الآثار المترتبة
على
تعلم القرآن وتعليمه
(النسخة النهائية)
مقدم من الباحث
ماجد بن ماشع مزيد العمري الحربي
وزارة التربية والتعليم
إدارة التربية والتعليم بمنطقة المدينة المنورة
مدرسة الإمام ورش لتحفيظ القرآن الكريم
تقديم :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ...
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
الحمد لله الذي تكفل بحفظ كتابه حيث قال : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر (آية:9).
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعله دليلاً على صدق رسالته ، وأودع الله فيه من الحكم والأسرار والأحكام والمعاملات الدالة على عظمته وكمال هذا الدين الإسلامي ، فهو المعجزة الخالدة ، الذي يقتبس منه الهدى والنور ، والتوفيق والسداد ? يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) المائدة(آية:16)
وأحببت أن أسهم ببحث متواضع أرجو أن ينفعني الله به وإخواني المسلمين واخترت له هذا العنوان وهو: (( الآثار المترتبة على تعلم القرآن وتعليمه )) ، وقد سرت في هذا البحث على النحو التالي :
المقدمة .
تمهيد ، واشتمل على ما يلي :
أولاً : تعريف القرآن الكريم لغة واصطلاحًا .
ثانيًا : فضائل تعلم القرآن الكريم وتعليمه .
المبحث الأول : أثر الإيمان الصادق بدلالة آيات القرآن .(1/1)
المبحث الثاني : دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن وأثر ذلك .
الخاتمة .
المصادر والمراجع .
وأسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يسلك بنا سبيل المؤمنين ، كما أسأله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا وغمومنا ، آمين يا رب العالمين .
* * *
تمهيد :
أولاً : تعريف القرآن لغة واصطلاحًا :
أ - تعريف القرآن لغة : القُرآن: التنزيل العزيز، وانما قُدِّمَ على ما هو أَبْسَطُ منه لشَرفه.
قَرَأَهُ يَقْرَؤُهُ ويَقْرُؤُهُ، الأَخيرة عن الزجاج، قَرْءاً وقِراءَةً وقُرآناً، الأُولى عن اللحياني، فهو مَقْرُوءٌ.
أَبو إِسحق النحوي: يُسمى كلام اللّه تعالى الذي أَنزله على نبيه، - صلى الله عليه وسلم -، كتاباً وقُرْآناً وفُرْقاناً، ومعنى القُرآن معنى الجمع، وسمي قُرْآناً لأَنه يجمع السُّوَر، فيَضُمُّها. وقوله تعالى: إنَّ علينا جَمْعه وقُرآنه، أَي جَمْعَه وقِراءَته، فإِذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَي قِراءَتَهُ. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: فإِذا بيَّنَّاه لك بالقراءَة، فاعْمَلْ بما بَيَّنَّاه لك (1).
ب - تعريف القرآن في الاصطلاح : هو (( كلام الله المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المعجز بلفظه ، المتعبد بتلاوته ، المنقول بالتواتر ، المكتوب في المصاحف ، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس )) (2) .
ثانيًا : فضائل تعلم القرآن وتعليمه :
لقد رغب الإسلام في تعلم العلم وتعليمه عامة ، وجعل ذلك من أفضل العبادات ، ولا شك أن أفضل العلوم وأشرفها وأجلها هو كتاب الله تعالى .
__________
(1) لسان العرب، ج1، ص128.
(2) المدخل إلى علوم القرآن والعلوم الإسلامية لفرشوخ ، ص 11 .(1/2)
وقد حرص السلف الصالح على تعلم القرآن وتعليمه ، وعُرف هذا الحرص في سلوك خيارهم وأصفيائهم ؛ وذلك لأنهم استشعروا فضائل القرآن والأجر المترتب على تعليمه وتعلمه في الدنيا والآخرة ، وقدوتهم في ذلك هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي أنزل عليه القرآن ، فهو أعرف الناس بمنزلته وفضله .
وفضائل القرآن تنقسم إلى قسمين : فضائل عامة لجميع آيات وسور القرآن ، وفضائل خاصة ، في بعض سور وآيات من القرآن الكريم ؛ مثل قراءة آية الكرسي ، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة ، والفاتحة ، والمعوذتين ، وغيرها ، كما دلت السنة على ذلك ، وسأقتصر على الفضائل العامة ، بذكر أمثلة فقط :
1- قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فاطر(آية: 30، 29)
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن عباده المؤمنين ؛ أنهم يتلون كتاب ربهم ، ويداومون على تلاوته ، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإنفاق سرًا وعلانية ، راجين من الله ثوابًا عظيمًا ، وأعظمه رضا ربهم ، والفوز بجزيل ثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه(1) .
