو غيره ألزم بإزالة ملكه عنه ويجوز للمسلم والذمي أخذ الأجرة على نسخ المصحف نص عليه
____________________
1- أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه
(2/276)
فصل
قال في المغني والشرح لا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له أشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه ذكره في الاعتكاف وقال في الكافي قال ابن عقيل ثم ذكر ما ذكره في المغني ولم يزد وذكر في الرعاية في الاعتكاف أن ذلك مكروه وهو الذي ذكره في التلخيص فصل في الاقتباس بتضمين بعض القرآن في النظم والنثر
سئل ابن عقيل عن وضع كلمات وآيات من القرآن في آخر فصول خطبة وعظية فقال تضمين القرآن لمقاصد تضاهي مقصود القرآن لا بأس به تحسينا للكلام كما يضمن في الرسائل إلى المشركين آيات تقتضي الدعاية إلى الإسلام فأما تضمين كلام فاسد فلا يجوز ككتب المبتدعة وقد أنشدوا في الشعر
( ويخزهم وينصركم عليهم % ويشف صدور قوم مؤمنينا )
ولم ينكر على الشاعر ذلك لما قصد مدح الشرع وتعظيم شأن أهله وكان تضمين القرآن في الشعر سائغا لصحة القصد وسلامة الوضع فصل في تفسير القرآن بمقتضى اللغة وحكم تفسير الصحابي والتابعي له
وفي جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان ذكرهما القاضي وغيره ويقبل تفسير الصحابي ويلزم قبوله إن قلنا حجة قال ابن تميم يرجع إلى تفسير الصحابي للقرآن قال وقال القاضي تفسير الصحابي كقوله فإن قلنا هو حجة لزم المصير إلى تفسيره وإن قلنا ليس بحجة ونقل كلام العرب في ذلك صير
____________________
(2/277)
إليه وإن فسره اجتهادا أو قياسا على كلام العرب لم يلزم ولا يلزم الرجوع إلى تفسير التابعي إلا أن ينقل ذلك عن العرب
وعنه هو كالصحابي في المصير إلى تفسيره وقال أبو الحسين إذا لم نقل قول الصحابي حجة ففي تفسيره وتفسير التابعي روايتان اللزوم وعدمه فصل في القراءة في كل حال إلا لمن ثبت عليه الغسل
تجوز القراءة لماش أو راكب ومضطجع ومحدث حدثا أصغر ونجس البدن والثوب وعلى كل حال إلا من جنابة أو حيض أو نفاس
وحكى بعض أصحابنا عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن حديث وهو متكئ فاستوى جالسا وقال أكره أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متكئ فكلام الله أولى ويحتمل أن يمنع منها نجس الفم وقال ابن تميم لا تمنع نجاسة الفم قراءة القرآن ذكره القاضي والأولى المنع
وقد نص أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور وغيره أنه لا بأس بقراءة القرآن في الطريق وتكره القراءة مع حمل الجنازة جهرا وحال خروج الريح لا حال لمس الذكر والزوجة زاد القاضي وأكله للحم الجزور وغسله للميت على احتمال فيه لأن تلك الحال غير مستقذرة في العادة ولأنه في هذه الحال يبعد منه الملك قال أحمد في رواية يعقوب في الرجل يقرأ فيخرج منه الريح يمسك عن القراءة
وتكره القراءة في الحمام قال في الرعاية وابن تميم على الأصح صيانة
____________________
(2/278)
للقرآن ورواه سعيد عن علي وحكاه ابن عقيل عن علي وابن عمر قال في الشرح ولم يكرهه النخعي ومالك لأنا لا نعلم حجة على الكراهة ولم يذكر في المستوعب غير الكراهة وهو الذي ذكره الشيخ مجد الدين في شرح الهداية وقال نص عليه وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق واحتج بقول علي فصل في القراء في السوق واختلاف حال القارئ والسامعين فيه
قال ابن عقيل في الفنون قال حنبلي كم من أقوال وأفعال تخرج مخرج الطاعات عند العامة وهي مأثم وبعد من الله سبحانه عند العلماء مثل القراءة في أسواق يصيح فيها أهل المعاش بالنداء والبيع وأهل السوق لا يمكنهم السماع ذلك امتهان قال حنبلي أعرفه ولعل أهل السوق يسمعون النهي عن مراباة أو معصية فيتركونها انتهى كلامه فصل في التلاوة عند المصائب لتسكينها
من المعلوم أنه يشرع في أوقات الشدائد والمصائب قراءة شيء يسكنها بذكر ما جرى على الأئمة ليتأسى بهم صاحب المصيبة وما وعد الله الصابرين من الأجر والثواب الجزيل فأما قراءة شيء يهيج الحزن ويحمل على الجزع فينبغي أن يكره وفي كلام ابن عقيل ما يقتضي ذلك فإنه رحمه الله لما توفي ابنه عقيل سنة عشر وخمس مئة وعمره سبع وعشرون سنة وكان تفقه وناظر في الأصول والفروع وظهر منه أشياء تدل على دينه وخيره حزن عليه وصبر صبرا جميلا فلما دفن جعل يتشكر للناس فقرأ قارئ
____________________
(2/279)
( ^ يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ) يوسف 78
فبكى ابن عقيل وبكى الناس وضج الموضع بالبكاء فقال ابن عقيل للقارئ يا هذا إن كان يهيج الحزن فهو نياحة والقرآن لم ينزل للنوح بل لتسكين الأحزان فصل في تحزيب القرآن وتقسيم ختمه على الأيام
ويستحب ختم القرآن في كل أسبوع نص عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ القرآن في كل أسبوع مرة ولا تزيدن على ذلك (1)