2- قال تعالى : ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الاسراء(آية:9)
يخبر تعالى عن شرف القرآن ، وأنه يهدي ويرشد إلى أحسن وأعدل الأمور في كل شيء في هذه الحياة .
3- قال تعالى : ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) الاسراء(آية:82)
__________
(1) انظر : تفسير السعدي ، ص 635 .(1/3)
يخبر تعالى أن القرآن شفاء ورحمة كله - وليس بعضه - للمؤمنين العاملين الصادقين ، أما غيرهم فإنه لا يزيدهم إلا خسارًا ، وهذا الشفاء عام لكل مرض من أمراض القلوب ؛ من الشُّبَه ، والجهالة ، والآراء الفاسدة ، والانحراف السيء ، وشفاء للأبدان من آلامها وأسقامها ؛ لما فيه من الوسائل والأسباب المؤدية إلى الرحمة والفوز والسعادة الأبدية ، والثواب العاجل والآجل(1) .
4- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ( آلم ) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ))(2).
ودل هذا الحديث العظيم على عظيم فضل الله تعالى ، وأنه جعل بكل حرف عشر حسنات ، فكلما أكثر المسلم من قرآة القرآن ازدادت حسناته ، فلا يفوت المسلم على نفسه هذا الأجر العظيم والخير الكثير .
5 - عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ))(3) . فهذه شهادة حق لأهل القرآن بأنهم خير الناس وأفضلهم ، لأن تعلم القرآن والقيام بتعليمه من أفضل الأعمال ، وأجل القرب ، ويحظى متعلمه ومعلمه بالخير والفضل في الدنيا والآخرة .
__________
(1) تفسير السعدي ، ص 416 .
(2) رواه الترمذي ، كتاب فضائل القرآن (5/175) .
(3) صحيح البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، حديث (5027) .(1/4)
6 - عن عقبة بن نافع - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة ، فقال : (( أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق ، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم ؟ )) ، فقلنا : يا رسول الله ؛ نحب ذلك . قال : (( أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيَعْلَم أو يَقْرَأَ آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين ، وثلاث خير له من ثلاث ، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ))(1) .
فدل هذا الحديث الجليل على الحث على قصد بيوت الله ؛ لتعلم القرآن ؛ لما فيها من السكينة والطمأنينة ، وقطع علائق القلب عن شواغل الدنيا ، وبين أن آية واحدة يتعلمها المسلم خير له الدنيا وما فيها .
المبحث الأول
أثر الإيمان الصادق بدلالة آيات القرآن
إن الإيمان بالله تعالى وآياته وما أنزله في كتابه عقيدة راسخة في قلب كل مؤمن ومؤمنة ، فلا يكون العبد مؤمنًا إلا إذا آمن بهذا القرآن العظيم وعمل بما فيه ، والإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله ركن من أركان الإيمان ، وأعظم هذه الكتب وأفضلها القرآن الكريم ؛ لأنه شامل لكل ما في هذه الكتب وزيادة .
__________
(1) صحيح مسلم ، حديث (803) .(1/5)
والمتأمل في قوة تأثير القرآن ؛ يجد أنه قد بلغ مبلغًا عظيمًا ؛ فهو جامع بين قوة الإيمان ، وتدفق البلاغة ، وروعة البيان ، وقوة الخطاب ، وعذب الكلام ، وهو النور المبين ، والسراج المنير ، لما سمعته الجن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) الجن (آية:1، 2)، فجمعوا بين الإيمان والتقوى ، المتضمن لجميع أعمال الخير ، وترك أعمال الشر ، وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه ؛ ما علموه من إرشادات القرآن ، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد ، واجتناب المضار ؛ فإن ذلك آية عظيمة ، وحجة قاطعة لمن استنار به ، واهتدى بهديه .
وقد أقر بعظمة هذا القرآن وتأثيره فصحاء العرب وبلغاؤهم ، فأثر في بعضهم وغيَّر في حالهم من جهل إلى علم ، ومن شرك إلى توحيد ، ومن فرقة وفوضى ، إلى اجتماع وائتلاف ، فدخل الناس في دين الله أفواجًا ، وازداد المؤمنون إيمانًا ، واطمأنت نفوسهم ، واستبشرت قلوبهم، قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال (آية:2)
وهكذا ؛ فإن قوة تأثير القرآن تعتبر وجهًا من أوجه الإعجاز في الكتاب العزيز ، قال تعالى : ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر (آية: 23)(1/6)
ولقد أيد الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ، وأمره أن يدعو به ، ويعتمد عليه ؛ لأن له تأثيرًا عظيمًا في النفوس ، ومن تلكم الآيات التي تبين الآثار الدنيوية والأخروية لمن تأمل وتدبر هذه الآيات :
1 - قال تعالى : ? كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) الأعراف(آية: 2) ،فهو خطاب من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لينذر الكافرين بالقرآن ، ويذكر به المؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بهديه ، والمتأثرون به ، ولأنه حوى كل ما يحتاج إليه العباد في الدنيا والآخرة ، فعلى من دعا الناس بالقرآن أن لا يكون في صدره حرج وضيق ، وشك واشتباه ؛ لأنه كتاب الله ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلينشرح به صدره ، ولتطمئن به نفسه ، وليصدع بأوامره ونواهيه ، ولا يخشى لائمًا أو معارضًا .
2 - وقوله تعالى : ? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) الاسراء (آية: 106)
أنزل الله - عز وجل - القرآن الكريم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفرقًا على حسب الوقائع والأحداث ؛ ليقرأه على الناس ويبلغهم إياه على مهل ؛ ليدبروا آياته ، ويؤمنوا به ، وكذلك ينبغي على كل من يبلغ الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويدعوهم إليه على مهل ؛ ليتأثروا بما فيه من حكم ومنافع .(1/7)
3 - وقوله تعالى : ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة (آية: 6)، فقوله : ? حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ? أي : القرآن تقرؤه عليه ، وتذكر له شيئًا من أمر الدين تقيم عليه حجة الله ? ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ? أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده ومأمنه ، فلو لم يكن القرآن له تأثير بالغ في قلوب سامعيه ؛ لم يكن هو الحد الفاصل لنهاية إجارة المشركين(1) .
4 - وقوله تعالى : ?فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ق(آية:45) ، أي : فذكر بهذا القرآن وما فيه من حكم ومواعظ كل مؤمن يخاف من عذاب الله ووعيده ؛ لأنه يهز القلوب ويجعلها تخاف من شدة الوعيد إن لم تؤمن بالقرآن وتعمل بما فيه ، فهو أعظم سلاح في تذكير الناس ورجوعهم إلى الله تعالى .
5 - وقوله تعالى : ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الاسراء(آية:9،10)
يخبر تعالى عن شرف القرآن ، وأنه يهدي للتي هي أقوم ؛ أي أعدل وأعلى ، من العقائد والأعمال والأخلاق ، فمن اهتدى به كان أقوم الناس في جميع أموره ، ويبشر كل مؤمن عمل الصالحات من الواجبات والسنن أن له أجرًا كبيرًا أعده الله لهم في دار كرامته ، لا يعلم وصفه إلا هو ، وأن من أعرض عنه ولم يؤمن باليوم الآخر استحق العذاب الأليم(2) .
__________
(1) انظر : عظمة القرآن الكريم ، لمحمود الدوسري ، ص 327 ، 328 .
(2) انظر : تفسير السعدي .(1/8)
فالقرآن الكريم اشتمل على بشارة ونذارة ، وأن الأسباب التي ينال بها العبد البشارة هي الإيمان والعمل الصالح ، والتي يستحق بها النذارة هي غير ذلك .
ما سبق من الآيات يكفي للدلالة على أثر الإيمان الصادق المتبع للإخلاص والعمل الصالح والحياة الطيبة في الدنيا ، والأجر العظيم في الآخرة ؛ لأن القرآن لا يخبر إلا بأجلِّ وأعظم الإخبارات التي تملأ القلوب معرفة وإيمانًا وعقلاً ، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، والغيوب المتقدمة والمتأخرة ، وأوامره ونواهيه التي تزكي النفوس وتطهرها وتنميها وتكملها ؛ لاشتمالها على كمال العدل والقسط والإخلاص والعبودية لله رب العالمين ، وحده لا شريك له ، فله الحمد سبحانه على إنزاله لهذا القرآن العظيم(1) .
* * *
المبحث الثاني
دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن وأثر ذلك
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله بالقرآن العظيم بقوله وعمله وهديه ، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه قالت : كان خلقه القرآن.