وقال أوس بن حذيفة سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن قالوا ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده رواهما أبو داود وروى الثاني أحمد وفيه حزب المفصل من قاف حتى تختم ورواه الطبراني فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزب القرآن قالوا كان يحزبه ثلاثا وخمسا وذكره وإسناده جيد + أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري وابن ماجه وأبو داود والطحاوي والطبراني وإسناده ضعيف + وإن قرأه في كل ثلاث فحسن لم يذكر في الشرح وغيره
وقال عبد الله بن عمرو قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن بي قوة قال اقرأه في ثلاث رواه أبو داود
قال في رواية بكر بن محمد عن أبيه وقد سأله عن الرجل يختم القرآن في أقل من سبع ما يعجبني ولا أعلم فيه رخصة ثم ذكر أبو عبد الله بعد أن نظر في حديث
____________________
1- أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
(2/280)
عبد الله بن عمرو لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث (1) فهذه رخصة قال القاضي وظاهر هذا الرجوع يعني عن رواية الكراهة انتهى كلامه
وعنه تكره قراءته دون السبع قال القاضي نص عليه في رواية الجماعة لأن عبد الله بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم أقرأ القرآن في كل ليلة فقال له اقرأ القرآن في كل شهر مرة قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال في كل عشرين قلت أني أطيق أفضل من ذلك قال في كل عشر قلت أني أطيق أفضل من ذلك قال في كل سبع ولا تزد على ذلك وفي لفظ اقرأ القرآن في كل شهر قلت إني أجد قوة قال في عشرين ليلة قلت إني أجد قوة قال في سبع ولا تزد على ذلك وفي لفظ اقرأ القرآن في كل شهر قلت أني أطيق أكثر من ذلك فرده في الصوم إلى صوم داود وقال واقرأه في سبع ليال مرة متفق على ذلك
وتكره قراءته فيما دون الثلاث قال في رواية ابن منصور أكره له دون ثلاث وهو معنى ما نقل حرب ويعقوب لقوله صلى الله عليه وسلم لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح
وعنه لا يكره لما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو اقرأ القرآن في كل شهر قال قلت أني أطيق أكثر فما زال حتى قال في ثلاث والمراد على
____________________
1- أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي بسند صحيح
(2/281)
هذه الرواية إذا لم يكره أن الفعل مستحب لأن القراءة مطلوبة ولا كراهة وهو ظاهر الخبر وعنه لا بأس بذلك أحيانا وتكره المداومة عليه قال إبراهيم بن تميم وهو أصح وتجوز قراءته كله في ليلة واحدة وعنه تكره المداومة على ذلك
وعنه أن ذلك غير مقدر بل هو على حسب حاله من النشاط والقوة لأنة روى عن عثمان أنه كان يختمه في ليلة وروي ذلك عن جماعة من السلف
ويكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر نص عليه لأن عبد الله بن عمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم في كم يختم القرآن قال في أربعين يوما الحديث رواه أبو داود (1) وإن خاف نسيانه أو زاد عليها كنسيه بلا عذر حرم وفيه وجه يكره
ويسن ختمه في الشتاء أول الليل وفي الصيف أول النهار قال ذلك ابن المبارك وذكره أبو داود لأحمد فكأنه أعجبه
ويجمع أهله وولده وغيرهم عند ختمه ويدعو نص عليه وقد روي عنه أيضا خلافه فروى المروذي قال كنت مع أبي عبد الله نحو من أربعة أشهر بالعسكر ولا يدع قيام الليل وقراءة النهار فما علمت بختمة ختمها وكان يسر ذلك
وقد روى طلحة بن مصرف قال أدركت أهل الخير من صدر هذه الأمة يستحبون الختم في أول الليل وأول النهار ويقولون إذا ختم في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي وإذا ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح ورواه ابن أبي داود ونص على هذا في رواية محمد بن حبيب
وكان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده + أخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة والدارمي والفريابي عن أنس بسند جيد + قال أحمد في رواية أبي الحارث
____________________
1- حسن أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي
(2/282)
وغيره وروى ذلك عن ابن مسعود وغيره (1) ورواه ابن شاهين مرفوعا من حديث أنس وروى أبو عبيد هذا المعنى عن أبي قلابة مرسلا فصل في بيان سور المفصل
للعلماء في المفصل أقوال
أحدها أنه من أول ( ^ ق ) صححه ابن أبي الفتح في مطلعه وغيره قال الماوردي في تفسيره حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة للخبر المذكور في الفصل قبله
والثاني من الحجرات
والثالث من أول الفتح
والرابع من أول القتال قال الماوردي وهو قول الأكثرين
والخامس من ( ^ هل أتى على الإنسان ) الإنسان 1
والسادس من سورة الضحى قال الماوردي وهو قول ابن عباس وقال الشيخ سيف الدين ابن الشيخ فخر الدين الحنبلي الحراني في خطبة له وفي المفصل خلاف مفصل غير مجمل فقيل هو من سورة محمد وهو النبي المرسل وقال قوم من الفتح وهو قول معمل وقال قوم من ( ^ ق ) وهذا القول أجزل وقال قوم من الضحى والصحيح الأول وقال قوم من ( ^ هل أتى على الإنسان ) وما عليه معول
وفي تسميته بالمفصل للعلماء أربعة أقوال أحدها لفصل بعضه عن بعض والثاني لكثرة الفصل بينها ببسم الله الرحمن الرحيم والثالث لإحكامه والرابع لقلة المنسوخ فيه
____________________
1- أخرجه أبو عبيد
(2/283)