أي أنه يتمثل القرآن في أموره جميعًا ، وفي أحواله وأقواله وأفعاله ؛ فيقف عند حدوده ، ويتأدب بآدابه ، ويعتبر بأمثاله وقصصه، وهذه بعض النماذج للدعوة بالقرآن العظيم وتأثيره في نفوص المدعوين :
1 - شأن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للملوك والرؤساء بالقرآن ، ومن ذلك الكتاب الذي أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ملك الروم هرقل : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ...
__________
(1) تفسير السعدي ، ص 419 .(1/9)
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن أبيت فإن عليك إثم الأريسييّن . ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران (آية:64) ))(1) .
إن دعوة الناس بالقرآن ؛ سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين ، وسواء أكانوا من عامة الناس أو من ملوكهم ليؤثر في نفوسهم أشد التأثير ؛ فهذا النجاشي(2) لم يملك نفسه عند سماع آيات القرآن حتى بكى وخضع من تأثره به .
2 - وللقرآن الكريم أثر بالغ في قلوب أعدائه وخصومه ، فانظروا إلى تلكم الآيات التي قرأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عتبة بن ربيعة من أوائل سورة فصلت إلى قوله : ? فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فصلت(آية:13) ، فأوقفه عتبة من شدة ما تأثر به ، حتى قال لأصحابه : خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ .
فقالوا له : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه(3) .
وهكذا من يسمع الآيات من القرآن يخلع قلبه ويقلق ، وما منع هؤلاء من الاستجابة إلا الكبر والعناد ، ولأنهم يعلمون ما يصيبهم عند سماع القرآن من تأثير وإحساس بالغ ، لهذا قال الله تعالى عنهم : ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)فصلت (آية:26).
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، حديث (4553) .
(2) ملك الحبشة ، كان رجلاً صالحًا ، وعالمًا عادلاً ، اسمه : أصحمة بن أبجر ، توفي سنة 9هـ .
السيرة ، لابن كثير .
(3) البداية النهاية لابن كثير 3/273 .(1/10)
3 - كما كان عليه الصلاة والسلام يذكر أصحابه بالقرآن من خلال الخطب والصلوات ، فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : لقد كان تنّورنا وتنّور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت سورة ? ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ق(آية:1) إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس(1) .
وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ : ? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الطور(آية:35 إلى37) كاد قلبي أن يطير(2) .
ولا عجب في ذلك ؛ لأن تأثيره كبير وعظيم ، وكثرة الصلاة مما يعين العبد على تدبر الآيات والتأمل فيها إذا استحضرها ، وخلا قلبه من الوساوس والملهيات .
* * *
المبحث الثالث
أثر القرآن الكريم على النفس البشرية
__________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الجمعة ، حديث (2009) .
(2) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، حديث (4853) .(1/11)
إن للقرآن العظيم أثرًا عظيمًا في حياة المسلم ؛ فهو غذاء للروح والقلب والعقل ، فلا وجود للإنسان بغير الروح والقلب والعقل ، ولا حياة له ولا منزلة بغير القرآن ؛ فهو حياة وشفاء ؛ لأن فيه كل ما يحتاجه المسلم في حياته العامة والخاصة ، والدين والدنيا ؛ فهو شامل للعقائد والعبادات والمعاملات والتكاليف والأحوال والأحكام ، وغيرها ، وكذلك بما يتصل ببناء المجتمع في نواح شتى ، وهو يهدي الناس جميعًا للتي هي أقوم ؛ في دينهم ودنياهم وأخراهم ، وذلك لمن قرأه قراءة متأمل متدبر ، فلا شك أنه سيكون له تأثير عظيم في حياة المسلم كلها ، وسببًا رئيسًا لنجاته وفوزه ، قال تعالى : ? قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه (آية:123، 124)
ومما يدعو إلى هذا التأثر بالقرآن تدبره، والعمل به المؤدي إلى رضوان الله تعالى ، وهذا لا يحصل إلا إذا كانت قراءة القرآن بالتدبر والتأمل في الآيات ، والتفكر فيها وما دلت عليه هذه الآيات ؛ لكي يحصل التأثر والتغيير السوي ، ومما يعين على تدبر القرآن ما يلي :(1/12)
1 - حب القرآن ؛ لأن القلب هو آلة الفهم والعقل ، وهو بيد الله وحده ، يفتح متى شاء ، ويغلقه متى شاء بحكمته وعلمه ، قال تعالى: ?وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) الأنفال(آية: 24) ، وإذا أحب القلب شيئًا تعلق به ، واشتاق إليه ، والقلب إذا أحب القرآن تلذذ بقراءته ، واجتمع على فهمه ووعيه ، فيتحصل بذلك التدبر والفهم ، وبالعكس إذا لم يوجد الحب ، فيكون إقبال القلب على القرآن صعبًا ، ولا يحصل الانقياد إليه إلا بالمجاهدة والمغالبة . فتحصيل حب القرآن من أنفع الأسباب لحصول أقوى وأعلى مستويات التدبر .
ومن علامات حب القلب للقرآن :
- الفرح بلقائه .
- الجلوس معه وقتًا طويلاً .
- الشوق إليه متى بعد العهد عنه .
- طاعته في الأوامر واجتنابه في النواهي .
- استعانة العبد بربه ، وسؤاله أن يرزقه حب القرآن .
2 - ومن الأسباب المعينة على التدبر أيضًا : استحضار أهداف قراءة القرآن من ثواب ومناجاة وشفاء ومسألة وعلم وعمل ، فمتى ما كان المسلم مستحضرًا عند قراءته للقرآن هذه المقاصد ، حصل الانتفاع بالقرآن ، ووصل إلى بر الأمان في كل ما يتعلق من أمور الدنيا والآخرة ، فتلاوته من أفضل الأعمال ، وكل حرف منه بعشر حسنات ، والحسنة بعشر أمثالها .(1/13)
3 - ومن الأسباب أيضًا : القيام بالقرآن وخلوه به في صلاته ، ووقوفه بين يديه ، لقوله تعالى : ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) الاسراء(آية:79)، وقوله : ? أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر(آية:9)، فاجتماع القرآن مع الصلاة ينتج عنه حياة القلب ، وصحته ، وقوته ، وخاصة إذا فرغ قلبه عن كل الشواغل والصوارف التي تصرفه عن تدبر الآيات ؛ فإنه سيحصل له بإذن الله التأثر الواضح ، والانتفاع البين(1) .
فهذه بعض الأسباب المعينة على تدبر القرآن ، إذا أخذ بها القارئ ، واستمر عليها دائمًا عند قراءته ؛ فإنه سيستقيم بإذن الله ، ويداوم على الأعمال التي يحبها الله ويرضاها ، ويجتنب كل ما يبغضه الله من الأعمال ويكرهه .
قال تعالى : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) البقرة(آية:121) ، وحق تلاوته هو الفهم للقرآن وتدبره ، والتأثر به ، واتباعه ، وإقامته ، والاعتصام به ، والثبات عليه ، وأخذه بقوة ، وتبليغه للناس ، وتبيينه لهم ، والتأدب معه ، والعمل به .
خاتمة:
لقد توصلت في هذا البحث المتواضع إلى عدة نتائج مهمة يمكن تلخيصها فيما يلي:
أن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود، مُنزل غير مخلوق، أفضل كتب الله على الإطلاق.
أن متعلم القرآن ومعلمه خير الناس.
أن القرآن كتاب هداية وشفاء وشفاعة لأهله.
الأثر البالغ في النفس وذلك بحسب إيمان العبد بهذا القرآن وعمله به فالأثر يتفاوت من قاريء لأخر.
كان هذا القرآن خُلُق الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتخلق به في أحواله وأموره ويتأدب بآدابه.
وجوب تدبر القرآن الكريم واستحضاره لأجل التطبيق لأحكامه والعمل بمقتضى ذلك.
__________
(1) مفاتيح تدبر القرآن ، د. خالد اللاحم .(1/14)
أسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يبارك لنا في القرآن، وأن يجعله لنا إمامًا ونورًا وهدى ورحمة ، وأن يجعله حجة لنا لا علينا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
* * *
المصادر والمراجع
1- كتاب فضائل القرآن ، للإمام الحافظ ابن كثير , تحقيق أبو إسحاق الأثري
2- لسان العرب
3- ا لمدخل إلى علوم القرآن والعلوم الإسلامية د.محمد أمين فرشوج
4- عظمة القرآن الكريم لمحمود أحمد الدوسري ، رسائل جامعية ، دار ابن الجوزي
5- مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية
6- فتح الباري لشرح صحيح البخاري
7- صحيح مسلم بشرح الإمام محيي الدين النووي
8- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي
9- سنن ابن ماجه تحقيق الألباني
10- سنن الترمذي تحقيق الألباني
11- السيرة النبوية لابن كثير
12- البداية والنهاية لابن كثير
13- التبيان في آداب حمله القرآن للنووي
14- تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لابن ماجه
15- المقومات الشخصية لمعلم القرآن د.حازم
16- مفاتيح تدبر القرآن د.خالد الملاحم(1/15)